نهاية المطلب في دراية المذهب

كتاب الجمعة
1356 - الأصل في وجوب الجمعة قوله تعالى: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9] قيل: أراد بالذكر الخطبة، وقيل: أراد الصلاة.
وروى الشافعي بإسناده عن محمد بن كعب القُرَظي عن رجل من بني وائل أن النبي عليه السلام قال: "تجب الجمعة على كل مسلم إلا المرأة والصبي والمملوك" (1) وروى أبو الزبير عن جابر: "أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب في جمعة من الجمع فقال: أيها الناس توبوا إلى الله قبل أن تموتوا، وبادروا بالأعمال الصالحة قبل أن تُشغلوا، وصِلوا الذي بينكم وبين ربكم بكثرة ذكركم له، وكثرة الصدقة، ترزقوا، وتجبروا، وتنصروا، واعلموا أن الله تعالى فرض عليكم الجمعة في مقامي هذا، في يومي هذا، في شهري هذا، في عامي هذا، إلى يوم القيامة، فمن تركها في حياتي أو بعد وفاتي استخفافاً بها، أو جحوداً لها، وله إمام عادل أو جائر، فلا جمع الله شمله، ولا بارك له في أمره، ألا لا صلاة له، ألا لا زكاة له، ألا لا حج له، ألا لا برّ له، إلاّ أن يتوب، فإن تاب تاب الله عليه" (2).
وأجمع المسلمون قاطبة على وجوب صلاة الجمعة وإن اختلفوا في التفاصيل.
__________
(1) حديث "تجب الجمعة ... " رواه أبو داود بلفظ: "الجمعة حق واجب على كل مسلم في جماعة، إلا أربعة: عبد مملوك أو امرأة أو صبي أو مريض"، ورواه الحاكم، وصححه غير واحد. (ر. أبو داود: الصلاة، باب الجمعة للمملوك والمرأة، ح 1067، التلخيص: 2/ 65 ح 650، والمزني عن الشافعي في المختصر: 1/ 130، والحاكم: 1/ 288).
(2) حديث: "توبوا إلى الله قبل أن تموتوا ... " رواه ابن ماجة، والبيهقي، على نحو ما ساقه إمام الحرمين، وقد ضغفه البيهقي (ر. سنن ابن ماجة: إقامة الصلاة، باب في فرض الجمعة، ح 1081، وضعيف ابن ماجة للألباني ح: 224، وسنن البيهقي: 3/ 171).

(2/477)


فصل
قال: "وتجب الجمعة على أهل المصر، وإن كثر أهله ... إلى آخره" (1).
1357 - صدَّر الشافعي الكتاب بذكر من يلتزم الجمعة من أهل الأمصار والقُرى. ولمن يلتزم الجمعة شرائطُ سنذكرها إن شاء الله، وإنما غرض الفصل ذكر من يبلغه النداء، ومن لا يبلغه، وضبط القول هذا في الفن.
1358 - فأما أهل المصر إذا كانوا على الكمال الذي سنصفه، فيلزمهم الجمعة، وإن كثروا، وكان نداء الجامع لا يبلغهم؛ فإنه إذا كان المصر جامعاً لهم، لزمتهم الجمعة، مع استجماع الخصال التي سنذكرها.
1359 - فأما أهل القرى، فكل قرية ذاتِ بنيان، اشتملت على أربعين، على الصفات المرعية، لزمهم أن يقيموا الجمعة، فإن كانوا على القرب من البلدة، وكان صوت نداء مؤذن الإمام يبلغهم، فأرادوا أن يحضروا البلدة، فلهم ذلك، فيقيمون الجمعة في البلدة، والأوْلى أن يقيموها في قريتهم؛ حتى تكثر الجُمَع في القرى، فإن كانت القرية لا تشتمل على الأربعين من أهل الكمال، نُظر: فإن كان نداء البلدة لا يبلغهم، لم يلزمهم الجمعة، فلا يقيمونها في موضعهم؛ فإنّ ذلك غيرُ ممكن، ولا يلزمهم أن يحضروا البلدة.
ومعتمد الشافعي في هذه القاعدة ما رواه عمرو بن العاص عن النبي عليه السلام أنه قال: "الجمعة على من يسمع النداء" (2).
__________
(1) ر. المختصر: 1/ 130.
(2) حديث: "الجمعة على من يسمع النداء" رواه أبو داود عن عبد الله بن عمرو بن العاص، قال ابن الملقن في خلاصة البدر المنير: "بإسناد ضعيف". وقال الحافظ: "واختلف في رفعه ووقفه"، قال ابن الملقن: "وقفه هو الصحيح". ورواه البيهقي من وجه آخر عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. (ر. أبو داود: الصلاة، باب من تجب عليه الجمعة، ح 1056، البيهقي: 3/ 173، خلاصة البدر المنير: 1/ 217 ح 760، تلخيص الحبير: 2/ 66 ح 652).

(2/478)


1360 - وضبط المذهب من طريق المعنى أن المصير إلى الجامع إجابة للداعي، فكان المرعيُّ فيه سماعَ النداء، وقوله تعالى: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا} [الجمعة: 9] مشعرٌ باعتبار النداء.
ثم قال أئمتنا: إذا أردنا أن نعتبر سماع النداء، فرضنا كونَ المنادي في جهة القرية الذي نُريد اعتبارَ أمرها، ونُقدّره على طرف البلدة في تلك الجهة، ثم نُقدر رجلاً يعدّ صيّتاً عُرفاً، فإذا نادى في جنح الليل عند زوال اللغط، وسكون الأصوات، وركود الهواء، اعتبرنا بلوغ صوته على هذا الوجه، ولا بد من اعتبار سكون الرياح؛ فإن الريح إذا كانت تهب من نحو البلد إلى جهة القرية، فقد يبعد بلوغ النداء بعداً مسرفاً؛ لمكان الريح، ولا يكون هذا بلوغَ النداء، بل هو حملُ الريح للصوت، وإن كانت الريح تهب من جهة القرية إلى البلدة، فإنها تدفع الصوتَ وتمنعه من النفوذ، فلا يكون قصورُ الصوت بسبب بعد القرية.
وفي بعض التصانيف أن من أصحابنا من يعتبر وقوفَ المنادي في وسط البلدة، وهذا ساقط، غيرُ معتبر؛ فإن البلدة في اتساع خِطتها وكبرها، قد تكون بحيث لو وقف المنادي في وسط البلدة، لم يبلغ صوتُه الأطرافَ، فضلاً عن أن يتعداها إلى قُراها.
فإن قيل: لم لَمْ تعتبروا النداء في أهل البلدة؟ قلنا: البلدة بجملتها موضع الجمعة، فلا قُطر فيها إلا ويمكن إقامة الجمعة فيه، ونحن إذا كنا نراعي في القرى بلوغَ النداء، نعتبر موقف المنادي على الطرف في تلك الجهة؛ فما من جادّة معدودةٍ من البلد، إلا ويتأتَّى فيها فرض وقوف المنادي. فأهل البلدة داخلون تحت النداء المقدّر، فهذا واضحٌ.
وكان شيخي يقول: لو فرضت قريتان في جهةٍ واحدةٍ، وكانت إحداهما في وهدةٍ، وكان النداء لا يبلغها لذلك، وكان يبلغ القريةَ الأخرى الموضوعة على الاستواء، وهي في مثل مسافة القرية الأولى، فيجب على أهل القرية الموضوعة في الوهدة الجمعةُ، نظراً إلى المسافة في الاستواء، ومصيراً إلى أنهم في محل سماع النداء، ولكن انخفاضَ قريتهم مانع من السماع.

(2/479)


ثم لو كان النداء يبلغُ بعضَ من في القرية، لزمت الجمعةُ أهلَ القرية، ولو كان فيهم من جاوز العادة في حدّة السماع، وكان متميزاً عن الناس بزيادة ظاهرة، كما يحكى من حدةِ بصر زرقاء اليمامة، فلا تعويل على سماع من ينتهي إلى هذا الحد.
فصل
1361 - ذكر الأئمة شرائطَ الجمعة على الجمع، وهي خمسة:
عدد، ودارُ إقامةٍ، وجماعة، ووقت، وخطبتان. وهذه الأشياء ستأتي مفصلة إن شاء الله.
1362 - فأهونها تفصيل القول في دار الإقامة، فنقول: لو سكن طائفة في طرفٍ من البادية، وكانوا أصحاب خيام وأخبيةٍ؛ فإنهم لا يقيمون الجمعة، ولو أقاموها، لم تصح منهم، والإقامة التي عزموا عليها، لها أحكام من انقطاع الرخص المتعلقة بالسفر وغيره، ولكن الإقامة المشروطة في صحة الجمعة هي إقامة في الأبنية التي لا تُحوّل، والخيام مهيأة للنقل، فلا تكمل الإقامة بها، فإذاً صحةُ الجمعة تستدعي موضعاً فيه أبنية.
وقال العراقيون: لو كانت القريةُ من سعف وجريد وخشب وكانت بحيث لا تنقل، فهي من جملة الأبنية، وهكذا تُلفى معظم القرى في الحجاز، والمعتبر ألا تكون الأبنية بحيث يُعتادُ نقلُها.
ثم لو أقيمت الجمعة خارجةً من خِطة البلد في موضعٍ، لو برز إليه الهامُّ بالسفر، لاستباح رخص المسافرين، فلا يصح، بل شرطُها أن تقام في خِطة البلد، ولا يضر إقامتها في عَرصة معدودة من الخِطة غيرِ خارجة منها؛ فإن الجماعة إذا كثرت، فقد يعسر اجتماعها في كِن.
وأما صلاة العيد فسيأتي أن الأوْلى البروز فيها إلى الجبَّانة (1)، والسبب فيه أن الإقامة أولاً ليست مشروطة في إقامتها، ولا دارَ الإقامة، ثم يشهدها الخيّالة
__________
(1) الجبانة: الصحراء. (المعجم).

(2/480)


والركبان، والرجالة، وأخيافُ الناس (1)، ويتعذر اجتماعهم في غير جبّانة، فهذا بيان دار الإقامة.
1363 - ثم نبتدىء بعدها تفصيل القول في العدد، فمذهب الشافعي أن الجمعة لا تنعقد إلا بأربعين. وقد اختلف مذاهبُ السلف في ذلك، وحكى صاحب التلخيص قولاً عن القديم أن الجمعة تصح ابتداء من ثلاثة، والإمام ثالثهم، وقد بحث الأئمة عن كتب الشافعي في القديم، فلم يجدوا هذا القول أصلاً، فردّوه.
ومعتمد الشافعي في هذا العدد ما روي عن جابر بن عبد الله أنه قال: "مضت السنة أن في كل أربعين، فما فوق جمعة" (2)، واستأنس الشافعي بمذهب عمر بن عبد العزيز (3).
ثم قاعدة الشافعي في مسائل الجمعة تدور على شيءٍ، وهو أن صلاة الجمعة مغيرة مخالفة للظهر في سائر الأيام، وهي على صورة صلاة ظهر مقصورة في الإقامة، وقد تمهد في الشرع أنه يُراعَى كمالٌ في الموضع من المقيمين، واجتماعُ شرائط، فالأصل إتمام الصلاة، إلا أن يثبتَ ثَبَت. والجمعة أيضاً جمع الجماعات، ولذلك لا تقام في وقتها جماعة أخرى، فلا بدّ من اعتقاد كثرة، ثم إذا وجدنا مستمسكاً في التقدير ابتدرناه.
فهذا بيان قاعدة المذهب.
وإذا بعد الاكتفاء بأقل جماعةٍ وأدنى جماعة، ولم يشترط أحدٌ كثر من الأربعين، وانضم إليه اعتبار الأقصى، والاحتياط، كان ما ذكره الشافعي غايةَ الإمكان في ذلك.
ثم اختلف أصحابنا في أنا هل نشترط أن يكون إمام الجماعة الحادي والأربعين، أم
__________
(1) أخياف الناس: أي مختلف الناس، وضروبهم وأشكالهم. (المعجم) والمراد هنا جميع الناس: صغارهم وكبارهم، رجالهم ونساؤهم، أحرارهم وعبيدهم.
(2) حديث جابر: "مضت السنة ... " رواه الدارقطني، والبيهقي. وفيه مقال. (ر. الدارقطني: 2/ 4 باب العدد في الجمعة، والبيهقي: 3/ 177، والتلخيص: 2/ 55 ح 622).
(3) ر. سنن البيهقي: 3/ 171، فقه عمر بن عبد العزيز: 55.

(2/481)


يكفي أن يتم به الأربعون؟ ولعل الأظهر أنه يُعَدّ من الأربعين؛ فإن الذي اعتمدناه في ذلك لم يفصل الإمامَ عن المقتدين، والله أعلم.
ثم يشترط أن يكون الأربعون على صفات، فينبغي أن يكونوا ذكوراً، بالغين، عاقلين، [أحراراً] (1)، مقيمين، إقامة، لا يظعنون شتاء ولا صيفاً، إلا أن تعِنَّ حاجة، فلو كانوا يرحلون على اعتيادٍ شتاء، أم صيفاً، وينتقلون إلى موضعٍ آخر، فليسوا مقيمين في هذه البقعة، فلا تنعقد الجمعة بهم.
1364 - والآن يتصل بفصل العدد مسألة الانفضاض. وفي كتاب الجمعة ثلاثُ مسائل منعوتة في الفقه، إحداها الانفضاض، والأخرى الازدحام، والثالثة الاستخلاف.
1365 - فأما مسألة الانفضاض:
فالقول فيها يتعلق بالانفضاض في أثناء الخطبة، أو بعدها وقبل عقد الجمعة، ثم إذا نجز هذا، تعلق التفصيل بالانفضاض بعد التحرّم بالصلاة.
فنقول: أولاً - أجمع أئمتنا أن العددَ المرعيَّ وهو الأربعون في عقد الصلاة مرعيٌ معتبر في الاستماع إلى الخطبة، فما لم يستمع الأربعون على نعوت الكمال، لم يُعتدّ بالخطبة، ثم للخطبة أركان على ما سيأتي إن شاء الله، فلو جاء بركن منها، ثم استمعوا، ثم انفضوا، فإن سكت الخطيب حتى عادوا، وقد عادوا على قربٍ، قبل تخلل فصلٍ طويل، فاندفع في بقية الخطبة، جاز، وصح بلا إشكال، ولو تمادى في الخطبة، وهم منفضون، وما كان بقي منهم أربعون، فالركن الذي جاء به في انفضاضهم، لا يحتسب، ولا يعتد به قولاً واحداً، ونقصانُ واحدٍ من الأربعين، كانفضاض الجميع.
وسيأتي في الانفضاض في الصلاة أقوالٌ، منها: أن نقصان العدد بعد عقد الصلاة غيرُ ضائر، ولا يخرّج هذا في الخطبة باتفاق الأئمة، ولم تختلف الطرقُ فيه. والفرق أنا وإن شرطنا الجماعة في الجمعة، فكل مصلٍّ يصلي لنفسه، فإن كان يتسامح
__________
(1) زيادة من: (ت 1).

(2/482)


متسامح في نقصان العدد في أثناء الصلاة، فله خروج على هذا الأصل، فأما الخطبة، فالغرض منها استماع الباقين ووعظهم وتذكيرهم؛ فما جرى، ولا مستمعَ، أو مع نقصان عدد المستمع، فقد عُدمَ أصلُ مقصود الخطبة.
ولو سكت الإمام، لما انفضّ القوم، فطال الفصل، فعادوا بعد تخلل الفصل الطويل، فهل يبني الخطيبُْ على الخطبة؟ ذكر معظم الأئمة قولين في ذلك، وخرّجوهما على قولين في أن الموالاة هل تشترط في الخطبة؟ وطردوا القولين فيه إذا لم ينفض القوم، ولكن سكت الخطيب سكوتاً طويلاً، تنقطع بمثله الموالاة، فهل يلزمه إعادة الخطبة؟ فعلى قولين.
1366 - ولو انفض القوم بعد الخطبتين، ولم يتحرّم الإمام حتى عادوا، وما عادوا إلا بعد طول الفصل، فإذا عادوا ففي المسألة القولان المذكوران، فإن قلنا: الموالاة ليست مشروطة، تحرّم بالصلاة وتحرموا، ولم يضرّ ما جرى، إذا وسع الوقتُ الصلاةَ، كما سنذكر الوقت وما يتعلق به إن شاء الله.
وإن حكمنا باشتراط الموالاة، فقد بطلت الخطبتان، فإن أعادهما على قربٍ، وتحرّم وتحرّموا، ووسع الوقت، جاز ذلك.
وإن لم يُعد، فقد قال الشافعي: "أحببت أن يعيدَهما، ولو لم يُعدهما، لم تصح الجمعة"؛ فقوله: "أحببتُ" أثار خلافاً بين الأصحاب، فقال قائلون منهم: يجب عليه الإعادة، ووجهه أن ذلك ما (1) تصح به الجمعة، فعليه التسبب إليه، والسعي في تحصيله؛ إذ هو ممكن، وهو متمكن.
وذهب آخرون إلى أنه لا يجب عليه ذلك؛ فإنه قد فعل ما عليه.
وفائدة الخلاف أن صلاة الجمعة إذا لم تصح بسبب امتناعه عن إعادة الخطبة، فالذنب في وجهٍ محالٌ على الخطيب في ترك الإعادة، وهو في وجه محال على القوم؛ فإنهم بانفضاضهم جرّوا هذا، وهو قد أدى ما عليه من الخطبتين مرة، وسبب إبطالهما تفرقُهم وطول الفصل.
__________
(1) (ما) هنا موصولة بمعنى الذي، وهي خبر (أن).

(2/483)


فهذا تفصيل القول في الانفضاض في الخطبة، أو بين الفراغ منها وبين التحرّم بالصلاة.
1367 - فأما إذا تحرم بالصلاة وتحرموا، ثم انفضوا، ونقص العدد المشروط، فالنصوص مختلفة جداً، وحاصل الضبط أنه اختلف قولُ الشافعي، أولاً، فقال في قول: يشترط في صحة الجمعة بقاء الأربعين على شرائطهم معه من أول الصلاة إلى آخرها، وهذا يتيسرُ توجيهه؛ فإن العدد مرعي في هذه الصلاة، فإذا اختل في جزء من الصلاة، فقد تخلف شرط الصحة، فلا جزءَ من الصلاة، إلا والجماعة الكاملة شرطٌ فيه، وهذا كالوقت؛ فإنه لما كان شرطاً، لا جرَمَ، قيل: لو وقع التسليم وراء الوقت لم تصح الجمعة، وتعين إقامة الظهر قضاء، فكما نشترط الوقت في دوامه، فكذلك نشترط دوامَ العدد التام.
والقول الثاني - لا نشترط بقاء تمام العدد؛ فإنهم إذا حضروا أولاً وصح عقدُ الصلاة، فالتزام ضبطهم عسِر، وشرطهم في الابتداء يتعلق باختيار الإمام؛ فإنه لا يتحرم ما لم يحضروا، ورب شيء يُشترط في الابتداء، ولا يشترط دوامه، كالنية؛ فإنها لو عزبت بعد العقد، لم يضر عزوبها.
التفريع -
1368 - إن حكمنا أن دوام العدد شرط من الأول إلى الآخر، فلو سمع الخطبةَ أربعون على الشرط وتحرموا، ثم انفضوا، وتحرم بعدهم أربعون، فقد بطلت الصلاة؛ فإن هذا مفروض فيه إذا انفض السامعون، ثم تحرّم اللاحقون.
ولا يفرض خلاف أنه لو انفضَّ السامعون، وحضر أربعون آخرون، فتحرم بهم، لم تصح الجمعة، فإن الشرط أن يقع العقد بأربعين سمعوا الخطبة.
فأما إذا تحرم السامعون، وتحرّم بعدهم في الركعة الأولى أربعون ما سمعوا الخطبة، ثم انفض السامعون، وثبت اللاحقون، فلا تبطل صلاة الجمعة؛ فإن العدد لم ينقص، وما انفض السامعون حتى تبعهم اللاحقون، وإذا تبعوهم، صاروا في حكم واحد، فإذا ثبتوا، استقلّت الجمعة بهم، وإن انفض السامعون، وكان هذا كما لو سمع ثمانون وتحرّموا، ثم انفضَّ منهم أربعون، وثبت أربعون.

(2/484)


1369 - وهذا يتطرق إليه عندي احتمال، إذا شرطنا بقاء العدد التام في جميع الصلاة، [فلا] (1) يمتنع أن نقول: يُشترط بقاء أربعين قد سمعوا الخطبة.
فأما إذا قلنا: لا يُشترط بقاءُ العدد الكامل، فهل يُشترط أن تبقى الجماعة؟ أم لو انفرد الإمام وحده، صحت جمعته من غير بقاء مُقتدٍ؟ فعلى قولين: أحدهما - لا بد من بقاء الجماعة، وذلك بألا ينفضَّ كلُّهم، وهو المنصوص عليه.
والقول الثاني - أنه لو بقي وحده، صحّت الجمعة، وهو وإن كان منقاساً، فهو مخرّج ووجهه أن بقاء العدد الكامل إذا لم يكن شرطاً، فلا أثر لبقاء أحد من المقتدين، فإن قلنا: تصح صلاته وحده، فلا كلام، وإن قلنا نشترط جمعاً، فعلى هذا القول قولان منصوصان: أحدهما - لا بد من ثلاثة والإمام الثالث؛ فإن هذا هو الجماعة المطلقة.
والقول الثاني - أنه يكفي مقتدٍ واحد؛ فإنّ هذا أقلُّ مراتب الجماعة، فهذا بيان الأقاويل: المنصوص عليها، والمخرج منها.
1370 - وقال المزني: إن انفضوا في الركعة الأولى، ونقص العدد المرعيُّ، بطلت جمعة الإمام، ومن بقي معه، وإن انفضوا في الركعة الثانية، صحت جمعة الإمام، وإن كان وحده واستشهدَ عليه بالمسبوق؛ فإنه إذا أدرك ركعةً، صلى الجمعة، فيقوم عند تحلل الإمام إلى الركعة الأخرى، وإن لم يدرك ركعة، لا يكون مدركاً للجمعة.
وهذا الذي ذكره قياس لا بأس به، وقد عدّ معظم أئمتنا هذا قولاً مخرجاً للشافعي، فالتحق بالأقوال المقدمة، وقد أورده المزني إيراد من يبغي تخريج قول للشافعي، فكان كما قدره.
ومن أباه، قال: المقتدي المسبوق إذا تبع الإمامَ في الإدراك، لم يبعد؛ فإنّ وضع الشرع على اتباع المقتدي للإمام، فأما أن يقال: إذا صلى الإمام ركعة مع
__________
(1) في النسخ الثلاث: "ولا" والمثبت من (ل).

(2/485)


العدد، فقد أدرك الجمعة، وإن انفرد في الركعة الأخرى، فهذا في التحقيق حكم بأن الإمام يتبع القوم، وهذا فيه بعد؛ فإن المسبوق مع إمامه صحت له جمعة تامة، والقوم إذا انفضوا في الركعة الثانية، لم تصح لهم جمعة، فالإمام إذاً يتبع قوماً لم تصح جمعتهم، فهذا وجه الكلام في ذلك.
فرع:
1371 - إذا قلنا: لا بد وأن يبقى مع الإمام واحد، أو اثنان، فالظاهر أنا نشترط أن يكونا على الكمال المرعي المشروط؛ فإن الكامل هو الذي يراعى أوّلاً، فليراع آخراً.
وذكر صاحب التقريب احتمالاً في أن من بقي لو كان عبداً أو مسافراً، جاز؛ فإن المرعي في الابتداء العددُ الكامل، فاشترطنا عدداً كاملاً، واشترطنا كمالاً في كل واحد، فإذا اكتفينا آخراً باسم الجماعة، فلا يبعد ألاَّ نشترط الكمال، وهذا مزيف غير معتد به.
فرع:
1372 - قال شيخي: إذا تحرم الإمام بالصلاة، فتباطأ المقتدون، ثم أحرموا، فقد قال القفال: الضبط المرعي فيه، أنه إذا أدرك الإمامَ أربعون في الركوع، صحت الجمعة، وإن رفع رأسه ثم تحرموا، فلا جمعة، ثم قال: الوجه أن نشترط ألا ينفصل تحرمهم بالصلاة عن تحرم الإمام بما يعد فصلاً طويلاً، وهذا الذي ذكره حسن بالغ.
ويجوز أن يقال: ينبغي أن يتحرموا بحيث لا يسقط عنهم من القراءة شيء، ولا يثبت لهم حكم المسبوق؛ فإنهم لو أدركوه في الركوع، فحكم ذلك حيث يصح سقوط القراءة، وهو من أحكام المسبوقين، وإن أدركوه في بعض القيام بحيث لا يتأتى منهم إتمام القراءة، فهذه صورة الاختلاف فيما يفعله المسبوق، فلا يجوز الانتهاء إلى هذا الحدّ في التأخر.
فإذاً ما ذكره القفال إدراك الركعة، وما ذكره شيخي النظر إلى التطويل، وما ذكرتُه ثبوت أحكام المسبوقين. فهذا منتهى القول في الانفضاض.

(2/486)


مسألة [الزحام] (1)
1373 - الزحام: يتصوّر في سائر الصلوات، وإنما يذكر في هذا الكتاب (2) لاجتماع وجوه الإشكال فيها (3)؛ فإن الجماعة في هذه الصلاة مستحقة، ومن أسباب الإشكال أن من عسر عليه إقامة الجمعة، ففي بناء الظهر على الجمعة تردد، مبني على أن الجمعة ظهر مقصورة أم لا، ثم في إقامة الظهر قبل فوات الجمعة اختلافُ قولٍ سنذكر قدر الحاجة منه في أثناء المسألة، ثم نبيّنه مفرداً في فصلٍ، وكان شيخي مولعاً بهذه المسألة وجمع فيها كلَّ ما قيل من الوجوه الضعيفة، مخالفاً عادته في ذكر الضعيف من الوجوه، ونحن نسرد طريقته على وجهها، ونذكر في أدراج الكلام التنبيه على التحقيق، فنقول مستعينين بالله:
1374 - إذا زُحم الرجل على السجود في الركعة الأولى، فأول ما فيه (4 أنه إن تمكن من وضع الجبهة على ظهر إنسان على شرط إقامة 4) هيئة السجود، فعل ذلك، وإنما يتأتى هذا بأن يفرض موقف المزحوم مستعلياً حتى يتأتى التنكس منه.
فإن تعذر عليه إقامةُ الهيئة المشروطة، فقد ذكر شيخي ثلاثةَ أوجه: أحدها - أنه يأتي بالسجود، ويأتي بأقصى الإمكان فيه، كالمريض يومىء بالسجود على قدر الإمكان.
والثاني - لا يفعل ذلك، ولا يعتد بما يأتي به من إيماء، ولكن ينتظر التمكن من السجود، وانجلاء الزحام.
والثالث - يتخيّر بينهما. وهذا يُضاهي صلاة العاري قاعداً مومياً، أو قائماً متماً للأركان، أو متخيراً بينهما.
ولست أرى لما ذكره وجهاً، ولم يتعرض لهذا أحد من أصحابنا؛ فالاقتصار على
__________
(1) زيادة من المحقق.
(2) المراد كتاب الجمعة.
(3) كذا بتأنيث الضمير، وله وجه لا يخفى عليك.
(4) ما بين القوسين ساقط من (ت 1).

(2/487)


الإيماء خارج عن القانون، لا أصل له، وتشبهه بالمريض ساقط؛ فإن هذا مما يندر ولا يدوم، وتمكن المصلي من السجود قائم، والاستئخار عن الإمام بأركانٍ أقرب من الاقتصار على الإيماء في ركن لا يتطرق إليه التحمل، فإذاً الوجه القطع بألا يومىء، ولكن ينتظر ما يكون ثم يتفرع صور في انتظاره، وفيما يُفضي إليه أمره. كما ستأتي مفصلة إن شاء الله.
قال الشيخ أبو بكر: هذا من الأعذار التي يجوز بسببها الانفراد عن الإمام، وقد ذكرنا فيما تقدم أن من التزم الجماعة، وانفرد عن الإمام من غير عذر، ففي بطلان صلاته قولان، وإن كان انفرادُه بعذر، فالمذهب صحة الصلاة، فقال الصيدلاني: إذا وقعت الزحمة، وأحوجت إلى التخلف عن الإمام، فيجوز بسببها نية الانفراد.
1375 - وهذا فيه تفصيل عندي: فإن فُرض الزحام في غير صلاة الجمعة، فما ذكره متجه حسن. وإن كان الزحام في صلاة الجمعة، فيظهر عندي منعه من الانفراد؛ فإن إقامة صلاة الجمعة واجبة قصداً، فإخراج النفس عنها قصداً، ليس يتجه، وقد رأيت الطرق متفقة على أن التخلف بعذر الزحمة لا يقطع حكمَ القدوة على الإطلاق.
ولو صار إليه (1) صائر؛ من جهة أن الاتباع -على شرط الوفاء بالقدوة عند الاختيار- متعذر، وإذا تعذر تحقيق الاقتداء فعلاً، وأحوج الازدحام إلى التخلف بأركان، فلو قيل: ينقطع حكم نية القدوة، لم يكن بعيداً عن القياس. ولكن لم يصر إلى هذا أحد من الأصحاب، والمذهب نقل، وأنا لا أعتمد قط احتمالاً إلاّ إذا وجدت رمزاً وتشبيباً لبعض النقلة.
1376 - فإذا وضح ذلك، عُدنا إلى البناء على ما هو المذهب، وهو أنه إذا عسر عليه السجود لا يومىء، بل ينتظر انجلاءَ الزحام، فإذا قام الإمام إلى الركعة الثانية، وتمكن المزحوم من السجود، فسجد سجدتين، ورفع رأسه، فإن صادف الإمام
__________
(1) "إليه" الضمير يعود إلى قطع حكم القدوة بالتخلف، فكان العبارة: لو صار صائر إلى أن حكم القدوة ينقطع بالتخلف، لم يكن بعيداً عن القياس، ولكن لم يصر إلى هذا أحد من الأصحاب.

(2/488)


قائماً، وقام وقرأ وأتى بالركعة الثانية (1 مع الإمام، فهذا قد أدرك الجمعة بكمالها، وما جرى من التخلف بعذر الزحام، فهو محتمل باتفاق الأئمة.
وإن رفع رأسه من السجود، فصادف الإمام في الركوع من الركعة الثانية، فقد اختلف أئمتنا فيه، فمنهم من قال: يبتدر الركوع ابتدار المسبوق، فإذا أدرك الإمام فيه، فقد أدرك الركعة الثانية 1) وتمت له الأولى، وتسقط القراءة عنه في الركعة الثانية؛ لأنه معذور في تخلفه، ولأجل ذلك سقطت القراءة عن المسبوق.
ومنهم من قال: لا يركع مع الإمام، بل يشتغل بالقراءة؛ فإنه ليس بمسبوق، وإسقاط القراءة عن المسبوق في حكم رخصة معدولة عن القياس، فلا يتعدى بها مواردها.
فإن قلنا: يقرأ، فلا يقطع القدوة، بل يقرأ ويتبع الإمام جهده، ويركع، ويجري على ترتيب صلاة نفسه، رابطاً قلبَه بلحوق الإمام، ويكون مدركاً للركعة الأولى والثانية على حكم الجماعة، وإذا ساغ التخلف بسبب الزحمة بأركانٍ لا يجوز التخلف بها اختياراً، فلا فرق بين أن يزيد ذلك أو ينقص، ثم إذا جرى ذلك، فهو مقتدٍ، ولو سها، كان الإمام حاملاً لسهوه، فهذا إذا أدرك الإمامَ راكعاً.
ولو أدركه قائماً، لم يركع بعدُ، فإن لم يتمكن من إتمام القراءة، وركع الإمام، فقد ذكرنا أن المسبوق في هذه الصورة يتم القراءة، أم يبادر الركوع؟ وهذا مضى مفصلاً في موضعه.
1377 - فإذا رفع المزحومُ رأسه من السجود، والإمام في بقية من القيام لا يسع تمام الفاتحة، فإذا قرأ ما قدر عليه وركع الإمام، فهذا يترتب على ما إذا صادف الإمام راكعاً، فإن قلنا ثَمَّ: يقرأ، فهاهنا يقرأ لا محالة، ويجري على ترتيب صلاة نفسه. وإن قلنا: يركع كما يركع المسبوق، ففي قطع القراءة ومبادرة الركوع الخلاف المذكور في المسبوق مع ترتيب. والفرق واضح.
ثم الذي يقتضيه القياس، أنا إذا جوزنا له التخلف، وأمرناه بالجريان على ترتيب
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من: (ت 1).

(2/489)


صلاةِ نفسه، فالوجه أن يقتصر على الفرائض، فعساه يدركُ إمامَه، ويُحتمل أن يسوغ له الإتيان بالسنن مع الاقتصار على الوسط. وقد ذكرنا نظير هذا في المسبوق إذا أدرك الإمام في بقية القيام، فاشتغل بدعاء الاستفتاح والتعوّذ.
1378 - ولو رفع المزحوم رأسه عن السجود في الركعة الأولى، فوجد إمامه رافعاً رأسه عن الركوع، فقد انتهى في هذه الركعة إلى موضع لو أدركه مسبوق، لم يصر مدركاً للركعة، فكيف المزحوم؟
قال شيخي: إن قلنا: لو أدركه في الركوع، ابتدر، فركع، فِعْلَ المسبوق، فحكمه في هذه الصورة حكمُ المسبوق. ولو أدرك المسبوقُ الإمام رافعاً رأسه، فاقتدى، تابعه في بقية [الركعة] (1)، ولم تكن محسوبةً، كذلك المزحوم على هذا الوجه: يرتفع، ولا يقرأ، ولا يركع، ويتابع الإمام في بقية الركعة، ولا تحتسب له الثانية، والأولى محسوبة، وإذا تحلل الإمام، قام وصلى ركعة أخرى، وقد تمت له الجمعة.
وإن قلنا: لو أدرك الإمامَ راكعاً، لم يركع واشتغل بالقراءة، جرى على ترتيب صلاته، ويكون مدركاً للركعة الثانية أيضاً.
1379 - وقد رأيت الطرقَ أشارت إلى أنه إذا صادف الإمامَ رافعاً رأسه من الركوع، فليس له إلا اتباعُ الإمام، ولو جرى على ترتيب صلاة نفسه، لم يكن مدركاً للركعة الثانية، وإذا لم يكن مدركاً للثانية، فجريانه على ترتيب صلاة نفسه مبطل لصلاته؛ فإنها زيادات غير محسوبة، وليس هو جارياً فيها على حكم متابعة، ولا يتصور الانفراد بصلاة الجمعة، والإمام بعدُ في الصلاة فتتعين المتابعة، وهذا حسن، فكأنه إنما يجوز الاقتفاء، والاتباع، والتشوف، إلى اللحوق، ما لم يفرط تقدمُ الإمام، فكأن هذا القائل يقول: إذا صادفه المزحوم في الركعة الثانية على محلٍّ يدرك المسبوقُ بإدراكه الركعةَ، فهذا قريب في حق المعذور، فيتّجه إما اتباعه حيث
__________
(1) في النسخ الثلاث: الركوع. والمثبت تقدير منا لاستقامة المعنى. (ومن عجب جاءت (ل) بنفس الخلل).

(2/490)


صودف، وإما الجريان على ترتيب الصلاة، ثم هو يدرك الركعة الثانية في الجهتين جميعاًً.
وإن صادفه في الركعة الثانية في محلٍّ لو أدركه مسبوق، لم يصر مدركاً للركعة، فلا يصير المزحوم مدركاً للركعة الثانية؛ فإنه قد أفرط التخلف.
1380 - ورأيت تفريعاً على هذه القاعدة به تمام البيان وكشفُ الغطاء: وهو أن المزحوم لو لم يتمكن من تدارك السجود، ولا من متابعة الإمام في الركعة الثانية، حتى رفع الإمام رأسه من الركوع، ثم تمكن من السجود، وقد بلغ التخلفُ هذا المبلغ، فلا يصير مدركاً للجمعة، وإن سجد عن الركعة الأولى؛ فإن التخلف جاوز الحدّ، وكأن هذا القائل يقول: تقدُّمُ الإمامِ [بركنٍ أو ركنين، والمقتدي مختار غير ممنوع، يقطع القدوة على التفصيل المقدّم، وإن كان مزحوماً معذوراً، فإذا تقدم الإمام] (1) بما يُدرك به الركعة الثانية، فهذا مع العذر يقطع القدوة، فتفوت الصلاة.
فهذا مسلك، والمشهور ما قدمته من طريقة شيخي.
1381 - ولو رفع الساجد رأسه، والإمام في التشهد، فهو كما لو صادفه رافعاً رأسه من الركوع.
وليس بعد ذلك تفصيل؛ فإن تقدير الإدراك قد فات برفع الرأس من الركوع، فإذا صادف الإمام في الصلاة، وقد فات محل إدراك المسبوق، فيستوي التفريعُ بعد هذا.
1382 - ولو رفع المزحوم رأسه من السجود، فسلّم الإمامُ، فالذي ذهب إليه معظم الأئمة: أنه يصلي ركعةً ويضمها إلى الأولى، ويصير مدركاً للجمعة. ثم ذكر شيخي اختلافاً في أنه هل يثبت له في هذه الركعة حكم المقتدي، حتى كأنه مقتفٍ لإمام سابق له بأركان، وفائدة تقديره مقتدياً، أنه لو سها يكون سهوه محمولاً. وهذا بعيد لا أصل له، وكيف يقدّر الاقتداء حكماً، وتحقيقاً بمن ليس في الصلاة.
__________
(1) ما بين المعقفين زيادة من (ت 1).

(2/491)


ومما يتعلق بتحقيق القول في ذلك أن الإمام لو سلم قبل أن يرفع المقتدي رأسه من السجود الذي زُحم عنه، فقد قال الأئمة: لا يكون مدركاً للجمعة؛ فإن الإمام فارقه قبل إقامة ركعة كاملة، ومن أبعد فأثبت الاقتفاء الحكمي لا يثبته هاهنا؛ فإن ذلك الاقتفاء تبعٌ، لجريان ركعة تامة على تحقيق القدوة.
فهذا منتهى القول في قسم واحد من المسألة، وهو أن يسجد المزحوم والإمام في قيام الركعة الثانية، ثم تنقسم الأحوال عند رفعه رأسه كما سبق.
1383 - فأما إذا دامت الزحمةُ حتى ركع الإمامُ في الركعة الثانية، فإذ ذاك تمكن من استدراك ما فاته من السجود، وتصدى له إدراكُ الركوع في الركعة الثانية، فما يفعل والحالة هذه؟ للشافعي قولان فنصوصان: أحدهما - أنه يشتغل بتدارك ما فاته؛ فإن رعاية الترتيب في الصلاة محتومة، وهذا المزحوم قد ركع متابعاً في الركعة الأولى، ولو ركع مرة أخرى، لكان موالياً بين ركوعين في ركعة واحدة، وقد يلزم الرجلَ متابعةُ الإمام ومخالفةُ ترتيب نفسه، ولكن ذلك فيه إذا ابتدأ، فاقتدى وصادف الإمام ساجداً، مثلاً؛ فإنه يهوي ساجداً؛ لأنه التزم المتابعة؛ فلزمه اقتداؤه، وهذا ابتداء الاقتداء، فأما المسألة التي نحن فيها، فقد تابع في الركوع الأول، فيلزمه بحكم ذلك الركوعِ وترتيبِه أن (1) يسجد، فإن أمرناه بالركوع، خالف ذلك الترتيبَ.
والقول الثاني - أنه يركع مع الإمام؛ فإن الركعة الأولى قد (2) بعُد تدارك ترتيبها، وأفرط التخلفُ عن الإمام، وإذا عسُر ذلك متصلاً، فلا وجه إلا مبادرة الركوع على اعتقاد أن هذه ركعةٌ جديدة، اتفقت مصادفة الإمام فيها، وقد يتعلق تمام الغرض في التوجيه بالتفريع.
فإن قلنا: إنه يركع مع الإمام، فلا يخلو إما أن يوافق، فيركع كما أمرناه، وإما أن يخالف، فيسجد ويتدارك ما فاته في الركعة الأولى، فإن ركع وتمادى مع الإمام، حتى يؤدي الركعة الثانية مع الإمام، فقد أتى بركوعين أحدهما في الركعة الأولى،
__________
(1) جملة " أن يسجد " فاعل "فيلزمه".
(2) في الأصل: وقد (بزيادة الواو).

(2/492)


والثاني في الثانية، فالمحسوب أيهما؟ فعلى وجهين: أحدهما - أن المحسوب هو الأول؛ فإنه أتى [به] (1) على حكم القدوة، وكان معتداً به، فلا ينبغي أن ينقلب عما جرى. والثاني - أنه لا يعتد إلا بالثاني، فإنا بطول تدارك الركعة الأولى، وعُسْر الأمر فيها، كأنا رفضنا تلك الركعة من البَيْن (2)، وقدرنا المزحوم كأنه أدرك هذه الركعة ابتداء، وأدرك الإمام في ركوعها.
فإن قلنا: المحسوب الركوع الثاني، فيصير مدركاً للجمعة، وإذا تحلل الإمامُ يقوم، ويصلي ركعة أخرى، وإن قلنا: المحسوب الركوع الأول، وإنما نأمره بالثاني لصورة المتابعة، فيحصل له في ظاهر الأمر ركعة ملفقة، ركوعها في الأولى وسجودها في الثانية، فهل نجعله مدركاً للجمعة بركعة ملفقةٍ؟ فعلى وجهين: أصحهما - أنه يصير مدركاً، فيقوم إذا سلم الإمام، ويصلي ركعة أخرى.
والثاني - أنه لا يصير مدركاً للجمعة؛ لأنه لم يحسب له مع الإمام ركعة متوالية الأركان، والجماعة على نظامها، وهو ركن الجمعة.
التفريع على هذين الوجهين:
1384 - إن جعلناه مدركاً، فلا كلام، وإن قلنا: لا يصير مدركاً لها، فتتعارض الآن أصولٌ، لا يمكن التنبيه عليها إلا بعد ذكر رسم التفريع على ما ذكره الأئمة: فإذا لم نجعله مدركاً للجمعة، فهل تحسب له هذه الركعة من صلاة الظهر؟ فعلى قولين: أحدهما - تحسب.
والثاني - لا تحسب، وهذا يرجع إلى أن صلاة الجمعة ظهرٌ مقصورة؟ أم هي صلاة على حالها وانفرادها؟ وفيه قولان سيأتي ذكرهما. فإن قلنا: هي محسوبة عن ظهر، فلا كلام. وإن لم نحسبها ظهراً، فهل تنقلب صلاته نفلاً أو تبطل؟ فعلى قولين مبنيين على أصل مشهور جارٍ في مسألة معروفة: وهي أن من نوى فرضاً، ولم يحصل
__________
(1) زيادة من (ت 1).
(2) المعنى: كأننا رفضنا (تركنا) تلك الركعة، وأخرجناها من السياق بسبب طول تداركها، وعُسْر الأمر في استكمال سجودها.

(2/493)


له ما نواه لتخلف شرط في الفرضية، فهل يحصل له النفل؟ فعلى قولين. هكذا رتب الأئمة التفريع وهذا [مختلٌّ] (1) على هذا النسق عندي؛ فإن قصارى التفريع أدى إلى حكمنا ببطلان صلاته في قولٍ، ويستحيل أن نأمره بشيء ونقدر موافقتَه فيه، ثم نُخرج من تفريعنا عليه بطلانَ عمله رأساً. هذا محال، لا يُعتقد في مساق الكلام.
والذي يجب القطع به أنا إذا أمرناه بالركوع، فركع، فيتفرعُّ عليه من نتائج الأصول المزدحمة وجوهٌ: أحدها - أنه مدرك للجمعة، وهو الأصح الذي لا ينقدح في الفقه غيرُه. وهذا ينبني على أحد أصلين، إما أن نقول: المحسوب الركوع الثاني، وإما أن نقول: الجمعة تدرك بركعة ملفقة.
والوجه الثاني - أنه تحسب له ركعة من الظهر، وهذا على التلفيق وعلى المصير إلى أن الإدراك لا يحصل معه، والظهر تتأدى بنية الجمعة.
والثالث - أنه لا يحصل له جمعة، ولا ظهر، ولكن تحسب له ركعة من صلاة التطوع، وأصل هذا بيّن.
فأما أن يخرج وجه رابع أن تبطل صلاته، فلا يعتقد ذلك عاقل، فكأنا نقول: هذا القول وهو: الأمر بالركوع من ضرورته أنه يتفرع على وجه يقتضي الصحة لا محالة وإلا فالأمر بما قصاراه (2) الفساد محال.
فهذا كله تفريع عليه إذا أمرناه بالركوع مع الإمام، فركع.
1385 - فأما إذا أمرناه بالركوع، فخالفنا وسجد؛ تلافياً لما فاته، فلا يخلو: إما أن يكون جاهلاً بأنه ممنوع من ذلك، وإما أن يكون عالماً: فإن كان جاهلاً، وظن أن الوجه فعله، فأول ما نذكره أن سجوده الذي يأتي به غير محسوب له، فإن رفع رأسه، والإمام بعدُ في الركوع، فابتدر وركع، فقد عاد تفريعه إلى موجب الموافقة، وعذر فيما صدر منه من السجود لجهله.
وإن لم يدرك الإمامَ راكعاً، فقام، وقرأ، وركع، وسجد، مقتفياً، لا مقتدياً
__________
(1) في الأصل، (ط): مُخيل. والمثبت من (ت 1)، (ل).
(2) في (ل): بما يصير إلى الفساد.

(2/494)


على التحقيق، فلم يأت بالسجود مع الإمام على حقيقة المتابعة، فإذا جرى الأمر كذلك، فقد يطلق ظاهراً أن السجود الذي تداركه أوّلاً إن لم يحتسب، فالذي أتى به في الركعة الثانية ينبغي أن يحسب، ولكن إن قدرنا ذلك، فالمزحوم في هذه الركعة الثانية مقتدٍ حكماً، وليس متابعاً عِياناً، وقد اختلف أئمتنا في ذلك: وأحسن ترتيب فيه، أنا إن قدرنا الاحتساب بالسجود في الركعة الثانية، فقد حصلت ركعة ملفقةٌ: ركوعها من الأولى، وسجودها من الثانية، وهل يحصل إدرك الجمعة بركعةٍ ملفقة؟ فعلى ما تقدم.
وإن قلنا: لا يحصل، فنقطع تفريعه الآن، فإن قلنا: يحصل، فهذه ركعة في حكم الاقتداء، لا في حقيقة الاقتداء، وقد اختلف الأئمة في أن الجمعة هل تحصل بحكم الاقتداء لا بحقيقته؟
1386 - وهذا الآن يستدعي تثبتاً، فنقول: إن سجد المزحوم في قيام الإمام قبل ركوعه -كما تقدم تصويره في صدر المسألة- فقد جرى سجوده، وهو متخلف عن الإمام تخلفاً، لو اختاره، بطلت قدوته، ولكن ذلك القدرَ معفو عنه، لعذر الزحام وفاقاً.
وإن لم يسجد حتى ركع الإمام في الثانية، ثم أمرناه بالركوع، فسجد، فلا يعتد بالسجود؛ لأنه خالف به، فلو سجد في الركعة الثانية مقتفياً، لا مقتدياً حساً، فهذا اعتقدوه تخلفاً مفرطاً، فترددوا فيه.
وخرج من هذا أن ما يقع قبل الركوع ملحق بالاقتداء الحسي، وإن جرى فيه تخلف لا يحتمل في حالة الاختيار. وما يقع بَعْد فوات الركوع اقتفاءً، فهو في حكم اقتداء حكمي لا عِيانيٍّ. ثم في إدراك الجمعة بمثله الخلافُ الذي ذكرناه.
1387 - ثم من تمام التفريع في الصورة أنا إذا لم نجعله مدركاً للجمعة، فهل يكون مدركاً ركعةً من الظهر؟ فعلى قولين مبنيين على أصلين: أحدهما - أن الجمعة ظهر مقصورة أم لا؟
والثاني - أن الظهر هل تصح قبل فوات الجمعة؟ ثم إن صححنا الظهرَ، فيقوم عند

(2/495)


تحلل الإمام، ويصلي ثلاث ركعات، وإن لم نصحح، فهل تبطل الصلاة أم تنقلب نفلاً؟ فيه قولان.
فإذاً يخرج في صورة اشتغاله بالسجود على ما رسمناه في الصورة التي ذكرنا مع الجهل أوجه: أحدها - أنه مدرك للجمعة.
والثاني - أنه مدرك لركعة من الظهر.
والثالث - أنه متنفل، والرابع - أنه تبطل صلاته. وتخريج البطلان لا يبعد إذا خالف ما أمرناه به، وإن كان جاهلاً.
فأما طرد وجه البطلان مع أمرنا إياه بشيء وامتثاله إياه، فمحال لا أثر له.
وهذا كله فيه إذا أمرناه بالركوع، فسجد جاهلاً، ثم رفع، واقتفى الإمامَ، فقرأ، وركع، وسجد.
1388 - فأما إذا رفع رأسه من الركوع الذي اشتغل به، فلم يأت بالركعة الثانية على اتساقها، ولكن صادف الإمام رافعاً رأسه من الركوع، فتابعه، ووقع له ذلك، فأتى بالسجود في الركعة الثانية على صورة المتابعة في الحقيقة، فقد زال أحد الأصلين في أن حكم الاقتداء هل يكون كحقيقة الاقتداء؟ وتجرد الأصل الثاني في أنه أدرك ركعة ملفقة: ركوعها من الأول، وسجودها من الثاني.
1389 - ثم تمام البيان في هذه الطرق أنه إذا اشتغل بالسجود جاهلاً، والتفريع على أنه كان مأموراً بالركوع، فإذا رفع رأسه من السجود، وصادف الإمام رافعاً عن الركوع، فيؤمر في هذه الحالة أنه يتابع الإمام، ثم تتفرع التفاريع، ولا يخرج على هذا القول وجه أنه مأمور بالجريان على ترتيب الركعة الثانية اقتفاء.
فليفهم الفاهم ما نجريه.
1390 - فمما أطلقه على ظن غالبٍ في المسألة، أنه ليس في الزمان مَن يحيط بأطراف هذه المسألة، وتنزيلها على حقيقة الأصول فيها.
ومن بدائع معانيها ومبانيها ازدحام الأصول المتناقضة فيها، وهي منشأة من زحام وقع فيها، ومغزاها بعدُ مؤخرٌ، سيأتي ذكرنا عليه إن شاء الله عز وجل.

(2/496)


فهذا إذا أمرناه بالركوع، فسجد جاهلاً.
1391 - فأما إذا سجد وخالف عالماً بأنه مخالف لما هو مأمور به، فنقول في ذلك: إن خالف، وهو مستديم لنية القدوة، غيرَ قاطعٍ لها، بطلت صلاته قطعاً.
وإن نوى الخروج عن القدوة، فيزدحم كما ذكرناه أصولٌ متناقضة، منها: أن الخروج عن القدوة، هل يجوز من غير عذر؟ فيه قولان، سبق ذكرهما. فإن منعنا ذلك، فحكمه بطلان الصلاة.
والأصل الآخر أنه إذا أراد إقامة الظهر، فهذا ظهر قبل فوات الجمعة، ثم العقدُ كان على نية الجمعة، والجمعة ظهر مقصورة، أم صلاة على حالها؟ فإن أبطلنا صلاته بسبب نية الانفراد، فذاك، وإلا لقِيَنَا أصلٌ آخر يقتضي الإبطال في قول، وهو أن الظهر بنية الجمعة كيف تتأدى، فإن لم يبطل لهذا أيضاً على قولٍ وهو أن الظهر بنية الجمعة كيف تتأدى، فإن لم يبطل لهذا أيضاً على قولٍ، لقِيَنَا أمرٌ آخر، وهو أن الظهر قبل فوات الجمعة هل يصح؟ فإن فرعنا على قول الصحة في كل أصلٍ من هذه الأصول، فقد يُخرّج قول آخر في صحة الظهر، وإن لم نصحح الظهر، فقد يخرّج قول في صحة النافلة.
فهذا كله تفريع على أنه مأمور بالركوع، ثم فرضنا فيه الموافقة والمخالفة جميعاًً.
1392 - فأما إذا أمرناه بالسجود وتلافي الفائت، ولم نأمره بالركوع، فلا يخلو إما أن يوافق أو يخالف، فإن وافق، وسجد. ثم رفع رأسه، فلا يخلو إما أن يصادف الإمام راكعاً أو رافعاً، فإن صادفه راكعاً، فيقرأ، ويقتفي، أو يركع ويقتدي؟ قد ذكرنا هذا في صدر الفصل، ونحن نعيده على وجه.
فلنبدأ بأنه إذا سجد كما أمرناه، فهل يصير مدركاً للجمعة أم لا؟ ذكر الأئمة وجهين في ذلك؛ من جهة أنه سجد مقتفياً، وكان في سجوده على حكم القدوة، لا على حقيقة القدوة، وقد تقدم ابتداءً أنه لو تمكن من السجود، وانجلى الزحامُ، والإمام بعدُ قائم، فسجد، يكون مدركاً للركعة، فقطَعْنا ثَم بالإدراك، وإن أتى بالسجود لا على حقيقة القدوة؛ فإن الإمام سبقه بهما سبقاً، وهو تخلف عنه بسبب

(2/497)


الزحام، تخلفاً، لو تخلف باختياره من غير عذر، لما جاز ذلك، ولكن يمكن فيما تقدم من التلافي والإمام قائم غيرُ منتهٍ إلى الركوع الذي به يدرك المسبوقُ الركعة، فلم نجعل المزحومَ إذا ابتدأ السجود مقتدياً حكماً، بل جعلناه مقتدياً حقيقة، وجعلنا انضمام عذر الزحام إلى تخلفه مع القدرة على ابتداء السجود في القيام في معنى متابعةٍ حسية، فاقتضى ذلك الحكمَ بإدراكه الركعة.
1393 - فأما إذا ابتدأ السجودَ والإمامُ راكع منته إلى ما به يدرك المسبوق -لو دخل الآن- فهذا تخلّف ظاهر -وإن كان العذرُ معه قائماً- يُخرّجُ (1) السجود منه الآن -وإن كان على وفق ما أمرناه به- على وجهين في أنه مقتف على حكم القدوة أو مقتدٍ على حقيقتها.
فهذا بيان الخلاف في هذه الصورة، مع التنبيه للفرق بينها وبين الصورة التي تقدمت في الاشتغال بالسجود.
وقد وضح أن سبب التردد انتهاءُ الإمام إلى ما به يدرك المسبوق في الركعة الثانية، ثم هو يُضرب عن إمامه، ويتركه في أهم حالات المتابعة، ويشتغل بالسجود.
ثم إن جعلناه مدركاً -وهو الظاهر لمكان العذر- فإذا رفع رأسه [من السجود، والإمام رافع] (2) من الركوع، فالمقتدي يجري على ترتيب صلاة نفسه في الركعة الثانية، فيقرأ ويركع ويرفع؛ لأنا أمرناه بالسجود والإمام راكع ليجري على ترتيب صلاة نفسه، فلأن نأمره باعتبار ترتيب صلاة نفسه، وقد رفع الإمام رأسه من الركوع، وجاوز الركنَ الذي يقع به إدراك المسبوق أولى.
1394 - وإن رفع رأسه من السجود والإمام بعدُ في الركوع أيبتدر الركوعَ فعْلَ المسبوق؟ أم يجري على ترتيب صلاة نفسه، فيقرأ ويقتفي؟ الظاهر أنه يجري على ترتيب صلاة نفسه؛ فإنا أمرناه بترك متابعة الإمام في الركوع، والاشتغال بالسجود أوّلاً ليكون جارياً على ترتيب صلاة نفسه، فنستديم هذا القياس.
__________
(1) في (ت 1): فخرج، وكذا (ل).
(2) زيادة من (ت 1)، (ل).

(2/498)


ومن أصحابنا من قال: يركع ويترك القراءة كما يفعل المسبوق، ولا يكون ذلك تركاً منه لترتيب الصلاة، ولكن يكون ترخُّصاً منه بما يترخص به المسبوق. والقراءة تقع محسوبة له، والترتيب جارٍ مطرد، والقراءة عنه محمولة.
ومن أصحابنا من قال: إذا رفع رأسه من [السجود والإمام رافع رأسه من] (1) الركوع، فإنه يؤثر متابعته، ويُزجي (2) معه بقيةَ الصلاة، ثم إذا تحلل، يقوم ويصلي ركعةً أخرى.
فإذا قيل لهذا: إنما نُفرعّ نحن على أنه يترك متابعةَ الإمام، فيتدارك ما فاته جارياً على ترتيب صلاة نفسه، فكيف يليق بهذا التفريع أن نأمره آخراً بالمتابعة، وفيها ترك ترتيب صلاة المقتدي بالكلية؟ فيقول مجيباً: نحن لم نأمره بالسجود أوّلاً ليجري على ترتيب صلاة نفسه، ولكن الركعة الأولى قد كان متابعاً في معظمها، فتخلّف بعذر الزحام، فلم يبعد أن يسجد ويتمم القدوة فيها، فأما إذا أخذ يقتفي في الركعة الثانية، ولم يتابع الإمام متابعة حسيّة في شيءٍ منها، فهذا قد يبعد عن شرط القدوة.
فإذاً حاصل القول: أنا إذا فرعنا على التلافي، وترك متابعة الإمام في الركعة الثانية، فوافق وسجد، ثم رفع، والإمام رافع رأسه من الركوع، أو منتهٍ إلى التشهد أنه في وجهٍ نأمره بمتابعة الإمام في البقية، ثم نأمره عند التحلل بضم ركعة إلى الركعة الأولى. وفي وجهٍ نأمره بالجريان على ترتيب صلاة نفسه في الركعة الثانية.
1395 - وإن رفع رأسه والإمام بعدُ في الركوع، فإن قلنا: يؤثر المتابعة، وقد صادف الإمامَ رافعاً رأسه، فإيثار المتابعة هاهنا أولى.
وإن قلنا ثَمَّ: يجري على ترتيب صلاة نفسه، فهاهنا خلاف؛ لأن حمل القراءة وإسقاطها على طريق الرخصة لا يخرجه عن مراعاة (3 ترتيب صلاة نفسه، بل نجعله كأنه قرأ؛ إذ هذه الركعة على هذه 3) الطريقة محسوبة له، فإذا تابع بعد الرفع،
__________
(1) زيادة من (ت 1).
(2) يُزجي: يسوق ويكمل. من: أزجَى الشيءَ: ساقه برفقٍ ودفعه. (المعجم).
(3) ما بين القوسين ساقط من: (ت 1).

(2/499)


فذلك غير محسوب له. والذي يعترض في صورة إدراكه راكعاً أن المقتدي ليس مسبوقاً، وقد سبق ذلك في صدر الفصل.
فهذا إذا أمرناه بالسجود والإمام رافع، فوافق، وسجد، ثم رفع رأسه، وصادف الإمام راكعاً بعدُ، أو رافعاً رأسه.
1396 - فأما إذا أمرناه بالسجود والتلافي (1)، فخالف وركع، فإن فعل ذلك عمداً مع العلم بأنه ممنوع منه، بطلت صلاته؛ فإنه جاء بركوعٍ زائدٍ عمداً غير محسوب له، وهو منهيٌ عنه.
وإن كان جاهلاً، فالركوع غير محسوب، ولكنه إذا سجد مع الإمام، فسجدتاه مع ظاهر الأمر تلتحقان بالركعة الأولى، ولكن الركعة ملفقة، ففي إدراك الجمعة وجهان، ثم في انقلابها ظهراً، ثم لا يبعد تفريع البطلان؛ من جهة أنه خالف ما أمرناه به.
فهذه صور مسائل الزحام، وقد حذفت من الترهات (2) والحشو ما لا نهاية له.
1397 - ولو أدرك المقتدي الركعة الأولى بكمالها، وزحم عن السجود في الركعة الثانية، ثم لم يتمكن من السجود حتى سلم الإمام، فإنه يسجد ويتشهد ويسلم، وقد أدرك الجمعة بلا خلاف؛ فإنه أدرك الأولى على حقيقة القدوة، وأدرك معظم الثانية، وهو معذور في التخلف الذي جرى.
1398 - ولو دخل مسبوق وأدرك الإمامَ في ركوع الركعة الثانية، ثم زحم عن السجود، فلم يتمكن منه حتى سلم الإمام، فلا نجعله مدركاً للجمعة؛ فإنه لم يأت بركعة حتى سلم إمامُه.
فهذا تمام الصور المقصودة.
1399 - وأنا أختم هذه المسألة بأربعة أشياء تتمةً للغرض: أحدها - ما قد أشرت
__________
(1) التلافي: التدارك. من تلافَى الشيء تداركه. يقال: تلافى التقصير. (المعجم).
(2) الترّهات: المراد هنا القول الخالي من النفع. وليس الباطل كما قد يتبادر. (المعجم).

(2/500)


إليه في أثناء التفاريع، من أن هذه المسألة يطرأ فيها انقلاب الجمعة ظهراً، ثم إن لم نجوز، فيطرأ انقلابها نفلاً، ثم ينتهي التفريع إلى البطلان، ويجري في الصور أمرُنا المزحوم وموافقته إيانا ومخالفته لنا، فحيث نأمره ويوافقنا، فلا ينبغي أن نفرع قولَ البطلان أصلاً؛ فإن الأمر بالشيء، ثم الحكم بالبطلان محال، وإذا لم نأمره، فجرى شيء منه عن جهل، أو أمرناه، فخالف جاهلاً، فلا يمتنع انتهاء التفريع إلى البطلان.
وإذا تفطّن المفرع لهذا، كُفي مُؤْنةَ خبطٍ واختلاط في الظاهر (1)، ورجوع من الأمر، وتصوير الموافقة إلى الحكم بالفساد.
والثاني - أنّا حيث نقول: لا جمعة، وتنقلب الصلاة ظهراً في قولٍ، فقد ذكر الشيخ أبو بكر وجهين، في أنا هل نشترط أن يقلبها ظهراً بقصده، أم تنقلب من غير قصده؟ والتوجيهُ فيه: فمن قال: لا نشترط قصدَ القلب؛ فإن الجمعة كصلاة مقصورة، وإن بطل القصر، ثبت الإتمام، من غير حاجةٍ إلى قصدٍ إليه، كذلك هاهنا.
ومن قال: نشترط قصدَ القلب إلى الظهر، قال: بين الجمعة والظهر على الجملة تغاير، وليس بين قصر الظهر وإتمامه إلا زوال القصر، فلا بد في بناء الظهر على الجمعة من قصد. ولعلنا نُعيد هذا من بعدُ.
والثالث - وهو سر مسألة الزحام وبه تمام شفاء الغليل: وهو أن المزحوم إذا تمكن من السجود، والإمامُ بعدُ في قيام الركعة الثانية، فلا ينتهي تفريع هذه الصورة إلى البطلان، إذا امتثل المزحوم ما يؤمر به في جهة من جهات الكلام.
فأما إذا لم يتمكن من السجود حتى انتهى الإمام إلى الركوع في الركعة الثانية، والقولان مشهوران في ذلك، فإن أمر بالركوع، فقد يؤدي إذا وافق إلى الركعة الملفقة، ثم يتسلسل التفريع إلى البطلان لو جرى.
وإذا أمرناه بالسجود، فقد نقول في وجه: هو في هذا الجزء من التخلف مقتفٍ، وليس بمقتدٍ حِسّاً، ثم نقول: هل يحصل الإدراك بهذا؟ ثم يترتب عليه أنه ظهر؟ أم نفلٌ؟ أم تبطل؟
__________
(1) في (ت 1): الكلام.

(2/501)


وقد حذَّرْنا (1) فيما تقدم مراراً تفريعَ البطلان حيث نأمر فيمتثل أمرنا، ولكن من حيث تتعارض في المتابعة في الركوع، وفي الاشتغال بالسجود -عاقبة فسادٍ، يتجه أن يقال: إذا دام الزحام إلى الانتهاء إلى هذا المنتهى، فتبطل الصلاة بناءً على وجوه الفساد، فلا نأمره حتى يمتثل، بل نقول: تنقطع الصلاة أصلاً، وهذا بالغ حسن.
ولكن منشأ الفساد من الركعة الملفقة ضعيف، وكذلك منشأ الفساد من طول التخلف على تقدير أمره بالسجود، مصيراً إلى أنه مقتفٍ، أو طال تخلفه- بعيدٌ، فلما بَعُدا، لم يظهر من أصحابنا من حَكَمَ بالفساد في انتهاء الأمر إلى الركوع، ولكنا نبهنا على ذلك حتى لا يغفل الفطِن عما يطرأ في المسألة من فنون التقديرات.
ثم إن ذكر خلاف في أن الجمعة هل تدرك بالركعة الملفقة؟ فلا شك أن ذلك يختص بالجمعة، فلو فرضت الزحمة في غير الجمعة، لا تبطل الصلاة بهذا التقدير.
وكذلك ما ذكرناه من الخلاف. في المقتفي والمقتدي يختص بالجمعة؛ فإن الجماعة مستحقة فيها. فقد يبالغ المبالغ في أمر الجماعة، وجريانها عِياناً، أو اتساقها على نظام من غير تقطع، ولا أثر لذلك في سائر الصلوات.
والرابع - كان شيخي يحكي خلافاً في التخلف عن الإمام بعذر ذهولٍ أو نسيان، ويقول: من أئمتنا من يُلحق ذلك بالزحام، ومنهم من لا يعذر الناسي؛ لتركه التصون وإدامة الذكر، مع إمكان ذلك، ويجعل من يتخلف ناسياً كمن يتخلف عامداً، ثم لا يخفى ذلك في التفريع على من أحاط بما تقدم. وكان يميل إلى أن الناسي كالمزحوم؛ فإن من نسي الصلاة، وتكلّم فيها، عُذر، ولم تبطل صلاته، وإن كان الكلام عمداً، تبطل الصلاة، والمسألة محتملة؛ فإن النسيان لا ينتهض عذراً في ترك المأمور به، والوفاءُ بالمتابعة مأمور به.
وقد نجز غرضنا في الزحام. ولكن لا يضر اختتام المسألة بتجديد العهد بمراتب
__________
(1) بهذا الضبط في (ت 1). والمعنى أننا حيث نأمر المزحوم، فيمتثل أمرَنا، فلا يصح عقلاً أن يأتي بما أمرناه، ثم نرتب البطلان عليه في التفريع، وقد حذَّر الإمامُ قبلاً في أكثر من مسألة تفريعَ البطلان، ولا تستغرب قوله: "حذرنا تفريعَ البطلان"؛ فالفعل يتعدّى بنفسه، كما يتعدّى بمن. (ر. المعجم).

(2/502)


الزحام حتى يكون ذلك كالترجمة لما تقدم.
فنقول: إذا زحم عن السجود، ثم انجلى الزحامُ والإمام في قيام الركعة الثانية، فيبتدر المزحوم السجودَ وتدارك ما فاته وفاقاً.
ثم إذا رفع رأسه من السجود، ففي إدراكه الإمامَ على حالاته تفصيلات مقدمة، لا حاجة إلى إعادة شيء منها، والذي ينبغي أن يكون على ذكر من يبغي ترجمةَ المسألة أن الإمام لو سلم وهو في السجدة الثانية، فلا يكون مدركاً للجمعة؛ فإنه لم يدرك ركعةً والإمام في الصلاة، بل تحلَّل الإمامُ قبل أن تتم له ركعة، وقد رأيت الطرقَ متفقةً على ذلك.
ولو رفع رأسه من السجدة الثانية، فسلم الإمام، قبل أن يعتدل المزحوم، فهذا فيه احتمال، والظاهر أن الركعة قد تمت.
ولو لم ينجل الزحام حتى ركع الإمام في الركعة الثانية، ففيما نأمره قولان، وهذا عمدة مسألة الزحام، ويتفرع على كلِّ قولٍ الموافقة والمخالفة كما مضى.
ولو دام الزحام، وبقي مزحوماً حتى يرفع الإمام رأسه من الركوع، واشتغل بالسجود، وتابع الإمام، فعند ذلك ذهب ذاهبون إلى أن التخلف قد أفرط، وزالت القدوة الحسّيّة، وبقي الاقتفاء الحكمي، ثم ذكروا في إدراك الجمعة خلافاً، وهذا التردد [إنما] (1) ينشأ من فوات الركوع في الركعة الثانية، ويصير الإمام إلى حالةٍ لو أدركه مسبوق، لم يصر مدركاً للجمعة، ولو دام الزحام حتى سلّم الإمام، فلا شك أن الجمعة قد فاتت المزحومَ، ثم بقية التفريع واضحة. والله أعلم.
مسألة الاستخلاف:
1400 - اشتهر اختلاف قول الشافعي في أن صلاةً واحدةً هل يجوز إقامتُها خلف إمامين؟
وتصوير ذلك أن تبطل صلاة الأول، فيخلفه مستخلَف، كما سنذكره، فيستديمُ المقتدون حكمَ القدوة معه، كما سنصوره بعد إطلاق القولين.
__________
(1) في الأصل. وفي (ط): ثمّ.

(2/503)


والمنصوص عليه للشافعي في الجديد جواز الاستخلاف، وقال في القديم: لا يجوز إقامةُ بقية الصلاة خلفَ الخليفة.
ثم اختلف أئمتنا في محل القولين:
فمنهم من أجراهما في الصلوات كلها، وهو الظاهر، ومنهم من خصص القولين بصلاة الجمعة؛ فإن الجماعة ركنٌ فيها، ويشترط فيها شرائط، لا يشترط شيء منها في سائر الصلوات، فيليق بها اشتراط اتحاد الإمام.
1401 - ومما نذكره في صورة المسألة قبل الخوض في التفصيل، أن القول اختلف في أنه لو خطب بالناس خطيب، وصلى بهم غيره، فهل يجوز ذلك أم لا؟
وهذا قريب من إقامة الصلاة خلف إمامين.
واختلف أئمتنا في ترتيب المذهب: فمنهم من يقول: تجويز ذلك أقرب من إقامة صلاة الجمعة بإمامين؛ فإن ذلك في الصلاة يبترُ صورة القدوة، ويثبت قدوة جديدة، لم تكن، والصلاة عبادة واحدة، والخطبة تنفصل عن الجمعة؛ فتعدد الخطيب والإمام في الصلاة ليس بدعاً.
وكان شيخي يرى إقامة الصلاة بإمامين أولى بالجواز من أن يخطب واحدٌ ويصلّي آخر، ويقول: إذا انعقدت الجمعة، فقد اشتمل عقدها على الإمام الأول والمستخلَف، فالنظر إلى اتحاد العقد، وإذا فرض التعدد في الخطيب والمصلّي، فقد انقطع شرطُ الصلاة -وهو الخطبة- عن الصلاة، ولم يقم بهما واحد، مع تميز أحدهما عن الثاني، وكان يقول: في الجديد تردّدٌ في جواز ذلك، وجواز الاستخلاف مقطوع به في الجديد، وقد قطعنا بأن الانفضاض في الخطبة يؤثِّر؛ حيث يختلف القول فيه لو جرى في الصلاة.
التفريع على القولين في الاستخلاف في الجمعة:
1402 - إن منعناه، فالإمام الأول إن بطلت صلاتُه بسبق حدثٍ، أو تعمدٍ في الركعة الأولى، والتفريع على القديم، فالذي ذكره الأئمة أن الجمعة قد تعذرت على

(2/504)


استدامة هذه الحالة [إن] (1) وقع ذلك في الركعة الأولى؛ فإن القوم لم يدركوا ركعة تامة مع الإمام، وإن وقع ذلك في الركعة الثانية، انفردوا بها، وأتموا الجمعة، ونزلوا منزلةَ المسبوق إذا أدرك ركعة من صلاة الجمعة؛ فإنه يقوم إلى الثانية منفرداً بها عن تحلل الإمام، ويكون مدركاً للجمعة. وقطعوا بأن صلاة الإمام إن بطلت في الركعة الأولى، فلا جمعة، وإن بطلت في الثانية، أتمَّ القومُ الجمعة، ولا استخلاف.
ثم إن حكمنا بارتفاع الجمعة في الركعة الأولى، ففي انقلابها ظهراً، أو نفلاً، أو بطلانها أصلاً، ما قدمناه في مسألة الزحام.
1403 - قال شيخي: قد ذكرنا في مسألة الانفضاض قولين: أن القوم لو انفضوا في الركعة الأولى، ولم يبق إلا الإمام وحده، فتصح جمعته، فعلى هذا لا يمتنع أن نقول: إذا بطلت صلاة الإمام في الركعة الأولى، فزوال الإمام عنهم كانفضاضهم عن الإمام، فإذا كان الإمام يُتم الجمعةَ وإن جرى الانفضاضُ في الركعة الأولى، فكذلك القوم يتمون الجمعة، وإن زال إمامهم في الركعة الأولى.
وهذا الذي ذكره قياس حسن، غير أن الأصحاب قالوا: لو بطلت صلاة الإمام في الركعة الثانية، أتموها جمعة، وقد ذكرنا قولاً منصوصاً أن القوم لو انفضوا في الركعة الثانية، فالإمام لا يصلي جمعة، والإمام شيخي جرى على متابعة الأصحاب في الفرق بين الانفضاض وبين زوال الإمام في الركعة الثانية.
فالذي يقتضيه القياس عندي تخريج قول من الانفضاض في زوال الإمام في الركعة
الثانية؛ إذ لا يكاد يظهر فرق؛ فإن الإمام ركن الجماعة في حق المقتدين، كما أن
القوم ركن الجماعة في حق الإمام، وليس ذلك كانفراد المسبوق بركعة؛ فإنه قد
صحت الجمعة للإمام والجمع، فأُثبت للمسبوق إدراك الجمعة، على طريق التبعية
لأقوامٍ صحت جمعتهم.
فهذا تفريعٌ على منع الاستخلاف.
1404 - فأما إذا قلنا: يجوز الاستخلاف. فأول ما نذكره أن الإمام لو أحدث
__________
(1) في الأصل، و (ط): بأن.

(2/505)


عامداً، أو أخرج نفسه من الصلاة قصداً، أو سبقه الحدث، فكل ذلك على وتيرة واحدة، والاستخلاف يجري في جميع هذه الصور عندنا.
وأبو حنيفة (1) إنما يجوّز الاستخلاف إذا سبقه الحدث، ثم يقول: لا تبطل الصلاةُ بسبق الحدث، فالإمام يستخلف وهو بعينه في الصلاة.
وعندنا أنه يجري الاستخلاف مع بطلان صلاة الإمام.
وللشافعي قول في القديم أن من سبقه الحدث في صلاته لا تبطل صلاته، ولكن لا ينتظم التفريع في ذلك؛ فإن هذا القول منصوص عليه في القديم، والذي نص عليه في القديم منعُ الاستخلاف، فلا يتأتى في الترتيب تفريعُ جواز الاستخلاف على قولنا بأن سبق الحدث لا يُفسد صلاة الإمام.
ثم ما صار إليه أبو حنيفة خليّ عن التحصيل؛ فإن الاستخلاف يليق بزوال الإمام الأول عن الصلاة.
1405 - ثم الذي نبتدئه في ذلك أن المستخلف يشترط فيه أن يَكون عقَدَ الصلاة مع الإمام أولاً، وصار من جملة المقتدين، ثم يستخلَف، فلو بطلت صلاة الإمام أولاً، وأراد أن يستخلف من لم يتحرم بالصلاة بعدُ، حتى يتحرّم ويتقدم ويؤم بهم، فهذا غير جائز في الاستخلاف. وسأذكر حكم هذه الصورة في آخر المسألة إذا تمَّمْتُ غرضي في الاستخلاف.
1406 - فإذا ثبت أن الاستخلاف يختص بمن عقد صلاته قبل بطلان صلاة الإمام، فلا يخلو إما أن يجري هذا في الركعة الأولى، أو يجري في الثانية، فإن جرى في الأولى، فهل يشترط أن يكون الخليفة ممن سمع الخطبة؟ ذكر الأئمة فيه خلافاً في جميع الطرق. ثم الذي صححوه أن ذلك ليس بشرط؛ فإنه إذا عقد صلاتَه، صار في حكم من سمع الخطبة، وضاهى في حكمه حكمَهم.
ثم قال الأئمة: إن استخلف الإمام رجلاً مقتدياً به جاز، فلو مضى الإمام على وجهه، ولم يستخلف أحداً، فالقوم يقدّمون خليفة من جملة المقتدين بالإشارة،
__________
(1) ر. مختصر الطحاوي: 32، حاشية ابن عابدين: 1/ 403.

(2/506)


واتفق الأصحاب على أن ذلك جائز منهم، ثم قالوا يجب الاستخلاف في الركعة الأولى؛ فإن ذلك إذا اتفق يترتب عليه إدراك الجمعة، ولو أرادوا أن ينفردوا، لم تصح جمعتُهم، وإقامة الجمعة واجبة عليهم، فيتعين الاستخلاف لما ذكرناه.
ثم الذي ذكره الأئمة أنه إذا صح الاستخلاف، وتقدم الخليفة، استمر الناس على صلاتهم، ولا حاجة بهم إلى تجديد نية الاقتداء بالخليفة. وفائدة الاستخلاف نزول الخليفة منزلة الإمام الأول، حتى كأنه هو، ولو استمرت الإمامة من الأول، لم يكن لتجديد نية الاقتداء معنى، ولو انقطعت القدوة الأولى، لكان الظاهر في القياس انقطاع الجمعة، ثم إن كان التقديم من القوم، ولم يستخلف الإمام الأول، فيكفي عندي صَدَر (1) هذا من واحد من القوم، ولو شرطنا صدورَه من جميعهم، وهم مائة ألف مثلاً، لعسر الوصول إلى ذلك في أثناء الصلاة.
ولو تقدم واحد بنفسه، ولم يقدمه أحد، ففيه احتمال عندي؛ من جهة أنه لم يستخلفه أحد، ويظهر الجواز، من جهة أنه من القوم، فتقديمه نفسَه كتقديمه آخرَ.
والله أعلم.
1407 - ولو قدم الإمام إنساناً، وقدم القوم آخرَ، فليس في هذا عندي نقل، والمسألة محتملة.
ولعل الأظهر أن المتَّبَع من يستخلفه القومُ؛ فإن الإمام قد بطلت صلاته، وإنما يستخلفُ بعُلْقة إمامةٍ كانت وزالت، والقوم باقون في الصلاة، وهم أولى بالاستخلاف.
1408 - ثم ينبغي أن يجري الاستخلاف على القرب، بحيث لا يطول الفصل، فإن قضَوْا على الانفراد ركناً، ثم استخلفوا، لم يجز. وإن طوّلوا الركن الذي هم فيه، ثم استخلفوا بعد طول الزمان، ففي المسألة احتمال.
وكل ما ذكرناه مفرعّ على ما ذكره الأصحاب، من أنهم لو لم يستخلفوا في الركعة الأولى، فلا يصلّون الجمعة.
__________
(1) صَدَر بفتحتين أي صدور، واستعمال المصدر بهذا الوزن يجري بصفة شبه دائمة على لسان الإمام.

(2/507)


والذي حكيته عن شيخي في تفريع ذلك على الانفضاض لا تفريع عليه.
1409 - ثم إذا جرى الاستخلاف في الركعة الأولى، فالإمام المستخلَف يصلي الجمعة كالقوم؛ فإنه اقتدى أولاً وعقَد الصلاة، ثم استُخلف، فسبيله في الإدراك كسبيل القوم. وكل ما ذكرناه فيه إذا جرى الاستخلاف في الركعة الأولى.
1410 - فأما إذا تمت ركعة مع الإمام الأول، ثم فسدت صلاته في الركعة الثانية، فالذي ذكره الأصحاب أنه لا يجب الاستخلاف في الركعة الثانية؛ إذ سبب وجوبه في الأولى أنهم لم يدركوا مع الإمام ركعة، فأما إذا صلوا ركعة، فلو انفردوا -وقد فسدت صلاة الإمام- لصحت جمعتُهم؛ فلا يلزمهم الاستخلاف.
ثم نص الأصحابُ على أن المقتدين لا يلزمهم الاستخلاف، ولو استخلف الإمامُ لا يلزمهم أن يتابعوه، بل هم بالخيار إن شاءوا، استخلفوا، وإذا استخلف الإمام، فهم بالخيار إن شاءوا، تابعوه واستمروا، وإن شاءوا، انفردوا. ولو اقتدى بعضهم وانفرد آخرون، جاز.
1411 - فإن قيل: لو بقي الإمام الأول، ولم يطرأ ما يبطل صلاته، فلو أراد القوم، أو واحد منهم أن ينفردوا بالركعة الثانية، وينووا قطع القدوة والخروجَ عن المتابعة، فما ترون فيه؟ قلنا: لو جرى هذا في سائر الصلوات، ففي المسألة قولان في حق غير المعذور، كما تقدم ذكره، والذي نراه القطعُ بأن هذا في الجمعة غير جائز، وإن مضت الركعة الأولى على الصحة؛ فإن الجماعة واجبة في الجمعة، فلا يجوز قطع الواجب، فإن قيل: هلا أوجبتم الاستخلاف لتدوم الجماعة؟ قلنا: لم يوجبها أحد في الركعة الثانية؛ فإنهم إنما التزموا الوفاء بما نَوَوْه من الاقتداء الأول، فأما الاستخلاف وإن كان تدوم به الجماعة، فهو ابتداء أمر، فهذا ما أردناه.
1412 - ولو استخلف الإمام في الركعة الثانية مسبوقاً، لم يدرك الركعة الأولى، ففي جواز ذلك قولان: أحدهما - المنع؛ فإن هذا الإمام لا يكون مدركاً للجمعة، كما سنوضحه في التفصيل إن شاء الله.
والثاني - الجواز؛ فإنه بمثابة الإمام، حتى كأنه هو، وهذا يترتب عندي على

(2/508)


ما تقدم من أنَّا هل نشترط أن يكون الخليفة قد سمع الخطبة؟ فإن شرطنا ذلك، فلا يجوز استخلاف المسبوق، وإن جوزنا استخلاف من لم يسمع الخطبة، ففي استخلاف المسبوق بالركعة الأولى قولان، والمسألة مفروضة [فيما] (1) إذا اقتدى المسبوق أولاً، وانعقدت صلاته، ثم فسدت صلاة الإمام واستخلفه.
ثم قال الشافعي مفرعاً على جواز استخلاف المسبوق: إذا تقدم، فإنه يجري على ترتيب صلاة الإمام، ولتكن صلاتُه على صفة صلاته لو بقي مقتدياً بالإمام الأول، فيجلس إذا انقضت هذه الركعة بقدر جلوس الإمام تقريباًً، ويجلس معه القوم، ثم يومىء إيماءً، فيتحلل المقتدون عن جمعتهم، ويقوم الخليفةُ إلى ما عليه، على ما سنوضح تفصيل ما عليه إن شاء الله.
ثم هذا الخليفة لا يكون مدركاً للجمعة بلا خلاف؛ فإنه لم يدرك ركعة من الجمعة مع الإمام.
ولو دخل مسبوق واقتدى بهذا المسبوق المستخلف -على قولنا يصح استخلافه- فيكون المقتدي به مدركاً للجمعة، حتى لو أدركه في ركوع هذه الركعة، حُكم بكونه مدركاً للجمعة؛ وذلك أنه يجري على ترتيب صلاة الإمام، حتى كأنه هو في حق المقتدين، ولذلك يتشهد، وليس هذا ترتيبَ صلاة نفسه، فهو في التحقيق حالٌّ في حق المقتدين به محل الإمام الأول لو بقي، ولكنه في نفسه غيرُ مدرك للجمعة.
قال ابن سريج: يُخرج في المسبوق الخليفة -على قولنا: يجوز استخلافه- قولان، في أنه هل يصح ظهرُه - على أصلين: أحدهما - أنه نوى الجمعة، وقد ذكرنا قولين في أن الظهر هل يصح بنية الجمعة إذا تعذرت الجمعة؟ والثاني - أنَّ الظهر لو صححناه، لكان قبل الفراغ من صلاة الجمعة، وفي صحة الظهر قبل الفراغ من صلاة الجمعة قولان، وسيأتي ذكرهما.
ثم إن صححنا ظهرَه، فلا كلام، وإن لم نصححه -وقد قطع الكافة بأنه لا جمعة له- فتكون صلاتُه نفلاً على [قول] (2).
__________
(1) زيادة من (ط). وفي (ل): "فيه".
(2) في الأصل و (ط): قولين.

(2/509)


ثم قال: سيأتي الخلاف في أن إمامَ القوم لو كان متنفلاً، فهل يصح منهم الاقتداء به في صلاة الجمعة؟ فإن صححنا ذلك، فلو دخل مسبوق واقتدى به، صار مدركاً للجمعة؛ فإن صلاة الخليفة بين أن تكون ظهراً، وبين أن تكون نفلاً، وكيفما فرض، فيصح الاقتداء به.
وإن قلنا: لا يجوز أن يكون إمام الجمعة متنفلاً، فالمسبوق المقتدي به لا يكون مدركاً للجمعة، ولكن يصح اقتداء الذين أدركوا الركعة الأولى مع الإمام الأول به؛ فإنهم لو انفردوا بتلك الركعة، لكانوا مدركين للجمعة، فليس الجماعة مشروطةً في حقهم، فلا يمتنع أن يقتدوا فيها بمتنفل، كما يسوغ ذلك في إقامة سائر الفرائض خلف المتنقل، فأما المسبوق، فالجماعة شرط في إدراكه الجمعة، ثم إذا لم نجوّز أن يكون الإمام متنفلاً، فلا يكون هو مدركاً للجمعة.
1413 - ومما يليق بترتيب الكلام ورعاية النظام فيه، أنا إذا جوّزنا استخلاف المسبوق، فقد التزمنا الحكمَ بصحة صلاته، فكأنا نفرعّ على أن ظهره صحيح، أو ينقلب نفلاً.
وأما التفريع على أن صلاته تبطل، فيؤدي إلى منع استخلافه؛ فإن من تبطل صلاته، يستحيل تقديرُه إماماً أولاً، ثم الانعطاف على صلاته بالبطلان آخراً. نعم.
إذا منعنا استخلافه، فيخرج في صلاته قولان في أنها ظهر، فإن لم تكن ظهراً، خرج قولان في أنها باطلة أو نفل.
هذا تمام القول في استخلاف المسبوق.
1414 - وبقي في إتمام الغرض من المسألة ما وعَدْنا ذكرَه من استخلاف من لم يقتد بالإمام.
وتصوير ذلك أنه لو بطلت صلاة الإمام -وقد دخل داخل ولم يقتد بعدُ- فالإمام يأمره حتى يتقدم، ويتحرّم بالصلاة، ويقتدي القوم به. فهذا نفرضه في غير صلاة الجمعة، ثم نذكره في صلاة الجمعة.
فإن جرى ذلك في غير الجمعة، فالذي يهب تقديمُه أن هذا ليس باستخلاف،

(2/510)


والمتقدم ليس خليفة، وإنما هو عاقد صلاةَ نفسه، جارٍ على ترتيب نفسه فيها، وقد انقطعت قدوة المقتدين بإمامهم، فإن اقتدَوْا بهذا الرجل، فسبيلهم كسبيل منفردين، يقتدون في أثناء الصلاة، وقد ذكرنا ما فيه من اختلاف القول فيما تقدم.
وإن فرضنا هذه الواقعة في الجمعة، ففي صحة الظهر لهذا المتقدم قولان، وفي صحة صلاته على أحد القولين قولان. فإن لم نصحح صلاتَه، فلا يصح اقتداء أحدٍ به، وإن صححنا صلاته، فنقول: إن جرى هذا في الركعة الأولى -والتفريع في جميع ذلك على ما ذكره الأصحاب- فقد انقطعت قدوة القوم، فلا جمعة لهم؛ فإنهم لم يدركوا ركعة مع إمام الجمعة، ولم تصح الخلافةُ على هذه الصورة في حق هذا الداخل. وقد نقول: لا يصح ظهر القوم، والجمعة لا مطمع فيها وفي صحة نفلهم كلام على ما تكرر. فإن صحت صلاتُه، فنوَوا الاقتداء بهذا المتقدم على الصورة التي ذكرناها، فهؤلاء نَوَوا القدوة في أثناء الصلاة، وفيه من الكلام ما مضى.
وإن أحسوا بحقيقة الحال، فقطعوا الصلاة، وابتدأ هذا الداخل المحتقدم، ونوى الجمعة، واقتدى القوم به ابتداءً، صحت الجمعة للمتقدم، والمقتدين به، إذا جوزنا أن يخطب رجل، ويصلي الجمعة غيرُ من خطب، فإن لم نجوز، فلا جمعة لهم. ثم لا يخفى بقية التفريع.
فهذا تفريع الحكم لو جرى ما ذكرناه في الركعة الأولى.
1415 - فأما إذا جرى في الركعة الثانية، فقد ذكرنا من مذهب الأصحاب أن جمعة القوم صحيحة، وإن انفردوا بالركعة الأخيرة، فلو تقدم الداخل ونوى الجمعة، فاقتدى القوم، فقد نقول: لا تصح صلاة المتقدم الذي نوى الجمعة، فلا يصح اقتداؤهم، مع العلم بذلك، وبطلت صلاتهم.
وإن قلنا: تصح صلاة المتقدم ظهراً أو نفلاً، فالقوم قد انقطعت قدوتهم، ولم يصح الاستخلاف، فإن اقتدَوْا به، كان هذا اقتداء طارئاً على الصلاة بعد ثبوت حقيقة الانفراد، وفي جواز ذلك القولان الجاريان في سائر الصلوات.
فهذا منتهى القول في الاستخلاف وما يتعلق به.

(2/511)


فصل
1416 - ذكر صاحب التقريب تفصيلاً جامعاً في نية صلاة الجمعة، فقال: اشتهر الخلاف في أن الجمعة ظهر مقصورة أم صلاة على حيالها؟ فإن قلنا هي صلاة بنفسها، وليست ظهراً، فلا بد من نية الجمعة، ولو نوى المرء ظهراً مقصورة، (1 لم تصح جمعته.
وإن قلنا: هي ظهر مقصورة، فلو نوى المكلف ظهراً مقصورة 1) ففي صحة الجمعة بهذه النية وجهان: أحدهما - يصح؛ فإنه نوى الصلاة على حقيقتها وصفتها.
والثاني - لا تصح الجمعة؛ فإن الغرض الأظهر [من الباب التمييز، وهذه الصلاة، وإن كانت ظهراً مقصورة، فليست كالظهر المقصورة] (2) في السفر، بل هو مقصور متميز، بحكمه، وصفته، وشرطه [عن] (3) كل ظهر مقصورة، فلا بد من تمييزه بما يختص به، وهو الجمعة.
ثم ذكر في سياق الكلام شيئاًً، فقال: إذا نوى الجمعة، وقلنا: هي صلاة على حيالها، فذاك. وإن قلنا: هي ظهر مقصورة، فهل يجب التعرض في النية لقصد القصر، أم يكفي نية الجمعة؟ فعلى وجهين: أصحهما - أن نية الجمعة كافية؛ فإنها لا تكون إلا مقصورة.
والثاني - لا بد من قصد القصر؛ فإن الأصل الإتمام، وهذا ضعيف، لا اتجاه له أصلاً، ولكنه صرح بنقله مراراً، فنقلناه، وهو غير معدود من المذهب.
وجميع ما ذكرناه في الانفضاض، والزحام، والاستخلاف، متعلق بشرط واحد وهو الجماعة، فجرت هذه المسائل الموصوفة متفرعة على حكم الجماعة.
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من (ت 1).
(2) زيادة من (ت 1).
(3) مزيدة من (ت 1).

(2/512)


فصل
1417 - قد ذكرنا في الشرائط المرعية الوقت، فنقول في بيانه: إن وقع شيء من صلاة الإمام والمقتدين به في وقت العصر، فلا تصح الجمعة وفاقاً.
ثم نقول: لو وقعت التسليمة الأولى وراء الوقت، فلا جمعة، ثم يعود الترتيب المقدم في أن الجمعة إذا لم تصح، فهل يبنون عليها ظهراً؟ وقد تكرر هذا على الترتيب المعروف مراراً.
1418 - ولو أدرك مسبوق ركعةً من الجمعة مثلاً وتحلل الإمام، والسابقون المقتدون به في الوقت، فقام المسبوق إلى تدارك الركعة التي فاتته، فوقعت ركعتُه، أو آخرُها وراء الوقت، ففي المسألة وجهان مشهوران: أحدهما - أنه لا تصح جمعة المسبوق لوقوع بعضها وراء الوقت، فصار كما لو اتفق ذلك في صلاة الإمام والمقتدين به.
والثاني - تصح للمسبوق؛ فإنه تابع للقوم، وقد صحت جمعتهم، وهذا أدرك ركعةً معهم في الوقت، فتبعهم في صحة الجمعة.
وعلى الجملة اعتناء الشرع بالوقت أعظم من اعتنائه بالجماعة، ولذلك اختلفت الأقوال في الانفضاض، وإن اختلّت الجماعة به، ولم يختلف المذهب في أن شيئاًً من صلاة الإمام، لو وقعت وراء الوقت، لم تكن جمعة، وإن وقع المعظم في الوقت.
والمسبوق لا يمتنع أن ينفرد بركعة، وفي وقوع شيء من صلاته وراء الوقت الخلافُ الذي ذكرناه. ولعلّ السبب فيه أن الجمعة على صورة صلاة مقصورة، أو هي مقصورة على الحقيقة، والاقتصار على الركعتين مشروط بالمحافظة على الوقت، وذلك داخل تحت اختيار الإمام والقوم، فأما اختلال الجماعة في الأثناء والانتهاء، فلا يتعلق بالاختيار كما تقرر في مسألة الزحام.

(2/513)


فصل
يجمع تقاسيمَ لا بد من الإحاطة بها
1419 - فنقول: الناس في الجمعة على أقسام، منهم من لا يلزمه حضور الجامع وإقامة الجمعة، ولو حضروا الجامع، فهم على تخيّرهم، إن أحبوا أقاموها، وإن أحبوا أقاموا ظهراً، وهؤلاء: النسوان، والعبيد، والصبيان، والمسافرون، والمترخصون. وذكر صاحب التلخيص في العبد تخريجاً أنه إذا حضر؛ لزمته الجمعة. وهذا غلط باتفاق الأصحاب، ولا يوجد هذا التخريج في جميع نسخ الكتاب، فلعله هفوة من ناقل.
1420 - ثم هؤلاء لا يكمل بهم العدد المشروط قطعاً؛ فإنهم على نقائص ظاهرة لازمة، وصفات الكمال مرعية في العدد الذين تنعقد بهم الجمعة.
ومن نصفه حر، ونصفه عبد، في معنى العبد الرقيق.
وذكر بعض المصنفين أن الجمعة إذا كانت في نوبة مالك الرق، فلا جمعة؛ فإنه في معنى الرقيق في نوبة السيد، فإن وقعت الجمعة في نوبة من نصفه حر، فهل يلزمه إقامة الجمعة؟ فعلى وجهين، وإن لم يكن بينه وبين السيد مهايأة، فلا تلزمه الجمعة أصلاً، وذِكْر الوجهين في نهاية الضعف. والوجه القطع بأنه لا يلزمه إقامة الجمعة.
ولا أعرف خلافاً أن المكاتَب لا تلزمه الجمعة وإن كان [مستقلاًّ] (1) بنفسه.
وسقوط الجمعة عن المسافر المترخص بالاتفاق أوضح دلالة على أنَّ الكمال والاستقلال مرعيٌ في وجوب الجمعة.
وإن كان من نصفه حر في يوم نفسه، فهو في نوبته مدفوع إلى الجدّ في التكسب لنصفه الحر، فهو في شغل شاغل لمكان الرق.
ولا شك أن الجمعة لا تنعقد بمن نصفه رقيق، وإنما التردد الذي حكيناه في
__________
(1) في الأصل: "متكفلاً". والمثبت من (ت 1).

(2/514)


وجوب الجمعة، فأما أن يعد في العدد المعتبر في عقد الجمعة، فلا.
فهذا تفصيل القول في الذين لا تلزمهم الجمعة، ولو حضروها، فهم على تخيرهم، ولا يعدّون في الأربعين.
1421 - ومن الناس من لا يلزمه حضور [الجامع] (1) ولو حضره متبرعاً في وقت الصلاة، أو حضره لشغل، لزمه أن يقيم الجمعة، وهؤلاء هم المرضى، والمعذورون؛ فإنهم عذروا في التخلف، فإذا حضروا لزمهم الجمعة، وهم يعدّون (2) من الأربعين إذا حضروا؛ فإنهم على كمال الصفات.
وإن ظن ظان أن المريض كالمسافر في بعض الرخص؛ فإنه يفطر في رمضان إفطار المسافر، ثم الجمعة لا تنعقد بالمسافرين، فينبغي ألاّ تنعقد بالمرضى، فهذا مردود عليه؛ فإن المريض مستوطن من أهل القطر، فمرضه الذي يعذره لا يحطه عن الكمال المعتبر، ولا تعويل على الرخص؛ فإنه أولاً لا يقصر ولا يجمع، وإفطاره ليس ملحقاً بالرخص، بل هو من قبيل الضرورات، وإنما تتميز الرخصة عما يباح للضرورة أو الحاجة؛ من جهة أن المسافر وإن لم يكن محوجاً إلى الرخص، يترخص، حملاً على كون [السفر] (3) مظنة للمشقة، ولا يعتبر فيه الأحوال والآحاد، والمريض إذا وجد خفة في يوم، لم يفطر، ولو وجد قوةً ومُنة في أثناء الصلاة، وكان يصلي قاعداً، لزمه أن يقوم.
ومما يتعلق بالمريض والمعذور أن العدد لو كان ناقصاً بواحد مثلاً ولو حضر، لتمّ العدد به، ولو تخلف، لا يمكن إقامة الجمعة، وكانت الجمعة تتعطل بسبب تخلفه، فلا يلزمه أن يتكلف ويحضر؛ فإذاً هو ممن يتم به العدد، ولا يلزمه أن يحضر، ولا يختلف الأمر بين أن تتعطل بسبب تخلفه الجمعة أو لا تتعطل، ولو حضر في وقت الصلاة، لزمته الجمعة، ثم تنعقد الجمعة، وإن كان يصلي قاعداً لمرضه.
ولو حضر قبل دخول الوقت، فالوجه القطع بأن له أن ينصرف لو أراد، وإن كان
__________
(1) في الأصل: الجمعة.
(2) في الأصل، وفي (ط): لا يعدّون.
(3) في الأصل، وفي (ط): المسافر.

(2/515)


دخل الوقت، وقامت الصلاة، أقام الجمعة، وإن كان بين دخول الوقت وبين إقامة الصلاة مدة، وكان لا يناله مزيدُ مشقة، في مصابرة الإقامة في الجامع، حتى تقام الجمعة، يلزمه ذلك.
وإن كان يناله مشقة في الصبر، فالذي أراه أن ينصرف إن أراد، ولا يلزمه المصابرة، ولعل هذا يُضبط بما ضبط به جواز ترك القيام، وإيثار القعود في الصلاة المفروضة.
فهذا بيان القول في المرضى.
1422 - ومن الناس من يلزمهم إقامة الجمعة، وحضور الجامع، ثم ظاهر المذهب أن العدد لا يتم بهم، وهم الذين نَوَوْا إقامة مدّة لأشغالٍ لهم، ثم هم عازمون على الانصراف إلى أوطانهم، إذا قضَوْا أوطارهم، كالتجار والمتفقهة، ولا يعد هؤلاء من أهل البلدة، بل يسمَّوْن الغُرباء، فلا يكمل بهم الأربعون؛ فإنهم ليسوا من أهل البلدة.
والذي يحقق ذلك أنا لم نصحح الجمعة من المقيمين في البوادي تحت الخيام والأخبية؛ فإنهم وإن أبرموا العزمَ، فالخيام مهيأة للنقل، فدل أن المعتبر إقامةٌ تامة، في محل مهيّأ لها، ولكن وإن حكمنا بأن العدد لا يتم بهم، فيلزمهم أن يحضروا، ويقيموا الجمعة إذا كملت العِدة بأصحاب الكمال.
والسبب فيه أن سقوط الجمعة معدود من قبيل الرخص، وهؤلاء الغرباء إذا أقاموا على الصفة التي ذكرناها، لم يجز لهم أن يترخصوا بشيء من رخص المسافرين، فترتب على ذلك أنه يلزمهم الجمعة، ولا يتم بهم العدد.
وذهب بعض أصحابنا إلى أن الغرباء، الذين تلزمهم الجمعة، يحكم بانعقاد الجمعة بهم، وهذا وإن لم يكن ظاهر المذهب، فليس بعيداً عن القياس.
فأما أهل الكمال: وهم العقلاء، البالغون، الذكور، الأحرار، المقيمون، الذين يعدّون من أهل البقعة، ولا يعتادون الانتقال شتاء ولا صيفاً، فهم الذين يلزمهم، وتنعقد بهم الجمعة.

(2/516)


1423 - فهذا بيان أحكام طبقات الناس في أمر الجمعة (1 ثم جميعهم على درجاتهم، إذا حضروا وصلّوا الجمعة 1) وقد استجمعت شرائطها، فصلاتهم صحيحة، والسبب فيه أن الجمعة وإن كانت مقصورة في الصورة، فقد أُثبتت لأصحاب الكمال الذين لا عذر لهم، فلأن تصح من أصحاب المعاذير أولى، وهذا مجمع عليه.
فصل
1424 - قد ذكرنا فيما تقدم المعاذير التي تترك الجماعات بسببها، وقد قال الأئمة: كل عذرٍ يُرخَص في ترك الجماعات المسنونة يُرخص لأجله في ترك الجمعة أيضاً، وقد مضى تفصيلُها.
فمن جملة الأعذار المرض، ومنها تمريض مريضٍ والقيامُ عليه.
وقد فصّل الأئمة هذا، فقالوا: إن كان له قريبٌ محتضَرٌ منزول به، فيجوز له ترك الجمعة، والوقوف عنده حتى يقضي نحبه، وإن فاتته الجمعة بهذا السبب، عُذر، والأصل فيه: "ما روي أن ابن عمر كان يَطَّيب يوم الجمعة ليروح إلى الجامع، فأخبر أن فلاناًً البدريَّ منزول به، فحضره وترك الجمعة" (2) وكان هذا البدري سعيدَ بن زيد ابنَ عمر بن نفيل، وهو من العشرة الذين شهد لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة، وكان قريباً لابن عمر. وجواز ترك الجمعة في هذه الصورة إنما هو لاشتغال القلب، لا لضرر ينال المنزولَ به، ولكن لو قضى نحبه في غيبة من يحضر الجامع، فقد يعظم وقعُه على قلبه، فساغ التخلف بهذا السبب، فليفهم الفاهم هذا وليتخذه أصلاً في الفصل.
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من (ت 1).
(2) أثر ابن عمر، رواه البخاري في صحيحه، من حديث نافع. (ر. صحيح البخاري: 5/ 13، كتاب المغازي، باب (10) ح 3990، سنن البيهقي: 3/ 185، والتلخيص: 2/ 74، بدون رقم، آخر باب الجمعة).

(2/517)


وقد تقدم أن ترك الجمعة بعذر المطر جائز وفاقاً، وكذلك الوحل الشديد، على ظاهر المذهب.
1425 - والمرض الذي يجوز التخلف به لا يبلغ مبلغ الذي يجوز لأجله القُعود في الصلاة المفروضة، ولكنه مقيسٌ، معتبر بما يلقاه الماشي في الوحل والمطر، وبما ينال من يفوته موتُ قريبه من [المضض] (1)، ولو كان له زوجة أو مملوك، فهو عندي على معنى القريب، ولا يبعد أن يكون المولى كذلك، فإن الأئمة لم يفصلوا في القريب بين من يقرب إدلاؤُه وبين من يبعد.
ولو كان ثمَّ مريض، فأراد أن يقوم بتمريضه، ويترك الجمعة، فإن لم يكن للمريض قريب (2)، ولم يكن بينه وبينه سبب مما ذكرتُه، وكان لا ينال المريضَ ضررٌ بمفارقته، فيتعين حضور الجامع، وإن كان المريض قريبَه، وكذلك إن كان للمريض من يتفقده في غيبته.
1426 - فأما إذا لم يكن لذلك المريض من يمرّضه، وكان يناله ضررٌ بغيبته، فهذا أبهمه الفقهاء، ولم يفصلوه على ما ينبغي، وأنا أقول فيه: من أشرف على الهلاك من المسلمين وأمكن إنقاذه، فإنقاذه فرض على الكفاية، ولو تركه أهلُ القُطر حتى هلك حَرِجوا من عند آخرهم، وعليه يخرج إطعام المضطر. وكان شيخي يذكر مجامع فرائض الكفايات في كتاب السير، وسنذكرها في مواضعها إن شاء الله تعالى.
وقدرُ غرضنا منه أن الذي يتعلق بفرض الكفاية، في هذا الفن الذي نحن فيه، الإنقاذُ من الهلاك، فأما إذا فرض جائعٌ قد بلغ به الجوع مبلغاً مضراً، فلست أرى تدارك هذا من فروض الكفايات؛ فإن هذا لو قيل به، لأدى إلى تأثيم خلق الله على عموم الأحوال؛ فإن الحاجة عامة، والضرر غالب في الأصحاء والمرضى. نعم يجب على الإمام تعهد هؤلاء وسد خلاّتهم من مال المصالح؛ فإن سبيل تعلّق استحقاق هؤلاء بمال بيت المال، كسبيل تعلق حق الولد الفقير بمال الأب الغني، فإذا كان في
__________
(1) في الأصل، وفي (ط): المرض. والمثبت من (ت 1).
(2) عبارة (ل): "فإن لم يكن المريض قريبه".

(2/518)


بيت المال مال، فهؤلاء محالون عليه، والدليل عليه أن من اضطر وانتهى إلى خوف الهلاك، فله أن يأخذ مال غيره، ولو جاع، لم يكن له ذلك.
ولو خلا بيت المال عن المال، ففي هذا نظر كلي إيالي (1)، استجمعت أطرافاً منه في (الغياثي). وإنما نبهت على هذا المقدار لمسيس الحاجة إليه.
فنقول: إن كان غيبة المرء عن المريض تؤدي إلى هلاكه، فلا شك أنه يترك الجمعة، ويقوم عليه سواء كان أجنبياً، أو كان بينه وبينه قرابةٌ، أو سبب، مما سبق ذكره.
ولو قيل: ليس القائم عليه بأولى في كفاية ذلك من غيره، فليحضر الجامع، وليكل أمرَه إلى آخر. قلنا: هذا يتوجه إذن في حق كل من يقوم عليه، وفيه ما يؤدي إلى ضياعه، فإذاً يجوز أن يبتدره من يوفَّق لذلك، ويترك الجمعة.
وإن لم يكن المريض بحيث يخاف عليه لو ترك، ولكن كان يناله ضرر ظاهر في ذلك، على حد الجوع المضرّ الذي [لا] (2) يبلغ مبلغ الضرورة كما تقدم وصفه، فهل يجوز لمن يريد القيام على المريض أن يترك الجمعة أوْ لا؟ نقول: إن كان يقوم على المريض من يكفيه، ممن لا يلزمه الجمعة مثلاً، فلا يجوز للكامل (3) أن يترك الجمعة بسبب القيام عليه؛ لمكان اشتغال قلبه بالغيبة عنه، بخلاف المنزول به القريب.
وإن لم يكن للمريض من يقوم عليه، وكان يناله ضرر لا يبلغ كفايتُه مبلغ فروض الكفايات، ففي جواز القيام عليه، وترك الجمعة بسبب دفع الضرر عنه أوجه، جمعتُها من شرح التلخيص وغيره، أحدها - وهو الأفقه أن يترك الجمعة؛ فإنا لا نشترط في العذر الذي تترك الجمعة لأجله الضرورةَ، وشدةَ الحاجة، ودرءُ ضرر ظاهر عن مسلم ليس بالهين، وإن لم يكن من فروض الكفايات. وهذا القائل لا يفرق بين القريب والأجنبي، وهو اختيار الصيدلاني.
والوجه الثاني - أنه لا يجوز ترك الجمعة لهذا؛ فإن هذا كثير، ولو تركت الجمعة
__________
(1) إيالي: أي سياسي، والإيالة هي السياسة الشرعية.
(2) مزيدة من: (ت 1).
(3) الكامل: أي من تجب عليه الجمعة، وتكتمل فيه صفات الوجوب.

(2/519)


لمثله، لأدى إلى تعطيلها، فأما الإقامةُ على قريبٍ منزول به، فهو مما يندُر، وما ينال القلبَ عنه من التأسف على فوته شديد.
والوجه الثالث - أنه يفرق بين أن يكون المريض قريباً، أو أجنبياً، والفرق في ذلك يعود إلى اشتغال القلب، وما يناله من مضض الرقة على القريب.
فهذا مجموع القول في ذلك.
1427 - وترجمة الفصل أن ترك الجمعة للقيام بفرض كفاية سائغ في القريب والأجنبي، وتركُها بسببِ منزولٍ به جائز في حق القريب، ومن هو على سبب خاصٍ، كما تقدم ذكره، فأما تركها بسبب منزولٍ به أجنبي لمكان صداقةٍ، فلا يجوز أصلاً، إذا لم يكن ثمَّ دفعُ ضرر، وإن كان سبب الإقامة دفعَ ضرر، ليس دفعه من فروض الكفايات، ففيه الأوجه التي ذكرناها.
فهذا تمام البيان في ذلك.
1428 - ثم نذكر بعد هذا تفصيلَ القول فيمن يُصلِّي الظهرَ قبل فوات الجمعة، فنقول: أصحاب المعاذير الذين لا تلزمهم الجمعة إذا أرادوا أن يقيموا صلاة الظهر، قبل فوات الجمعة، فيجوز ذلك لهم، ويُجزىء عنهم، ثم إذا كان ذلك العذر بحيث لا يرجى زواله، ولا يتأتى معه حضور الجامع، كالزمانة، فالأولى للموصوف بهذا العذر أن يصلي الظهر في أول الوقت رعاية لتعجيل الصلاة. وكذلك المرأة، وإن كان يتصور منها الحضور، فالأولى أن تلزم بيتها، والأنوثة لازمة، فالأولى لها أن تعجل الصلاة.
فأما أصحاب المعاذير التي يتصوّر زوالُها، كالمريض مرضاً يتوقع أن يخف على الفور، وكالعبد يتوقع أن يعتق، والمسافر يتصور أن ينوي الإقامة، فالأولى لهؤلاء أن يؤخروا الظهر إلى فوات الجمعة.
وكان شيخي يحكي وجهين في معنى الفوات: أحدهما - أن يرفع الإمام رأسه من الركوع في الركعة الثانية؛ فإنه إذا انتهى إلى ذلك، فقد فاتت الجمعة.
والثاني - أن المرعي في هذا تصوّر الإدراك في حق كل واحد، فإن كان منزل من

(2/520)


فيه الكلام بعيداً، بحيث يعلم أنه قد انتهى الوقتُ إلى منتهى لو أنشأ فيه الخروجَ إلى الجامع، لما أدرك الصلاة، فهذا رجل قد فاتته الجمعة، [وربما] (1) يكون تقديراً في هذا الوقت في ابتداء الصلاة، أو لا يكون بعدُ شارعاً، فالمعشر في حق كل شخص تصور إدراكه.
1429 - ثم المعذور إذا صلى الظهر في أول الوقت، ثم زال عذرُه والجمعة غيرُ فائتةٍ بعدُ، فلا يلزمه المصير إلى الجامع؛ فإنه قد أدى فرض وقته، فإذا صلى المريض، والعبد، والمسافر، ثم بَرأَ المريض، وعتق العبد، وأقام المسافر -وإدراك الجمعة ممكن- فلا يلزمهم الجمعة.
1430 - قال ابن الحداد: لو صلى الصبيّ الظهر، ثم بلغ، لزمته الجمعة في هذه الصورة، واعتلّ بأنه أقام الظهر، وهو غير مكلف، وليس كغيره من المعذورين الذين لا تنافي معاذيرُهم التكليف. وقد ذكرنا في آخر باب المواقيت أن هذا مردود عليه؛ فإنه فرعه على قياس مذهب أبي حنيفة في أن الصبيَّ إذا صلى الظهر في غير الجمعة في أول وقته، ثم بلغ في أثناء الوقت، [فلا] (2) يلزمه إعادة الظهر، وإن لم يكن مكلفاً بما صلى.
هذا كله في أصحاب المعاذير.
1431 - فأما من لم يكن به عذر ينافي وجوبَ الجمعة، فحقٌ عليه أن يحضرها ويقيمَها، فلو صلى الظهرَ قبل فوات الجمعة، فهل يصح؟ فيه قولان مشهوران: أحدهما - لا يصح؛ فإن الظهر في حقه في حكم البدل عن الجمعة، وإقامة البدل مع
__________
(1) في الأصل، وفي (ط): وإنما.
(2) من حقنا أن نقطع بأن النسخ الأربع اتفقت على خلل بزيادة (فلا)، فإن الذي نص عليه الأحناف وجوب إعادة الصلاة على الصبي إذا بلغ في أثناء الوقت بعدما صلاها قبل بلوغه.
وحكى ابن عابدين إجماعهم على ذلك. ر. حاشية ابن عابدين: 1/ 238، 494. ثم يؤكد هذا أيضاً أن إمام الحرمين في آخر المواقيت في الموضع الذي أشار إليه آنفاً حكى عن أبي حنيفة مثلما رأيناه عند ابن عابدين، مما يؤكد أنَ زيادة (فلا) خللٌ من النُّساخ والله أعلم. والحمد لله جاءت بدونها (ل) أخيراً.

(2/521)


وجوب المبدل وتصوّر القيام به لا يجزىء.
والقول الثاني - يصح؛ فإن الظهر صلاة أُخرى، وهي أكمل في الركعات من الجمعة وأتم [فإن لم نصحح الظهرَ، فالأمرُ بحضور الجمعة قائم] (1).
وإذا فاتت، لزم بعد الفوات إقامة الظهر مرة أخرى، وفي رجوع ما جاء به قبلُ نفلاً والحكم ببطلانه القولان المشهوران.
وإن حكمنا بصحة الظهر، فيسقط عنه الأمر بحضور الجامع، إذا أقام الظهر؛ فإنه إذا صح الظهر، استحال بقاء الخطاب بغيره في وقته.
وهذا فيه أمر غريب؛ فإنه بالإقدام على الظهر في حكم الساعي في ترك الجمعة، وذلك معصية. فكأن ما جاء به طاعة من وجه، معصية من وجه.
والاختلاف في صحته قريب من الخلاف في صحة الصلاة المقامة في الوقت المكروه، كما تقدم ذلك في بابه.
1432 - ثم لو صلى الرجل الظهرَ، وأجزأ عنه، وكان معذوراً أو غير معذور، فلو حضر مع ذلك الجامعَ، وصلّى الجمعة، فإن فُرض ذلك في معذورٍ، فهو آت بما هو محثوث عليه، نعني بذلك غيرَ المرأة، فالفرض من الظهر والجمعة أيّهما؟ فهذا ينزل منزلة ما لو صلى الرجل في غير هذا اليوم صلاةً منفرداً، ثم أدرك جماعةً، فأعادها، ففي ذلك اختلاف، قد تقدم ذكره، وإن أردنا تجديدَه فقولان: أحدهما - أن الفرض هو الأول.
والثاني - أن الفرض أحدهما لا بعينه، والله يحتسب بما شاء منهما.
وهذان القولان في حق المعذور.
فأما المصلي بلا عذر إذا صلى الظهر، ثم حضر الجمعة وأقامها، فلا شك أنه خرج عن المأثم الآن، ولكن المفروض من الصلاتين أيتهما، ذكر شيخي هاهنا أربعة أقوال: أحدها - أن المفروض هو الأول؛ فإنه لو اقتصر عليه برئت ذمته، والتفريع على أن الظهر مجزىء.
__________
(1) زيادة من: (ت 1).

(2/522)


والثاني - أن الفرض الجمعة؛ فإنه بها خرج عن الحَرَج.
والثالث - أنهما جميعاًً فرضان.
والرابع- أن الفرض أحدُهما لا بعينه، وقد ذكرنا لهذا نظائر في كتاب الطهارة في باب التيمم عند جمعنا ما يُقضى من الصلوات وما لا يُقضى.
1433 - ويترتب على هذا غائلة: وهي أنا إذا قلنا: هما فرضان، فمن ضرورته أن نقول: خطاب الجمعة باقي إلى الفوات، وإن فرَّعنا على إجزاء الظهر، فهذا يضاهي من الصور المذكورة في التيمم، ما [إذا] (1) أوجبنا إقامة الصلاة في الوقت، ثم أوجبنا قضاءها.
وإن قلنا: الفرضُ الجمعة، فهذا يشابه ما إذا قلنا في تلك المسائل: لا يجب فرض الوقت مع الخلل الواقع لعدم الوضوء والتيمم، والواجب هو القضاء عند إمكان الطهارة.
وهذا فيه إشكال؛ من جهة أن من صلى من غير وضوء ولا تيمم، وألزمناه القضاء، فلا يسقط عنه القضاء أصلاً، ما لم يأت به، ومن صلى الظهر، ثم تخلف حتى فاتته الجمعة، فقد سقط الفرض عنه، على قولنا الظهر مُجزىء، وعليه نفرع الآن. نعم [لو] (2) ضممنا في ترتيب المذهب القولَ بأن ظهره لا يصح إلى ما يجزئه، فيخرج حينئذ قول يشبه قولنا بأن القضاء لا بد منه في مسألة التيمم.
1434 - ويخرج من هذه الأقوال مسألة: وهي أن غير المعذور إذا صلّى الظهر، وقلنا: إن ظهرَه يُجزىء، ولو فاتت الجمعة، لا يجب القضاء. فإذا لم تفت، فهل يلزمه أن يحضر ويصلي الجمعة؟ فعلى قولين: أحدهما - لا يلزمه الآن (3)، وقد سقط الخطاب لما فرغ من الظهر، وقد (4) أساء، وهذا إذا قلنا فرضه الظهر، أو أحدهما، إذا صلى الجمعة أيضاً.
__________
(1) زيادة من (ل).
(2) زيادة من: (ت 1).
(3) ساقطة من (ت 1).
(4) في (ت 1): وإن.

(2/523)


والثاني - يلزمه الحضور، وهذا إذا قلنا: هما فرضان، ثم لو فاتت الجمعة، كفى الظهر؛ فإنا لو لم نكتف به، لأوجبنا قضاء الظهر، وقد تقدم الظهر مجزئاً.
فليتأمل الناظر حقيقةَ ذلك، وليَحكُم [بخبط] (1) التفريع على أن الأصح أن الظهر غيرُ مجزىء من غير المعذور.
فصل
1435 - قد ذكرنا فيما تقدم أن الجمعة لا تنعقد إلا بأربعين من أهل الكمال، وذكرنا اختلافَ الأصحاب في أن الإمام منهم، أو هو الحادي والأربعون، فإذا تجدد ذكر هذا، قلنا بعده:
اختلف قول الشافعي في أن إمام الجمعة لو كان صبياً، أو متنفلاً، فهل تصح جمعة القوم خلفه؟ فأحد القولين لا تصح؛ فإن هذه الصلاة مبناها على رعاية الكمال في أهل الجماعة، والإمام ركنُ الجماعة؛ فإنه لا تتصور الجماعة دونه، فإذا كان متنفلاً، فليس في صلاة الجمعة، والصبي وإن نوى الجمعةَ، فصلاته نفل.
والقول الثاني - أنه تصح جمعة القوم؛ فإن الغرض حصول الجماعة، واختلافُ نية الإمام والمأموم لا تمنع صحة الجماعة عندنا.
واختلاف القول مفرعّ على ما إذا تم الأربعون على الكمال دون الإمام، فأما إذا لم يزد القوم مع الإمام على الأربعين، فكان الإمام صبياً، فلا جمعة؛ فإن العدد قد نقص من أهل الكمال، وكذلك إذا كان الإمام متنفلاً في هذه الصورة.
فليفهم الناظرُ موضعَ التفصيل.
ولو اقتدى أربعون من أهل الكمال فصاعداً [بإمامٍ] (2)، ثم بان أنه كان محدثاً، ففي صحة جمعتهم قولان أيضاً؛ فإن الاقتداء بالجنب مع الجهالة جائز عندنا في غير صلاة الجمعة.
__________
(1) في الأصل، وفي (ط): الخبط.
(2) مزيدة من (ل).

(2/524)


1436 - ثم كان شيخي يرتب هذه المسائل، ويقول: في المتنفل، والصبي، قولان، [وفي المحدث قولان] (1)، مرتبان، والجمعة معه أولى بالبطلان، والفرق ظاهر، وسيأتي تفريعات على صلاة الجنب توضح ما ذكرناه إن شاء الله.
ولو كان إمام القوم عبداً، أو مسافراً، فإن كان القوم مع الإمام أربعين، فلا جمعة؛ فإنه لم يحصل الكمال في العدد، وإن زادوا، فكمل عدد أهل الكمال دون الإمام، فقد قال شيخي: إن كنا لا نعد الإمامَ من الأربعين، فكأنا لا نعتبر العدد إلا في المقتدين، فنعتبر الكمال فيهم، ولا يضر أن يكون الإمام عبداً، أو مسافراً.
وإذا قلنا: الإمام معدود من الأربعين، فإذا تم القوم أربعين على الكمال، وكان الإمام عبداً أو مسافراً، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أن الجمعة تصح، وهو ظاهر المذهب؛ فإن العدد قد تم في كاملين، وجمعة العبد صحيحة.
والثاني - أنه لا تصح؛ فإن الإمام إذا عُد في الأربعين، فهو ركن، فينبغي أن يشترط فيه الكمال، وإن كثر القوم وكملوا. وهذا وإن أمكن توجيهه، فلا أعده من قاعدة المذهب.
1437 - وترجمة الفصل أن القوم إن كانوا مع الإمام أربعين، وكان الإمام ناقصاً، أو متنفلاً، فلا تصح الجمعة، وإن زادوا، وكان المقتدون الكاملون أربعين، والإمام متنفل أو صبي، فعلى قولين.
وإن [كنا] (2) نشترط أن يكون الإمام زائداً على الأربعين، فإن كان الإمام عبداً أو مسافراً، وقلنا: الإمام زائد، فتصح الجمعة.
وإن قلنا: يجوز أن يكون الإمام من الأربعين، فلو كمل الأربعون دونه، وكان الإمام الزائد عبداً أو مسافراً، فقد ذكر الأئمة وجهين، والأصح الصحة.
فرع:
1438 - المعذور إذا تخلف وافتتح الظهر، ثم زال العذر في أثناء الصلاة،
__________
(1) زيادة من (ت 1).
(2) ساقطة من الأصل، ومن (ط).

(2/525)


ونحن نفرع على أن غير المعذور لا يصح ظهره، قال رضي الله عنه (1): أجرى القفال هذا مجرى ما لو تحرم المتيمم بالصلاة على الصحة، ثم رأى الماء في خلال الصلاة، وهذا حسن بالغ، ثم لا يخفى تفريعه في الوجوه المذكورة في التيمم.
فصل
1439 - إذا زالت الشمس يومَ الجمعة، وكان الرجل من أهل استيجاب الجمعة، فلا يجوز له أن يسافر حتى يقيم الجمعة.
ولو لم تزل الشمسُ بعدُ، فهل يجوز له أن يسافر؟ في نص الشافعي تردُّدٌ.
وقد اختلف أصحابنا، فمنهم من قال: في المسألة قولان: أحدهما - أنه يحرم السفر كما (2) طلع الفجر يوم الجمعة؛ فإن هذا الشعار وإن كان وقته بزوال الشمس، فهو مضاف إلى اليوم، ولهذا يعتد بغُسل الجمعة إذا وقع قبل الزوال.
والثاني - أنه يجوز أن يسافر؛ فإن وقت وجوب الجمعة يدخل بزوال الشمس، فلا معنى للحَجْر قبله.
ومن أئمتنا من قطع بجواز المسافرة قبل الزوال، وحمل نص الشافعي على التأكّد.
1440 - قال الشيخ أبو بكر: إنما تردد الأئمة فيه إذا لم يكن السفر واجباً، أو لم يكن سفر طاعة، فإذا كان واجباً، أو طاعة، لم يمتنع الخروج قبل الزوال بلا تردد، واستشهد عليه بما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما جهز جيش مؤتة، وأمّر عليه جعفر الطيار، وذكر ابنَ رواحة إن أصيب جعفر، فخرجوا بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بُكرة يوم الجمعة، فلما تحلّل النبي عليه السلام رأى عبدَ الله بنَ رواحة، فقال: "ما الذي خلفك عنهم"؟ فقال: "أردت أن أصلي الجمعة ثم أروح". فقال عليه السلام: "لو أنفقت ما في الأرض جميعاًً ما أدركت غُدوتهم" (3).
__________
(1) يريد بالقائل هنا شيخه. أبو محمد: الجويني الكبير.
(2) "كما" بمعنى "عندما".
(3) حديث تخلف عبد الله بن رواحة عن أصحابه، رواه أحمد، والترمذي من حديث مقسم عن ابن =

(2/526)


والذي ذكره فيه بعض النظر: فأما إذا كان السفر واجباً، فلا شك، وهكذا كانت سفرتهم؛ فإن امتثال أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم متعيّن، وكان رأَى رأياً، واتبع وحياً، فأما القطعُ بذكره في سفر طاعة لا يجب، ففيه نظر، مع العلم بأن إقامة الجمعة مقدمة على الطاعات التي لا تجب، ولكن ما ذكره متجه؛ من جهة أن الجمعة قبل الزوال لا تجب، فانتظارها قبل الزوال في حكم الطاعة، غير أن مساق هذا يخير في السفر؛ فإن الطاعة إذا لم تجب، جاز تركها بالمباح.
فإن قيل: إذا زالت الشمس، لم يتعين إقامة الصلاة؛ فإن الصلاة إن وجبت، فإنما تجب وجوباً موسعاً، وظاهر المذهب أن من أَخَّر الصلاة لأول وقتها، ومات في أثناء الوقت، لم يمت عاصياً، فهلا خرج وجه في جواز السفر بعد الزوال؟ قلنا: الناس تبع للإمام في هذه الصلاة [فلو عجلها] (1)، تعينت متابعته وسقطت خِيرةُ الناس، [في] (2) التأخير، وإذا كان كذلك، فلا يُدرى متى يقيم الإمام الصلاةَ، فتعين انتظارُ ما يكون منه، فهذا وجه التنبيه على أطراف الكلام (3).
...
__________
= عباس (ر. الترمذي: 2/ 405، الجمعة، باب ما جاء في السفر يوم الجمعة، ح 527، وأحمد: 1/ 256، والبيهقي: 3/ 187، وذكره البغوي في شرح السنة: 4/ 227، وليس فيه تحديد أنه كان في غزوة مؤتة، والتلخيص: 2/ 70).
(1) ساقط من الأصل، ومن (ط).
(2) في الأصل وفي (ط): فإن.
(3) إلى هنا انتهى الجزء الثاني من نسخة (ت 1). ونص خاتمته:
"نجز الجزء الثاني من نهاية المطلب ولله المنة ويتلوه في الثالث إن شاء الله "باب الغسل للجمعة والخطبة" ووافق الفراغ من نسخه لأربع إنْ بقين من شهر ذي الحجة سنة ست وستمائة.
الحمد لله رب العالمين كثيراً، وصلى الله على سيدنا محمد النبي وآله وسلّم. حسبنا الله ونعم الوكيل".
كما انتهى هنا أيضاً الجزء الرابع من نسخة (ط) وجاء في خاتمته " .. يليه الجزء الخامس مبدوء أوله بباب الغسل للجمعة والخطبة" وليس فيه تاريخ النسخ.

(2/527)


باب الغسل للجمعة والخطبة
غسل الجمعة فندوب إليه مؤكد، قال الشيخ أبو بكر: تركه مكروه. وهذا عندي جار في كل مسنونٍ صح الأمر به مقصوداً، وقد ذكرت حقيقة المكروه في فن الأصول.
1441 - ثم لا يستحب غُسل الجمعة إلا لمن يحضر (1 الجامع، وغسل العيد مستحب لمن يحضر 1) المصلى، ولمن يلزم بيته؛ فإنه يومُ الزينة العامة، والأولى أن يقرب غُسل الجمعة من وقت الرواح؛ فإن الغرض التنزه، وقطعُ الروائح الكريهة، ولو اغتسل المرء بعد طلوع الفجر يوم الجمعة أجزأ، وإن كان متقدماً على الرواح بأزمان طويلة، ولو اغتسل قبل طلوع الفجر للجمعة، لم يعتد بغسله، ولو اغتسل للعيد قبل الفجر، ففيه وجهان، سنذكرهما في صلاة العيد.
وحكى الشيخ وجهاً عن محمد (2) أن غسل الجمعة قبل طلوع الفجر يجزىء، ثم غلّطه وزيّفه، وهو خطأ لا شك فيه.
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من (ت 1).
(2) هذه هي المرة الثانية التي يرد فيها إشارة إلى نقل (الشيخ) في الشرح عن (محمد) هكذا مطلقاً بغير قيد ولا وصف. ولا يُدْرى من (محمد) هذا، الذي قال إمام الحرمين: "إن الشيخ كثيراً ما يحكي عنه في الشرح" هل هو محمد بن الحسن كما يتبادر إلى الذهن؟ أم من رجال المذهب؟
وقد أشار النووي والرافعي إلى هذا الذي حكاه إمام الحرمين عن (محمد) ولم ينسباه إلى قائل، ونصُّ عبارة النووي: "وانفرد إمام الحرمين بحكاية وجه أن (غسل الجمعة) يجوز قبل طلوع الفجر كغسل العيد. ا. هـ. ونص عبارة الرافعي: "وفي النهاية حكاية وجه بعيد أنه يجزىء قبل الفجر، كما في غسل العيد". ا. هـ. (ر. المجموع: 1/ 534، فتح العزيز: 1/ 615).
وهذه العبارة من النووي والرافعي توحي بأن النقل عن أحد أئمة المذهب أصحاب =

(2/528)


1442 - ومما ذكره الشيخ أبو بكر (1)، وهو واضح، ولكني أحببت نقله منصوصاً، وفيه احتمال أيضاً: إذا قيل: لو سَلِم أعضاءُ الوضوء من إنسان، وتقرح سائر بدنه، وعسر عليه إقامةُ الغسل، فإنا نأمره بأن يتيمم بدلاً عن الغسل؛ فإن التيمم ثابت في الطهارات التي يعجز المريض عنها، وفيه احتمال [من جهة] (2) أن هذا الغُسلَ منوط [في] (3) الشرع بقطع الروائح والتنزه، والتيمم لا يقوم مقامه، والظاهر ما ذكره.
__________
= الوجوه، وليس عن محمد بن الحسن. وربما يرجح هذا أن عيسى بن أبان بن صدقة (من أعلام الحنفية)، حينما روى نقلاً عن الشافعي، ناقش أئمة المذهب قضية قبول نقل المخالف عن إمامهم، وعرض النووي نفسُه لهذه القضية، وعلل لقبول النقل بأن عيسى بن أبان ثقة.
(ر. المجموع: 1/ 151، والدرة المضية: مسألة رقم 23).
وأعني بهذا أن تخريج الوجوه على نصوص الشافعي، وهو استنباطٌ بالرأي والاجتهاد، كان أحق بالتوقف والتردد في قبوله، أي أن سكوت النووي والرافعي ونَقْلَهما حكايةَ إمام الحرمين للوجه في (النهاية) عن (محمد) يدل على أنهما فهما أنه محكي عن أحد أصحاب الوجوه في المذهب، واسمه (محمد). ولكن يبقى السؤال قائماً: من يعني الشيخُ في الشرح (بمحمد)؟ وهذا هو سؤال إمام الحرمين نفسه، حينما أشار إلى وجه له في صلاة المسافر.
ومما يؤيد ترجيحنا أن المعنيّ هنا غيرُ محمد بن الحسن، ما رأيناه في كتب الأحناف، حيث لم يذكر خلافٌ في وقت الغسل للجمعة، وإنما الخلاف عندهم في أن الغسل لليوم أو للصلاة، وحتى في هذه لم يشيروا إلى خلاف محمد بن الحسن، بل الخلاف فيهما بين الحسن بن زياد، وأبي يوسف. فكيف يعقل أن يشتهر رأيٌ لمحمد بن الحسن، ويتناقله الشافعية في كتبهم، على حين لا يعرفه الأحناف، ولا يذكرونه في الكتب الأمهات لمذهبهم.
(ر. بدائع الصنائع: 1/ 270، فتح القدير: 1/ 67، حاشية ابن عابدين: 1/ 113) والله أعلم.
(1) الشيخ أبو بكر، المراد به الصيدلاني، كما عبر عنه الإمام قبل ذلك. وقد تأكد هذا هنا بالرجوع إلى النووي، حيث قال في المجموع: "ولو عجز عن الغسل لنفاد الماء، بعد الوضوء، أو لمرضٍ، أو لبردٍ، أو غير ذلك، قال الصيدلاني، وسائر الأصحاب: يستحب له التيمم، ويحوز به فضيلة الغسل، لأن الشرع أقامه مقامه عند العجز. قال إمام الحرمين: هذا الذي قالوه هو الظاهر وفيه احتمال، من حيث إن المراد بالغسل النظافة، ولا تحصل بالتيمم". ا. هـ. (ر. المجموع: 4/ 534).
(2) مزيدة من: (ت 1).
(3) في الأصل وفي (ط): إلى.

(2/529)


1443 - [ثم] (1) عدّ صاحب التلخيص الأغسال، [فبدأ بما يجب منها، وهو الأربعة المذكورة في كتاب الطهارة، وزاد بعدها] (2) الأغسال المسنونة، فقال: منها غسل الجمعة، وغسل العيدين، والغسل من غسل الميت، والغسل للإحرام، والغسل للوقوف بعرفة، والغسل لمزدلفة، والغسل لدخول مكة، وثلاثة أغسال أيام التشريق، وهذه الأغسال منقولة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قولاً وفعلاً، وذكر الغسل لدخول الكعبة، وحكى قولاً في القديم أنه يغتسل لطواف الوداع خاصة.
1444 - وذكر الغسل إذا أسلم الكافر، وهو ثابت، ولكن إن كان الكافر جنباً فأسلم، لزمه الغسل، وإن كان اغتسل في الكفر، فالمذهب أنه لا يصح غسله، وإنما التفصيل والتردد في الكافرة تحت مسلم، تغتسل إذا طهرت عن الحيض، وأبعد بعض أصحابنا، فطرد صحةَ القَوْل في حق كل كافر، وهذا ذكره أبو بكر الفارسي، فغلّطه الأصحاب فيه، وحكاه الشيخ في الشرح. وإن لم يكن الكافر جنباً، فنستحب غُسلاً بسبب الإسلام.
واختلف الأئمة في وقته، فمنهم من قال: يسلم ثم يغتسل؛ فإن حق القربات أن تقع بعد الإسلام، ومنهم من قال: يغتسل قبل إظهار الإسلام، وفي الأخبار إشارة إلى هذا، وهذا فيه نظر؛ فإن الأمر بتأخير الإسلام محال، والمعرفة إن ثبتت لا يمكن دفعُها، وإن كان المراد إظهار الشهادتين، فلا وجه لتأخيره؛ فإنه مما يجب على الفور. نعم: لو قيل: لو بدأ تباشيرُ الهداية، فابتدر الكافرُ، واغتسل، ثم أقبل وهداه الله في الحال الذي وصفناه. فهل يعتد به؟ فيه احتمال وتردد.
1445 - ومما ذكره: الغسل بعد الإفاقة من إغماءٍ، أو جنون، وهذا صحيح، وفي مرض وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يغشى عليه، فإذا أفاق قال:
__________
(1) زيادة من: (ت 1).
(2) الزيادة من (ت 1) وقد أصلحنا تحريفها، فقد كانت هكذا: "ثم عد صاحب التلخيص الاغتسال قيداً بما يجب منها، وهو له أربعة، المذكورة في كتاب الطهارة، وأراد بعد عدّ الأغسال المسنونة ... ".

(2/530)


"ضعوا لي ماء في المِخْضَب" (1)، وكان يغتسل. وقد أوجبه بعض السلف.
ومما عده غسل الحجامة، وقد أنكره معظم الأصحاب، وقالوا: لا نعرف له أصلاً.
وذكر الغسل على من يخرج من الحمام، وأنكره المعظم من غير سبب يقتضيه.
1446 - ثم قال: بعض هذه الأغسال اختيار، وأراد بذلك أنها لا تبلغ درجة الوَكادة، وعدَّ في ذلك غسل الكافر إذا أسلم، وغسل الحجامة، وغسل الحمام، وعدّ من هذا القسم الغسلَ من غسل الميت، وهذا غلط باتفاق الأصحاب؛ فإنه من الأغسال المؤكدة، وللشافعي قول: إنه آكد من غسل الجمعة، وذكر الساجي (2) وجهاً بعيداً أنه واجب، وكذلك الوضوء من مس الميت، وعندي أني ذكرته في كتاب الطهارة.
فصل
1447 - نقل المزني آداباً في الخطبة والأذان، ثم قطع الكلامَ وأتى بكلام آخر (3)، ونحن نرى أن نذكر -بعد هذا- جميعَها وِلاء نَسَقاً (4). والذي ذكره بعد تلك المبادىء تفصيلُ القول في المسبوق إذا أدرك من الجمعة [شيئاًً] (5)، ونحن نستقصي القول في ذلك إن شاء الله، فنفرض قولاً في غير الجمعة، ثم نعود إلى الجمعة.
__________
(1) متفق عليه من حديث عائشة رضي الله عنها (ر. اللؤلؤ والمرجان: 1/ 84 ح 235).
(2) في (ط): الباجي.
والساجي هو: زكريا بن يحيى بن عبد الرحمن، أبو يحيى، أحد الأئمة الثقات، أخذ عن المزني، والربيع. له مصنف في الفقه والخلافيات، سماه أصول الفقه. ت 307 هـ.
(طبقات الشافعية الكبرى: 3/ 299).
(3) انظر هذا في المختصر: 1/ 136. وسترى أن الأمر كما وصف إمام الحرمين.
(4) أي يذكر آداباً في الخطبة والأذان وِلاءً، ولا يقطعها كما فعل المزني في المختصر الذي ألزم نفسَه السيرَ على ترتيبه. وهذا من المواضع التي توحي بتبرم الإمام من ترتيب المختصر.
(5) مزيدة من: (ت 1).

(2/531)


1448 - فنقول: إذا قام الإمام في صلاة الصبح إلى الركعة الثالثة ساهياً، فدخل داخل، فاقتدى به على ظن أنها الركعة الثانية، فإن أدرك الركعة بتمامها: قراءتَها وقيامَها، فالمذهب أنه مدرك لهذه الركعة؛ فإنه صلى ركعةً تامة، وغاية ما في المسألة أن الركعة غير محسوبة للإمام، فجعل كان المقتدي اقتدى بإنسان، ثم بان أن إمامه كان محدثاً، فصلاة المقتدي صحيحة، وذكر الشيخ أبو علي وجهاً بعيداً أن المقتدي بالإمام في الركعة الثالثة لا يكون مدركاً للركعة؛ فإنها في حكم اللغو، والغالب أن يظهر مثله؛ فإنها زيادة محسوسة، وطهارة الإمام وحدثُه أمر باطن، فكانت الركعة [الثالثة] (1) في حكم الاقتداء بالكافر؛ فإن الكفر مما يظهر غالباً.
وهذا الذي ذكره بعيد جداً، ولو طرد قياسه، للزم أن يقال: لا تنعقد صلاة المقتدي، كما لا تنعقد صلاة من اقتدى بكافرٍ على الجهل بحاله؛ إذ لو علم أن الإمام قائم إلى الثالثة ساهياً، ثم إنه اقتدى به، لم تنعقد صلاته، وقد قطع رضي الله عنه بأن اقتداء المقتدي منعقد في الركعة الثالثة، وقد ينقدح فيه أن سبب انعقاد الصلاة أن الإمام ليس خارجاً عن الصلاة بملابسة السهو الذي صدر منه، والكافر ليس في صلاة أصلاً.
فليتأمل الناظر ذلك.
فهذا إذا أدرك المقتدي تمامَ الركعة على جهل.
1449 - فأما إذا دخل، فأدركه في ركوع الركعة الثالثة، فإن قلنا: لو أدرك جميعَ الركعة، لم يكن مدركاً، فإذا أدرك الركوعَ، فلأن لا يكون مدركاً أولى، وإن قلنا: إذا أدرك الركعة التامة يكون مدركاً وهو المذهب، فإذا أدرك الركوعَ، فالمذهب وما قطع به الأئمة أنه [لا] (2) يصير مدركاً لهذه الركعة؛ فإن الركوع ليس محسوباً للإمام، فكيف يصير متحملاً عمن أدركه فيه؟ وكذلك لو أدرك المسبوق الإمامَ المحدِث في ركوع ركعةٍ، فلا يصير مدركاً للركعة.
__________
(1) زيادة من (ت 1).
(2) زيادة من (ت 1).

(2/532)


وذكر الشيخ أبو علي وجهاً بعيداً في شرح الفروع أنه يصير مدركاً للركعة؛ فإنه لو أدرك كلّ الركعة، لكان مدركاً، فكذلك إذا أدرك ركوعَها.
وهذا وإن كان بعيداً، فهو عندي يستند إلى أصل، وهو أن قول الشافعي اختلف في أن إمام الجمعة لو بان محدثاً، فهل تصح جمعة القوم أم لا؟ ففي قولٍ تصح، ولا خلاف أن الانفراد بصلاة الجمعة لا يجوز، فإنَّ شرطَ إجزائها والاعتداد بها القدوة، فإذا قضينا بصحة الجمعة، فقد قضينا بصحة القدوة عند الجهالة بحدث الإمام، فعلى هذا لا يمتنع أن نجعل مدرك الركوع من صلاته مدركاً للركعة على الجملة.
وهذا كله في غير صلاة الجمعة.
1450 - فأما إذا فرض قيام الإمام في الجمعة إلى الركعة الثالثة ساهياً، فلو دخل مسبوق واقتدى به في هذه الركعة من أولها، وأدرك قيامَها وقرأ ما يجب أن يقرأ، فهل يصير مدركاً لصلاة الجمعة؟ فيه وجهان مشهوران، مبنيان على القولين في أنه لو بان الإمام محدثاً، فهل تصح الجمعة؟ والفرق بين الجمعة وغيرِها من الصلوات أن الجماعة شرط في الجمعة، ومن ضرورة (1) الجماعة إمام يُقتدى به، فإذا تبين أخيراً أن الإمام [محدثٌ] (2)، فقد تحقّقَ انعدام شرط معتبرٍ في صحة الصلاة، ولو اقتدى المسبوق به في الركعة الزائدة، وهو عالم بحاله، لم يصح اقتداؤه وفاقاً.
فهذا إذا أدركه في جميع الركعة.
فأما إذا أدركه في ركوع الركعة الزائدة، فإن قلنا: لو أدركه في جميعها، لم يكن مدركاً، فما الظن به إذا أدركه في الركوع؟ وإن قلنا: لو أدركه في تمامها، لكان مدركاً، فالمذهب أن الإدراك في الركوع لا يكون إدراكاً، وفيه وجه بعيد في النهاية (3) أنه يصير مدركاً.
__________
(1) (ت 1): شرط.
(2) هذه الزيادة تقديرٌ منا، حيث سقطت من النسخ الثلاث.
ونسجد لله شكراً؛ فقد صدقتنا نسخة (ل) بعد حصولنا عليها.
(3) بعيد في النهاية: أي في نهاية البعد.

(2/533)


وهذا ترتيب الشيخ أبي علي في شرح الفروع.
واختيارُ ابن الحداد في الجمعة أن المدرك لتمام الركعة لا يكون مدركاً للجمعة.
1451 - ومما يتصل بذلك أن الإمام لو كان نسي السجود من الركعة الأولى، وتداركه في الثانية، فيحصل له من الركعتين ركعة واحدة، على الترتيب الذي تقدم في باب سجود السهو، فإذا قام في الصلاة إلى الركعة الثالثة، فهذه ثالثة في الصورة ثانية في الحقيقة، ولا شك أن من أدركه في جميعها أو ركوعها، فهو مدرك للجمعة، وبمثله لو نسي السجود في الركعة الثانية، وقام إلى الثالثة ناسياً فقيامه وركوعه، ورفعه الرأس في هذه الركعة (1) غيرُ محسوب، بل عمله فيها كلا عمل، وإنما يعتد فيها بما يأتي به من السجود، فالمسبوق لو أدرك في هذه الركعة، فقد أدرك في زائدة، وقد ذكرنا التفصيل فيه على ما ينبغي.
1452 - وابن الحداد يرى أن الاقتداء بالإمام في الركعة الزائدة غيرُ محسوب، وهذا أصح الطرق.
1453 - ونحن نفرع عليه فرعاً هو تمام الكلام.
فنقول: إذا كان الإمام نسي السجود من الركعة الأولى، ثم أتى في الركعة الثانية بالسجود، وإنما تنبه لما جرى له عند انتهائه إلى السجود في الركعة الثانية، فقام إلى الركعة الثالثة -وهذا هو الواجب عليه- فهذه صورة المسألة التي [نطلبها] (2)، فلو أدركه مسبوق [في أول] (3) الركعة الثانية، وأقامها بتمامها معه، وظن أنها الركعة الأولى، ثم قام مع الإمام إلى الركعة الثالثة، وأتمها، فلا شك أن المسبوق يصير مدركاً للصلاة؛ فإنه أدرك ركعة محسوبة للإمام.
1454 - ثم قال القفال: إذا سلم الإمام، يسلم معه؛ فإنه قد صلى ركعتين
__________
(1) أي الثالثة.
(2) في الأصل، وفي (ط): نبطلها.
(3) ساقط من الأصل، ومن (ط).

(2/534)


تامتين، وأدرك حقيقة الجماعة في إحداهما، فإن [كان] (1) في حكم المنفرد في الركعة الأولى على ما يرتضيه ابن الحداد، فانفراد المسبوق في صلاة الجمعة بركعةٍ لا يضر، بعد أن يصح له إدراك الركعة (2).
ثم وجه على نفسه سؤالاً وانفصل عنه، فقال: لو صح ما ذكرتموه على هذا الوجه، للزم أن يقال: لو نوى الإنسان الانفراد بركعةٍ، ثم اقتدى بالإمام في الركعة الثانية، يصح ذلك منه؟ ثم قال مجيباً: هذا لا يصح في صلاة الجمعة؛ فإنه بنية الانفراد تاركٌ للقدوة في ابتداء الصلاة، والقدوة شرط الجمعة، ووقت نيتها التحرّم، وتكبيرة العقد، وفي المسألة التي نحن فيها نوى القدوةَ في وقتها، فحصلت، وتحقق الإدراك في ركعة.
هذا قول القفال، حكاه عنه كذلك الصيدلاني، وقطع به.
1455 - وحكاه الشيخ أبو علي، ثم لم يرضه، وقال: المقتدي على أصل ابن الحداد لم يدرك من صلاة الإمام إلا ركعة واحدة، هي المحسوبة (3)، فإذا اطلع المقتدي أخيراً على حقيقة الحال، وسلَّم الإمامُ، فينبغي أن يقوم ويصلّي ركعةً أخرى، فهذا (4) يُتم صلاتَه، والسبب فيه أن القدوة لم تتحقق في الركعة التي هي صورة ثانية الإمام؛ فإنها لم تكن محسوبة، ولا يصح من المسبوق تقديم الانفراد على الجماعة في الجمعة، فالذي جاء به أولاً انفرادٌ، قبل حصول حقيقة الجماعة في الركعة الأخيرة، فلم يعتد به، فإذا أدرك الركعة المحسوبة، وهي الأخيرة، فليقم بعدها إلى الركعة التي ينفرد بها المسبوق بعد تحلل الإمام، والمسألة محتملة جداً، وما ذكره الشيخ أبو علي متوجه على ما اختاره ابن الحداد وصححه.
1456 - ومما يتعلق بتمام البيان في ذلك: أن الإمام لو نسي السجود من إحدى الركعتين، وقام إلى الثالثة ليتدارك، وكان لا يدري أنه نسي السجود من الأولى أو
__________
(1) مزيدة من (ت 1).
(2) في (ت 1): ركعة.
(3) في (ت 1): وهي محسوبة.
(4) في (ت 1): وبهذا تتم.

(2/535)


الثانية، فإذا أدركه المسبوق في هذه الثالثة، فلا شك أنا في التفريع على الصحيح نقول: إذا كان نسي السجود من الثانية، فثالثته غير محسوبة إلا السجود منها، ولو قدرنا ذلك، فلا يكون المسبوق مدركاً على الرأي الظاهر، وإن كان نسي الإمام السجود من الركعة الأولى، فالثالثة محسوبة من صلب الصلاة، والمسبوق مدرك، ولو أشكل الأمر، ولم يدر أنه ترك السجود من الأولى أم من الثانية، فنأخذ في حق المسبوق بالأسوأ، ويُقدر كأنه ترك من الثانية؛ حتى لا يكون مدركاً للجمعة. على الأصح الذي اختاره ابن الحداد.
1457 - ثم حيث قلنا: لا يكون مدركاً للجمعة، فهل يكون مدركاً للظهر؟ فإن الجماعة ليست مشروطة فيها، فهذا ينبني على أن الظهر هل تصح بنية الجمعة؟ وقد مضى التفصيل في الركعة الزائدة إذا أدركها المقتدي في غير صلاة الجمعة. وقد تقرر الغرض من الفصل، فلا حاجة إلى إعادته.
فصل
قال: "وإذا زالت الشمسُ، وجلس الإمام ... إلى آخره" (1)
1458 - نذكر في هذا الفصل ما يشترط في الخطبتين، وما يستحب فيهما.
فنقول أولاً: الخطبتان لا بدّ منهما، ولا تكفي الواحدة، والشافعي اعتمد الاتِّباع، وهو الأصل فيما لا يعقل معناه، ويجلّ خطره، فما صادف الروايات لا يختلف فيها، بل تتفق، [أوجبه محتاطاً] (2)، وعلى هذا بنى العددَ (3) الذي ذكرناه.
__________
(1) ر. المختصر: 1/ 135.
(2) في الأصل وفي (ط): أوجه محاطاً.
(3) المراد تعدد الخطبة. والروايات التي يشير إليها، منها ما جاء في الصحيحين عن ابن عمر: "أنه صلى الله عليه وسلم، كان يخطب خطبتين يقعد بينهما" وفي رواية النسائي: "كان يخطب الخطبتين قائماً" وفي أفراد مسلم عن جابر بن سمرة، كانت للنبي صلى الله عليه وسلم خطبتان ... " وفي الطبراني عن السائب بن يزيد: "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخطب =

(2/536)


وأبو حنيفة لما لم يلزم الاتباع، فلم يزل يخلّ قليلاً قليلاً، حتى اكتفى بأن يقول الإمامُ قبل الصلاة: "سبحان الله" في نفسه (1)، ولا شك أن هذا إسقاطٌ لشعار الخطبة، ومذهبه في هذا بمثابة أصله في أقل الصلاة.
ونحن نذكر أركان الخطبتين، ثم نذكر شرائطهما، ثم نعود فنذكر رعاية الآداب فيهما، من أول الافتتاح إلى الاختتام.
1459 - فأما الأركان، فقد قال أئمتنا: المرعيّ المتبع في الخطبتين خمسةُ أشياء:
__________
= للجمعة خطبتين يجلس بينهما". (ر. التلخيص: 2/ 58 ح 627، البخاري: الجمعة، باب الخطبة قائماً، ح 920، وباب القعدة بين الخطبتين يوم الجمعة، ح 928، مسلم: الجمعة، باب ذكر الخطبتين قبل الصلاة وما فيهما من الجلسة، ح 861، 862، والنسائي: الجمعة، باب (32) ح 1416 - 1418، والكبير للطبراني: 6661).
(1) الخطبة عند الأحناف شرطٌ لصحة الجمعة، ويتحقق الشرط بخطبة واحدة، ويسنّ خطبتان.
أما كيفيتهما، فيسنّ أن تكونا خفيفتين، وتكره زيادتهما على قدر سورة من طوال المفصل، كما يكره قِصرهما عن قدر ثلاث آيات. كراهة تنزيه.
أما أقلّ ما يتحقق به الشرط (الخطبة) فيكفي فيه تسبيحة، أو تحميدة، حتى لو عطس فحمد الله لعطاسه، ثم نزل عن المنبر، لكفاه ذلك. (لم نر في كتبهم تصريحاً بأنه يكفي تسبيحة في نفسه).
ذلك أنهم فسّروا (الذكر) بالخطبة في قوله تعالى: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9] فكفى عندهم فيها مطلق الذكر، وأقل ما يقع عليه الاسم.
(ر. حاشية ابن عابدين: 1/ 543، بدائع الصنائع: 1/ 262، 263).
وكما ترى ليس معنى كلام الأحناف أنهم يدعون إلى الاكتفاء في الخطبة بتسبيحة أو تحميدة، بل يكرهون ذلك. ولذا كنا نتمنى ألا نرى هذا الغمز من إمام الحرمين للإمام الأعظم أبي حنيفة. رضي الله عنهم جميعاًً. وعسى أن تهيىء لنا الأقدار أدلة تثبت أن هذا الكلام مدسوس على إمام الحرمين، وزيد في كتبه، ومن يدري ربما تقع لنا نسخة عالية الإسناد، قريبة من عصر المؤلف، أو مقروءة عليه خالية من هذا الطعن في أبي حنيفة، وعسى أن يكون قريباً.
ويؤيد توقعنا هذا أن الإمام الغزالي تلميذ إمام الحرمين، ابتلي بهذا -في حياته- فدسوا عليه في كتبه طعناً في أبي حنيفة، ولكنه استدرك الأمر. (في قصة تطول، ولها مكان آخر).

(2/537)


الحمد لله، والصلاةُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتوصيةُ بتقوى الله، وقراءة القرآن، والدعاء للمؤمنين والمؤمنات.
ثم اتفقوا أنه يجب في الأولى والثانية في كل واحدة منهما الحمد لله، والصلاة، والتوصية بالتقوى، فهذه الأركان الثلاثة لا بد منها في كل خطبة.
وفي بعض التصانيف (1) أن المقصود حث الناس على التقوى، والحمدُ والصلاة، وإن وجبا جميعاًً وفاقاً، فهما في حكم الذريعتين إلى الوصية بالتقوى، ولا أصل لهذا الكلام، ولا فائدة فيه مع إيجاب الجميع.
فأما قراءة القرآن، فقد حكى شيخي أبو محمد وجهين عن أبي إسحاق المروزي في أنها معدودة من الأركان متحتمة أم هي مستحبة؟ ثم قال: إذا أوجبناها، فقد اختلف أئمتنا في محلّها، فمنهم من قال: تختص بالأُولى، فلو أخلى الخاطب الأولى من القراءة، لم يجز، وهذا القائل يقول: تشترك الخطبتان في ثلاثة أركان: الحمد، والصلاة، والحث على التقوى، وتختص الأُولى باستحقاق القراءة فيها، وتختص الثانية بالدعاء.
ومنهم من قال: الدعاء يختص بالثانية، فأما قراءة القرآن، فلا يتعين لها واحدة، بل يجب الإتيان بها في إحداهما، وهذا هو الظاهر.
وقد حكى شيخنا أبو علي في شرح التلخيص عن نص الشافعي في الإملاء أنه قال: أركان الخطبتين: الحمد، والصلاة، والوعظ. ولم يذكر قراءة القرآن، والدعاء، ولما عدّ صاحب التلخيص الأركان، لم يعدّ القراءة، ولا الدعاء أيضاً. وأما الخلاف
__________
(1) تكررت هذه الغمزة الخفيفة (بعض التصانيف) وتبادر إلى ذهننا أنه يقصد (الحاوي) للماوردي، لما رأيناه من غمزه له في (الغياثي) والتعبير عنه بـ (بعض المصنفين) و (المتلقبين بالتصنيف) ونحوها (ر. الغياثي: فقرات: 209، 232، 233، 303).
ولكن تتبعنا الحاوي -بعد ظهوره مطبوعاً- في أكثر من موضع، فلم نجد ما أشار إليه إمامنا. رضي الله عنهم جميعاًً. وبعد أن كتبنا هذا، تبين لا أنه يعني أبا القاسم الفوراني، وقد حققنا هذا وأشرنا إليه في سابق تعليقاتنا.

(2/538)


في قراءة القرآن، فقد حكاه شيخي عن أبي إسحاق. وأما التردد في الدعاء، فلا نراه إلا في التلخيص، ولا يحمل سكوت صاحب التلخيص عن ذكر الدعاء على غفلةٍ؛ فإن المقصود الأظهر من كتابه العدّ والحصر، والاستثناء، وقد ظهر وفق قوله من نص الشافعي، الذي نقله عن الإملاء.
1460 - ولو تأمل الناظرُ مقصود الخطبة، ألفاه راجعاً -بعد ذكر الله وذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم- إلى حمل الناس [على مراشدهم] (1) بالموعظة في كل جمعة، وأما القراءة والدعاء، فلا يبعد من طريق المعنى خروجهما عن الأركان، ولكن هذا غريب، ولم يحكِ خروجَ القراءة فيما أظن غيرُ (2) شيخِنا (3) والشيخ أبي علي، واختص أبو علي بما حكاه (4) نصّاً ونقلاً عن صاحب التلخيص في الدعاء.
وذكر العراقيون أنه يجب قراءة القرآن في كل خطبة، وهو مكرر تكرر الحمد والوصية.
فهذا مجامع القول في الأركان.
1461 - ونحن نعود إلى قول في التفصيل، [فنقول: أما] (5) الحمد، فقد وجدتُ الطرقَ متفقة في تعيينه، والمصير إلى أنه لا يقوم ذكر الله بسائر وجوه التحميد والثناء مقام الحمد نفسه، وهذا هو اللائق بقاعدة الشافعي في بناء الأمر على الاتّباع؛ فإنّ أحداً ما عدل عن الحمد إلى غيره من وجوه الثناء.
وفي بعض التصانيف في ذكر أركان الخطبة إطلاق القول باستحقاق الثناء على الله، وهو مشعر بأن الحمد لا يتعين، بل يقوم غيره مقامه، وهذا لا أعدّه من المذهب، ولا أعتدّ به.
__________
(1) في الأصل، وفي (ط): "إلى من أشدهم". وهو تصحيف ظاهر.
(2) في (ت 1): "عن" وهو تحريف يغير المعنى تماماً.
(3) واضح من السياق أن المراد هنا والده: الشيخ أبو محمد.
(4) (ت 1): حكيناه.
(5) عبارة الأصل، و (ط): إن الحمد قد ...

(2/539)


1462 - واتفقت الطرق على أن ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم، بالنبوة والرسالة، وسائر وجوه المناقب التي خصه الله تعالى بها، لا يقوم مقامَ الصلاة عليه، فلا بد منها، ويشهد [لتعينها] (1) وجوبها على التعيين في الصلاة بعد التشهد.
وذكر العراقيون ذكرَ الله وذكرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يتعرضوا للحمد ولا للصلاة، وظنّي أنهم أرادوا الحمد والصلاة، ولكنَّ لفظَهم [ما] (2) نقلته.
1463 - فأما القول في الحث على التقوى، فلا شك أن لفظ الوصية ليس معيَّناً، وإنما الغرض الاستحثاث على التقوى بأية صيغة كانت، ثم التقوى تجمع كلَّ وعظ، وهي مشعرة بالإقدام على المأمورات، والإحجام عن المنهيات، وقد بحثت عن الطرق، فلم أرها متعينة، بل الغرض الوعظ، وقد نص عليه الشافعي في الإملاء فيما نقله الشيخ أبو علي، وأبواب المواعظ راجعة إلى الحث على الطاعة، والزجر عن المعصية، وفي أحدهما إشعار بالثاني، فيقع الاكتفاء به، وأما التحذير عن عقاب الله، والترغيب في ثواب الله، ففي ذكرهما، أو ذكر أحدهما كفاية عن التصريح بالأمر بطاعة الله، والنهي عن مخالفته، فيما أراه. وهذا حقيقة التقوى.
فأما الاقتصار على ذكر التحذير من الاغترار بالدنيا وزخارفها، فلست أراه كافياً، من جهة أنها مما يتواصى به المعطّلة المنكرون للمعاد.
وينبغي أن يكون الوعظ في أول درجاته مشعراً بمواعيد الشرع والتزامها. وكذلك الأمر بالإحسان المطلق، من غير تعرض لذكر الله تعالى، ما أراهُ مجزياً.
وأما ذكر الموت، فإن اشتملت الوصية على الأمر بالتأهب والاستعداد له، فهو كاف، وإن لم يَجْر إلا ذكره، فهو من الاقتصار على ذكر فناء أعراض الدنيا فيما أظن.
1464 - ومما يدور في الخلد أن الخاطب لو اقتصر على كلم معدود، ليس فيها هزٌّ، واستحثاث على الخير، أو زجر عن معصية، مثل أن يقول: أطيعوا الله واجتنبوا معاصيه. فهذا القدر لو فرض الاقتصار عليه، فالذي يؤخذ من قول الأئمة أنه كافي؛
__________
(1) زيادة من (ت 1).
(2) في الأصل، و (ط): من.

(2/540)


فإنه ينطلق عليه اسم الوصية بالتقوى والخير، ولكني ما أرى هذا القدرَ من أبواب المواعظ التي تنبه الغافلين، وتستعطف [القلوب] (1) الأبيَّة العصيَّة، إلى مسالك البرّ والتقوى. وإن كان المتبع مسالكَ الأولين في العُصُر الخالية، فالغرض فصلٌ مجموع يهزّ، ويقع من السامعين موقعاً.
وقد بالغ الشافعي في الاتباع حتى أوجب الجلوس بين الخطبتين، كما سأذكره.
وليس يليق بمذهبه أن يُعدَّ قولُ الخطيب: "الحمدُ لله، والصلاة على محمد، أطيعوا الله" خطبة تامةً، والعلم عند الله.
وقد ذكر الشافعي لفظ الوعظ في الإملاء وفيه إشعار بما ذكرته.
أما الاقتصار على كلمة في الحمد والصلاة مع أداء معناهما، فلا شك في كفايته، فإنما قولي هذا في الوعظ، وهذا الآن يشير إلى ما ذكره بعض المصنفين من أن مقصود الخطبة الوعظُ (2)، والحمد والصلاة ذريعتان.
1465 - فأما قراءة القرآن إذا أوجبناها على المشهور، فالذي ذكره الأئمة: لا بد من قراءة آية تامة. وهذا فيه كلامٌ عندي، ولو قرأ شطراً من آيةٍ طويلة، فلست أُبعد كفايةَ ذلك، ولا أشك أنه لو قال: {ثُمَّ نَظَرَ} [المدثر: 21] لم يكفِ ذلك، وإن عُدَّ آية، ولعل الأقرب أن يقرأ ما لا يجري على نظمه ذكرٌ من الأذكار، وهو المقدار الذي يحرم قراءته على الجنب، ولست أرى للآية الواحدة في هذا الباب ثَبَتاً في التوقيف.
ومما لا بد من إجزائه أنه لو قرأ الخطيب آيةً فيها وعدٌ أوْ وعيد، أو حكمٌ شرعيّ، أو معنى مستقل في وقعةٍ، فهذا كافٍ، ولو قرأ من أثناء قصّةٍ ما يحرم قراءتُه على الجنب، ولكن كان لا يستقل بإفادة معنى على حياله، فهذا مما أتردد فيه.
1466 - وبلائي كله من شيئين: أحدهما - أن بَني الزمان ليس يأخذهم في طلب الغايات، [لا. بل] (3) في طلب حقيقة البدايات ما يأخذني، فلا يهتدون
__________
(1) ساقطة من الأصل، ومن (ط).
(2) لا يفوتنا أن نسجل هنا هذا الإنصاف من إمام الحرمين لـ (بعض المصنفين): أبي القاسم الفوراني - فمع "كثرة الحط عليه" على حد قول السبكي إلا أنه هنا يستشهد بقوله، ويستند إليه، ويعجب به.
(3) في الأصل، وفي (ط): لكن. والمثبت من (ت 1).

(2/541)


[لما] (1) أبغيه من مداركها، بل أخاف أن يتبرّموا (2) بها.
ثم الأولون لم يعتنوا بالاحتواء على ضبط الأشياء، والتنبيه على طريق التقريب فيها، ويشتد ذلك جداً في الإحالة على الأمور المرسلة، التي لا يثبت توقيف خاص شرعي فيه، كما نحن الآن مدفعون إليه من لزوم الاتباع وتركِ الاقتصار على أدنى مراتب الأذكار، ثم لم تثبت ألفاظ مضبوطة حسب ثبوتها في التشهد والقنوت وغيرهما، فجرّ ذلك ما أنهيتُ الكلام إليه من التردّدات (3).
1467 - وأما الدعاء، فيكفي فيه الدعاء للمؤمنين كافةً، بجهةٍ من الجهات، وأرى ذلك متعلّقاً بأمور الآخرة، غيرَ مقتصر على أوطار الدنيا، والعلم عند الله.
فهذا بيان أركان الخطبة.
1468 - وكان شيخي يقول: لو قرأ الخطيب في كل ركن من الأركان آية مشتملةً على المعنى المطلوب، فأتى بآيٍ من القرآن على هذا الترتيب لا يُجزيه.
والأمر مقطوع به في المذهب. كما قال؛ فإن الذي جاء به لا يسمى خطبة، وقد تقرر أن الخطبة أوجبت ذكراً، وإن لم يعيَّن، فهو من هذه الجهة كالتشهد والقنوت، غير أن الأذكار متعيّنة فيهما، وهو غير متعيّن في الخطبة، وإلا فالكل سواء في أنه شرع ذكراً، ولكنه عُيّن في التشهد، وأُبهم في الخطبة، وفيه فقهٌ حسن؛ فإن الخطباء لو لزموا شيئاًً واحداً، وأنس به الناس، وتكرر على مسامعهم، لأَوْشَك ألاّ تحصل فائدة الوعظ؛ فإن النفوس مجبولة على قلة الاكتراث بالمعادات، فهذا كذلك، وإن كنت لا أشك في أن الخاطب لو لزم كلمات معهودة في ركن الوعظ، أو كان يُعيدُها، فيكفيه ذلك؛ فإنه قد يختلف السامعون، ويتبذلون في كل وقت.
__________
(1) في الأصل، وفي (ط): بما. والمثبت من (ت 1).
(2) في الأصل، و (ط): "يبين مواتها". وهو تصحيف عجيب.
(3) قال الإمام: إن بلاءه من شيئين، ثم ذكر أحدهما، ولم يذكر الثاني، فهل أضرب عن ذكره؟ -وهو ما أرجحه- وذلك سائغ معهود، أم هو ما أشار إليه من عدم اعتناء الأولين بضبط الأشياء؟ أنا لا أظن ذلك؛ فدائماً هو يعتذر عن الأولين بأنهم أدَّوْا ما عليهم بحسب ما كان مطلوباً منهم في زمانهم. والله أعلم.

(2/542)


فإذن قد تحقق أن قراءة القرآن لاتكفي، نعم. لو أوقع التحميدَ آيةً، فليس يمتنع ذلك، ولو أوقع الوعظَ آية، أو آيات مشتملةً على مواعظ، وما جعلَ جميع الخطبة قراءةً، فلست أبعد إجازةَ ذلك، وقد نص عليه شيخي، ولكن ينبغي ألا تحتسبَ القراءة وعظاً، ويُعتدّ بها عن جهة القراءة أيضاً؛ فإن ذلك لا يليق بمذهبنا.
1469 - ثم سنَحَ في هذا إشكال في التفريع، وهو أنه لو أتى بدل الوعظ بالقراءة، ثم قرأ القرآن عن جهة استحقاق القراءة، ولم أُبعد أن يكفي في الحمد آيةٌ فيها حمدٌ أيضاً، فينعطف الأمر آخراً إلى تجويز ردّ الخطبة كلّها قراءة، وهذا ممتنع.
ويخرج منه نتيجةٌ، وهي اشتراط إيقاع الوعظ ذكراً؛ حتى [لا] (1) يؤدي إلى هذا آخراً؛ فإنه قد لاح أن الغرض الأظهر من الخطبة الوعظ.
فهذا منتهى القول في أركان الخطبة.
1470 - ثم القيامُ في الخطبتين حتم عند الشافعي في حق القادر على القيام، وكذلك القعود بين الخطبتين، ولا بد من رعاية الطمأنينة في القعدة بين الخطبتين، كما يشترط ذلك في القعود بين السجدتين.
فإن قيل [لِمَ] (2) لَمْ تعدّوا القيامَ والقعودَ من الأركان، وعددتموها في الصلاة؟
قلنا: لا حجر في ذلك، فمن [عدّ] (3) ذلك في الخطبة، فقد أصاب، ومن لم يعدهما في الصلاة، وزعم أن القيام والقعود محلاّن، والمقصودُ ما يقع فيهما، فلا بأس عليه. ومن حاول فصلاً، لم يبعد؛ فإن الغرض من الخطبة الوعظ، وهذا أمرٌ معقول، ولا يصح في الصلاة أمرٌ معقول، والأمر في ذلك كله قريب [مع اعتقاد] (4) وجوب القيام والقعود في الموضعين.
فهذا أركان الخطبة.
__________
(1) زيادة من: (ت 1).
(2) زيادة من: (ت 1).
(3) زيادة من: (ت 1).
(4) في الأصل، و (ط): من اعتبار.

(2/543)


1471 - فأما الشرائط، فلا يختلف العلماء في أن الوقت شرطٌ فيهما، فليقع أول ما يعتد به منها (1) [بعد] (2) الزوال.
ثم شرطُ الاعتداد بالصلاة تقدّم الخطبتين، ولما اختصتا بالوجوب من بين سائر الخطب، اشتُرط تقديمهما، حتى يحتبس الناس لانتظار الصلاة ويسمعوا.
ولما لم تجب الخطبة في العيد وغيره، لم يضر التأخير، وإن فرض انتشار الناس فيها.
1472 - وفي اشتراط الطهارة عن الحدث والخبث وجهان مشهوران: أحدهما - لا يشترط؛ فإن الغرض منهما الذكر والوعظ، ولا منافاة بين ذلك وبين الحدث.
والثاني - أن الطهارة مشروطة، وقد علل هذا الوجهَ بعضُ الأصحاب بأن الخطبتين أقيمتا مقام الركعتين؛ فيشترط فيهما الطهارة، وهذا لا أرضاه توجيهاً، مع القطع بأن الاستقبال ليس مشروطاً فيهما. والوجه أن نقول: هذا مبني على اشتراط الموالاة [كما] (3) تقدم؛ فإنه إذا لم يكن متطهراً، فقد يتفرق النظام إذا توضأ قبل الصلاة (4).
1473 - وأجرى الأصحابُ اشتراط الستر في الاعتداد بالخطبة على الخلاف المذكور في الطهر، وسبب اشتراطه بروز الخطيب، وما فيه من هُتكةٍ (5) من الانكشاف لو لم يتستر.
1474 - وأما الاستقبال، فلا أشك أنه ليس شرطاً، بل الأدب أن يستدبر كما سنذكره، ثم لم يشترط أحد الاستدبار أيضاً، فلو استقبل وأسمَعَ أجزأ، وإن خالف الأدب.
1475 - ومما يتعلق بما نحن فيه: أنا إذا شرطنا الطهارة في الاعتداد بالخطبة، فلو
__________
(1) كذا في جميع النسخ: "منها" بالضمير المفرد، على معنى الخطبة.
(2) زيادة من: (ت 1).
(3) زيادة من (ت 1).
(4) أي قبل الصلاة وبعد الخطبة.
(5) هُتكة: أي فضيحة. (المعجم).

(2/544)


كان الخطيب يخطب، فسبقه الحدث في أثناء الخطبة، فلو أتى بركنٍ في حالة الحدث، فلا أشك أنه لا يعتد بما جاء به في الحدث، ولكنه إذا جدد الوضوءَ، فيستأنف الخطبة، أو يبني عليها، ويأخذ من حيث جرى الحدث؟
وذكر شيخي في ذلك وجهين مبنيين على أن الموالاة هل تشترط في الخطبة؟ وهذا منه دليل على أنه ليس يتلقى اشتراطَ الطهارة من نفس الموالاة؛ فإنه كان يقول: إن شرطنا الموالاة، وقد اتفق الوضوء على قربٍ من الزمان لا تنقطع بتخلل مثله الموالاة، فهل يجب استئناف (1) الخطبة؟ فعلى وجهين، أحدهما - يجب كالصلاة يطرأ عليها الحدث.
والثاني - لا يجب؛ فإن الخطبة لا عقد فيها، وإنما المرعي فيها الموالاة، لغرض تواصل الكلام، وإفادة الوعظ، وإذا لم يتخلل زمان طويل، جاز البناء، وإن جرى الوضوء في زمان طويل، فلا شك أنا نأمره بالاستئناف على قول اشتراط الموالاة.
وحفزني على هذا شيء، وهو أن الموالاة إذا اختلت في الطهارة بعذر، فالطريقة المرضية أن ذلك لا يقدح في الطهارة، وإن شرطنا الموالاة فيها، ولكن الذي أراه أن الموالاة إذا انقطعت بعذرٍ في الخطبة، فلا أثر للعذر، وفي انقطاع الخطبة ووجوب الاستئناف الخلاف؛ والسبب في ذلك أن الطهارة غيرُ معقولة المعنى، ولا يختل بترك الموالاة فيها غرض، ولكن من حيث إن الطهارة عُهدت متوالية، كما عهدت مرتبة، اشترطنا في قولٍ الموالاة فيها، فإذا فرض عذرٌ، لم يمتنع أن يعذر صاحب الواقعة، على أنه قد ورد على حسب ذلك أثرٌ عن ابن عمر (2). وأما اشتراط الموالاة في الأذان والخطبة؛ فإنه متعلق بمعنى معقول، فإذا اختل ذلك المعنى المعتبر، لم يظهر فرق بين المعذور وغيره.
__________
(1) أي ابتداء الخطبة من جديد.
(2) يشير إلى أثر ابن عمر - رضي الله عنهما - في تفريق الوضوء لعذر، ففي الموطأ عن نافع عن ابن عمر "أنه بال في السوق فتوضأ، فغسل وجهه ويديه ومسح برأسه، ثم دخل المسجد فدعي لجنازة، فمسح على خفيه، ثم صلى" رواه مالك، وعنه الشافعي، وعلقه البخاري بلفظ آخر (ر. الموطأ: 1/ 60 ح 43، الأم: 1/ 27، البخاري: الغُسل، باب تفريق الغسل والوضوء، قبل ح 265، التلخيص: 1/ 173 ح 116).

(2/545)


فهذا بيان شرائط الخطبة.
ومن أخص شرائطها رفعُ الصوت، وسنذكر تفصيلَ القول فيه في الفصل المشتمل على ذكر الإنصات والاستماع.
1476 - والآن بعد ما نجز القول في الأركان، والشرائط، نذكر قولاً في آداب الخطبة وسننها جامعاً، ونعود إلى افتتاح الخطبة، فنقول:
إذا رَقِيَ الإمام على المنبر، وانتهى إلى الدرجة التي عليها مجلسه، فيُقبل على الناس ويسلّم عليهم، فأما عندنا، فالأصل في ذلك ما روى ابنُ عمر: "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دنا من منبره، سلم على من عند المنبر، ثم يصعد، فإذا استقبل الناس بوجهه، سلم، ثم جلس، ثم إذا جلس أذّن المؤذّنون بين يديه الأذان المشروع" (1) وما كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر وعمر أذان يوم الجمعة قبل هذا، فلما كثر الناس في زمان عثمان، وعظمت البلدةُ، أمر المؤذّنين، حتى [أذنوا] (2) على أماكنهم، ثم كان يؤذّن المؤذّنون بين يديه إذا استوى على المنبر، ثم الخطيب يجلس والمؤذّن يؤذن، وإذا فرغ، قام وخطب.
وينبغي أن يشغل يديه حتى لا يعبث بهما، وقد روي: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعتمد على عَنَزَةٍ، وروي أنه اعتمد على قوس، وروي على سيفٍ، وقد قيل: إنه كان في الحضر يعتمد على عَنَزَة، وكان إذا خطب في السفر اعتمد على قوس أو سيف" (3) والأمر في ذلك قريب.
__________
(1) حديث ابن عمر، رواه ابن عدي، أورده في ترجمة عيسى بن عبد الله الأنصاري، وضعفه، وكذا ضعفه ابن حبان. ورواه ابن أبي شيبة عن مجالد عن الشعبي مرسلاً، ورواه البيهقي (ر. التلخيص: 2/ 62 ح 641، ومصنف ابن أبي شيبة: 2/ 114، والسنن الكبرى: 3/ 205، والكامل: 5/ 1893، وخلاصة البدر: 1/ 214 ح 746).
(2) في الأصل، وفي (ط): إذا دنوا.
(3) حديث اعتماد الرسول صلى الله عليه وسلم على عنزته رواه الشافعي مرسلاً، وحديث الاستناد على القوس رواه أبو داود، وقال الحافظ: "إسناده حسن، وصححه ابن السكن، وابن خزيمة، وله شاهد من حديث البراء بن عازب" عند أبي داود أيضاً. (ر. أبو داود: الصلاة، باب الرجل يخطب على القوس، ح 1096، وباب: يخطب على قوس، =

(2/546)


وإذا شغل إحدى يديه بما ذكرناه، شغل الأخرى بالتمسك بحرف المنبر، وإن لم يتفق ذلك، وضع إحدى يديه على الأخرى، كما يفعله في صلاته، أو أرسل يديه وأقرَّهما. وليس في هذا ثَبَتٌ، والغرض ألا يعبثَ.
ثم سبب إقباله على الناس واستدباره القبلة أن يخاطبهم، فإن استدبرهم، وهو يخاطبهم، كان قبيحاً، خارجاً عن حكم عرف الخطاب، ولو وقف في [أخريات] (1) المسجد مستقبلاً للقبلة خاطباً، فإن استدبره الناس، كان قبيحاً، وإن استقبلوه، وأقبلوا عليه، كانوا مستدبرين للقبلة، واستدبار واحدٍ مع استقبال الجميع القبلةَ أحسنُ من نقيض ذلك.
1477 - ثم إذا فرغ من الخطبة الأولى، جلس جلسة خفيفة، وتلك الجلسة واجبة، والغرض يتأدّى بجلسة وطمأنينة، وقد قال الشافعي: يجلس جلسة تسع قراءة الإخلاص، وهي على الجملة في القدْر الواجب والمستحب قريب من الجلسة بين السجدتين.
ثم يقوم ويبتدىء الخطبة الثانية، وينبغي أن تكون الخطبة بليغةً قريبةً إلى الأفهام مترقية عن الركيك، خليةً عن الغريب، مائلة إلى القِصر، فقد قال النبي عليه السلام: "قصر الخطبة، وطول الصلاة مَئنة من فقه الرجل" (2).
وينبغي أن يأتي الخطيب بالخطبة على ترتيلِ وأناة من غير [تغن] (3) وتمطيط.
ثم إذا فرغ من الخطبة الثانية، ابتدأ المؤذّن الإقامةَ، وبنى الخاطب في تسرعه الأمر على أن يقرب وقوفه في المحراب من فراغ المقيم من الإقامة.
فهذا بيان أركان الخطبة وهيئاتها، وما يتعلق بآدابها وسننها.
__________
= ح 1145، والشافعي في الأم: 1/ 200، والتلخيص: 2/ 64، 65 - ح 648، 649).
(1) في الأصل: "آخر باب"، وهو تحريف واضح، والمثبت من باقي النسخ، وأكدته (ل).
(2) حديث: "قصر الخطبة ... " رواه مسلم، من حديث عمار، ولأبي داود بمعناه. (ر. مسلم: الجمعة، باب تخفيف الصلاة والخطبة، ح 869، أبو داود: الصلاة، باب إقصار الخطب، ح 1106 التلخيص: 2/ 64 - ح 645، 646).
والمئنة بفتح الميم بعدها همزة مكسورة، ثم نون مشدّدة، أي علامة. (المعجم).
(3) في الأصل، وفي (ط): تغير.

(2/547)


فصل
في الاستماع والإنصات وما يتعلق به
1478 - القول في ذلك ينقسم إلى ما يتعلق بالواجب، وإلى ما يتعلق بالآداب، فلتقع البداية بالأهم، وهو ما يجب، ويتحتم، فنقول:
نقل الأئمة قولين في أنه هل يجب على من حضر الصمتُ والإنصاتُ، وهل يحرم عليه الكلام؟ فالذي نص عليه الشافعي في القديم أنه يجب الإنصاتُ، وإدامةُ الصمت على من حضر، وتمكن من الإصغاء والاستماع، وهذا مذهب أبي حنيفة (1).
والمنصوص عليه في الجديد أنه لا (2) يحرم الكلام على من شهد، ولا يتعين الصمت.
1479 - فمن قال: يجب، استدل بقوله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآَنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} [الأعراف: 204] وقد قال المفسرون: المراد بالقرآن الخطبة، وإنما سميت قرآناً لاشتمالها على قراءة القرآن. ومن قال: لا يجب الصمتُ، استدل بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم تكلم في أثناء خطبته بما ليس من الخطبة، فإذا كان لا يحرم على الخطيب أن يتكلم بما ليس من الخطبة، لم يحرم على المستمع أن يتكلم أيضاً، وقد روي: "أنه دخل داخل ورسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة، فقال: يا رسول الله، متى الساعة؟ فقال عليه السلام: "ماذا أعددت لها" فقال: حب الله ورسوله، فقال صلى الله عليه وسلم: "المرء مع من أحب" (3) ولم يرد على من كلمه (4)، ولو كان تكلُّمُ من حضر حراماً، لبين رسول الله صلى الله عليه وسلم.
__________
(1) ر. المبسوط: 2/ 28، بدائع الصنائع: 1/ 263، حاشية ابن عابدين: 1/ 551.
(2) في (ت 1): أنه يحرم. وهو خلاف المنصوص (ر. الأم: 1/ 180).
(3) حديث "أن رجلاً دخل والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب ... " رواه ابن خزيمة، وأحمد، والنسائي، والبيهقي، عن أنس. (ر. النسائي في الكبرى: العلم، باب إذا سئل العالم عما يكره، ح 5873، أبن خزيمة: 3/ 149 - ح 1769، وأحمد: 3/ 167، والبيهقي: 3/ 221، والتلخيص: 2/ 6 - ح 637).
(4) كذا في النسخ الثلاث، ولعل المعنى: ولم يردّ عليه كلامه، ويرفضه. هذا. وقد ضُبطت في =

(2/548)


ونحن نطرد عليه ما ذكره الأئمة في التفريع، ونسوقه أحسن سياق، ثم نذكر غوائلَ يقع التعرض لها، وليستوف الناظر تمام الفصل؛ فإنّ كشف مبادئه في استتمامه.
1480 - قال شيخي: إذا أوجبنا الإنصات والإكباب على الاستماع، فلو دخل داخلٌ وسلم، لم يجب على الحاضرين ردُّ سلامه، بل لا يجوز لهم ردُّ سلامه، فإنا نفرع على إيجاب الإنصات وقطع الكلام، فإن قيل: ردّ السلام من فروض الكفايات.
قلنا: ذاك في حق من لم يضيع السلام، فوضَعه (1) في غير موضعه، ومن سلم على رجل وهو في أثناء حاجة يقضيها، لم يستحق ردَّ السلام، وسيأتي تفصيل ذلك في كتاب السِّيَر، إن شاء الله عز وجل، ففيه تفصيلُ فرائض الكفايات، وما يتعلق بها، فليس إذن للداخل أن يسلّم، وإذا سلم، لم يستحق جواباً، ولا يجوز للحاضرين أن يردّوا عليه، على القول الذي عليه نفرعّ.
1481 - ولو عطس عاطس، فهل يجوز تشميته؟ فعلى وجهين، أحدهما - لا يجوز قياساً على رد السلام، والثاني - يجوز؛ فإنه لا اختيار للعاطس، فهو معذور، فحقه أن يُقضَى حقه، ومن أدب الدين أن يُشمَّت المسلمُ إذا عطس، فأما رد السلام، فلا؛ لأن المسلم ضيع سلام نفسه، وكان مختاراً فيه.
فإن جوزنا تشميتَ العاطس، فهل يُستحبُّ؟ فعلى وجهين: أحدهما - بلى (2)، رعايةً لحقه.
__________
= (ت 1) هكذا: "ولم يرُد عليّ من كلمةِ". وفيه ما فيه.
(1) في (ل): "بوضعه".
(2) كذا في النسخ الثلاث. وهو خلاف المعروف المشهور من قواعد اللغة؛ فإن (بلى) حرف جواب، يجاب به في النفي خاصة، ويفيد إبطاله. (ر. ابن هشام - مغني اللبيب عن كتب الأعاريب: 154، والمعجم الوسيط).
ولكن وقع في كتب الحديث ما يقتضي أن (بلى) يجاب بها الاستفهام المجرد، ففي صحيح البخاري: كتاب الإيمان (83) باب كيف كانت يمين النبي صلى الله عليه وسلم (3) ح 6642: "أترضون أن تكونوا ربع أهل الجنة؟ قالوا: بلى" وباللفظ نفسه عند ابن ماجة، وفي صحيح مسلم: كتاب الهبات (24) باب (3) "كراهة تفضيل بعض الأولاد في الهبة": "أيسُرُّك أن يكونوا إليك في البر سواء"؟ قال: بلى. قال: فلا، إذاً" - ح 17 - (1623)؛ =

(2/549)


والثاني - لا؛ فإن الإنصات أهم منه؛ إذ هو واجب، والتشميت لا يجب قط.
فهذا إذا فرعنا على وجوب الصمت، فأما إذا لم نحرمه (1) تفريعاً على الجديد، فيجب عليه تشميتُ العاطس.
1482 - وهل يستحب ردُّ السلام، فعلى وجهين، ولا يجب رد السلام، وإن لم نحرمه، لتقصير المسلم لما ذكرناه من وضعه السلام في غير موضعه، وقد ذكرنا أن من سلم على إنسان وهو في قضاء حاجة، لم يلزمه رد سلامه، [وإن] (2) كان لا يحرم عليه، وقد روي: "أن رجلاً سلّم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقضي حاجته، فلم يرد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقام بعد الفراغ وتيمم، ثم ردّ جوابه" (3).
1483 - وقال شيخنا أبو بكر الصيدلاني: اختلاف القول في الإنصات يستند إلى ما تقدم من الاختلاف في أن حالة الخطبة كحالة الاشتغال بالصلاة أم لا؟ وعلى هذا يبتني الخلاف في أن الطهارة هل تشترط في الخطبة أم لا؟ هذا كلامه. فإن شرطنا الطهارة، حرّمنا الكلام، وإن لم نشترطها، لم نحرم الكلام.
1484 - وكان شيخي يقول: إن أوجبنا الإنصات على من يبلغه صوتُ الخطيب، فهل يجب على من لا يبلغه صوته؟ فعلى وجهين: أحدهما - لا يجب، ووجهه ظاهر.
__________
= وهو عند ابن ماجة باللفظ نفسه. وفي مسلم أيضاً، في حديثٍ طويل: .. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أنت الذي لقيتني بمكة" قال (المجيب): "فقلت: بلى" كتاب صلاة المسافرين وقصرها (6) باب إسلام عمرو بن عَبَسَة (52) ح 494 - 832 (ر. صحيح البخاري: 7/ 220، صحيح مسلم: 1/ 569، 2/ 1244، سنن ابن ماجة: 2/ 795 ح 2375، وص 1432 ح 4283، ومغني اللبيب عن كتب الأعاريب: 154).
(1) أي الكلام.
(2) في الأصل، و (ط): فإن.
(3) حديث عدم رد السلام عند قضاء الحاجة، رواه مسلم، عن نافع عن ابن عمر، ورواه أبو داود، والنسائي، والحاكم، من حديث المهاجر بن قُنْفُذ. (ر. التلخيص: 4/ 94 ح 1832).

(2/550)


والثاني - يجب؛ فإنه لو تلكم من بُعد، لارتفع اللغط، بحيث يمنع الحاضرين من السماع.
1485 - وكان شيخي يقول: في تحريم الكلام في أثناء الخطبة على الخطيب قولان، كالقولين في كلام المستمع، والشافعي في الجديد لما أباح الكلام على الحاضر، احتج بتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم في خطبته. ولو لم يكن ذلك في محل النزاع، لما احتج به رضي الله عنه.
ثم كان يقول: لناصر القول القديم أن يجيب عنه، ويقول: تكلُّم رسول الله صلى الله عليه وسلم بما هو شرعٌ، وبيانُ حكم؛ فإنه قال لسُلَيك الغطفاني: "لا تجلس حتى تصلي ركعتين" (1)، والخاطب يجوز له أن يضمّن خطبتَه بيانَ حكمٍ، وتعليمَ الناس أمراً شرعياً، سيما إذا كان متعلّقاً بما يليق بالحال، كقوله عليه السلام لسليك: "لا تجلس حتى تصلي ركعتين" ويجوز أن يكون كلامه مع [قتلة] (2) ابن أبي
__________
(1) حديث أنه صلى الله عليه وسلم، كلم سليكاً الغطفاني في الخطبة، رواه مسلم من حديث جابر، ورواه البخاري بدون تسمية سليك. (ر. صحيح مسلم: 1/ 597، كتاب الجمعة، باب التحية والإمام يخطب، ح 59 - 875، والبخاري: الجمعة، باب من جاء والإمام يخطب صلى ركعتين خفيفتين، ح 931، والتهجد، باب ما جاء في التطوع مثنى، ح 1166، والتلخيص: 2/ 61 ح 639، وخلاصة البدر المنير: 214 ح 744).
(2) زيادة لاستقامة المعنى حيث سقطت من جميع النسخ.
وقد عقد الحافظ في التلخيص (تنبيهاً) قال فيه: "أورده (حديث كلام الرسول صلى الله عليه وسلم لقتلة ابن أبي الحقيق) إمام الحرمين والغزالي بلفظ عجيب، قال: "سأل النبي صلى الله عليه وسلم ابن أبي الحقيق، عن كيفية القتل، بعد قفوله من الجهاد" وهو غلط فاحش، وأعجب منه أن الإمام قال: صح ذلك، ويجوز أن يكون سقط من النسخة لفظ (قتلة) قبل ابن أبي الحقيق" ا. هـ. كلام الحافظ بنصه.
قلت: آن لنا أن نصرح بما كنا نستشعره من تحامل الحافظ على إمام الحرمين، وشدته في كثير من تعقّباته، فهل يعقل أن يُنسب الإمام إلى الغلط الفاحش هذا، وهل يردُ بخاطرٍ أن يخطىء الإمام فيجعل الرسول صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر يخاطب القتيل ابنَ أبي الحقيق اليهودي؟! ثم كيف يُعقل أن يُسأل المقتول كيف قُتل؟! والأمر أقرب وأيسر من ذلك، وهو كما قال الحافظ نفسه "سقط لفظ (قتلة) " ولكن بعد أن كان قد وقع في الإمامين، ووصفهما (بفحش الغلط) هذا وقد وُجدت نسختان من الوسيط بغير هذا السقط. =

(2/551)


الحُقيق (1) متعلِّقاً بأمرٍ مهم في الجهاد، وهو من أهم قواعد الشرع (2)، وإنما القولان في تحريم كلامٍ لا يتعلق ببيان الشرع.
ثم كان شيخي يقول: لاخلاف أن كلام الخطيب في أثناء الخطبة لا يبطل الخطبة، ولا يقطعها إذا قلّ. وإن طال وكثر، فهو (3) يتعلق بترك الموالاة في الخطبة، وفيه القولان المشهوران.
فهذا منتهى كلامه.
1486 - والآن قد حان أن ننبه على حقيقة المسألة، فنقول: كان شيخي وغيره من الخائضين في هذا الفصل يرددون القول في (4) أنه هل يجب الاستماع؟ ويزعمون أن في إباحة الكلام، أو في رفع الحرج فيه إسقاطُ إيجاب الاستماع والإصغاء.
وأنا أقول: من أنكر وجوب الاستماع إلى الخطبة، فليس معه من حقيقة هذه القاعدة شيء، فيجب القطع على مذهب الشافعي أنه يجب الاستماع إلى الخطبة، وكيف يستجاز خلاف ذلك على طريق الشافعي في مسلك الاتباع، وقد بنى إيجاب الخطبتين، والقعدةَ بينهما على ذلك، وفهم أن الغرض من الخطبة تجديدُ العهد في
__________
= وأين هذا من منهج إمام الحرمين في حمله الخطأ عند مخالفيه على الزلل في النقل عنهم وسوء الفهم لكلامهم؟؟ وإن شاء الله ونسأ في الأجل، وأعان ويسر، سنجمع كل تعقبات الحافظ للإمام، في نسقٍ واحد وننظر فيها، لنرى أسلوب الحافظ في تناولها وعلاجها، وهل تستحق كل هذا (ر. التلخيص: 2/ 61، الوسيط للغزالي: 2/ 282. ولمعرفة منهج إمام الحرمين انظر: إمام الحرمين: حياته وعصره: 78 وما بعدها).
(1) ابن أبي الحقيق: أبو رافع، واسمه سلام. عدو الله ورسوله، كان ممن حزب الأحزاب ضد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما انتهت غزوة الأحزاب، ولحق بخيبر، تعقبه خمسة نفر من الخزرج - بعد أن أذن لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرجوا إليه بخيبر، فقتلوه في قصة مشهورة، في كتب السير والمغازي (ر. السيرة النبوية لابن هشام: 3/ 273 وما بعدها، والبداية والنهاية: 4/ 137 وما بعدها).
(2) حديث كلام الرسول صلى الله عليه وسلم لقتلة ابن أبي الحقيق على المنبر رواه البيهقي (ر. السنن الكبرى: 3/ 221).
(3) من هنا بدأ خرمٌ في (ت 1) نحو ثلاث صفحات.
(4) عبارة الأصل: القول فيه في أنه ... (بزيادة لفظ [فيه]).

(2/552)


كل جمعة بوعظ الناس، وكيف يتحقق مع هذا تجويز ترك الإصغاء إلى الخطبة؟ ولو جاز ذلك، لما كان في إيجاب حضور أربعين من أهل الكمال معنىً وفائدة، ولوجب أن يسوغ أن يحضروا ويناموا، والإمام رافع عقيرته، ويجب على مساق هذا ألا يجب على الخاطب رفعُ صوته بالخطبة. ولا يعتقد هذا ذو بصيرة في المذهب، وقد اشتد نكير أئمتنا على أصحاب أبي حنيفة (1) لما قالوا: ينعقد النكاح بحضور شاهدين لا يفهمان عقدَ النكاح، وقالوا: من لم يفهم من تخصيص النكاح بحضور الشهود أن الغرض أن يتحملوه ويفهموه، فقد بعدوا، وتناهَوْا في العناد والجحد، فيجب من ذلك القطعُ بأنه يجب حضورُ أربعين من أهل الكمال، ويجب أن يُصغوا، ويجب على الخاطب أن يُسمعهم أركان الخطبة، ولو حضر من حضر، وارتفع منهم اللغط على وجه لا يتأتى معه السماع، فهذا قطعاً بمثابة ما لو لم يحضروا، أو انفضُّوا وانصرفوا، وإذا كان كذلك، فيجب تنزيلُ القولين وتقدير تفريعهما على وجه، فنقول: إذا اجتمع في بلدة من أهل الكمال مائة ألفٍ مثلاً، فيجب عليهم إقامةُ الجمعة، ولكن لا يجب عليهم الاستماع؛ فإنَّ ذلك غيرُ ممكن، وإقامة الجمعة من جميعهم ممكن، فيجب الاستماع من أربعين منهم لا بأعيانهم، فنقول: لو شهد أربعون من أهل الكمال، وبعُدَ الآخرون، سقط [الفرض] (2) في الاستماع [عن] (3) الكافة، ولو حضر جمع زائدون على الأربعين، ففي وجوب الإنصات على آحاد من حضر، وأمكن الاستماع منه القولان.
ووجه خروجهما أنا لو جوّزنا لكل واحد أن يتكلم، تعويلاً على أنه يبقى أربعون غيرُه، لجرّ ذلك جواز التكلّم، من كل واحد، وهذا يُفضي إلى أن يتكلم جميعُهم، فَيُفْضِي ذلك إلى سقوط الاستماع رأساً، فهذا يضاهي ما لو تحمل جماعة شهادةً، وكان الحق يثبت بشاهدين، فإذا طالب ذو الحق واحداً منهم بإقامة الشهادة، ففي جواز امتناعه عن الإقامة، تعويلاً على أن الغرض يتحصل بغيره خلاف معروف في
__________
(1) قضية فَهْم شهود النكاح لما يجري في مجلس العقد موضع خلاف عند الحنفية. (ر. البحر الرائق: 3/ 94، 95، حاشية ابن عابدين: 2/ 273).
(2) في الأصل، وفي (ط): الغرض. وهذا تقدير منا رعاية للسياق. وقد أكدته (ل).
(3) تقدير منا رعاية للمعنى، وفي النسختين: من. وهذا أيضاً أكدته (ل).

(2/553)


الشهادات، ولكن الأظهر في الشهادة أن [المدعوّ] (1) من الشهود يتعين عليه الإقامة.
1487 - والمنصوص عليه في الجديد أن الإنصات لا يجب، وميل أئمة المذهب إلى الجديد في مجال الخلاف، ولعل الفارق فيه أن المدعوَّ من الشهود قد تعلّق به طلبُ ذي الحق على اليقين، وآحاد من يحضر المقصورة (2) لا يتخصص بمطالبة.
وعندي أن هذا يضاهي ما لو قال ذو الحق للشهود وهم مائة: لا تغيبوا، فحاجتي ماسةٌ إلى إقامة الشهادة. فلو غاب جمعٌ منهم، وكان الحق يستقل بمن بقي، فيظهر أن الذين غابوا لا يَحْرَجون (3).
وليس تخلو المسألة عن احتمال في ذلك.
ثم إذا قيل: التكلم من واحد لا يمنعه من السماع؟ قيل: نعم، ولكن رفع الحرج فيه (4) تسلّط (5) غيره على مثل [ما جاء به] (6)، وإذا فرض ذلك عن جميعهم، صار هينمة عظيمة حاجزة من السماع، فكان [تحريم] (7) ذلك في القديم في حكم سد بابٍ يُفضي -لو فتح- إلى رفع الاستماع رأساً.
ثم فيمن بعد، ولا يَسمعُ خلافٌ؛ من جهة أنه قد يجرّ لغطاً مانعاً للحاضرين من [السّماع] (8)، فهذا منّا تنبيهٌ على سرّ المسألة في النفي والإثبات.
1488 - والآن نرتّب المذهبَ بعد هذا، فنقول: لو تكلم جميعُ الحاضرين على وجهٍ انقطعوا به عن السماع رأساً، حَرِجوا قطعاً، بل حَرج الكافة حَرَجَهم بترك فرض
__________
(1) في النسختين: المدعى. والمثبت تصرف منا، والحمد لله جاءت بصحته (ل).
(2) كذا والمراد الجمعة؛ إذ هي ظهرٌ مقصورة، عند كثيرين. ويجوز أن يراد بها مقصورة المسجد.
(3) أي: لا يأثمون، من حرج فلان يحرَج -باب (تعب) - إذا أثم.
(4) آخر الخرم في نسخة (ت 1).
(5) كذا في النسخ الأربع. ولعل الأولى: تسليط.
(6) في الأصل، وفي (ط): مناجاته. والمثبت من (ت 1).
(7) في الأصل، وفي (ط): يحرم.
(8) في الأصل، وفي (ط): استماع.

(2/554)


الكفاية، وتتعطل الخطبة بسقوط فائدتها من السماع، وإذا تعطلت، فلا جمعة، وينزل هذا منزلة ما لو انفضوا من عند آخرهم.
وإن لم ينته الأمر إلى هذا، وسمع الخطبةَ أربعون، صحت الجمعةُ.
ثم في تحريم إقدام آحاد الحاضرين على الكلام القولان.
ووجه صحة الجديد أن ذلك في حكم العرف لا يؤدي إلى لغطٍ يُسقط سماعَ أربعين، وتصوير أداء ذلك إلى هذا بعيد، وكذلك انتهاء الهمس إلى هينمة حاجزة [بعيد] (1)، فليفهم الفاهم ذلك.
وفي تحريم التكلم في تشميت العاطس خلافٌ؛ لأنه ليس مما يتعلق باختيار، فلا يؤدي تجويزُه إلى مانع من السماع؛ إذ هو يقع نادراً من غير اختيار، ثم في التعبد تردُّد بعيد كما رتبه الأئمة.
وأما الخاطب، فيجب عليه رفعُ الصوت قطعاً، وإن لم نوجب الإنصات، فإنا مع جواز التكلّم أوجبنا أن يحصل سماعُ أربعين.
1489 - وأما كلام الخطيب فقد حكى شيخي فيه قولين، وهذا غلط عظيم، مشعر بالذهول عن حقيقة المسألة؛ فإن الإمام إذا تكلم، فليس متمادياً في تلك اللحظة على الخطبة، فكان كما لو سكت لحظة، فأما إذا كان [مارّاً] (2) في خطبته، والحاضر يتكلم، فهو في وقت جريان الخطبة مشتغل بما قد يؤدي إلى قطع السماع، فكيف يتشابهان؟ أم كيف يتلقى الفطنُ كلامَ الخطيب من كلام المستمع؟ ثم صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسائل في أثناء الخطبة قتلةَ (3) ابنِ أبي الحُقيق عن كيفيةِ القتل. وشرْحِ ما جرى لهم، وحَمْلُ هذا على شرح مسألةٍ في الشرع تكلف بعيد، لا سبيل إلى قبوله أصلاً.
__________
(1) مزيدة من (ت 1).
(2) في الأصل، وفي (ت 1): لما رأى. والمثبت تقدير منا، والمعنى: مستمراً في خطبته.
والحمد لله جاءت (ل) بموافقة تقديرنا.
(3) ها قد ذُكر لفظ (قتلة) هنا. الذي سقط من السياق آنفاً، فأدى إلى أن يحمل الحافظ بن حجر على الإمام، ويصفه (بالغلط الفاحش). رضي الله عن الجميع.

(2/555)


ثم الصيدلاني خرج اشتراط السكوت على أن الخطبة هل تنزل منزلة الصلاة أم لا؟ وعليه خرج اشتراط الطهارة، وهذا في نهاية البعد؛ فإنّ أخْذ تحريم الكلام من غير الجهة التي ذكرناها، وهي توقع إفضاء ذلك إلى اللغط خروج عن المسألة ووضعها.
ثم من عجيب الأمر أن الصيدلاني وغيرَه من المحققين لم يمنعوا الخطيبَ من الكلام في الخطبة وإن أوردوا الخلافَ في أنه هل [تشترط] (1) طهارةُ الخطيب.
ثم القولان في تحريم الكلام على المستمع مشهوران، فيبعد عندي جداً أن نوجب على المستمع استصحابه الطهارة في استماعه، فإذاً لا تلتقى (2) الطهارةُ وأمرُ الكلام.
فهذا منتهى المرام في هذا الفصل.
وقد نجز به المقصود الأظهر من ذلك.
1490 - ثم نذكر بعد هذا أموراً تتعلق بالآداب في الباب، فنقول: أولاً - إذا أخذ المؤذن في الأذان بين يدي الخطيب، لم يحرم الكلام، ولكن لا ينبغي أن يبتدىء أحد صلاةً نافلةً بعد افتتاح المؤذِّن أذانَ الخطبة؛ فإن الإمام سيخطب على قُرب وقد تتبتّر (3) عليه الصلاة، أو يقع ابتداء الخطبة في بقيةٍ منها.
ولو دخل داخل والإمام في أثناء الخطبة، فمذهب الشافعي أن الداخل يُصلِّي ركعتين خفيفتين، ثم يجلس. وخالف أبو حنيفة (4) فيه، ومعتمد المذهب ما روى جابر: أن سُليكاً الغطفاني دخل ورسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصلي ركعتين وقال: "من دخل والإمام يخطب، فلا يجلس حتى يصلي ركعتين" (5).
__________
(1) ساقطة من الأصل، ومن (ط).
(2) في (ل): "لا تتلقى الطهارة من أمر الكلام".
(3) تتبتّر: تنقطع، والمراد تتشوّش، فلا يتمكن من الخشوع المطلوب.
(4) ر. مختصر الطحاوي: 35، مختصر اختلاف العلماء: 1/ 337 مسألة: 303، البدائع: 1/ 263، 264، حاشية ابن عابدين: 1/ 550.
(5) حديث سليك الغطفاني سبق تخريجه.

(2/556)


1491 - ثم إذا فرغ الإمام من الخطبتين، فلا يحرم الكلام ما بين ذلك إلى عقد الصلاة وفاقاً.
وقال علماؤنا: كما لا يحرم الكلام لا تحرم الصلاة في هذا الوقت، ومعتمد المذهب ما روي عن أنس بن مالك أنه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينزل يوم الجمعة من على المنبر، فيقوم الرجل معه، ويكلّمه في الحاجة إلى أن ينتهي إلى مصلاه" (1).
1492 - ومما يتعلق ببقية الفصل أن الشافعي نص فيما نقله صاحب التقريب والصيدلاني على أن من دخل والإمام يخطب، فيجوز له أن يتكلم مادام يمشي ويتخير لنفسه مكاناً، وإنما القولان فيه إذا قعد، ولم أر فيه خلافاً وهو ظاهر، وإن كان الاحتمال متطرّقاً إليه، وظهوره من حيث إنا نأمره أن يصلي ركعتين، وسيذكر الله فيهما، ويقرأ، وذلك يناقض الإنصات، فإذا فرغ من ذلك كله، فإذ ذاك يختلف القول في وجوب الإنصات، فهذا نهاية المرام في ذلك.
فصل
1493 - أهل بغداد لا يقتصرون على عقد جمعة واحدة، والطرق متفقة على جواز الزيادة على جمعة واحدة ببغداد، وتردد الأئمةُ في تعليل ذلك، فمنهم من قال: السبب المجوّز لذلك تخلل النهر العظيم بين شقّيه، فانقطع حكم أحد الشقين عن الثاني. ومنهم من قال: علة جواز ذلك ببغداد أنها كانت قرى متفرقة، واتصلت العمارات، وصارت كبلدة واحدة، وكانت الجمعة تقام في كل قرية، فاستمرت تلك العادة بعد اتصال البنيان. وعلل ابن سُرَيْج بكثرة الناس، وأن البقعة الواحدة لا تحتملهم ببغداد.
ثم من قال: السبب المجوز تخلل النهر، فيرتب (2) على هذا ألا يقام ببغداد إلا
__________
(1) حديث أنس أخرجه البيهقي في السنن: 3/ 224.
(2) كذا بالفاء في النسخ الأربع.

(2/557)


جمعتان شرقية وغربية، وينبني عليه أن كل بلدة يتوسط عماراتها نهر لا يُخيضُ ولا يُخاض (1) إلا بالسفن، أو السباحة، فحكمها حكم بغداد.
ومن قال: إنما يجوز ذلك لأهل بغداد لكثرة الناس - وهو تخريج ابن سُرَيْج، فعلى هذا لو ازدحم أهل بلدة، وكثروا، وكان يضيق عنهم موضع، فيجوز تعديد الجمعة على حسب الحاجة إذن.
ومن قال: سبب تجويز تعدد الجمعة في بغداد أنها كانت قرى، فاتصلت، فلا يجوز ذلك إلا في بلدة تتفق كذلك.
ثم تردد صاحب التقريب في هذا، فقال: القرى إذا اجتمعت وصارت بلدة، كما فُرض في بغداد، وصارت القرى كأنها [حارات و] (2) محالّ، فيحتمل أن تثبت على ما هي عليه من حكم التفرق، كما ذكره الأصحاب، ثم قال: على حسب هذا، لو تجاوز هامّ بالسفر قريةً من تلك القرى إلى أخرى، والعمارة متصلة، فينبغي أن يترخص برخص المسافرين؛ فإنه لم يثبت لها حكم الاتحاد. قال: ويحتمل أن يقال: إذا اجتمعت، زال حكم التفرق منها. وصارت البقعة كأنها بنيت على الاتحاد إذ بنيت، فعلى هذا يمتنع إقامة الجمع في تلك البقاع التي كانت قرى بعد التواصل، كما يمتنع في البلدة التي لم تعهد (3) إلاّ على الاتحاد.
فهذا تفصيل القول في بغداد.
1494 - فأما ما عداها من البلاد إذا لم يوجد فيها ما يسوّغ الزيادة على جمعة واحدة على التفاصيل المقدمة المستفادة من بغدادَ وعِلَلِها، فلا بدّ من الاقتصار على جمعة واحدة، وهو مذهب معظم الأئمة.
__________
(1) خاض الماءَ خوضاً، وخياضاً: دخله ومشى فيه، وأخاض القومُ: دخلت خيلُهم في الماء وأخاضوا خيلَهم الماءَ، وفيه، وأخاض الماءَ: خاضه. (القاموس، والمختار، والمعجم).
(2) زيادة من (ل).
(3) (ت 1): لم تعهد الاتحاد.

(2/558)


وأجاز أبو يوسف عقدَ جمعتين، ولم (1) يجوز الثالثة.
والأصل المعتمد فيه أن الجمعة شُرعت لجَمْع الجماعات، والغرض منها إقامة هذا الشعار في اجتماع الجماعات في كل أسبوع مرة، وإنما يتأتى هذا الغرض بإيجاب الاقتصار على جمعة واحدة. ولو ساغت الزيادة على واحدة، لم ينحصر القول بعد ذلك، وآل مآل الكلام إلى تنزيل هذه الصلاة منزلة سائر الصلوات، فإذاً لا نزيد على واحدة.
1495 - ولو فرضت جمعتان حيث نمنع، فإذا تقدمت إحداهما وسبقت، فهي الصحيحة، والثانية ليست جمعة، وإذا تقدمت واحدة، وتعيّنت -وقد اختلف أئمتنا فيما يقع به السبق والتقدم، فذهب بعضهم إلى أن الاعتبار بعقد الصلاة- فكل (2) صلاة تقدم عقدُها فهي الجمعة، وهذا هو الأصح.
ومنهم من قال: الاعتبار بالخوض في الخطبة، فإذا تقدّم ذلك في أحد الجامعين، فهم المقيمون للجمعة، وإن تأخر عقد الصلاة منهم، وهذا له التفات على أن الخطبتين بمثابة ركعتين.
وذكر العراقيون وجهاً ثالثاً: أن الاعتبار بالتحلل، فكل صلاة سبق التحلل عنها، فهي الجمعة، وهذا ردىء لا اتجاه له أصلاً.
1496 - ثم لو سبقت واحدة على ما وصفنا السبقَ، ولكن كان السلطان في الجمعة المسبوقة، فقد ذكر شيخي في ذلك وجهين: أحدهما - أن الحكم للجمعة التي فيها الوالي؛ فإن لهذه الصلاة ارتباطاً بالسلاطين، فالرجوع إليهم. وهذا بعيد عن مذهب الشافعي؛ فإنه لا اعتبار في الجُمع عندنا بالوُلاة من طريق الاستحقاق، ولكن الأَوْلى أن يراجَعوا، والأصح أن الاعتبار في السبق بما قدمناه قبلُ.
ولو وقعت الجمعتان معاً، ولم تتقدم واحدة على الأخرى، لم تنعقد واحدة منهما
__________
(1) (ت 1): ولا.
(2) جواب إذا.

(2/559)


جمعة، ومن أحاط بما يقع به السبق بنى عليه [ما] (1) يحصل به الجمع.
ولو عقدت الجمعتان، ولم يُدْرَ أوقعتا معاً، أو تقدمت إحداهما على الأخرى، فالذي قطع به الأئمة تنزيل هذا منزلة ما لو وقعتا معاً، فلا جمعة لواحد، والله أعلم.
1497 - ومما ينبغي أن يتأمل الآن: أن الجمعتين إذا وقعتا معاً، وكان الوقت باقياً، فمن نتائج هذه الصورة أنا نأمرهم بأن يجتمعوا، ويعقدوا جمعةً، والذي مضى لا حكم له، وإذا أشكل الأمرُ ولم يُدْرَ أوقعت الجمعتان معاً، أم تقدمت إحداهما على الأخرى؟ فلا شك أنا لا نسقط الفرضَ بما مضى، ولكن ما ذكره الأئمة: أنا نجعل هذا كما لو وقعت الجمعتان معاً؛ حتى نأمرَهم بأن يقيموا جمعةً في الوقت. وإذا فعلوا ذلك، سقط الفرض وانقطعت الطَّلِبَة (2).
1498 - وهذا فيه إشكال، فإنا نجوّز أنّ إحدى الجمعتين تقدمت على الأخرى، ولو كان كذلك، فلا يصح عقدُ جمعة أخرى، وإذا فُرضت، فلا تحصل براءة الذمة يقيناً، والذي يقتضيه الاحتياط في ذلك أن يقيموا جمعةً، ثم يصلون من عند آخرهم (3) الظهرَ، فيخرجون عما يلزمهم قطعاً.
هذا حكم القياس في طلب اليقين في الخروج عما يلزم.
وقد ذكرنا فيما تقدم من مسائل الطهارة: أن الذين أقاموا الجمعة لو شكوا، فلم يدروا أوقعت الجمعة [في الوقت] (4) أو وقع شيء منها وراء الوقت، فالأصل بقاءُ الوقت، واليقين لا يزال بالشك في وقائع مشهورة، وهذه المسألة مستثناة من هذه القاعدة، من جهة أن الأصلَ إقامةُ أربع ركعات، وإقامة ركعتين طارىء معترض، فإذا ترددنا في إجزاء الجمعة، فالأصل إقامةُ أربع ركعات، وما ذكرناه [إبداءُ] (5) وجه القياس.
__________
(1) في الأصل، وفي (ط): كما. والمثبت من: (ت 1)، (ل) أيضاً.
(2) الطلبة: وزان كلمة، ووزان قِبْلة أيضاً: المطلوب. (المعجم).
(3) أي جميعاًً.
(4) ساقط من الأصل، ومن (ط).
(5) في النسخ الثلاث: "ابدا" بدون همز ولا ضبط. وفي (ل) "كابدا" أي كإبداء.

(2/560)


والذي ذكره الأئمة أنهم إذا أقاموا الجمعةَ في صورة الإشكال مرة أخرى، كَفَتْهم، ونزل ذلك منزلةَ ما لو وقعت الجمعتان معاً، فهذا إذا لم يُدْرَ كيف وقعتا: معاً، أو تقدمت إحداهما على الأخرى.
1499 - فأما إذا تقدمت إحداهما على الأخرى يَقيناً، ولكن أشكلت المتقدمة، وما تعينت أصلاً، ففي المسألة قولان مشهوران: أحدهما - أن هذا بمثابة ما لو وقعتا معاً، فيقيمون جمعة أخرى وتكفيهم.
والقول الثاني - أنا نأمرهم بأن يصلوا ظهراً، ولا معنى لإقامة جمعة أخرى، وقد صحت واحدة، وهذا حكاه الربيع بن سليمان (1)، وأظهر القولين في الحكاية الأول.
1500 - ولو تقدمت إحدى الجمعتين على الأخرى، وتعينت، فهي صحيحة، وقد فاتت الجمعة في حق الآخرين، فعليهم أن يصلوا ظهراً.
ولو تعينت المتقدمة، ثم التبست بعد التعيين، فالذي صار إليه الأصحاب أنهم لا يقيمون جمعة، إذ قد صحت جمعة في البلدة وتعينت، فلا سبيل إلى إقامة جمعة أخرى. ولكن لما طرأ الإشكال بعد اليقين، أوجبنا على جميعهم أن يصلوا ظهراً.
وذكر شيخي في بعض دروسه أن من أصحابنا من ألحق هذه الصورة عند طريان الإشكال بما إذا تقدمت جمعة قطعاً، ولم تتعين المتقدمة [قط] (2).
__________
(1) هذا اسم لصاحبي الشافعي - رضي الله عنهم - وأحدهما الربيع بين سليمان الجيزي، والثاني الربيع بن سليمان المرادي، ويترجح لدينا أنه المراد هنا، فهو المعروف برواية كتب الشافعي، وأثبت من روى عنه، والإمام في (النهاية) يذكره أحياناً مطلقاً (الربيع) أما الجيزي، فذكره مرة واحدة (للآن) مقيداً باسمه كاملاً.
وهناك ربيع ثالث معاصر لهما، واسمه أيضاً: الربيع بن سليمان، نبه على ذلك السبكي (ر. الطبقات: 2/ 135).
هذا، وقد تحرف الاسم إلى (الربيع بن سليم) في (ت 1). ولم تعرف طبقات السبكي ولا الأسنوي أحداً بهذا الاسم.
(2) في الأصل، وفي (ط): قطعاً.

(2/561)


وهذا وإن كان يتجه في المعنى، فهو بعيد في الحكاية.
1501 - فإن قيل: إذا تقدمت جمعة، فقد صحت في علم الله تعالى جمعة في البلدة، فأمرُ الناس بإقامة الجمعة مرة أخرى، والاكتفاء بها فيه إذا تيقَّنا المتقدمة، ولم تتعين المتقدمة -وهي صورة القولين- مشكل (1)، لا وجه له في القياس، وهو القول المشهور فيما حكيتموه. فما وجهه؟
قلنا: قد ذكرنا صورتين: إحداهما - متفق عليها، وهي إذا شككنا، فلم ندر كيف وقعت الجمعتان: أوقعتا معاً، أو تقدمت إحداهما؟ فالذي قطع به الأئمة أنا نأمر القوم بإقامة جمعة، وهي تكفيهم، وقد ذكرتُ فيه من جهة الاحتمال إشكالاً، ولكن لما اقتضى القياس أمرَ الناس بالإقدام على الجمعة ثانيةً فأمرهم معها بالإقدام على الظهر بعدها بعيد (2).
فأما إذا تقدمت جمعة قطعاً، ولم تتعين لنا، فهذه صورة القولين، ووجه الحكم ببطلان الجمعة في قول أن هذه الصلاة مخصوصة بشرائط في الكمال -وقد سبقت- ولا يبعد أن يعتبر في الصحة والاعتداد اليقين، حتى إذا قارنها لبس يُقضى ببطلانها، ويجب على الابتداء إقامةُ جمعةٍ، وهذا أيضاً ظاهر إذا لم تتعين قط، فأما إذا تعينت، ثم التبست، فيبعد في هذه الصورة أن ينعطف البطلان، بعد كمال الشرائط.
فهذا نهاية ما يجري في ذلك.
1502 - ولو شرعت طائفة في الجمعة، ثم علموا في أثناء الصلاة أنهم مسبوقون بجمعة صحيحة، فهل يبنون الظهر على الصلاة ويتممونها ظهراً؟ فعلى قولين، تكرر ذكرهما في مواضع.
وقد ذكر الأصحاب لما ذكرناه من التباس عقد الجمعتين أمثلة من عقد نكاحين على امرأة واحدة وغيره، ولم أتعرض لتلك الأمثلة؛ فإني لم أر في الجمعتين [ما يفتقر] (3)
__________
(1) "مشكل" خبر لقوله: "فأمر الناس".
(2) ساقطة من: (ت 1).
(3) زيادة من (ت 1).

(2/562)


بيانُ الحكم فيه إلى تلك الأحكام، وكلّها ستأتي في مواضعها - إن شاء الله.
فرع:
1503 - إذا تخلف طائفة من الجمعة بعذرٍ، وقلنا: إنهم يصلون الظهرَ، فهل يُقيمون الجماعة؟ اختلف أئمتنا فيه، فيما نقله العراقيون، فقال قائلون: يقيمونها؛ فإن الجماعة محبوبة في الصلاة المفروضة، وهذه الصلاةُ فرضُهم.
ومن أئمتنا من قال: لا نُؤثر إقامة الجماعة، وهو مذهب أبي حنيفة (1)؛ فإن أدب الشرع في هذا اليوم يقتضي تخصيصَ الجماعة في هذا الوقت، بصلاة الجمعة.
وكان شيخي يقول: الوجه عندي أن لا يشهروا الجماعة، ولو أقاموا في البيوت من غير إظهار وشهر، فلا بأس، وهذا حسن.
فصل
1504 - الإمام يقرأ في الركعة الأولى سورة الجمعة، وفي الثانية {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ}، وهذا ما نص عليه الشافعي في الجديد (2)، وهو الذي رواه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم.
ونقل الصيدلاني عن القديم أن الإمام يقرأ في الأولى {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى: 1] وفي الثانية {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} [الغاشية: 1]، وقال: هذا نقله النعمان بن بشير (3)، والأصح الجديد.
__________
(1) ر. مختصر اختلاف العلماء: 1/ 340 مسألة: 306، البدائع: 1/ 270، حاشية ابن عابدين: 1/ 549.
(2) ر. المختصر: 1/ 136.
(3) حديث أنه صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الركعة الأولى (سورة الجمعة) وفي الثانية (سورة المنافقون) رواه مسلم وأبو داود من حديث أبي هريرة - ورواه مسلم أيضاً من فعل علي وأبي هريرة، وعنده عن ابن عباس مثله.
وأما حديث أنه صلى صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الأولى {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} وفي الثانية (الغاشية) فهو عند مسلم أيضاً وأبي داود، من حديث النعمان بن بشير، ولأبي داود والنسائي، وابن حبان من حديث (سَمُرَة) نحوه.
(ر. التلخيص: 2/ 71 ح 663، 664، ومسلم: الجمعة، باب ما يقرأ في صلاة =

(2/563)


وقد اشتهر من نص الشافعي في الجديد أن الإمام لو نسيَ الجمعة في الأولى تداركها في الثانية، وجمع بينها وبين سورة المنافقين.
...
__________
= الجمعة، ح 877، 878، وأبو داود: الصلاة، باب ما يُقرأ به في الجمعة، ح 1122 - 1125، والترمذي: الجمعة، باب ما جاء في القراءة في صلاة الجمعة، ح 519، النسائي: الجمعة، باب القراءة في صلاة الجمعة، ح 1422، ح 519، وخلاصة البدر المنير: 1/ 221 ح 776، 777).

(2/564)


باب التبكير إلى الجمعة
1505 - والغرض من هذا الباب الكلام على خبر مروي عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو ما روي أنه قال في مساق حديث: "من راح إلى الجمعة في الساعة الأولى، فكأنما قرب بدنه، ومن راح في الساعة الثانية، فكأنما قرّب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة، فكأنما قرّب كبشاً، ومن راح في الساعة الرابعة، فكأنما قرّب دجاجة، ومن راح في الساعة الخامسة، فكأنما قرّب بيضة، والملائكة على الطرق يكتبون الأول فالأول، فإذا أخذ الخطيب يخطب طَوَوْا الصحف وجاؤوا يستمعون الذكر" (1).
1506 - وقد اختلف أئمتنا في معنى الساعات المذكورة في الحديث، فذهب بعضهم إلى حمل الساعات على الساعات التي قسم عليها الليل والنهار، وحمل الساعة الأولى على الساعة الأولى من النهار، وهكذا إلى استيعاب خمس ساعات، وهذا غلط؛ فإن الماضين ما كانوا يبتكرون إلى الجامع في الساعة الأولى، ثم الساعة الخامسة في النهار الصائف تقع قبل الزوال، وفي اليوم الشَّاتي تقع قريبة من العصر؛ فلم يُرد النبي صلى الله عليه وسلم ما يذكره أصحاب التقاويم، وإنما أراد عليه السلام الاستحثاثَ على السبق والتقديم، وترتيبَ منازل السابقين [واللاحقين] (2) اللاحقين.
فهذا معنى الحديث.
وقد روي عن النبي عليه السلام أنه قال: "من غسَّل واغتسل، وبكَّر وابتكر، وجلس قريباً، ولم يرفث، خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه" (3)، قوله غسّل معناه:
__________
(1) حديث التبكير إلى الجمعة متفق عليه من حديث أبي هريرة. (ر. اللؤلؤ والمرجان: 1/ 165 ح 493).
(2) في الأصل: "أو اللاحقين".
(3) حديث "من غسل واغتسل ... " رواه أبو داود، والنسائي، وابن ماجة، وأحمد، =

(2/565)


توضأ، فإن الوضوء تكرير الغسل على الأعضاء، وهو كقولهم: قطّعته آراباً.
وقوله: بكر وابتكر معناه: بكّر إلى صلاة الصبح، وابتكر إلى الجمعة.
1507 - ثم يؤثر للرجل أن يأخذ زينتَه على ما سنذكر في صلاة الخوف: ملابسَ الرجال. والثيابُ البيض أحب إلى الله، ويمسّ طيباً إن كان عنده، ويمشي على سجيّته وهِينته (1)، قال عليه السلام: "إذا أتيتم الصلاة فأتوها وأنتم تمشون، ما أدركتم، فصلوا، وما فاتكم، فاقضوا" (2)، والترجل فيه أولى، وروي "أن رسول الله عليه السلام ما ركب في عيد ولا جنازة" (3) وليس في الحديث ذكر الجمعة، ولكن كان عليه السلام يقيم الجمعة في مسجده، وكانت حجرته لافظةً في المسجد.
والعُجُز (4) إن حَضَرْن، فلا ينبغي أن يلبسن شهرةً من الثياب، ولا ينبغي أن
__________
= والدارمي، كلهم من حديث أوس بن أوس، وقد صححه الألباني (ر. أبو داود: الطهارة، باب في الغسل للجمعة، ح 345، صحيح أبي داود: 1/ 70 ح 333. والنسائي: كتاب الجمعة، باب فضل غسل يوم الجمعة، ح 1382، وباب فضل المشي إلى الجمعة، ح 1385، وباب الفضل في الدنو من الإمام، ح 1399، وابن ماجة: إقامة الصلاة، باب ما جاء في الغسل يوم الجمعة، ح 1087، وصحيح ابن ماجة: 1/ 179 ح 891، والمشكاة: 1/ 437 ح 1388، والدارمي: كتاب الصلاة، باب 195، وأحمد: 2/ 209، 4/ 9، 10، 104، وصحيح الجامع: 2/ 1094 ح 6405).
(1) يقال: امشِ على هينتك أي على رسْلك. والرِّسْل: التؤدة والرفق (ر. القاموس، والمعجم).
(2) إذا أتيتم الصلاة ... متفق عليه من حديث أبي هريرة وأبي قتادة، بلفظ "فأتموا" بدل "فاقضوا" وأخرجه الأربعة أيضاً. (ر. اللؤلؤ والمرجان: 1/ 119 ح 350، ونصب الراية: 2/ 200، والتلخيص: 2/ 28).
ومن دقيق الملاحظة أن إمام الحرمين أتى برواية "فأتموا" في كتابه (الدرّة المضية: مسألة رقم 101) وقال: إنها الرواية الصحيحة ونسب رواية (فاقضوا) إلى الغلط، حيث تفرد بها سفيان عن الزهري. ا. هـ. والأمر كما قال، ويؤيده ما قاله الزيلعي والحافظ عن الحديث.
(3) حديث: "أنه صلى الله عليه وسلم ما ركب في عيد ولا جنازة" رواه سعيد بن منصور عن الزهري مرسلاً، وقال الشافعي: "بلغنا عن الزهري" فذكره. (ر. التلخيص: 2/ 70 ح 663).
(4) عُجُز: جمع عجوز ومثلها عجائز، وعَجَز، وعجزة. (المعجم).

(2/566)


يمسسن طيباً يشهرهن، وروي أن امرأة مرت بأبي هريرة يشم منها رائحة المسك، فقال: أتريدين المسجد، فقالت: نعم، فقال: تطيبت قالت: نعم، فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "أيما امرأة تطيبت للجمعة لم يقبل الله صلاتها حتى ترجع إلى بيتها وتغتسل اغتسالها من الجنابة" (1).
...
__________
(1) حديث أبي هريرة .. رواه ابن ماجة، بلفظ: "تطيبت ثم خرجت إلى المسجد" بدون تعيين الجمعة. وصححه الألباني. (ر. ابن ماجة: كتاب الفتن، باب (19) فتنة النساء ح 4002، وصحيح ابن ماجه: 1/ 366، ح 3233، والتعليق الرغيب: 3/ 94، والصحيحة: 1031).

(2/567)


باب صلاة الخوف
1508 - القول في صلاة الخوف ينقسم: في التقسيم الأول إلى ما يجري في حال شدة الخوف، ومطاردة العدو والتحام الفئتين، وذاك نذكره في آخر الباب، وإلى ما يجري ولم ينته الأمر إلى شدة الخوف، وهذا القسم ينقسم أقساماً، والجملة المتبعة أن الصلاة لا سبيل إلى إخراجها عن وقتها بسبب الخوف وقيام القتال، فأما الجَمْعُ فمتعلّق بعذر السفر، أو المطر في الحضر. وقيام الحرب لو فرض في غير سَفْرة (1)، فلا يتعلق به جواز الجمع، كما لا يتعلق رخص السفر بالمرض من غير نصٍّ عليها، فإذا كان كذلك، فإن احتمل الأمرُ أن يصلي الإمام والقومُ على نظام الأركان، من غير ركوب وتردّد، فعليهم ذلك. ثم نقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاةُ الخوف قبل الانتهاء إلى التحام الفريقين على وجوه، وكل وجهٍ يليق بالحال الذي نقل ذلك الوجه فيها، ونحن نأتي عليها إن شاء الله مفصلة.
1509 - وقد بدأ الشافعي بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بأصحابه في غزوة ذات الرقاع، وكان المسلمون وقوفاً في وجاه العدو والحرب قائمة، فدخل وقت الصلاة، فأول ما نذكره الرواية في كيفية صلاته، روى الشافعي (2) بإسناده عن مالك عن يزيد بن رومان، عن صالح بن خوَّات أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صَدَع أصحابه صَدْعَيْن في غزوة ذات الرقاع، وفرقهم فرقتين، وانحاز بطائفة فصلى بهم ركعةً، فلما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الركعة الثانية، انفرد القوم بالركعة الثانية وأقاموها، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم في الركعة الثانية، فلما تحللوا عن صلاتهم، مشَوْا بعد التحلل إلى الصف، وأخذوا أماكن إخوانهم في القتال،
__________
(1) سَفْرة: وزان سجدة مفرداً وجمعاً. (المصباح). وفي (ل): سفر.
(2) ر. الأم: 1/ 186.

(2/568)


وانحازت تلك الفئة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو في القيام ينتظرهم، فاقتَدَوْا به، فلما جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم، انتظرهم حتى أقاموا الركعة الثانية، ثم لحقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في التشهد، وتشهدوا، فسلم بهم الرسول صلى الله عليه وسلم.
فهذه رواية خَوَّات وهي صحيحة متفق (1) على صحتها، ورواها طائفة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذا الوجه، منهم سهل بن أبي حثمة (2).
وروى الزهري عن سالم عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صدع المقاتلين صدعين، وتنحى بطائفة، فصلى بهم ركعة، فلما قام إلى الركعة الثانية، مشى المصلون إلى الصف، وأخذوا مواقف إخوانهم، وانحاز أولئك إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وصلوا معه الركعة الثانية، وتحلل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصلاة، فمشى هؤلاء إلى الصف في الصلاة، وانحاز الأولون إلى أماكنهم من الصلاة، فأتموا الركعة الثانية، ثم مشَوْا إلى الصف، وقد تحللوا عن الصلاة، ورجع الذين كانوا في الصلاة، وانحازوا إلى أماكنهم في الصلاة، وتمموا الركعة الثانية وتحللوا، وعادوا إلى الصف" وهذه الرواية أيضاً صحيحة (3)، لم يختلف الأئمة في صحتها، وفيها تردد ومشيٌ في الصلاة، فهذا ما يتعلق بالرواية.
1510 - ونحن نبتدىء فنتكلم على تفصيل المذهب إن شاء الله.
فأما رواية خوَّات، فقد رأى الشافعي العمل بها، ولكن رواية ابن عمر صحيحة لا مراء فيها، وقد تردد الأئمة في وجه الكلام عليها، فقال قائلون: تجوز إقامة الصلاة على مقتضى رواية ابن عمر، ولكن الأولى روايةُ خوات؛ إذ ليس فيها أعمال
__________
(1) الأمر كما قال إمام الحرمين، فرواية خوات بن جبير أخرجها الشيخان. (ر. اللؤلؤ والمرجان: 1/ 161 ح 483، والتلخيص: 2/ 76 ح 669).
(2) بفتح الحاء مثلثة الثاء. ورواية سهل بن أبي حثمة متفق عليها أيضاً (ر. اللؤلؤ والمرجان: ح 482).
(3) رواية ابن عمر متفق عليها أيضاً. (ر. اللؤلؤ والمرجان: 1/ 161 ح 481، والتلخيص: 2/ 76 ح 669).

(2/569)


في الصلاة، وإنما منتهى الأمر فيها انفراد عن القدوة في ركعة، وفي رواية ابن عمر ترددات في الصلاة ومشي وعَوْدٌ، وفيها الانفراد عن الإمام أيضاً، وفيها انتظار الإمام للطائفة الثانية، كما في رواية ابن عمر، فصحة الروايتين تقتضي تصحيحَ الصلاة على الوجهين جميعاًً. واختصاص رواية خوات بحسن الهيئة في الصلاة، والخلوّ عن الأفعال الكثيرة مع رواية طائفة على حسب روايته، اقتضى تقديمَ روايته من طريق الأَوْلى، فهذه طريقة (1).
1511 - ومن الأئمة من قال: لا تصح الصلاة للطائفتين على مثل ما رواه ابن عمر؛ لأن الأمر ما كان انتهى إلى شدة الخوف، وكان التردد مستغنىً عنه، ولكن الرواية صحيحة، وقد أشار الشافعي إلى ادعاء النسخ فيها، فقال: "غزوة ذات الرقاع من آخر الغزوات (2)، وحديث خوات مقيد بتلك الغزاة، وحديث ابن عمر غير مقيد
__________
(1) ناقش إمام الحرمين في البرهان مسلك الاختيار بين الروايتين، وهل هو بالتقدّم والتأخر، أعني بالنسخ، أو بالموافقة للقياس، أو بكثرة الرواة، أو بطريق الأَوْلى. (ر. البرهان: فقرة 405، 1221).
(2) لم أصل إلى قول الشافعي إن غزوة ذات الرقاع من آخر الغزوات، وبالتالي نسخ حديث خوات لحديث ابن عمر، لا في (الأم)، ولا في (الرسالة)، ولا في (اختلاف الحديث) ولعله في موضع آخر من كتب الشافعي (ر. الأم: 1/ 186 وما بعدها، الرسالة: الفقرات من 509 - 515، 677 - 681، 711 - 736، واختلاف الحديث بهامش الأم: 7/ 221 - 226).
قلت: بل ربما كان الذي وجدناه في كتب الشافعي يدلّ على أنه لا يقول بالنسخ أبداً في هذه القضية، وذلك قوله في (الرسالة): "قال (الشافعي): فقال: فاذكر من الأحاديث المختلفة التي لا دلالة فيها على ناسخٍ ولا منسوخ، والحجة فيما ذهبت إليه منها دون ما تركت.
فقلت له: قد ذكرتُ قبل هذا: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى صلاة الخوف، يوم ذات الرقاع ... (وساق الحديث) ثم أتبعه بحديث ابن عمرَ وغيره من أحاديث صلاة الخوف، فضربها مثلاً "للأحاديث المختلفة التي لا دلالة فيها على ناسخ ولا منسوخ" حيث ذهب إلى حديث خواتٍ دون غيره لوجوه وترجيحاتٍ غيرِ النسخ. (الرسالة: الفقرات: 710 - 736).
وربما يشهد لهذا أيضاً أن الإمام النووي حكى القول بنسخ حديث ابن عمر، ولم ينسبه إلى الإمام الشافعي، بل جعله قولاً باطلاً، وجعل صاحبه زاعماً، (والزعم مطية الكذب) ثم =

(2/570)


بها، فهي محمولة على غزاة متقدمة، وما جرى فيها من كيفية الصلاة في حكم الناسخ لما تقدم".
فهذا مسلك. وفيه إشكال، فإن الشافعي لا يرى النسخ بالاحتمال، وما لم يتحقق تقدم المنسوخ بالتاريخ على الناسخ، فادعاء النسخ [يبعد] (1) وينأى عن أصله.
1512 - وإن جرينا على الطريقة الأولى، وجوزنا الصلاة على موجب الروايتين جميعاًً، ورددنا الأمر بعد ذلك إلى الأوْلى، فقد قرب الأمر في الكلام على الحديث.
1513 - وإن لم نر العمل في غزاة ذات الرقاع إلا برواية خوات، ولم يثبت عندنا ناسخ على تحقيق، فوجه الكلام أن يقال: إن كانت الحالة مما تحتمل ما رواه خوات، فبعيد جداً تصحيح الصلاة مع الترددات وكثرة الأعمال، والمصير إلى التخيير -والحالة هذه- بعيدٌ عن القاعدة.
وإن انتهى الأمر إلى حالة كان لا يتأتى فيها احتمال بقاء كل طائفة على مصابرة العدو
__________
= قال: "والصحيح المشهور، صحة الصلاتين، لصحة الحديثين، ودعوى النسخ باطلة.
وهذا القول نص عليه الشافعي في الجديد في كتاب الرسالة" ا. هـ. بتصرفٍ يسير (المجموع: 4/ 409).
ولما كان إمام الحرمين أشار في (البرهان) إلى نسبة القول بالنسخ إلى الشافعي، وعاد فكرر ذلك هنا مؤكداً له، فقد أجهدت نفسي وبذلت وُسعي بحثاً في كتب الشافعي، وكل ما وصلت إليه يدي من كتب المذهب، فلم أجد من نسب هذا إلى الشافعي، وأخيراً أكرمنا الله سبحانه، وتوج جهدنا، حيث وجدت ابن حجر يقول في الفتح: "ونقل عن الشافعي أن الكيفية في حديث ابن عمر منسوخة، ولم يثبت ذلك عنه" (ر. فتح الباري: كتاب المغازي، باب (31) غزوة ذات الرقاع: 7/ 424) فهل يردّ ابن حجر بذلك على إمام الحرمين، ويعنيه بأنه النافل عن الشافعي نسخ حديث ابن عمر؟ ولم يصرح بذلك؟
ويبقى بعد ذلك أن النووي رضي الله عنه -كما فهمنا من عبارته- لم يصل إليه، أو لم يثبت عنده أن هناك من نقل عن الشافعي دعوى النسخ.
ثم إن إمام الحرمين أيضاً ردّ دعوى النسخ، ورآها (مُشْكلة)، لا تتفق مع أصل الشافعي في أن النسخ لا يثبت بالاحتمال.
(1) تقديرٌ منا مكان بياض قدر كلمة في النسخ الثلاث، ولعلنا وافقنا الصواب. والحمد لله وافقتنا (ل).

(2/571)


في مقدار ركعتين من الصلاة، وكان الذي يليق بالحال أن تبادر كل طائفة إلى أماكنها إذا فرغت من ركعة، فهذا عسر في التصوير جداً؛ فإنَ انتهاء (1) الأمر إلى حالة لا تحتمل مقدار ركعة خفيفة في تفريق الفريقين بعيد عن إمكان الإدراك. على أن هذا كيف يُتخيّل، وما كان يقف إلى تمام الركعتين الطائفتان جميعاًً في وجاه العدو، وقد يتوقع من الزوال وتبدل الواقفين خلل عظيم في القتال، ولم ينقل الناقلون في غزوة ذات الرقاع إلا صلاة واحدةً، فالوجه ترجيح رواية خوات بكثرة الرواة وموافقته ما تمهد في قاعدة الصلاة، من ترك الأعمال من غير حاجة، والترجيح من المسالك المقبولة في تقديم رواية على رواية.
1514 - فإذا تمهد الكلام على الروايتين، فليقع التفريع على ألا تصح الصلاة إلا كما رواه خوات، وليعلم الناظر أن النبي عليه السلام إنما فعل ما رواه خوات لمسيس الحاجة إليه، وكان أصحابه يؤثرون الاقتداء به، وألاّ تفوتَهم الجماعة معه، فرأى أقربَ الطرق في التسوية بين الطائفتين، وألْيَقها بالحال ما ذكرناه.
وقد قال الأئمة: كان العدو منحرفاً عن جهة القبلة، وكان الحال في القتال يوجب تفريق الجند، في مثل ذلك الزمان، فتنحى بطائفة إلى مسافةٍ لا ينالهم سهامُ الأعداء، هكذا الأمر في غزوة ذات الرقاع، فإن اتفقت حالةٌ تدانيها، أقمنا مثل تلك الصلاة فيها.
فإن تكلف متكلف في التصوير، وقال: لو كان الأمر بحيث لا تقوى طائفةٌ على المصابرة إلا في زمان ركعة، فإذا انحازت وصلت ركعة، وأجمتْ نفسها، فقد تقدر على المطاردة بما استروحت إليه من ترك القتال، ولا تقدر على المصابرة في القلّة والانفراد في مقدار ركعتين، فهذا تكلف بعيد، سبق الكلام عليه، [ووضح] (2) أن هذا التفاوت في مقدار ركعة لا يضبطه الحس والإدراك، ثم التردد والمشي والعود إلى الصف أشق وأعظم خطراً؛ فإن الاضطراب والمجيء والذهاب قد يكون سببَ
__________
(1) في (ت 1): انتهى.
(2) في الأصل، (د 1): وصح. والمثبت من (ت 1)، وبمثلها جاءت (ل).

(2/572)


الانفلال (1) في القتال، ثم تغيير هيئة الصلاة لا يجوز بشيء يحتاج في تصويره إلى [كل] (2) هذا التدقيق، بل إنما يجوز لأمر ظاهر يبلغ مبلغ الحاجة الشديدة والضرورة، فلا مطمع في العمل إلا برواية خوات في صورة يتضح فيها ما رواه ابن عمر.
1515 - وكل ما قدمناه من التطويل تحويم على البوح بذلك؛ إذ لو كان يسهل تصوير صورة لائقة بتلك الروايات (3)، لابتدرنا القول بتنزيل كل رواية على حالة تقتضيها؛ فإنه لا يبعد تجويز تغاير في الصلاة بسبب اختلاف الأحوال في القتال، فإنا سنجوز صلاة عُسفان كما سيأتي لحَالة اقتضتها، وسنذكر احتمال تغايير ظاهرة في الصلاة عند شدة الخوف، فإذن لا مستند لتصحيح ما رواه ابن عمر إلا الرواية المحضة، وقد قدمنا أن رواية خوات مقدمة من طريق الترجيح.
ونحن الآن نعود إلى صحة (4) تفصيل القول في رواية خوات بن جبير، فنقول أولاً: الرواية ما قدمناها في كيفية الصلاة، وفيها أنه لما جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم للتشهد، قام القوم إلى الركعة الثانية، ورسول الله عليه السلام لم يسلم، حتى لحقه القوم ثم سلم. وقد وافق مذهبُ مالك (5) روايةَ خوات، غير أنه رأى أن يتشهد القوم، ويسلم الإمام، ثم يقومون، ويصلون ركعة كما يفعله المسبوق بركعةِ.
هذا مذهب مالك، وقيل: إنه قول قديم للشافعي، ولست أدري أن مالكاً روى ما رآه أم هو اختياره من طريق المعنى، ولم يسنده إلى رواية؟ أما الشافعي، فقد روى عن مالك كيفيةَ الصلاة كما سردناها.
والذي يتعين ذكره الآن أن ما ذكره مالك -هو القول القديم- لا شك في صحته؛
__________
(1) الانفلال: الهزيمة، وفي (ل): الانقلاب. وهو تحريف ظاهر.
(2) في النسخ الثلاث: حل. وهو تصحيف نشأ عن أنهم كانوا في أول الأمر لا يكتبون [عكفة] الكاف. بل يكتفون برسمها هكذا (ـ ل) = كل. وقد صدقتنا نسخة (ل).
(3) في (ل) "الرواية".
(4) في (ت 1): كيفية، وفي (ل): إلى تفصيل.
(5) ر. جواهر الإكليل: 1/ 100، حاشية العدوي: 1/ 340، حاشية الدسوقي: 1/ 392.

(2/573)


فإن ذاك لو فرض مع الاختيار لصح، وإنما الكلام في تصحيح ما رواه خوات وصححه الشافعي في الجديد، وكشفُ القول في هذا يأتي عند فرضنا الكلام في حالة الاختيار، فليكن على ذُكر الناظر إلى الانتهاء إليه.
1516 - فالكلام إذن يتعلق بفصول: أحدها - في كيفية هذه الصلاة على الجديد عند الحاجة في القتال.
والثاني - في تصوير هذه الصلاة على هذه الصورة عند الاختيار.
والثالث - في تصوير تصديع الجند أكثر من صَدْعين، عند احتمال الحال في صلاة ثلاثية، أو رباعية.
والرابع - في تصوير سهو الإمام والقوم وما يتعلق به.
[الفصل الأول] (1)
1517 - فأما الأول، فقد بان أن القوم ينفردون عن الإمام في الركعة الثانية ويسلمون، والإمام في قيام الركعة الثانية ينتظر الطائفة الثانية، ثم الذي نقله المزني أن الطائفة الثانيةَ إذا لحقت وتحرمت، فالإمام يقرأ بهم فاتحة الكتاب وسورة (2)، وهذا يتضمن أنه في قيامه وانتظاره لا يقرأ الفاتحة؛ فإنه لو قرأها، لما كررها.
والذي نقله الربيع أنه في انتظاره يقرأ الفاتحة، ثم إذا لحق القومُ قرأ من القرآن ما يتمكنون في زمان قراءته من الفاتحة.
وقد اختلف الأئمة في التصرف في النصين، فمنهم من غلّط المزني، وهو اختيار الصيدلاني، وقال: بقاء الإمام ساكتاً في زمان انتظاره -وهو زمان طويل- بعيدٌ، مخالف لهيئة الصلاة، ولا تمس إليه حاجة؛ فإن الطائفة الثانية يدركون الركعة من غير أن يتكلف الإمام هذا، وتغيير الهيئة لا يُحتمل إلا لحاجة ظاهرة، فالتعويل على ما نقله الربيع.
__________
(1) زيادة من عمل المحقق، رعاية لتقسيم المؤلف وترقيمه للفصول الآتية.
(2) ر. المختصر: 1/ 142.

(2/574)


ومن أئمتنا من جعل المسألة على قولين، وهذه طريقة مشهورة، فأحد القولين ما نقله الربيع، ووجهه ما ذكرناه، والثاني - أنه لا يقرأ في زمان الانتظار؛ فإنه لو قرأ الفاتحة، لم يكررها، ثم لا يكون مساوياً بين الطائفة الأولى والثانية؛ فإنه قد قرأ الفاتحة والسورة بالطائفة الأولى، فكان حكم التسوية يقتضي أن يقرأهما بالثانية أيضاً، ولو كان يجري في الركعة الثانية على ترتيب صلاة نفسه، لتمادى فيها وركع، ثم انتظرهم في ركوعه حتى يدركوه، ويدركوا الركعة بإدراكه مسبوقين.
1518 - ومما يتعلق بهذا الفصل أنا ذكرنا أن المنصوص عليه في الجديد أن الطائفة الثانية يقومون إلى الركعة الثانية والإمام ينتظرهم ساكتاً، ثم يتشهد إذا عادوا إليه، وذكر العراقيون فيه طريقين: إحداهما - أن ذلك بمثابة القول في قراءته وسكوته في القيام وهو ينتظر، فيخرج على ما تقدم.
والثانية - أنه يتشهد كما (1) جلس ولا يسكت حتى يلحقوه. والفرق أنا إنما أمرناه بأن يسكت في قيامه على أحد القولين ليسوّي بين الطائفتين؛ فإنه قد قرأ بالطائفة الأولى الفاتحة والسورة، وهذا لا يتحقق في التشهد؛ فإنه ما تشهد مع الطائفة الأولى أصلاً، وليس في الصلاة [الثنائية] (2) إلا هذا التشهد. فهذا تمام البيان في هذا الفصل.
الفصل الثاني
في تصوير إقامة هذه الصلاة على هذه الصورة في حالة الاختيار
1519 - وسبيل استفتاح القول فيه أن نتأمل ما فيها من التغايير، ثم نعرضها على الأصول حالة الاختيار.
أما الطائفة الأولى، فلم يجر في صلاتها شيء إلا الانفراد عن الإمام بركعة. وأما الإمام، فالذي يوجد منه الانتظار إما في موضع واحد، وإما في موضعين.
__________
(1) "كما" بمعنى عندما.
(2) في الأصل، (ط): الثانية، والمثبت من (ت 1). وقد جاءت (ل) بنفس ما في الأصل.

(2/575)


وأما الطائفة الثانية، فإنهم يقومون إلى الركعة الثانية على صورة الانفراد، ثم يعودون -على الجديد- ويقتدون. فإن فرضنا هذه الصلاة في حالة الأمن والاختيار، فنقول: إذا انفردت الطائفة الأولى من غير عذر، ففي صحة صلاتهم قولان مشهوران تقدم ذكرهما، وأما الإمام، فإنه ينتظر، وقد ذكرنا في الانتظار في حالة الاختيار قولين، ثم قلنا: إذا لم نأمر به، فهل تبطل به صلاة الإمام أم لا؟ فعلى قولين، فإذا فرضنا الصلاة في حالة الاختيار، وقلنا تبطل صلاة الإمام، فالطائفة الثانية تلحق وقد بطلت صلاة الإمام، ولا يكاد يخفى تفريع ذلك في العلم والجهل.
وإن لم تبطل صلاة الإمام بسبب الانتظار، فالطائفة الثانية إن جرت على ما ذكره مالك -وهو القول القديم- فصلاتهم صحيحة؛ فإنهم جروا على الترتيب الشرعي في صلاة المسبوق، وإن جروا على قياس القول الجديد، فقد انفردوا، ثم عادوا فعلَّقُوا صلاتهم بالقدوة، فيجتمع فيهم أصلان: أحدهما - الانفراد من غير عذر.
والثاني - أن المنفرد إذا نوى الاقتداء بعد الانفراد، فهل يصح ذلك منه؟ ففي فساد صلاتهم حالة الاختيار عند طريان ما ذكره قولان مأخوذان من هذين الأصلين، فهذا بيان ما أردناه في هذا.
فرع:
1520 - إذا أراد الإمام أن يصلي بالطائفتين صلاة المغرب؛ فإنه يصلي بطائفة ركعتين، وبطائفة ركعة، وهذا التفصيل لا بد منه؛ فإن تشطير الثلاث عسر، ثم اختيار الشافعي فيما نقله الأئمة أن الإمام يصلي بالطائفة الأولى ركعتين، وبالثانية ركعة. وإنما اختار ذلك؛ لأنه لو صلى بالطائفة الثانية ركعتين، لاحتاجوا إلى الجلوس معه في التشهد الأول، ولا يكون محسوباً لهم، وحالة الخوف لا تحتمل هذا.
ثم نص الأصحابُ قاطبة على أنه لو صلّى بالطائفة الأولى ركعةَ، وبالثانية ركعتين، جاز.
وفي بعض التصانيف (1) عن الإملاء أن الأولى أن يصلي بالطائفة الثانية ركعتين،
__________
(1) كنت أظن أن إمام الحرمين يعني بقوله: "بعض المصنفين" و"بعض التصانيف" الماوردي، =

(2/576)


وهذا مزيف لا أعده من المذهب، نعم قد ذكر الصيدلاني "أن علياً رضي الله عنه صلى بأصحابه صلاة المغرب ليلة الهرير، فصلى بالطائفة الأولى ركعة، وبالثانية ركعتين" (1)، ولكن الشافعي لم يَرَ اتباعَه لما ذكرناه.
ثم إذا صلى بالطائفة الأولى ركعتين فمتى ينتظر الطائفة الثانية؟ قال الشافعي: إن انتظرهم في التشهد الأول، فجائز، وإن انتظرهم في قيام الركعة الثالثة، فحسن، فجوّز الانتظارَ في التشهد، واستحب إيقاعَ الانتظار في القيام، والسبب فيه أنه لو انتظر، لم يخل إذا جاءت الطائفة الثانية إما أن يبقى جالساً حتى يجلسوا، ولو فعل ذلك، لكان كلّفهم بما لا يحسب لهم، وإن قام عند لحوقهم، لكان خارجاً عن محل انتظاره، والقياس اللائق بحال المنتظر أن يبقى في محل انتظاره، حتى يلحقه من ينتظره، وأيضاً؛ فإنه لو طال انتظاره في التشهد، وهو قريب محصور، لطال سكوته، والقراءة في قيام الركعة الثالثة ليست بِدْعاً (2)، وقد قال الشافعي في قول
__________
= وكتابه الحاوي، وذلك لما كان منه من غمز له في كتابه (الغياثي) ولذلك تتبعتُ هذه الأقوال التي يزيفها إمام الحرمين ويخطِّئها، تتبعتها في الحاوي، فلم أجد الماوردي قائلاً بها.
وأخيراً ألقى الله إلينا حكاية ابن كثير عن ابن خلّكان عن بعض فضلاء المذهب أن الإمام يقصد بذلك أبا القاسم الفوراني.
ونص عبارة ابن خلكان: "سمعتُ بعضَ فضلاء المذهب يقول: كان إمام الحرمين يحضر حلقة الفوراني، وهو شاب يومئذ، وكان أبو القاسم لا ينصفه، ولا يصغي إلى قوله لكونه شاباً، فبقي في نفسه منه شيء، فمتى قال في نهاية المطلب: وقال بعض المصنفين كذا، وغلط في ذلك، وشرع في الوقوع فيه، فمراده أبو القاسم الفوراني" (ر. وفيات الأعيان: 3/ 132، والبداية والنهاية: 12/ 98، وأيضاًً طبقات السبكي: 5/ 110).
(1) حديث صلاة علي رضي الله عنه ليلة الهرير، رواه البيهقي، على نحو ما أورده. إمام الحرمين: "بالأولى ركعة وبالثانية ركعتين" وفي خلاصة البدر المنير أنه صلى بالطائفة الأولى ركعتين وبالثانية ركعة. رواه الشافعي.
وليلة الهرير معركة كانت بين علي والخوارج، وقيل هي ليلة صفين. (ر. السنن الكبرى: 3/ 252، خلاصة البدر المنير: ح 796، وتلخيص الحبير: 2/ 78).
(2) في (ط) و (ت 1): بدعاء (فقد ضبطت الدال بضمّة). وفي الأصل بدون ضبط ولا همز، فقدرناها هكذا. والله أعلم. وأكدت هذا (ل)، فقد وضعت علامة التنوين على العين هكذا (بدعاً).

(2/577)


ظاهرٍ في الجديد: يستحب قراءة السورة في الركعات كلها.
وذكر بعض المصنفين عن الإملاء ما يدل على أن الأولى أن ينتظر في التشهد الأول، وهذا لا أصل له، ولم أره في غير هذا الكتاب (1)، ولا أعتد به.
الفصل الثالث
فيه إذا صلى الإمام بالقوم صلاة إقامة أربع ركعات، وأراد أن يفرقهم أربع فرق ويصلي بكل فريق ركعة، ثم هم ينفردون بثلاث ركعات.
1521 - وتمام التصوير فيه أن يَقِرَّ ثلاثةُ أرباع الجند في الصف، ويصلي هو بطائفةٍ الركعةَ الأولى، ثم ينفردون بثلاث ركعات ويرجعون إلى أماكنهم، وهو ينتظر الطائفة الثانية في الركعة الثانية، فإذا لحقوه صلاها بهم، فإذا جلس للتشهد الأول، قاموا -على الجديد- ولم يتابعوه في التشهد، أو تابعوه -على القديم- ثم قاموا إلى ثلاث ركعات، فإذا نجزت صلاتُهم، قاموا إلى أماكنهم، ثم الأحسن على النص أن ينتظر الطائفةَ الثالثةَ في الركعة الثالثة، فلو انتظرهم في التشهد، جاز. ثم إذا صلى بهم ركعةً انفردوا بثلاث، ثم ينتظر الطائفةَ الرابعةَ في الركعة الرابعة، فيصليها بهم، ثم يجلس للتشهد، والنص في الجديد أنهم يقومون إلى ثلاث على ترتيب صلاتهم، والإمام ينتظرهم في التشهد حتى يلحقوه، ويتشهدوا، ثم يسلم.
فهذا هو التصوير.
1522 - وفي جواز ذلك قولان للشافعي: أحدهما - لا يجوز؛ لأن الرخص لا مجال للقياس فيها، ومعتمدها اتباعُ النصوص، وإنما نقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تفريق الجند فرقتين، فلا مزيد على ما نقل.
والقول الثاني - أنه يجوز؛ فإن انتظار الطائفة الثالثة في معنى انتظار الطائفة الثانية،
__________
(1) يعني (الإبانة) للفوراني. كما قدّمنا آنفاً.

(2/578)


وقد تمهد [أن] (1) ما لا يجول القياس فيه [يجوز أن يلحق فيه] (2) بالمنصوص ما في معناه.
التفريع على القولين:
1523 - إن قلنا: يجوز ذلك، فشرطه أن يظهر مسيس الحاجة إلى ذلك، واقتضاء الرأي له، فأما إذا لم يظهر فيه وجه الرأي، فالزيادة على الحاجة تجري في الترتيب مجرى ما لو جرى ما ذكرناه في حالة الاختيار، وقد بان ترتيب المذهب [فيه] (3) ثم إذا مست الحاجة، جرى في انتظار الطائفة الثالثة ما ذكرناه، قال الشافعي: إن انتظرهم في التشهد الأول، فجائز، وإن انتظرهم في قيام الركعة الثالثة، فحسن، ويصلي بالطائفة الرابعة الركعة الرابعة.
ثم المنصوص عليه في الجديد أنهم يفارقونه وهو ينتظرهم حتى يلحقوه، والقديم أنهم يتشهدون معه كما يفعله المسبوق ويسلم الإمام، ثم إنهم يقومون إلى الركعات الثلاث على قياس المسبوق.
وإن قلنا: لا يسوغ المزيد على ما نقل عن رسول الله عليه السلام، فلو فعل الإمام، فأحسنُ ترتيب في التفريع على هذا القول أن نقول: أما الطائفة الأولى، فصلاتهم صحيحة؛ فإن انفرادهم ببقية الصلاة موافقة لترتيب الصلاة المنقولة عن الطائفة الأولى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك الطائفة الثانية. ولا نظر إلى أدنى تفاوت في زيادة الركعات، وأن الانتظار وقع في وسط الصلاة، بخلاف ما جرى لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإن هذا القدرَ محتمل، وهو على القطع ملحق بالمنقول عن الرسول صلى الله عليه وسلم، إلحاق الأمةِ بالعبد في قوله: "من أعتق شركاً له من عبدٍ قُوّم عليه" (4).
ثم إذا انتظر الطائفة الثالثة في الركعة الثالثة، فالمنصوص عليه في هذا القول أن
__________
(1) زيادة من (ت 1).
(2) زيادة من (ت 1) حيث سقطت من الأصل، ومن (ط).
(3) زيادة من (ت 1)، (ل).
(4) حديث "من أعتق شركاً له من عبد ... " متفق عليه (اللؤلؤ والمرجان: 2/ 128 ح 958).

(2/579)


هذا غير جائز، والإمام من هذا الوقت مجاوز موقع النص.
وخرج ابنُ سريج على هذا القول قولاً آخر أن هذا الانتظار محتمَل، وعلل بأن قال: هذا هو الانتظار الثاني؛ فإنه على التصوير الذي قدمناه [ينتظر] (1) الطائفة الثالثة، فيقع انتظارُه ثانياً لا محالة، وأن الطائفة الأولى لا انتظار معها، قال ابن سُريج: وقد نقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم انتظاران: أحدهما - أنه انتظر الطائفة الثانية في قيام الركعة الثانية، فكان هذا انتظاره الأول، ثم لما فارقوه انتظرهم في التشهد، فكان ذلك انتظاراً ثانياً، فالانتظار الثاني للطائفة الثانية يقع وفقاً لما نقل عن رسول الله عليه السلام.
ومن نصر النص قال: انتظار رسول الله صلى الله عليه وسلم في التشهد كان للطائفة الثانية أيضاً، فهو مخالف لما يجري من انتظار طائفة أخرى.
وابن سُرَيْج يقول: إذا توافق الانتظاران وقوعاً، فالتفاوت فيمن الانتظار له ولأجله قريب؛ فإن الممنوع مزيدُ انتظارِ في عينه، لم يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا متجه.
التفريع:
1524 - إن جرينا على التخريج، فتصح صلاة الطائفة الثالثة أيضاً.
وإن جرينا على النص، فالإمام كان ممنوعاً من الانتظار، ولكن انتظاره الممنوع هل يبطل صلاته أم لا؟ فعلى وجهين: أحدهما - لا يُبطل صلاتَه؛ [فإنه] (2) طول ركناً قابلاً للتطويل، وإضمارهُ أن يُلحَقَ غيرُ ضائر.
والثاني - يُبطلُ صلاته؛ فإنه في انتظاره صرف جزءاً من صلاته إلى غرض مخلوقٍ؛ فكان ذلك منافياً لما أُمر به المصلِّي من تجريد القصد إلى عبادة الله تعالى. وقد ذكرنا هذا في انتظار الإمام للمسبوقين من غير خوف وحاجة.
فإن قلنا: لا تبطل صلاةُ الإمام بانتظاره، فتصح صلاة الطائفة الثالثة أيضاً، وتعود
__________
(1) ساقطة من الأصل، ومن (ط).
(2) في الأصل، وفي (ط): فلأنه، و (ل): فإن.

(2/580)


فائدة القول إلى نهي الإمام عن هذا الانتظار، وتصح صلاة الطائفة الثالثة؛ فإنهم لم يأتهم فسادٌ من جهة الإمام، ولم يطرأ على صلاتهم إلا الانفراد، وقد تقدم أن انفراد المقتدي بعذر عن الإمام جائز، وإن لم يكن العذر خوفاً في حرب. والذي اتصف به هؤلاء لا ينحط عن عذرٍ في غير حالة الخوف.
وإن قلنا: تبطل صلاةُ الإمام بانتظاره في الركعة الثالثة، فأول ما نُفرِّعه أنه إذا قرأ الفاتحة، وأدى المقدارَ الذي لا يظهر أثر الانتظار فيه، ثم أخذ يطوّل قصداً إلى الانتظار، فإذ ذاك أتى بالانتظار المفسد على هذا الوجه، فأما مادام في قراءة الفاتحة والسورة، ولم يجاوز حدّ صلاته لو لم ينتظر، فإذا عزم (1) قبل ظهور التطويل فعلاً على الانتظار، فهذا رجل علق نيته وقصده بما [لو] (2) نَجَزَه (3) أفسد صلاتَه.
وقد ذكرت [ذلك] (4) مفصلاً في فصول النية، وأبلغت في البيان والكشف.
وعلى الجملة التعويل في ذلك على القصد؛ فإن الرجل لو طول صلاتَه قصداً، ولم يخطر له انتظار، وكان التطويل في ركن [طويل] (5) لم يضر ذلك.
فإذا فسدت صلاةُ الإمام بسبب الانتظار المنوي، فإن علمت الطائفةُ الثالثةُ بطلانَ صلاته واقتدَوْا به، فصلاتهم باطلة، وإن لم يعلموا بطلان صلاته، فاقتداؤهم صحيح، وهو بمثابة الاقتداء بالجنب مع الجهل بجنابته وحدثه، ثم يطرأ على صلاتهم (6) الانفراد بعد عقد القدوة.
1525 - ويعترض في ذلك أمران: أحدهما - أنهم انفردوا عن صلاةٍ باطلة في علم الله، وهذا فيه نظر.
__________
(1) في (ل): تحرّم.
(2) في الأصل، و (ط): لم.
(3) نجزه: أتمه، يتعدى بدون الهمزة والتضعيف. (المعجم).
(4) مزيدة من (ل).
(5) زيادة من (ت 1)، (ل).
(6) من هنا بدأ خرم في نسخة (ل).

(2/581)


وكذلك من اقتدى بجنب على جهل، ثم نوى الانفراد عنه، ثم تبين أخيراً حقيقة الحال.
وهذا التردد ينبني على أن حكم القدوة هل يثبت إذا كان الأمر هكذا؟ وفيه خلاف ذكرته في الجمعة إذا كان إمامها جنباً، وأدرك المسبوقُ الإمامَ في ركوع ركعة، وكان الإمام محدثاً.
ويجوز أن يقال: إذا منعنا المقتدي من الانفراد، فانفراده ببقية صلاته، والإمام جنب غير سائغ من قصد المقتدي، وإضماره مخالفة من يعتقده إماماً.
ثم كان شيخي يقول: إذا منعنا الإمام من انتظار الطائفة الثالثة، فلا نقيم لما يجري من العذر وزناً في جواز انفراد، القوم؛ فإن هذا على خلاف وضع الشرع، وفي هذا احتمال؛ فإنهم على الجملة معذورون، فلا يبعد أن يرتب أمره على معذورٍ في غير حالة الخوف، كما مضى ذلك مفصلاً في موضعه. وإن حكمنا بأن صلاة الطائفة الثالثة تصح أيضاً على التخريج، فنرد التفريع في المنع من الانتظار إلى الركعة الرابعة، ثم يتفرع على ذلك ما تقدم على النص في الركعة الثالثة.
الفصل الرابع
في حكم سجود السهو
1526 - فنذكر حكمَ الطائفة الأولى: فكل سهو وقع للإمام في الركعة الأولى؛ فإنه [يَلْحق] (1) الطائفةَ الأولى [و] (2) ما يصدر منهم في تلك الركعة، فالإمام يحمله عنهم، وما وقع في الركعة الثانية بعد مفارقة الطائفة، فلا يتعدى الحكمُ الساهيَ؛ فإنّ سهوَ الإمام لم يلحقهم، وإن سهَوْا، لم يتحمل الإمام عنهم، ثم حكم الركعة الأولى يمتد ماداموا في السجدة الأخيرة (3).
__________
(1) في الأصل، (ط): يلتحق. والمثبت من: (ت 1).
(2) مزيدة من: (ت 1).
(3) أي من الركعة الأولى.

(2/582)


فإذا رفع الإمامُ رأسه ورفع القومُ رؤوسهم، فلو فرض سهوٌ قبل الانتهاء إلى حد الاعتدال، فهل يكون ذلك على حكم القدوة؟ فعلى وجهين ذكرهما الإمام رضي الله عنه: أحدهما - أن حكم القدوة باق إلى الاعتدال؛ فإن القوم والإمام مصطحبون.
والثاني - حكم القدوة ينقطع برفع الرأس من السجود؛ فإن الركعة تنتهي بمفارقة السجدة الأخيرة (1).
ثم كان يقول: إذا قلنا رفْعُ الرأس يقطع القدوة، فلو رفع الإمامُ رأسه، وهم بعدُ في السجود، فقد انقطعت القدوة، فلو فرض سهوٌ في هذه الحالة منه أو منهم، فلا يكون على حكم القدوة؛ فإن القوم وإن كانوا في السجود، فقد فارقهم الإمام، وإذا خرج الإمام عن حكم الإمامة، فقد انقطعت القدوة، والأمر على ما قال.
ولم يختلف العلماء في أن الإمام في صلاة الرفاهية إذا سلّم، فسها المأموم قبل أن يسلّم، لم يحمل الإمام ذلك السهوَ؛ فإنه سها ولا إمام له.
1527 - ومما يتعلق بهذه المسألة إذا قلنا: لا تنقطع القدوة قبل الاعتدال، فلا يبعدُ على هذا القول أن يقال: إنما ينفرد القوم إذا ركعوا وتركوا الإمام قائماً؛ فإنهم إنما يفارقونه حساً إذ ذاك، وهذا احتمالٌ، والذي نقلته ما تقدم.
فهذا تفصيل القول في الطائفة الأولى.
1528 - فأما الطائفة الثانية، فلا يخفى تفصيل السهو في الركعة الأولى من صلاة الطائفة الثانية.
فأما إذا قام القوم إلى ركعتهم الثانية والإمام في التشهد ينتظرهم، فلو فرض سهوٌ من القوم في الركعة الثانية، أو من الإمام في التشهد، فهل يثبت حكم القدوة في ذلك السهو؟ فيه وجهان: أحدهما - لا يثبت؛ فإنهم ليسوا مقتدين فيها، بل هم منفردون في الحقيقة.
والثاني - يثبت لهم حكم القدوة؛ فإنهم ما فارقوا الإمام مفارقة تامة، بل هو ينتظر القوم في التشهد، وهم صائرون إليه، فحكم القدوة شامل.
__________
(1) ساقطة من: (ت 1).

(2/583)


وهذان الوجهان يجريان في المزحوم إذا تخلف، وأمرناه بأن يقتفي الإمامَ، فلو سها، أو سها الإمام، فهل يثبت حكم القدوة في ذلك السهو؟ فعلى ما ذكرناه.
وذكر بعض المصنفين أن من كان منفرداً في ابتداء صلاته، ثم وجد جماعةً، فاقتدى في أثناء الصلاة بإمامهم، وجوزنا ذلك على أحد القولين، فالسهو الذي جرى في حالة الانفراد هل يرتفع بالقدوة؟ فعلى وجهين (1).
وهذا بعيد جداً، والوجه القطع بأن حكم السهو لا يرتفع بالقدوة اللاحقة؛ فإنه لما سها كان منفرداً، لا يخطر له أمر القدوة، وإنما جرت القدوة من بعدُ متجدِّدةً، ولا انعطاف لها على الانفراد المتقدم.
1529 - ومما يتعلق عندي بهذا الفصل أنا إذا جعلنا الطائفةَ الثانية في الركعة الثانية في حكم المنفردين في السهو، فإذا عادوا إلى التشهد وكان الإمام ينتظرهم، فهل يحتاجون إلى نية القدوة؟ أم هل يعودون إلى القدوة أم لا؟
يستحيل أن يقال: لا يعودون إلى القدوة؛ إذ لو كانوا كذلك لما (2) كان في انتظار الإمام إياهم فائدة ومعنى، وإذا كانوا يعودون، وقد انفردوا على الوجه الذي نفرع عليه في حكم السهو، ففي عود حكم القدوة من غير نية القدوة بعد الانفراد بُعد، ولم أر أحداً من أصحابنا اشترط نية القدوة في العود إلى التشهد.
فيخرج من مجموع ما ذكرناه أن الأصح أن حكم القدوة لا يرتفع بانفرادهم من حيث الصورة. والله أعلم.
فهذا تمام القول في صلاة ذات الرقاع.
1530 - وقد اختلفوا في اشتقاق ذات الرقاع، فمنهم من قال: كان القتال في سفح
__________
(1) انتهى كلام "بعض المصنفين" وسبق أن ذكرنا أنه يعني به الإمامَ "الفوراني".
(2) إلى هنا انتهى الخرم في نسخة (ل) وهو أصلاً في النسخة التي أخذت عنها (ل)، يشهد لذلك أنه وقع في أثناء الصفحة ووسط السطر، ولم يكن في رأس الصفحة، حتى يحمل على ضياع ورقة منها.

(2/584)


جبل فيه جُدَدٌ بيضٌ وحمر كأنها رقاع. ومنهم من قال: كان في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حفاةٌ قد لفّوا على أرجلهم الرقاعَ.
فرع:
1531 - إذا كان الإمام والقوم في دار إقامة، فمست الحاجةُ يوم الجمعة إلى إقامة صلاة الجمعة على هيئة صلاة ذات الرقاع: من تفريق القوم فرقتين، فقد اختلف أصحابنا: فمنهم من أجراها لمكان الخوف مجرى صلاةٍ ثنائية مقصورة، أو غير مقصورة، كصلاة الصبح، والإمام يكون في انتظار الطائفة الثانية في صورة منفرد، إلى أن تلحقه الطائفة المنتظرة، وهذا على صورة الانفضاض، والطائفة الأولى انفردوا بركعة والإمام في الصلاة، وهذا غيرُ سائغ مع زوال المعاذير، ولكن احتملنا ذلك لمكان الخوف.
1532 - ومنهم من لم يصحح صلاة الجمعة بسبب الخوف إلا على قياس تصحيحها في حالة الاختيار؛ فإنها صلاة اختُصَّت بشرائطَ في رعاية الجماعة والعدد المخصوص، وكمال الصفات؛ فوجود الخوف وعدمه فيها بمثابة واحدة، وقياس الانفضاض وما فيه قد مضى، فلنجر ذلك القياس بعينه، وإذا أجريناه، فينبغي ألاّ تصحَّ جمعةُ الطائفة الأولى؛ فإنهم وإن صلوا ركعةً في جماعة، فقد انفردوا في الركعة الثانية، ولو فرض انفراد قومٍ بركعة حالة الاختيار قصداً، فلا مساغ لهذا.
1533 - وفي كلام أئمة العراق ما يشير إلى ترددٍ في ذلك في (1) حق المختارين إذا صلوا ركعة مع الإمامِ، تخريجاً على الانفضاض، وهذا بعيدٌ جداً، فأما الخلاف في أن الخوف هل يُسوِّغ هذا، فمحتمل، وأما تجويز ذلك في حالة الاختيار وتخريجه على الانفضاض، فلا وجه له؛ فإن قاعدة الانفضاض على التردد في صحة صلاة الإمام ومن بقي معه، إن نقصوا عن العدد المشروط؛ من حيث إنهم ما انتسبوا إلى أمر فيما جرى. أما تسويغ انفراد طائفةٍ بركعة قصداً، تخريجاً على الانفضاض، فبعيدٌ، لا أصل له.
__________
(1) في الأصل، و (ط): وحق.

(2/585)


فصل
1534 - ذكر الشافعي صلاةَ شدة الخوف، ثم ذكر بعدها صلاةَ عُسفان، وينبغي أن يكون فرض الصورة حيث يكون العدوّ في وِجاه القبلة، ولم ينته الأمر إلى الالتحام وشدة القتال والخوف، وقد رُوي أن النبي عليه السلام صلى بعُسفان (1) في مثل الحال التي وصفناها، وصلى معه جميعُ الأصحاب دفعة واحدة، ووقفوا صفين، فلما سجد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الركعة الأولى، بقي الصف الأول قائمين ينتظرون ما يكون من العدوّ، وتخلّفوا في السجدتين، وسجدَ وراءهم أهلُ الصف الثاني، فلما رفع رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه وانتصب الصف الثاني، سجد الحارسون، ولحقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم لما انتهى عليه السلام إلى السجود في الركعة الثانية سجد من في الصف الأول، وحرس من في الصف الثاني، فلما قعد رسول الله صلى الله عليه وسلم للتشهد، سجد الحارسون من الصف الثاني، وتناوب الصفان في الحراسة كما رويناه.
فهذه صفة صلاته عليه السلام، وتمام النقل فيه أن خالد بن الوليد كان بعدُ مع الكفار، لم يسلم، وكانوا في قُبالة القبلة، فلما دخل وقت العصر تناجَوْا وقالوا: قد دخل عليهم وقت صلاة هي أعز عليهم من أبدانهم وأرواحهم، فإذا شرعوا فيها، حملنا عليهم حملة رجل، فنزل جبريل عليه السلام، وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بما أضمروه، فصلى مع أصحابه كما وصفناه.
ثم المنقول تناوب القوم في الحراسة، فلو قام بالحراسة في الركعتين جميعاًً طائفة
__________
(1) حديث صلاة عسفان رواه أبو داود، والنسائي، وأحمد، وابن أبي شيبة، والدارقطني، وابن حبان، والحاكم، والبيهقي، كلهم من حديث أبي عياش الزرقي، وفيه تعيين عسفان، وخالد بن الوليد، وقد رواه مسلم من حديث جابر بدون ذكر عسفان، وخالد (ر. مسلم: صلاة المسافرين، باب صلاة الخوف، ح 839، أبو داود: الصلاة، باب صلاة الخوف، ح 1236، النسائي: الصلاة، باب صلاة الخوف، ح 1550، 1551، أحمد: 4/ 60، ابن أبي شيبة: 2/ 465، الدارقطني: 3/ 60، ابن حبان: 2876، الحاكم: 1/ 337، البيهقي: 3/ 257، صحيح أبي داود للألباني: 1096).

(2/586)


واحدة، وتخلفت فيهما، ثم لحقت، فهل يجوز ذلك أم لا؟ فعلى وجهين مشهورين: أحدهما - المنع؛ فإن المتبع في تغايير وضع الصلاة النصوص، وما يصح النقل فيه، وقد صحت الحراسةُ على التناوب، وفي ذلك معنى معقول؛ فإن [في] (1) الحراسة تخلفاً عن الإمام بأركانٍ، فإذا تناوب فيها القوم، قلّ التخلفُ من كل فريق، وإذا تولاها قوم في الركعتين جميعاًً، كثر تخلفهم، وكانوا خارجين عن اتباع الشارع.
1535 - ومن أئمتنا من جوز ذلك من طائفة واحدة وقال: تصوير ذلك في ركعة واحدةٍ تخلف لا يجوز مثله في حالة الاختيار، وفيه زيادة على الأمر الذي يحتمله، ولو ساغت الزيادة، لم ينضبط منتهاها، وإنما جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمرَ على التناوب؛ لأن الصحابة كانوا لا يحتملون الإخلال برعاية الكمال في الصلاة، وإقامة الجماعة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكأن رسول الله صلى الله عليه وسلم رعى التَّسوية والنَّصفة فيهم، فإذا رضي قومٌ فينا باحتمال النقيصة، [وإيثار الذب عن الآخرين] (2) في جميع الصلاة، لم يمتنع.
ولم يختلف أئمتنا في أن قوماً في الصف الأول لو حرسوا في الركعة الأولى، ثم لحقوا، ثم حرس في الركعة الثانية آخرون في الصف الأول أيضاً، ولم يحرس في الصف الثاني أحد، فاختص بالتناوب مخصوصون، جاز. وقد لا يصلح لذلك إلا مخصوصون في الجند. فهذا المقدار لا خلاف في احتماله وجوازه.
1536 - ولو حرس في الركعة الأولى مَنْ في الصف الثاني، ثم حرس في الثانية من في الصف الأول، وكانت الحراسةُ واقعة على وجه يُفيد ويحصِّل الغرض، فقد كان شيخي يقطع بجواز هذا، وإن كان الأحزم حراسة الصف الأول. قال الشافعي: لو تقدم مَنْ في الصف الثاني إلى الصف الأول في الركعة الثانية، وتأخر مَنْ في الصف الأول، وقلّت أفعالُهم، جاز، وكان حسناً؛ فإنه كلما تقدم الحارسون كان الإمام أَصْون، وكانوا جُنةً لمن وراءهم، فهذا تمام المراد في ذلك.
__________
(1) مزيدة من: (ت 1)، (ل).
(2) زيادة من (ل).

(2/587)


[وكنا] (1) فرضنا في صلاة ذات الرقاع إقامةَ الصلاة على تلك الهيئة حالة الاختيار، وأجرينا فيه تفصيل المذهب.
ولو فرض فارض صلاةَ عُسفان في الاختيار، ففيها تخلّف عن الإمام بأركان من غير ضرورة، وهذا لا مساغ له مع استدامة [نيّة] (2) القدوة قولاً واحداً، كما تمهد فيما سبق.
1537 - ثم ذكر الشافعي صلاةَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ببطن النخل (3): صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بطائفة ركعتين وتحلّل، وتحللوا، ثم صلى بطائفةٍ أخرى ركعتين، كانتا له نافلة، ولهم فريضة. ولا اختصاص لجواز ذلك بحالة الخوف أصلاً؛ فإنه لو فرض في حالة الاختيار، جاز؛ إذ منتهاه اقتداء مفترض بمتنفل، وهو جائز عندنا.
فصل
1538 - تردد نص الشافعي في وجوب رفع السلاح في الصلاة المقامة في حالة الخوف، وهذا يجري في صلاة عُسفان جرياناً ظاهراً، وفي صلاة ذات الرقاع؛ فإن الطائفة المصلّية وإن كانت متنحية، فهي في معرض الخوف من حيث يُفرض جولان الفرسان، وانتهاء الأمر إلى المطاردة في أثناء الصلاة. ثم تردد أئمة المذهب: فقال قائلون: في المسألة قولان: أحدهما - أن ذلك يجب إقامةً للحَزْم، ويشهد له نص القرآن؛ فإنه تعالى قال: {وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ} [النساء: 102] ثم أكد الأمر بالتكرير.
والثاني - يستحب ويتأكد ولا يجب.
__________
(1) في الأصل، (ط): وكما.
(2) في الأصل، و (ط): رتبة.
(3) المعروف المشهور، والوارد في معجم ياقوت، ومعجم البكري: "بطن نخل".
وقد روى هذه الصلاة البخاري ومسلم من حديث جابر (ر. اللؤلؤ والمرجان: 1/ 162 ح 484).

(2/588)


ومن الأئمة من قطع القول بوجوب حمل السلاح في الصلاة، ومنهم من قطع بالاستحباب ونَفْي الإيجاب.
والذي لا بد من التنبه له أنهم لو بعّدوا الأسلحة عن أنفسهم، وظهر بهذا السبب مخالفةُ الحزم، والتعرضُ للهلاك، فيجب منعُ هذا قطعاً؛ فإنه في صورة الاستسلام للكفار.
وإن وضع الواضع سيفَه بين يديه، إذا لم يكن في حال مطاردةٍ، ولم يكن مخالفاً للحزم -ومَدُّ اليد إلى السيف الموضوع على الأرض في اليُسر كمدّ اليد إليه، وهو محمول متقلّد- فلست (1) أرى -لذلك- احتمالَ التردد في الجواز؛ بل الوجه القطع به، وإذا كان يُقطع به في غير الصلاة، فلأن يُقطعَ بجوازه في الصلاة أولى، وأحرى.
وإن لم يظهر بتنحية السلاح [إمكانُ] (2) خلل، ولكن لا يؤمن أيضاً إفضاءُ مثل تلك التنحية إلى خلل، [فلعل] (3) التردّدَ واختلافَ النص في هذا.
ولكن الأصحاب ذكروا حملَ السلاح في عينه في الصلاة، وأنا أرى الوضع بين اليدين في حكم رفع السلاح وحملِه. والله أعلم.
ثم قال الأئمة: من كان واقفاً وسط الصف، فلا ينبغي أن يحمل ما يتأذى به من يجاوره [كالقوس] (4) والجَعْبة المتجافية، فإن كان معه شيء من هذا، فليقف حاشية الصف.
1539 - ثم لو وضع السلاحَ، ورأينا رفعَه واجباً، لم يؤثِّر ذلك في بطلان الصلاة عندي؛ فإنه أمر يحرم على الجملة في الصلاة، وفي غير الصلاة، فلا اختصاص له بالصلاة، وهو على ما أشرنا إليه قريب الشبه بإقامة الصلاة في الدار المغصوبة.
ويحتمل أن يقال: إذا ترك الحزمَ وإنما أُثبت تغييرُ الصلاة حَزْماً على وجه لا ينخرم عليه
__________
(1) جواب شرط "إن وضع الواضع ... ".
(2) في الأصل، (ط)، (ت 1): إلى مكان خلل. والمثبت من (ل).
(3) مزيدة من: (ت 1)، (ل).
(4) في الأصل، و (ط)، كلمة غير مقروءة، وهي على آية حال اسم آلة من آلات الحرب، والمثبت من (ت 1)، (ل).

(2/589)


النظر في مكيدة الحرب، وإذا خالف الرجل الحزم، كان كما لو صلى صلاتَه وهو مختار، وتفصيل المختار واضح، وقد ذكرناه قبلُ.
فصل
1540 - كل ما ذكرناه في غير شدة الخوف، وفي كل حالة يُعتبر (1) ما يليق بها، ويوافقها في التغايير، مع اتباع التصوير كما تقدم. فلو صلى الإمام صلاة عُسفان، حيث لا يوافق الحال، فهو كما لو أقامها في حالة الاختيار.
1541 - فأما إذا اشتد الخوف والتحم الفريقان، وكان لا يتأتى التفريق، ولا صلاة عسفان، ولابس الجند كلُّهم القتالَ والمطاردة، فمذهب الشافعي أنهم لا يُخرجون الصلاة عن الوقت بسبب الخوف أصلاً، بل يقيمون الصلاة مُشاةً وركبانا مطارِدين، مستقبلي القبلة وغير مستقبليها.
والأصل في الباب قوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا} [البقرة: 239] قال ابن عمر في تفسير الآية: "مستقبلي القبلة وغير مستقبليها" (2).
والأصل الذي لا خلاف فيه أن الصلاة تقام راكباً وماشياً، ويسوغ تركُ الاستقبال في ضرورة القتال وفاقاً، وكذلك يجوز الاقتصار على الإيماء في الركوع والسجود، كما ذكرناه في إقامة النافلة على الراحلة، ومن ضرورة إقامة الصلاة راكباً [الإيماء] (3)، والماشي المقاتل لو تمم السجودَ في المعترك، كان متهدِّفاً لأسلحة الكفار معرِّضاً نفسه للهلاك.
ونحن نذكر على الاتصال بذلك أمرين: أحدهما - كثرة الأفعال في الصلاة.
والثاني - تلطخ الأسلحة بالدم.
فأما القول في الأفعال، فلا شك أن الفعل إذا كثر من غير حاجة إليه، فهو مبطلٌ
__________
(1) في (ت): تغيير.
(2) ر. البخاري: التفسير، باب قوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا} [البقرة: 239] ح 4535.
(3) زيادة من (ت 1)، (ل).

(2/590)


للصلاة، وفي معناه الزَّعقةُ والصيحة، فلا حاجة إليها، والكمِيُّ المقنع السَّكُوت أَهْيبُ في نفوس الأقران. ولو كثرت أفعالُه في قتاله، وكان يوالي بين الضربات في أقران وأشخاص، فالذي كان يقطع به شيخي أن ذلك لا يقدح في الصلاة، وقياسه بيّن، وليس احتمال ذلك لأجل شدة الخوف بأشد من احتمال الاستدبار، والاكتفاء بالإيماء، وكثرة الضربات في الأقران معتادة، ليست نادرة عند التحام الفئتين.
1542 - وذكر صاحب التقريب نصوصاً للشافعي دالة على أن كثرة الأفعال تبطل، وتوجب قضاء الصلاة، ونقل من النص توجيهَ ذلك، وذاك أنه قال: إقامةُ الفريضة راكباً وماشياً ومستدبراً من الرّخص الظاهرة، والقدْر الذي أشعر به نصُّ القرآن الركوب والمشي، قال الله تعالى: {فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا} [البقرة: 239] وانضم إلى ذلك تفسير ابن عمر حيث قال: "مستقبلي القبلة وغير مستقبليها"، فالزيادة على هذا مجاوزةٌ للنص في محل لا مجال للقياس فيه.
وذكر العراقيون هذا قولاً للشافعي، كما ذكره صاحب التقريب، وذكره الشيخ أبو علي في الشرح.
1543 - وسأذكر في ذلك قولاً الآن قاله الأئمة في التفريع على ظاهر المذهب، وهو أن كثرة الأفعال في الأشخاص والأقران المتعددين لا يضر، ولو ردد ذلك الضربَ في قِرن واحد ثلاث مرات، فقد بلغ الفعل في محل واحد حدَّ الكثرة وِلاءً، وهذا مبطل للصلاة؛ فإنَّ ذلك في المحل الواحد نادر، فلا يعد مما يظهر مسيس الحاجة إليه.
وأنا أقول: قد ذكر صاحب التقريب في كتاب الطهارة تقاسيم حسنة في الأعذار التي تُسقط قضاء الصلاة، والتي لا تُسقط، والتي يختلف القول فيها، وقد سقتها أحسن سياقة، وغرضي الآن منها أني أجريتُ في التقاسيم قواعدَ هي المرعية، وهي النظر إلى انقسام الأعذار إلى ما يعم، وإلى ما يندر فيدوم، وإلى ما يندر ولا يدوم، ثم العذر العام، والنادر الدائم، يتضمنان إسقاطَ القضاء، والعذر النادر الذي لا يدوم ينقسم القول فيه إلى اختلال لا بدل فيه، وإلى خلل فيه بدل.

(2/591)


ثم قال صاحب التقريب: صلاة شدة الخوف سببها عذر نادر؛ فإن انتهاء الأمر إلى الحالة المحوجة إلى إقامة الصلاة راكباً متردداً مستدبراً نادرٌ، ثم هذا لا يدوم، بل ينتجز الأمر (1) على القرب، ولكن مع ندور ذلك تعلقت به رخصةٌ ظاهرة، وهي صحة الصلاة من غير قضاء. هذا كلامه.
وأنا أقول: لمن كان يعد القتالَ من الأعذار النادرة، فليس كذلك؛ فإن القتال في حق المقاتلة ليس نادراً، وإن كان يعدّ حالةَ التفاف الصفوف والتحام الفريقين نادرةً في القتال، فليس كذلك؛ فإن هذا كثير الوقوع، وهو عقبى كل قتال في الغالب.
فالترتيب المرضيّ في ذلك أن يُعتمدَ النص، ثم يتلقى من فحواه ما ينبغي أولاً، فالركوب والمشي منصوصٌ عليه، ومما يفهم من فحوى النص ترك الاستقبال؛ فإن الراكب المقاتل المتردّد على حسب ما يقتضيه القتال، لا يتصور أن يلزم الاستداد (2) في جهة واحدة، وهذا يعضده قولُ ابن عمر رضي الله عنه.
والاقتصار على الإيماء مستفاد من النص أيضاً؛ فإن هيئة الركوب تقتضيه، وكثرة الضربات في [مقتولين] (3) [وأقرانٍ] (4) في الطراد، أو كثرة الأفعال الدافعة لائقةٌ بالقتال، قريبةُ المأخذ من الإيماء المستفاد من الركوب؛ فإن الاختيار إنما يفرض والصفوف قارّةٌ، وإذا التفَّت، فلا بد من توالي الضرب، أو الاتِّقاء بالحَجَفة (5) والتُّرس.
فهذا ينبغي أن يكون محتملاً، وهو الذي قطع به شيخي.
وقد نقل صاحب التقريب، والعراقيون، وأبو علي النصَّ، وهو بعيد؛ فإنه من مُتَضمن القتال في غالب الحال عند شدة الخوف.
فأما ترديد الضرب في قِرْن واحد، فقد عُد من النادر. وفيه نظر؛ فإنه قد يعم من
__________
(1) في (ت 1): الأمن.
(2) الاستداد بالسين: الاستقامة. وقد تكررت.
(3) في الأصل، (ط): مقبولين و (ت 1) المقتولين.
(4) في الأصل، (ط): وقران، و (ت 1): واقتران، والمثبت من (ل).
(5) الحجفةُ: الترس من جلود بلا خشب، ولا رباطٍ من عصب. (معجم).

(2/592)


جهة أن القِرْنَ قد يتقي، فتخطئه الضربة، وتمَسُّ الحاجة إلى أخرى، وقد لا تؤثر الضربات لمكان الدروع وغيرها من الملابس الواقية، فالحكم بأن الغالب أن تُريح (1) الضربة والضربات غير ظاهر، وكلام الصيدلاني مصرّح في فحواه، بأن الحاجة إذا مست إلى ترديد الضربة في مضروب واحد، لم تبطل الصلاة؛ فإنه قال لما ذكر هذه المسألة: المعتبر في ذلك كله الحاجة.
ولا وجه عندي إلا هذا.
1544 - والقول القريب فيه أنا حكينا قولاً في كتاب الطهارة: أن من صلى كما أمرناه وإن كانت صلاته مُختلّة بسبب عُذر نادر لا يدوم، فلا قضاء عليه، وهذا مذهب المزني، فينبغي أن يُتَّخذ هذا أصلاً، ويُرتّب عليه جريان الضربات في مضروب واحد، وهو أولى بإسقاط القضاء؛ لما أشرت إليه.
فأما الأفعال التي لا حاجة إليها، فلا شك أنها إذا كثرت أبطلت.
ومما يليق بتحقيق القول في ذلك أن المصلي لو لم يمر به قِرْن، ولكن كان يقتضي ترتيبُ القتال أن يُقصِد وإن لم يُقصَد (2)، فهذا أراه من الأفعال الضرورية؛ فإن من لا يُقْصِد في القتال يُهْتَضم ويُتعسّى (3) في التفاف الصفوف، وهذا واضح إن شاء الله.
فهذا ترتيب القول في الأفعال إذا كثرت أو قلت.
1545 - فأما القول في تلطخ السلاح بالدم أو تضمخ المصلي نفسِه، فالذي ذكره الأئمة أنه إذا تلطخ السيفُ بالدم، فإن نحاه على القرب بأن يلقيه، أو يردّه في قرب من زمان الإلقاء إلى قرابه تحت ركابه، فهذا لا يضر، وإن أمسكه ولم يفارقْه، بطلت صلاته.
وهذا عندي فيه نظر؛ فإنَّ تلطخ السلاح بالدم والطعن على الوِلاء في شدة
__________
(1) في النسخ الأربع، بدون إعجام، وهذا الذي اخترناه هو الصواب -إن شاء الله- وهو موافق لأسلوب إمام الحرمين، وبيانه العالي، فأراح فلانٌ: مات، وأراح فلاناً: أدخله في الراحة.
ومن مأثور العرب: أراح فأراح: أي مات فاستريح منه (الأساس، والمعجم).
(2) لعلها من أقصد فلاناًَ إذا طعنه، فلم يخطىء مقاتله. (معجم) فيكون المعنى: أن يبادر بالطعن بطعن القِرْن، وإن لم يطعنه.
(3) كذا في النسخ الثلاث، والمعنى إذاً: يُطْلب: من تعسَّى صاحبه طلبه. وفي (ل): يتغشى.

(2/593)


الخوف من الأمور العامة في القتال، وقد ثبت أن ما يقتضيه القتال محتمل، فليلحق هذا [به، ولنقلْ: نجاسةُ المستحاضة إذا لم تُبطل الصلاة للبلوى] (1)، فنجاسة السلاح أولى؛ فإنها في حق من يلقَى قتالاً [ضرورية، وتكليفُ المقاتل تنحيةَ السلاح بعيد] (2)، والوجه أن نقول فيمن صلى في حُشٍّ وموضعٍ نجس، وكان محبوساً فيه: إن القضاء لا يجب، وهو مذهب المزني، والقول الظاهر فيه القضاءُ. وفي تنجيس سلاح المقاتل قولان مبنيان، وهذه الصورة أولى بنفي القضاء، لإلحاق الشرع القتالَ بالأعذار المسقطة لقضاء الصلاة، وتنزيله إياه منزلة عذر المستحاضة.
والذي يحقق هذا أن الريح إذا طيرت نجاسةً وأوقعتها على ثوب [المصلي] (3)، وتمكن المصلي من نفضها -وهي يابسة- على القُرب، ففعل، لم تبطل صلاته أصلاً، ولو تعاطى نجاسةً بيده قصداً ورماها، بطلت صلاته.
فلو كان قياس الاختيار مرعياً في حق الغازي، للزم أن يقال: إذا تعاطى ضرباً، ونحَّى سيفَه على القرب، بطلت صلاته؛ لأنه اختار ذلك.
فإن قيل: لا بد من ذلك في القتال. قلنا: ولا بد من استصحاب السيف في شدة الخوف، نعم: لست أنكر أن الحاجة إذا لم تَمَس، لزم تنحيةُ السيف بردِّها إلى القراب تحت الركاب، ولو كان متقلداً سيفاً، فردَّه إلى الغِمد، فهو حامل للنجاسة لا محالة. فهذا بيان ما أردناه في ذلك.
فصل
1546 - نقل المزني عن الشافعي نصين في صورتين فنذكرهما، ثم نذكر تفصيل القول فيهما إن شاء الله، قال الشافعي: "إذا كان يصلي الرجل مطمئناً على الأرض، فطرأ الخوف، ومست الحاجة إلى الركوب، فركب، لم تصح الصلاة، ولزمت
__________
(1) زيادة من (ت 1)، (ل).
(2) زيادة من (ت 1)، (ل).
(3) زيادة من (ت 1)، (ل).

(2/594)


الإعادة"، وقال: "لو كان يصلي في شدة الخوف راكباً فأمن، ونزل وأدى بقية الصلاة آمناً، صحت هذه الصلاة" (1).
فحسب المزني أن سبب الفرق بين المسألتين أن فعل الراكب يكثر، وفعل النازل يقل، ثم أخذ يعترض ويقول: "ربَّ فارس ماهر يقلُّ فعله في ركوبه، وربَّ أخرقَ يكثر فعله في نزوله".
1547 - ونحن نبدأ بالمسألة الأولى. وهي أن يطرأ الخوف، فيركب.
فالنص ما حكيناه، وقد اختلف طرقُ الأئمة فيه: فقال بعضهم: إن كثر العمل في الركوب، بطلت الصلاة، ونصُّ الشافعي محمول على هذه الصورة، وإن قل العمل، لم تبطل الصلاة.
وهذا ليس بشيء؛ فإن كثرةَ العمل بسبب الخوف محتملة على قاعدة المذهب، نعم، إن كثُر العمل من غير حاجة، فتبطل الصلاة.
وقال بعض الأصحاب: سبب بطلان الصلاة أنه لما شرع في الصلاة، التزم تمامَ الصلاة على شرائطها، فإذا ركب، فهذا خلاف ما التزمه، فبطلت صلاتُه، ولا فرق بين أن يكثر عمله وبين (2) أن يقل، فإن الركوب وإن قلّ العملُ فيه مخالف لوضع الصلاة المفروضة [وقد التزمها تامة] (3)، وهذا ليس بشيء أيضاً؛ فإن من تحرم بالصلاة قائماً، ثم طرأت ضرورة أحوجته إلى القعود والإيماء؛ فإنه يبني على صلاته، فطَرَيَانُ الخوف بهذه المثابة. والله أعلم.
والسر في هذا أن الالتزام إنما يؤثر فيما يتعلق بالرخص التي تجرى تخفيفاً مع الاختيار والتمكن، كرخصة القصر، فلا جرم لو نوى الإتمام، لم يقصر. فأما ما يتعلق بالضروريات، فتقدُّم الالتزام عند عقد الصلاة لا يؤثر فيه، كما ضربناه مثلاً من طريان القعود بسبب المرض.
__________
(1) ر. المختصر: 1/ 145.
(2) كذا بتكرير (بين) مع الاسم الظاهر، وذلك خلاف المشهور، وله وجه في الصحة، وعليه شواهد.
(3) زيادة من (ت 1)، (ل).

(2/595)


5148 - فالطريقةُ المرضية ما ذكره الصيدلاني، فقال: "إذا طرأ الخوف، ولم يكن من الركوب، بدّ، ركب، وبنى على صلاته، ولا إعادة قطعاً، والنص محمول على ما إذا ركب قبل تحقق الضرورة والحاجة".
ولا شك أن المذهب ما ذكره الصيدلاني، ولكن ما ذكر في تأويل النص فيه بُعد.
فهذا تفصيل القول فيه إذا طرأ الخوف فركب.
1549 - فأما إذا أمن وكان راكباً في صلاته، فنزل، [فالنص] (1) أنّه يبني على صلاته، وهذا منقاس ظاهر، ووجه النظر فيه [أنه] (2) إن قل فعله في نزوله؛ فإنه يبني ولا إشكال، وإن أكثر الفعلَ من غير حاجة، فلا شك في بطلان الصلاة، وإن لم يُحسن النزول إلا بإكثار الأفعال، ففي بطلان صلاته وجهان في بعض التصانيف: أحدهما - أنها تبطل؛ فان هذه الأفعال الكثيرة جرت في حالة الأمن، فأبطلت.
والثاني - لا تبطل؛ لأن هذه الأفعال من آثار ركوبه؛ إذ لولاه، لما احتاج إلى النزول، فهي ملحقة بما جرى في حالة الضرورة، وإن وقعت في حالة [الأمن] (3).
والمسألة محتملة جداً.
فرع:
1550 - ذكر بعض أئمتنا أن طائفةً لو كانوا جلسوا في مكمن، فدخل وقتُ الصلاة، وكانت الحال تقتضي أن يصلوا قعوداً، ولو قاموا لبَدَوْا للعدو [وفسد] (4) التدبير؛ فإنهم يصلون قعوداً وتصح صلاتهم؛ فإن ذلك ليس مما يندر الافتقار إليه في مكائد الحرب. وهو دون إيماء الراكب والماشي.
...
__________
(1) عبارة الأصل، و (ط): فإنه يبني ...
(2) مزيدة من (ت 1)، (ل).
(3) مزيدة من (ت 1)، (ل).
(4) في الأصل و (ط): كلمة غير مقروءة. والعبارة كاملة سقطت من (ل).

(2/596)


باب من له أن يصلي صلاة الخوف
1551 - نذكر في هذا الباب مقاصدَ منها: تفصيلُ الخوف الشديد وسببه، فإذا تحركت الصفوف، والتف الحزبان في قتالٍ واجب، أو في قتالٍ مباح، واقتضت الحال ملابسةَ ما هم فيه، فهذا ما ذكرناه.
ولو انهزم العدو، وركب المسلمون أقفيتَهم، وعلموا أنهم لو نزلوا وصلّوا متمكنين، فات العدوّ، فلا يصلّون صلاة الخوف؛ إذ لا خوفَ، وإنما هذا فواتُ مطلوبٍ، والرخص لا يُعدى بها مواضعها.
ولو انهزم المسلمون فاتبعهم الكفار، نُظر: فإن حل لهم أن ينهزموا، صلوا صلاة الخوف، وذلك إذا زاد الكفار على الضعف، كما سيأتي في السِّير إن شاء الله، وإن حرمت الهزيمة، لم يجز لهم أن يصلوا صلاة الخوف؛ فإنهم متعرّضون في الهزيمة المحرمةِ لسخط الله، والرخص لا تناط بالمعاصي عندنا.
1552 - وما نفصله الآن القول في القتال الواجب والمباح.
فالواجب كقتال الكفار، والمباح بمثابة الذبّ عن المال. فظاهرُ المذهب أنه إن مست الحاجة في الذب عن المال إلى ملابسة قتال، فتجوز صلاة الخوف بسببه، ونقل الأئمة والصيدلاني قولاً عن الشافعي: "أنه لا تجوز إقامة صلاة الخوف في الذبّ عن المال"، وموضع النص أن الرجل لو تبعه سيل وعلم أنه لو مرّ مسرعاً بماله وصلى مارّاً مومياً، سلم وسلم مالُه. ولو صلّى متمكناً، أمكنه أن يهرب، ويتلف ماله، قال: لا يصلي صلاة الخوف. وهذا غريب، وظاهر النصوص الجديدة يخالف هذا؛ فاستنبط أئمتنا من هذا النص قولاً في أن الذاب عن ماله إذا علم أنه لا يتأتى له دفع قاصدٍ مالَه إلا بقتله أو بما يؤدي إلى القتل، فليس له أن يدفعه، وهذا بعيدٌ جداً، وقد

(2/597)


قال عليه السلام: "من قتل دون ماله، فهو شهيد" (1)، فإذا كان يجوز بحكم هذا الخبر أن يعرّض نفسه للهلاك بسبب ماله، فقتلُ الصائل مع الاقتصار على قدر الحاجة في الدفع أولى وأحرى، من جهة أن الصائل قد أبطل حرمة دمه، لما أقدم عليه.
ومن منع قتلَ الصائل على المال، فلا شك أنه يمنع مالك المال من أن يعرِّض نفسه للهلاك في الذب عن المال، وإذا قال هذا، فيكون مخالفاً لنص حديث الرسول صلى الله عليه وسلم.
وقال قائلون من المحققين: لا خلاف على المذهب أن الذب عن المال جائز، وإن أدى إلى قتل الصائل. ولكن الخلاف في إقامة الصلاة إيماء، وذلك لحرمة الصلاة؛ فإن حرمتها باقية، والصائل إن قتل، فهو ساقط الحرمة.
وهذا فيه نظر؛ فإنه إن سقط حرمة الصائل، فحرمة مالك المال غيرُ ساقطة، وهو بملاقاة الصائل مغرّر بروحه، فلا يخرج القول الغريب إلا على ما قاله الأولون، من تقدير قولٍ في أنه لا يجوز الدفع إذا كان يؤدي إلى سفك دم.
والقول على الجملة بعيد مزيّف.
1553 - ومما يتعلق بتفصيل الخوف أن الخوف لا يختص بما يجري في القتال، بل لو ركب الإنسانَ سيل، فخاف الغرق، أو تغشاه حريق، أو سببٌ آخر من أسباب الهلاك، ومسّت الحاجة إلى صلاة الخوف؛ فإنه يصلي، ولا يعيد في هذه المواضع كلها.
فإن قيل: من أصلكم أن الرخص لا يعدى بها مواضعها، ولذلك لم تثبتوا رخص السفر (2) في حق المريض، وإن كانت حاجة المريض أظهر، وصلاة الخوف تثبت في القتال.
__________
(1) حديث: "من قتل دون ماله ... " متفق عليه من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.
(ر. البخاري: كتاب المظالم، باب من قاتل دون ماله، ح 2480، ومسلم: كتاب الإيمان، باب: الدليل على أن من قصد أخذ مال غيره بغير حق، كان الفاصد مهدر الدم ... ح 226).
(2) عبارة (ت 1): لم تثبتوا رخصاً ...

(2/598)


قلنا أولاً: ظاهر القرآن لا تفصيل فيه؛ فإن الرب تعالى قال: {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا} [البقرة: 239].
ثم في هذا تحقيق من الأصول، وهو أنا لا ننكر إجراء القياس في باب الرخص، إذا لم يمنع مانعٌ، والإجماع في منع إجراء رخص السفر في المرض [من أجلّ الموانع] (1)، فلا يمتنع أن نعتقد عدم انحسام القياس الممكن في باب إذا لم يمنع منه أصل.
وذكر الأئمة أن المعسر المديون إذا كان لا يصدقه غريمه في إعساره (2)، ولو أدركه، لحبسه، فله أن يهرب ويصلّي صلاة الخوف، إذا كان يعلم أنه لو صلى أدركه الطالب، وهذا منقاس.
وفي بعض التصانيف أن من عليه القصاص يصلي صلاة الخوف هارباً، وله أن يهرب لرجاء العفو عنه. وهذا قد ذكرته في أعذار الجماعات، وهو بعيد عندي على الجملة، ولعله إن جُوّز، ففي ابتداء الأمر حين (3) يفرض سكون غليل الطالب قليلاً في تلك المدة، وفي مثل ذلك يرجى العفو، ولا شك أن ذلك لا يدوم أبداً في كل حكم ذكرنا فيه عذراً. وإن صح جواز الهرب فيه، فمن ضرورته تصحيح إقامة صلاة الخوف، ولكن الإشكال في جواز الهرب من مستحق الحق، وليس ذلك كالمعسر يهرب؛ فإنّ أداء الدين غير مستحق عليه.
فرع:
1554 - إذا قرب فوات الوقوف، ولو صلى المُحرم متمكناً، لفاتته الحجّة، ولو تسرع، فاتته الصلاة، فهذا عسر في التصوير، ولكن الفقهاء يقدّرون ما لا يدرك حساً، ويُجرون الكلام على التقديرات، كفرضهم مقدار تكبيرة تدرك من آخرِ النهار، وهذا مستحيل في مطّرد العادة، قال شيخي فيما نقله عن القفال: هذا يَحتمل أوجهاً: أحدها - أن يترك الصلاة؛ فإن قضاءها ممكن، وأمر الحج وخطرُ قضائه ليس بالهيّن.
__________
(1) زيادة من (ت 1)، (ل).
(2) (ل): إعدامه.
(3) في (ل) "حيث".

(2/599)


والثاني - أنه يقيم الصلاة في وقتها، ويكل أمر الحج إلى ما يتفق؛ فإن الصلاة تِلْوُ الإيمان، ولا سبيل إلى تخلية الوقت عنها، ولا يسقط الخطاب بالصلاة مع بقاء التكليف.
وقيل: إنه يصلي صلاة الخوف ماشياً؛ ليكون جامعاً بين التسرّع إلى الحج، وبين إقامة الصلاة.
فإن قيل: كيف يتجه هذا والخوف في فوات شيءٍ كالخوف في فوات الكفار إذا انهزموا؟ وقد ذكرنا أنه لا تجوز صلاة الخوف في ركوب أقفيتهم ليدرَكوا؟ قلنا: هذا سؤال مشكل، ولولاه، لقطعنا بصلاة الخوف، ولكن الحج في حكم شيء حاصل في حق المُحْرم، والفوات طارىء عليه، فهو شبيه من هذا الوجه بمالٍ حاصل يخاف هلاكه، لو لم يهرب به.
وهذا لطيف حسنٌ؛ من جهة تحقق الحج في حق المُحرم، مع أن الوقوف عُرضة الفوات، ولم يتحقق بعدُ ملابستُه، وهذا منشأ التردد في المسألة.
فهذا تفصيل القول في الخوف.
فصل
1555 - إذا رأى سواداً فظنه عدواً، فهرب، ثم تبين أنه لم يكن عدواً وإنما كان إبلاً تسرح، أو ما أشبهها، فإذا صلى صلاة الخوف، ثم بان له حقيقةُ الحال، ففي المسألة قولان مشهوران: أحدهما -ولعله الأصح- أنه يقضي؛ فإنه ظن أمراً، ولم يكن كما ظن، وصلاة الخوف نيطت بحقيقة الأمر.
والقول الثاني - أنها لا تُقضى؛ فإن الخوف قد تحقق، وهو مناط الصلاة في نص القرآن؛ فإنه تعالى قال: {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا} [البقرة: 239] وهذا الذي فيه الكلام خائف قطعاً.
وهذا غير سديد؛ فإنه تعالى أراد الخوفَ في القتال القائم على تحقق، والعلم عند الله تعالى.

(2/600)


1556 - ثم ذكر الأئمة صوراً في القولين منها: أنه لو صلى وكان بالقرب منه حِصن يمكنه التحصن به، فلم يره، أو كان بين العدوّ الذين رآهم وبينه حائل من خندق، أو [ماء لا يُخيض] (1) أو ما أشبه ذلك، وهو لم يره.
وكل ذلك يجمعه أنه لو خاف أمراً لو تحقق، لصحت صلاة الخوف معه، ولكن بان أن الأمر على خلاف ما ظنه، ففي صحة الصلاة القولان.
1557 - ثم ذكر الأئمة في تفاصيل ذكر الخوف الاستسلامَ وحكمَه، ونحن نذكر منه قدرَ الحاجة الآن، ونبني عليه غرضَ الباب إن شاء الله تعالى.
وذكر شيخي وغيرُه قولين أن من قصده مسلم في نفسه، فهل يجوز له أن يستسلم للهلاك، ولا يذب عن نفسه؟ أحد القولين: إنه يجب الذب؛ فإن الروح لا يحل بذلُه، والدفع سائغ، [فليجب] (2)؛ فإن الصائل لا حرمة له.
والقول الثاني - يجوز الاستسلام للهلاك، لأخبارٍ صحيحة، منها ما رواه حذيفةُ بنُ اليمان أن النبي عليه السلام قال: "ستكون فتن كقطع الليل، القاعدُ فيها خير من القائم، والقائم خير من الماشي، والماشي خير من الساعي". فقال قائل: لو أدركتُ هذا الزمان فماذا أفعل؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "ادخل بيتك" فقال: لو دخل شيء من ذلك بيتي، فقال: إذا أفرقك شعاعُ السيف، فألق ثوبك على وجهك، وكن عبدَ الله المقتول، ولا تكن عبد الله القاتل"، وفي بعضِ الروايات: "كن خير ابني آدم". يعني هابيل المستسلم المقتول، ولا تكن قابيلَ القاتل (3).
__________
(1) في النسخ الثلاث: "ما لا يختص". وهو من التحريف الخطير الذي يحدث كثيراً من النساخ، بسبب عدم إلف الموضوع وعدم إلف الإملاء الذي كُتب النصّ المنقول به.
والمعنى: "بينه وبين العدوّ ماءٌ لا يخاض" أي لا يُعبر إلا سباحة. وقد صدّقتنا نسخة (ل).
(2) في الأصل، (ت 1): فليجر، والمثبت من (ل).
(3) حديث: "كن عبد الله المقتول، ولا تكن عبد الله القاتل ... " على النحو الذي ساقه إمام الحرمين، مروي عن جمع من الصحابة: عن جندب بن سفيان، وهو عند الطبراني، وعن خباب، وهو عند أحمد، والحاكم، والطبراني أيضاً، وعن خالد بن عرفطة، وعن سعد بن أبي وقاص، وعن أبي موسى الأشعري، وعن أبي ذر، وأخرج الثلاثة أبو داود، وصحّحها الألباني. =

(2/601)


ثم اتفق الأئمة على أنه لا يجوز الاستسلام لكافر من غير فرق بين أن يكون حربياً أو ذمياً؛ فإن الاستسلام للكافر ذلٌّ، وتمكين له من الجناية على الإسلام، وكان شيخي يقول: القولان فيه إذا قصده مسلم مكلَّف يبوء بإثمه، كما ذكره الله تعالى في قصة ابني آدم.
__________
= وواضح من سياقة إمام الحرمين لهذا الحديث، أن إمام الحرمين يعتمد سنن أبي داود، ويرجع إليها؛ فقد ساقه بلفظ أبي داود نفسه، فلعله الكتاب الذي يشير إليه أحياناً بقوله: "وفي الكتاب الذي يرجع إليه".
ولكن ما رواه إمام الحرمين ليس من حديث (حذيفة) بل هو من حديث أبي موسى الأشعري، والرواية الأخرى، هي من حديث أبي ذرّ رضي الله عنهم جميعاًً.
ملحوظة: لعل من حقنا أن نعجب من تحامل ابن الصلاح على إمام الحرمين، ومتابعة الحافظ بن حجر له. جاء في التلخيص عن هذا الحديث الذي رواه إمام الحرمين ما نصه: "حديث حذيفة: "كن عبد الله المقتول، ولا تكن عبد الله القاتل" هذا الحديث لا أصل له من حديث حذيفة، وإن زعم إمام الحرمين في النهاية أنه صحيح، فقد تعقبه ابن الصلاح، وقال: "لم أجده في شيء من الكتب المعتمدة، وإمام الحرمين لا يعتمد عليه في هذا الشأن".
هذا ما ذكره الحافظ في التلخيص عند تخريج الحديث، ولست أدري أئذا استدلّ الإمام بحديث صحيح، وغلط في نسبته إلى الصحابي الذي رواه أيقال له: "هذا باطلٌ لا أصل له"؟ أم يقال: إنه حديث صحيح لكن دخله الوهم في نسبته إلى حذيفة؟، فالفرق شاسع جداً بين "باطل لا أصل له" أي لم يقله رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبين أن يكون الحديث صحيحاً في نسبته إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكن الخطأ في اسم الصحابي الذي رواه؟! ولا يخفف من وقع هذا التعبير وقسوته أنه أكمله أو أتبعه بقوله: من حديث حذيفة، أي "لا أصل له من حديث حذيفة" والحديث رواه حذيفة أيضاً، وإن لم يكن على النحو الذي ساقه إمام الحرمين، وقال عنه الحاكم: صحيح على شرط الشيخين، وسكت عنه الذهبي. (ر. التلخيص: 4/ 84 ح 2145، أبو داود: الفتن، باب النهي عن السعي في الفتنة، ح 4257، 4259، 4261، وصحيح سنن أبي داود: 3/ 802، 803 ح 3581، 3582، 3583، وسنن ابن ماجة: كتاب الفتن، باب التثبت في الفتنة، ح 3958، 3561، وصحيح ابن ماجة: 2/ 355، 356 ح 3197، 3200، وسنن الترمذي: الفتن، باب ما جاء في اتخاذ سيف من خشب في الفتنة، ح 2204، وصحيح الترمذي: 2/ 239 ح 1785، وخلاصة البدر المنير: 2/ 330 ح 2479).

(2/602)


ولو قصده صبي أو مجنون، تعيّن دفعُه، ولم يجز الاستسلام.
وهذا فيه نظر؛ فإن المحذور قتل مسلم، وهذا متحقق في الصبي والمجنون، ولعله أظهر من جهة أنهما لا يأثمان، وليسا كالسَّبُع يصول، فإنه يتعين دفعُه قطعاً؛ إذ لا حرمة له أصلاً. والوجه طرد القولين في الصبي والمجنون.
1558 - ثم إن تمكن المقصودُ المصول عليه من الهرب، أو التحصّن بحصن، فلا يجوز له الاستسلام للهلكة والحالة هذه.
فإذا فرعنا على أن الاستسلام لا يجوز؛ فإن فيه الكفَّ عمن سقطت [حرمتُه] (1) وتعريضَ نفسٍ محترمة للهلاك، فعلى هذا لو تمكن المصول عليه من الهرب، فأبى إلا الوقوفَ، ومصادمةَ الصائل، فهذا فيه احتمال ومنع المصادمة ظاهرٌ؛ فإنه قادر على تنجية نفسه من غير أن يسعى في إهلاك الصائل عليه؛ فليفعل ما ينجيه، ولا يُهلك الصائلَ عليه، ويتطرق إلى جواز المصادمة احتمال؛ من جهة أنه يدفع عن ماله، وإن حلّ له بذلُه، لا (2) لمقابلة المال بالدم، ولكن لسقوط حرمة الصائل.
والظاهر عندي القطع بوجوب الهرب، وتحريم مصادمة المسلم عند إمكان الهرب، فلو فعل هذا، لم يفته شيء، ولو لم يدفع عن ماله، فاته المال، فهذا هو الوجه لا غير.
1559 - والذي يتعلق بصلاة الخوف من ذلك أنا سواء أوجبنا عليه الذبَّ عن نفسه، أو جوزنا له الاستسلام؛ فإنه يصلي إذا اختار المصادمة صلاة الخوف؛ فإنه بين أن يجوز له الدفع، وبين أن يجب.
والذب عن دم الغير وعن الحُرم، في كل ما ذكرته بمثابة ذب الإنسان عن دم
نفسه.
...
__________
(1) زيادة من (ت 1)، (ل).
(2) ساقطة من: (ت 1).

(2/603)


باب ما له لبسه وما ليس له
1560 - ذكر في الباب جواز المبارزة، وهذا من كتاب السيَر، وذكر فصلاً فيما يحل لُبسه، وفيما يحرم لُبسه (1).
وغرض الفصل أنه يحرم على الرجال لُبس الحرير، وهو حلال للنساء، وفي الخبر أنه صلى الله عليه وسلم خرج وعلى إحدى يديه قطعة ذهب، وعلى الأخرى قطعة حرير، وقال: "هما حرامان على ذكور أمتي حل لأناثهم" (2).
فيحرم على الرجال لبس الحرير في حالة الاختيار، والقزُّ من الحرير وإن كان كَمِدَ (3) اللون باتفاق الأصحاب، فيحرم لُبسه على الرجال.
وقال العراقيون في الثياب المنسوجة من الحرير والغزل: إن كان الحرير أكثر، حرُم لُبسه، وإن كان أقل، حلّ؛ فإن استويا في المقدار، فعلى وجهين، وقال شيخي وطوائفُ: النظر في ذلك إلى الظهور؛ فإن لم يظهر من الحرير شيء، لَبسه، كالخز الذي سَداه إبريسم، ولكنه لا يظهر. وإن ظهر الإبريسم، حرمنا اللُّبسَ، وإن كان قدره في الوزن أقل.
__________
(1) ر. المختصر: 1/ 148.
(2) حديث "تحريم لبس الحرير والذهب على الرجال"، روي عن أبي موسى الأشعري، بهذا اللفظ عند الترمذي، وصححه، وروي عن علي بن أبي طالب، عند أحمد في المسند، وأبي داود، والنسائي، وابن ماجة، وابن حبان. (ر. تلخيص الحبير: 1/ 52، 53، 54، ح 51، وأبو داود: اللباس، باب في الحرير للنساء، ح 4057، وصحيح أبي داود: 4322، والترمذي: اللباس، باب ما جاء في الحرير والذهب للرجال، ح 1720، والنسائي: الزينة، باب تحريم الذهب على الرجال، ح 5144، وابن ماجة اللباس، باب لبس الحرير والذهب للنساء، ح 3595).
(3) من كَمِد الشيء يكمَد، كَمَداً: تغير لونه، وكَمِدَ الثوب: أخلق، فتغير لونه. (معجم).

(2/604)


وهذا حسنٌ. ولكن موضع النظر أنه إذا كثر الغزل، فلا بد وأن يظهر مع الإبريسم، وإذا ظهرا جميعاًً، لم تعظم الخيلاء، ولم يُعدّ الملبوس حريراً.
1561 - فإن قيل: فهلا اتبعتم اسمَ الحرير؟ فإنه الذي حرّمه رسول الله صلى الله عليه وسلم، [والعتابي] (1) وإن ظهر، وكثر منه الإبريسم، لا يُعدّ حريراً؟ قلنا: الغزلُ يستعمل في النفيس منه لإقامة الإبريسم، فهو المقصود، وما معه في حكم الاستصلاح له، فإذا كثر، وظهر، فالتحريم قطعاً لا غير.
وإن لم يكن كذلك، ففيه الطريقان: من أئمتنا من راعى المقدار، والصحيح مراعاة الظهور، وإن كان الإبريسم أقل.
1562 - ولو اتخذ الرجل جبة حشوها قزٌ أو إبريسم صافي، والظهارة والبطانة قطن أو كتان، فلا خلاف في جواز ذلك؛ فإنّ الحشوَ ليس ثوباً منسوجاً، وليس صاحبه معدوداً لابسَ حرير.
ولو لبس مبطّنة، وكانت بطانتها حريراً، وكانت الظهارة البادية خزّاً، أو قطناً، فلُبسه حرام، ولا ينبغي أن يُخرَّج هذا على ما سبق في الأواني من فرض إناءٍ من الذهب قد غشي بالنحاس.
وفي هذا سر ينبغي أن ينبه عليه، وهو أن المعنى المعتبر في الأواني الفخر والخيلاء، [وهذا المعنى] (2) ليس يجرى اعتباره في لبس الحرير، والدليل عليه، أنا
__________
(1) في الأصل، (ط): العناني، والمثبت من (ت 1)، و (ل) وآثرناه، لأنه تردد في أبواب البيع الآتية إن شاء ولم أجده في أي من المعاجم التي رجعتُ إليها، ولعله اسمٌ لصنف من الثياب كان معروفاً في عصر إمام الحرمين. ثم قد وجدتُ هذا اللفظَ (العتابي) -بالتاء والباء- في الوسيط، وفي مشكل الوسيط، فتأكد أنه نوع من الثياب، وقد أجهد ابن الصلاح رضي الله عنه نفْسَه، وأطال نَفَسَه في الكلام على أنواع الأنسجة والخلاف بينها، وبين "أنه قد يتوهم أن سَدى كل ثوب مطلقاً أظهر من لُحمته، وأن اللحمة مطلقاً أكثر، وأن ذلك ليس كذلك، بل يختلف باختلاف الصنعة" ثم أشار إلى أن الصحيح عند إمام الحرمين مراعاة الظهور، وعند الغزالي أن الأرجح مراعاة اللون، وقال: "هذا أصح، وإليه ذهب أكثر الأصحاب" ا. هـ (ر. الوسيط: 2/ 320، 321، ومشكل الوسيط بهامشه في الموضع نفسه).
(2) مزيدة من (ت 1)، (ل).

(2/605)


لما اعتبرنا في الأواني الفخرَ، أجريناه في الجواهر النفيسة، على تفصيلٍ قدمناه، وقد تتحقق النفاسة في غير الإبريسم من الأجناس.
وقد ينقدح للناظر أن يقول: ما عدا الإبريسم ترتفع قيمتُه بالصنعة، فهو كالأواني التي قيمتُها في صنعتها. وفيه نظر، ويعضد ما ذكرناه أن الثوب الذي بطانته [حرير] (1) يحرم لبسه على الرجل، وإن كان لا يبدو الحرير للناظرين، فكأن الفخرَ، وإن كان مرعياً في الحرير، فينضم إليه أنه رفاهية وزينة، في خَنَثٍ وإبداء زي، يليق بالنساء دون الرجال، والذي تقتضيه شيمة الشهامة من الرجال اجتنابُه.
والمعتمد مع ذلك كله الحديثُ دون المعنى. وإنما الذي نذكره [لضبط] (2) حدودِ المذهب، وتخريج مسائله.
وكان شيخي يروي أنه كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم فرُّوج (3) حرير، وكان يفسر ذلك بالثوب المطرف بالحرير، كالفراء وغيرها. ثم كان يقول: هذا على شرط الاقتصار على التطريف. ومجاوزة العادة، وتعدِّي الطرف انتهاءٌ إلى السّرف، فيحرم إذ ذاك.
والقول في ذلك يلتفت على تضبيب الأواني بالفضة، غير أنا راعينا الحاجة ثَمَّ في بعض التفاصيل، ولسنا نرعاها هاهنا.
1563 - وبالجملة القول في لُبس الحرير أهونُ من القول في الأواني، فليفهم الناظر ذلك، ولهذا لم يحرم على النساء لُبس الحرير وإن حرم عليهن استعمال الأواني الفضية، وبين الاعتياد في التطريف، وبين مجاوزته قليلاً إلى السرف الذي لا يشك فيه مجالٌ للنظر.
__________
(1) مزيدة من (ت 1)، (ل).
(2) في الأصل، و (ط): الضبط.
(3) حديث الفروج .. متفق عليه، من حديث عقبة بن عامر، لكن تمامه، أنه صلى الله عليه وسلم، "لبسه، فصلى فيه، ثم انصرف، فنزعه كالكاره له. وقال: لا ينبغي هذا للمتقين" (ر. اللؤلؤ والمرجان: اللباس والزينة، باب تحريم استعمال إناء الذهب والفضة ... ح 1344).

(2/606)


ولست أدري أن الغالب في الباب التحريم، حتى يقال في مظان الإشكال يستديم التحريم إلى ثبوت محلل، أم الغالبُ الإباحة حتى يثبت مُحرِّم، وظاهر قوله صلى الله عليه وسلم: "هما حرامان" يوضح أن الغالب التحريم، ثم الثَّبَت الذي نشترطه ليس قاطعاً، بل غلبة الظن كافية؛ فإنا نبيح الدمَ، والبُضع بغلبات الظنون.
1564 - ومما نذكره أن شيخي كان يقول: كما يحرم على الرجال افتراش الحرير، فكذلك يحرم على النساء؛ فإن هذا من السرف المجاوز للحد، وكان يشبّه هذا باستعمال الأواني الفضية، وظاهر كلام العراقيين دليل على أنه لا يحرم عليهن افتراش الحرير؛ فإن الفخر في ذلك قريب، وقد أجاز أبو حنيفة -فيما أظن- (1) للرجال افتراشَ الحرير، وهوَّن الأمر في ذلك.
1565 - ومما يتعلق بما نحن فيه أن الصبيان هل يجوز أن يُلبسهم القُوَّام الحرير؟ كان شيخي يتردد فيه، ويميل إلى المنع لتغليظٍ فيه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
وفي بعض التصانيف القطعُ بجواز ذلك، وهو منقدحٌ على المعنى الذي نبهنا عليه؛ فإنه يليق بالأطفال، قريب من شيم النساء في الانحلال المناقض للشهامة.
1566 - وظاهر كلام الأئمة أن من لبس ثوباً ظهارته وبطانته قطن، وفي وسطه حرير منسوج، لم يحرم. وفيه نظر من طريق الاحتمال والنقل والله أعلم.
1567 - ثم مما نذكره في ذلك أن الرجل إذا فاجأه قتالٌ، فلم يجد إلا حريراً، لبسه، وهذا في حكم الضرورة، وفي الحديث ما يدل على أن نهاية الضرورة في ذلك لا تشترط؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص لحمزة في لُبس الحرير لحكةٍ كانت به (2)، هكذا رواه الصيدلاني، وهذا ينبه على قُرب الأمر في ذلك.
__________
(1) الأمر كما قال إمام الحرمين، ففي متن تنوير الأبصار: "ويحلّ توسّده (الحرير) وافتراشه" وكذا في متن المختار، وشرحه الاختيار. (ر. حاشية ابن عابدين: 5/ 226، والاختيار: 5/ 158).
(2) حديث الترخيص في لبس الحرير بسبب الحكة، متفق عليه من حديث أنس، وأن الترخيص كان لعبد الرحمن بن عوف، والزبير بن العوّام، وليس لحمزة. (ر. اللؤلؤ والمرجان: =

(2/607)


ولم يخصص الصيدلاني تجويزَ ذلك بالمسافر. وذهب بعض أصحابنا إلى أن ذلك إنما يجوز في السفر، فإذا انضمت حكة إلى السفر المُلهي عن التفقد (1)، وقد قيل: الحرير لا يَقْمَل (2)، فلا بأس. فأما المقيم، فلا يفعل ذلك. والمسألة محتملة، وحديث حمزة مطلَقٌ.
وسنذكر طرفاً من الكلام في ألوان الملابس في كتاب صلاة العيدين إن شاء الله.
فأما تفصيل القول فيما يتحلى به الرجال والنساء، فسيأتي في باب الحلي من باب الزكاة. إن شاء الله تعالى.
فصل
1568 - مما ذكره في الملابس ما قدمته في باب الطهارة، ولكني أعيد الاستقصاء بطرفيه، فقد نص الشافعي على أنه يحرم لُبس جلد الكلب والخنزير، ويجب اجتنابهما لما خُصَّا به من التغليظ، ولا يجوز أن يُلبسه فرسَه أيضاً، والتصرف [فيه] (3) بهذه الجهات محرّم. ولو أراد أن يُلبس كلباً جلدَ كلب، فالظاهر الجواز. وفيه نظر. من جهة أن التصرف فيه، واقتناءه، يخالف ما نأمرُ به من اجتناب ملابسته.
وكان شيخي يذكر خلافاً في جواز لُبس سائر الجلود النجسة إذا لم تُدبغ، ويجوّز لُبس الثوب النجس، ويفرّق بأن الجلود نجسة في أعيانها؛ فكان الحكم أغلظ فيها، وفي كلام الصيدلاني ما يدل على أن استعمال النجاسة في البدن لا يجوز في الاختيار.
وأما استعمالها في غير البدن كالاستصباح بالزيت النجس، ففيه خلاف، وكان يحرّم ملابسة النجاسة من غير حاجة، وعليه وقع بناء منع البيع، وإن كان من
__________
= اللباس والزينة، باب إباحة لبس الحرير للرجل إذا كان به حكة أو نحوها، ح 1345، وقد أشار الحافظ في الفتح، إلى أنهم غلطوا من قال: إن الرخصة كانت لحمزة، (وهو الغزالي في الوسيط). (ر. فتح الباري: 10/ 296).
(1) التفقد: المراد تفقد الرجل ثوبه، لإزالة ما به من الهوام.
(2) (ل): يعمل.
(3) زيادة من (ت 1)، (ل).

(2/608)


النجاسات ما ينتفع به؛ فإن ملابسته تخالف ما أمرناه به، ولهذا منعنا بيع الكلب وإن كان منتفعاً به، وحرمنا أكل كل نجس من غير ضرورة، والاستصباح؛ من حيث لا يمس بدن الإنسان، خُرِّج على الخلاف.
فأما تزبيل الأرض بالزبل، فلم يمنع منه أحد؛ لأنه في حكم الضرورة، والحاجة الحاقة، ولم يزل الناس عليه، ونقله الأثبات عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم (1) ونهاية الضرورة في ذلك ليست مشروطة، فهذا تمام ما أردناه.
...
__________
(1) "رواه البيهقي من حديث سعد بن أبي وقاص، وروي عن ابن عمر خلاف ذلك عند الشافعي، وأسنده عن ابن عباس بسندٍ ضعيف" ا. هـ. بنصه من التلخيص: 2/ 78.

(2/609)