نهاية المطلب في دراية المذهب

الفصل الخامس
وفيه مبحثان.
المبحث الأول - من ملامح منهج إمام الحرمين وصفاته.
المبحث الثاني - أسلوب إمام الحرمين.

(المقدمة/245)


المبحث الأول: من ملامح منهج إمام الحرمين وصفاته على ضوء (نهاية المطلب)
لا بدّ من منهج جديد للحكم على المذاهب والرجال:
نقدم بين يدي هذا الفصل من مقدمات النهاية دعوةً إلى منهج جديد للحكم على المذاهب والرجال، والتأريخ للعلوم، والفنون، والمذاهب.
هذا المنهج يجب أن يقوم على قراءة النصوص وتحليلها، ودراستها وفهمها، ولا نكتفي بنقل ما يقوله السابقون بعضهم في بعض، فلم يعد مقبولاً أن نردّد ما يقوله الأشاعرة عن المعتزلة، والمعتزلة عن الأشاعرة، ولا ما يقوله الشافعية عن الأحناف، والأحناف عن الشافعية مثلاً؛ فمعظم هذه أحكام مطلقة يردّدها لاحق عن سابق، حتى تصبح من كثرة الترداد، والتناقل حقائق ثابتة، ومسلمات بدهية، ومقدمات ضرورية؛ على حين لو قمنا بدراسة النصوص الأصلية لكل جماعة أو مذهب، لوجدنا أن كثيراً من هذه المسلّمات لا ثبات لها.
* على سبيل المثال وجدنا معظم الأصوليين -في مبحث الحكم- يقولون:
" لا حاكم إلا الله، خلافا للمعتزلة؛ فإنهم يحكمون العقل ".
وعندما قمنا بتتبع نصوص المعتزلة في كتبهم الأصيلة لم نجد هذا صحيحاً بهذا الإطلاق، وإنما هذا قول المعتزلة قبل ورود الشرع، أما بعد ورود الشرع، فلا حكم إلا لله، ولا يوجد مسلم يقول بغير هذا.
وعلى ذلك تخرج هذه المسألة من علم أصول الفقه إلى علم أصول: الدين (1).
__________
(1) انظر بحثاً لنا بعنوان: (العقل عند الأصوليين).

(المقدمة/247)


* وأحياناً يُخدع الباحث والمؤرخ بكثرة الترداد في الكتب والمصادر، وتبدو له القضية مجمعاً عليها؛ فينقل ذلك مؤكداً له، معتداً به، ويرتب عليه من النتائج والآثار ما يرتب.
على حين لو عاد إلى أصول المسألة، وتتبع جذورها، لوجد هذه الكثرة الكاثرة -من القائلين بها، المردّدين لها- ترجع إلى راوٍ واحد، وعنه أخذ الآخذون، وأشاع المشيعون. ومثال ذلك: هذا الخبر المستبشع، الذي لا يصح في عقلٍ سليم، وأعني به ما قيل عن وقعة الحرة، وأن قائد يزيد بن معاوية أباح المدينة لجنوده ثلاثة أيام حتى ولدت خمسة آلاف عذراء بعد تسعة أشهر من ذلك اليوم المشؤوم.
هذا الخبر البالغ البشاعة ذاع وانتشر، وأصبح مسطوراً في معظم المصادر والمراجع، وربما كان هذا الشيوع بسبب غرابته وبشاعته؛ فللناس ولوع برواية الغرائب والعجائب، كما يقول ابن خلدون.
على حين عند الفحص والبحث، وتتبع جذور الخبر وأصوله، تجد أنه لا أصل له؛ فلم يروه إلا راوٍ واحدٌ تالفٌ كذاب، هو أبو مخنف، لوط بن يحيى، أخباري تالف، لا يوثق به، قال فيه ابن عدي: شيعي محترق، صاحب أخبارهم (1).
وإنا لنعجب من ترديد هذا الخبر قديماً وحديثاً، مع أنه يحمل في ثناياه أدلة كذبه واختلاقه؛ فهذا الجيش الذي أُلصقت به هذه الفرية كان كله من الصحابة والتابعين؛ فكيف يقبل العقل أن يَفْجروا بعذارى مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهن أيضاً من بنات الصحابة والتابعين.
هذا كله على فرضٍ مستحيلٍ، وهو أن قائد الجيش: مسلم بن عقبة المرّي، وهو العربي القرشي الصحابي، الذي نيف على التسعين من عمره، قد صدر منه الإباحة لجنوده، وما كان هذا من شيم العرب في جاهليتهم وحروبهم القبلية، فكيف يكون منهم هذا بعد أن أنعم الله عليهم بالإسلام!! أليس العربي الجاهلي هو الذي كان يقول:
__________
(1) ميزان الاعتدال للذهبي: 3/ 420.

(المقدمة/248)


وأغض طرفي إن بدت ليَ جارتي ... حتى يواريَ جارتي مثواها
* ومن هذا الباب أيضاً نسبة كتاب (تهذيب الأصول) لمؤلفه الإمام أبي حامد الغزالي، فقد شكك في هذه النسبة المستشرق موريس بويج (1) -وهو يكاد يكون متخصصاً في دراسة الغزالي- فمع أنه قرأ عبارة الغزالي في مقدمة المستصفى التي يقول فيها: " إنه يريد أن يكتب كتاباً أقل تفصيلاً من كتاب (تهذيب الأصول) " (2) وعلى الرغم أن بعض من ترجموا له نسبوه إليه، مثل صاحب (الطبقات العلية في مناقب الشافعية) للفقيه محمد بن الحسن بن عبد الله الحسيني الواسطي المتوفى 776 هـ.
وقد عقب الدكتور عبد الرحمن بدوي على ذلك قائلاً: " وكلام بويج هذا يدعو إلى العجب! فكيف يقرر الغزالي نفسُه صراحة: " أنه يريد أن يصنف كتاباً يقع في الحجم دون كتاب (تهذيب الأصول) لميله إلى الاستقصاء والاستكثار " ومعنى هذا أنه يصرّح بأن له كتاباً بهذا الاسم، وإلا لذكر اسمَ مؤلف الكتاب إن كان لمؤلف آخر؛ لأنه لا يتحدث في هذا الموضع إلا عن كتبه هو. كيف يقرر الغزالي هذا كله بصراحة ووضوح، ثم يأتي (بويج) فيقول: " إنه لا يجرؤ أن ينسب إلى الغزالي كتاباً بهذا العنوان " (3).
وإذا كان المستشرق بويج قد فهم أن الغزالي يقصد بكتاب (تهذيب الأصول) كتاباً لمؤلف آخر، وإذا كان الدكتور عبد الرحمن بدوي قد عجب من هذا الفهم، الذي لا تساعد عليه المناسبة والمقام، بل تؤكد عكسه؛ فإن الذي يفصل في القضية، ويقطع كل تردّد هو ما قاله الغزالي في (المستصفى) في موضع آخر (4) حيث قال: " ... وقد أطنبنا في كتاب (تهذيب الأصول) في توجيه الأسئلة على الآية ودفعها ... " اهـ يقصد قوله تعالى: {وَمَن يشَاقِقِ اَلرسُولَ مِن بَعدِ مَا تبَين لَهُ اَلْهُدَى وَيَتَبِع
__________
(1) مؤلفات الغزالي عبد الرحمن بدوي: 210.
(2) المستصفى: 1/ 4
(3) ر. مؤلفات الغزالي: 210، 211، 471.
(4) جـ 1: 175.

(المقدمة/249)


غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى} [النساء: 115]؛ فهذا تصريحٌ واضح تمام الوضوح بأن كتاب (تهذيب الأصول) من تأليفه.
فلو كان (بويج) قد قرأ أعمال الغزالي، ما تشكك في نسبة كتاب (تهذيب الأصول) إليه، ولو كان عبد الرحمن بدوي قد قرأ أعمال الغزالي، لوقع على هذه العبارة، ولجاء ردّه على (بويج) قاطعاً نضاً، لا استنتاجاً، ولكان شافياً مقنعاً لـ (بويج) ولكل المتشككين، ولحسمت القضية، ولم تبق معلقة بين باحِثَين مثبتٍ ونافٍ.
فهذا دليل آخر يؤيد دعوتنا إلى ضرورة بناء دراسات الفكر الإسلامي والحكم عليه على تحليل المؤلفات ذاتها، والرجوع إلى مادة المصادر عينها، وهذا يتطلب منا بذل جهودٍ صادقة (لتكشيف) كتب التراث، وفهرستها فهرسة علمية دقيقة.
وأعتقد أن ذلك عندما يتم، وتراجع الأحكام والدراسات على ضوء النصوص التراثية، وتحليلها، وفهمها، أعتقد أن كثيراً من الأحكام الموروثة الشائعة بيننا الآن ستتغير، ومميكلون تغيير كثير منها إلى العكس تماماً.

بعد هذا التمهيد نأخذ في بيان بعض ملامح منهج إمام الحرمين على ضوء ما ندعو إليه، أي نستخرجها من نصوص كتابه هذا (نهاية المطلب).

أولاً - بصر وبصيرة بروح الشرع، ومقاصد الشريعة:
* فمن ذلك عندما عرض لأحكام المياه، وذكر حكم الماء إذا خالطه التراب، وكان بحيث لا يمنع إطلاق اسم الماء عليه، وقول الجمهور: " إنه لا يسلب الماء طهوريته "، ردّ تعليلَهم ذلك الحكمَ: " بأن التراب طهور في نفسه، فهو موافق للماء في صفته، فلا يضر تغير الماء به " وأنكر عليهم هذا التعليل أشدّ الإنكار، قائلاً: " هذا من ركيك الكلام، وإن ذكره طوائف؛ فإن التراب غير مطهّر، وإنما عُلِّقت به إباحةٌ بسبب ضرورة، والكلام في أصله مفرّع على طريقة غير مرضية، وإذا طال التفريع على الضعيف، تضاعف ضعفه ". اهـ

(المقدمة/250)


فهو يرفض عدّ التراب مطهِّراً، منكراً أن يكون في استعماله في التيمم معنى التطهير والتنظيف، وإنما " عُلِّق بالتراب إباحةٌ بسبب ضرورة " فهو يرى أن التيمم مبيحٌ، وليس رافعاً للحدث، وقد قال ذلك صراحة عند الكلام على النية في التيمم، قال: " مقصود هذا الفصل القول في كيفية النية في التيمم. وأصل الفصل أن التيمم لا يرفع الحدث، ولكنه يبيح الصلاة، والدليل عليه أن من أحدث أو أجنب وتيمم، ثم وجد الماء، فيلزمه التطهّر بالماء، على حسب ما تقدم من حدثه ...
والسبب في التيمم أن من وجد الماء، فهو مأمور باستعماله لرفع الحدث، فإن لم يجده، وظّف الشارع عليه التيمم ليدوم مرونه على إقامة الطهر؛ إذ قد يدوم انقطاعه عن الماء الذي يجب استعماله أياماً، فلو تمادى انكفافه عن الطهارة -وهي ثقيلة- لاستمرت النفس على تركها، فالتيمم إذاً لاطراد الاعتياد في هذه الوظيفة ". اهـ
* ويتصل بهذا أنه خالفَ الأصحاب جميعاً في قولهم بضرورة بسط التراب على جميع أعضاء التيمم رادّاً لإعطاء التراب حكم الماء، حيث رأى اختلاف وظيفة كل منهما وهو يؤكد انفراده بهذا، وأن أحداً من الأصحاب لم يسمح به. وهاك نص ما قاله في ذلك:
" والذي ذكره الأصحاب أن يجب إيصال التراب إلى جميع محل التيمم يقيناً، ولو تردّد المتيمم في ذلك، وأشكل عليه، وجب إيصال التراب إلى محل الإشكال، حتى يتيقن انبساط التراب على جميع المحل، وهذا على القطع منافٍ للاقتصار على الضربة الثانية؛ فإن الاقتصار عليها يوجب عدم الانبساط، ضرورةً وقطعاً، وليس قصور التراب مع غاية التأني يتفق على ندور، بل هو أمر لا بد عنه.
فالذي يجب اعتقاده أن الواجب استيعاب جميع المحل بالمسح باليد المغبرة، من غير ربط الفكر بانبساط الغبار. وهذا شيء أظهرته، ولم أر بدّاً عنه، وما عندي أن أحداً من الأصحاب يسمح بأنه لا يجب بسط التراب على الساعدين ". اهـ
* وشديد الاتصال بهذا ردّه لغلو بعض الأصحاب في كيفية التيمم، ولتصخ السمعَ لنص عبارته في ذلك، قال: " ... كان شيخي يحكي عن القفال: أنه إذا عبق الغبار

(المقدمة/251)


بخلل الأصابع في الضربة الأولى، ثم لم يُنفَض حتى ركب ذلك الغبارَ غبارٌ في الضربة الثانية، فلا يصح التيمم؛ فإن الغبار الأول يمنع الغبار الثاني، ولا يمكن الاكتفاء بذلك الغبار؛ فإنه في حكم غبارٍ حصل على المحل، رُدِّد عليه من غير فرض نقلٍ إليه في أوان فرض النقل".
هذا نقل والده عن القفال، ومع علوّ منزلة القفال، وأنه شيخ طريقة الخراسانيين (المراوزة)، وإجلال الإمام له، لم تمنعه جلالته من ردّ الإمام لقوله هذا؛ إذ تعقبه قائلاً: " وهذا عندي غلوٌّ ومجاوزة حدّ، وليس بالمرضي اتباع شَعْب الفكر، ودقائق النظر في الرخص ".
ثم يستدلّ لرأيه بدليلين: أولهما- أن ما قاله القفال مخالف لروح الشرع، فيقول:
" وقد تحقق من فعل الشارع ما يشعر بالتسامح فيه ".
وثانيهما- أنه مخالف للمعقول المشاهد، فيقول في ذلك: " لم يوجب أحد من أئمتنا على الذي يهم بالتيمم أن ينفض الغبار عن وجهه ويديه أولاً، ثم يبتدىء بنقل التراب إليها، مع العلم أن المسافر في تقلباته لا يخلو عن غبارٍ يرهقه (1) " وهذا كلام واضح مبين دالٌ على مقصودنا من غير تعليق.
* ومن هذا الباب أيضاً خلافه للأصحاب في الاقتصار على ما يطلق عليه الاسم من أركان الخطبة في الجمعة، وبخاصة ركن (الوصية بالتقوى)، فيقول: " إذا قال الخطيب: " أطيعوا الله واجتنبوا معاصيه "، فهذا القدر لو فرض الاقتصار عليه، فالذي يؤخذ من قول الأئمة أنه كافٍ؛ فإنه ينطلق عليه اسم الوصية بالتقوى والخير ".
ثم يتبع ذلك قائلاً: " ولكني ما أرى هذا القدرَ من أبواب المواعظ التي تنبه الغافلين، وتستعطف القلوب الأبية العصية إلى مسالك البر والتقوى ... ؛ فلا بدّ من فصلٍ مجموع فيه هزٌّ واستحثاثٌ ".
فهو هنا ينظر إلى أقوال الأئمة وطرقهم، وإلى النصوص والأدلة، فيرى هذا القدر من الوعظ محققاً للأركان، مسقطاً للفرض، ولكنه لا يرضى ذلك، ويخالف
__________
(1) يرهقه: أي يعلوه، ويغشاه: (معجم).

(المقدمة/252)


الأئمة؛ فإنه وإن كان كافياً من حيث ينطلق عليه الاسم، ويحقق الشرط، إلا أنه لا يحقق المعنى المطلوب، ومقصدَ الشرع من الخطبة.
ومع مخالفته للأصحاب يأخذ في الاستدلال لرأيه بما يجعله هو المذهب، فيقول: " وقد بالغ الشافعي في الاتباع حتى أوجب الجلوس بين الخطبتين ... ؛ فليس يليق بمذهبه أن يعدّ قول الخطيب: "الحمد لله والصلاة على محمد أطيعوا الله" خطبة تامة فهو يحاول أن يجعل قوله هو المذهب مستدلاًّ بأن مذهب الشافعي وجوب الجلوس بين الخطبتين، ولا دليل على ذلك إلا الاتباع، والاتباع أيضاً يقتضي أن مثل هذا لا يصح أن يعد خطبة تامة، فلم يُؤثر قط الاكتفاء بمثل هذا في الخطبة.
ثم يسوق دليلاً آخر، فيقول: " ثم إن الشافعي ذكر لفظ (الوعظ) في (الإملاء)، وفيه إشعار بما ذكرته ". اهـ
ومعنى هذا أن لفظ (الوعظ) يُشعر بأنه يجب أن تشتمل الخطبة على ما يكفي للزجر، والترغيب والترهيب، ويحرك القلوب، ويهز النفوس.
ثم لا ينسى أن يذكر أن خلافه خاص بركن (الوصية بالتقوى) دون غيره من الأركان، فيقول: " أما الاقتصار على كلمة في الحمد، والصلاة، مع أداء معناهما، فلا شك في كفايته؛ فإنما قولي هذا في الوعظ ". اهـ
ويستأنس لقوله هذا بقول أبي القاسم الفوراني: " إن مقصود الخطبة الوعظُ " فيقول: " وهذا الآن يشير إلى ما ذكره (بعض المصنفين) (1) من أن مقصود الخطبة الوعظُ، والحمد والصلاة ذريعتان ".
ثم ينظر إلى ركن آخر من أركان الخطبة، وهو قراءة القرآن، وينقل كلام الأئمة في أنه لا بد من قراءة آية تامة؛ حتى ينطبق عليه اسم القرآن. ولكنه لا يكتفي بهذا.
__________
(1) دائماً يكني عن (الفوراني) بقوله: (بعض المصنفين)، وأبداً لم يصرح باسمه على طول هذا الكتاب، وهو كثير الحطّ على الفوراني -على حد تعبير السبكي- ولكنه مع ذلك لا يتردّد أن يذكر له صواب رأيه، إذا وجده، وإن أصرّ على عدم التصريح باسمه، كما هو في هذا الموضع.

(المقدمة/253)


بل ينظر إلى المعنى، وروح الشرع ومقصده؛ فلا يرضى بهذا، ويخالف فيه، فيقول: " وهذا فيه كلام عندي، فلو قرأ شطراً من آية طويلة، فلست أبعد كفاية ذلك، ولا أشك أنه لو قال: (ثم نظر) لم يكف ذلك، وإن عُدّ آية، ولعل الأقرب أن يقرأ ما لا يجري على نظمه ذكر من الأذكار ". اهـ
وهذا كلام واضح مبين، يشهد بأنه ينظر إلى روح الشرع ومقصده، فلا يكتفي بآية تامة (ثم نظر) ويكتفي ببعض آية طويلة إذا أشعر بنظم القرآن، واشتمل على معنى كافٍ.
ومما يتصل بالخطبة أيضاً أنه يوجب الاستماع إلى الخطبة من عدد الجمعة، ولا يكتفي بحضورهم الصلاة من غير استماع إلى الخطبة، ويرى أن ذلك هو المذهب، فيقول: " ومن أنكر وجوب الاستماع إلى الخطبة، فليس معه من حقيقة هذه القاعدة (1) شيء، فيجب القطع على مذهب الشافعي أنه يجب الاستماع إلى الخطبة، وكيف يستجاز خلاف ذلك على طريق الشافعي في مسلك الاتباع؟ ". اهـ
وحقاً وصدقاً أي معنىً لخطبة لا يسمعها المصلون!!
ولا يكتفي وهو يعالج هذه القضية بما قدمناه من رده قول القائلين بأنّ سرد الأركان خطبة كاملة، وقوله: " لا بدّ من فصلٍ مجموعٍ فيه هزٌّ واستحثاث " لا يكتفي بذلك بل يعلن عن ثورته وغضبه على هؤلاء الذين يقفون عند الرسوم والأشكال، ولا يبصرون الحقائق، ولا يحاولون إدراك الغايات، ولا يلتفتون إلى روح الشرع، فيقول معبراً عن ثورته، معللاً سبب قصورهم:
" وإنما بلائي كله من شيئين: أحدهما - أن بني الزمان ليس يأخذهم في طلب الغايات، لا بل في طلب حقيقة البدايات ما يأخذني؛ فلا يهتدون لما أبغيه من مداركها " ويتوقع عدم قبولهم ما يصل إليه من الحقائق، فيقول:
" بل أخاف أن يتبّرموا بها ".
ثم يعلِّل عنايته بهذه الأمور، قائلاً: "ثم الأولين لم يعتنوا بالاحتواء على ضبط
__________
(1) يقصد الاتباع.

(المقدمة/254)


الأشياء، والتنبيه على طريق التقريب فيها وبخاصة في الأمور المرسلة التي لا يثبت توقيف خاص شرعيّ فيها، كما نحن مدفوعون إليه من لزوم الاتباع، وترك الاقتصار على أدنى مراتب الأذكار، فلم تثبت في الخطبة ألفاظٌ مخصوصة مثل التشهد والقنوت وغيرهما؛ فجرّ ذلك ما أنهيت الكلام إليه من الترددات".
والخلاصة: أن الأحكام تقتضي الإتيان بأركان الخطبة، وهيئاتها، وآدابها، ولكن حقيقة الخطبة هل توجد بسرد الأركان؟ إنه يبحث عن الحقائق والغايات ويشهد له الاتباعُ، فالمأثور من فعل المصطفى صلى الله عليه وسلم، وسلف الأمة عدمُ الاكتفاء بسرد الأركان والهيئات.
* ومسألة أخرى تشهد بالتفاته إلى روح الشرع ومقصوده، وهي الأذان الأول لصلاة الصبح، فينقل مخاوضة الأصحاب ومفاوضتهم في محاولة تحديد وقت محدد لذلك الأذان، ولا يرى التحديد رأياً، فيقول: " إن هذا ليس تحديداً -وإن رَوَوْا فيه حديثاً- فالمراد بتقديم الأذان التهيؤ للصلاة بعد الاستيقاظ من النوم؛ حتى يصادف أول الوقت؛ فالمسألة تقريب، وليست تحديداً ".
وكما ردّ القولَ بالتحديد ردّ بقوّة القولَ بجواز الأذان طول الليل، ولم يمنعه من نقده العنيف لهذ القول أن صاحبه هو الشيخ أبو علي السِّنجي الذي يعترف بعلو منصبه، ويكثر النقل عنه، والثناء عليه.
* ويدخل في هذا الباب ردُّه وعدم قبوله للتعليلات والتفسيرات التي لا يقبلها العقل، وليس وراءها معنى يرعاه الشرع، مثال ذلك: حينما قال المزني: إن أقل النفاس أربعة أيام مستنبطاً ذلك من أن أكثره ستون يوماً، وأكثر الحيض خمسة عشر يوماً، وأقل الحيض يوم واحد، فلما كان أكثر النفاس أربعة أمثال أكثر الحيض، كان أقل النفاس أربعة أمثال أقل الحيض، أي أربعة أيام. كذا قال المزني، فغضب إمام الحرمين، ولم يقبل هذا، وردّه قائلاً: " وهذا الفن غير لائق بفقه المزني، وعلوّ منصبه؛ فإن المقادير لا تبنى على الخيالات الشبهية ".
ثم العلة التي رآها هو لهذا التقدير هي الوجود الذي ثبت بالاستقراء فقال:

(المقدمة/255)


" ولست أرى لهذه الأصول مستنداً غير (1) ما تقدم في أعصار الأولين من الوجود " فهو يرى أن تقدير أقل النفاس بأربعة أيامٍ لا مستند له إلا الاستقراء الذي ثبت به عند الأولين هذا (الوجود)، أي وجدوا أن أقلّ ما تنفس المرأة أربعة أيام.
* وشبيه بهذا ردّه لقول من قال: " إن من عليه أحداث، مثل من مسَّ، وبال، ثم نام، فإذا نوى رفْع حدث النوم بالوضوء، لم يرتفع حدث البول والمس " فقد سخر الإمام من هذا الكلام، وقال معقباً عليه: " وهذا حَيْدٌ عندي عن الفقه؛ فإن المرعي هو المنع، وهو المعني بالرفع، وما اتحد فلا يتحقق فيه تعدد ولا اختلاف، ولا يترتب بتقدم أولٍ وتأخر ثانٍ ".
* ومن هذا الباب أيضاً رده لقول القائلين: " إن الخمر لا يطهر إذا تخللت بطرح شيء فيها؛ بعلة أن ذلك الشيء الذي يطرح فيها يتنجس بملاقاتها، فإذا تخللت الخمر، نجستها هذه الأعيان التي طرحت فيها وتنجست بها عند طرحها ".
ناقش ذلك في كتاب الرهن عند الكلام عن رهن العصير الذي يتخمر ثم يعود خلاًّ ... ، وهاك نص عبارته:
" وعلل بعص أصحابنا منع تخليل الخمر بطرح شيء فيها، بأن العين الواقعة في الخمر تنجست بملاقاتها، فإذا انقلبت الخمر خلاً، نجسته تيك العين المتنجسة بملاقاة الخمر، وهذا قول غير صادر عن فكرٍ قويم؛ فإنه لا معنى لتنجيس العين إلا اتصال أجزاء الخمر بها، وجوهر تلك العين على الطهارة، فإذا انقلبت الخمر خلاًّ، فمن ضرورة ذلك أن تنقلب تلك الأجزاء التي لاقت العين الواردة على الخمر طاهرةً؛ فلا حاصل إذاً لذلك ".
ومع وضوح هذا الكلام، نجده يزيد الأمر إيضاحاً وبياناً، فيستدل بما يبقى في العصير من العناقيد والثجير (2)، فإذا تخمر العصير، فقد تنجست هذه الأعيان التي به، فإذا عاد خلاً من غير طرح شيء فيه، فهو طاهر عندهم، مع أن الأعيان التي به
__________
(1) مفعول ثانٍ لـ (أرى).
(2) الثجير: ثُفل كل شيء يعصر، كالعنب وغيره. (معجم).

(المقدمة/256)


تنجست عندما صار خمراً، فلماذا لم تنجسه؟ وهذا نصّ عبارته في ذلك: " لو التزمنا تمحيص العصير، لنقّيناه من العناقيد، والثجير، والتزمنا تصفيته جهدنا عن الأقذاء، وهذا أمر طويل، لا يستريب مُحصِّل في حيده عن سمت الشريعة ".
فتأمل قوله: " لا يستريب محصل في حيده عن صمت الشريعة " فسمت الشريعة: روح الشريعة لا يقبل هذا التشدّد، ومن يقول به لا بصر له بروح الشرع.
* ومن ذلك ما قاله عند الكلام على تطهير الأرض التي أصابتها نجاسة مائعة، كالبول مثلاً، فقد ردّ -غاضباً- قول من قال: " يجب رعاية عدد الدّلاء؛ فإذا بال اثنان، لم تتطهر الأرض إلا بصب دلوين " ردّ ذلك قائلاً: " وهذا الفن من الكلام مما لا يقبله لُبّ عاقل، فأيّ معنىً لتعدّد الدّلو، والغرضُ المكاثرة؟ وأي فرقٍ بين أن يجمع ملء دلوين في دَلوٍ عظيم ويصبّ، وبين أن يكون في دلوين فيصبان؟ فأي أثر لصورة الدلو؟ وقد يكثر بول بائل، ويقلّ بول بائلين، فاعتبار مقدار النجاسة، وتنزيلُ مقدار الماء على مقدارها بنسبة المغالبة مقطوعٌ لا مراء فيه ".
هكذا دائماً ينظر إلى الحقائق والغايات، وهي روح الشرع، فالمقصود الطهارة، والطهارة تكون بالمغالبة والمكاثرة، سواء حصلت بماءٍ يحويه دلو أو أكثر، ولا عبرة بتعدد الدلاء، ولا بتعدد البائلين.
* ويدخل في هذا أيضاً ما قاله عند الحديث عن نقض الوضوء بمسّ الفرج، وكيف الحكم لو كان الممسوس فرج الخنثى؟ وبأي العلامات يُلحق بالذكر؟ وبأيها يُلحق بالأنثى؟ قال: " وأما ما ذكره بعض الناس من النظر في أعداد الأضلاع، فذاك شيء لم أفهمه، ولست أرى فرقاً فيها بين النساء والرجال ". اهـ
يشير إلى ما يقوله البعض من أن أضلاع الرجال تنقص واحدة عن أضلاع النساء، زاعمين أن الله عزت قدرته أخذ ضلعاً من آدم، فخلق منها حواء، ناظرين في ذلك إلى الحديث الشريف:
" اتقوا الله في النساء؛ فإنهن خُلقن من ضلع أعوج ".
وها أنت ترى الإمام لم ير هذا الكلام يستحق الذكر، فأعرض عنه، واكتفى بأن

(المقدمة/257)


ردّ باستنكار على قائليه، مزدرياً إياه قائلاً: " فهذا شيء لم أفهمه ".
* وشبيهٌ بهذا تماماً ردُّه لتعليل المزني لصحة التيمم من الجنب الذي نسي الجنابة فتيمّم للحدث، حيث أضرب عن ذكر تعليل المزني، وذكر العلة التي ارتضاها، ونص عبارته: " وقد علّل المزني ذلك بعلّة غير مرضية، وليس يتعلق ذكر غلطه بغرضٍ فقهي؛ فلا نتعرض له " ثم ذكر العلة التي ارتضاها، فقال: " والعلة السديدة أن التيمم لا يرفع الحدث، سواء ذكر على الصواب، أو على الخطأ، وإنما مقصود النية استباحة الصلاة، ولا احتفال بذكر غيرها بوجهٍ من الوجوه ". اهـ
* ومن هذا الباب أيضاً ردّه لذلك السؤال القائل: " هل يجب الصوم على الحائض في وقت الحيض بدليل وجوب قضائه، أم لا يجب لعدم إمكانه؟ " ويأبى الإصغاءَ لهذا الخلاف قائلاً: " ومن يبغي حقيقة الفقه لا يقيم لمثل هذا الخلاف وزناً ". اهـ
ونكتفي بهذه النماذج، فالأمثلة في كتابه هذا لا تعد ولا تحدّ.

ثانياً - تحري الدقة والتثبت في النقل عن الأئمة:
حينما ينقل الإمام الوجوه والأقوال عن الأصحاب الأعلام الذين يؤخذ عنهم المذهب لا يستسلم لكل ما يُرْوى ويُنقل، بل حينما يلوح الخلل فيما ينقل يأخذ في نقده بما يمكن أن نسميه النقد الداخلي والنقد الخارجي، أو بما يمكن أن نسميه نقد السند والمتن.
فمن ذلك حينما نقل الناقلون عن القفال القول بانقطاع النكاح إذا أسلم الزوج المشرك، وعندما أسلم أَحْرم، ثم أسلمت زوجته وهو محرم، وكذا إذا نكح في الشرك، ثم إن المرأة وطئت بشبهة بعد جريان النكاح، وجرت في العدة، فلحق الإسلام النكاح والمرأة في عدة الشبهة، فينقطع النكاح عند القفال في هذه الصورة أيضاً، كذا نقل النقلة.
تتبع الإمام هذا القول، وعرف مصدره، ثم قال: " هذا مما حكاه أصحاب القاضي عن القفال على هذا النسق، وأورده بعض المصنفين عنه على هذا الوجه ".

(المقدمة/258)


إذاً فمصدر هذا الكلام القفال المتوفى سنة 417 هـ نقله عنه أصحاب القاضي المتوفى سنة 462 هـ ولما لم يطئمن الإمام إلى نسبة هذا إلى القفال، بحث عنه عند من اختص بنقل نصوص القفال، وهو الصيدلاني المتوفى سنة 427 هـ، فلم يجده؛ بل وجد الصيدلاني نقل عكسه، ونص عبارته: " ولم يورد الصيدلاني هذا في طريقه (أي مؤلَّفه) المقصور على مذهب القفال ومسلكه، بل أورد عنه ضد ما أوردناه ". اهـ
فهو يردّ حكاية أصحاب القاضي عن القفال، ويقبل حكاية الصيدلاني عنه، فهو
أولى وأحرى بالقبول، أولاً - لأنه ينقل عن شيخه مباشرة، وثانياً - لأن مؤلفه خاص بنقل نصوص القفال.
ثم لا ينسى أن يشير إلى (بعض المصنفين) فيمن يضعف نقلهم، ولا يصحح روايتهم، ويعني -دائماً- ببعض المصنفين أبا القاسم الفوراني، وهو كثير الحط عليه وتضعيفه من جهة النقل، على حد تعبير السبكي.
* ومن هذا الباب أيضاً ما جاء في مسألة وطء الأب جارية الابن، وثبوت الاستيلاد بهذا الوطء، وهل هناك فرق بين الموسر والمعسر؟ فنجد الإمام يقول: " فأما الفصل بين الموسر والمعسر في ثبوت الاستيلاد عند وطء الأب جارية الابن، فلم أره لصاحب التقريب، مع اعتنائي بالبحث عن كتابه، ولم ينقل أصحابنا هذا القول إلا عنه ".
فها أنت تراه يبحث عن المصدر الذي استقى منه الأصحاب هذا " الفصل بين الموسر والمعسر "، فلا يجد لهم سنداً إلا كلام صاحب التقريب.
فيبحث في كتابه (التقريب) بعناية، ولا يجد هذا بين دفتيه، فيعجب أشد العجب، ويسجل عجبه، وأنه لا يجد سنداً لهذا الوجه.
ومما لا حظناه أن الرافعي حكى هذا عن (التقريب) أيضاً، وحكى قول الإمام في المسألة، ولكنه لم يشر إلى تشككه في نسبة هذا القول المحكي عن صاحب التقريب" (1).
__________
(1) ر. الشرح الكبير: 8/ 183.

(المقدمة/259)


* وفي مسألة من مسائل القراض -لا نُطيل بذكرها- يقول: " وحكى القاضي عن العراقيين طريقة أخرى، لم أطلع عليها من مسالكهم، على طول بحثي عنها ".
فالمنهج -كما ترى- نسبة الطريقة إلى أصحابها، ومعرفة الناقل، ثم عندما وجد المنقول غير صحيح ولا مقبول رجّح الخطأ في النقل، ولذا " أطال البحث عن مسالك العراقيين ".
ثم عقب قائلاً: " ولا شك أن ما حكاه غلط " أي فقهاً.
ولذا يتردّد في نسبة هذا الغلط إلى العراقيين (أي أئمة العراق من أصحابنا) فيقول: " ولكن أخشى أن يكون الناقل غالطاً " ثم يؤكد هذه الخشية، ويجعلها استبعاداً عقلياً، فيقول: " فلا يستجيز المصير إلى ما حكاه عن العراقيين من أحاط بأطراف الكلام في أحكام هذه المعاملة ". اهـ
وكأنه بهذا يقطع بخطأ النقل، فلا يجوز عقلاً أن يقع في هذا الخطأ من عنده إحاطة بأطراف المسألة.
* وهذا المنهج -حملُ الخطأ على النقل- عليه شواهد وأمثلة كثيرة: منها ما جاء في النفقة على اللقيط المنبوذ من ماله، فقد قال: " وذكر العراقيون وجهاً بعيداً: أن القاضي لا يأذن له (أي ملتقط المنبوذ) في صَرْف مال الطفل إلى نفقته، وهذا بعيد، لا أعرف له وجهاً، ولا آمن أن يكون غلطةً من ناسخ " فعندما وجد الخطأ واضحاً غير محتمل على أي وجه، لم يحمل القائل على الجهل، وعدم الفقه، ولكن ردّ القول برفق، وجعل له احتمالاً آخر، وهو أن يكون غلطة من ناسخ.
* ومن هذا أيضاً ما ذكره في كتاب الحج عن الكلام عند فوات الحج والصد عن البيت وأن من فاته الحج وصُدّ عن البيت يلزمه دمان: دم الفوات ودم الحصر، قال وهو يحكي أقوال أئمة المذهب: " وذكر صاحب التقريب خبطاً في كتابه مشعراً بأنه لم يقف على كلام ابن سريج، فلا معنى لذكره، وقد يحمل ما في الكلام من الخبط على خلل النسخة ".
فهو يدقق فيما يُنْسب إلى الأئمة، وحينما يرى في كتبهم ما لا يليق بهم، يبحث،

(المقدمة/260)


ويتقصى، ويراجع أكثر من نسخة، وأكثر من مصدر، ويجعل لاحتمال خلل النسخة مجالاً.
* وإذا كنا قد سجلنا هذا منهجاً لإمام الحرمين، وأقمنا الدليل عليه من نصوص عباراته في كتابنا هذا، فقد سبقنا إلى ذلك إمامٌ جليل من أئمة المذهب، وهو شهاب الدين أبو إسحاق، إبراهيم بن عبد الله، المعروف بابن أبي الدم المتوفى سنة 642 هـ، فقد وصف الإمامَ بأنه " معروف بشدة تتبعه كلامَ من تقدمه بالبحث والتحقيق "، وذلك عندما نقل في كتابه (أدب القضاء) ما حكاه إمام الحرمين عن أبي حنيفة في تعريف المدعي والمدعى عليه، وهاك عبارته بنصها، قال: " وقال الإمام: المدعي عند أبي حنيفة من يثبت الشيء لنفسه، والمدعى عليه من يثبت عن غيره، وفي نسخة أخرى (أي من النهاية): " من ينفيه عن غيره ". هذا نقل الإمام عن ذلك الحبر الإمام، ولم يزد عليه شيئاًً، مع شدة لتبعه كلامَ من تقدّمه بالبحث والتحقيق ".
فابن أبي الدم يعجب من نقل الإمام عن أبي حنيفة هذا الحدَّ للمدعي والمدعى عليه، بدون أن يبين خلل هذا الكلام، أو يبحث عن زلله، " ولم يزد عليه شيئاًً " وهذا غير معهود من إمام الحرمين. وواضح أن ابن أبي الدم راجع نقل الإمام في نسخةٍ أخرى من النهاية، ولم يرتض هذا ولا ذلك.
وبعد أن بين بطلان حد المدعي من جهة المعنى، بأن يكون المدعي وكيلاً، أو وصيّاً، أو ناظر وقف، فهو لا يُثبت لنفسه، بعد هذا قال: إن بطلان حد المدعى عليه واضح لا يحتاج إلى كلام؛ فهو كلام غير مستقيم -على النسختين- " وإنما صوابه: ينفيه عن نفسه " (1) ثم قال: " وعندي أن هذا زلل من النساخ؛ فإن منصب هذا الإمام (يعني أبا حنيفة) أجلّ من قول مثل هذا " (2).
__________
(1) هذا الذي قدره ابن أبي الدم هو الذي تجده في مصادر الأحناف، انظر على سبيل المثال: الاختيار: 2/ 109، وتحفة الفقهاء: 3/ 181، وبدائع الصنائع: 6/ 224، وروضة القضاة: 1/ 165، 166.
(2) ر. أدب القضاء، لابن أبي الدم، بتحقيق محمد الزحيلي: 185.

(المقدمة/261)


ويعنينا من عرض هذه المسألة إثبات ما نحاوله " من أن شدة تتبع كلام المتقدمين بالبحث والتحقيق " كان صفة لازمة لإمام الحرمين، عرف بها، وشاعت عنه.

ثالثاً - الاهتمام بوضع القواعد والضوابط:
اهتم إمام الحرمين في كتابه هذا بوضع القواعد والضوابط اهتماماً بالغاً، وإذ نقول ذلك لا نقوله لما رأيناه من كثرة القواعد والضوابط التي رأيناها في كتابه، وإنما نقوله بلسانه، حيث أعلن مراراً وتكراراً: " أن من أجلّ مقاصده في هذا الكتاب هو التقعيد والتأصيل للأبواب والفصول، ووضع الضوابط التي تلم شعثها، وتجمع متفرقها " قال ذلك أوّلاً في خطبة الكتاب، حيث وصفه بأنه " يحوي تقرير القواعد، وتحرير الضوابط والمعاقد " ثم ردّده على طول الكتاب بأكثر من عبارة، ووضحه بأكثر من أسلوب، وهاك بعض نماذج وشواهد لما نقوله:
* من هذا الباب ما قاله في فصل شرط التيمم تقديم طلب الماء، حيث عقب على ذلك قائلاً: " ومما أحرص عليه جهدي أن أضبط مواضع الانتشار، وأوضح مقام الاستبهام، على مبلغ الإمكان، وقد يتأتى ذلك بأن نقدم المعلومات، حتى يرجع موضع الإشكال إلى ما يقرب النظر فيه ". اهـ
فهو يؤكد حرصه على ضبط مواضع الانتشار ثم هو يرى أن ذلك قد يكون بالتدريج، حيث يقدم المعلوم، لينطلق منه لتعليم المجهول.
وهذا ما استقر عليه علماء التربية المعاصرون، حيث يقررون أن الانتقال من المعلوم إلى المجهول هو الطريقة الصحيحة للتربية والتعليم.
* ولعل العبارة الآتية التي جاءت تعقيباً على مسألة من مسائل كتاب القراض، تكون أكثر إيضاحاً لهذا المعنى الذي أشرنا إليه.
قال: " ... وقد بان الآن ومما أُجريه في هذا المجموع -ولا شك في تبرّم بني الزمان به- أني كثيراً ما أجري المسائل على صيغة المباحثة، ثم هي تُفضي إلى مقر المذهب آخراً، ويعلم المسترشد طريق الطلب، والنظر.
وهذا من أشرف مقاصد الكتاب، فلست أخل به لجهل من لا يدريه". اهـ

(المقدمة/262)


فهو يؤكد أن هذا المنهج -المباحثة- يفضي إلى مقر المذهب، أي معاقده وضوابطه.
* ويؤكد أنه لا يحب أن تشغله التفاصيل والتقاسيم، بل يأتي منها بقدرٍ؛ توطئة لذكر المعاقد، أي القواعد والضوابط. وقد عبر عن ذلك بما قاله تعليقاً على تفريعه لبعض قضايا الإجارة، وما لو غصب غاصب الأرض المستأجرة؛ قال:
" وقد أكثر الأصحاب في التفاصيل والتقاسيم، وهذا فنٌّ لا أوثره في هذا المجموع، وقد تولّع المصنفون بتطويل الكلام بالإعادات، ونحن إذا كنا نضطر إلى مجاوزة الحد في كشف المشكلات، فينبغي أن نؤثر قبضَ الكلام في المعادات، ونقتصر على ذكر المعاقد والمرامز ".
* وفي كتاب الصلاة، بعدما أطال النَفَس في حكم قصر الصلاة عندما ينزل المسافر مقيما أثناء السفر، وسبب هذه الإقامة، وأنواع المسافرين بهذا السبب، قال: " وقد بقي وراء ذلك أهمُّ شيء بالاعتناء به، وهو نظام الفصل وترتيب القول فيه؛ فإنه كبر قدره، وانتشرت أطرافه ".
فهو يجعل الضابط الذي يلم شعث الفصل، ويجمع انتشاره أهم ما يعنيه، فهو أهم شيء في الفصل، ثم يأخذ في وضع الضابط، فيصوغه في دقةٍ وإحكام، ولا نرى داعياً للإطالة بذكره هنا؛ فليس هذا موضوعَنا.
* وفي باب (الاستطابة) عندما يتكلم عن ضرورة رعاية العدد في أحجار الاستجمار، يعتذر عن الإطالة في الحديث عن ذلك قائلاً: " وإن أطلت الكلام في هذا، فليحتمل " معلّلاً هذه الإطالة بأنها كانت من أجل استخلاص الضابط الذي انتهى إليه، مؤكداً أن ذلك هو غرضُه الأهم، من وراء هذا العمل، أي من وراء هذا الكتاب، فيقول: " فإن غرضي الأظهر في وضع هذا الكتاب التنبيه على قواعد الأحكام ومثاراتها؛ فإن صور الأحكام والمسائل فيها غير معدومة في المصنفات، فهذا أصل الباب، ومنه تتشعب المسائل ".
" بل يعلن تبرّمه وشكواه -مراراً- من أن الأصحاب انصرفوا عن هذا الجانب أعني

(المقدمة/263)


التقعيد، ووضع الضوابط - ولم يعتنوا به العناية اللائقة، فيقول:
" ... هذا ما أطلقه الأصحاب، وما ذكروه كلام مرسل، ومقصودنا ضبطه، ولم يهتم به أئمة المذهب، ولم يعملوا فيه وفي أمثاله القرائح الذكية، واكتفى الناقلون عنهم بظواهر الأمور، وانضم إليه قلة البحث، فصار أمثال ذلك عماية عمياء، والموفق من يهتدي إلى المأخذ الأعلى؛ فإن مذهب إمامنا الشافعي تَدْواره على الأصول، ومآخذ الشريعة " ثم استمرّ، فوضع ضابطاً شاملاً جامعاً (1).
* وحينما ينتشر الفصل، ويتشعب بصورة لا يمكن وضع ضابط يلم شعثه، ويجمع متفرقه، لا يتردد أن يعلن ضيقه وتبرّمه وأن ذلك شديد على نفسه، مثال ذلك: ما جاء في باب صلاة المسافر واشتراط مفارقة المنازل؛ حتى يسمى مسافراً خائضاً في السفر، يفصل بين الخارج من بلدة والخارج من قرية، ثم من كان من أهل الخيام، ويحكي ما قاله الأصحاب في ذلك، وينتشر الكلام فيما يعدّ من البلدة وما لا يعدّ، وما يعدّ من القرية وما لا يعدّ، ويطول الكلام ويتشعب، ولا يمكن وضع ضابط له، فيعلن أن ذلك شديد على نفسه، فيختم الكلام قائلاً:
" فهذا منتهى التفصيل في المواضع التي يعتبر مجاوزتها، وما فصّلته غاية الإمكان فيه، وأشد ما أعانيه في هذا المجموع أمثال هذه الفصول؛ فإنها في الكتب منتشرة لا ضبط لها، ولست أرى فيها اعتناء من الأولين لمحاولة الضبط، والله ولي الإعانة والتوفيق، بمنّه ولطفه " فهذه العبارات تنطق بشدة تشوفه إلى وضع الضوابط والمعاقد، وتعبر عن ضيقه وتبرّمه لقلة عناية الأولين بهذا الجانب.
* وحينما تنتشر أطراف بعض الفصول، وتشتبك بفصولٍ وأبواب أخرى ينبه إلى أنه سيذكر الضابط في أخص الفصول به، وأولاها بذكره، ففي فصل النهي عن الاحتكار من كتاب البيوع، أخذ يفرق بين المحتكر الذي يلحقه اللعن والوعيد، ومن يدخر في وقت الرخاء، أو من يدّخر لأهله في وقت المخمصة واستحلال الميتة، وماذا يدّخر،
__________
(1) لا نريد أن نطيل بذكر هذا الضابط وأمثاله؛ فليس هذا مكانه، ولو ذكرنا هذه الأمثلة والنماذج التي نومىء إليها، لخرجت هذه المقدمات عن وضعها، حيث يصير حجمها أضعافاً.

(المقدمة/264)


رأى أن استيفاء الكلام ليس في هذا الموضع، فعقب قائلاً:
" فالقول في هذا وفي كل ما يدّخره كل إنسان لنفسه ولعياله ليس بالهين " ثم بين الموضع المناسب له، فقال: " وسأذكر فيه في باب المضطر أصلاً يرقى عن مجال الفقهاء، وننبه على قاعدة عظيمة إن شاء الله عز وجل ". اهـ
* وفي فصل ضرب الجزية وأنها على الرجال دون النساء ومن في حكمهم بعد تقرير هذا كخلاصةٍ للباب، قال: " ثم استيفاء مقصود الفصل يستدعي تقديم قاعدة بدّدها الأصحاب فلفَّقناها من كتبٍ، ولا بد من ضبطها، والإحاطة بها، ثم بعدها نخوض في المقاصد ".
هكذا يقدّم القاعدة وضبطها، ثم إذا تمت الإحاطة بها، يمكن الخوض في الفصل، أي في تفاصيل المسائل والصور معتمداً على القاعدة مرجعاً.
ثم هو كما ترى يجدد الشكوى من قلة العناية من الأصحاب بقضية الضوابط والقواعد.
* وفي هذا المجال يزاوج بين منهجين، فحيناً يذكر المسائل، والصور، حتى إذا فرغ من تفصيلها وبيانها، استنبط منها الضابط الذي يجمع متفرقها، ويلم شعثها، كما مثلنا آنفا، وآناً يقدم الأصول والضوابط قبل الخوض في المسائل والتفاصيل، فمن ذلك: " فصل نكاح المشركين على غير شرط الشرع إذا أسلما معاً أو متعاقبين " قال:
" هذا الفصل يستدعي تقديم أصول لا يستقلّ مقصود الفصل دونها، وهي أركان الباب، فالوجه أن نذكرها على نهاية البيان ثم نعود إلى الفصل، ونُتْبعه بعد نجازه مسائلَ الباب ".
* وشبيه بهذا ما قاله في مفتتح أحد فصول الخلع، حيث بدأ بوصف منهجه في مطلع الفصل، وأخذ بيدنا، ووضعها على تفاصيله، وطريقة تدريجه، وهذا نص كلامه: "والقول في ذلك ... (أي موضوع الفصل) مضطرب، ونحن نرى أن نجمع العِوض في نوعين، ونأتي في واحدٍ بالمسائل اللائقة مرسلة، ونذكر في كل مسألة ما بلغنا من قول الأئمة، حتى إذا استوعبنا مضمون كل نوعٍ بالمسائل، انعطفنا على

(المقدمة/265)


ذكر جامعٍ ضابط إن شاء الله عز وجل، ثم نحتم الفصل بعثرات وقعت، لا نعدها من المذهب، ولا نرى ترك نقلها". اهـ
فها هو وضع خطوات المنهج مقدِّماً بها للكلام في الفصل، وهي كما ترى:
1 - عرض الموضوع في صورة مسائل تستوعب مضمونه.
2 - حكاية أقوال الأئمة في كل صورة ومسألة.
3 - وضع ضابط جامع، أخذاً من هذه المسائل والصور.
4 - ذكر العثرات التي لا تعد من المذهب (مقتصراً على من يستحق أن تحكى أقواله).
* ومن هذا ما جاء في باب الأذان عند حديثه عن أن الغرض من الأذان الإبلاغ، والإسماع حيث قال: " وإذا سبق الفقيه إلى اعتقاد ذلك، ورام الجريان على مراسم هذا المذهب في محاولة هذا الضبط في مكان الانتشار، فسيطرأ عليه التشوف إلى ضبطِ أقل ما يراعى في إجزاء الأذان مما يتعلق برفع الصوت، وهذا يستدعي تقديم أصل مقصودٍ في نفسه، وبذكره ينتظم ما نريد ". اهـ
وفي موضع آخر من باب الأذان يقول: " وهذه مسائل أرسلناها، وحكينا ما قيل فيها، ونحن الآن نبغي فيها ضابطاً، ونؤثر تخريج محل الوفاق والخلاف عليه إن شاء الله تعالى ".
هكذا (يقدم أصلاً أو يبغي ضابطاً)، فهو متشوف أبداً إلى التأصيل والتقعيد، ووضع الضوابط.

رابعاً - الالتزام بترتيب مختصر المزني:
اختار إمام الحرمين في كتابه هذا أن يلتزم الجريان على ترتيب (مختصر المزني)، وأكد ذلك في خطبة كتابه قائلاً: " وسأجري على أبواب المختصر ومسائله جهدي "، هذا وعده في خطبة الكتاب، وقد وفى به فعلاً، فجاء كتابه على ترتيب أبواب المختصر ومسائله.

(المقدمة/266)


وقد قلنا -من قبل- في كلامنا عن منزلة (النهاية): إنها شرحٌ (لمختصر المزني)، بمعنى أنه كان يأتي بالجملة من المختصر -الذي هو عبارة عن نصوص الشافعي- ويجعلها أصلاً للباب: يدور عليها التفريع، ومنها يكون الاستنباط، وعليها يقوم بناء القواعد والضوابط، مضى الإمام في كتابه على ترتيب أبواب المختصر ومسائله بهذا المعنى.
أثر هذا الالتزام في كتاب النهاية:
لقد أدى هذا الالتزام بترتيب المختصر الذي فرضه الإمام على نفسه إلى حرمانه من التبويب والتفصيل والتفريع بالأسلوب المنطقي الرائع الذي رأيناه في كتابه (البرهان) والذي بلغ القمّة، وأوفى على الغاية في كتابه (الغياثي)، حيث قسّم الكتاب إلى (أركان) وكل ركن إلى (أبواب)، وكل باب إلى (فصول)، وكان ينبه إلى وجه هذا التقسيم وسرّه في أوائل (الأركان) و (الأبواب) و (الفصول)، ويبين كيف يُبنى بعضها على بعض، ويتولّد بعضها من بعض، وكان الإمام على ذُكرٍ -دائماً- لأثر هذا الترتيب، ينبهنا إليه، ويذكرنا به، فيقول مثلاً: " ونحن الآن نجدد العهد بترتيب يشتمل على ما مضى من الكتاب، وعلى ما سيأتي منه، حتى يتجدد عهد الناظر بترتيب أبواب الكتاب؛ فإن معرفة الترتيب من أظهر الأعوان على درك مضمون العلوم القطعية " (1).
كان المأمول والمعقول أن تكون (النهاية) -وهي من أواخر تآليف الإمام- أن تكون أكثر ضبطاً، وأبلغ إحكاماً في الترتيب والتبويب، وأن تُبرّ (2) في ذلك على مؤلفاته كلها، ولكن الجريان على ترتيب (المختصر) حال دون ذلك.
حقاً، وجدنا الإمام -أحياناً- عندما تطول الأبواب والفصول يضع لها ترتيباً منطقياً، واضح المعالم، بيّن القسمات، وينبهنا إلى هذا الترتيب، ويدلنا عليه.
__________
(1) البرهان: 1/فقرة: 486، وانظر مقدمتنا لكتاب (الغياثي) ص 64 م.
(2) أبرّ (بالراء المهملة) على أقرانه: زاد عليهم، وغلبهم (القاموس المحيط، والمعجم الوسيط).

(المقدمة/267)


ولكن الذي لم يتحقق في (النهاية) هو البناء العضوي المتكامل، أو الوحدة العضوية، التي تجعل الكتاب خلْقا سوياً متناسق الأعضاء، كل باب منه، وكل فصل فيه، يُبنَى على ما قبله، ويلد ما بعده، على صورة منطقية، وهيئة عقلية.
لم يتحقق هذا في (النهاية).
تبرّم الإمام بهذا الترتيب:
ولم يكن الإمام راضياً على هذا الترتيب الذي التزمه في كتابه (النهاية)، ولكنه اتبعه (تيمُّناً) بترتيب المزني في (مختصره)، وقد صرح بذلك قائلاً: " ذكر المزني أحكام جناية المكاتَب، وأحكامَ الجناية عليه في أبواب، ولو نظم جميعها في تقسيمٍ، لكان أضبط، ولكننا تيمنَّا بالجريان على مراسمه ".
ومرة ثانية يعلن عدم رضاه عن هذا الترتيب، عندما قال: " ولو لم نلتزم الجريان على ترتيب (السواد) (1)، لأخرنا هذا الفصل إلى ذاك الباب، لانعطافه في جوانبه على مضمون ذلك الباب (2)، ولكن نتبع الترتيب، ومسلك الشارحين ".
الخروج على ترتيب المختصر أحياناً:
ومع إعلان التزامه بترتيب المختصر، وتيمنه باتباعه، كان ينبهنا إلى أنه يخرج -مضطراً- على هذا الترتيب، معتذراً بأنه خروج (محتمل)؛ حيث يكون في أضيق الحدود، مثال ذلك قوله - في كتاب البيوع: "ونحن قد التزمنا في هذا المجموع الجريان على ترتيب المختصر في الأبواب والمسائل، فإن اقتضى الحالُ في بعض
__________
(1) السواد: أي مختصر المزني. ولفظ (السواد) يأتي بمعنى المتن والأصل، وهذا غير منصوص في المعاجم، ولكني أخذته عن شيخي شيخ العربية، الشيخ محمود محمد شاكر، برّد الله مضجعه.
(2) الباب المشار إليه هو (باب مكاتبة بعض العبد) والفصل الذي كان يتمنى تأخيره هو الفصل الذي عقده لأحكام (المنازعة بين عبدٍ يدّعي الكتابة، وبين وارثين) وتمام عبارته: ( ... إذا كاتب الرجل عبداً ومات، وخلفه مكاتباً، وترك ابنين معترفين بالكتابة، فهذا يتعلق بأطراف الكلام في مكاتبة بعض العبد، وسيأتي فيها باب معقود، ولو لم نلتزم الجريان على ترتيب (السواد)، لأخرنا هذا الفصل إلى ذلك الباب.

(المقدمة/268)


المواضع تقديمَ مؤخرٍ، وتأخير مقدمٍ؛ حتى يلقَى الناظرُ المقاصدَ مجموعة، سهُلَ احتمال هذا".
وفي كتاب البيوع أيضاً، يعلن مرة ثانية أنه سيخرج على ترتيب المختصر، فيقول عند الكلام عن العيوب في المبيع: " وقد رأينا أن نأتي في هذا الباب بفصول العيب متوالية، ولا نلتزم ترتيب (السواد) ".
ثم يشتد به الضيق، ويزداد التبرّم، فيعلن أن ترتيب المختصر لا يُقبل، وأنه لن يلتزمه، وذلك قوله في آخر باب صوم التمتع بالعمرة إلى الحج: " ثم ذكر المزني في آخر الباب طرفاً من الكلام في طواف الوداع، فلم أر ذكره؛ فإن ذكر طواف الوداع قبل بيان أركان الحج بعيدٌ عن الترتيب المطلوب " انتهى بنصه.
بل تندُّ منه لفظةٌ مُعْرِبةٌ عن بالغ نقده حينما يقول:
" لم يرعَ المزني ترتيب مسائل الحج كما ينبغي، بل أتى بها إتياناً يُشعر بقصد التشويش، ولكنا التزمنا الجريان على ترتيب المختصر ". انظر " يُشعر بقصد التشويش "!
* وأحياناً يعتذر عن التشويش وعدم الترتيب، والإتيان بالمسائل في غير موضعها، وكأنه يعلن أنه لم يفعل ذلك عن غفلة، ولكنه الالتزام بترتيب (المختصر)، ففي كتاب الغصب عند الكلام عن ضمان المغصوب، والقيمة المعتبرة في هذا الباب - قال بعد انتهاء الباب: " ثم ذكر الشافعي جملاً تتعلّق بقضايا الضمان في تصرفات صاحب اليد المضمنة (1)، وتلك الأحكام تأتي مفرّقة في محالّها، ولكنا نتبع ترتيب (المختصر)؛ فنذكر منها ما يليق بشرح السواد ".
* ومن هذا الباب ما جاء في كلامه عن أحكام العبد المأذون له في التجارة، فقد قال: " وفي المأذون وتصرفاته، وتصرفات المولى فيما في يده أحكام سيأتي ذكرها في كتاب النكاح -إن شاء الله تعالى- ولو جمعنا أحكام المأذون، لطال الباب، ولسنا نلتزم مثل هذا؛ فإنه يُحْوِج إلى الخروج عن التزام ترتيب (السواد) ". اهـ
__________
(1) أي ذكرها في المختصر.

(المقدمة/269)


فها هو ينبه إلى أن بعض أحكام المأذون ستأتي في كتاب النكاح، وأن حقها أن تكون هنا، وأن يجمع كل أحكام المأذن في نسق واحد، ولكنه لا يفعل؛ لأن هذا سيُحْوِجه إلى الخروج عن ترتيب (السواد)، وقد ألزم نفسه به.
هذه نماذج من عبارات الإمام تكفي لبيان أثر التزامه ترتيب المختصر، وأن تيمُّنه بهذا الترتيب هو الذي حال بينه وبين ما عهدناه في كتبه الأخرى من إحكامٍ وضبطٍ في الترتيب والتبويب والتفصيل، وأنه كان أمام ترتيب المختصر، بين مخالفة يسيرة محتملة، وبين اتباعٍ والتزام على غير رضاً، ينبه على سببه، ويبين ما كان ينبغي أن يكون، والمواضع التي عبر فيها الإمام عن ذلك لا تقع تحت خصر، وما ذكرناه مجرد أمثلة ونماذج.
الترتيب بين النهاية والبسيط:
كتاب (البسيط) للإمام الغزالي حجة الإسلام، مبنيٌّ على كتاب شيخه (النهاية) ولكن الغزالي استطاع أن يأتي بترتيب بديع، بلغ الغاية في الضبط والإحكام؛ حيث أخذ فقه إمام الحرمين، ولكنه لم يلتزم ترتيبه، بل اتبع ترتيباً عجيباً لم يسبق إليه، يقوم على منطق واضح القسمات، بيِّن الملامح، فهو -فيما نعلم- أول من قسم الفقه إلى أرباع، ونص على ذلك صراحة: ربع العبادات، وربع المعاملات، وربع المناكحات، وربع الجراح.
ثم يبدأ كلّ كتابٍ بتمهيد، ثم يبين في سطورٍ معدودات، أقسام الكتاب، وأبوابه، وموضوع كل منها، ولنعرض ما جاء في أول كتاب الحج نموذجاً لهذا الترتيب:
افتتح كتاب الحج بذكر أدلة الحج، ثم قال: " هذا تمهيد الباب، ومقاصده يحصرها ثلاثة أقسام:
الأول - في المقدمات والسوابق، وهي شرائط صحة الحج ووجوبه، ومواقيت الحج.
الثاني - في المقاصد، وهي ما يجب فعله وتركه في الحج، وكيفية وجوه أدائه.

(المقدمة/270)


الثالث - في التوابع واللواحق، وهي فوات الحج والدماء الواجبة فيه، وأبدالها ". اهـ.
ثم إذا جاء إلى كل واحد من الأقسام الثلاثة، قسمها إلى أبواب، والباب إلى فصول، والفصل إلى مسائل أو مباحث، فإذا شذّ عن ذلك شيء أتى بها آخراً تحت عنوان (فرع) أو (فروع).
وقد كان الغزالي متفطناً لقيمة عمله، مباهياً به، وذلك قولُه في خطبة الكتاب:
" وقد أتيتُ فيه بترتيبٍ، خف -مع كبر حجم الكتاب- محمله، وسهل مع غموض معانيه تناوله؛ ترغيباً لأولي المآرب، وتسهيلاً على الراغب الطالب ". اهـ

خامساً - الغرض من النظر في فقه السلف:
يعرض إمام الحرمين في بعض المسائل لفقه السلف وآرائهم في المسألة، ويتغيا بذلك غرضين يحددهما بقوله.
" وقد أرى في بعض الفصول حكاية مذهب السلف لغرضين:
أحدهما - أني أرى مذهبين في طرفي النفي والإثبات، ومذهب الشافعي يتوسطهما.
الثاني - أن من الأحكام ما يظن بعض الناس أنه متفق عليه، فأحكي فيه خلافاً أصادفه لمقصود في التفريع ".
قال هذا بعد أن حكى مذهب أبي سلمة بن عبد الرحمن، ومذهب طاوس، في مسألة من مسائل التيمم، ليبين أن كلاًّ منهما في طرف، وأن مذهب الشافعي بينهما.
ثم ليؤكد أن الحكم الذي اشتهر بأن حضور الماء يبطل التيمم، هناك من السلف من يقول بخلافه، وأن القول بأن التيمم استباحةٌ وليس رفعاً هناك من يخالفه.

سادساً - الغرض من ذكر المذاهب المخالفة:
أكد إمام الحرمين -كما أشرنا من قبل- أنه وضع هذا الكتاب لبيان مذهب الشافعي وتحريره، وأنه ليس من غرضه ذكر المذاهب المخالفة؛ ومن أجل هذا رأيناه يعلل

(المقدمة/271)


لإيراده أحياناً بعض مسائل الحنفية وغيرهم، ويبين أن ذلك أيضاً من أجل بيان وتوضيح مذهب الشافعي.
ولذلك رأيناه يقول: " ونحن نأتي بها (أي المسائل التي خالف فيها أبو حنيفة) ونخرجها على أصلنا، ونبين مذهب أبي حنيفة فيها، وننبه على مأخذه.
والغرض من ذكر مسائل الخلاف بيان الأصول التي بنيت عليها، والفرق بين الأصول ".
* ويؤكد هذا المعنى بصورة أكثر وضوحاً، عندما يعقب على مسألة من مسائل كتاب النكاح، وخلاف أبي حنيفة فيها، فيقول: " ونذكر أصول مذهب أبي حنيفة والغرض من ذكرها أن يكون تقييداً لمذهبنا في الحفظ؛ فإن الشيء قد يحفظ بذكر ضده ".
سابعاً - إنصافٌ للمذاهب المخالفة:
مع تمذهب الإمام وشافعيته، لا يتردد في نصرة المذهب المخالف حين يرى أن الحق معه، ففي مسألة من مسائل كتاب الصداق، بعد أن يورد مذهب محمد بن الحسن، نجده يقول: " وهذا الذي ذكره غير بعيد عن مسلك الفقه " ثم يقول: " وكنا نود لو كان هذا مذهباً لبعض الأصحاب ".
قال هذا تعقيباً على قول محمد بن الحسن: " إن زاد المسمى على مهر المثل، وزادها بالشرط، لغا الشرط، وصحت التسمية، وإن نقص ... إلى آخر المسألة ".
* وبعد أن حكى قول أبي حنيفة: " إن على من ترك التكبيرات الزائدة في صلاة العيد السجودُ " قال: " وكنت أود أن يصير إلى ذلك صائر من أصحابنا؛ من جهة أن التكبيرات الزائدة في صلاة العيد قريبة الشبه بالقنوت ".
* بل لا يتردد في وصف مذهب أبي حنيفة في إحدى المسائل " بأنه منتظم "، وأن " الذي أطلقه أصحابنا فيه إشكال ".
وهذه هي مسألة المُحرز من قطار الإبل، وهذا نصُّ ما جاء فيها:
قال الأئمة: قطار الإبل محرز بالقائد.

(المقدمة/272)


وقال أبو حنيفة: إن قادها، فالمحرز هو البعير الأول، وإن ساقها، فالجميع محرزٌ به، وإن ركب واحداً، فمركوبه، وما أمامه، وواحد من ورائه، مُحرز به.
وهذا المذهب منتظم. والذي أطلق أصحابنا فيه إشكال". اهـ
ثم فسر كلام الأصحاب بما يوافق مذهب أبي حنيفة، وعقب قائلاً: " ولا يجوز أن يعتقد الأمر إلا كذلك ".
* وفي مسألة من مسائل الوديعة واختلاف المودِع والمودعَ وكان الإيداع من شخصين، وكيفية إجراء الخصومة معهما، يقول: " وذكر أئمتنا في طرقهم أن اليمين الواحدة تكفيه في حقهما، وقال أبو حنيفة:
لا بد أن يحلف لكل واحد منهما يميناً، وهذا عندي محتملٌ في القياس؛ فإن خصومة كل واحد منهما منفصلة عن خصومة الثاني. وهذا احتمال، والمذهب ما نقلته ".
فها هو يرى أن القياس قول أبي حنيفة، ويعلل لهذا الرأي، ولكنه يميز بين ما يُبديه من رأي والمذهب، فيقول: " والمذهب ما نقلته ".
* وفي فصل زكاة الحلي بعد أن أفاض في بيان المذهب، وأن الزكاة لا تجب في الحلي عندنا، وذكر مذهب أبي حنيفة، وخلافه في ذلك عقب قائلاً:
" ولا يخفى على ناظرٍ في وجه الرأي أن الأصح في القياس إيجاب الزكاة في الحلي ".
فهو -كما ترى- ينصف المذهب المخالف، وكأنه يرى رأيه، ولكنه دائماً يؤكد " أن المذهب نقلٌ ".
* وفي مسألة من مسائل طلاق المريض، والتفريع على القديم والقول بالفرار من الميراث، يذكر مذهب أبي حنيفة في المسألة، ثم يقول: " وكنت أودّ لو كان ذاك مذهباً لأصحابنا ".
* وفي التيمم يكاد ينصر مذهب مالك في الاكتفاء على الكفين، مستدلاً بما رواه عن عمار بن ياسر: " التيمم ضربتان، ضربة للوجه، وضربة للكفين " فيقول إمام

(المقدمة/273)


الحرمين: " وهذا الخبر بعيدٌ عن قبول التأويل ".
* بل لا يتردد في إنصاف أبي القاسم الفوراني الذي لم يذكره باسمه مرةً واحدة على طول الكتاب، فيقول عنه دائماً: " بعض المصنفين " وهو كثير الحط عليه، ومع ذلك لا يتردد في إنصافه عندما يرى الحق في جانبه.
ترى ذلك في أكثر من موضع، ولا داعي للإطالة بذكر المسائل والأمثلة، ونكتفي بالرمز إلى ذلك.
ثامناً - معرفة الواقع والإحاطة به:
إن من يقرأ كتابنا هذا يجد الإمام -عندما يتكلم في قضية من القضايا- عارفاً بواقع الحياة من حوله، محيطاً بدقائق المسألة التي يتكلم فيها بصورة تلفت النظر، ولنضرب لذلك أمثلة:
* فالذي يقرأ كلامه عن بيع النخيل المؤبر، ولمن تكون الثمرة، ويرى وصفه للطلع، وحديثه عن ذكوره وإناثه، وشرحه لكيفية التأبير، وتشقيق الطلع أو تشققه، وعادة الذين يعملون بالتأبير وأنهم يؤبرون بعضاً، ويتركون بعضاً، وأن الريح تنقل طلع الذكور، فتقوم بالتأبير.
وأن الطلع لا يخرج كله في وقت واحد، بل يخرج متداركاً بعضه وراء بعض إذا كان نوع النخيل واحداً.
أما إذا كان النخيل مختلف الأنواع، فلا يتدارك الطلع، بل يتقدم بعضه، ويتأخر بعضه .... إلى آخر ما قال.
إن من نشأ في القرى، وعاش بين من يقومون على بساتين النخيل، لو قيل له: صف هذا الذي يعملون، ما استطاع أن يأتي بمثل هذا الوصف، وهذا التدقيق.
وقس على ذلك كلامه في قضايا الصناعات: من قِصارة، وصباغة، وخياطة، ونحوها.
وهذا يؤكد أن أئمتنا وفقهاءنا -وإمام الحرمين نموذج منهم- لم يكونوا منفصلين عن مجتمعهم وواقعهم كما يزعم الزاعمون.

(المقدمة/274)


* ومثال آخر عند حديثه عن استئجار الأرض للزراعة، واشتراط إمكان حصول الماء لها، ثم كلامه عن نهر النيل بمصر -وهذا عجيب جداً- والزراعة (البَعْلية) (1) على شاطئيه، وطريقة الري بالحياض، التي تعلمناها في المدارس في كتب الجغرافيا بالخرائط والصور، والشرح والتمثيل. إن من يقرأ كلام الإمام يعجب أشد العجب، كيف أحاط بهذه الأمور بهذه الدقيقة، وهو لم يرحل إلى مصر، وبالقطع لم يقع في يده كتاب من كتب الجغرافيا؛ فإن ذلك شيء لم يكن موجوداً من قبل!!!
وأنا -لمعرفتي بدّقة هذا الكلام- أجزم أن إمام الحرمين استوصف واستفصل من أحد الفقهاء -أو غير الفقهاء- الذين عاشوا في مصر، وعاينوا هذه الأمور.
* وقريب من هذا حديثه في كتاب الزكاة عن بساتين النخيل التي تُطلع مرتين في العام، وعن البساتين التي تحوي أكثر من نوع من النخيل يختلف أوان جدادها، وعمن يملك أكثر من بستان في تهامة ونجد غيرها، وتختلف أوقات الجداد، وكيف تحسب الزكوات في كل حالة، إن من يقرأ كلامه في هذا الموضع يخيل إليه أنه عايش أصحاب هذه البساتين، وعرف أحوالها.
وليس من المعقول أن نقول: إن هذه المعرفة بهذا التفصيل وقعت له عرضاً في السنوات الأربع التي جاور فيها الحرمين الشريفين؛ فإن هذه المعرفة -بهذه الدقة- لا بد أن تكون مقصودة، وتحصيلها والإحاطة بها عن قصدٍ وتتبع.
* ومن هذا أيضاً معرفتُه بمصطلحات التجار، وألفاظ المتعاملين في السوق، واعتمادها في الأحكام، ففي باب بيع المرابحة والحطيطة يذكر المصطلح الدائر على الألسنة باللغة الفارسية، كأن يبيعه بربح (ده يازدة) أو (دو بازدة)، ويعرض لهذه المسألة في الجزء الذي أفرده للجبر والحساب، وألحقه بالوصايا.
__________
(1) الزراعة البعلية في مصر، وهي التي يسمونها أيضاً (ريَّ الحياض): هي التي تعتمد على مياه الفيضان، بمعنى أن يبذر الفلاح البذور في الأرض التي غمرها الفيضان لمدة نحو شهرين - بعد انحسار الماء عنها، ولا تروى بعد ذلك، وأغلب ما يزرع بهذه الطريقة العدس، والفول، ويكون أجود ما يكون عندما يزرع بهذه الطريقة.

(المقدمة/275)


فهناك يعرض للخلاف بين الفقهاء والحُسّاب في طريقة حساب الخسائر، فيقول: " وإن باعه بخسران (ده يازده)، فالذي ذهب إليه جمهور الفقهاء أن العشرة تجري أحد عشر، ونحط منها جزءاً.
والذي رآه الحُسّاب أن لفظ خسران (ده يازده) معناه نقصان عُشرٍ تام، وهو نقيصة درهم من عشرة.
والذي ذكره جماهير الفقهاء متَّجهٌ في اللفظ، ولا وقع لهذا في الباب الذي نحن فيه؛ فإن هذا الباب ليس مُداراً على الألفاظ ومعانيها، وإنما هو مدار على ما يقع ".
تأمل قوله: " مدار على ما يقع "، فهو يرعى اصطلاح الناس، وواقعهم، والمعنى الذي يفهمونه من ألفاظهم ومصطلحاتهم، وإن خالف مدلول الألفاظ ومعانيها.
ثم هو يجري في بابٍ على ما يليق به، ففي باب الطلاق والخلع يدير الباب على معاني الألفاظ ومدلولاتها، حيث لا يوجد ما يخرجها عن ذلك.
* وربما كان من ذلك تنبيهه إلى رعاية العرف وتحكيمه، من مثل قوله: " ومن لم يمزج العرف في المعاملات بفقهها، لم يكن على حظٍّ كاملٍ فيها " وقوله: " والتعويل في التفاصيل على العرف، وأعرف الناس به أعرفهم بفقه المعاملات ".
* ويعد من هذا الباب -البصر بالواقع- أيضاً ما قاله عند الحديث عن الكفاءة في النكاح، وقد جعل منها الانتساب إلى شجرة الرسول صلى الله عليه وسلم، وإلى العلماء وإلى الصالحين، ثم استثنى الانتساب إلى عظماء الدنيا، فقال:
" فأما الانتساب إلى عظماء الدنيا -وجماهيرهم ظلمة، استولَوْا على الرقاب، فهم يُعظَّمون رغبة ورهبة، والشرع بائح بحط مراتبهم في الدين- فلا تعويل على أنسابهم، وإن كانوا قد يتفاخرون بها ".
فهذا يوحي، بل يشهد وينطق بأنه يعيش واقعه، وأنه غير راضٍ عن واقع الحال الذي استولى فيه الظلمة على الرقاب.

(المقدمة/276)


تاسعاً - البراعة في التشبيه والتمثيل لتوضيح المعاني:
بقليل من التأمل والتنبه يدرك من يطالع كتابنا هذا اتباع الإمام لأسلوب التشبيه والتمثيل، لبيان المعنى الذي يقصد إليه، فمن ذلك:
* عندما تحدث عن الجبر والمقابلة، والاعتماد عليه في استخراج الوصية بالنسبة إلى ما تبقى من الأنصباء، وضرورة الجبر والمقابلة للوصول إلى سرّ النسبة، قال:
" وأصل الجبر أسرار النسبة. ولو اطلع مطلع على سرّ النسبة، لم يحتج إلى شيء من مراسم الحُساب، ولكن الوصول إلى حقائق النسب ليس بالهين ...
وأشبه شيء بالنسب والطرق الموضوعة في الحساب - الذوقُ في الشعر مع العروض؛ فمن استدّ ذوقه، قال الشعرَ، ومن لا يترقى ذوقه، نَظَم، وقام له العروض مقام الذوق إذا أحكم مراسمها.
كذلك طرق الحُسّاب إذا تمرن المرء عليها، أهدته إلى إخراج المجاهيل، وقد تطول دُربته فيها، فيتطلع إلى إدراك النسب ".
ولسنا بحاجة إلى أن نلفت نظرك إلى ما في هذا التشبيه من دقة، وطرافة، وذوق، ومهارة، ودلالة على سعة المعارف، وخصوبة الذاكرة.
فهو يشبِّه المهارة في إدراك النسبة بين الأعداد وعلاقتها بعلم الجبر الذي يؤدي في حقيقته إلى الوصول إلى النسبة ومعرفتها. يشبِّه ذلك بالذوق الشعري وعلاقته بعلم العروض، فكما أن صاحب الذوق الشعري يقول الشعر طبيعةً من غير معاناة تعلم، فيقع موزوناً مقفىً، فلا يحتاج إلى علم العروض.
فكذلك من مهر في إدراك النسبة بين الأعداد، وصار ذلك سليقةً وطبعاً له، لا يحتاج إلى علم الجبر ليكشف له هذه النسبة.
* ومن ذلك تشبيهه وتصويره لتطهير البئر إذا تنجست، وقد تبدو هذه المسألة هينة لمن ينظر إلى حالنا اليوم ووفرة الماء في البيوت، وجريه في أنابيب محكمة نظيفة، ويصب علينا من صنابير (حنفيات) ذات أشكال وألوان من التجمل والتفنن.

(المقدمة/277)


ولكن لو تصورت جماعة في بادية أو قرية ليس عندهم مصدر للماء إلا بئر، منه يستقون ويتطهرون، فإذا وقعت فيه فَأْرةٌ وماتت فيه، وتحللت، فأية كارثة تحل بهم -وما أكثر ما كان يحدث هذا- فكيف يطهرون هذه البئر؟ وكم دلواً ينزحون؟ ومتى يصلون إلى يقين الطهارة؟ والماء يتجدد ويختلط طاهره الذي يَنْبع بالمتنجس والنجاسة تفتتت وتهرّأت في الماء.
كارثة تتكرر في هذه البيئات، وكان بعض الأئمة يُفتي بطَمّ البئر، وحفر غيرها!! وإلى أن يتم حفر غيرها ماذا يفعل الناس؟
ولكن إمام الحرمين يرى "أن يُنزح مثلُ ماء البئر مراراً، فيصير النزح المتدارِك مع حركة الماء ودفعه أجزاء النجاسة كالماء الجاري، فالعيون تفور بمياه جديدة، فتدفع النجاسات، وهي تنزح، فتطهر".
ثم قرّب هذه الصورة بتمثيل عملي عجيب، حيث قال: " وإن أراد الإنسان أن يقف على حقيقة هذا اتخذ طاساً مثقوباً، وسدّ ثُقبته، وصب فيه مقداراً من الماء، ووضعه على ماء في مِركن، وفتت فيه شيئاًً، وفتح الثقبة، وهي مثال العين الفوارة، ثم يتخذ آلةً في نزح الماء عن الطاس على مثال الدَّلو، بالإضافة إلى ماء البئر، فلا يزال ينزح، والماء يفور، وهو يقدّر ما يخرجه، وقد تقدّر عنده ماء الطاس أولاً، فهو دائب كذلك، حتى لا يبقى مما فتته شيء، وقد صفا الماء، فليتخذ ذلك دستوره في ماء البئر، ويقيس فورانَ العيون وجمةَ البئر، وما ينزحه، بما ضربته مثلاً ".
تأمل كيف صوّر نزحَ البئر، وتطهيرَ مائه من هذه النجاسة التي تفتتت وانتشرت، صوّر ذلك بهذا الجهاز البديع الذي اخترعه؛ حتى يؤكد إمكان تحقيق التطهير بهذه الطريقة.
* والأمثلة على هذه البراعة كثيرة بين يديك، وفيما ذكرناه الكفاية لإيضاح المعنى الذي نريده.
* ومما يستحق أن نسجله هنا أننا كنا نعجب من براعة الإمام الغزالي في هذا الباب، وبخاصة في كتابه (المنقذ من الضلال) و (تهافت الفلاسفة)، حتى بلغ بي

(المقدمة/278)


الإعجاب أن اقترحت على أحد الباحثين أن يجعل أطروحته بعنوان (البراعة والتفنن في ضرب المثل عند أبي حامد الغزالي) والآن عرفت أن هذه البذرة كانت عند إمام الحرمين، فنمت وترعرعت، واهتزت وربت عند تلميذه الإمام الغزالي.

عاشراً - التمسك بالخبر وتقديمه على القياس:
وكان من حق هذا البند أن يكون الأول في الترتيب، ولكني أخرته لعدةِ معانٍ رأيتها، منها:
* أنني كتبت فصلاً كاملاً وافياً في كتابنا (فقه إمام الحرمين خصائصه وأثره) عن هذا البند، وكان الممكن أن أنقله كاملاً أو ألخصه هنا، ولكن هذا شيء أكرهه، ولذا حاولت في هذا الفصل عن منهج الإمام أن أشير إلى خصائص من فقه الإمام غير ما كتبته هناك.
* ولأهمية هذا لم أشأ أن أغفله، بل رأيت الاكتفاء بالإشارة إليه، بضرب مثال واحد، في مسألة من مسائل القَسْم بين الزوجات، فيما إذا تزوج ثيباً، وأقام عندها أكثر من الثلاث (التي هي حق العقد)، فعليه أن يقضي كلّ ما أقامه عندها (الحق مع الزيادة) أما إذا أقام عند البكر أكثر من السبع (التي هي حق العقد)، فيقضي الزيادة فقط دون حق العقد.
وسبب هذا الفرق أنه في حال الثيب ورد خبر فالتزم به، وفي حال البكر لم يرد خبر فرجع إلى التمسك بالقياس، وهو عدم بطلان حق صاحب الحق إذا أخذ أكثر من حقه.
وهاك نص عبارته في هذا الموضوع، قال: " ولسنا نفي بمعانٍ جامعة فارقة، وإنما ندور على مقتضى الخبر، فإذا لم نجد متعلقاً فيه، رجعنا إلى التمسك بالقياس، ومن القياس الجلي ألا يبطل حق صاحب الحق إذا أخذ كثر من حقه.
فأجرينا الزيادة على حق البكر على هذا القياس، وتركنا ما ذكرناه في حق الثيب من بطلان حقها -إذا طلبت الزيادة وأجيبت- على موجب الخبر ".
* والمعنى الثالث الذي من أجله أخرنا هذا البند أن نتيمن بجعله مسك الختام.

(المقدمة/279)


المبحث الثاني: أسلوب إمام الحرمين
أسلوب الإمام في مؤلفاته يضعه في الطبقة الأولى من البلغاء والأدباء، فهو واحد من فرسان البيان المعروفين، فمع أنه يكتب في فنون علمية دقيقة: علم الكلام وعلم الأصول، وعلم الفقه، إلا إنك تجد في أسلوبه طلاوة وعذوبة، مع جزالة وفخامة في الوقت نفسه، وإن وجدتَ غرابة في بعض الألفاظ، فلن تجدها حوشيَّة خشنة، وإنما تأتي الغرابة من بُعد ما بيننا وبين عصر الإمام، وطغيان العُجمة واللكنة على لغتنا نحن، عرف له ذلك معاصروه ومترجموه، فها هو عبد الغافر الفارسي يقول:
" أخذ من العربية وما يتعلق بها أوفرَ حظ ونصيب؛ فزاد فيها على كل أديب، ورُزق من التوسع في العبارة وعلوِّها ما لم يُعهد من غيره، حتى أنسى ذكرَ سحبان، وفاق فيها الأقران، وحمل القرآن، فأعجز الفصحاء اللُّد، وجاوز الوصف والحد (1) ".
وقال صاحب المسالك والممالك، ابنُ فضل الله العُمري: " أفصحُ الفقهاء لساناً، وأوضح البلغاء إحساناً، لعباراته في الفقه نزعاتٌ أدبية، ونزغات عربية، كأنما جاء بها من البادية، تلاعبها أعطاف ريحها، وتجاذبها أطراف البداوة إلى لِمم شيحها (2) ".
لم يَغب عنا أن شرطنا في هذه الفصول أن نلتزم بما يستخرج ويستنبط من (نهاية المطلب) ولكنا لم نستطع أمام شهادة بهذا المستوى، وبهذا القدر إلا أن نتحفك بها.
ونعود إلى (نهاية المطلب)، فنجد الأسلوب الرشيق الأنيق، والألفاظ الدقيقة الواضحة، والكلام الجزل الفصيح، فهو بحق أسلوب علمي متأدب، فمع أن لغة
__________
(1) طبقات السبكي: 5/ 174.
(2) مسالك الأبصار في ممالك الأمصار: 6/ 285.

(المقدمة/280)


الفقه، ومصطلحاته تحتاج إلى الدقة والصرامة، ومع أن لغة العلم تتجرد من العاطفة والمجاز، مع كل هذا، والتزام الإمام به، إلا أنك تلمح سمات الجمال والطلاوة في أسلوبه، تقرأ كتابه فتجد ذلك واضحاً ملموساً، لا يحتاج إلى استدلال، ولكنا نضع أمامك شيئاًً مما رأيناه يستلفت النظر، وسنلتزم الإيجاز، فنقتصر على أقل ما يكفي للاستشهاد من الكلمات:
* فمن ذلك قوله: " ومن الأصول الخفية أن مَحَطَّ القياس قد يضيق، فيدق النظر، وهو يمشي مشي المقيد، ثم قد يقف، ويضطر الفقيه إلى حكمٍ، فيصرفه إلى أقرب الوجوه إليه ".
تأمل التعبير، وانظر إلى الصورة المتحركة " مَشْي المقيد ".
* وفي كتاب العتق - باب جناية المكاتب على سيده، وهو يتكلم عن إنشاء المريض الكتابةَ، ووصيته بها، يقول:
" وقد أتيت على هذه الأبواب فقهاً وحساباً، في كتاب الوصايا، ولم أغادر فيها مزيداً لمتنفس، ومهدت الأصول، ونظمت المسائل، وعند الصباح يَحْمَد القوم السُّرى ".
تأمل الصورة الأدبية: " ولم أغادر فيها مزيداً لمتنفَّس "، وانظر الإيقاعَ في قوله: " ومهدت الأصول، ونظمت المسائل " مما يسميه علماء البلاغة: " الازدواج " أو حسن التقسيم.
أما ختام العبارة بالمثل السائر: " عند الصباح يحمد القوم السُّرَى " فلا يحتاج إلى أن أنبه إليه.
* وفي موضع آخر، يقول:
وههنا وقفة طال فيها نظرنا، فليأخذ الناظرُ المقصودَ عفواً صفواً، " فرب ساعٍ لقاعد ".
ولست بحاجة إلى التنبيه إلى ما في العبارة، من طرافةٍ وطلاوة، وما تحمله من روع تكاد تقرب من الفكاهة.
* وربما تكون روح الفكاهة والدعابة أوضح في العبارة التي قالها عن القاضي حسين، فعندما ناقش مسألة من مسائل الجنايات، وهي إذا قتل أخوان أبويهما: أحدهما قتل

(المقدمة/281)


الأب، والآخر قتل الأم، وأيهما يقدم للقصاص؟ هل بالسبق أم بالقرعة؟ قال معقباً على ذلك -بعد أن استوفى المسألة بحثاً وتمحيصاً-: " ولقد رأيت في مرامز كلام الأصحاب ما يدل على القرعة، والقاضي لم يذكرها، واقتصر على أن قال: لو ابتدر أحدهما، وقتل صاحبه، كان كذا وكذا. وهذا فرار من الزحف ".
انظر روعة تشبيه التمثيل لإغفال القاضي قولاً من الأقوال في المسألة.
* وفي كتاب الفرائض، عند الكلام عن كيفية توريث من يدلي من ذوي الأرحام بقرابتين، ذكر قولَ الأستاذ أبي منصور وما يراه في المسألة، ثم قال: " وقد أورد القاضي أبو محمد في كتابه: أن أبا يوسف لا يورث بقرابتين، ونحن نقول: الرجوع إلى ما نقله الاستاذ أبو منصور أولى؛ فإنه إمام الصناعة مطلقاً، " وكل الصيد في جوف الفَرَا " (1).
* وقال في (باب في أقسام الضرب) من كتاب الفرائض، وهو يصف طريقة تعلم الحساب، قال: " ولْيعلم الطالب أن الشرط الأول على من يبغي المهارة أن يحفظ الآحاد، بحيث لا يحتاج إلى التفكر فيها، وهي طريحة ساعده " (2).
وقال في كتاب القَسْم والنشوز فيما لو أراد الزوج أن يزيد النوبة على الثلاث "ففي المسألة وجهان: أحدهما - أنه لا يجوز، إذ لا موقف بعد المجاوزة ... فربما نجعل النوبة ستة أو أكثر منها، وهذا يؤدي إلى مهاجرة في حق اللواتي تتأخر نوبُهن، ثم يترتب عليها انتساج وحشةٍ بين الزوج وبين المتخلفات، وإلى تأكد ألفةٍ تنتهي إلى المِقَة، فيحصل من السرف في الازدياد مقتتٌ ومِقَة" ولا يخفى على الفطن ما في الكلام من محسنات البديع.
* وتقرأ في الجزء 15 ص 471، 472 قوله: " وهذا موقف لا يجوز للفقيه الاكتفاء فيه بالاتباع، ولا يسوغ أن يخطوَ الخطو الوِساع ".
والحق أن التمثيل والاستشهاد على أن " لعباراته في الفقه نزعاتٌ أدبية، ونزغات عربية " أمرٌ يحِّير من يحاوله: أيّ العبارات يأخذ وأيها يدع، فالكتاب بين يديك، لا تجد فقرة فيه، إلا وهي صالحة للتمثيل والاستشهاد.
فنكتفي بما حاولناه، ونأخذ في بابةٍ أخرى من أسلوب ولغة الإمام.
__________
(1) انظر ج 9/ 249.
(2) انظر ج 9/ 265.

(المقدمة/282)


إمام الحرمين واللغة:
وإذا تركنا الفصاحة والبلاغة، وتحدثنا عن إحاطة الإمام باللغة وتصرفه فيها متناً وقواعد، لوجدنا معجم الإمام في (نهاية المطلب) يحوي مفرداتٍ، ومشتقاتٍ، وصيغاً غيرَ معهودةٍ لنا الآن، ولكنها صحيحة فصيحة، غير حُوشيةٍ ولا جافية، ولكننا نحن الذين بعدت بيننا وبين لغتنا الشقة، باعد بيننا وبينها العجمة التي سادت لغتنا اليومية، وأسماءَ متاجرنا ومصانعنا، وأدواتِ معيشتنا، وأسماء ما نطعمه ونشربه، ونلبسه ونركبه، بعد أن (فَرْنجنا) تعليمنا ومناهجنا، ففعلنا بأنفسنا ما عجز الاستعمار أن يفعله بنا.
ولهذا الانقطاع عن تراثنا، وأصيل لغتنا، أصبح الاتصال بأئمتنا، والتلمذة لهم، وقراءة كتبهم، أصبح ذلك أمراً عسيراً، وصار بعض (الدكاترة) يعزو ما يعجز عن معرفة وجهه في كتب التراث إلى الخطأ، ويقوم بتغييره، فيقول في المقدمة: " إن من عمله في تحقيق الكتاب تصويب الأخطاء النحوية واللغوية، من غير حاجة إلى تنبيه " فيغير لغةَ صاحب الكتاب الذي بينه وبين المحقق مئات السنين، وُينطقه بلغة عصرنا، وهذا من أخطر الجنايات التي ارتكبت في حق تراث أمتنا، وعلم أئمتنا، ارتكبها كثير من محققي العصر والأوان، وهم يظنون أنهم يحسنون صنعاً.
وقد سنَّ لنا أئمة هذا الفن، فن التحقيق الذين يُهتدى بهم، سنّ لنا هؤلاء الأئمة المحافظةَ على لغة المؤلف صاحب الكتاب حتى فيما يختص بقراءته التي كان يقرأ القرآن عليها، فها هو العلامة الشيخ أحمد شاكر يضبط لفظ (القُرَان) بضم القاف وفتح الراء مخففة وتسهيل الهمزة، في كل موضع ورد فيه اللفظ في رسالة الشافعي، اتباعاً للإمام الشافعي -مؤلف الرسالة- في رأيه وقراءته، فقد ورد بسندٍ اعتمده الشيخ شاكر أن الشافعي كان إذا قرأ قوله تعالى {وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآَنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا} [الإسراء: 45]، هَمَز (قَرأْتَ) ولم يهمز (القُران)، وهي قراءة عبد الله بن كثير عن مجاهد عن ابن عباس عن أُبي (1).
__________
(1) ملخصاً من تعليق الشيخ شاكر على الرسالة: 14 حاشية رقم (4).

(المقدمة/283)


وقد أشار العلامة الشيخ بكر أبو زيد إلى نحو هذا، حيث أخذ على الذين ينشرون تراث شيخ الإسلام ابن تيمية أن بعضهم غير الرسم في الآية الكريمة {وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ} [التكوير: 24] فقد كانت في الأصول المخطوطة، وفي بعض الطبعات (بالظاء) (بظنين)، وهذا الرسم (بالظاء) هو الموافق للقراءة التي كانت سائدة في بلاد الشام، ومصر، واليمن في عصر ابن تيمية، ولذا قال الشيخ: " فينبغي عند تحقيق كتب شيخ الإسلام عدم التصرف في الرسم للآيات التي يستشهد بها، حتى تكون على وفق رسم المصاحف السائدة في عصرنا (1) ".
ونحن نقول مع الشيخ: إن هذا الأمر يعسر القيام به، لصعوبة الإحاطة بعلوم القراءات وعلم الرسم، رسم المصحف، بل والعلم بتاريخ انتشار القراءات وأماكن شيوعها، وتكليف المحقق معرفة بأيها كان يقرأ المؤلف.
وإذا عَسُر هذا بالنسبة للقرآن العظيم، فهو بالنسبة للحديث الشريف ميسور، فمعلوم أن الروايات تتعدد بالنسبة للحديث الواحد، وتختلف فيما بينها في بعض ألفاظها، كما في كتب اختلاف الموطآت وغيرها، ومعلوم أن عدداً من كتب الحديث المطبوعة الآن من رواية واحدة فحسب، كسنن أبي داود، فإن النسخة المطبوعة من رواية اللؤلؤي، مع أن هناك غيرها من الروايات كان معروفاً متداولاً قبلُ.
ومن هنا على المحقق ألا يعجل بتغيير ألفاظ الأحاديث التي في الكتاب الذي يحققه، لتوافق اللفظ الموجود في كتب الحديث التي بين يديه، فهو لا يدري أيَّ رواية وقعت للمؤلف، وغاية ما عليه أن ينبه في الحاشية على اختلاف اللفظ الذي يجده (2).
وإذا كان هناك بالنسبة للقرآن والحديث، فهو بالنسبة للغة أيسر، وألزم، وأوجب، فعلى المحقق إذا وجد ما لا يتفق ومعلومه عن النحو واللغة ألا يسارع بالتخطئة، والتغيير، بل يجب أن يبحث في كتب النحو واللغة، وعليه أن يستعين بأهل الصناعة، حتى لا يخطِّىءَ الصواب، ويغيرَ لغة المؤلف، ويُنطقَه بما لم ينطق به.
__________
(1) ر. المداخل إلى آثار شيخ الإسلام ابن تيمية، الشيخ بكر بن عبد أبو زيد: 54. بتصرف.
(2) السابق نفسه (بتصرف).

(المقدمة/284)


وقد نبه الشيخ أحمد شاكر إلى شيءٍ من هذا، حين قال - في تعليقه على سنن الترمذي: 1/ 440: " وقد رأيت كثيراً من الناسخين والعلماء يجيزون لأنفسهم تغيير ما خالف القواعد المعروفة؛ ظناً منهم أنه خطأ ".
قال هذا وهو يتحدث عما رآه من اختلاف رواية الحديث الشريف: " ليلني منكم أولو الأحلام والنهى "، وهو كلام نفيس يدل على سعة اطلاع وطول باع، ونور بصرٍ وبصيرة، يحسن أن نأتي به بتمامه، قال رحمه الله وطيب ثراه تعقيباً على هذا الحديث: " قال النووي في شرح مسلم: "ليلني: هو بكسر اللامين وتخفيف النون من غير ياءٍ قبل النون، ويجوز إثبات الياء مع تشديد النون على التوكيد".
وهكذا طبع في صحيح مسلم بحذف الياء في طبعة بولاق (1: 128) وفي طبعة الآستانة (2: 30) في حديثي أبي مسعود وابن مسعود، وكتب بهامشها في حديث أبي مسعود أن في نسخةٍ ليليني " وضبط بتشديد النون، وفتح الياء قبلها.
ولكن في نسخة مخطوطة عندي من صحيح مسلم -يغلب عليها الصحة- بإثبات الياء فيهما من غير ضبط، وكتب بهامشها في الموضعين أن في نسخةٍ (ليلني) بحذف الياء.
وقال المباركفوري في شرح الترمذي: 1/ 193: " قد وقع في بعض نسخ الترمذي: (ليلني) بحذف الياء قبل النون، وفي بعضها بإثباتها ".
أقول (1)، وإني لم أرها في شيء من نسخ الترمذي بحذف الياء، وأظن أن حذفها فيه وفي غيره من تصرف الناسخين، وكذلك ضبط الكلمة على إثبات الياء: بفتحها وتشديد النون؛ ذهاباً منهم إلى الجادَّة (2) في قواعد النحو، بجزم الفعل المعتل بحذف حرف العلة.
وقد رأيت كثيراً من الناسخين والعلماء يجيزون لأنفسهم تغيير ما خالف القواعد المعروفة، ظناً منهم أنه خطأ، والدليل على ظن التصرف منهم أن الشارح
__________
(1) القائل الشيخ شاكر، فما زال الكلام له.
(2) يعني المألوف المعروف من قواعد النحو.

(المقدمة/285)


المباركفوري نقل عن الطيبي قال: " من حق هذا اللفظ (ليليني) الياء؛ لأنه على صيغة الأمر، وقد وجدناه بإثبات الياء وسكونها في سائر كتب الحديث، والظاهر أنه غلط ".
هكذا أثبت الشيخ أن أصل الكلمة كان بإثبات الياء وسكونها في سائر كتب الحديث.
ثم عقب على كلام الطيبي قائلاً: " وليس هذا غلطاً كما زعم الطيبي، بل إثبات حرف العلة في مثل هذا ورد في الحديث كثيراً، وله شواهد من الشعر، وقد بحث فيه العلامة ابنُ مالك في كتاب (شواهد التوضيح) بحثاً طويلاً (70 - 76) ... (1) ".
وقد أطلنا هذا النقل من كلام الشيخ -على غير منهجنا- لترى صرامة المنهج في التحقيق، وترى كيف عنَّى الشيخُ نفسَه وراء لفظة واحدة، وتتبع النسخَ والروايات لكي يضع يدكَ بيقين على أن أصل هذه الكلمة كانت بإثبات الياء، فتعاورها النقلةُ والنساخ، ما بين من يظن أنه يصححها بالتفنن في ضبط، ومن يظن أنه يصوبها بحذف الياء، حتى انتهى الشيخ إلى أن الأصل أنها بالياء، وأنها صحيحة.
وبهذا نصل بك إلى ما وجدناه من ظواهر واستعمالات لغوية عند إمام الحرمين جاءت على غير المألوف والمعهود، وأننا التزمنا -بعون الله- بصرامة المنهج، فلم نعجل بتخطئتها.
وسنحاول أن نصنف هذه الظواهر والاستعمالات، ونعدّدها على النحو الآتي:

1 - استعمالات على غير المعهود في قواعد اللغة، فمن ذلك:
* إثبات ياء المخاطبة في نحو: أنت قلتيه ورميتيه، وذلك قوله في كتاب اللعان: " إذا قال الزوج لزوجته: ما ولدت هذا الولد بل استعرتيه، أو التقطتيه ".
* ومن هذا أيضاً حذف النون من الفعل المضارع المرفوع تخفيفاً، وذلك قوله -في كتاب الوصايا-: " وقد يخرجوها إذا دقَّ الحساب من الكسور ... إلخ " فالمشهور المعروف (يخرجونها).
__________
(1) سنن الترمذي: 1/ 440، 441.

(المقدمة/286)


ولكنا لم نعجل بحمل الأمر على خطأ الناسخ، أو لحن المؤلف -كما يبادر إلى ذلك البعض- وأخذنا في البحث فوجدنا ابنَ مالك يقول: " حذف نون الرفع في موضع الرفع لمجرد التخفيف ثابت في الكلام الفصيح نثره ونظمه ".
ثم وفّى المسألة بذكر الأمثلة، وأفاض في التعليل النحوي لهذا الحذف (1).
* ومن ذلك حذف الفاء في جواب (أما) على غير معهودنا ومألوفنا، ومن طريف ما يحكى في هذا الموضع أن العلاّمة الشيخ محمد بخيت المطيعي مفتي الديار المصرية المتوفى 1354 هـ-1935 م، كان في مناظرة، فوقع حذفُ الفاء في جواب (أما) في كلامه، فظن مناظرُه أنه يستطيع إحراجه، فقال له: " أين الفاء؟ " فأجابه الشيخ على البديهية: " ذهب بها الكوفيون يا بصريّ ".
ويبدو أن هذه اللغة كانت شائعة في القرن الخامس الهجري، فأنت واجدٌ هذا في كتب الغزالي، وأبي إسحاق الشيرازي، وابن السمعاني، وغيرهم، وليس في (نهاية المطلب) وحده.
وقد رأيت من أفاضل المحققين من ضرب إسقاط الفاء في جواب (أما) مثلاً للأخطاء النحوية التي وجدها عند المؤلف، وصوَّبها من غير إشارة إليها، وتنبيه عليها في الحاشية.
ومقابل هذا كم من محقق غيَّر، ولم ينبه، ولم يُشر.
وقد بلغ حذف هذه الفاء -في كتابنا هذا- من الكثرة حدّاً جعل التمثيل له بذكر جملة من كلام الإمام غيرَ ذي جدوى.
وقد أكثر الغزالي من حذف هذه الفاء، حتى علق النووي في التنقيح على قوله: " أما قولنا: تراب، يندرج تحته الأعفر ".
قال النووي: "هكذا هو في النسخ (يندرج) بغير فاءٍ، والمشهور في العربية جواب أما بالفاء، وقد أكثر المصنف وغيره من حذف هذه الفاء، وهي لغة صحيحة،
__________
(1) ر. شواهد التوضيح، بتحقيق الدكتور طه عبد المحسن: 58، 59.

(المقدمة/287)


وقد جاءت متكررة في الأحاديث الصحيحة، وغيرها من كلام العرب، لكن الفصيح المشهور إثباتها" ا. هـ كلام النووي ويعنينا مما قال أمران:
1 - أن ذلك كان شائعاً في استعمال الأئمة في ذلك العصر.
2 - أنه لغة صحيحة، جاءت بها الأحاديث الشريفة.
* ومن ذلك حذف حرف العطف في مثل قوله -في كتاب الطلاق-: ولو قال رجل لامرأته: أنت طالق لرضا فلان، زعم أنه أراد بما قال تعليلاً، وقع الطلاق ناجزاً.
اجتمعت نسختان هنا على حذف واو العطف بين الجملتين: قال رجل لامرأته ... [و]، زعم أنه أراد ...
لم أعجل بزيادة (واو العطف) -مع أنه الأيسر والأسهل- وتوقفت أراجع المسألة في مظانها، فوجدتُ ابنَ مالك يقرر أنه يجوز حذف حرف العطف، ويضرب لذلك أمثلةً، وشواهد من الجامع الصحيح لأبي عبد الله البخاري، منها قوله صلى الله عليه وسلم: " صلى رجل في إزارٍ ورداء، في إزارٍ وقميص، في إزارٍ وقباء " والأصل: صلى رجلٌ في إزار ورداء [أو]، في إزارٍ وقميص، [أو] في إزارٍ وقَباء " فحذف حرف العطف مرتين لصحة المعنى بحذفه ". ا. هـ
وفي الحديث فائدة أخرى، وهي مجيء الماضي بمعنى الأمر، أي: ليصلِّ الرجل (1).
* ومن ذلك رفع المستثنى في كلام تام موجب، وقد جاء ذلك نادراً جدّاً، وهو سائغ، وعليه جاء حديث أبي هريرة -في رواية النسفي-: " كل أمتي معافىً إلا المجاهرون " بالرفع (2).
* إعادة الضمير مؤنثاً على مذكر، ومذكراً على مؤنث.
ونكتفي بهذه النماذج، وهناك غيرها لم نذكره هنا، وهو مبينٌ موضحٌ في حواشي الكتاب.
__________
(1) ر. شواهد التوضيح: 117.
(2) السابق نفسه ص 94.

(المقدمة/288)


ب- استخدام أساليب على غير المعهود المشهور، مثل:
* استعمال (بلى) بمعنى نعم في جواب الكلام الموجب.
* تكرار (بين) مع الاسم الظاهر في مثل قوله: " بين ثبوت الرق، وبين استبقاء النكاح " والمعهود المشهور أنها لا تكرر إلا مع الضمير، مثل: والفرق بين الأنام وبينه.
* دخول الباء على غير المتروك في نحو استبدلت الدراهم بالدنانير، وذلك إذا أمن اللبس.
...

جـ- استعمال أدوات على غير المعهود في استعمالها، مثل:
* (مهما) بمعنى (إذا) وهذا الاستعمال شائع عند الغزالي وغيره، تجده عند السرخسي في المبسوط، بل تجده عند الخليل بن أحمد الفراهيدي المتوفى سنة 170 هـ في معجمه العبقري (كتاب العين (1)).
* (إذا) بمعنى: إذْ
* (إِذْ) بمعنى: إذا (2).
* (ما) للعاقل.
* (ثمَّ) للقريب.
* وكذا إنابة حروف الجر بعضها عن بعض، ومن هذا كثير، نبهنا على عُظْمِه في الحواشي.
...

د- ألفاظ يستعملها الإمام على غير أوزانها، وصيغها المعهودة، وعامة ما وجدناه من ذلك في مصادر الثلاثي مثل:
* صَدَر، وحَدَث، ونَفَر، مكان صدور، وحدوث، ونفور.
__________
(1) انظر عبارة الخليل في رسالة بعنوان (تصحيح الكتب وصنع الفهارس المعجمة) بقلم العلامة الشيخ أحمد شاكر، وتعليق العلامة الشيخ عبد الفتاح أبي غدة: 47.
(2) انظر في ذلك (شواهد التوضيح: 62).

(المقدمة/289)


* وبَدْو مكان بُدُوّاً مصدراً لـ (بدا) بمعنى ظهر.
* وسكوناً مكان (سَكَناً) في نحو قوله عن قسمة العقار: " إذا أمكن الانتفاع بكل حصةٍ منه (سكوناً) يريد (سَكَناً)، ويبدو أن هذا الوزن من المصدر كان شائعاً في الاستعمال في هذا المعنى، في لسان ذلك العصر.

هـ- استعمال ألفاظ لم نجدها في المعاجم بنفس المعنى الذي استعملها فيه الإمام مثل:
كلمة (البين) في قوله في بيع التولية: " وحقيقة التولية إحلالُ المولَّى محلّ المولِّي، حتى كأن المولِّي مرفوع من (البين) ".
وقوله في مسألة إعراض الغانم عن حصته من الغنيمة: " ظاهر كلام الأصحاب أن من أعرض عن حصته أخرج من (البين)، ويقدر كأن لم يكن، ويخمس المغنم، ويصرف أربعة أخماسه إلى الباقين "
تكررت هذه الكلمة بهذا المعنى في أكثر من موضع من كتابنا هذا، كما وردت بهذا المعنى ذاته في كتابه (البرهان في أصول الفقه)، ولم نرها مستعملة بهذا المعنى في المعاجم.

وكما استعمل لفظاً صحيحاً خطّأه الإمام النووي، وظهر أنه صواب منصوص في كتب اللغة.
وذلك لفظ (طريان) في نحو قوله: " طريان الحيض "، " طريان العجز "، " طريان السفر "، " طريان الخوف ".
كذا استعملها الإمام، وتكررت مراراً، واستعملها تلميذه الغزالي في الوسيط، قال في كلامه عن المستحاضة: " ... وقال الشافعي رضي الله عنه: تقضي خمسة عشر يوماً، وكأنه لم يخطر له (الطريان) -أي طريان الحيض- في وسط النهار ".
عقب الإمام النووي على ذلك قائلاً: "قوله: (الطريان) هكذا يتكرر في

(المقدمة/290)


الوسيط، وهو تصحيف، وصوابه (الطرآن (1)).
ولمنزلة الإمام النووي ومكانته، كدتُ أستسلم لقوله، ولكن إحساسي بقدرة إمام الحرمين، وإحاطته باللغة دفعني إلى مزيد من البحث، حتى وجدتها في كتاب (التكملة والذيل والصلة للصغاني) و (تهذيب اللغة)، فقد نقلا عن ابن الأعرابي قوله: " طرى يطرِي إذا أقبل، وطرى يطري إذا تجدد، وطرى يطري إذا مرّ " فالفعل يائي، وعليه يكون المصدر (طريان)، وليست الألف في (طرى) مسَّهلة عن الهمزة، حتى نهمز المصدر (طرآن).

ز- استعمل كلمة (كما) بمعنى (عندما) أو (لمَّا)،
في مثل قوله: " ... فأما التقدم على الإمام، (فكما) وقع أبطل الصلاة " و" ... (فكما) لابس الإمام السجود، حكمنا ببطلان صلاة الإمام"، " ولو تيمم، ولبس الخف، نظر: فإن كان التيمم لإعواز الماء، فلا يستفيد به المسح عند وجود الماء، بل (كما) وُجد بطل التيمم، ولزم نزع الخف "، " فأما المبتدأة، فهي التي (كما) يبتديها الدم تطبق الاستحاضة، وتتصل الدماء ".
ونكتفي بهذه الأمثلة، ففيها غَنَاء، فقد تكررت بهذا المعنى مرات تستعصي على العد والحصر.
وقد وجدنا هذا الاستعمال عند الغزالي، وعند السرخسي في المبسوط، وعند الرافعي في الشرح الكبير، وعند نجم الدين النسفي في كتابه طلبة الطلبة.
وقد تعقب الإمام النووي -في التنقيح- الغزاليَّ في الوسيط، فقال: " لفظة (كما) يستعملها المصنف وغيره من الخراسانيين بمعنى (عند) وليست عربية ولا صحيحة (2) ".
__________
(1) التنقيح، بهامش الوسيط: 1/ 442.
(2) ر. التنقيح بهامش الوسيط: 1/ 426.

(المقدمة/291)


كذا قال الإمام النووي طيب الله ثراه، ولم نصل إلى أصلٍ لها في العربية، وراجعنا أصحاب الصناعة، فلم نجد عندهم جواباً بعد.
ح- ومما يستحق أن يسجل في ختام هذا الموضع هو أن إمام الحرمين كان يستخدم مفردات وألفاظاً غير معهودة في معجمنا اللغوي، ولساننا المعاصر.
وقد يقول قائل: إن هذا أمر بدهي مُسلَّم، لا يحتاج إلى الإشارة إليه، أو التنبيه عليه، ونقول: نعم، هو كذلك، ولكن أردنا أن نشير إلى ذلك، لأمرٍ أهم يتعلق بمنهج التحقيق.
وسأضرب مثلاً بلفظة واحدة جاءت في كلام الإمام، وهو يتحدث عن كراء الأرض للزراعة، واشتراط إمكان وجود الماء وتوقعه، وتحقُّق ذلك أو عدمه في الأرض التي يرويها (النيل) ... قال الإمام: " ولو كان بالقرب من (ضيفة) النيل أرضٌ .... الخ " كذا بهذا الرسم الواضح ضاد، فياء، ففاء، فتاء مربوطة.
وفي نسخة أخرى: " ضفة النيل ".
فهنا يجري الذهن مع المألوف المعهود: (ضفة) وتصحيف (ضفة) إلى (ضيفة) أمر قريب متوقع من النساخ. ولقد هممت فعلاً باعتماد النسخة المساعدة (ضفة) وصرف النظر عن نسخة الأصل، لاسيّما وأن الأمر لا يتعلق به خطأ أو صواب.
ولكني أحجمت وتوقفت وتذكرت القاعدة التي أكدها أئمة الصناعة، وهي: إذا اختلفت نسختان في لفظة، فجاءت إحداهما بها مأنوسة معهودة، والأخرى جاءت بها غير معهودة، فالصواب في جانب التي جاءت بها غير معهودة؛ وذلك أن الناسخ يصحف غير المعهود إلى المعهود الذي يسبق إلى ذهنه.
وفعلاً صَدَقتْ القاعدة، فوجدنا كلمة (ضيفة) صحيحة، وإن كانت غير مألوفة، وهي بمعنى (جانب) الوادي أو النهر.
***

(المقدمة/292)