نهاية المطلب في دراية المذهب

الفصل السابع منهج التحقيق وعملنا في الكتاب

(المقدمة/345)


منهج التحقيق وعملنا في الكتاب

عن التحقيق ومفهومه:
التزمت في تحقيق هذا الكتاب، المفهوم الدقيق لمعنى التحقيق، والمنهج الدقيق الذي قرره أئمة هذا الفن من العلماء والأئمة المعاصرين والأقدمين، وعلى رأسهم شيخي، أبو فهر الشيخ محمود محمد شاكر، شيخ العربية، رحمه الله وتقبله في الصالحين.
يقوم هذا المنهج على أصل واحد هو " إخراج الكتاب على الصورة التي أرادها له مؤلفه " فإذا لم يتيسر، أو بالأحرى إذا استحال ذلك، فليكن على أقرب الصور إليها.
وهذا ليس بالعمل الهين، بل هو الميدان حقاً، الذي بذل فيه العلماء من شيوخ هذا الفن وفرسانه جهودهم، وظهرت فيه آثارهم، نذكر منهم على سبيل المثال، لا الحصر، العلامة الشيخ نصر الهوريني، والشيخ الجليل محمد بن عبد الرحمن، المعروف بقطة العدوي، ومِنْ بعدهم شيخ العروبة أحمد زكي باشا، وأحمد باشا تيمور، والإمام محمد محمود التركزي الشنقيطي. والشيخ عبد الغني محمود، والعلامة محب الدين الخطيب.
وتبعهم في جيلٍ تال، العلامة المحدث الفقيه الأصولي الأديب الشيخ أحمد شاكر، وأستاذنا الجليل الأستاذ عبد السلام هارون، والعلامة الشيخ السيد أحمد صقر، والأستاذ محمد أبو الفضل إبراهيم، والأستاذ مصطفى السقا، والأستاذ إبراهيم الأبياري، وواسطة العقد، شيخي الجليل، أبو فهر الشيخ محمود محمد شاكر.
ثم تلا هؤلاء، أو جاء معهم الدكتور إحسان عباس، والدكتور ناصر الدين الأسد، وشيخ الشام أحمد راتب النفاخ، وأحمد بن محمد بن مانع، والشيخ حمد الجاسر.

(المقدمة/347)


ثم كان من الجيل الذي يليهم، أخونا المرحوم الدكتور عبد الفتاح الحلو، والصديق الكريم الدكتور محمود محمد الطناحي، برد الله مضجعه (1).
تذكَّر: قلتُ على سبيل المثال.
لم أذكر لك هؤلاء نافلة ولا تزيُّداً، وإنما لتوازن بين أعمالهم، وبين ما تطلع علينا به المطابع الآن من تحقيقات، يهولك منظرها، ويعجبك مرآها، وتقلِّب النص بين يديك، فتجد الفتى قد افتات على مؤلف الكتاب، وأثقل هوامشه إثقالاً بتعليقاتٍ لأدنى ملابسة، (كما يقولون) بل بدون ملابسة، وتجد النص الأصلي ممزقاً في رؤوس الصفحات، مبعثراً بين أرقام الهوامش، وتحاول أن تقرأ النص الذي هو موضوع الكتاب، وعماده ومَعْمُوده، فتجده غير مستقيم، به من خلل التصحيف والسقط ما به، مع فواصل، وعلامات، إن ساعدتك على قراءة النص مرة، تضلّك مرات ومرات، ويكابد الباحث ما يكابد، ويعاني ما يعاني، وهو يتخبط بين الهوامش وفروق النسخ، محاولاً إقامة النص، وفهم مراد المؤلف. وهيهات، هيهات.
لقد كنا نسعد كل السعادة، ونَهشّ ونَبَشّ حينما نسمع أن كتاباً من الأمهات، والمراجع قد طبع، ونقول: منارةٌ قد أضيئت، وطريق مُهّدت، وأقيم عليها الصُّوى.
أما الآن، فكلما سمعنا أن كتاباً قد خرج، نضع أيدينا على قلوبنا، وكم من باحث اشترى كتاباً من الكتب الأمهات المحققة، وذهب به فرحاً مسروراً، وأمضى الليل به حفيا، ولكنه في الصباح أرسل يردُّه إلى مَنْ باعه إياه، ثم أقبل إلى الطبعة القديمة من الكتاب يحنو عليها كالمعتذر لها، عن همه بالاستغناء عنها وهجرها إلى تلك الخلوب!!!
__________
(1) توفي رحمه الله في صباح يوم الثلاثاء، السادس من ذي الحجة (1419 هـ)، الموافق الثالث والعشرين من مارس (1999 م)، توفي فُجاءة، وهو في أوج عطائه، وأقصى توهُّجه، فانْهدّ بموته ركن من أهم أركان الثقافة العربية والإسلامية، وقبر معه علمٌ أي علم، وطويت بموته المدرسة الشاكرية، وقد كان رحمه الله حفياً بهذا الكتاب (نهاية المطلب)، يتمنى أن يراه مطبوعاً، ووجّه للعبد الفقير نداء في كتابه الفذ (مدخل إلى تاريخ نشر التراث العربي) يحثني على إخراجه، وكم كنتُ أتمنى أن أسعده بإهدائه أول نسخة تخرج من المطبعة.

(المقدمة/348)


نعم. كم من كتاب خرج بهذا التحقيق (العصري) مثقلاً بالحواشي والتعليقات، ينوء بما يسمونه التخريج والتوثيق، وأما النص -الذي هو عمل المحقق أصلاً- ففيه ما فيه من الخلل والاضطراب، فماذا تُغني هذه التعليقات إذاً!؟
ومن قبل تنبه علماء أجلاء، ومحققون أصلاء إلى هذه القضية، ونبهوا عليها، فها هو الشيخ عبد الله دراز يتحدّث عن عمله في تحقيق كتاب الموافقات، فيقول في مقدمته: " إنه إقامة النص، وتخليصه من التصحيف والتحريف "، ويسخر في مهارة وخفة من هذه التعليقات إياها، فيقول: " ولم أَرُمْ الإكثار في هذه التعليقات، وتضخيمها بالَّلم من المصنفات للمناسبات، بل جعلت المكتوب بمقياس المطلوب، واقتصرت على المكسوب في تحقيق المرغوب، إلا ما دعت ضرورة البيان إليه في النادر الذي يتوقف الفهم عليه " (1) اهـ.
وانظر كلام الميمني في منهج التحقيق عن إثبات الفروق والإسراف فيها: يقول الأستاذ عبد العزيز الميمني: " ... غير أني لم أنبه على أغلاط الأصل إلا على شيء نزر، رأيت في التنبيه عليه فائدة أو داعياً، وأغفلت منها قدراً جمّاً عدد الرمل والحصى، لأني لم أَرَ في ذكرها غرضاً غيرَ تسويد الكتاب، وتضييع أوقات القارىء فيما لا يجديه، وغير إبراز هوى النفس الأمّارة، المكنون في التحذلق والتفيهق، ورغماً لأنف من يستنكره عليَّ من نابتة العصر المتبجحين، فإني أرى -ولا كفران- أنه:
إذا رضيت عني كرام عشيرتي ... فلا زال غضباناً عليَّ لئامُها" (2)
ومن أسفٍ غاب هذا المنهج عن كثيرين، وراج عند الناس هذا المنهج الآخر، حتى إنك لتجد أحدهم يقلِّب الكتاب بين يديه، فإذا وجده مثقلاً مظلماً بالتعليقات، تزدحم حواشيه بأسماء المراجع والمصادر، وأرقام الأجزاء والصفحات، قال في إعجاب، وهو يضغط على ألفاظه: " هذا كتاب مخدوم "!!! للأسف راجت العملة الرديئة.
__________
(1) مقدمة الموافقات: 1/ 13.
(2) مقدمة سمط اللآلي، تأمل هذا الكلام، وغضبة الرجل على هذا (اللون من التحقيق).

(المقدمة/349)


لكن انظر عملَ (محمد أبو الفضل إبراهيم) في تاريخ الطبري، وعمل إحسان عباس في الوفيات لابن خلكان، وفي الفوات لابن شاكر، وعمل كبار المحققين وشيوخهم عامّة، تجد نصاً مستقيماً، لا تصحيف، ولا تحريف، ولا خلل ولا اضطراب، وتجد أن عمل المؤلف خلص له، فخرج كتابه على النحو الذي أراده، وبقي المحقق متوارياً خلف النص، لا يظهر قلمه إلا " فيما دعت ضرورة البيان إليه " على حد تعبير الشيخ الجليل عبد الله دراز، فنادراً ما تجد تعليقاً في تحقيقات هؤلاء الأعلام، ولكن حينما تعثر على هذا التعليق النادر تدرك أنه كان ضرورة اقتضاها إما استقامة العبارة وسلامتها، أو فهم المرمى والمغزى الذي يريده صاحب الكتاب.
وأستطيع أن أتخذ هذا مقياساً للحكم على هذه التعليقات وقيمتها، فكل تعليق يستطيع قارىء الكتاب ودارسه أن يقرأ كلام المؤلف، ويفهم مراده دونه، فهو نافلة، قد يكون حلْية وزينة، أو تحسينياً، كما يعبر الأصوليون، وقد يصل إلى أن يكون ثقلا، وغثاثة، وغتامة، أو مجلبة للضيق والغم.
هل من عذر لهؤلاء؟
نستطيع أن نميز بين هؤلاء طائفتين، طائفة تطلعت إلى سوق النشر، فرأتها ذات بريق، وضجيج وعجيج، ولها أعلام وبيارق، ووراءها قطوف وثمار، وعجزت أن تدخلها من أي باب، فلم تجد غير باب التحقيق، فولجت منه جهلاً واجتراءً، وذهولاً وغفلةً عن معنى التحقيق، ظانين أنه مجرد نقل من ورقٍ بالٍ عتيق، إلى ورق ابيضَ صقيل، وقد عبرت الدكتورة بنت الشاطىء عن عمل هؤلاء بقولها: " إنهم لم يقصدوا إلى شيء من النشر العلمي، ولا عنَّاهم أن يثقلوا على أنفسهم ببعض أعبائه وتبعاته، ولا أن يضبطوا أقلامهم بشيء من نظمه ومناهجه، وإنما اتخذوا النشر وسيلة ارتزاق فحسب، وجعلوا طبع المخطوطات تجارة، لا مجال فيها لتقدير حرمة النصوص، أو احترام أمانة العلم " اهـ بنصه (1).
__________
(1) تراثنا بين شرق وغرب -محاضرات ألقتها على الدارسين بمركز تحقيق التراث، بدار الكتب بمصر- مطبوعة على الآلة الكاتبة ص 6.

(المقدمة/350)


ولذلك لا تعجب إذا سمعت أن فلاناً أخرج كتاباً من عشرة مجلدات أو أكثر، في عام أو أقل. على حين تجد العلامة الشيخ محمود محمد شاكر أبا فهر يمضي زهرة عمره بمعاونة أخيه المحدث العلامة الشيخ أحمد شاكر في إخراج ستة عشر مجلداً من تفسير الطبري، لم تزد عن ثلث التفسير إلا قليلاً، حيث وقفت الأجزاء الستة عشر في أثناء تفسير سورة إبراهيم.
وتجد علاّمة الهند محمد حميد الله يقول بالحرف الواحد: " ... صرفت عشر سنوات في تصحيح نسخة الغياثي، وإعدادها للنشر" وهو كتاب من مجلد واحد (1).
ونجد الشيخ عبد الرحمن الخضري شيخ علماء دمياط، يقول عن كتاب البرهان في أصول الفقه، حينما عثر على نسخته المخطوطة: " ... فأخذته وأغثته، وجعلته في حضانتي، ووضعته في كفالتي، وشرعت أعالجه، وباللطف أمازجه، متأنياً بلا ملل، حتى زال معظم الخطر والخلل، ووضعت كل عضو منه في موضعه، فاستراح نوعاً، ولم يتجاف عن مضجعه، وأنفقت في إصلاحه سنتين، حتى صار قرير العين ... "
وكان من نعمة الله علينا -ونعمه لا تعد ولا تحصى- أن هيأنا لخدمة هذا الكتاب وإخراجه أيضاً، فأنفقنا في ذلك سبع سنين دأباً، وكنت أقول لمن يعجب من ذلك مستكثراً هذا الزمن: إذا كان شيخ علماء دمياط قد أنفق سنتين في ترتيب أوراقه، وقراءته، أكثير على من كان في مثل عجزي وضعفي وتقصيري أن ينفق سبع سنوات في قراءته، ونَسْخه، ومقابلته، والتعليق عليه، والتعريف به، وفهرسته وإخراجه؟
وحينما نجد أن الشيخ أحمد شاكر يقول: " إنه سلخ في تحقيق رسالة الشافعي نحو ثلاثة أعوام ".
حينما نجد ذلك أليس من حقنا أن نفزع لهذا السيل المتدفق من الكتب الأمهات، التي يبلغ كل واحد منها من المجلدات عدداً؟ ونسأل الله السلامة.
وبالنسبة لي شخصياً فقد عانيت من طول العمل في نهاية المطلب (علم الله)
__________
(1) كان لنا -بفضلٍ من الله وتوفيقه- شرف السبق إلى نشره.

(المقدمة/351)


لا متضجراً، ولا متمللاً، ولا متعجلاً. ولكن فقط سئمت السؤال: ألم تنته بعد؟.
وفي عيون بعض السائلين وراء التعجب شيء لا أدرك كنهه، وكأنهم يستكثرون، أو لا يصدقون أن ينفق باحث في كتاب واحد كل هذه السنوات التي فاقت الخمس والعشرين سنة.
والله وحده المستعان!!!
* وهناك طائفة أخرى من المحققين، لا تعوزهم القدرة، ولا ينقصهم حسن النية، ولكن أخرجهم عن المنهج القويم شعورهم بأن الناس من حولهم لا يقدرون قيمة عمل المحقق في قراءة النص، وإقامته، ورأوا الكتاب المحقق منشوراً باسم مؤلفه طبعاً، لا باسم المحقِّق، فخافوا أن يسألهم الناس أين أنتم؟ فانصرفوا إلى الهوامش يثقلونها بالحواشي، والتعليقات، وفروق النسخ، والمراجع والمصادر، ولسان حالهم يقول: ها أنذا. واشتغلوا بهذه التعليقات، وأكثروا، وتزيّدوا منها، حتى صرفتهم عن عملهم الأصيل، في إقامة النص، وسلامته.
وكان على هؤلاء أن يدركوا أن العلم عندنا دين، والعمل به عبادة، فلا يلتفتوا إلا إلى رضا الله سبحانه وتعالى، ويعلموا أن عمل المحقق وجهده الذي يصل فيه الليل بالنهار، دائماً خلف ستار، فهو دائماً متوارٍ في الظل خلف النص الذي يحققه، لا يراه الناس، ولا ذكر له عندهم.
ومن وفقه الله يسعد بهذا، ولا بأس عليه، ويحتسبه عند الله، مسروراً بأن لم يذكره أحد، فهو بذلك قد نجا بدينه من أحد الذئبين الجائعين اللذين حذر منهما المصطفى صلى الله عليه وسلم: " ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف (أي الشهرة) لدينه " حديث صحيح رواه أحمد، والنسائي، والترمذي وابن حبان في صحيحه، من حديث كعب بن مالك الأنصاري رضي الله عنه، كما رُوي من وجه آخر عن عدد من الصحابة، وقد عُني بشرحه الحافظ ابن رجب الحنبلي رضي الله عنه.

(المقدمة/352)


ورضي الله عن إمامنا الشافعي، فقد كان يقول: " وددت لو أن الناس انتفعوا بهذا العلم، ولم ينسبوا إلي منه حرفاً ".
وهذه سنة العلماء إلى يوم الناس هذا، فقد كتب الشيخ محمد أبو زهرة رحمه الله، يقول: " ... إنا لا نكتب بحمد الله ليقال: بحث واستقصَى، واستوعب وأحصَى، ولم يترك صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، بل نكتب ما نكتب لنسد فراغاً، ولينتفع بما نكتب أهل العلم، إنْ واتتنا القوة لسد الفراغ، وأسعفنا التوفيق من الله، وجعل من كلامنا ما ينفع الناس" ولقد أشار رحمه الله إلى من أشرنا إليهم آنفاً، فقال: " ولقد وجدنا علماء أفاضل من قبلُ ومن بعد يُعْنَوْن أشد العناية بأن يشعر القارىء عند قراءة ما يكتبون بعظيم جهدهم، فيذكروا للمسألة الواحدة، أو للخبر الواحد مصادر مختلفة، ما بين مخطوط ومطبوع .... ولقد نهج ذلك المنهاج المتكلف شبابنا الذين يكتبون، فظنوا أنه كلما عُني أحدهم بالإكثار من المصادر، كان ذلك دليلاً على أنه يفهم نظام البحث الحديث، وأنه مجدد فيما يكتب ... ".
ومع كل ذلك. دائماً لا يصح إلا الصحيح، وأبداً لا يذهب العرف بين الله والناس، فيبقى للمحقق -إن أخلص لله عمله- مع ثواب الله وأجره، تقدير العلماء الأصلاء، والباحثين الصادقين، وتبقى النصوص العلمية التي نفض عنها غبار الزمن، وجفَى وجهَها للناس، تبقى هذه النصوص هي المادة التي يشكِّل منها العلماء أعمالهم، والتِّبر الذي يصوغ منه الباحثون جواهرهم، ودُرَرَهم.
***

(المقدمة/353)


ملامح المنهج
وإذا كنا نستطيع أن نعبر عن كنه التحقيق ولُبِّه في جملة واحدة، فيمكن أن نقول:

" التحقيق إقامةٌ وإضاءة "
نعني بذلك إقامة النص، صحيحاً سليماً مستقيماً، لا تصحيف، ولا تحريف، ولا عِوَج، ولا اضطراب، ولا قلق، ولا خلل.
ونعني بالإضاءة إيضاح ما أبهم من لفظ أو عبارة، بسبب غرابة في المفردات، أو دقةٍ في الصياغة، أوخفاءٍ في المعنى المراد.
إذا كان هذا هو التحقيق، فما الخطوات التي تحقق ذلك.

أولاً: نترك الحديث عن الخطوات الأولية، التي تتعلق بما يمكن أن نسميه الإعداد للعمل، ونعني بها:
• جمع نسخ المخطوط جمعاً مستقصياً من جميع مكتبات العالم (المراد صورها طبعاً).
• جمع ما يتصل بهذا المخطوط من شروح، ومختصرات، مطبوعة ومخطوطة كلما أمكن ذلك.
• الحصول على مؤلفات صاحب المخطوط مطبوعة أو مخطوطة.
• الحصول على مؤلفات شيخ صاحب المخطوط التي في الموضوع نفسه، مطبوعة، أو مخطوطة قدر الطاقة.
• الحصول على مؤلفات تلاميذ صاحب المخطوط التي في الموضوع نفسه، مطبوعة، أو مخطوطة إذا احتاج الأمر، أو تيسر ذلك.
• البحث عن الكتب الأمهات في موضوع المخطوط، والتي هي مظنة النقل عنه.

(المقدمة/354)


• إعداد مراجع مناسبة في موضوع الكتاب المراد تحقيقه، مطولة ومختصرة.
• هذا بجانب المراجع العامة المعروفة، من معاجم لغوية، وكتب الطبقات، والأعلام، ...
• ترقيم صور المخطوطات إن لم تكن مرقمة، وفهرستها على التوازي، بمعنى أن يجمعها كلها فهرس واحد يبين أين يقع الموضوع المطلوب في كلِّ منها.
• قراءتها قراءة سريعة، للتحقق من تسلسلها، وعدم تشويش ترتيبها، وحصر مواضع الخرم إن كان.
• تقسيم النسخ بحسب الجودة إلى فروع، وأمهات، واختيار الأصل من بينها.
• نَسْخ المخطوطة، وإعدادها للعمل.
هذه أهم الخطوات الأولى، وتركُ الحديث عنها ليس تهويناً لشأنها، فهذه المرحلة تحتاج إلى جهد ودأب، ومعرفة بمظان المخطوطات وفهارسها، ثم السعي في تصويرها.
وهذا عمل شاق يؤود الباحث ويرهقه، وبخاصة في عالمنا هذا، حيث الجهات والمراكز التي تمتلك المخطوطات، وصورَها تضنّ بها ضناً، ولا تسمح بها إلا بعد التي والّلتيا -إن سمحت- ويظل الباحث يدأب ويسعى ويتابع بكل وسيلة، حتى يحصل على بغيته -إن حصل عليها- بعد زمان، يصل أحياناً إلى سنوات، ما بين طلبٍ ضائع، وآخرَ مرفوض، وثالث مشروط بالتبادل، ورابع مقبول تحول دون إجابته الإمكانات.
مما يضطر الباحث أحياناً إلى ركوب (الصعب)، وأحياناً إلى تدبير رحلة إلى أكثر من دولة، حيث خزائن المخطوطات التي يتوقع طلبته فيها، وقد يعود من بعضها بلا شيء، ليواصل البحث عن دروب أخرى. وبخاصة عندما يكون النص المراد تحقيقه من عدة مجلدات، كما هو واقعٌ معنا في كتابنا (نهاية المطلب). فقد بلغت نسخ الكتاب أكثر من عشرين نسخة، تعاونت جميعاً بالكاد على تكوين نص الكتاب، وكانت هذه النسخ مبعثرة بين مكتبات العالم من شرقٍ وغرب، وشمال وجنوب.

(المقدمة/355)


فلنترك هذه المرحلة، فالحديث عنها يطول، ولكن أمره مفهوم. إن شاء الله.

ثانياً: خطوات العمل (1):
الواجبات التي يجب أن يلتزم بها المحقق، والصفات التي يجب أن يتحلى بها:
1 - رعاية حرمة النص:
وأولها أو مِلاكها الذي تتفرع عنه كل الصفات، هو رعاية حرمة النص، فالمحقق يتكلم إلى الناس بلسان صاحب الكتاب، فعليه أن يتأنى، ويتريث، ويتلبث، حتى لا يُنطق الكتاب بغير ما قاله صاحبه، فهذا يكون كذباً وتزييفاً، والعياذ بالله.

2 - العلم والإحاطة بالفن موضوع الكتاب الذي يحققه:
أن يكون على علم ودراية بالفن الذي يحقق فيه، أي بالفن الذي هو موضوع الكتاب الذي يحققه، فإن كان يحقق كتاباً في أصول الفقة يجب أن يكون على علم بأصول الفقه، ودراية به، تتيح له القدرة على قراءة النص الذي يحققه، ولو مستعيناً بقراءة أصول الفقه مسألة مسألة في مرجع آخر، واستحضارها قبل أن يقرأ النص المحقق.

3 - العلم والدراية بالمصطلحات:
أن يكون على علم ودراية بمصطلحات الفن موضوع الكتاب الذي يحققه، فعدم العلم بهذه المصطلحات وإلْفها باب واسع من أبواب الخلل والخطر، والمحقق الثقة، والذي يعرف للنص حرمته، إذا تعذر عليه شيء من ذلك يتوقّف، مثل ما حدث من الدكتور عبد الله الجبوري في تحقيقه لكتاب طبقات الأسنوي، ففي ترجمة
__________
(1) توثيق نسبة النهاية إلى مؤلفها:
يقتضي المنهج وقواعد الصناعة أن يقوم المحقق بتوثيق نسبة الكتاب المحقَّق إلى مؤلفه، مع أن ذلك في كتابنا هذا يعتبر من نافلة القول، فقد بلغت نسبة هذا الكتاب إلى إمام الحرمين حدّ التواتر الذي يوجب العلم الضروري، فمحاولة الاستدلال على ذلك ضربٌ من التزيد لا معنى له.
وخضوعاً لصرامة المنهج وضعنا هذه الحاشية؛ حتى لا يدّعي علينا مدّعٍ أننا قصرنا في حق المنهج، ولم نلتزم بقواعده.

(المقدمة/356)


الإمام أبي بكر المحمودي، ورد قولُ الإسنوي: " ذكره الرافعي في مواضع منها: في الحيض في الكلام على (قَوْلَيْ السَّحْب واللَّقْط) " (1) اهـ.
فأشار المحقق في الهامش قائلاً: كذا وردتا في الأصول. أي أنه متوقف في قراءة الكلمتين وحسناً فعل، فدل على علمه وخلقه، فهناك من يغيِّر ما لا يفهم، أو يفسره تفسيراً خاطئاً، يسد على القارىء الأبواب.
وهذا الكلام وجدته في (النهاية) عن أبي بكر المحمودي فعلاً، وهو عن حكم التلفيق لمن تتداخل أيام حيضها وأيام طهرها، وهل (تلقُط) أيام حيضها وتجمعها، وتعتبر الباقي طهراً، أم (تَسْحَب) حكمَ الحيض على أيام النقاء بين الدمين؟ في تفصيل طويل، وخلاف بين الأصحاب، يراجع في مظانه.
ومما يستحق الإشارة هنا أن المصباح المنير، لم يذكر أيّاً من اللفظين (السَّحْب واللَّقط) مع أنهما من ألفاظ الشرح الكبير، فلعل صاحبه رضي الله عنه، لم يعتبرهما من الغريب. كما لم أجدهما في أنيس الفقهاء، ولا حلية الفقهاء، ولا كشاف اصطلاحات الفنون، ولا التعريفات، ولا الكليات، ولا في المعاجم أيضاً.
وربما كان أخصر مثال نذكره هنا للخطأ الذي وقع نتيجة لعدم الإحاطة بالمصطلحات، هو ما ذكره أحدهم عن المعتزلة، وأنهم يقولون بالتعديل والتجويز (بالزاي المعجمة).

4 - ألاّ يعتمد على إِلفْه ومعتاده من أساليب اللغة ومفرداتها، فيخطِّىء ما عداها، فكم من صواب أصيل غير معروف ولا مألوف لنا، والأمثلة على ذلك كثيرة منها: ما كان معنا في (نهاية المطلب)، فقد جاء في باب مسح الخف قوله: " فلو كان شيء من محل الفرض بادياً، فلا يجوز المسح أصلاً. ولا يضر بَدْوُ القدم من أعلى الخف، بسبب اتساع الخف، فالستر المرعي فيه هو الستر من أسفل الخف والجوانب ".
فلفظ (بَدْو) جاء بهذا الضبط في نسخة الأصل، وهو بمعنى الظهور، مصدر بدا
__________
(1) طبقات الإسنوي: 2/ 377.

(المقدمة/357)


أي ظهر. ولكن المسموع المشهور في مصدر بدا بمعنى ظهر (بُدُوّاً) و (بداءً).
ورعاية للتثبت والتوقف راجعت المعجم الوسيط، والمصباح المنير، ومختار الصحاح، فوجدت أن تقديري صواب، وأن هذا الضبط في المخطوط خطأٌ من الناسخ، فالفعل مصدره المنصوص في المعاجم الثلاثة بُدُوّاً وبداءة، فقمت بتصويب النص، وغيرته إلى (بُدُوّاً)، وحرصاً على حرمة النص، واحتراماً للضبط الموجود في المخطوطة، قمت بالتعليق في الهامش، وتسجيل هذا التغيير، وسببه، والمعاجم التي استندتُ إليها. وانتهى الأمر.
ولكن في مراجعة ثانية -وما أكثر المراجعات- حاك في الصدر شيء، فراجعت القاموس المحيط، فكانت المفاجأة الكبرى، إذ وجدت الأصل صحيحاً، والتغيير الذي قمتُ به عدوان على النص، حملني عليه قصور المعاجم الثلاثة التي راجعتها، حيث اكتفت بذكر بعض مصادر الفعل (بدا) دون بعضها. أما الفيروزآبادي، فقد قال في القاموس: " بدا بَدْواً، وبُدُوّاً، وبداءة: ظهر " فأورد الوزن الذي ظننته خطأ أوّل أوزان المصدر، وردني عن التغيير الذي قمت به، مخطِّئاً ما كان صواباً.
مثال ثان: وردت هذه اللفظة عند إمام الحرمين في النهاية أيضاً: " وفي بيع بزره خلاف " وردت لفظة (بزر) بالزاي، والمشهور المتداول (البذر) بالذال.
فهنا يسرع المحقق إلى تغييرها، وكتابتها (بالذال) عملاً بالمنهج المعروف.
وأعني به: " الكتابة على القواعد الإملائية المعهودة، بدون التنبيه إلى ذلك في الهامش ". ولكني توقفت وتريثت، وساءلت المعاجم، فإذا بالفرق واضح لائح، فالبذر بالذال في الحبوب كالحنطة والشعير ونحوها.
والبزر بالزاي في الرياحين والبقول. وأما الضبط، فالباء مع الذال مفتوحة لا غير، ومع الزاي، بالفتح والكسر.
وهنا أفاد التريث، والتوقف، فرأيت أن ما في المخطوط صواب، وكادت الواقعة تقع بتخطئته.
وعندي من هذا الباب عشرات الأمثلة.

(المقدمة/358)


5 - كذلك على المحقق ألا يعتمد على مألوفه من قواعد اللغة: نحوها وصرفها، فيسارع بتغيير ما يراه مخالفاً لما علِمه أو تعلّمه، بل عليه أن يتأنى، ويتوقف ويراجع كتب اللغة، فإن لم يجد عندها الجواب، فعليه أن يسأل علماء اللغة وأساطينها. وفي كل الحالات إذا لم يجد وجهاً لما في المخطوط، وانتهى الأمر بعد المراجعة والمباحثة إلى تغييره، فيجب أن يثبت ذلك في الهامش بوضوح، ذاكراً المراجع والمحاولات التي قام بها. فقد يصل باحث آخر فيما بعد إلى وجه من الصواب لهذا الذي غيره.
وأمثلة ذلك كثيرة منها:
قال صاحب المخطوط: وهو يتحدث عن فرائض الوضوء: " أما الفرائض، فست " فجاء المحقق، فغيرها إلى " فستة " وعلق في الهامش قائلاً " لا يصلح ست من حيث اللغة ". نظر في ذلك إلى أن المعدود مذكر (فرض)، ولذا يجب تأنيث العدد معه. وهذه قاعدة مشهورة. ولكنه لو توقف قليلاً وراجع كتب اللغة القريبة، لوجد أن المعدود إذا تقدم، تجوز الموافقة في التذكير والتأنيث، وعليه فإن المخطوط كان صحيحاً. والذي خطَّأ الصواب هو المحقق.
مثال ثان: وهو مما عانيته في (نهاية المطلب) قال إمام الحرمين: " أما من حكم بالانتقاض مطلقاً، لم يجعل للشرط موقعاً ".
فها أنت تراه أسقط الفاء في جواب " أما " وهنا توقفت، وتأنَّيتُ، وتلفت أبحث عن المراجع النحوية، فأسعفتني الذاكرة بما كنت قد قرأته قريباً عن الشيخ محمد بخيت بن حسن المطيعي، أحد شيوخ الأزهر وأعلامه ومفتي الديار المصرية في زمانه، وقد كان في مناظرة يتدفق بالدفاع عن رأيه، فقاطعه أحد شهود المناظرة من معارضي رأيه، قائلاً: أسقطت الفاء في جواب " أما " فأجابه الشيخ على البديهة.
" الاستغناء عن الفاء في جواب " أما " لغة الكوفيين، فافهم يا بصري ".
وهنا طبعاً عرفت صواب ما لم يكن مألوفاً لي صوابه، ووجدت هذه إحدى خصائص لغة إمام الحرمين، فقلما يأتي بالفاء في جواب " أما ".
ومثال ثالث: من (نهاية المطلب أيضاً): كثر في عبارة الإمام تكرار (بين) مع الاسم الظاهر، من مثل قوله: " والفرق بين البيع وبين الهبة " والمعروف المشهور أن

(المقدمة/359)


هذا لا يجوز إلا مع الضمير، حينما تتحدث عن علي وإبراهيم مثلاً، ثم تقول: " والفرق بين علي وبينه " فحينئذ فقط يجوز تكرار لفظ (بين). هذا هو المشهور الذي نعرفه، وعليه شواهد من الشعر والنثر، لا نطيل بإيرادها.
ولكني توقفت أيضاً، وبحثت حتى أعياني البحث، وأنا موقن أن للأمر -لا شك- وجهاً في اللغة، فمحال أن تجتمع عدة نسخ في عدة مواضع على هذا التعبير، ويكون خطاً، وظللت أسائل من أتوقع عنده العلم من أهل اللغة، حتى أفادني بعضهم ممن له إلف بالأساليب القديمة بأن ذلك وارد في كثير من النصوص، وجائز، ثم دلني على موضعه من كتب اللغة، فنبهتُ في الهامش على صواب عبارة المخطوط، حتى لا ينسبنا أحد، إلى الذهول عن هذا الخطأ، وحتى أفيد من يطلع على المخطوط بعد ذلك، علماً جديداً بصحة هذا التعبير، وبالطبع أسندت ذلك إلى المرجع. أما أخونا عالم اللغة الذي ساعدنا، فسيكون ذكره في مقدمة الكتاب مع قائمة العلماء والخبراء والباحثين الذين أفادونا بعلمهم، وساعدونا بجهودهم.
ولإمام الحرمين عدة خصائص أسلوبية أضنانا بالبحث عن تخريجها، والتأكد من صوابها، سيكون بيانها في الجزء الخاص بالفهارس -إن شاء الله تعالى- فنكتفي منه بهذين المثالين.
- قارن هذا العناء بمثال آخر: قال صاحب المخطوط: " ... فإن (قَدِموا) على هذا الفعل، وجب عليهم كذا ... الخ ".
فغيرها المحقق، فصارت فإن أقدموا .. ثم في الهامش علق قائلاً:، " الأصل: قدموا، والصواب أقدموا كما هو معروف " اهـ بنصه.
فهنا استسلم المحقق لمألوفه ومحصوله اللغوي، وخطَّأ المخطوط، وغير لغة مؤلفه، وتحكم فيها بلغته هو، وقصَره وحصره على ما يعرفه هو من اللغة.
والواقع أن قَدِم بمعنى أقبل، منصوصة في أقرب المعاجم إليه لو أراد التثبت والتحقق، جاء في المعجم الوسيط: قدِم على الأمر يقدَم قدوما: أقبل عليه، ولكنها العجلة، التي ستجعلنا نتكلم لغة جديدة، وننطق أئمتنا بلغة غير التي كانوا يتكلمون بها.

(المقدمة/360)


- ومثال آخر أعجب من هذا، جاء في أحد كتب السيرة النبوية، على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى السلام الحديثُ المعروف المتفق عليه: " إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، لا (يكسِفان) لموت أحد، ولا لحياته ". فإذا بالمحقق يغيرها إلى (ينكسفان) قائلاً: في الأصل (يكسفان).
واعجب معي لماذا غيرها؟ لم يقل لنا!! واللفظ وارد في حديث شريف، لماذا لم يرجع به إلى مصدره في الصحيحين أو أحدهما إذا لم يعجبه لفظ (يكسفان)؟.
وبعمله هذا أوهمنا أن (يكسفان) من الأخطاء اللغوية التي يصار إلى تصحيحها من غير بيان السبب أو المصدر. مع أنها واردة في نص الحديث.
ولكن أتاه كل هذا الخلل من صفتين: الجرأة، والاعتماد على محصوله ومعلومه من اللغة.
وهذا المحقق نفسه، وفي الموضع نفسه، من الكتاب نفسه، يقول الكتاب: " كَسَفت الشمس يوم وفاة إبراهيم بن المصطفى صلى الله عليه وسلم، فيضبطها (كُسِفت)، بضم الكاف وكسر السين، مجانباً الصواب المحفوظ في القرآن الكريم: " فإذا برق البص وخَسَف القمر " ولكنها الجرأة والعجلة.
أكتفي بهذه الأمثلة في هذا الباب وعندي منه -على جذاذات- ما يملأ مجلداً كاملاً، تجمَّع لدي من طول معاناتي، ومطالعاتي، فأخذت أدون وأسجل. وفي النية -إذا نسأ الله في الأجل- أن نخرجه، مدققاً موثقاً، مبيناً أسماء الكتب التي وقع فيها هذه الأوهام، ليكون استدراكاً وتصحيحاً، وإنصافاً لأئمتنا، أصحاب هذه الكتب، وتدريباً وتنبيهاً لأبنائنا الشُّداة المبتدئين، عسى أن يكون في ذلك فائدة لهم.

6 - الحذر من التصحيف والتحريف:
وهذا في الحقيقة أُسُّ العمل وصلبه، ودواعيه كثيرة، وأبوابه متعددة، ولا منجى منه إلا بتوفيق الله سبحانه وإلهامه الذي يهبه لمن يشاء، كفاء إخلاصهم، وصبرهم ومصابرتهم، ومثابرتهم. فكم من كلمات تهجم العين عليها، فتقرؤها قراءة خاطئة، وكم من كلمات يصحفها الناسخون.

(المقدمة/361)


وأحياناً تكون الكلمة مع تصحيفها وتحريفها تتوافق مع السياق والسباق على نحوٍ ما، ولكن المحقق المتأني المتريث، مع دُربته وتذوقه يدرك أن فيها نوعاً من القلق.
فيظل يدير العبارة على أنحاء من القراءة، ويدير الكلمة على أنحاء من الصور، متأملاً، متأنياً بلا ملل، مستبصراً مستلهماً إلى أن يصيح: وجدتها. ودائماً سبحانه وتعالى لا يضيع أجر من أحسن عملا. وعندي من الأمثلة التي عانيتها مع شيخي إمام الحرمين (في نهاية المطلب) المئات من الأمثلة النادرة العجيبة، وقلما يمر يوم من غير أن يحدث شيء من هذا، ولكن عن الغرائب والنوادر نتكلم.
فمن ذلك: جاء في النهاية تعليقاً على الاستدلال لبعض القضايا، قوله: " وهذه الأدلة تتعلق ببحورٍ لا (تنكر) من قضايا أصول الفقه " هكذا في نسخة الأصل، تنكر وفي النسختين المساعدتين متسع بعد الكاف يجعلها قابلة لأن تقرأ: لا (تكسر) من الكسر (مع ملاحظة أن المخطوطات لا تنقط إلا بعض الحروف، بل أحياناً لا تنقط أصلاً).
وقفت أمام العبارة، والمعنى على الجملة مفهوم، والسياق مستقيم، ولكن ما هكذا يكتب الأئمة الأقدمون، فعبارتهم مشرقة، وأسلوبهم مضيء، والكلمة (تنكر) هنا قلقة غير مستقرة، وكأنها رقعة من نسيج سخيف في ثوب محكم النسج، فما قيمة وصف البحور بأنها لا تنكر أو لا تكسر؟. ولكن ما الحيلة؟ انتهى الأمر.
ولكن ظللت قلقاً مع قلق اللفظة (تنكر)، وصرت أعود إلى الموضع مرة بعد مرة؛ أحاول أن أدرك موضع الخلل، وذات مرة من هذه المراجعات، أخذت أتصور حروف الكلمة بكل ضبط، وبكل نقط، وأحاول أن أقرأ، وأستعين بالمعجم، فقلت من باب إبراء الذمة أجرب مادة: ن. ك. ز (نكز)، بالزاي، وأخذت أقرأ: وكان العجب: نَكِزت البئرُ: قلّ ماؤها، وأنكز البئرَ: أنفد ماءها. فترجح عندي أن الكلمة هي (تنكز)، وبحور لا تنكز: أي لا تنفد، وهذا هو المناسب، فالبحور توصف بأنها نفدت أو أنفدت. وعندي من هذا أمثلة كثيرة اكتفي بالإشارة السريعة إلى آحاد منها. مثل:
قال الإمام: " ... فلا يضر تعرض البيع للنوى" هكذا وقد يمر عليها المحقق مر

(المقدمة/362)


الكرام، فالسياق على نحوٍ ما مستقيم، والكلام في البيع. و (النوى) مما يشتمل عليه المبيع، ويباع تبعاً من غير تعرّضٍ له، وانتهى الأمر.
ولكن معايشة النص، والوعي الكامل بالسياق، والموضع الذي فيه الكلام، يشعر بأن هنا فجوة، ومع التأني والتلبث والتريث، وسؤال الله من فضله، وَمَضَ النصُّ وَمْضةً كشفت عن الصواب، فإذا هو: " فلا يضر تعرض المبيع للتوى " فتصحفت كلمة المبيع إلى البيع، وكلمة (التوى) بمعنى الهلاك، إلى النوى.
ومثال من التصحيفات التي رأيتها في كتاب الاستيعاب لابن عبد البر، قوله، وهو يترجم لعبد الرحمن بن أبي بكر الصديق: " ويقال: إنه لم يدرك النبي صلى الله عليه وسلم أربعة ولا أب وبنوه، إلا أبو قحافة، وابنه أبو بكر، وابنه عبد الرحمن بن أبي بكر، وابنه أبو عتيق محمد بن عبد الرحمن ". اهـ
فقوله: " لم يدرك النبي صلى الله عليه وسلم أربعة ولا أب وبنوه " كلام غير مستقيم، ولا مدلول له، والسبب في ذلك تصحيف ظريف خفيف عند قراءة النص المخطوط. وذلك أن كلمة: " ولا أب وبنوه " صوابها: وِلاءً: أبٌ وبنوه. ولكن لما كانت المخطوطات القديمة لا تهمز الممدود، بل ولا غير الممدود، فصارت كلمة: (وِلاءً) (لا) النافية وقبلها (و)، وبهذا التصحيف استغلق الكلام.
فالمعنى: لم يدرك النبي صلى الله عليه وسلم أربعةُ أجيال متوالية من أب وأبنائه إلا أبو قحافة وأبو بكر، وعبد الرحمن بن أبي بكر، ومحمد بن عبد الرحمن.
رضي الله عنهم أجمعين. وهكذا ضاعت الهمزة، فجعلت اللفظة لفظتين، واضطرب السياق.

7 - ضبط الغريب والمشكل، وتفسيره:
وهذا أيضاً مثل كل عمل المحقق يحتاج إلى اليقظة، والدقة، وعدم الاعتماد على المعروف لديه، المعلوم عنده. وليس المطلوب ضبط الغريب الذي يحتاج إلى تفسير فقط، ولا المشكل الذي يُشكل إعرابُه فقط، بل المراد إضاءة النص، بضبط اللفظ الذي يساعد على فهم المراد، وإقامته بضبط بنية الكلمة التي قد تنطق خطاً، مثل بعض

(المقدمة/363)


الأسماء، والأفعال غير المألوفة، والمشتقات التي كثر فيها الخطأ (أسماء الفاعل، والمفعول، والآلة ... ) وكذا عين المضارع الثلاثي، فقد يبدو أن ذلك سهل ميسور. {وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ} [النور: 15].
وأقرب مثال لذلك كلمة (وِلاء) بمعنى الموالاة والتتابع التي وردت في المثال السابق، يتبادر إلى الذهن ضبط أولها (الواو) بالفتح والصواب بالكسر: وِلاء: أما بالفتح، فهي بمعنى: النصرة والموالاة.
مثال ثان:
جاء في (نهاية المطلب) قولُ الإمام في سبب المنع من السَّلَم في النَبْل: " إنه التركُّب من أركانٍ: الخشب، والعقب، والريش، والنصل في مكان الرعظ " فكيف نضبط هذه الكلمات، مع ملاحظة عدم الوفاء بالنقط؟ كيف نضبط لفظة (الرعظ) بل كيف نرسمها؟ (هل هي بالراء أم بالزاي، بالعين أم بالغين، بالطاء أم بالظاء).
من هنا كان لا بد من البحث في المعاجم عن كل صور الكلمة: ر. ع. ط، ز. ع. ط، ر. غ. ط، ز. غ. ط، ر. ع. ظ ... الخ كل الصور.
وأخيراً وجدناها في مادة: ر ع ظ، فهي من الفعل رعظ يرعظ (باب فتح): رعظ السهم إذا جعل له رُعظاً. والرُّعْظ مدخل أصل النصل، أو الثقب الذي يدخل فيه أصل النصل.
وفي العبارة السابقة أيضاً نجد كلمة (العقب): يتبادر إلى الذهن أنها العقب بفتح وكسر. ولكن عند البحث في مادة الكلمة نجد هذا غير مراد، والكلمة بهذا تكون خطأ ضبطاً ومعنىً. وإنما المقصود هنا: العَقَب بفتحتين. وهو العصب تصنع منه الأوتار.
وكم عنَّاني شيخي إمام الحرمين مذ عرفته، بمثل هذه الألفاظ والكلمات.
رضي الله عنه، ونفعنا بعلمه، وأعاننا على أداء واجبنا نحوه.
• وبعد الضبط يأتي تفسير الغريب، وهنا ذكاء المحقق وفطنته، فلا يجوز أن يسرف في تفسير وشرح ألفاظ، إذا غمضت على العامة، فهي ليست بغامضة على من

(المقدمة/364)


يتعاطَوْن الفن الذي فيه الكتاب المحقَّق، فعليه أن يكون قادراً على تمييز واختيار ما يفسِّر، وما يترك لفطنة القارىء ومعرفته.
ويسرف أحياناً بعض المحققين في هذا الباب حتى يصل الأمر إلى ما يشبه العبث، فحينما يحقق أحدهم كتاباً من عيون التراث، فيفسر كلمة (حضانة)، ويسمح لقلمه أن يسجل في الهامش: حضن الطائر بيضه حضانة: أي رقد عليه حتى يفرخ!! ألا يستحق التعزير على ذلك؟
والأدهى من ذلك أن أحدهم يتصدى لتفسير ألفاظ، قد لا يكون فيها نوع غموض، ويترك ألفاظاً غير مأنوسة ألبتة.

8 - علامات الترقيم:
وهذا في الواقع روح العمل، وقوامه، فوضع هذه العلامات -لا شك- فرع فَهْم المحقق للنص، وآيةُ حسن قراءته، وتمام إقامته، وهي بعد ذلك مُعينة وهادية للباحثين، والدارسين، والعلماء الذين سيطالعون النص من بعدُ.
فعلى المحقق أن يتعهد مقاطع الكلام، ويميز بينها، بواسطة هذه العلامات: الفصلة، والنقطة، والشرطة ... ونحوها. ويضع كلاًّ منها في موضعه المناسب، ويرتبط هذا على نحوٍ ما بالضبط، فعندما يميز المحقق بين الواو العاطفة، والواو المستأنفة، فعليه أن يضبط ما بعد الواو المستأنفة، إضاءة للنص، وقطعاً لوهم من يتوهم العطف، فيضرب في بيداء التيه، ويقع بعيداً عن مراد المؤلف ومرمى كلامه.
وكذلك رعاية المسائل، وتمييزها بعضها عن بعض، ثم فروع كل مسألة في داخلها، وتقسيمها إلى فقرات، ووسيلة المحقق إلى ذلك: النقطة علامة تمام الكلام، والبدء من أول السطر، ثم البدء من أول السطر مع ترك مسافة، أو مسافتين، أو وضع علامة الانتقال إلى موضوع جديد.
كل ذلك (التنسيق) مسؤولية المحقق، وآية قدرته على أداء أمانة التحقيق التي قلنا: " إنها إقامة وإضاءة ".
وكم من عبارة انقلب معناها إلى معنىً مغايرٍ تماماً، بسبب هذا الخلل في وضع

(المقدمة/365)


نقطة أو فصلة. والأمثلة على ذلك كثيرة، وفيها من العجائب والغرائب ما لا يخطر على بال.
وسأكتفي بمثال واحد مما عانيناه في (نهاية المطلب). جاء في قوله عن موجب القتل العمد، وهل هو القود؟ أم الدية، أم الواجب أحدهما على البدل. قال:
" وشبب بعض أصحابنا بتخريج القولين على قولنا موجب العمد القود فإن المالية ثابتة ضمناً ولهذا قلنا مستحق القصاص ـ رحع إلى المال دون رصا من عل ـ هـ القصاص وـ س ـ ـ المال ـ فوا ـ محل ال ـ صاص وـ عد ال ـ ر ـ ـ ـ الحامع للطر ـ |ن ـ ـ ال فى الحا ـ ى حطا قولان وفى الحا ـ ى عمدا على قولنا الموح ـ احدهما لا ـ ع ـ ـ هـ قولان مر ـ ـ ان فالاولى الحوار لان المال عـ ـر مـ ـحرد ولا مـ عس "
(لاحظ أننا كتبنا العبارة وخاصة السطرين الأخيرين بدون فواصل، ولا نقط تقريباً شبه كتابة المخطوطات).
وهنا أخدنا نحاول إقامة السطرين الأخيرين، وقلبنا الأمر على كل وجه، فلم نستطع أن نصل إلى قراءة نطمئن إليها، فأخذنا نرجح أن في الكلام سقطاً، وبدأنا (نجرب) زيادة كلمة هنا أو هناك، حتى كدنا نستقر على هذه القراءة: " ... ويثبت المال بفوات محل القصاص، وبعد الترتيب الجامع للطرق، (يمكن) أن يقال: في الجاني خطأً قولان، وفي الجاني عمداً على قولنا: الموجب أحدهما ... إلخ.
وكدنا أن نطمئن إلى ذلك وحُلَّت المشكلة بزيادة لفظة (يمكن)، وانصرفنا عن المسألة، ولكن حائكاً ظل يحوك في الصدر، كيف تتفق النسخ الثلاث على هذا السقط؟ ولكن ما الحل؟ وظللت أعود للمسألة مرة بعد مرة، وتركت المكتوب المحقق، وأتأمل في المخطوطات ذاتها، وفجأة سطعت الفكرة، تجلياً من الله على عباده، فصحت الله أكبر. وصار النص واضحاً صريحاً صحيحاً، لا سقط، ولا خرم، وإنما هو الوقف والابتداء. وهذه هي القراءة الصحيحة: " ... ولهذا قلنا: مستحق القصاص يرجع إلى المال دون رضا من عليه القصاص، ويثبت المال بفوات محل القصاص.
وبعدُ. الترتيب الجامع للطرق أن يقال: في الجاني خطأً قولان، وفي الجاني عمداً على قولنا: الموجب أحدهما لا بعينه قولان مرتبان، والأولى الجواز، لأن المال غير متجرد ولا متعين ... ".

(المقدمة/366)


فها أنت ترى أن حل هذه المشكلة المستعصية كان في إدراك مقطع الكلام، ومعرفة (الواو) وبعد. فهذا الاستئناف، والانقطاع والإضراب عما قبله، جعلنا نقرأ الكلام مستقيماً، لا حاجة فيه إلى تقدير سقط أو خلل.

9 - الترجمة للأعلام:
وهذا أيضاً مجال يعتمد على ذكاء المحقق وألمعيته، فليس كل ما يقرؤه المحقق عن العلم المترجم له يكتبه، فما أيسر هذا، وأقربه، ولكن على المحقق أن ينظر أولاً إلى الجانب الذي يتعلق بالفن الذي يحقق فيه، فإذا كان النص المحقق في الفقه مثلا -والعَلَم في كثير من الأحيان له عدة جوانب عرف بها- فعلى المحقق أن يعنى بتعريفه من الجانب الفقهي، شيوخاً، وتلاميذَ، وكتباً، وتأثراً وتأثيراً، وذلك في إيجاز شديد.
وهذا الإيجاز هو العمل الصعب حقاً، وهو الذي يدل على قدرة المحقق، وفنه.
كما يجب على المحقق أن يفرق بين الأعلام الذائعة المشهورة، والأعلام غير المعروفة، فيوجز في ترجمة الأولى أكثر من إيجازه في ترجمة الأعلام غير المعروفة.
وعليه أن يسأل نفسه: ماذا يريد قارىء هذا النص من هذا العلم، فأحياناً لا يحتاج القارىء لمثل هذا الكتاب إلى غير معرفة تاريخ وفاة العلم.
كما عليه أن يميز الأعلام بعضهم عن بعض، حينما يذكرهم المؤلف باللقب، أو الكنية، أو النسب، وهنا مجال العمل، وبذل الجهد، فهذا يدخل في باب حل مشكلات النص وإضاءته.
مثال ذلك ما عانيته في الأجزاء الأولى من (نهاية المطلب) حين كان الإمام يذكر الأعلام بهذه الطريقة: وحكى الشيخ، وحكى شيخنا، وحكى الشيخ أبو علي، وحكى الشيخ أبو بكر، وحكى القاضي، وحكى أبو بكر الفارسي، وقال أبو زيد، وعن الإمام، ... ونحو ذلك.
فهنا كان علينا أن نتوقف حتى نقطع شوطاً في الكتاب، ونحن نسجل هذه الأعلام، ومواضعها، فقد يُبهم في مكان، ويوضح في آخر، وبهذه الطريقة استطعنا أن نميز المقصود ببعض هذه الألقاب وهذه الكنى. ولكن العدد الأكبر منها لم يتضح لنا، فكان

(المقدمة/367)


علينا أن نرجع إلى المصادر التي تحكي أقوال أئمة المذهب، وتنسبها إلى قائليها، لنرى هل صرحت باسم صاحب هذا القول الذي ذكره الإمام على الإبهام، بكنيته أو لقبه، فكنا نرجع إلى (المجموع) و (الروضة) للنووي، و (الوسيط) و (الوجيز) للغزالي وشرح الوجيز (فتح العزيز) للرافعي. وقد أفادنا ذلك أحياناً كثيرة.
لكن كل ذلك لم يبلغ مبلغ القطع إلا بعد أن انتهينا من ربع العبادات تقريباً، وأحصينا الأعلام، ومواضع ورودها، حتى استطعنا أن نعرف مصطلح الإمام، عندما يقول: أبو بكر، هل هو الصيدلاني أم الفارسي، وحينما يقول: أبو علي، هل هو أبو علي بن أبي هريرة، أم أبو علي السِّنجي أم أبو علي الطبري، أم أبو علي. بن خَيْران ... إلخ
ومن هذا الباب أنه يذكر أحياناً بعض الأئمة بقوله: " بعض المصنفين " مجهِّلاً اسمه، ودائماً يذكره في مجال التخطئة والإزراء عليه وعيبه، وحاولت أن أصل إلى من يعنيه بهذا فلم أظفر بقاطع، فخمَّنتُ أنه يعني به الماوردي، وذلك لما رأيته من شدته عليه في كتابه (الغياثي)، فقد ذكره ثلاث مرات عائباً له، وفي إحدى هذه المرات قال: " بعض المتلقين بالتصنيف " فقلت في نفسي: ها هي العبارة نفسها، فالاحتمال أن يكون المعنيُّ بها الماوردي احتمال قريب، ومن هنا راجعت كل المسائل التي قال فيها: " بعض المصنفين " على كتاب الحاوي للماوردي، لأرى هل الماوردي يقول بهذا القول المذكور، في هذا الموضع من كتابه، فلم أجد ذلك، ولا في مسألة واحدة، فقطعت بأنه لا يريد بهذا اللفظ الماوردي. وبقي السؤال من هو؟ إلى أن وصلت إليه بطول تقليبي لطبقات السبكي، فقد رأيته يقول: " وإمام الحرمين كثير الحطّ على الفوراني " ثم رأيته قال: " وحيثما قال في النهاية: بعض المصنفين، فهو يقصد أبا القاسم الفوراني "، فقطعت جهيزةُ قول كل خطيب، كما وجدت هذا أيضاً عند ابن كثير في البداية والنهاية (1)، وهو عن ابن خلكان (2)، وعدت إلى ما كنت كتبته تخميناً، فمحوته، وكتبته تحقيقاً.
فهذا هو العمل في ترجمة الأعلام، وليس المطلوب تفريغ كتب التراجم والطبقات على هوامش الكتاب.
__________
(1) البداية والنهاية 12/ 98.
(2) وفيات الأعيان: 3/ 132.

(المقدمة/368)


وقد أخذنا أنفسنا بهذا المنهج: تمييز الأعلام وضبطها، مع الإيجاز في الترجمة، ولم نخرج على ذلك إلا اضطراراً، من أجل إزالة شبهة أو حل إشكال، مثلما حدث في ترجمة (الخِضري) محمد بن أحمد المروزي، حيث قالت بعض المصادر: إنه تتلمذ على القفال، وقالت أخرى: إن القفال تتلمذ عليه، فكان لا بد من الإطالة ببيان القفالِين، وأن القفال الأستاذ، غير القفال التلميذ. وعلى ذلك، فلا خروج على المنهج ولا تناقض.

10 - تخريج النصوص:
هذا أيضاً أحد فنون العمل في التحقيق، الذي يحتاج إلى بسط وبيان بحسب طبيعة الكتاب المحقق، ولسنا لذلك الآن. وسنكتفي بالإشارة إلى عملنا في نهاية المطلب:
• اقتصرنا على النصوص القرآنية، والحديث، والشعر والحِكم إن وجد، أما نصوص الأئمة، فلم نخرج منها إلا نصوص الإمام الشافعي، وليست كلها، بل النصوص التي ترد في رأس الفصل، ويجعلها الإمام مدار الفصل، أما النصوص الأخرى، فهي إما مفقودة أو مخطوطة، فيما عدا (التلخيص) لابن القاص.
* بالنسبة للأحاديث الشريفة التزمنا الإيجاز الشديد في عزوها، على المنهج الآتي:
- إذا كان الحديث متفقاً عليه، اكتفيت بعزوه إلى الصحيحين، وغالباً إلى (اللؤلؤ والمرجان).
- إذا كان في أحد الصحيحين عزوته إليه، وإلى ما يتيسر من دواوين السنة.
- إذا كان في غير الصحيحين، ووصلت إلى درجته، قلت صحيح، وأتبعت ذلك بذكر من خرّجه.
- وإذا لم أصل إلى الحكم على الحديث، عزوته إلى من خرّجه، وذكرت ما قيل فيه بإيجازٍ.
- عُنيت عناية خاصة بالأحاديث التي انتقدت على إمام الحرمين.
وفي جميع الحالات التزمنا أسلوب العزو بالكتاب والباب، ثم برقم الحديث في الكتب التي يتاح فيها ذلك، مع محاولة اختصار اسم الكتاب واسم الباب، فأحياناً كثيرة يعزى الحديث إلى سبعة كتب، فلو لم نلجأ إلى الاختصار، لطال بنا الكلام.

(المقدمة/369)


وأما الكتب التي ليس فيها أرقام، ولا أبواب مثل مسند أحمد، فنعزو إليها بالجزء والصفحة.
(إمام الحرمين والحديث) (1)
لكن الأهم من ذلك في مجال الحديث، هو القيام بدراسة حول الأحاديث التي استدل بها إمام الحرمين في النهاية، وتقوم هذه الدراسة على الأسس الآتية:
أ- توزيع هذه الأحاديث على دواوين السنة: كم منها في كل كتاب من هذه الدواوين، وهل الأمر كما قيل: إن إمام الحرمين ليس عنده إلا حديث واحد منسوب للبخاري. (وبالتالي بيان النسبة العددية لكل كتاب من دواوين السنة)
ب- الأحاديث التي عزاها الإمام إلى مصادرها، ومدى صحة هذا العزو، والأحاديث التي لم يعزها ومصادرها.
ج- تقسيم الأحاديث بحسب درجتها الصحيح -الحسن- الضعيف. [وبيان النسبة العددية في كل درجة].
د- الأحاديث التي حكم عليها بالصحة والضعف، ومدى صواب هذا الحكم.
هـ- المسائل التي استدل عليها بالحديث الضعيف، وهل كان اعتماده على الضعيف فقط، أم أن الدليل أصلاً يقوم على القياس مثلاً، وذكر الحديث للاستئناس؟
والأحاديث التي أخذها عليه وعلى الغزالي ابنُ الصلاح، كم عددها؟.
ز- الأحاديث التي انتصر له فيها النووي وابنُ حجر، وبينا خطأ ابن الصلاح، وصوابَ إمام الحرمين.
ح- هل استدل غيره من الأئمة بنفس الأحاديث الضعيفة، أم انفرد وحده بها.
ط- هل انفرد وحده بالوقوع في الأوهام الحديثية؟ أم أن ذلك قصور لازم لطبع البشر، لم يسلم منه أحد.
__________
(1) أفردنا الفصل السادس من هذه المقدمات لهذا الموضوع.

(المقدمة/370)


11 - فن التعليق على المخطوطات:
تعلق المحقق على المخطوطات فن قائم بذاته من فنون الكتابة، فقد تنوعت فنون النثر إلى القصة، والأقصوصة، والرواية، والمقال، والرسالة، والخطبة، والبحث، والتوقيعات، وغيرها، وقد وضع علماء النقد والبلاغة لكل فن من هذه الفنون ضوابط وقواعد، صارت قوانين ملتزمة، يقبل ويرد العمل بحسب هذه القوانين.
وآن لنا نحن المشتغلين بالتحقيق أن نضع الضوابط والقواعد لهذا الفن، فن التعليق على المخطوطات، وحبذا لو عقدت ندوة لأهل هذا الفن، وأخرجت لنا -بعد المناقشة والمخاوضة- خصائص وقواعد لهذا الفن، وأبدأ فأتقدم بما أراه من هذه الخصائص والضوابط، آملا أن تكون نواةً وأساساً يكمل وينضج بإضافات ومناقشات أساطين العاملين في مجال التراث.
فمن هذه الخصائص:
1 - الإيجاز والبعد عن الحشو والتطويل، وأداء المعنى المطلوب بأقل لفظ، وأخصر عبارة.
2 - أن يضع المحقق نصب عينيه قيمة الكتاب الذي يحققه، ليعرف أيَّ نوعٍ أو أيَّ مستوى من القراء والباحثين سيتناول هذا الكتاب ويتعامل معه، ومن هنا يعرف ماذا يفسر وماذا يدع، وكيف يفسر، وبأي أسلوب.
3 - أن يسأل نفسه دائماً، ماذا يبغي من هذا التعليق، وما فائدته؟
وعلى سبيل المثال والتطبيق لهذا القانون، عند إشارة الإمام في هذا الكتاب إلى المذاهب المخالفة كنت لا أزيد على أن أعزو المسألة إلى موضعها في مصادر المذهب المخالف، مكتفيا بالإحالة على اسم الكتاب والجزء والصفحة ملتزماً " أدب التحقيق " على حد تعبير أستاذنا العلامة عبد السلام هارون رحمه الله، فلن تجد في هذه الإحالات ذكراً للمسائل المحال عليها، لا شرحاً، ولا تلخيصا، ولا مجرد إشارة إليها.
ذلك أنني تساءلت ماذا نتغيا من تلخيص مسائل من كتب الأحناف أو المالكية، وإثقال الكتاب بها؟ ما الذي يستفيده قارىء الكتاب من ذلك؟

(المقدمة/371)


إن كان باحثا يبغي الإحاطة بمذهب الشافعية، فها هو متن الكتاب بين يديه، ولن تفيده هذه النتف بهامش الكتاب شيئاًً.
وإن أراد بحثا مقارنا، فالمنهج يقتضيه أن يأخذ مسائل الأحناف -مثلا- من مصادرهم، ولن يغني عنه شيئاًً تلخيص المحقق لهذا المسائل في هوامش الكتاب، بل لا بدّ أن يأخذ هذه النصوص من مصادرها، وينظر فيها بنفسه.
ويكفي المحقق أن مهد له السبيل، حيث دلّه على المصادر بالجزء والصفحة، ولم يكن هذا عملا هينا، بل استغرق أوقاتا ثمينة، وجهداً جهيداً.
ثم إن هذه المسائل الخلافية بلغت -مع الأحناف وحدهم- أكثر من ثمانمائة مسألة، فلو عرض المحقق كل مسألة في نحو نصف في المتوسط، لتضخم الكتاب، وزادت مجلداته نحو مجلدين أو أكثر، وفي ذلك ما فيه من غير طائل.

12 - فروق النسخ:
لقد بقَيت هذا الأمرَ إلى الآخر قصداً، مع أن مكانه في أوائل عمل المحقق -لأدل بذلك على مكانته، لا على مكانه، فهذا أهون أعمال المحقق، وأقلها شأنا. ولكنه يحتاج مع ذلك إلى تأكيد وتنبيه، فقد فشت فاشية بين محققي العصر، تُفرغ في هذا الموضوع جهدَها، وتشغل به هامش الكتاب، بصورة قد تصل إلى نصف الصفحات أحياناً. وهذا عمل غير مقبول، ولا سائغ. وقد نبه إلى هذا شيوخ الفن ورواده، لكن لا أحد يسمع، لقد قال عن هذا العمل شيخنا أبو فهر: " إنه فِعْل أغتام الأعاجم " ذلك أن المستشرق لجهله باللغة لا يعرف ما هو الفرق بين الخلل الناشىء عن جهل الناسخ أو تصحيفه، أو رجع البصر، أو سقطٍ أو نحوه، فتجد المستشرق يثبت كل ذلك. وهذا لا معنى له.
وإن جاز في الرسائل الصغيرة، وفي المسائل المعقدة، والقضايا المشكلة، التي يخشى أن يكون لتغير الحرف أو اللفظ أثر في المعنى، فلا يجوز ذلك في النصوص التي تبلغ مجلداً أو عدة مجلدات، ولذلك التزمت منهج هؤلاء الأئمة من شيوخ الفن وأساتذته، فلم أثبت من فروق النسخ إلا ما فيه، أو يحتمل أن يكون فيه أثر في المعنى، مع زيادة حرصٍ في ذلك، بمعنى أنك قد تجد بعضاً مما لا فائدة في إثباته.

(المقدمة/372)


أما ما كان مجرد خلل أو خطأ، أو سهو من الناسخ، فلم ألتفت إليه، وتحت يدي عشرات الأمثلة لو ذكرتها لك، لعجبت فعلاً ممن يقول بإثباتها.
إن الفروق التي تثبت، ويعتنى بها حقاً، هي ما توحي بأن بعض النسخ تختلف عن بعض في صياغة بعض الأجزاء والعبارات، وقد رأيت هذا ماثلاً تماماً في إحدى نسخ كتاب (الغياثي) الذي أكرمنا الله بتحقيقه، فكانت إحدى النسخ تختلف عن باقيها في صياغة بعض المسائل، مما يوحي بأنها إملاء آخر للكتاب من مؤلفه، أو أحد حفاظه، كما كان يحدث أحياناً، فمثل هذه الفروق يجب أن يُعنى بها، وتكون محلَّ تعليق ودراسة، أما الفروق التي تأتي نتيجة عجز أو خطأ أو سهو أو عجمة، فما معنى تسجيلها؟.
ومع ذلك لم أهمل الإشارة إلى أي تغيير في نسخة الأصل، حتى لا يظن ظان أن للمحقق أن يتصرف في النص، فيقتدي بنا، ونتحمل وزر هذه السنة.

13 - الفهارس:
" الكتاب من غير فهرس كنز مغلق، فاقرأ الفهرس قبل كل شيء "
هذه عبارة شيخي الجليل أبي فهر. كتبها على ظاهر كتاب من كتبه التي حققها.
ولن أستطيع (الآن) أن أتكلم عن صناعة الفهارس، ودورها، وأثرها، والملاحظات التي نراها على كثير من الفهارس، وما فيها من خلل أو قصور، فذلك حديث يطول (1).
فلندع فن الفهارس، وما لنا عنه من حديث، ولنذكر الآن، منهجنا في فهرس النهاية (نهاية المطلب).
- إن شاء الله سنخصص مجلداً خاصاً للفهارس التي صنعناها لهذا الكتاب:
من الفهارس المعتادة مثل:
1 - الآيات القرآنية الكريمة.
2 - الأحاديث الشريفة.
__________
(1) كتبنا طرفاً من ذلك في افتتاح الجزء الأخير الخاص بالفهارس من هذا الكتاب، عسى أن يكون فيها بعض الغناء.

(المقدمة/373)


3 - الأعلام.
4 - الكتب.
5 - القوافي.
6 - الحكم والأمثال.
بجوار هذه الفهارس سنصنع إن شاء الله الفهارس الآتية:
7 - معجم غريب النهاية.
8 - المسائل اللغوية والخصائص الأسلوبية.
9 - المسائل الخلافية بين المالكية والشافعية.
15 - المسائل الخلافية بين الحنفية والشافعية.
11 - المسائل الخلافية بين الحنابلة والشافعية.
12 - المسائل الخلافية بين الظاهرية والشافعية.
13 - مسائل فقه الصحابة.
14 - مسائل فقه السلف.
15 - فهرس القواعد الأصولية (1).
16 - فهرس القواعد الفقهية.
17 - فهرس المسائل التي ليست لها أبواب معروفة.
18 - فهرس المسائل الملقبة.
19 - فهرس مبتكر لم نسبق إليه، وهو فهرس الكلمات التي تعذر علينا قراءتها، فقد صورناها من المخطوط، ووضعناها في قائمة مرتبة على الصفحات في آخر المجلد، آملين أن يلهم الله أحد المطالعين قراءة صحيحة لها. وهي كلمات معدودة، وليست في كل جزء.
__________
(1) لم يسعفنا الوقت، ولا الطاقة والمُنّة بالوفاء بهذا الفهرس، ولا بفهرس القواعد الفقهية الذي بعده.

(المقدمة/374)


20 - كشاف برؤوس الموضوعات على حروف المعجم (1).
وبعد كل هذا، فنحن على ثقة ويقين بأنه لا عاصم من الخلل والزلل إلا المولى سبحانه وتعالى، فهو وحده الملهم للصواب، والهادي إلى سبيل الرشاد، فإليه سبحانه أضرع، وألوذ بحوله وقوته، وأبرأ من حولي وقوتي، مبتهلاً إليه سبحانه أن يتم نعمته، ويختم بالصالحات أعمالنا، ويتقبل منا، إنه نعم المولى ونعم النصير.
...
__________
(1) لم نستطع الوفاء بهذا الكشاف أيضاً، فهو عمل تنوء به العصبة أولو القوة، ويقع في مجلد كامل، وأملنا أن يعيننا الله سبحانه وتعالى على إتمامه، فنحن جدُّ حراصٍ على ذلك، وبدون هذا الكشاف سيظل نهاية المطلب كنزا مغلقاً، لا يمكن الاستفادة منه كما يجب.

(المقدمة/375)