نهاية المطلب في دراية المذهب

الفصل السادس إمام الحرمين وعلم الحديث

(المقدمة/293)


إمام الحرمين وعلم الحديث

تمهيد:
نقدم بين يدي الفصل بعض الضوابط والمبادىء راجين أن يفهم ما نقوله في ضوء هذه الضوابط والمبادىء، وهي:
1 - إننا لا نحاول أن نثبت أن إمام الحرمين كان من المحدثين الحفاظ، وأئمة الحديث وحملته، لا ندعي نحن ذلك، ولا ادعاه إمام الحرمين لنفسه؛ فهو يقول في كتابه (الغياثي): " فليطلب الحديث طالبه من أهله " (فقرة 148)، وفي كتابه هذا (نهاية المطلب) يقول: " وقد راجعتُ بعض أئمة الحديث، فلم يُثبت رفع اليدين في القنوت "، وفي موضع آخر يقول: " ولكن أخبرني من أثق به من أئمة الحديث أن الذي ظهر وصحّ من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم - التختّمُ في ... " قال هذا في كتاب الجنائز عند الكلام عن مخالفة أهل البدع في شعارهم.
وعند الكلام عن تلقين المقر بالحد الرجوعَ عن إقراره، يروي أن النبي صلى الله عليه وسم قال للمقر: " ما إخالك سرقت! قل: لا " ثم عقب قائلاًَ: " وقد سمعت بعض أئمة الحديث لا يصحح هذا اللفظ، وهو: " قل: لا ".
وقد تكرر منه نحو هذا كثيراً.
فهذه الأقوال تنطق بأنه لا يدّعي لنفسه أنه من أهل الحديث وأئمته، بل يدعونا ويعلمنا أن نأخذ كل فن من أهله.
ولا شك أن إمام الحرمين في هذا مقتدٍ بالإمام الشافعي الذي كان يقول لتلميذه أحمد بن حنبل: " يا أحمد، إذا صح عندك الحديث، فأعلمني به ".

(المقدمة/295)


2 - إن علم الحديث ليس بالعلم الذي يمكن الإحاطة به إحاطة كاملة، فما من محدث حافظ إلا وتعقبه متعقب في حديث أو أكثر.
وعبر عن هذا شيخ الإسلام ابن تيمية قائلاً: " ولا يمكن لواحد أن يحيط بجميع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يدعي.
والدليل على ذلك أن أبا بكر رضي الله عنه - وهو الذي لا يفارق النبي صلى الله عليه وسلم حضراً ولا سفراً سأل عن ميراث الجدة، فأخبره المغيرةُ بنُ شعبة، ومحمد بنُ مَسْلمة بقضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكذلك عمر رضي الله عنه، خفيت عليه أحكام: منها حكم المجوس في الجزية، حتى أخبره عبد الرحمن بن عوف بقول الرسول صلى الله عليه وسلم: " سنوا بهم سنة أهل الكتاب " (1) ا. هـ.
3 - ثم إن هذا العلم ليس من العلوم التي تقبل الشركة، بل هو علم من يهب له نفسَه، ويعطيه كلَّه، ولا يلتفت إلى غيره، قال الخطيب البغدادي: " علم الحديث لا يعلق إلا بمن قصر نفسَه عليه، ولم يضم غيره من الفنون إليه.
وقد قال الشافعي رضي الله عنه: أتريد أن تجمع بين الفقه والحديث؟ هيهات!
وقد كان شيخ الإسلام، أبو إسماعيل ابن الأنصاري، الأصبهاني، الهروي، يقول: هذا الشأن -يعني الحديث- شأن من ليس له شأن سواه " (2).
4 - إنني لا أنصب نفسي محامياً عن إمام الحرمين؛ فليست المسألة مسألة اتهام ودفاع، وتعصب وتحزب، وإنما هي مباحثة علمية نبغي بها وجهَ الصواب، والبحثَ عن الحقيقة بدليلها، ووزن الأمور وتقديرها، متجردين من الهوى والميل، سائلين الله سبحانه أن يلهمنا الصواب، ويعصمنا من الزلل، وأن يقيض لنا منصفين ينظرون في كلامنا هذا بعين الإنصاف.
5 - إن إمام الحرمين وحده- فيما أعلم- حظي بهذا القدر من الهجوم في هذا
__________
(1) رفع الملام عن الأئمة الأعلام: 5 - 7.
(2) الرسالة المستطرفة: 221.

(المقدمة/296)


الباب، وبهذه الحدة، وحده دون غيره من الفقهاء، حاشا تلميذه الغزالي، فقد ناله قدرٌ من ذلك، ولعله أصيب به تبعاً لشيخه.
6 - كنت أتمنى أن أقوم بدراسة إحصائية استقصائية لكل الأحاديث التي استشهد بها إمام الحرمين في كتبه كلها، نجمعها كلها في صعيدٍ واحد ثم نُجري الدراسات الآتية:
* توزع على دواوين السنة لنرى كم حديثاً منها أخرجه البخاري؟ وكم حديثاً أخرجه مسلم؟ وكم حديثاً أخرجه أبو داود؟ وهكذا.
* ثم تُقسم بحسب الصحة أولاً قسمين ما بلغ درجة الصحة والحسن، وما دون ذلك، ثم يقسم ما نزل عن درجة الحسن إلى الضعيف الذي يصلح للاستدلال به في فضائل الأعمال، وإلى ما دون ذلك.
* ثم يُنظر في هذا الضعيف هل استدل به وحده، أم استأنس به مع حديث أو قياس؟
* ثم ينظر هل استدل بهذا الضعيف دون غيره من الفقهاء والأئمة؟ أم أن هذه الأحاديث دائرة متداولة في كتب الفقهاء؟
* وننظر أيضاً في أحاديث الخلاف، وما تكلم فيه من أحاديث الخصوم، وكيف ردّها.
* وننظر في الأحاديث التي أخذها عليه وعلى الغزالي ابنُ الصلاح والنووي، أو ابن حجر؟ وكم مما أخذه ابنُ الصلاح ردّه عليه النووي أو ابن حجر، وكم مما أخذه النووي ردّه عليه ابنُ حجر أو غيره.
كان هذا تصوّرنا لهذا الفصل ولحسم هذه القضية، ولكن لم يسعفنا الوقت ولا الجهد، ولذا سنتناول هذه القضية على نحو آخر فيما يأتي.

خُطة هذا الفصل وطريقته:
سنسير في هذا الفصل على الخطوات الآتية:
أولاً - ذِكْرُ الناقدين والمتحاملين على إمام الحرمين في هذا الجانب.
ثانياً - النظر في الأسباب والعلل التي سوّغوا بها ما يقولون.
ثالثاً - بيان أن الأوهام الحديثية لا يكاد ينجو منها أحد.
رابعاً - ذكر نماذج من كلام إمام الحرمين في نقد أحاديث الخصوم.

(المقدمة/297)


أولاً - الذين رأيناهم نقدوا إمام الحرمين، وضعفوه في الحديث هم:
1 - السمعاني، أبو سعيد، عبد الكريم بن محمد بن منصور المتوفى سنة 562 هـ.
2 - ياقوت الحموي الرومي البغدادي المتوفى سنة 646 هـ.
3 - الإمام ابن الصلاح المتوفى سنة 643 هـ.
4 - الإمام النووي المتوفى سنة 656 هـ.
5 - شيخ الإسلام ابن تيمية المتوفى سنة 728 هـ.
6 - الإمام الذهبي المتوفى سنة 748 هـ.
7 - الإمام الحافظ ابن حجر المتوفى سنة 852 هـ.
فهؤلاء -فيما نعلم- هم الذين صدرت منهم عبارات عالية تُضعِّف إمام الحرمين في الحديث، وإذا وجد غيرهم، فهم لهم تبع، وعنهم ينقلون.
ويحسن أن نذكر نماذج لهذه العبارات، ونناقشها، وننظر في مدى صحتها أو بطلانها.

ثانياً - عرض لأقوالهم ومناقشتها:
* أما السمعاني في (الأنساب) فقد قال -بعد أن ذكر لنا من سمع الإمام منهم الحديث، ومن سمعوه منه- قال: "وكان قليل الرواية للحديث معرضا عنه" (1).
وهذه العبارة بنص حروفها، وفي نفس سياقها قالها ياقوت في (معجم البلدان) (2)، ولم يزيدا على ذلك.
وليس فيما قالاه شيء؛ فلم يزعم أحد أن إمام الحرمين كان من المشتغلين بعلم الحديث، وإن كانت العبارة فيها شيء من القسوة والتحامل، فلا يقال لكل من اشتغل بعلوم أخرى غير علم الحديث: إنه معرض عن الحديث.
* ولكن الذي يستحق أن يناقش هو ابن الصلاح في مشكل الوسيط تعليقاً على عبارة الغزالي في باب (دفع الصائل): أما جواز الاستسلام، فإن كان الصائل مسلماً محقوناً، فقولان: أحدهما - الجواز لقوله صلى الله عليه وسلم لحذيفة رضي الله عنه
__________
(1) الأنساب: 3/ 386.
(2) معجم البلدان: 2/ 93.

(المقدمة/298)


في وصف الفتن: " كن عبد الله المقتول، ولا تكن عبد الله القاتل " اهـ.
علق ابن الصلاح على ذلك قائلاً: " ذكر شيخُه (أي إمام الحرمين) أنه حديث صحيح، ولا اعتماد عليه في هذا الشأن، ولم أجده في الكتب الخمسة (1) المعتمدة " ا. هـ مشكل الوسيط (ورقة 118 ب) (2).
ويحسن هنا أن نأتي بعبارة إمام الحرمين بتمامها، حتى نرى كيف اجتزأ منها ابن الصلاح هذه الفقرة، وحكم عليها هذا الحكم، قال إمامنا: " وحاصل المذهب في أصل التمهيد قولان:
أحدهما - أن الاستسلام غير جائز؛ فإن المهجة المصول عليها محترمة، والشخص الصائل ظالم ساقط الحرمة؛ فيجب إيثار الذَّب عن المهجة المحترمة؛ ولا يسوغ بذلها لشخص ساقط الحرمة.
والقول الثاني - يجوز الاستسلام، ومعتمده الأخبار الصحيحة، منها ما روي عن حذيفة بن اليمان: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصف ما سيكون من الفتن، فقال حذيفة: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم لو أدركني ذلك الزمان؟ فقال: " ادخل بيتك وأخمل ذكرك " فقال: أرأيت لو دخل بيتي؟ فقال: إذا راعك بريق السيف، فاستر وجهك، وكن عبد الله المقتول، ولا تكن عبد الله القاتل " وفى بعض الأخبار: " ولتكن خيرَ ابني آدم " عَنَى صلى الله عليه وسلم قابيل وهابيل.
وصح عن عثمان رضي الله عنه أنه استسلم يوم الدار، وقال: " لا أحب أن يراق فيّ محِجمة دم ... " (3).
ونلاحظ أمرين: 1 - أن إمام الحرمين لم يستشهد بحديث واحد، ولم ينسب له الصحة بعينه.
2 - أن الإمام ابن الصلاح حكم على العبارة المجتزأة التي لخصها الغزالي من كلام شيخه
__________
(1) الكتب الخمسة المعتمدة: هي البخاري، ومسلم، وأبو داود، والترمذي، والنسائي. وهذا اصطلاح خاص بابن الصلاح (ر. مقدمة ابن الصلاح: 585).
(2) هامش الوسيط: 6/ 529.
(3) نهاية المطلب: الجزء 17 من مخطوطة (هـ) ورقة 120 يمين (تحت الطبع).

(المقدمة/299)


هذا الحكم القاسي؛ فنفى صحة الحديث، وقال: لم أجده في الكتب الخمسة المعتمدة، وقال عن إمام الحرمين هذه الكلمة الغليظة: " لا اعتماد عليه في هذا الشأن ".
* أما الحافظ ابن حجر، فقد كان أشد عنفاً حيث قال في التلخيص: " هذا الحديث لا أصل له من حديث حذيفة. وإن زعم إمام الحرمين في النهاية أنه صحيح ".
ثم اتبع ذلك بنقل كلام ابن الصلاح، فقال: " وقد تعقبه ابن الصلاح، قائلا: لم أجده في شيء من الكتب المعتمدة، وإمام الحرمين لا يعتمد عليه في هذا الشأن. انتهى" (1).
* وقبل أن نعلق على هذا الكلام، ونبين ما فيه نورد ما قاله ابن قدامة في المغني عن المسألة نفسها، وعن الحديث نفسه، كذلك ما قاله ابن ضويان في منار السبيل، قال ابن قدامة:
" وأما من أُريدت نفسه أو ماله، فلا يجب عليه الدفع لقول النبي صلى الله عليه وسلم في الفتنة: (اجلس في بيتك، فإن خفت أن يبهرك السيف، فغط وجهك ... وفي لفظٍ: فكن عبد الله المقتول، ولا تكن عبد الله القاتل، ولأن عثمان رضي الله عنه ترك القتال مع إمكانه، مع إرادتهم نفسه " (2).
وقال ابن ضويان: " فإن كان ثَمَّ فتنة، لم يجب الدفع عن نفسه، ولا نفس غيره، لقصة عثمان رضي الله عنه، ولما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في الفتنة: " اجلس في بيتك، فإن خقت أن يبهرك شعاع السيف، فغطِّ وجهك، وفي لفظٍ: فكن عبد الله المقتول، ولا تكن عبد الله القاتل " (3) ا. هـ
فهما يسوقان الحديث على نحو سياقة إمام الحرمين، بل إن إمام الحرمين أشار إلى أن ما يستدلّ به مأخوذ من معاني عدة أحاديث، وليس حديثاً واحداً.
...
ومما يستحق أن نذكره هنا أن ابن الصلاح وابن حجر قد عقد كل منهما كتابه أصلاً
__________
(1) تلخيص الحبير: 4/ 157 كتاب الصيال حديث رقم 2143.
(2) المغني: 10/ 353.
(3) منار السبيل 2/ 317.

(المقدمة/300)


لأمرٍ لا يتعلق مباشرة بإمام الحرمين، فابن الصلاح يتحدث في مشكل الوسيط للغزالي، وابن حجر يتحدث في تخريج أحاديث الرافعي في الشرح الكبير، فكان كل منهما يترك صاحبَ كتابه ويصعد إلى إمام الحرمين، حقا إن الغزالي تلميذ إمام الحرمين تلقى منه مباشرة، والرافعي وإن كان بينه وبين إمام الحرمين ثلاثة شيوخ في ثلاث طبقات في تفقهه، فهو أيضاً تلميذ إمام الحرمين، ولكن هل هذا كافٍ في أن يصعد كل من ابن الصلاح وابن حجر إلى إمام الحرمين بنقده العنيف وتخطئته دون إشارة إلى صاحب كتابه الذي يعلّق أصلا عليه؟؟
أليس هذا تحاملاً واضحاً!!
...
أحقاً أخطأ إمام الحرمين؟؟
بعد هذه الملاحظات ننظر، فنجد الحق في جانب إمام الحرمين، فهذه الألفاظ التي أوردها إمام الحرمين جاءت في أحاديث صحيحة، صححها ابن حجر نفسه، وأما من حيث الرواية عن حذيفة رضي الله عنه، فقد صحت بمعناها عنه، ثم للفقهاء طريقتهم في إيراد الحديث بالمعنى مع الاقتصار على موضع الاستدلال، درجوا على ذلك، ليس عن عجز وقلة معرفة بالحديث، بل رعايةً للاختصار، وتوضيحا للحكم، والتفاتاً إليه، أو بتعبيرٍ آخر، بُعداً عن الحشر والتطويل، وآية ذلك أن المحدثين الفقهاء لم يخرجوا في مؤلفاتهم الفقهية عن هذا المنهج، ومثالهم الواضح الإمام الطحاوي، المحدث الجليل، فمع جلالته في علم الحديث رواية ودراية، تراه في مؤلفاته الفقهية يجتزىء من الحديث بموضع الاستدلال فقط، وغالبا ما يكون بالمعنى، ليدخله في صياغة العبارة وسياقها، بدون قلق أو اضطراب، ومن يتأمل كتابه (مختصر الطحاوي)، في الفقه يجد ما نقوله واضحاً جلياً.
ثم بعد ذلك نقول:
* روى الحاكم في المستدرك عن حذيفة رضي الله عنه قال: قيل يا أبا عبد الله ما تأمرنا إذا اقتتل المصلون؟ قال: آمرك أن تنظر أقصى بيتٍ من دارك، فتلج فيه، فإن دُخل عليك، فتقول: ها بُؤْ بإثمي وإثمك، فتكون كابن آدم، قال الحاكم:

(المقدمة/301)


" هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه " (1) وسكت عنه الذهبي، ولكن قال الألباني في الإرواء: " هو على شرط مسلم وحده، ففيه الحسين بن حفص لم يخرج له البخاري " (2).
فهذا هو حديث صحيح عن حذيفة، وإن لم يكن بلفظ " كن عبد الله المقتول، ولا تكن عبد الله القاتل " فهو بمعناه، فقوله " فإن دُخل عليك، فتقول: ها بُؤْ بإثمي وإثمك، فتكون كابن آدم " ليس لهذه العبارة معنىً إلا أنه يكون كابن آدم المقتول، لا القاتل، أي عبد الله المقتول، لا القاتل.
* وقد روى أبو داود والترمذي، وابن ماجه، وأحمد، وابن حبان، والبيهقي من حديث أبي موسى نحو حديث حذيفة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن بين يدي الساعة فتناً كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل فيها مؤمناً ويمسي كافراً، القاعد فيها خير من القائم، والماشي فيها خير من الساعي، فكسروا قسيّكم، وقطعوا أوتاركم واضربوا سيوفكم بالحجارة، فإن دخل بغي على أحدٍ منكم، فليكن كخير ابني آدم ".
أخرجه أبو داود رقم 4259، والترمذي: 2314، وابن ماجه رقم 3961 ووابن حبان: 7/ 579 - 580 رقم 5931، وأحمد: 4/ 408، 416، والبيهقي: 8/ 191 (3) فهذا حديث صحيح أيضاً بمعنى حديث حذيفة.
* وأخرج أحمد في المسند، من حديث خباب: أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر فتنة القاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي، قال: فإن أدركت ذاك، فكن عبد الله المقتول، ولا تكن عبد الله القاتل " (4).
__________
(1) المستدرك: 4/ 444 - 445.
(2) الإرواء: 8/ 102.
(3) وانظر تلخيص الحبير: 4/ 158 حديث رقم 2146، والإرواء: 8/ 102، في تخريج حديث رقم 2451.
(4) المسند: 5/ 110 ورواه الآجري في الشريعة ص42 - 43، والطبراني في الكبير: رقم 3629 - 3631.

(المقدمة/302)


* "ويشهد له حديث جندب بن سفيان، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن بين يدي الساعة فتناً كقطع الليل المظلم ... فقال رجل من المسلمين: فكيف نصنع عند ذلك يا رسول الله؟ قال: "ادخلوا بيوتكم واخملوا ذكركم، فقال رجل: أرأيت إن دُخل على أحدنا بيته؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لتمسك بيده، ولتكن عبد الله المقتول، ولا تكن عبد الله القاتل ... " أخرجه الطبراني في الكبير: 2/ 77 رقم 1724" (1).
* ومن حديث سعد بن أبي وقاص نحو حديث أبي موسى، وفيه: " فإن دخل عليَّ بيتي، فبسط يده إلي ليقتلني؟ قال: كن كابن آدم " رواه أحمد: 1/ 185، وأبو داود برقم 4257، والترمذي كتاب الفتن. رقم 2304، وصحيح الترمذي: 1785.
* ومن حديث خالد بن عرفطة قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يا خالد، إنها ستكون بعدي أحداث وفتن واختلاف، فإن استطعت أن تكون عبد الله المقتول، لا القاتل، فافعل " أخرجه أحمد: 5/ 292، والحاكم: 4/ 517 وسكت عنه، كما سكت عنه الذهبي أيضاً، ورواه الطبراني في الكبير: رقم 4099.
فهذه مجموعة أحاديث صحيحة (صححها الألباني) في الفتن، فيها معاني وألفاظ ما أورده إمام الحرمين، فحينما قال إمام الحرمين: " والقول الثاني معتمده الأخبار الصحيحة " لم يخطىء، وأقصى ما يمكن أن يقال: " إنه وهم في نسبة هذا اللفظ وجَعْلِه من حديث حذيفة " أما أن تستعمل هذه الألفاظ العالية:
- " لا اعتماد عليه في هذا الشأن ".
- " زعم أنه صحيح ".
- " لا أصل له ". (ولا يخفف من هذا أنه أكمل العبارة بقوله: " لا أصل له من حديث حذيفة "، فلا يقال لا أصل له إلا للباطل المفترى).
* وإذا أردت أن تُدرك ما في كلام ابن الصلاح وابن حجر من تحامل، قارنه بكلام
__________
(1) ر. الإرواء: 8/ 103 - 104.

(المقدمة/303)


الألباني في الإرواء الذي قاله حُكماً على عبارة ابن ضويان في منار السبيل، وهي قريبة من عبارة إمام الحرمين، قال ابن ضويان: " فإن كان ثم فتنة، لم يجب الدفع عن نفسه، ولا نفس غيره، لقصة عثمان رضي الله عنه، ولما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في الفتنة: " اجلس في بيتك، فإن خفت أن يبهرك شعاع السيف، فغطِّ وجهك، وفي لفظٍ، فكن عبد الله المقتول، ولا تكن عبد الله القاتل " ا. هـ.
علق الألباني قائلاً: صحيح. وهو من أحاديث جمع من الصحابة رضي الله عنهم. وذكر خمسة أحاديث بشواهدها عن جمع من الصحابة، وليس فيها حديث واحد باللفظ نفسه، وبالسياقة عينها التي ساقها عليه ابن ضويان، إنما هو المعنى، والألفاظ في جملتها (1).
والعجب الأكبر من الحافظ ابن حجر، فبعد أن قال: " وإن زعم إمام الحرمين في النهاية أنه صحيح " والزعم مطية الكذب كما هو معروف، أورد الأحاديث الصحيحة بمعنى وألفاظ ما جاء به إمام الحرمين، وإن لم يورد حديث حذيفة الذي رواه الحاكم من أكثر من طريق (2).
ولعل أوضح ما يشهد لنا قولُ صاحب البدر المنير في خلاصته بعدما حكى معنى قول ابن الصلاح: لم أجده في الكتب الخمسة، والعجب من إمام الحرمين كيف قال: هذا حديث صحيح. قال صاحب الخلاصة: قلت: لكنه يروى من رواية جمع من الصحابة كما ذكرتهم في الأصل. (أي البدر المنير) فها هو الحافظ سراج الدين بن الملقن صاحب البدر، والخلاصة، يستدرك على ابن الصلاح، ويرد قوله، ويستغربه.
...
* وربما كان أبلغ مما سبق دليلاً على التحامل ما جاء من ابن الصلاح وابن حجر تعليقاً على ما ورد في النهاية والوسيط، في مسألة خطبة الجمعة، وهل يجوز قطعها
__________
(1) الإرواء: 8/ 100 - 104 حديث رقم 2451.
(2) تلخيص الحبير: 4/ 157 - 158 حديث رقم 2145، 2146.

(المقدمة/304)


بكلامٍ من غيرها، فقد استدل إمام الحرمين على جواز ذلك بما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كلّم قتلةَ ابن أبي الحُقَيْق، أبي رافع اليهودي، حينما وافَوْه يوم الجمعة وهو على المنبر، في القصة المعروفة ...
" جاء في النهاية: ... كلّم رسول الله صلى الله عليه وسلم ابن أبي الحُقَيْق، ووقع كذلك في بعض نسخ الوسيط.
فانظر ماذا قال ابن الصلاح في مشكل الوسيط؟ قال: " قوله: وسأل ابنَ أبي الحقيق عن كيفية القتل بعد قفولهم من الجهاد " هكذا وقع في البسيط، وهو من السهو الفاحش، وقد غُيّر في بعض النسخ إلى صوابه، وصوابه ما قاله الإمام الشافعي: " وسأل الذين قتلوا ابنَ أبي الحقيق " ا. هـ بنصه من مشكل الوسيط (1/ورقة 142 - أ، ب).
أما ابن حجر فقد عقد في التلخيص تنبيهاً قال فيه: أورده إمام الحرمين والغزالي بلفظٍ عجيب: قال: " سأل النبيُّ صلى الله عليه وسلم ابنَ أبي الحقيق عن كيفية القتل " وهو غلط فاحش، وأعجبُ منه أن إمام الحرمين قال: صح ذلك. ا. هـ كلام ابن حجر.
هكذا وصف بفحش الغلط، وعجبٌ من قول الإمام صح ذلك!! ثم استدرك الحافظ على نفسه، فاستأنف كلامه قائلاً: " ويجوز أن يكون سقط من النسخة لفظ (قتلة) قبل ابن أبي الحُقيق. " ا. هـ بنصه.
قلت: ألا يشهد ذلك بالتحامل ومحاولة تلمس الخطأ للإمام!! فهل يجوز في عقل عاقل أن يسأل النبي صلى الله عليه وسلم (المقتولَ)؟ وكيف يرد هذا بخاطرٍ؟ كيف يُسال المقتول عن كيفية القتل؟
إن الأمر أقرب وأيسر، وهو كما قال الحافظ نفسه: سقط لفظ (قَتَلة) قبل ابن أبي الحقيق. هكذا أدرك الحافظ الصواب، ولكن بعد أن قسا في قوله، وأغلظ في لفظه، فنسب الإمام إلى فُحش الخطأ، وعجب من قوله: صحّ أن الرسول صلى الله عليه وسلم سأل ابن أبي الحقيق.

(المقدمة/305)


وقد ظهر الوسيط محقَّقاً، وَوُجِدت نسختان بغير سقط للفظة (قتلة) وإن كان ابن الصلاح لم يعجبه ذلك، فقال: وقد غُيِّر هذا في بعض النسخ. فكأن ترك أو إسقاط لفظ (قتلة) كان عن قصدٍ وعمد!! كيف هذا؟ الله أعلم.
ولعل هذا هو الذي جعل موفق الدين الحموي في (شرح مشكلات الوسيط) يستجيب لهذا الكلام، ويتلمس له الصواب، فيقول: " يريد الغزالي أنه سأل قتلة ابن أبي الحقيق عن كيفية قتله، وإنما أهمل الشيخ ذكر القتلة لاشتهاره عند نقلة الحديث، وصار هذا من قبيل حذف المضاف، وإقامة المضاف إليه مقامه، كما في قوله تعالى: (واسأل القرية)، وبه خرج الجواب " ا. هـ بنصه شرح مشكلات الوسيط (ورقة 57/أ، ب).
وهو كما ترى دفاع غير مستساغ ولا مقبول، وإنما هو من باب مجاراة الخصم، والله أعلم.
والصواب، هو ما عاد إليه الحافظ ابن حجر، من أن لفظة (قتلة) سقطت من الناسخ، وتعاقب عليها النساخ، وقد وُجدت نسختان من الوسيط بغير هذا السقط كما ألمعنا إلى ذلك آنفاً.
ولكي تُدرك أننا مصيبين في عدّ هذا تحاملاً من ابن الصلاح وابن حجر قارن هذا بمنهج إمام الحرمين حين يجد الخطأ في كلام مخالفيه فاحشاً، يردّه عنهم، ولا يقبل نسبته إليهم، بل يحمل ذلك على النقلة، أو النساخ، أو سوء الفهم، فمن ذلك قوله:
" وقد نُقل عن أبي هاشم أنه كان لا يحرم السجود بين يدي الصنم، ويقول: المحرّمُ القصد) فيرفض نسبة هذا القول إلى أبي هاشم المعتزلي -والمعتزلة خصومه- ويقول: " وهذا لم أطلع عليه من مصنفات الرجل، مع طول بحثي عنها " ثم يعرض رأي أبي هاشم صحيحاً كما رآه وحققه، ثم يبدأ في الرد عليه، وبيان فساده، فجمع أنه لا يقر رأي أبي هاشم، فهو لا يرضى في الوقت نفسه أن يزيَّف عليه، وأن يتزيد النقلة عليه بهذه الصورة.

(المقدمة/306)


فإذا عرفنا أن أبا هاشم هذا من أئمة الاعتزال، وأن إمام الحرمين لقي الأذى من المعتزلة، وأُخرج وأوذي مع نحو أربعمائة من أهل السنة، اضطروا للهجرة من خراسان بسبب تسلط هؤلاء عليهم، فيما هو معروف بمحنة أهل السنة. إذا عرفنا ذلك، أدركنا أيَّ درجة من الإنصاف كان عليها إمامنا.
ومن ذلك ما قاله عند المخاوضة في بعض مسائل الحج من كتابه (نهاية المطلب)، وقد رئي لأحد رفعاء المذهب كلاماً لا يستقيم على أصول المذهب، نجده يشير إليه، ولا ينقله في كتابه، بل يقول: " .. لا معنى لذكره وقد يحمل ما في الكلام من الخبط على خلل النسخة ".
فهذا منهج الإمام يرى الخطأ ماثلاً أمامه، ولكنه لا ينسبه إلى صاحب الكتاب فِعْلَ المتشهي إلى التخطئة، بل يدعو إلى حمل الخطأ على الناسخ، أو الناقل، وهذا قاله صراحة في كتابه (البرهان): " فالأولى أن يُوَّرك بالخطأ على النقلة ".
هكذا!! لا أن يرى خطأ الناسخ واضحاً، فيحمله على إمامنا، " ويجعله من فاحش الخطأ "، و"يعجب من قول إمام الحرمين: صح هذا"!! وكيف يصح في عقل عاقل أن يُصحح إمامُ الحرمين تكليم رسول الله صلى الله عليه وسلم للمقتول؟!!
...
* ونموذج آخر: كان المثال الذي قدمناه مع ابن الصلاح، وابن حجر، أما هذا النموذج، فمع ابن الصلاح، والنووي، فقد وقع في (الوسيط) وفي بعض نسخ (نهاية المطلب): " لما روي أن أم سليم جدة أنس بن مالك ... " والصواب أن أم سليم هي أم أنس لا جدته، وقد علق على هذا الخطأ ثلاثة من الأئمة الذين لهم مؤلفات عن (الوسيط)، وهم الإمام ابن الصلاح، والإمام النووي، والإمام بن أبي الدم، وقد رأينا أن نعرض تعليقاتهم بنصها لما يأتي:
أ- أنها انتقلت من (الوسيط) إلى تعقب (النهاية) وصاحبها.
ب- أنها تكشف عن مناهج ثلاثة في تفسير هذا الخطأ وتعليله.
ولنبدأ بابن الصلاح، قال: "قوله: (لما روي أن أم سليم جدة أنس بن مالك).

(المقدمة/307)


هذا غلط تسلسل وتوارد عليه أبو بكر الصيدلاني، ثم إمام الحرمين، ثم تلميذه صاحبنا (يعني الغزالي) ثم تلميذه محمد بن يحيى، فلا خلاف بين أهل الحديث، وأهل المعرفة بالصحابة، وبالأنساب أن أم سليم أم أنس بن مالك، لا جدته، وفي الصحيحين الإفصاح بذلك " ثم استمر يعلل هذا الخطأ من هؤلاء الأئمة، ويفسره، ويبين سببه، فقال: "ولكن من أعرض عن علم الحديث، مع ارتباط العلوم به، وقع في أمثال هذا، وما هو أصعب منه من التمسك بالحديث الضعيف، واطراح الصحيح، وإن ارتفعت في علمه منزلته، وأسأل الله عفوه وفضله، آمين" ا. هـ بنصه (مشكل الوسيط 1/ 50 ب - بهامش الوسيط: 1/ 342).
أما الإمام النووي رضي الله عنه، فقد قال: " قوله (لما روي أن أم سليم جدة أنس بن مالك ... إلى آخره) صوابه: أم أنس، فهي أمه بلا خلاف بين العلماء من الطوائف، لا جدته، وقد قال بأنه جدته أيضاً الصيدلاني، ثم إمام الحرمين، ثم الروياني، ثم محمد بن يحيى صاحب الغزالي، وهو غلط فاحش .... وأم سليم: سهلة، وقيل: رميثة، وقيل غير ذلك، ا. هـ بنصه (ر. التنقيح في شرح الوسيط بهامش الوسيط: 1/ 343).
وأما ابن أبي الدم، فقد قال: " ... الصواب أن أم سليم أم أنس بن مالك، لا جدته، وهي امرأة أبي طلحة، ذكره علماء الحديث وغيرهم، منهم أبو داود في سننه، وهو كذلك في النسخ الصحيحة من (النهاية)، وقد يوجد في بعض منها مثل ما في (الوسيط) وهو غلطٌ من النساخ" (ر. إيضاح الأغاليط الموجودة بالوسيط: 3 أ- بهامش الوسيط: 1/ 342).
قلت (عبد العظيم): هكذا رأينا اختلاف المناهج الثلاثة في تفسير هذا الخطأ:
أ- فابن الصلاح يفسر ذلك بالإعراض عن علم الحديث، ويجعله سبب الوقوع في هذا الخطأ، ثم راح يعرض بأخطاء "أصعب من ذلك الخطأ، من التمسك بالحديث الضعيف: واطراح الصحيح" ويعني هؤلاء الأئمة " الذين ارتفعت منزلتهم في علومهم " الصيدلاني، وإمام الحرمين، والغزالي، ومحمد بن يحيى.

(المقدمة/308)


ويرى ابن الصلاح أن هذا ذنب وإثم، ظهر ذلك من ختام تعليقه هذا بقوله: " وأسأل الله عفوه وفضله، آمين ".
ب- وأما الإمام النووي، فقد اكتفى بقوله: " وهو غلط فاحش " بعد أن بين تسلسله عند الأئمة الذين ذكرهم الغزالي، وزاد عليهم (الإمام الروياني).
جـ- وأما الإمام ابن أبي الدم، فقد ذكر أنه في بعض نسخ النهاية، بل في القليل من نسخها، كما يفهم من عبارته التي نقلناها بنصها آنفاً (ووقع لي نسخة صحيحة من النهاية).
ثم زاد، فبرأ إمامنا من هذا الخطأ، وكذلك الغزالي، وجعل هذا من غلط النساخ.
وأقول ثانية: لقد ظهر لي تحامل ابن الصلاح -وغيره- على إمام الحرمين، وعلى الغزالي، رأيت ذلك في كثير من تعقباته الحديثية، حتى إنه يدفعه التحامل إلى الوقوع في بعض الأخطاء، التي تعقبه في بعضها الإمام النووي، وأثبت أن الصواب مع إمام الحرمين، والغزالي.
* وهاك مثالاً آخر من كلام الحافظ ابن حجر:
جاء في كتاب الوصايا عند الكلام على من تصح له الوصية - قولُ إمام الحرمين تعليقاً على حديث: " لا وصية لقاتل ": وهذا الحديث ليس على الرتبة العالية في الصحة، والصحيح: " لا وصية لوارث " ا. هـ
عقب الحافظ في التلخيص قائلاً: " وأما قول إمام الحرمين: ليس هذا الحديث في الرتبة العالية من الصحة، فعجيب، فإنه ليس له في أصل الصحة مدخل ... " (1).
وواضح أن إمام الحرمين لا يعني (بالصحة) المعنى المصطلح عليه المعروف لدى علماء الحديث، وإلا لو كان يعني ذلك، لقبل الحديث، ولما وسعه ردّه، فإن
__________
(1) ر. التلخيص: 3/ 197.

(المقدمة/309)


الأحاديث الصحيحة -كما هو معلوم- متفاوتة في درجة الصحة، ومعلوم أيضاً أن أدنى درجة في الصحة تحكم للحديث بالقبول.
فإذا ردّه إمامُ الحرمين، تعيّن على من يبغي الإنصاف أن يفسر كلام الإمام في ضوء هذا الردّ للحديث.
ومثل الحافظ ابن حجر، وهو من أعلام المذهب، لا يغيب عنه ما قاله إمام الحرمين في البرهان من أن معيار القبول والرد للأحاديث " هو ظهور الثقة وانخرامها، وهذا هو المعتمد الأصولي، فإذا صادفناه، لزمناه، وتركنا وراءه المحدثين يتقطعون في وضع ألقاب، وترتيب أبواب " (1).
فالإمام لا يُعنى بالألقاب والمصطلحات الحديثية، وربما كانت مثل هذه العبارات سبباً في هذه الجفوة بينه وبين المحدّثين، وهي التي جعلتهم، يشتدون عليه، ويخطِّئونه.
* والإمام الذهبي أيضاً:
نعرض هنا لما قاله الإمام الذهبي في ترجمة إمام الحرمين في (سير أعلام النبلاء: 18/ 471)، فقد قال: " قلت: كان هذا الإمام مع فرط ذكائه وإمامته في الفروع وأصول المذهب، وقوة مناظرته لا يدري الحديث كما يليق به؛ لا متناً ولا إسناداً؛ ذكر في كتاب (البرهان) حديث معاذ في القياس، فقال: هو مدون في الصحاح متفق على صحته (2).
قلت: بل مداره على الحارث بن عمرو، وفيه جهالة، عن رجالٍ من أهل حمص؛ عن معاذ، فإسناده صالح " ا. هـ كلام الإمام الذهبي.
هكذا يلقيها الإمام الذهبي تهمة عريضة: " لا يدري الحديث لا متناً ولا إسناداً "، فإذا أقام دليلاً على هذه التهمة، نجده يقدم حديث معاذ، وقولَ إمام الحرمين " هو مدون في الصحاح " فهل هذا يصلح دليلاً على أن إمام الحرمين لا يدري الحديث لا متناً ولا إسناداً؟؟
__________
(1) ر. البرهان في أصول الفقه: فقرة رقم 593.
(2) ر. البرهان: فقرة 720.

(المقدمة/310)


وهل ما قاله الذهبي في الحديث أثبت وأقوم وأصح مما قاله فيه إمام الحرمين؟
لقد قال إمام الحرمين عن الحديث: " هو مدوّن في الصحاح " وهو كذلك، فقد رواه " أبو داود "، و" الترمذي " وهما من أصحاب الصحاح الستة.
وقال متفق على صحته، وهو لا يعني بهذا المصطلح الحديثي " متفق عليه بين البخاري ومسلم " ولا اصطلاح " صاحب المنتقى " ما اتفق عليه البخاري ومسلم وأحمد، فمن يقرأ النص كاملاً في البرهان يدرك أنه يقصد بالاتفاق تلقي علماء الأصول له بالقبول.
فماذا قال الذهبي عن الحديث؟
قال: " إن الحارث بن عمرو فيه جهالة ".
وهذا الكلام لا يسلم للذهبي، فقد تعقبه الشيخ شعيب الأرناؤوط بقوله: " ممن مال إلى القول بصحة هذا الحديث أبو بكر الرازي الجصاص، وأبو بكر بن العربي، والخطيب البغدادي، وابن قيم الجوزية، وقالوا:
الحارث بن عمرو ليس بمجهول العين، لأن شعبة بن الحجاج يقول عنه: إنه ابن أخي المغيرة بن شعبة، ولا بمجهول الوصف؛ لأنه من كبار التابعين في طبقة شيوخ أبي عون الثقفي المتوفى سنة 116 هـ.
ولم ينقل أهل الشأن جرحاً مفسراً في حكمه، ولا حاجة في الحكم بصحة خبر التابعي الكبير إلى أن ينقل توثيقه عن أهل طبقته، بل يكفي في عدالته وقبول روايته ألا يثبت فيه جرح مفسّر، عن أهل الشأن؛ لما ثبت من بالغ الفحص عن المجروحين من رجال تلك الطبقة؛ فمن لم يثبت فيه جرح مؤثر منهم، فهو مقبول الرواية.
والشيوخ الذين روى عنهم هم من أصحاب معاذ، ولا أحد من أصحاب معاذ مجهولاً، ويجوز أن يكون في الخبر إسقاط الأسماء عن جماعة، ولا يُدخله ذلك في حيز الجهالة، وإنما يدخل في المجهولات إذا كان واحداً، فيقال: حدثني رجل أو إنسان.
وشهرة أصحاب معاذ بالعلم والدين، والفضل والصدق بالمحل الذي لا يخفى.
وقد خرج الإمام البخاري الذي شرط الصحبة حديث عروة البارقي: "سمعت

(المقدمة/311)


الحيَّ يتحدثون عن عروة، ولم يكن ذلك الحديث في جملة المجهولات.
وقال مالك في القسامة: أخبرني رجل من كبراء قومه، وفي الصحيح عن الزهري: حدثني رجال عن أبي هريرة: " من صلى على جنازة، فله قيراط ".
وانظر الفقيه والمتفقه: 1/ 188، 190، وإعلام الموقعين: 1/ 202. اهـ كلام الشيخ شعيب الأرنؤوط بنصه (1). وانظر جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر: 552.
فهذا اتهام الذهبي ودليله، وما قاله أهل الصناعة في هذا الدليل.
ولكنا نريد أن نؤكد ما قلناه من أن إمام الحرمين لا يعني بقوله: " إنه مدون في الصحاح " إنه في الصحيحين، وأن (الصحاح) يطلق على الكتب الستة، كان ذلك وما زال.
فمن ذلك قول محدث العصر الشيخ أحمد شاكر في مقدمته الماتعة لسنن الترمذي، وهو يتحدث عن سبق المسلمين إلى صناعة الفهارس، قال: " وهذه كتب رجال الحديث أكثرها وضعت كتباً على معنى الفهارس، فإنك تجدهم يذكرون الراوي المترجم، ويذكرون أين روايته من الكتب الستة، خصوصاً فيما صنع لتراجم الرواة في الصحاح الستة أو السبعة " انتهى بنصه (2).
فهل يبقى لاتهام الذهبي سندٌ بعد هذا.
* وشيخ الإسلام ابن تيمية:
لقد تكلم شيخ الإسلام ابن تيمية في إمام الحرمين، وعلمه بالحديث في أكثر من موضع، في أكثر من كتاب من كتبه، وسنكتفي منها بموضعين:
الأول - جاء في كتاب (الفتاوى الكبرى): " ... ولم يكن الواحد من هؤلاء -يعني إمام الحرمين، والغزالي، وابن الخطيب- يعرف البخاري ومسلماً، وأحاديثهما
__________
(1) ر. تعليقات الشيخ شعيب على سير أعلام النبلاء: 18/ 472.
(2) مقدمة الشيخ شاكر لسنن الترمذي ص 55.

(المقدمة/312)


إلا بالسماع، كما يذكر ذلك العامة، ولا يميزون بين الحديث الصحيح المتواتر -عند أهل العلم بالحديث- وبين الحديث المفترى المكذوب، وكتبهم أصدق شاهد بذلك؛ ففيها عجائب" (1).
والموضع الثاني -في الفتاوى- قال: "إن أبا المعالي مع فرط ذكائه وحرصه على العلم وعلو قدره في فنه كان قليل المعرفة بالآثار النبوية، ولعله لم يطالع الموطأ بحال، حتى يعلم ما فيه؛ فإنه لم يكن له بالصحيحين: البخاري ومسلم وسنن أبي داود والنسائي والترمذي، وأمثال هذه السنن علمٌ أصلاً، فكيف بالموطأ ونحوه، وكان مع حرصه على الاحتجاج في مسائل الخلاف في الفقه إنما عمدته سنن أبي الحسن الدارقطني" (2).
فنحن أمام قولٍ صريح واضح مفصل يتهم إمام الحرمين بأنه كان لا يراجع كتب الحديث، وكان اعتماده على سنن الدارقطني، ولم ير سنن أبي داود عمدة الأحكام، ولا غيره من الكتب الستة.
وربما كان دفع هذا الكلام أيسر من سابقه، وذلك بأكثر من دليل، منها:
1 - إن إمام الحرمين استدل بأكثر من حديث، وعزاه صراحة إلى أبي داود، مثل حديث الفأرة التي ماتت في السمن، فقد قال: رواه أبو داود في سننه، وكان كما قال، وتكرر هذا مراراً.
2 - يورد أحاديث كثيرة مستشهداً بها، يرويها أبو داود وغيره، وعند مراجعة لفظ الحديث نجد أن اللفظ الذي اختاره الإمام وأورده هو لفظ أبي داود، مثل حديث خزيمة بن ثابت في المسح على الخفين، وحديث أنه صلى الله عليه وسلم لم يصل على ماعز، ولم ينه عن الصلاة عليه.
وحديث: " إذا مات ابن آدم انقطع عنه عمله إلا من ثلاث " فقد رواه أبو داود والنسائي والترمذي، ولم يورد أحدهم لفظَ (عنه) إلا أبو داود. حقاً رواه مسلم بلفظ
__________
(1) الفتاوى الكبرى: جمع عبد الرحمن بن قاسم، طبعة الملك خالد: 4/ 71، 72.
(2) الفتاوى الكبرى، في ستة أجزاء، تحقيق عبد القادر عطا، القاهرة، دار الريان للتراث، 1408 هـ: ج 6 ص 166.

(المقدمة/313)


عنه أيضاً، وسواء كان إمام الحرمين أخذه عن مسلمٍ أو عن أبي داود، فهذا ينفي أشد النفي القول بأنه لا علم له بالصحيحين، ولا بأبي داود، ولا بأصحاب السنن.
3 - بل مما يشهد بحفظه لسنن أبي داود أو على الأقل مراجعته لها استشهاده بقول أبي داود في الحديث، وردّه لأحاديث الخصوم بقول أبي داود فيها.
فعندما ردّ قول الأحناف بجواز إخراج الدقيق في صدقة الفطر، مستدلين بحديث أبي سعيد الخدري: وفيه: " أو صاعاً من دقيق ".
يرد إمام الحرمين قائلاً: " قلنا: قال أبو داود: زاده سفيان من عند نفسه مذهباً، فأُنكر عليه، فتركه من الحديث " وسفيان هو سفيان بن عيينة.
فهذا من إمام الحرمين شاهد صدق على حفظه لأبي داود.
وارجع إلى أبي داود، لترى أن الأمر كما قال إمام الحرمين، بشيء من التصرف.
4 - وربما كان أبلغ ردّ لكلام شيخ الإسلام ابن تيمية، وإبطالٍ له من أساسه، هو حديث أبيض بن حمال الذي استشهد به إمام الحرمين في إحياء الموات، وفيه أن أبيض استقطع رسول الله صلى الله عليه وسلم ملحَ مأرب، فأراد أن يقطعه إياه، ويروى: فأقطعه، فقيل: إنه كالماء العِدّ، قال: " فلا إذاً ".
هذا الحديث من رواية أبي داود والترمذي، والنسائي في الكبرى، وابن ماجه، وابن حبان، والبيهقي، والدارقطني.
فانظر بأي لفظٍ رواه إمام الحرمين، لقد اعتمد إمام الحرمين في روايته لفظ هذه الدواوين جميعاً، ولم يعتمد لفظَ الدارقطني.
فهل يصح بعد ذلك القول: إنه لم يكن يعرف إلا سنن الدارقطني؟ أم يصح لنا أن نقلب القضية، ونقول: إنه كان يعرف كل كتب السنة إلا سنن الدارقطني؟ كلا لن تقول هذا؛ فهذه المبالغات لا مجال لها في البحث العلمي المنصف النزيه، المتجرد عن العاطفة.
بل يكفينا أننا أسقطنا بهذا الدليل القاطع القول بأنه لم يكن يعرف إلا سنن الدارقطني.

(المقدمة/314)


وهذا يدعونا أن نكرر هنا ما قلناه مراراً من أن تاريخنا الفكري -مثل تاريخنا السياسي- في حاجة إلى مراجعة، وإعاد قراءة، تقوم على تحليل نصوص الأئمة، وقراءة آثارهم، والحكم عليهم من داخلها، ونبذ هذه الأحكام العشوائية، التي يقولها الخصوم بعضهم في بعض، ويتناقلها الناس، وتشيع، وتغطي على الأعين والبصائر، وتصبح حقائق، وهي محض زيف وهوى.
بابةٌ أخرى:
لم يكتف شيخ الإسلام ابن تيمية بتضعيف إمام الحرمين في الحديث، بل تعرض لمنزلته في الفقه، وفي المذهب الشافعي، فأزرى به، وحطَّ عليه، وجعله لا شأن له في المذهب، ولا وزن له بين علماء الشافعية، وذلك عندما قال:
" ولقلة علمه وعلم أمثاله بأصول الإسلام اتفق أصحاب الشافعي على أنه ليس لهم وجه في مذهب الشافعي فإذا لم يسوّغ أصحابهم أن يُعتد بخلافهم في مسألة من فروع الفقه، كيف يكون حالهم في غير هذا، وإذا اتفق أصحابه على أنه لا يجوز أن يُتخذ إماماً في مسألة واحدة من مسائل واحدة من مسائل الفروع، فكيف يُتخذ إماماً في أصول الدين؟ مع العلم بأنه إنما نبل قدره عند الخاصة والعامة بتبحره في مذهب الشافعي رضي الله عنه؛ لأن مذهب الشافعي مؤسس على الكتاب والسنة.
وهذا الذي ارتفع به عند المسلمين غايته فيه أنه يوجد منه نقلٌ جمعه، أو بحث تفطن له، فلا يُجعل إماما فيه كالأئمة الذين لهم وجوه، فكيف (بالكلام) الذي نص الشافعي وسائر الأئمة على أنه ليس بالشرك بالله ذنب أعظم منه " (1).
وكنا نود ألا تدفع الخصومة مع الأشاعرة والمؤِّولة شيخ الإسلام إلى الدخول في هذا الباب، وأن يقصرها على الجانب الكلامي.
فشيخ الإسلام بهذا أنكر الشمس في رابعة النهار، فالشافعية يحلون إمام الحرمين بالمحل الأعظم، ومدار فقههم على ما قاله إمام الحرمين، ويكفي أنهم يجميع طبقاتهم منذ وفاة إمام الحرمين لا يذكرونه في كتبهم إلا بـ (الإمام) مطلقاً، فحيثما
__________
(1) الفتاوى الكبرى، القاهرة، دار الريان، 1408 هـ (في ستة أجزاء) جزء 6 ص 616.

(المقدمة/315)


وجدتَ: " قال الإمام "، أو " وهذا ما حكي عن الإمام " ونحو هذا، فاعلم أن (الإمام) هو إمام الحرمين.
ولا أدري كيف ساغ لشيخ الإسلام وهو من هو معرفةً بعلوم الأمة، ومنزلة الأئمة، كيف ساغ أن يقول هذا عن إمام الحرمين، وهو صاحب (البرهان في أصول الفقه) الذي لم يؤلف في الإسلام مثله؟ إن من يؤصل للفقه ويضع له قوانين الاجتهاد، وأصول الاستنباط، في (البرهان)، (والتلخيص) و (الورقات)، كيف يقال عنه: " غايته من مذهب الشافعي نقلٌ جمعه "؟!!
كيف؟ وكتابه (البرهان) أحد الأعمدة الأربعة التي قال عنها ابن خلدون: قام عليها علم أصول الفقه، بل هو أول كتاب لأهل السنة في الأصول بعد رسالة الشافعي.
وها هي نصوص إمام الحرمين دائرة في كتب الشافعية، لا تكاد تخلو منها صفحة واحدة من أي كتاب، أفمن كان بمثل هذه المنزلة يقال فيه: " اتفق أصحابه على أنه لا يجوز أن يتخذ إماماً في مسألة واحدة من مسائل الفروع "؟!!
لا أريد أن أسترسل في بيان منزلة إمام الحرمين في الفقه، فتوضيح الواضح من أشكل المشكلات، ولعل في الفصل الذي مرّ آنفاً عن منزلة النهاية غناء ومقنعٌ.
بالإضافة إلى كتابنا بعنوان:
(فقه إمام الحرمين-خصائصه-وأثره-ومنزلته).
أما كلام شيخ الإسلام عن أصحاب الوجوه في المذهب وأن إمام الحرمين ومثله الغزالي ومن نحا نحوهما ليسو من أصحاب الوجوه، فهذا أمر آخر لا نظن أنه يغيب عن شيخ الإسلام، فأصحاب الوجوه هم الذين فرعوا المسائل على نصوص الشافعي، واستنبطوا أحكامها على أصوله، ومعلوم لكل من له دراية بالفقه أن ذلك أمرٌ له نهاية، تلك طبيعة الأشياء، وقد كان في القرنين السابقين على إمام الحرمين فُسحة كافية لتشقيق المسائل وتفريعها، ولذلك لم يوجد مجال لاستنباط، وتفريع جديد، منذ انتهى القرن الرابع الهجري، أي كان الأئمة قد فرغوا من التفريع والتخريج قبل أن يولد إمام الحرمين.

(المقدمة/316)


ومن العجيب الطريف الذي يدفع هذا الكلام عن إمام الحرمين هو كلام شيخ الإسلام نفسه، فقد أحلَّ ابنَ سُريج بالمحل الأسمى من الفقه والمذهب، وسماه الشافعي الثاني، وهو كما قال. فماذا يقول شيخ الإسلام إذا قلنا له: ليس لابن سريج وجه في المذهب؟ هل سيعود فيحط عليه ويزري به، ويقول: إنه مثل إمام الحرمين ليس من أصحاب الوجوه؟؟!!
وظني بل أكاد أجزم أن هذا الكلام مزيف على شيخ الإسلام بن تيمية، فمن كان في مثل مكانه ومكانته لا يغيب عنه هذا الأمر في نشأة المذهب الشافعي وتطوره، ومعنى الوجوه وأصحابها.
ثم إن شيخ الإسلام معروف بالإنصاف والاعتدال مع الخصوم، فمع حِدّته وغَضْبته وعنفه أحياناً، لكنه أبداً لا يسلب خصومه محاسنَهم، ولا يُنكر علمَهم، ولا يبهتهم ويبخسهم حقهم.
كل هذا يجعلني أقول: إن هذا الكلام لفَّقه بعضُ الصغار من المتعصبة، وأدخلوه في كلام شيخ الإسلام إرضاء لنزعاتهم، وأسلوب هذه الفقرات، وصياغتها ينطق بأنها ليست من كلام شيخ الإسلام وأنها مزيفة عليه، وغريبة عن نهجه وخلقه.
وهذا ليس بغريب، فقد سبق أن زيف مزيفون مثل هذا على الإمام الغزالي، وأدخلوا في كلامه جملاً مقيتة فيها إساءة إلى الإمام أبي حنيفة.
كما زيفوا على إمام الحرمين ذلك الكتيب القبيح المسمى (مغيث الخلق في اتباع المذهب الأحق) بما فيه من خزعبلات وترهات ضد الإمام الأعظم أبي حنيفة النعمان.
وقد تَجمَّع لدى العبد الفقير إلى لطف مولاه أدلة كافية لدحض هذه الفرية، وإظهار براءة إمام الحرمين منها.
ولم أصل إلى كلام شيخ الإسلام هذا في طبعة الفتاوى التي جمعها ابنُ قاسم، وآمل ألاّ يوجد فيها -فهي النسخة المعتمدة- حتى يبرأ شيخ الإسلام من هذا الكلام من أقصر طريق.

(المقدمة/317)


ثالثاً - الأوهام الحديثية لا يكاد يخلو منها أحد:
لم يخل متعقِّب ممن تعقب إمام الحرمين من متعقِّب تعقَّبه وخطّأه في تعقبه، فمن ذلك:
* تعقب ابنُ الصلاح في مشكل الوسيط حديثَ سلمان عن شرب ابن الزبير من طست كان فيه شيء من دم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: " لم أجد لهذا الحديث أصلاً بالكلية. " قال الحافظ ابنُ حجر: " كذا قال: وهو متعقَّب ".
(ر. التلخيص: ح رقم 18)
* حديث أنه صلى الله عليه وسلم قال لأسماء -عن دم الحيض-: " حتيه، ثم اقرصيه. ثم اغسليه بالماء ".
قال الحافظ ابن حجر: " زعم النووي في شرح المهذب أن الشافعي روى في الأم أن أسماء هي السائلة. بإسناد ضعيف. وهذا خطأ، بل إسناده في غاية الصحة.
ثم قال: " وكأن النووي قلد في ذلك ابنَ الصلاح. " (ر. التلخيص. حديث رقم 26)
* ويتعقب ابنُ حجر النوويَّ في عزوه حديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم قنت شهراً يدعو على قاتلي أصحابه ببئر معونة، ثم ترك " حيث عزاه إلى المستدرك للحاكم، قال ابن حجر: " وليس هو فيه، وإنما أورده الحاكم وصححه في جزء له مفرد في القنوت ".
ثم أشار ابن حجر -في ذكاء- إلى سبب وهم النووي، فقال: " ونقل البيهقي تصحيحه عن الحاكم؛ فظن الشيخ أنه في المستدرك " (1)
* في حديث المسح على الخفين: " واستيعاب الكل ليس بسنة، مسح رسول الله صلى الله عليه وسلم على خفيه خطوطاً من الماء، قال ابن الصلاح: تبع فيه الإمامَ، فإنه قال في النهاية: إنه صحيح، وليس بصحيح، وليس له أصل في كتب الحديث ". ا. هـ
__________
(1) ر. التلخيص: 1/ 245 حديث رقم 370.

(المقدمة/318)


قال الحافظ: " وفيما قال نظر، فقد رواه الطبراني في الأوسط، وهو في بعض نسخ ابن ماجه دون بعض - ثم قال: إسناده ضعيف جداً " (بتصرف من التلخيص. حديث رقم 218.).
* في حديث استحباب التصدق بدينار للواطىء في إقبال الحيض، وفي إدباره بنصف دينار، في كلام الحافظ المفصل الوافي عن الحديث جاء قوله: " وأقر ابن دقيق العيد تصحيح ابن القطان وهو الصواب ... وفي ذلك ما يرد على النووي في دعواه في شرح المهذب والتنقيح، والخلاصة أن الأئمة كلهم خالفوا الحاكم في تصحيحه، وأن الحق أنه ضعيف باتفاقهم، وتبع النووي في بعض ذلك ابنَ الصلاح " انتهى ملخصاً من كلام الحافظ (1) (ر. التلخيص. حديث رقم 227).
ويعنينا من هذا أن ابن الصلاح والنووي -على جلالتهما- لم يسلما من تعقب ابن حجر.
* وفي أحاديث الوتر يتعقب ابنُ الصلاح إمام الحرمين في روايته أن النبي صلى الله عليه وسلم أوتر بركعة واحدة، فيقول ابن الصلاح: " لا نعلم في روايات الوتر -مع كثرتها- أنه عليه الصلاة والسلام أوتر بركعة واحدة فحسب ".
ويتعقب ابنَ الصلاح الحافظُ بقوله: " قد روى ابنُ حبان من طريق كريب، عن ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وسلم أوتر بركعة " (2).
* ومرة أخرى يتعقب ابنُ حجر ابنَ الصلاح، وذلك في حديث السلام في ختام الصلاة: " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسلم عن يمينه: السلام عليكم ورحمة الله ... " وأنكر ابنُ الصلاحِ الرواية التي فيها: " وبركاته " وقال: " هذه الزيادة ليست في شيء من كتب الحديث " فتعقبه الحافظ بقوله: هذه الزيادة في صحيح ابن حبان، وعند ابن ماجه أيضاً، وكذا عند أبي داود، فيتعجب من ابن الصلاح، وإنكارها. انتهى كلام الحافظ ابن حجر بتصرف (3).
__________
(1) تلخيص الحبير: 1/ 164 حديث 227.
(2) تلخيص الحبير: 2/ 15 حديث 515.
(3) ر. التلخيص: 1/ 271 حديث رقم 420.

(المقدمة/319)


* في عبارة واحدة يتعقب الحافظ ابنُ حجر الطحاويَّ والنووي؛ فقد أنكر الطحاوي أن تكون جلسة الاستراحة في حديث أبي حميد الساعدي الذي وصف فيه صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال الحافظ بعد أن أورد الحديث في تلخيص الحبير: " وهي كما تراها فيه " (1).
ثم استطرد الحافظ يتعقب النووي، فقال: " وأنكر النووي أن تكون في حديث المسيء صلاته، وهي في حديث أبي هريرة في قصة المسيء صلاته عند البخاري في كتاب الاستئذان " (2) ا. هـ
* وقع في (المهذب) رواية في دعاء الرفع من الركوع، بلفظ: " أهل الثناء والمجد، حق ما قال العبد، كلنا لك عبد ... " بإسقاط الألف من (أحق)، وإسقاط الواو من (وكلنا لك عبد). وقد تعقبه النووي بقوله: " إن الذي عند المحدثين بإثباتهما ". فتعقّب الحافظُ النوويَّ بقول: " هو في سنن النسائي بحذفهما " (3).
فكما ترى يغيب عن النووي رواية النسائي بحذف (الألف) و (الواو) فينكرها على صاحب المهذب، فيتعقبه الحافظ.
* حديث: " مانع الزكاة في النار " قال ابن الصلاح: " لم أجد له أصلاً " وتعقبه الحافظ بقوله: " وهذا عجيب من ابن الصلاح؛ فقد رواه الطبراني في الصغير فيمن اسمه محمد " (4).
* علق ابنُ الصلاح على قول الإمام الغزالي:، ولو توحشت إنسية، ولم يمكن ردّها، فهو كالصيد يذبح في كل موضع، وكذا لو تنكس بعيرٌ في بئر وخيف هلاكه، فقد قال صلى الله عليه وسلم: " لو طعنت في خاصرتها، لحلت لك "، فخصص
__________
(1) تلخيص الحبير: 1/ 259 حديث 390.
(2) تلخيص الحبير: 1/ 259 حديث 390.
(3) ر. التلخيص: 1/ 244 حديث 367.
(4) ر. التلخيص: 2/ 149 حديث 811.

(المقدمة/320)


المراوزة الخاصرةَ ليكون الجرح مذفِّفاً، فلا يجوز جرح آخر، وإن كان يفضي إلى الموت".
علق ابن الصلاح على ذلك بقوله: " هذا الذي ذكره من الحديث اختصار من الحديث الذي استدل به في ذلك شيخُه إمام الحرمين ... وأخطأ في قوله: " ولو طعنت في خاصرتها "، وإنما قال: " في فخذها " ... ؛ فلا يثبت -والحالة هذه- ما رامه المراوزة من تخصيص الخاصرة وأشباهها .. " ا. هـ كلام ابن الصلاح.
وقد تعقب الحافظ ابن حجر ابنَ الصلاح، فقال: " أنكر ابنُ الصلاح على الغزالي لفظَ (الخاصرة) .. ولا إنكار؛ فقد رواه الحافظ أبو موسى في مسند أبي العُشَراء له بلفظ: " لو طعنت في فخذها أو شاكلتها، وذكرت اسمَ الله، لأجزأ عنك "، والشاكلة الخاصرة ". ا. هـ كلام الحافظ (1).
فها هو ابن الصلاح -على منزلته في علم الحديث- ينكر لفظ (الخاصرة) ولا يحفظها: ويتعقب الغزالي وشيخَه، فيتعقبه الحافظ، ويثبت له أن هذه اللفظة واردة في الحديث، وأنه لا محل لإنكارها، ولا حق له في تعقب الغزالي وشيخه (2).
* قال الغزالي في الوسيط: " أعطى النبي صلى الله عليه وسلم صفوان بن أمية في حال كفره ارتقاباً لإسلامه ".
وقد تعقبه النووي بقوله: " هذا غلط صريح بالاتفاق من أئمة النقل والفقه، بل إنما أعطاه بعد إسلامه " انتهى.
__________
(1) ر. مشكل الوسيط - بهامش الوسيط: 7/ 105، وتلخيص الحبير: 4/ 134 حديث 1935.
(2) ومن الملاحظات التي يجب تسجيلها هنا، أن الحافظ ابن حجر رفق بإمام الحرمين -على غير عادته- حيث قال في تنبيه له حول هذا الحديث نفسه (حديث أبي العُشَراء قال: وقع لإمام الحرمين فيه وهمٌ؛ إذ جعل المخاطب بذلك أبا العُشَراء الدارمي، وإنما هو أبوه. ثم قال: ويجوز أن يكون ذلك من النساخ، كان يكون سقط من النسخة: " عن أبيه " ا. هـ
وسبحان الله مقلب القلوب، فهذه أول مرة يحمل الحافظُ فيها الخلل على النساخ، ولا يحمله على إمام الحرمين وقد رأيناه في أكثر من موضع مثل هذا تماماً يعنفُ الإمام، ويُغلظ له، ويحمله الخطأ، مع أن حمله على الناسخ أقرب من هذه الحالة. والله أعلم بالقلوب.

(المقدمة/321)


وتعقب ابنُ الرفعة النوويَّ، فقال: " هذا عجيب من النووي كيف قال ذلك؟ وقد نص الشافعيُّ في الأم (1): " أنه صلى الله عليه وسلم أعطى صفوان بنَ أمية قبل أن يسلم " وقد جزم ابنُ الأثير في الصحابة أن الإعطاء كان قبل الإسلام.
وكلام النووي نفسه في تهذيب الأسماء واللغات في ترجمة صفوان: " أنه شهد حنيناً مع النبي صلى الله عليه وسلم كافراً " ومعلوم أن الإعطاء كان من غنائم حنين، فأيُّ قوليه كان أولاً؟؟ الله أعلم (2).
* ذكر الإمام حديثَ أم سلمة: " أفعمياوان أنتما؟ ألستما تبصرانه؟ "، وجعل القصة لعائشة وحفصة على خلاف المشهور من أنها مع أم سلمة وميمونة.
وتعقبه الحافظ سراجُ الدين بن الملقن في (تصحيح المنهاج)، بأن ذلك لا يعرف.
وقد تعقب الحافظُ ابنُ حجر شيخَه ابنَ الملقن، وردّه قائلاً: " وُجد في الغيلانيات من حديث أسامة على وَفْق ما نقله القاضي والإمام، فإما أن يُحمل على أن الراوي قَلَبه ... وإما أن يحمل على التعدد، ويؤيده حديث عائشة عند مالك: أنها احتجبت من أعمى، فقيل لها: إنه لا ينظر إليك، قالت: " لكني أنظر إليه ". انتهى بتصرف يسير من كلام الحافظ ابن حجر (3).
* ومن هذا الباب أيضاً ما كان من ابن الجوزي حين وهم في أكثر من حديث عدّها في الموضوعات، منها حديث: " إن من إجلال الله إكرام ذي الشيبة المسلم " وابن حبان أيضاً يقول عن هذا الحديث: " إنه لا أصل له ".
وقد تعقبهما الحافظ ابن حجر، فقال: "إسناده حسن، وقال عن ابن الجوزي، وابن حبان: " لم يصيبا جميعاً "، والحديث له أصل من حديث أبي موسى، واللوم
__________
(1) راجع في هذه المسألة: تلخيص الحبير: 3/ 236 حديث: 1501، والأم للإمام الشافعي: 2/ 72، وتهذيب الأسماء واللغات: 1/ 249.
(2) راجع في هذه المسألة: تلخيص الحبير: 3/ 236 حديث: 1501، والأم للإمام الشافعي: 2/ 72، وتهذيب الأسماء واللغات: 1/ 249.
(3) ر. التلخيص: 3/ 308، 309 حديث 1588.

(المقدمة/322)


فيه على ابن الجوزي أكثر، لأنه خرج على الأبواب" (1).
والحديث أخرجه أبو داود في كتاب الأدب باب رقم 23، وقد صححه الألباني في صحيح أبي داود، والمشكاة، وصحيح الجامع، وصحيح الترغيب.
فلم يسلم ابن الجوزي، وابن حبان -على منزلتهما- من التعقب.
* يقول السيوطي في ترجمته الموجزة لنفسه، في آخر الجزء الثاني من المزهر، يقول: " لزمت في الحديث والعربية شيخَنا الإمام العلامة تقي الدين الشبلي الحنفي، فواظبته أربع سنين ... ورجع إلى قولي مجرداً في حديثٍ؛ فإنه أورد حديث ابن أبي الجمرا في الإسراء، في شرح الشفا، وعزاه إلى ابن ماجة، فاحتجتُ إلى إيراده بسنده، فكشفت ابن ماجه، فلم أجده، فمررت على الكتاب كله، فلم أجده، فاتهمت نظري، فمررت مرة ثانية، فلم أجده، فعدت ثالثة، فلم أجده!!
ووجدته في معجم الصحابة لابن قانع، فجئت إلى الشيخ وأخبرته، فبمجرد ما سمع مني ذلك أخذ نسخته، وأخذ القلم، وضرب على ابن ماجة، وألحق ابن قانع في الحاشية.
فأعظمت ذلك، وهبته لعظيم منزلته في قلبي، واحتقاري في نفسي، وقلت: ألا تصبرون لعلكم تراجعون!!، فقال: لا. إنما قلّدت في قولي: " ابن ماجة " البرهان الحلبي " (2) انتهى.
وقد آثرت إيراد النص بتمامه لما فيه من فوائد بجوار ما نحاوله من إثبات أن أكابر الأئمة يقعون في الوهم، ولا يحط ذلك من قدرهم، ولا يزري بمنزلتهم، فبجوار ذلك ترى صورة رائعة من صبر العلماء، فتأمل كيف صبر السيوطي على قراءة ابن ماجة، ثلاث مرات من أجل الوصول إلى سند حديث، يريد أن يورده مسنداً.
ئم تأمل كيف يلزم السيوطي ذلك العلامة الشافعي شيخاً حنفياً يأخذ عنه الحديث، والعربية ويستمر ذلك أربع سنوات، ويتحدث عنه بهذا الإجلال والتقدير. نضع هذه
__________
(1) ر. التلخيص: 2/ 118 حديث 761.
(2) المزهر: 2/ 657.

(المقدمة/323)


أمام أعين الذين لا يرون في تاريخنا الفكري إلا صوراً من الصراع المذهبي ومتى يحدث هذا؟ يحدث في القرن التاسع والعاشر، في القرون التي يسمونها عصر الضعف والانحطاط.
* والحافظ بن حجر الذي رأينا كثيراً من تعقباته وشدته أحياناً على من يتعقبه، لا يسلم من الوهم، ويقيض الله له من يتعقبه.
وذلك أنه في كتابه الماتع (فتح الباري) وهو يشرح حديث زيد بن أسلم عن أبيه: " أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه استعمل مولىً له يدعى هُنيّاً على الحمى، فقال: يا هُنيّ، اضمم جناحَك عن المسلمين، واتق دعوة المسلمين؛ فإن دعوة المظلوم مستجابة، وأدخل ربَّ الصُّريمة ورب الغُنَيمة، وإياي ونَعَم ابن عوف، ونَعَم عثمان بن عفان؛ فإنه إن تهلك ماشيتهما يرجعان إلى نخل وزرع، وإنّ رب الصُّريمة ورب الغُنيمة إن تهلك ماشيتهما يأتني ببينة، فيقول: " يا أمير المؤمنين "!
أفتاركهم أنا، لا أبالك؟ فالماء والكلأ أيسر عليّ من الذهب والورِق، وايم الله، إنهم لَيَرون أني قد ظلمتهم؛ إنها لَبلادُهم، قاتلوا عليها في الجاهلية، وأسلموا عليها في الإسلام، والذي نفسي بيده لوَلا المال الذي أحمل عليه في سبيل الله ما حميتُ عليهم من بلادهم شبراً ".
وهذا الحديث رواه البخاري من طريق مالك: حدثنا إسماعيل قال: حدثني مالك عن زيد بن أسلم عن أبيه.
وقد ختم الحافظ شرحه للحديث قائلاً: " وهذا الحديث ليس في الموطأ " (1).
وقد تعقبه العلامة محمد فؤاد عبد الباقي قائلاً: " هذا الحديث في الموطأ كتاب (60) كتاب دعوة المظلوم (2)، باب (1) ما يُتقى من دعوة المظلوم: حدثني مالك عن زيد بن أسلم ". ا. هـ
__________
(1) ر. فتح الباري: 6/ 175 - 177. كتاب الجهاد (56) - باب (180) إذا أسلم قومٌ في دار الحرب ولهم مال وأرضون فهي لهم. حديث رقم 3059.
(2) ر. الموطأ: 2/ 1003 حديث رقم (1) من كتاب دعوة المظلوم. وليس في الكتاب إلا باب واحد، به حديث واحد، هو هذا الحديث.

(المقدمة/324)


ويلوح لي أن الحافظ لم يجد الحديث في أبواب الجهاد من الموطأ، فظن أنه ليس في الموطأ، فأراد أن يفيد قارىء (الفتح) هذه الفائدة، فوهم في ذلك.
* والمجد بن تيمية يقول عن حديث جبير بن مطعم: " يا بني عبد مناف، من ولي منكم من أمور الناس شيئاًً، فلا يمنعن أحداً طاف بالبيت وصلى أيّة ساعة شاء من ليل أو نهار ".
يقول المجد: " رواه الجماعة إلا البخاري " ويلزم من ذلك أن يكون عند مسلم، وقد تعقبه الحافظ ابنُ حجر بقوله: " وهذا وهم منه، تبعه عليه المحب الطبري، فقال رواه السبعة إلا البخاري، وابنُ الرفعة، فقال: رواه مسلم ولفظه: " لا تمنعوا أحداً طاف بهذا البيت، وصلى أي ساعة شاء من ليلٍ أو نهار ". وكأنه -والله أعلم- لما رأى ابنَ تيمية عزاه إلى الجماعة دون البخاري اقتطع مسلماً من بينهم، واكتفى به عنهم، ثم ساقه باللفظ الذي أورده ابن تيمية، فأخطأ مكرراً " انتهى بنصه من كلام الحافظ ابن حجر (1).
* وينبه الحافظ في التلخيص إلى وهمٍ آخر لابن الرفعة في حديث: " خلق الله الماء طهوراً لا ينجسه شيء، إلا ما غير طعمه أو ريحه " قال الحافظ: " عزا ابن الرفعة هذا الاستثناء إلى رواية أبي داود " فقال: ورواية أبي داود: " خلق الله الماء طهوراً لا ينجسه شيء إلا ما غير طعمه أو ريحه " ووهم في ذلك، فليس هذا في سنن أبي داود أصلاً ". انتهى بنصه (2).
* وينكر ابن الرفعة رواية السمك والجراد -في حديث: " أحلت لنا ميتتان "- فيقول: قول الفقهاء: السمك والجراد، لم يرد ذلك في الحديث، وإنما الوارد: " الحوت والجراد " فيتعقبه الحافظ ابنُ حجر بقوله: " وهذا مردود؛ فقد وقع في رواية ابن مردويه: " السمك والجراد " (3).
__________
(1) تلخيص الحبير: 1/ 190 حديث رقم 276.
(2) تلخيص الحبير: 1/ 14 - 16 حديث رقم 3.
(3) ر. التلخيص: 1/ 25 - 26 حديث رقم 11.

(المقدمة/325)


* ونظل مع ابن الرفعة أيضاً، فقد عزا حديث أبي هريرة: " إذا قام أحدكم في المسجد عن مجلسه، فهو أحق به إذا عاد إليه " عزاه ابن الرفعة إلى البخاري، وليس فيه، بل هو من أفراد مسلم، نص على ذلك عبد الحق والحميدي (1).
* والحافظ ابنُ تيمية شيخ الإسلام الذي بلغ في الحديث من المنزلة، أن قيل فيه: " كل حديث لا يعرفه ابنُ تيمية لا أصل له " لا يسلم من مثل هذه الأوهام؛ فقد جاء في رسالته إلى السلطان الملك الناصر ص 16: " ... فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ما غُزي قومٌ في عقر دارهم إلا ذَلُّوا "؟ فأورده حديثاً مرفوعاً.
وقد تعقبه الشيخ العلامة أبو غدة، فقال: " الله أعلم بثبوته ". وعنده أن هذا من قول سيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه في خطبةٍ طويلة، أولها: " أما بعد؛ فإن الجهاد باب من أبواب الجنة، فمن تركه رغبةً عنه ألبسه الله الذلَّ ... فوالله الذي نفسي بيده: ما غُزي قوم في عقر دارهم إلا ذَلّوا ... ".
وقد أورده منسوباً إلى سيدنا علي أبو العباس المبّردُ في أوئل كتابه " الكامل ": 1/ 20 من طبعة سنة 1977 م، 1/ 29 من طبعة 1406 هـ، وكذلك أورده الجاحظ في (البيان والتبيين: 2/ 53)، وأيضاً ابنُ أبي الحديد في (شرح نهج البلاغة: 2/ 74) وأبو الفرج الأصفهاني في (الأغاني: 15/ 43) (2).
* ويقع شيخُ الإسلام أيضاً في الاستشهاد بالحديث الضعيف، بل البالغ الضعف، بل ذكره ابن الجوزي في الموضوعات.
فقد جاء في فتاوى شيخ الإسلام، وهو يتحدث عن الإلهام وكونه طريقاً للترجيح قولُه: " القلب المعمور بالتقوى إذا رجَّح بمجرد رأيه، فهو ترجيح شرعي. قال: فمتى ما وقع عنده وحصل في قلبه ما يظن معه أن هذا الأمر، أو هذا الكلام أَرْضى لله ورسوله، كان هذا ترجيحاً بدليلٍ شرعي (3).
__________
(1) ر. التلخيص: 3/ 142 حديث رقم 1335.
(2) ر. رسالة بعنوان (تصحيح الكتب وصنع الفهارس المعجمية) للشيخ أحمد شاكر، بعناية وتعليق الشيخ عبد الفتاح أبو غدة، وهذا من تعليقة في ص 14 من الرسالة المذكورة.
(3) اقرأ في هذا الموضوع بحثاً قيمّاً وافياً للعلامة الشيخ يوسف القرضاوي بعنوان: (الإلهام =

(المقدمة/326)


والذين أنكروا كونَ الإلهام ليس طريقاً إلى الحقائق مطلقاً أخطئوا؛ فإذا اجتهد العبد في طاعة الله وتقواه، كان ترجيحه لما رجح أقوى من أدلة كثيرة ضعيفة، فإلهام مثل هذا دليلٌ في حقه. وهو أقوى من كثير من الأقيسة الضعيفة والموهومة، والظواهر والاستصحابات الكثيرة التي يحتج بها كثيرٌ من الخائضين في المذاهب والخلاف، وأصول الفقه.
وقد قال عمر بنُ الخطاب: اقربوا من أفواه المطيعين، واسمعوا منهم ما يقولون؛ فإنهم تتجلى لهم أمور صادقة، وحديث مكحول المرفوع: " ما أخلص عبدٌ العبادةَ لله تعالى أربعين يوماً إلا أجرى الله الحكمة على قلبه، وأنطق به لسانَه " وفي رواية: " إلا ظهرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه ". انتهى بنصه (1).
وحديث مكحول هذا عن أبي أيوب الأنصاري أورده ابنُ الجوزي في الموضوعات: في (باب من أخلص لله أربعين صباحاً).
وقد ذكر في الباب ثلاثة أحاديث جعل أولها حديث مكحول هذا عن أبي أيوب الأنصاري ثم ثنى بحديثٍ عن أبي موسى الأشعري، والثالث عن ابن عباس رضي الله عنهم، وكلها بمعنى واحد وألفاظ متقاربة (2).
وقد أورد السيوطي حديث مكحول هذا في الجامع الصغير عن أبي نعيم في الحلية، ورمز له بالضعف.
أما المناوي في الفيض، فقد رجح الحكمَ عليه بالوضع؛ إذ قال: أورده ابن الجوزي في الموضوعات، ولخص ما قاله ابن الجوزي في سنده قائلاً: فيه يزيد الواسطي، وهو يزيد بن يزيد بن عبد الرحمن الواسطي كثير الخطأ، وحجاج مجروح، ومحمد بن إسماعيل مجهول، ومكحول لم يصح سماعه من أبي أيوب الأنصاري ".
__________
= والكشف والرؤى، هل تعد مصادر للأحكام الشرعية؟ - حولية كلية الشريعة بقطر، العدد السادس 11 - 73.
(1) مجموع فتاوى شيخ الإسلام: 20/ 42 - 47.
(2) الموضوعات لابن الجوزي: 3/ 144 - 145.

(المقدمة/327)


ثم قال عمن تعقب ابنَ الجوزي بأن الحافظ العراقي اقتصر في تخريج الإحياء على تضعيفه: وهو تعقب لا يسمن ولا يغني من جوع (1).
تنبيه وبيان:
ونؤكد أننا بتسجيل هذه الأوهام، ورصدها والتنبيه عليها لا نريد -حاشا لله- الانتقاص من هؤلاء الأئمة الأعلام أو الحط عليهم -نعوذ بالله من ذلك- وإنما أحببنا فقط أن نذكِّر بما هو معروف مقرر من قصور الإنسان، واستيلاء النقص على قوى البشر.
وعليه يكون ما وقع فيه إمام الحرمين من أوهام أو أخطاء من هذا الباب، ولا يترتب عليه تلك الأحكام القاسية المزرية التي قيلت فيه.

رابعاً: من كلام إمام الحرمين في متن الحديث وصناعته:
بل إننا نجد للإمام كلاماً في الصناعة الحديثية من التضعيف والتصحيح، ونقد السنن والمتن، والكلام في الرواة، وذكر ما قاله أئمة الصناعة فيهم.
نجد من هذا الشيءَ الكثير، مما يشهد أنه كان على درجةٍ من حفظ الحديث، ولم يكن معرضاً عنه، أو لا يدريه كما قال فيه القائلون.
وسنعرض هنا لبعض نماذج من كلام الإمام في عدد من الأحاديث لتكون دليلاً على ما قلناه:
* يردّ الإمامُ ما روي من حديث عائشة وأنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " النفاس أربعون يوماً ".
يردّ الإمام هذا، فيقول: " قال أئمة الحديث: حديث عائشة موضوع، وحديث أنس تفرّد به عن جميل سلامُ بن سَلْم، وهو متروك " (2).
هذا ما قاله إمام الحرمين عن الحديثين، فماذا قال أئمة الحديث؟
__________
(1) ر. فيض القدير: 6/ 43 - 44.
(2) الدرة المضية: 67 مسألة رقم 39.

(المقدمة/328)


لو راجعتَ ما قاله الدارقطني، والزيلعي، وابن حجر، وابن الجوزي (1) عن الحديثين، لرأيت أنه لم يخرج عما قاله إمام الحرمين، ولأدركت منزلة إمام الحرمين من الصناعة الحديثية، فالذي يقول هذا من حافظته، ويدوّنه من ذاكرته، كيف يقال: إنه لا يدري الحديث، أو كان قليل المراجعة لكتب الحديث!!
* وفي أحاديث التيمم، يردّ ما استدل به الأحناف على جواز التيمم بالرمل قائلاً: " فإن قالوا: روى أبو هريرة أن رجلاً قال يا رسول الله: إنّا بأرضٍ رملة تصيبنا الجنابة والحيض والنفاس، ولا نجد الماء أشهراً، فقال صلى الله عليه وسلم: " عليكم بالرمل ".
قلنا: رواه المثنى بن الصباح، وهو ضعيف صاحب مناكير، ثم روى عمرو بن شعيب هذه القصة، وفيها: " عليكم بالتراب ". ثم المراد بالرمل الرمل الذي يخالطه التراب؛ فإن العرب لا تَقِرّ إلا في موضع العشب، ولا نبات حيث لا تراب (2) ".
فهو يردّ الحديث بالنظر في سنده، وتضعيف راويه، ثم بالنظر في متنه، فعلى فرض صحته، فالمراد به الرمل الذي به تراب ينبت عشباً في بيئة تصلح للاستقرار.
وقد روى ابنُ قدامة هذا الحديثَ في المغني، وضعفه بما ضعفه به إمام الحرمين (3) كما تكلم الذهبي في ميزان الاعتدال عن المثنى بن الصباح بنحو ما قاله عنه إمام الحرمين (4).
* عند ذكر الخلاف مع الأحناف في أقل الحيض، وأنه عندهم ثلاثة أيام يقول: "ولهم روايات يتمسكون بها، منها:
ما رواه أبو أمامة الباهلي: "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أقل ما يكون من
__________
(1) ر. سنن الدارقطني: 1/ 220، نصب الراية: 1/ 206، والتلخيص: 1/ 171، والعلل المتناهية: 1/ 386.
(2) الدرة المضية: 25 مسألة رقم 11.
(3) المغني لابن قدامة: 1/ 249.
(4) ميزان الاعتدال: 1/ 435.

(المقدمة/329)


الحيض للجارية البكر والثيب ثلاثاً، وأكثر ما يكون عشرة أيام، فإذا رأت أكثر من ذلك، فهو استحاضة".
قلنا: يرويه عبد الملك، وهو مجهول، عن العلاء بن كثير، وهو ضعيف، عن مكحول، وهو لم يلق أبا أمامة" (1).
وانظر سنن الدارقطني، ونصب الراية، لترى ما قاله إمام الحرمين عن الحديث بنصه تقريباً (2).
ثم قال الإمام في المسألة نفسها: " فإن روَوْا عن واثلة بن الأسقع أنه عليه السلام قال: أقل الحيض ثلاثة أيام، وأكثره عشرة أيام ".
قلنا: يرويه حماد بنُ منهال، وهو مجهول عن مكحول، ولم يسمع من واثلة (3) ".
وما قاله إمام الحرمين في الحديث هو بنصه تقريباً ما قاله أئمة الحديث: الدارقطني، والزيلعي، والذهبي (4).
وفي المسألة نفسها يرد أثراً للأحناف عن ابن مسعود وأنس وعثمان بن أبي العاص، قائلاً: " حديث عبد الله يرويه هارون بنُ زياد القُشيري، وهو ضعيف جداً.
وحديث أنس يرويه الجَلْد بنُ أيوب، وليس يساوي في الحديث شيئاًً، وحديث عثمانَ يرويه الأشعث بنُ سَوَّار، وهو ضعيف، عن الحسن، ولم تثبت رواية الحسن عن عثمان. " (5) ا. هـ بنصه.
وهذا الذي قاله إمام الحرمين هو بعينه ما قاله الدارقطني والذهبي والزيلعي، ومما
__________
(1) الدرة المضية: 55 مسألة رقم 31.
(2) سنن الدارقطني مع التعليق المغني: 1/ 218، ونصب الراية: 1/ 191.
(3) الدرة المضية الموضع السابق نفسه.
(4) انظر: نصب الراية 1/ 192، وسنن الدارقطني: 1/ 219، وميزان الاعتدال 1/ 420.
(5) الدرة المضية: 56 المسألة رقم 31.

(المقدمة/330)


يستحق أن يسجل أن قول إمام الحرمين عن الجَلْد بن أيوب: " ليس يساوي في الحديث شيئاًً " هو عبارةُ أحمد بن حنبل بعينها في الحكم على الجَلْد (1).
* وحين يعرض لخلاف الأحناف في دخول وقت العشاء يقول:
" فإن رَوَوْا عن جابر في حديث السائل عن أوقات الصلاة: " أن بلالاً أذن للعشاء حين ذهب بياضُ النهار ".
قلنا: يرويه صدقةُ بنُ عبد الله الدمشقي عن عبيد الكلاعي، عن سليمان بن موسى، قال أحمد بن حنبل: " صدقة ليس بشيء " (2).
وقد نقل الذهبي تضعيف أحمد لصَدَقة بن عبد الله على نحو ما قاله إمام الحرمين (3).
* وحين يردّ قولَ أبي حنيفة: إن التثويب أن يقول المؤذن بعد الفراغ من الأذان: حي على الصلاة، حي على الفلاح " يقول:
" فإن روَوْا أن بلالاً كان إذا أذن أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوقف على الباب، فقال: الصلاة يا رسول الله، حي على الصلاة، حي على الفلاح ".
قلنا: يرويه موسى بن محمد بن الحارث التيمي عن أبيه عن بلال، وموسى ضعيف، ومحمد لم يلق بلالاً، ويرويه أيضاً كامل أبو العلاء السعدي، ولم يلق بلالاً.
ثم لا اختصاص لهذا الحديث بأذان الصبح، ولعله كان ينبه رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض الأحايين (4) ".
وقد قال يحيى بنُ معين عن موسى بن محمد هذا: ليس بشيء ولا يكتب حديثه، وقال مرة: ضعيف.
__________
(1) ميزان الاعتدال: 1/ 420.
(2) الدرة المضية: 78 مسألة 43.
(3) ميزان الاعتدال: 2/ 310.
(4) الدرة المضية: 83، 84 مسألة رقم 47.

(المقدمة/331)


وقال البخاري: عنده مناكير، وقال النسائي: منكر الحديث، وقال الدارقطني: متروك (1).
* لا يفتتح الإمامُ الصلاة ما لم يفرُغ المقيم من الإقامة عندنا.
وقال أبو حنيفة: يقوم الإمام إذا بلغ الحيعلة، ويكبر إذا لفظ الإقامة.
قال الإمام: فإن رَوَوْا عن عبد الله بن أبي أوفى: " أنه كان إذا قال بلال: قد قامت الصلاة، نهض النبي صلى الله عليه وسلم، وكبّر ".
قلنا: " يرويه حجاج بن فرّوخ، وهو مجهول " (2).
وعن حجاج هذا قال ابن معين: ليس بشيء، وضعفه النسائي (3).
* وعند الاختلاف في الجهر بالتأمين، وقول الحنفية: لا يجهر الإمام ولا المأموم، ويستدل الأحناف فيما استدلوا به بما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إذا قال الإمام ولا الضالين، فأنصتوا " يرد إمام الحرمين هذا الحديث قائلاً: " هذا الحديث يرويه محمدُ بنُ يونس، وهو ضعيف " ثم الإنصات هو السكوت، والمأموم يؤمن ولا يجهر عند أبي حنيفة.
فإن قالوا: روى وائل أن النبي صلى الله عليه وسلم خفض صوته بآمين ".
قلنا: قال الدارقطني: رواه شعبة، ووهم فيما روى، والصواب أنه رفع بها صوته، فقد تعارضت الروايات (4).
وقد قال أئمة الحديث في هذين الحديثين بنحو ما قاله إمام الحرمين (5).
* وقد اعتمد الأحناف في قولهم: لا تسن الإقامة للنساء على حديث: "ليس على النساء أذان ولا إقامة"، فردّه إمامُ الحرمين قائلاً:
__________
(1) ر. ميزان الاعتدال: 4/ 218.
(2) الدرة المضية: 92 مسألة رقم 56 (بتصرف).
(3) ر. ميزان الاعتدال: 1/ 464.
(4) الدرة المضية: 103، 104، مسألة رقم 65.
(5) ر. نصب الراية: 1/ 369، ميزان الاعتدال: 4/ 74.

(المقدمة/332)


قلنا: " يرويه الحكم بنُ عبد الله الأَيْلي، وبُريدُ بنُ السمط: الأول متروك، والثاني مجهول (1) ".
فإذا نظرنا في كتب الرجال، نجد الإمام أحمد يقول عن الحكم هذا: " أحاديثه كلها موضوعة، وابن معين يقول فيه: " ليس بثقة "، وقال السعدي وأبو حاتم: " كذاب "، وقال عنه النسائي والدارقطني: " متروك (2) ".
* وخالفنا الأحناف في السجود على كَوْر العمامة، حيث أجازوا ذلك، وروَوْا فيه حديثاً: " أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد على كَوْر عمامته " وقد ردّ إمام الحرمين الحديث قائلاً:
" هذا الحديث رواه أبو زرعة في كتاب، فقال: اضربوا عنه، فإنه منكر، وقد رَوَوْه عن أبي هريرة، وهو الذي أنكره أبو زرعة.
وربما روَوْه عن ابن عباس مرفوعاً، ومداره على محمد بن زياد الطحان، وهو متروك.
وربما روَوْه عن جابر مرفوعاً، ومدار رواته عن عمرو بن شمر عن جابر الجعفي: قال يحيى بنُ معين: عمرو ليس بثقة، وجابر لا يحتج بروايته (3) ".
وقد ضعف أهل الصناعة أحاديث ابن عباس، وأبي هريرة، وجابر بنحو ما ضعفها به إمام الحرمين (4).
* القنوت في صلاة الصبح سنة عندنا.
وخالف الأحناف في ذلك، وكان مما استدلوا به أن قالوا: روت أم سلمة: " أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن القنوت في الفجر ".
__________
(1) الدرة المضية: 86 مسألة رقم 50.
(2) ر. ميزان الاعتدال: 1/ 572.
(3) الدرة المضية: 118، 119 مسألة رقم 75.
(4) ر. نسب الراية: 1/ 384، ونيل الأوطار: 2/ 288، وتلخيص الحبير: 1/ 253، ح 377، وميزان الاعتدال: 1/ 379، 3/ 268، 552.

(المقدمة/333)


وقد ردّ هذا الحديث إمامُ الحرمين قائلاً: " يرويه محمدُ بن يعلى السُّلمي عن عِنبسة بن عبد الرحمن، عن عبد الله بن نافع، عن نافع، وكلهم ضعفاء إلا نافعاً، وهو لم يلقَ أُمَّ سلمة.
فإن قالوا: روى ابن مسعود: " أن النبي صلى الله عليه وسلم قنت شهراً، لم يقنت قبله ولا بعده ".
قلنا: يرويه أبو حمزة، ميمون القصاب، ولا يحتج به.
ويتجه حمله على غير الصبح، والدليل عليه ما روي: أنه قيل لأنس: " إنما قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم شهراً، فقال: ما زال يقنت في صلاة الغداة حتى فارق الدنيا (1) ".
ولو نظرنا فيما قاله أئمة الحديث، لوجدناهم يُضعِّفون الحديثين بمثل ما قاله إمام الحرمين، وبعبارة أخرى: وجدنا إمام الحرمين يحكم على الحديثين بمثل ما قاله أئمة الحديث.
فنجد الدارقطني يقول عن رواة حديث أم سلمة: " محمد بن يعلى، وعنبسة، وعبد الله بن نافع كلهم ضعفاء، ولا يصح لنافع سماع من أم سلمة (2) ".
وهذه كما ترى عبارة إمام الحرمين نفسها، ونجد ابنَ الجوزي يقول عن الحديث نفسه: " تفرد به عِنبسة، قال يحيى: ليس بشيء، وقال النسائي: متروك الحديث، وقال ابن حبان: هو صاحب أشياء موضوعة لا يحل الاحتجاج به (3) ".
ومما يجب أن نسجله هنا أن حديث ابن مسعود الذي ضعفه إمام الحرمين لا وجود له في سنن الدارقطني، نقول ذلك حتى نقطع قولَ الذين يقولون: إن اعتماد إمام الحرمين كان على سنن الدارقطني وحدها.
هذا، وحديث ابن مسعود معلول -كما قال إمام الحرمين- بأبي حمزة ميمون
__________
(1) الدرة المضية: 126، 127 مسألة رقم 83.
(2) سنن الدارقطني: 1/ 28. حديث رقم 5.
(3) العلل المتناهية: 1/ 445.

(المقدمة/334)


القصاب، قال ابن حبان في كتاب الضعفاء: كان فاحش الخطأ كثير الوهم، يروي عن الثقات ما لا يشبه حديث الأثبات، تركه أحمد بن حنبل، ويحيى ابن معين " انتهى (1).
ونكتفي بهذه النماذج من كلام إمام الحرمين في نقد الأحاديث والرجال، وفي الجمع بين المتعارض منها، وهي ناطقة شاهدة بعنايته بعلم الحديث، مبينة عن إحاطته بعلم الرجال، دالّةُ على معرفته بالجرح والتعديل.
وفي كتابه (الدرّة المضية) من هذا الباب مئات من الأحاديث التي تكلم -بعلم- في نقد رجالها، وتوجيه متنها.
جانبٌ آخر من الاشتغال بالصناعة الحديثية:
لقد عقد الإمام في كتابه البرهان كتاباً سماه كتاب الأخبار، تناول فيه الحديث بصفته الأصل الثاني من أصول التشريع، ولكنه تناول فنون الأحاديث ومراتبها، وناقش أصول الرواية وضوابطها، وخالف المحدثين في شيء من قواعدهم وضوابطهم، وأسمائهم وألقابهم، وإليك طرفاً من ذلك:

الخبر المتواتر:
عقد إمام الحرمين في البرهان فصلاً بعنوان (القول في الخبر المتواتر (2)) يصف فيه الخبر المتواتر والأقوال فيه وفي إفضائه إلى العلم، ويعرض الشرائط التي رآها من تعرضوا للحديث المتواتر، ومنها اشتراط صدوره عن عدد، ويقول: " إن الناس اضطربوا في ذلك اضطراباً فاحشاً (3) " ويعرض هذه الآراء ويتعقبها بالحجة والبرهان حتى يبطلها واحداً واحداً.
ثم يقول: "فإن قيل: فما الذي ترضَوْنه في ذلك؟ قلنا: الخوض فيما نؤثره يستدعي تقديم أمر. وهو أن العلوم الحاصلة على حكم العادات وجدناها مرتبة على
__________
(1) ر. كتاب المجروحين، لابن حبان: 3/ 5، 6، وانظر أيضاً ميزان الاعتدال: 4/ 34.
(2) البرهان فقرة: 491 وما بعدها.
(3) البرهان فقرة: 494.

(المقدمة/335)


قرائن الأحوال وهي لا تنضبط انضباط المحدودات بحدودها.
ولا سبيل إلى جحدها إذا وقعت وهذا كالعلم بخجل الخجل، ووجل الوجل، ونشط الثمل ونحوها، فإذا ثبتت هذه القرائن ترتب عليها علوم لا يأباها إلا جاحد، ولو رام واجد العلوم ضبطَ القرائن ووصفَها بما تتميز به عن غيرها لم يجد إلى ذلك سبيلاً، فكأنها تدق عن العبارات".
ثم ينتهي إلى قوله: " لا يتوقف حصول العلم بصدق المخبرين على حد محدود، وعد معدود، ولكن إذا ثبتت قرائن الصدق، ثبت العلم به (1) ".
ثم يقول: " وأنا الآن أنخل للناظر جميع مصادر المذاهب ليحيط بها، ويقضي العجب من الاطلاع عليها. ويتنبه لسبب اختلاف الآراء فيها ويجعل جزاءنا منه دعوة بخير " (2).
ويستمر في عرض وجهة نظر أصحاب الآراء والمذاهب، لا مجرحاً ولا مسفهاً، بل مبيناً موضع الشبهة، وسر الزلل، وكأنه يعتذر عنهم، أو هو بالتأكيد يعتذر عنهم.
ثم يختم المسألة بخلاصة رأيه معتزاً به مباهياً. فيقول: " والجملة في ذلك أن التواتر من أحكام العادات، ولا مجال لتفصيلات الظنون فيها، فليتخذ الناظر العادة محكمة.
وقد أتى هذا المقدار على أسرار لا تحويها أسفار وهو على إيجازه لا يغادر وجهاً من البيان تمس الحاجة إليه. وينزل كل كلام وراءه كالفضل المستغنى عنه " (3).

في خبر الواحد:
ويناقش خبر الواحد من جهة كونه يوجب العمل، فيقول:
" وأطلق الفقهاء القول بأن خبر الواحد لا يوجب العلم ويوجب العمل، وهذا تساهل منهم. والمقطوع به أنه لا يوجب العلم ولا العمل.
__________
(1) البرهان فقرة: 503.
(2) البرهان فقرة: 506.
(3) البرهان فقرة: 515.

(المقدمة/336)


فإنه لو ثبت وجوب العمل مقطوعاً به، لثبت العلم بوجوب العمل، وهذا يؤدي إلى إفضائه إلى نوع من العلم.
وذلك بعيد؛ فإن ما هو مظنون في نفسه يستحيل أن يقتضي علماً مبتوتاً.
فالعمل بخبر الواحد مستند إلى الأدلة التي سنقيمها على وجوب العمل عند خبر الواحد.
وهذا تناقشٌ في اللفظ، ولست أشك أن أحداً من المحققين لا ينكر ما ذكرناه (1) ".

القاعدة في الخبر الصادق عنده:
ثم يعقد فصلاً عن تقاسيم الأخبار، ويناقش آراء الأئمة في المقطوع بصدقه والمقطوع بكذبه، ثم يخرج بقاعدة مؤداها: " كل خبر يخالفه حكم العرف فهو كذب (2) " ويعطي العرف كل منزلة في هذا.

رأيه في العمل بالمراسيل:
فأما رأيه في المراسيل فيدل على ذهن أصولي فذ، كما يدل على تحرر في الرأي والفكر.
فأبو حنيفة رضي الله عنه قائل بالمراسيل بجميع صورها قابل لها، عامل بها.
والشافعي يرد المراسيل ولا يقبلها.
وهنا يعرض إمام الحرمين حجج القائل بها والرافض لها، بكل أمانة وثقة ودقة، كدأبه في المسائل.
ثم يقرر رأيه غير متأثر بمذهب من المذاهب، وإنما ناظراً لقاعدة الباب مراعياً للأصل الذي يبني عليه لا غيره، والأولى أن ننقل كلامه في هذا الموضع بنصه حيث يقول:
__________
(1) البرهان فقرة: 538.
(2) البرهان فقرة: 534.

(المقدمة/337)


" فإذا وضح اعتبار ما تمسك به النفاة والمثبتون، فقد جاز أن نوضح المختار قائلين:
قد ثبت أن المعتمد في الأخبار ظهور الثقة في الظن فإن انخرمت الثقة، اقتضى انخرامها التوقف في القبول. وهذا الأصل مستنده الإجماع الذي ثبت نقله من طريق المعنى استفاضة وتواتراً، فإذا سبرنا ما ردوه وما قبلوه يحصل لنا من طريق السبر أنهم لم يَرْعَوْا صفات تعبدية كالعدد والحرية، وإنما اعتمدوا الثقة المحضة، فلتعتبر هذه قاعدة في الباب. ومساقها يقتضي رد بعض وجوه الإرسال وقبول بعضها (1) ".
فهو يرى أن المراسيل يقبل بعضها ويرد بعضها، لا يميل إلى رأي الشافعي، ولا إلى رأي أبي حنيفة، وإنما يعتمد القاعدة والأصل الذي اعتبر في صدق الأخبار.
وبعد أن يقرر هذا يقول: " ثم مخالفة الشافعي في أصول الفقه شديدة، وهو ابن بجدتها وملازم أرومتها ". ولذا يعود إلى تخريج كلام الشافعي وتوجيهه بما يوافق رأيه الذي رآه. وتراه يعتز ويتيه بذلك قائلاً: " ولكني رأيت في كلام الشافعي ما يوافق مسلكي هذا وتقر به الأعين. قال رحمه الله: مرسلات ابن المسيب حسنة. وشبب بقبولها والعمل بها (2) ".
فهو يعرف للشافعي قدره في الأصول، وفضله على هذا الفن ولذا يستروح لموافقته.

موجز لبعض آرائه في الحديث:
وخوفاً من الإطالة نوجز بعض آرائه في الحديث التي انفرد بها أو خالف فيها، فمنها:
- يخالف أبا إسحاق الإسفراييني (الأستاذ) في أن (الخبر المستفيض) قسم بين المتواتر وبين المنقول آحاداً، ويرد زعمه بأنه يقتضي العلم نظراً (3).
__________
(1) البرهان فقرة: 579.
(2) انظر البرهان فقرة: 581.
(3) انظر البرهان فقرة: 519.

(المقدمة/338)


- يخالف القاضي أبا بكر في إلحاق مسألة رد رواية الصبي بالمظنونات ويرى أنها من القطعيات (1).
- يخالف الشافعي والقاضي وينفرد برأي في مسألة التصريح بالتعديل والتجريح حيث يرى " أن الأمر في ذلك يختلف باختلاف المعدل والجارح (2) ".
- في فصل تحمل الرواية وجهة تلقيها يعرض لمسألة ما إذا كانت النسخة بيد عدل غير الشيخ، وكان الشيخ لا يحفظ حديثه. ويقرر أن هذا سماع غير صحيح، وإن كان القاضي قد تردد فيه (3).
- إذا انفرد راوٍ بزيادة عن غيره. يرى التفصيل فيها، فيقول: هي مقبولة إذا سكت الحاضرون عن نقل ما تفرد به بعضهم، فأما إذا صرحوا بنفي ما نقله، فهذا يعارض قول المثبت ويوهيه (4).
- ينفرد برأيه عن المحدثين فيما إذا قال الرجل: رأيت في صحيح محمد بن إسماعيل البخاري، ووثقت باشتمال الكتاب عليه، فعلى الذي سمعه يذكر ذلك أن يثق به، ويلحقه بما تلقاه بنفسه ورآه ورواه من الشيخ المسمع.
ثم يقول: ولو عرض ما ذكرناه على جملة المحدثين لأبوه؛ فإن فيه سقوط منصب الرواية عند ظهور الثقة وصحة الرواية وهم عصبة لا مبالاة بهم في حقائق الأصول.
وإذا نظر الناظر في تفاصيل هذه المسائل صادفها خارجة في الرد والقبول على ظهور الثقة وانخرامها، وهذا هو المعتمد الأصولي، فإذا صادفناه لزمناه، وتركنا وراءه المحدثين ينقطعون في وضع ألقاب وترتيب أبواب (5) ".
فهو يقرر رأيه بحسب القاعدة الأصولية التي اعتمدها، صارفاً النظر عن الأسماء والألقاب التي يضعها المحدثون، غير مبال بخلافهم.
__________
(1) انظر البرهان فقرة: 552.
(2) نفس المصدر فقرة: 560، 561.
(3) نفس المصدر فقرة: 586.
(4) نفس المصدر فقرة: 608.
(5) البرهان فقرة: 592، 593.

(المقدمة/339)


أئمة الحديث يعتدّون بآراء إمام الحرمين في الصناعة الحديثية:
ويشهد لمنزلته في الحديث اعتماد رجال الحديث لآرائه واعتنائهم بتسجيلها في كتبهم، وذكرهم لها مذهباً ورأياً معتداً به مع آراء المحدثين.
جاء في كتاب الإلماع إلى معرفة أصول الرواية وتقييد السماع للقاضي عياض ص 75:
" فإن كان الشيخ لا يمسك كتابه هو، وإنما يمسكه عليه ثقة عارف سواه، وإن كان الشيخ يحفظ حديثه، فالحال واحدة، وإن كان لا يحفظه فاختلف هاهنا، فرأى بعضهم أن هذا سماع غير صحيح، وإليه نحا الجويني من أئمتنا الأصوليين ".
كما نقل عنه رأيه في موضع آخر. قال:
" وقال الإمام أبو المعالي الجويني في كتابه البرهان في الإجازة لما صح من مسموعات الشيخ أو لكتاب عينه: تردد الأصوليون فيه: فذهب ذاهبون إلى أنه لا يتلقى بالإجازة حكم، ولا يسوغ التعويل عليها عملاً ورواية.
واختار هو التعويل على ذلك مع تحقيق الحديث (1) ".
وفي ص 42 أيضاً ينقل رأيه في إجازة الشيخ لمعين على العموم والإبهام، دون تخصيص ولا تعيين لكتب ولا أحاديث، فيقول: فهذا الوجه هو الذي وقع فيه الخلاف تحقيقاً، والصحيح جوازه، وصحت الرواية والعمل به بعد تصحيح شيئين: تعيين روايات الشيخ ومسموعاته وتحقيقها، وصحة مطابقة كتب الراوي لها. وهو قول الأكثرين، والجمهور من الأئمة، والسلف ومن جاء بعدهم من مشايخ المحدثين والفقهاء والنظار. وهو مذهب الزهري ومنصور ابن المعتمر ... ويستمر في ذكر أئمة الحديث ثم يقول: وهو الذي عليه عمل الشيوخ وقووه، وصححه أبو المعالي واختاره هو وغيره من أئمة النظار المحققين) اهـ.
فهو يستظهر لكل هؤلاء الأئمة بإمام الحرمين، وينص عليه دون غيره من أئمة النظار والمحققين.
__________
(1) الإلماع ص 89.

(المقدمة/340)


وابن الأثير أيضاً:
وبعد القاضي عياض وجدنا ابنَ الأثير في مقدمة كتابه (جامع الأصول) يعقد باباً بعنوان (الباب الثالث في بيان أصول الحديث، وأحكامها، وما يتعلق بها) يقول تحت هذا العنوان:
" ما نثبته في هذا الباب من أصول الحديث وأحكامها، وشرح أقوال الفقهاء وأئمة الحديث، وذكر مذاهبهم، واصطلاحاتهم، فإنه منقول من فوائد العلماء، وكتبهم وتصانيفهم التي استفدناها وعرفناها، مثل كتاب (التلخيص (1)) لإمام الحرمين أبي المعالي الجويني، وكتاب (المستصفى) لحجة الإسلام أبي حامد الغزالي، وكتاب (التقويم) لأبي زيد الدبوسي، وكتاب (أصول الحديث) للحاكم أبي عبد الله محمد بن عبد الله النيسابوري، وكتاب (المدخل إلى الإكليل) له، وشيء من رسائل الخطيب أبي بكر بن ثابت البغدادي، وكتاب (العلل) للإمام أبي عيسى الترمذي، وغير ذلك من كتب العلماء وتصانيفهم، رحمة الله عليهم.
فجمعت بين أقوالهم، واختصرت من كل واحد منهم طرفاً يليق بهذه المقدمة (2) ... " إلخ فانظر كيف سلك إمام الحرمين مع أئمة الحديث وحُفاظه: الحاكم، والخطيب البغدادي، والترمذي، بل الأعجب أنه عدّ كتابه قبل كتبهم، وقدّمه في الذكر عليهم.
شيوخ إمام الحرمين في الحديث، وتلاميذه:
ونذكر بما ثبت من سماعه الحديث، وأخذه إياه عن شيوخه وأئمته، مثل والده، والشيخ أبي حسان، محمد بن أحمد المزكي، وأبي سعد، عبد الرحمن بن حمدان النضْرَوي، وأبي عبد الله، محمد بن إبراهيم بن يحيى المزكي، وأبي سعد، عبد الرحمن بن الحسن بن عَلِيَّك، وأبي عبد الرحمن، محمد بن عبد العزيز النِّيلي، وغيرهم.
__________
(1) انظر ما قاله إمام الحرمين عن الحديث في كتابه (التلخيص) الفقرات: 964 - 1184.
(2) مقدمة جامع الأصول من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم: 68، 69.

(المقدمة/341)


وروى عنه: زاهر الشحَّامي، وأبو عبد الله الغُراوي، وإسماعيل بن أبي صالح المؤذن، وغيرهم.
* وجمع أربعين حديثاً عرفت باسمه، وقرئت عليه (1).
* وقد رأيناه في نهاية المطلب يعتز بمسموعاته في الحديث، ويحرص على روايتها، ومن ذلك قوله: " قد قدمنا في صدر الباب تباين المذاهب واختلاف قول الشافعي رضي الله عنه في بيع أمهات الأولاد، وسبب التردد اختلاف الأخبار والآثار.
ونحن نذكر منها ما فيه مَقْنَع من مسموعاتنا، أخبرنا ... " (2) وروى من الأخبار من مسموعاته، وكأنه يتيمّن بذلك في ختام كتابه.
...
عودٌ على بدء.
وتؤكد ما قلناه قبلاً (3) أننا لا نريد ولا نحاول أن نثبت أن إمام الحرمين كان من أئمة الحديث وحفاظه.
وكل الذي نتغياه أن نقول لبعض الأغرار من نابتة العصر، وبعض من أعماهم التعصب، أولئك الذين يقعون في الأئمة، ويسوّدون صفحات بحوثهم، ويرددون في دروسهم القول بأن هذا الإمام أو ذاك كان لا يدري الحديث ولا علم له به، بل جمح يبعضهم الهوى، فقال عن إمام الحرمين والغزالي: إنهم من أعداء السنن.
يقولون ذلك متكئين على ما نقلناه عن الأئمة الكبار، ابن الصلاح، والنووي، وشيخ الإسلام، والذهبي. نقول لهؤلاء: حنانيكم، أقصروا، إن ما كان عند هؤلاء من علم الحديث مع أنه ليس من علومهم - أكثر مما عند كثير من المختصين بعلم الحديث في عصرنا، وما قدمناه آنفاً من نماذج لعلم إمام الحرمين لن نجد في محدّثي عصرنا من يحفظ مثله.
__________
(1) ر. طبقات السبكي: 171، 181.
(2) نهاية المطلب: ج 19 ص 503.
(3) انظر ما سلف في أول هذا الفصل.

(المقدمة/342)


وننبه هنا أن كلام الأئمة الكبار بعضهم في بعض يجب أن يؤخذ بحذر، وبخاصة عند اختلاف المذاهب والمشارب، كما في حال هؤلاء الأئمة مع إمام الحرمين.
كما أن كلام الكبار بعضهم في بعض يمكن احتماله، أما أن يطير به بعض الشداة، ويرددونه، فهذا ما قصدنا دفعه، والتنبيه إلى خطورته.
ونختم هذا الفصل بهذه الكلمة المضيئة لإمام العلم والعمل، الإمام ابن القيم، إذ قال: " لو كان كل من أخطأ، أو غلط تُرك جُملةً، وأهدرت محاسنه، لفسدت العلوم، والصناعات والحكم، وتعطلت معالمها (1) ".
ونضيف ما جاء عن ابن عبد البر في كتابه (جامع بيان العلم وفضله):
" قال الثوري رحمه الله: " عند ذكر الصالحين تنزل الرحمة " (2).
ثم قال ابن عبد البر: " ومن لم يحفظ من أخبارهم (3) إلا ما بدر من بعضهم في بعض على الحسد والهفوات، والغضب والشهوات، دون أن يُعنى بفضائلهم حُرم التوفيق، ودخل في الغيبة، وحاد عن الطريق.
جعلنا الله وإياك ممن يسمع القول فيتبع أحسنه " (4).
...
__________
(1) مدارج السالكين: 2/ 39.
(2) عُزيت هذه الحكمة إلى ابن عيينة، عزاها ابن الجوزي في مقدمة صفة الصفوة ص 45، وقال الشيخ أبو غدة: عزيت إلى ابن عيينة في غير مصدر (مقدمة الانتقاء ص 6).
(3) عَنَى الصحابة والتابعين ومن بعدهم من الأئمة.
(4) ر. جامع بيان العلم وفضله: 2/ 199 (آخر باب حكم قول العلماء بعضهم في بعض).

(المقدمة/343)