نهاية المطلب في دراية المذهب

باب الغسل للجمعة والأعياد
428 - غسل الجمعة مستحبٌّ مؤكدٌ، وقوله عليه السلام: " غسل الجمعة واجبٌ على كل محتلم " (1)، معناه مأمور [به] (2) مؤكد، وأراد بالمحتلم البالغ، لا الذي يحتلم يوم الجمعة، وهو كما روي عن عائشة أنها قالت: " لا تصلي الحائض من غير خمار " (3)، أرادت بالحائض البالغة المكلفة.
ثم لو أجنب الرجلُ يوم الجمعة، فاغتسل، ونوى بالغسل الواحد غسلَ الجنابة والجمعة جميعاًً، حصلا، وذكر الشيخ أبو علي شيئاًً بعيداً أنهما لا يحصلان، والتشريك في النية يفسد الغسلَ -وقد قدمت ذلك، فيما (4) أظن- وهو غلط صريح، غير معدودٍ من المذهب.
ولو نوى غُسلَ الجنابة، ولم ينو غُسل الجمعة، ففي حصول غسل الجمعة قولان: أحدهما - لا يحصل؛ فإنه لم ينوه، والثاني - يحصل؛ فإن الغرض من غُسل الجمعة التنظف والتنزه، وقطع الروائح الكريهة، وقد حصل ذلك، وهو شديد الشبه
__________
(1) حديث غسل الجمعة، متفق عليه من حديث أبي سعيد الخدري (اللؤلؤ والمرجان: 1/ 163 ح 487، وانظر التلخيص: 1/ 69 - 70).
(2) زيادة اقتضاها السياق، وصدقتنا (م)، (ل).
(3) حديث: " لا تصلي الحائض بغير خمار صحيح رواه أبو داود، والترمذي، وابن ماجة، ومالك، وأحمد، وابن خزيمة، (ر. أبو داود: الصلاة، باب المرأة تصلي بغير خمار، ح 641، وصحيح أبي داود للألباني: 596، والترمذي: الصلاة، باب ما جاء لا تقبل صلاة المرأة الحائض إلا بخمار، ح 377، والألباني 311، وابن ماجة: الطهارة، باب إذا حاضت الجارية لم تصل إلا بخمار، ح 655، والألباني 534، ومسند أحمد: 6/ 150، 259، وابن خزيمة: ح 775).
(4) ظن إِمامنا صادق، فقد قدم ذلك فعلاً في باب النية في الوضوء.

(1/308)


بتحية المسجد، ومن دخل المسجد، ولم يجلس حتى صلى صلاة مفروضة، أو مسنونة، فقد حصلت تحيةُ المسجد وإن لم ينوها، هذا سماعي من شيخي، ولم أره لغيره من المشايخ.
429 - ولو نوى المغتسل بغُسله غسلَ الجمعة، ولم ينو غسل الجنابة، فالمذهب الظاهر أن غسل الجنابة لا يحصل بهذا؛ فإن غُسل الجمعة لم يُشرع لأجل الحدث، وفيه شيء ذكرته في باب النية للوضوء.
إن قلنا: يحصل غسل الجنابة، فيحصل غسل الجمعة.
وإن قلنا: لا يحصل غسل الجنابة، فهل يحصل غسل الجمعة؟ فعلى وجهين، ذكرهما العراقيون. وإنما يظهر أثرهما إذا قلنا: لو نوى غسلَ الجنابة، ولم ينو غسل الجمعة، لم يحصل غسل الجمعة، فعلى هذا إذا نوى أولاً غسلَ الجمعة، ولم ينو الجنابة، ثم اغتسل مرة أخرى، ونوى الجنابة، ولم ينو غسل الجمعة، ففي حصول غسل الجمعة الوجهان، والظاهر حصوله.
ووجه قول من لا يحصِّله أنه تابع لغسل الجنابة، فيبعد حصوله أول مع بقاء غسل الجنابة.
430 - فإن قيل: إذا قلنا: لو نوى غسل الجنابة مطلقاًً، حصل غسلُ الجمعة، فلو نواه، ونفى غُسل الجمعة، أو صلى كما (1) دخل المسجد فريضة، ونفى قصدَ تحية المسجد. فماذا ترون فيه؟
قلنا: فيه احتمالٌ، والظاهر أنه لا يحصل، وسبب الاحتمال أن مجرّدَ الغسلِ في حق من ليس بجنب لا يعتد به من غير نية، وقد يخطر أن الغرض منه [النظافة] (2) وإن كانت النية مشروطة في النظافة.
فهذا تمام الغرض في ذلك.
__________
(1) كما: بمعنى عندما وهذا جار كثيراً عند إِمامنا. وأشرنا آنفاً إِلى أنه غير صحيح عَربيّةً.
(2) زيادة اقتضاها السياق، وصدقتنا (ل).

(1/309)


فصل
431 - " من غسَّل ميتاًً، أمرناه بأن يغتسل ... إلى آخره " (1).
والأصل فيه ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من غسل ميتاًً، فليغتسل، ومن مسّه فليتوضأ " (2) وللشافعي وقفةٌ في الحديث، ولكنه أمر بالغسل استحباباً مؤكداً.
وقال الأصحاب: آكد الأغسال المسنونة غُسلان، أحدهما - غسل الجمعة، والثاني - الغسل من غسل الميت، وأيهما آكد؟ فعلى قولين مذكورين، أحدهما - غسل الجمعة؛ لصحة الأخبار، وظهور الخلاف في وجوبه؛ فإن طائفة من علماء السلف أوجبوه.
والثاني - الغسل من غسل الميت آكد؛ فإنه ورد فيه أمر، والأمر على الوجوب، ولم يعارضه ما يدل على نفي وجوبه، وورد في غُسل الجمعة ما يُسقط وجوبه.
432 - وذكر العراقيون كلاماًً على التقدير وراء هذا، فقالوا: لو صح الخبرُ في الغسل من غسل الميت، فهل يقتضي وجوبَه أم لا؟ فعلى وجهين: ولو قضينا بوجوبه، فعلى ماذا يحمل وجوبه؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنه يحمل على نجاسة بدن الآدمي إذا مات، وهو وجه بعيد.
ثم على هذا من غسل ميتاًً، فترشش الماء إلى مواضع من بدنه لا يَدريها، فيجب تعميم البدن بالغَسل، ليستيقن طهارة بدنه، بعدما علم نجاسته.
__________
(1) نص الشافعي: "وأحب الغسل من غسل الميت" ر. المختصر: 1/ 52.
(2) حديث: " من غسل ميتاً، فليغتسل " أخرجه أحمد، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجة، وابن حبان، والبيهقي، من حديث أبي هريرة، وروي مرفوعاً وموقوفاً، والمرفوع فيه مقال.
وقد صححه الألباني. (ر. أحمد: 2/ 433، 454، 472، 280، أبو داود: الجنائز، باب في الغسل من غسل الميت، ح 3161، 3162، الترمذي: الجنائز، باب ما جاء في الغسل من غسل الميت، ح 993، وصحيحه للألباني: 791، وابن ماجة: الجنائز، باب ما جاء في غسل الميت، ح 1463، وصحيحه 1995، وابن حبان: 1158، والبيهقي: 1/ 300، 301، تلخيص الحبير: 1/ 136).

(1/310)


والثاني - أنه يحمل على تعبُّدٍ من غير تقدير نجاسة.
وهذا التقدير منهم في حكم اللغو عندي؛ فإنهم إن عَنوْا به أنه لو نقل الخبرَ ابتداء من يوثق به، فإذا كنا نقول! فهذا لا حاصل له، ولو فتحنا هذا الفن من التقديرات، لكثر الكلام فيما لا يعنينا، وان عَنَوْا بذلك، أنا لو تبينا صحة الحديث في المستقبل، وهذا مرادهم بالتقدير، فهذا بعيد؛ فإنه لو كان يتبين، لبانَ إلى الآن قطعاًً، فضَعُف ما ذكروه.
433 - ومما زادوه أن الوضوء من مسّ الميت مختلف فيه، فمنهم من حمله على ما إذا مس فرج الميت، ومنهم من استحب الوضوء على التأكيد من مسّه، من غير مس فرج، وهذا ما قطع به المراوزة.
ثم في غسل العيد [ووقته] (1) كلام، وفي غسل الجمعة أيضاً بقية، تأتي في كتاب الصلاة، إن شاء الله عز وجل.
...
__________
(1) زيادة من (ل) فقط.

(1/311)