نهاية المطلب في دراية المذهب

كتاب اللقطة
5952 - الأصل في أحكام اللقَطة ما روي عن زيد بن [خالد] (1) الجهني: " أن رجلاً أتى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فسأله عن اللقَطة، فقال: اعرف عِفاصها ووِكلاءها، ثم عرّفها سنة، فإن جاء صاحبها، وإلا فشأنك بها. فقال السائل: ما تقول في ضوالّ الغنم يا رسول الله؟ فقال: هي لك، أو لأخيك، أو للذئب، فقال: ما تقول في ضوالّ الإبل؟ قال: فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى احمرَّت وجنتاه، فقال: مالَكَ ولها، معها حذاؤها، وسقاؤها، ترد الماء، وتأكل الشجر؛ ذَرْها، حتى يلقاها ربُّها ".
نقل المزني أول الحديث، ثم عطف عليه، وقال: وكذلك البغال، والحمر كالإبل، ولم يَجْر ذكر الإبل (2).
5903 - واتفق المسلمون على قاعدة الكتاب وإن اختلفوا في التفصيل، والأصلُ أن من وجد لقطة في مضيعةٍ في دار الإسلام، وأخذها- عليه أن يعرّفها سنة، فإن جاء صاحبها في سنة التعريف، فذاك، وإلا فهو بالخيار بعدها بين أن يحفظها أمانةً على مالكها، وبين أن يتملكها، على شرط العوض، تملُّك القروض.
وذهب داود إلى أنه يتملكها، ويغرَم عوضها.
5904 - ثم إذا رام الملتقط التملكَ، وكان التقاطُه على هذا القصد ابتداءً، فقد اختلف أصحابنا فيما يقع به ملك الملتقط في اللقطة: فذهب بعضهم إلى أن الملك يحصل بنفس مضي السنة. وهذا غريبٌ ضعيف.
__________
(1) في نسخة الأصل وغيرها: "زيد بن أسلم" وهو وهمٌ توارد عليه النساخ، وسيذكره الإمام على الصواب بعد ذلك. والحديث متفق عليه. (ر. اللؤلؤ والمرجان: 433، ح 1123).
(2) ولم يجر ذكر الإبل أي في الجزء الذي ذكره المزني من الحديث.

(8/445)


وقال بعضهم: يحصل الملك بانقضاء سنة التعريف، وقصد التملك.
وقال بعضهم: لا بد من التلفظ بالتملك.
وقال بعضهم: لا بد من مضي السنة، ولفظِ التملك، والتصرفِ الذي يزيل الملك.
وهذا يقرب من الخلاف المذكور في أن المستقرض هل يملك القرض بنفس الإقراض والقبض، أم يتوقف حصول ملكه على تصرفٍ منه مزيل للملك، (1 ثم يَبين أن الملك انتقل إليه قبيل التصرف؟ فيه اختلافُ قولٍ، قدّمنا ذكره في أحكام القروض 1).
ونحن نوجه هذه الوجوه، ثم نذكر حقائقها، وما ينشأ منها: أما من صار إلى أن مضي السنة يُثبت الملك، فإنه يستدل بما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في بعض الروايات: " فإن جاء صاحبها، وإلا فهي لك ".
ومن قال: إن الملك يحصل بالقصد، تعلّق بالرواية المشهورة، فإنه صلى الله عليه وسلم قال: " فإن جاء صاحبها وإلا فشأنك بها " وهذا ظاهر في التخيير بين التملك وتركِه.
ومن اعتبر اللفظ، بناه على استبعاد التملك بمجرد النية.
ومن اعتبر التصرف، خرّجه على قاعدة القرض؛ فإن اللقطة تملّك ملك القروض.
هذا بيان الأوجه، وذِكرُ ما يستند إليه كل وجهٍ.
5905 - ونحن نقول بعد ذلك: من زعم أن الملك يحصل بمضيّ سنة التعريف إنما يقول ذلك إذا لم يقصد الملتقط حفظَ اللقطة على مالكها، فإن التقط على هذا القصد وعرَّف لهذا، فلا شك أن مضيَّ السنة لا يثبت له الملك. وكذلك لو قصد بالالتقاط التملك، ثم تغير قصدُه في آخر السنة، فانقضت وهو على أن يحفظها لمالكها، فالملك لا يحصل بانقضاء السنة.
__________
(1) ما بين القوسين سقط من (د 1)، (ت 3).

(8/446)


ولو التقط ولم يخطر له قصد التملك، ولا قصد الحفظ على حكم الأمانة، وعرّف سنة، فالظاهر عندي أن الملك لا يحصل بانقضاء السنة على هذا الوجه الذي نفرع عليه، وكأن حقيقة هذا الوجه تؤول إلى أن قصد التملك في الابتداء هل يفيد الملك عند انقضاء [سنة] (1) التعريف، وللاحتمال مجال فيه، إذا التقط مطلقاً، ولم يضمر الأمانة، ولا التملك.
ويمكن تخريج هذا على أن الغالب على اللقطة الكسبُ، أو الأمانة؟ حتى إن غلَّبنا الكسبَ، حصَّلنا الملك بمضي السنة على هذا الوجه، إذا لم يقصد الأمانة، ويكفي قصد الالتقاط على الإطلاق، على هذا القول.
هذا بيان وجهٍ واحدٍ.
5956 - فأما من شرط قصد التملك، واكتفى بالقصد؛ فإنه لا يجعل للقصد المقترن بالالتقاط أثراً في الملك؛ فإن الملتقِط وإن قصد التملك بعد السنة، فاللقطة أمانة في يده إذا لم يتعدَّ، ولو ثبت حكم القصد، لكانت اللقطة مضمونة ضمان [الغصب، والمأخوذ] 2) على سبيل السوم. والذي يحقق ذلك أن القصد هو الذي يتعلق بالمقصود في حاله، وما يرتبط بمنتظرِ عزمٍ، وإذا عزم، فعليه الوفاء به إن أراد تحقيق المعزوم عليه. ومن الوفاء به أن يجزم قصد التملك في وقت إمكانه.
5907 - ومن اعتبر اللفظ فسببه أن تملك ملك الغير من غير لفظ إذا لم يكن استيفاءً [لحقٍّ] (3)، لم ينفرد باللفظ من غير تمليكٍ من مالك اللقطة؛ إذ على هذا ينبني (4) الكتاب، ومصلحة الباب، فإذا شرطنا اللفظ بالتملك، فباع اللقطة، فهل يكفي البيع؟ وهل ينزل منزلة لفظ التملك؟ فيه وجهان مبنيان على الوجهين في أن من يثبت له حق الرجوع في الهبة لو باع الموهوبَ، أو أعتقه، فهل ينزل ذلك منزلة التصريح بالرجوع، وفيه خلافٌ قدمناه.
__________
(1) في الأصل: زمن.
(2) عبارة الأصل: ضمان العين المأخوذة على سبيل السوم.
(3) في الأصل: (بحق) و (د 1)، (ت 3): الحق. والمثبت اختيار منا.
(4) (د 1)، (ت 3): مبنى.

(8/447)


وإن كنا نكتفي بقصد التملك، فباع، فإن خطر له قصد التملك، فهو المراد، وإن باع، ولم يخطر له قصد التملك، وقد ينبني الأمر على بيعه مال غيره متعدياً، فهذا أيضاً يخرّج على الوجهين المذكورين الآن، إذا اشترطنا التلفظ بالتملك.
5908 - فأما اشتراط التصرف تخريجاً على أحد القولين في القرض، فإنه يدور على الأوجه الثلاثة التي قدمناها، فكأنا في وجه نقول: مضي السنة كالاستقراض، وفي وجهٍ نقول: قصد التمليك كالاستقراض، وفي الثالث نقول: التلفظ بالتملّك بعد السنة كالاستقراض، ثم في القرض إذا حصل فيه ما يشترط في تحقيق القرض قولان في أن الملك هل يفتقر إلى التصرف أم لا؟ هذا بيان الأوجه التي قدمناها، توجيهاً، وتحقيقاً، وتفريعاً.
فصل
في أحكام الملتقِط عند اختلاف قصوده، وفي حقيقة التعريف ومدته
5909 - فنقول للملتقط قصودٌ: أحدها - أن يقصد بالالتقاط التعريفَ والتملكَ.
على مقتضى الشرع.
والثاني - أن يقصد حفظَ اللقطة على ربِّها إلى أن يصادفه.
والثالث - أن يقصد تغييبَ اللقطة، واختزالَها (1)، وتَرْكَ تعريفها، وتعجيلَ التبسط فيها.
5910 - فأما إذا قصد تعريفها ليتملكها بعد مدة التعريف، فاللقطة في سنة التعريف أمانة في يده، إذا تلفت، لم يضمنها، ما لم ينتسب إلى عدوان، وهل عليه الابتدار إلى التعريف كما (2) تمكن من التعريف؟ فعلى وجهين ذكرهما الشيخ أبو علي: أحدهما - أن الابتدار واجبٌ، والتأخير مع التمكن عدوانٌ، وذلك لأن العثور على
__________
(1) اختزالها: خيانتها، أي أخذها خيانة، يقال: اختزل الوديعة: أي خانها (المصباح).
(2) "كما": بمعنى عندما.

(8/448)


المالك يغلب على قربِ العهد بالضلال والالتقاط، والتأخير سببٌ في التَّعْمية، والتغييبُ، وكَتْمُ اللقطة عدوان.
والوجه الثاني - أن التأخير لا يكون عدواناً إذا لم يقصر في الحفظ، ولم يتعدَّ باستعمال اللقطة، والشرط ألا يطمع في التملك إلا بعد تعريف اللقطة سنةً كاملة، وسنعقد على أثر هذا فصلاً في كيفية التعريف، إن شاء الله عز وجل.
5911 - فأما إذا قصد الملتقط حفظَ اللقطة على مالكها، أمانة حتى يلقاها ربُّها، فقد ذكر الشيخ أبو علي وجهين في أنه هل يجب أصل التعريف على الملتقط؟ أحد الوجهين - أنه لا يجب؛ فإن التعريف شرطٌ يتقدم على تملك اللقطة، فإذا كان لا يبغي الملتقط التملكَ، فلا معنى لإلزامه التعريفَ.
والوجه الثاني - أنه يجب التعريف؛ إذ في تركه كتمانُ اللقطة وسترُها، وهذا تسبب إلى تَغْييبها، للحيلولة بينها وبين مالكها.
وهذا الذي ذكره هو الخلاف الذي قدمناه الآن في أن الابتدار إلى التعريف هل يجب؟ فإنا إذا لم نوجب الابتدارَ إليه، لم يكن (1) لذلك منتهىً وموقفاً، ويؤول حاصل الكلام إلى أنه إنما يعرّف ليتملك، فإذا كان الذي يقصد الأمانةَ لا يطلب التملك، فلا تعريف عليه.
5912 - فأما إذا قصد بالالتقاط الاختزالَ، والخيانةَ، وتعجيلَ التبسط، فلا شك أن اللقطة مضمونةٌ عليه؛ فإن الالتقاط أَخْذُ مال الغير من غير إذنٍ، ولا ولاية، فصرفه الشرعُ؛ نظراً لحفظ الضوالّ- إلى جهة الأمانة بالقصد الصحيح، فإذا فسد القصد، رجع أخد مال الغير إلى قاعدة الظلم، فلو خطر له أن يعرّفها سنة، فوفى بما وقع له، وأراد التملك بعد السنة، فالذي قطع به شيخي أنه لا يتملك؛ لأن أخذه الأول لم يكن على موجَب الشرع، وإنما كان غصباً، والغاصب لا يتوصّل إلى ملك المغصوب منفرداً بنفسه.
__________
(1) (د 1)، (ت 3): يذكر.

(8/449)


وذكر الشيخ أبو علي وجهين في أنه هل يتملك إذا عرّف، ووفى بشرط التعريف: أحدهما - ما ذكرناه.
والثاني - أنه يتملك [لأن] (1) الالتقاط منه على صورة الالتقاط، ممن لا يقصد الخيانة، وقد وفى بالتعريف، فالذي صدر منه مما يقتضي التملك على الجملة، وهو من أهل التملك، فيجب أن يسوغ له التملك.
5913 - ومما يتصل بذلك أنه إذا لم يقصد الاختزالَ عند ابتداء الالتقاط، ويُثبت يدَه على اللقطة على حكم الأمانة أولاً، ثم إنه أضمر بعد حصول اللقطة في يده- الخيانةَ، فقد اختلف أئمتنا في أنه بنفس إضمار الخيانة هل يصير ضامناًً؟ فمنهم من قال: إنه يصير ضامناً، كما لو نوى الخيانة مع الالتقاط، ومنهم من قال: لا يصير ضامناً، كما لو نوى المودَع أن يخون ويعتدي، فإنه لا يصير بمجرد النية ضامناً، وإن أضمر الخيانة.
ولو سلم المالكُ الوديعةَ إلى المودَع وائتمنه، فنوى المودَع مع أخد الوديعة الخيانة، ففي وجوب الضمان عليه وجهان، سيأتي ذكرهما، في كتاب الوديعة، إن شاء الله عز وجل، فالترتيب في المؤتمن عن جهة المالك يجري على الضِّد مما ذكرناه في الملتقط؛ فإنه لو اقترن قصدُ الخيانة بأخذ الملتقط ابتداء، لصار ضامناً وجهاً واحداً، وإذا لم يفسد قصده ابتداء، وخبثت نيته على دوام الإمساك، ففي المسألة وجهان، والقصد الفاسد إذا طرأ على دوام يد المودَع، لم يوجب الضمان، وإذا اقترن بابتداء أخْذه، فوجهان. والفرق استبدادُ (2) الملتقط، وصدورُ يد المودَع عن إذن
المالك.
5914 - فإن قلنا: لا يصير الملتقط بالقصد الطارىء ضامناً، فلا كلام.
وإن جعلناه ضامناً، فلو استتم التعريف في مدته، فهل يثبت له حق التملك؟ فعلى
__________
(1) في الأصل: بأن.
(2) (د 1)، (ت 3): استقلال.

(8/450)


وجهين ذكرهما الأمام (1) وغيره، وإن قطع بأن الملك لا يحصل إذا اقترن القصد الفاسد بالأخد الأول.
فأمّا الشيخ أبو علي، فإنه طرد -على وجه الضمان- الخلافَ الذي ذكره في الابتداء، وفصل شيخي بين الابتداء والطريان، وكان يستشهد بنص الشافعي في أحكام الرخصة، فإنه قال: " لو اقترن بابتداء السفر قصدُ المعصية به، فلا ترخّص، ولو جرى السفر ابتداء على قصدٍ صحيح لا معصية فيه، ثم طرأ قصدُ المعصية، فالحكم للقصد الأول ".
وهذا الذي ذكره من مشكلات المذهب في موضعه، ولأجله اتجه تخريج ابن سريج في التسوية بين المعصية المقارنة، والطارئة. ثم ما ذكره إنما يحسن في الفرق بين الابتداء وبين الطريان في تثبيت الضمان ونفيه، كما ذكرناه.
5915 - ومما يتم به الغرض أنا إذا قلنا: لا تزول الأمانة بالقصد الطارىء، فلو أحدث عدواناً فعلاً، فلا شك أنه يصير ضامناًً، فلو وفى -مع ثبوت الضمان وفاقاً- بحق التعريف، ففي التملك الوجهان، اللذان ذكرناهما.
فهذا غاية ما أردناه في ذكر تفاصيل القصود.
5916 - ولو التقط مطلقاً ولم يُضمر خيانة، ولا أمانة، أو أضمر أحدهما، ثم نسي ما أضمره، فلا يثبت الضمان، وإذا عرّف على الشرط، ثبت له حق التملك.
وهذا متفق عليه.
فصل
معقود في معنى التعريف وكيفيته، والقول في ذلك ببيان زمان التعريف ومكانه وكيفيته
5917 - فأما القول في الزمان، فينبغي أن يحصل التعريف على تدانٍ من الأزمنة في ابتداء الأمر، لما أشرنا إليه فيما سبق، من أن طلب من أضل شيئاً يظهر ويكثر، على
__________
(1) الإمام: يعني به والده. وقد صرّح بذلك في زكاة الفطر. وهو يعبر عنه غالباً: بـ (شيخي)، كما هو واضح على طول الكتاب.

(8/451)


قرب الزمان، فيجب أن يكون الاعتناء بالتعريف في الزمان القريب أكثرَ، لذلك؛ فإن الغرض من التعريف التسبب إلى إظهار مالك اللقطة. وإذا تمادى الزمان، لم يضر أن يتقاصر قدرُ التعريف، ويتخلل بين النُّوب فيه من الزمان ما يزيد على الابتداء، ثم كذلك على هذا التدريج إلى انقضاء السنة، حتى لو كان يعرّف في الابتداء في كل يومٍ فإذا انقضت أيامٌ، فيعرّف في كل أسبوع، ثم يعرف في كل شهر المرةَ والمرتين.
والرجوع في ذلك إلى العادة، والمطلوب منه ألا يتخلل بين [نوب] (1) التعريف ما يُلحق سائرَ النوب فيه بالمنسي (2)، حتى يصير التعريف في كل نَوْبة كالمبتدأ، فإذا غلب على الظن اتصالُ الذِّكر في نُوب التعريف، فهو الغرض، وذلك يختلف بالزمان الأول وما بعده، إلى الانقضاء، فلا بد من تأكيد التعريف بالتكرير على التقارب أولاً، فإذا تأكد ذلك، وشاع، لم يتبين بالتطاول في المدد [المتخلّلة] (3) وهكذا إلى الانتهاء. وإذا لم يكن معنا ضبط شرعي نقف عنده، فهذا أقصى الإمكان في التقريب. وهو القول في الزمان.
5918 - فأما المكان فإن وجد اللقطةَ في مكان عامرٍ، كالبلدة، والقرية، وكان لا يمتنع شهود مالك اللقطة في المكان أو عَوْدُه إليه بعد مفارقته إياه، فينبغي أن يرتاد التعريف في مكان الوجدان، إذا كان مطروقاً. وحسنٌ أن يرتاد التعريفَ على باب الجامع، يومَ الجمعة، فإن ذلك المجمع جامعُ الجماعات، وإذا ظهر الغرض في مثل هذا أغنى عن التطويل.
5919 - ولو وجد اللقطة في برّيّةٍ وهو مارٌّ، في سفره إلى صوب بيته، ولم يكن معه من يقدِّره مالكَ اللقطة، فلو أخد يعرّف في الصحارى والمواضع الخالية، فلا معنى لهذا التعريف، وهو غير معتدٍّ به؛ فإنه لا يفيد الغرضَ المقصودَ من التعريف؛ فإن المقصود منه إظهار المالك، وهذا بعيد توقُّعه مع هذا التعريف.
__________
(1) في الأصل: " ثوب " وهكذا في كل موضع وردت فيه. والمثبت من (د 1)، (ت 3).
(2) (د 1)، (ت 3): بالمنشىء.
(3) في الأصل المنحلة. وهو تحريف ظاهر.

(8/452)


5920 - ثم من وجد لقطةً في طريقه، وهو مسافر، لم نكلفه أن يرجع عن صوب سفره حتى يعرّف اللقطة في مكانه الذي أنشأ السفر [منه] (1)، بل يستتم سفره، طال أم قصر. فإذا انتهى إلى مقصوده، ابتدأ التعريفَ فيه، على ما ذكرناه؛ فإنه لا يبعد مسير صاحب اللقطة إلى تلك البلدة. وإن كان هذا التعريف يبعد بعض البعد في إظهار المالك. فإذا كنا لا نجد طريقاً غيره، اكتفينا به.
ولو بدا للمسافر أن يرجع، ويقطع نيّته في منتهى سفره، فليعرّف في المكان الذي ينتهي إليه، وإن بدا له أن يأخد صوباً آخر، فليعرّف حيث ينتهي إليه؛ فإن البقاعَ متساويةٌ في توقّع الظهور على مالك اللقطة.
ولو وجد اللقطة في بلدة، ففارقها مسافراً وأخد يعرّف في القرى، والبلاد التي ينتهي إليها، فلا يكون ذلك تعريفاً منه، وحق التعريف في مثل هذه الصورة أن يتخصص بمكان الوجدان.
فلو أراد سفراً، لم يسافر باللقطة، واستناب في التعريف في مكان الوجدان نائباً والذي ذكرناه من استواء الأمكنة والبقاع في تعريفه فيه إذا وجد اللقطة في مكانٍ لا يفيد التعريف فيه.
5921 - ومما يتعلق بتمام البيان في ذلك أن الموالاة على الحدّ اللائق بمقصود التعريف- مشروطةٌ، حتى لو تقطعت، وغلب على الظن أن النوبة السابقة قد نُسيت، فلا يقع الاعتداد بما تقدم أصلاً.
5922 - ولو أخر التعريف، فقد ذكرنا في أنه هل يكون بتأخيره ضامناًً؟ فعلى وجهين. فلو تمادى التأخير، وأمكن أن يقال: نُسيت اللقطة في طول هذا الزمان، فهل يقع التعريف بعد ذلك- والحالة كما وصفناها؟ فعلى وجهين. والاحتمال فيهما ظاهر، وتوجيههما بيّن.
ْومن يصير إلى التعريف يقول: حق المعرّف أن يؤرخ وجدان اللقطة في تعريفه،
__________
(1) ساقطة من الأصل.

(8/453)


ويسنده إلى الوقت الذي اتفق فيه، حتى يكون ذلك في معارضة ما جرى من التأخير المُنسي. وقد تساهل بعضُ الأصحاب في اشتراط ذلك، ورآه من باب الأوْلى، وجوّز الاقتصار على التعريف المطلق.
هذا بيان ما يتعلق بالمكان والزمان.
5923 - ولا يخفى أن ابتداء مدة التعريف من وقت [إنشائه، لا من وقت] (1) وجدان اللقطة. وما أجريناه في أثناء الكلام من تأخير التعريف، والأمر بالبدار إليه يصرح بهذا.
5924 - وقد بقي علينا الكلام في كيفية التعريف، فحقّ المعرِّف أن يصف اللقطةَ بعضَ الوصف؛ فإن الضوالّ قد تكثر، والغرض القربُ من إظهار المالك، وتنبيهه، وإذا لم يذكر المعرف بعضَ أوصاف اللقطة بعُد التعريف عن فائدته، سيّما إذا كثر المنشدون (2)، وازدحم المعرّفون في الضوالّ، ولا ينبغي أن يتناهى في وصف الضالة؛ فيتخذه الكاذب عمدته، ويصف اللقطة به.
واختلف أصحابنا في أنا هل نشترط التعرّض لبعض البيان أم يكفي الإنشاد المطلَق في الضالة؟
فمنهم من جعل بعض البيان مأموراً به ندباً، ولم يشترطوه.
ومنهم من شرطه.
وتوجيه الخلاف يقرب من مقصود التعريف نفياً وإثباتاً، فالشارط يدّعي سقوط فائدة التعريف، ومن لا يشترط يقول: صاحب اللقطة يحرص على طلبها، فيكفيه الإنشاد المطلق. ومن قال بالوجه الأول يقول: ربَّ شخصِ يضل شيئاً، ولا يدري أنه أضلّه، فإذا ذكر في الإنشاد جنسه أفهمه ذلك الإضلالَ، فيطلب بعد ذلك، ويبحث.
ومن شرط من الأصحاب التعرض لبعض البيان أجرى ذكر الجنس.
__________
(1) ساقط من الأصل.
(2) المنشدون: جمع منشد، من أنشد الضالة، إذا عرّفها، ودلّ عليها. (المعجم). فالعطف هنا عطف بيان.

(8/454)


وما عندي أن هذا المقدار [من البيان] (1) يختص بذكر الجنس، بل لو وصف العِفاص والوكاء، والظرف، كفى، والحديث دالٌّ عليه، فإنه صلى الله عليه وسلم قال: " اعرف عفاصَها ووكاءها، وعرَّفها سنة " وهذا منه صلى الله عليه وسلم إيماءٌ إلى ذكر العِفاص، والوكاء في التعريف.
5925 - فإذا نجز ما يتعلق بالتعريف، فإنا نقول بعده: ليس على الواجد أن يتولى التعريف بنفسه، وله أن يستنيب فيه متبرِّعاً أو مستأجَراً، وإذا مست الحاجة إلى مؤونة في التعريف، فقد أطلق العراقيون أن مؤونة التعريف على الملتقط، واعتلّوا بأن التعريف ذريعةٌ إلى التملك، والسبب الذي به يحصل الملك في اللقطة، فكأنه يسعى لنفسه. وهذا الذي ذكروه ليس على ما أطلقوه، فإن كان الالتقاط على قصد الحفظ للمالك، فهذا يتفرع على ما قدمناه من الوجهين في أن التعريف هل يجب على مثل هذا الملتقط؟ فإن أوجبناه، وقصدُه الأمانة، فيبعد أن نُلزمه مؤونةَ التعريف، والحالة هذه، والوجه أن نطلق له رفع الأمر إلى الحاكم، حتى يقترض على صاحب اللقطة، أو [يأذن للملتقط على تفاصيلَ] (2) قدمناها في هرب الجمال. ثم تكون المؤونة في التعريف محسوبة على رب اللقطة؛ فإن هذا تسبّبٌ إلى إيصالها إليه.
وإن لم نوجب على من لا يبغي التملك التعريفَ، فلا تُحسب المؤونة على صاحب اللقطة، ويقدر التعريف تبرعاً منه. وما يتبرعّ به الأمين لا يرجع به.
هذا إذا قصد الأمانة.
5926 - فأما إذا قصد التملك بعد التعريف على النظام الشرعي، فما قطع به العراقيون من إيجاب المؤونة على الملتقط فيه متسع لمجال (3) النظر؛ فإن التعريف في حاله تشوفٌ إلى إظهار المالك ليردّ اللقطة عليه، والتملك يقع بعد اليأس المظنون من العثور على مالك اللقطة، فالقول في المؤنة محتملٌ على قياسنا، حيث يبغي التملك.
__________
(1) ساقط من الأصل.
(2) عبارة الأصل حرفت هكذا: أو بإذن الملتقط، على تفصيل.
(3) (د 1)، (ت 3): في مجال النظر.

(8/455)


ثم إذا تعيّن الفصل بين أن يقصد الأمانةَ والحفظَ على المالك، وبين أن يقصد التملك، فلو قصد الأمانة أولاً، ثم بدا له أن يتملك، فيجب أن يكون النظر إلى العاقبة، وإلى ما يستقر عليه منتهى الأمر.
فإن اطردت الأمانةُ والقصدُ إليها، فلا مؤونة على المعرِّف، وإن تملك خرّج في المؤنة مما ذكره العراقيون، مع احتمالٍ ظاهرٍ فيه، كما نبهنا عليه.
5927 - ثم إذا جاء من يدّعي اللقطة ووصفها، وأغرق في الوصف، ولم يغادر مما يُطلب في مقصود الباب شيئاً، فالذي ذهب إليه معظم الأصحاب، وإليه ميل النص أنه لا يجب على الملتقط تسليمُ اللقطة إلى واصفها، فإنه لا يبعد أن يكون مودَعاً فيها، أو مطلعاً عليها، محيطاً بأوصافها من غير أن يكون مالكها، فإذا أمكن ذلك، فلا وجه لإيجاب الرد بناء على مجرد الوصف.
5928 - وذهب طوائف من أئمتنا إلى أنه يجب الرد بالوصف، وهو اختيار الشيخ أبي حامد فيما أظن.
والسْاهد لذلك أن الرد جائز تعويلاً على الوصف، وما يجوّز الرد يوجبه؛ إذ (1) لو لم يكن الوصف معتمداً، لبطل التعويل عليه في جواز الرد، وأيضاً فإنّ طلب الشهادة على الضوالّ والأموال الخفية عسر في النهاية، والمطالبةُ بها قطعٌ لحق ملاّك الضوال، فاللائق بمصلحة الباب وجوبُ الرد اعتماداً على الوصف.
وفي كل باب مسلك يليق به لا يسوغ قياسه على غيره، وتوصل الملتقط إلى التملك من هذا القبيل؛ فإنه تملكٌ من غير تمليكٍ من جهة المالك، وقيامٌ بالتصرف في الملك من غير إقامة واستنابة من المالك، ولكن اللائق بمصلحة الباب هذا؛ فإنا لو توقفنا على تقدير إنابةٍ، لكان ذلك تعطيلاً لمقصود اللقطة، ولو لم يتسلط الملتقط على التملك مع الضلال، واستبهام الحال، لما رغب في الالتقاط، فلْيَجْرِ الوصف، والاقتصار عليه على حسب مجاري العرف.
__________
(1) (د 1)، (ت 3): إذا لم يكن الوصف معتمداً لبطل.

(8/456)


5929 - ثم من اكتفى بالوصف، فلا شك أنه يرعى فيه وصفاً يغلّب على الظن صدقَ الواصف، ولا يكتفي بما يمكن حمله على اتفاق الإطلاق، وندور موافقة الصواب.
5930 - ومن يكلف الواصفَ الشهادة، فالذي أراه لصاحب هذا الوجه ألا يسلم جوازَ الرد؛ فإنه إن سلمه، لم يبق له متعلَّق.
وسماعي من شيخي في دروسه جوازُ الرد، وهو ظاهرُ كلام الأصحاب.
5931 - ثم إذا شرط هذا القائل الشهادةَ، فإنه يشترط (1) -لا محالة- الدعوى والارتفاعَ إلى مجلس القاضي وتعيين الشهود، ويجوز أن يقال: يكفي في وجوب الرد إخبار الشاهدين من غير ارتفاعٍ إلى مجلس الحكم، ثم يجوز أن يكتفى بالواحد العدل. والذي أطلقه الأصحاب ما قدمته. والعلم عند الله تعالى.
فصل
5932 - اختلف نص الشافعي في وجوب الالتقاط، فالذي دل عليه بعض نصوصه أنه يجب الالتقاط على الأمين الموثوق به، ونص في بعض المواضع على أنه لا يجب، فاختلف أصحابنا في المسألة: فمنهم من أطلق القولين في وجوب الالتقاط: أحدهما - لا يجب، وهو القياس؛ فإن الالتقاط قبولُ أمانة، أو هو من أبواب الكسب، أو هو متردد بينهما، وعلى أي وجهٍ فُرض، لم يتجه إيجابه.
ومن أوجب الالتقاطَ، احتج بأن ذلك من التعاون الذي تمَس الهحاجة إليه، والذي تقتضي المصلحةُ الحملَ عليه.
ومن أصحابنا من قطع بنفي الوجوب، [وهو الوجه] (2)، وحمل نصَّ الشافعي على
__________
(1) (د 1): لا يشترط.
(2) ساقط من الأصل.

(8/457)


التأكّد في الندب والاستحباب، وذلك سائغ في الكلام.
ومن أصحابنا من فصّل، وقال: إن كان يغلب ضياع اللقطة لكونها على مطرق الناس والغالب عليهم الاستزلال، والاختزال، فهذا محل الوجوب، أو محل القولين. وإن لم يظهر ذلك، تعيّن القطع بنفي الوجوب.
ومن أصحابنا من قال: إن كان لا يأمن الملتقط نفسَه، ولا يثق بها، فلا يجب عليه الالتقاط، قولاً واحداً، والقولان فيمن يغلب على ظنه أنه لا يخون.
ومنهم من سوى، ولم يفرق إذا كان الشخص من أهل الالتقاط وأوجب على من يحاذر داعية السوء أن يتقي الله تعالى.
5933 - وكل ذلك خبط، لا معنى للإطناب فيه.
والوجه القطع بأنه لا يجب الالتقاط.
ثم قال الأصحاب: إذا نفينا الوجوب، وكان الرجل في ظاهر الظن واثقاً بنفسه، فهل يستحب له أن يلتقط؟ فعلى وجهين. وإن كان لا يثق بنفسه، ولكن لم يلتحق بالفسقة حتى يتردد في أنه هل يكون من أهل الالتقاط أم لا؟ فلا نستحبُّ له إذا نفينا الوجوبَ أن يلتقط.
وذكر شيخي وجهين حيث انتهى الكلام إليه في أنه هل يجوز له أن يلتقط إذا كان لا يثق بنفسه؟ وهذا يقرب من خلافٍ سنذكره في أن المجتهد الصالح للقضاء إذا كان لا يثق بنفسه، ولا يأمن أن يخون ويرتشي، ويغير الأحكام عن مناصبها، فهل يحل له تقلّد القضاء؟ وفيه خلافٌ، وترتيب سيأتي الذكر عليه في أول أدب القضاء، إن شاء الله عز وجل.
5934 - والوجه عندنا هاهنا القطع بجواز الالتقاط؛ فإنه لو حرم الالتقاط، لما تعلق به جواز التعريف والتملك، وإذا كان كل ذلك ثابتاً، والملتقط ليس ممن يُحكم بفسقه، وسقوط رشده، فلا وجه لتحريم الالتقاط عليه. هذا منتهى الكلام.

(8/458)


فصل
معقودٌ فيمن يكون من أهل الالتقاط ومَن لا يكون من أهله،
وهو غمرة الكتاب، وعلى الناظر مزيدُ اعتناءٍ به
5935 - وهذا الفصل يستدعي تقديم أصلٍ في حقيقة اللقطة: وهو أن اللقطة فيها معنى الكسب؛ من جهة أن الملتقط يتملكها إن أراد، وفيها معنى الأمانة؛ من جهة أنها لو تلفت في يد الملتقط في مدة التعريف أو قبل الاشتغال بها، فإنها لا تكون مضمونة على الملتقط، فقد اجتمع فيها معنى الكسب والأمانة، ولا وجه لإنكار اجتماعهما.
وذكر الأئمة قولين مأخوذين من معاني كلام الشافعي في أن الغالب على اللقطة حكمُ الأمانة، أو حكمُ الكسب، ففي ذلك قولان إذاً، وعليهما خروج المسائل:
أحد القولين - أن الأمانة هي الغالبة؛ لأن الالتقاط يقترن به معنى الأمانة وحكمُها، ثم يتمادى إلى انقضاء التعريف، فهذا ناجز متحقَّق، والتملك منتظَر، قد يكون، وقد لا يكون، فليقع التغليب للحكم الحاضر.
والقول الثاني - إن الاكتساب أغلب؛ فإنه مآل الأمر، وعاقبتُه في الغالب، والنظرُ إلى عواقب الأشياء، لا إلى مباديها. وأيضاً، فإن الملتقط ينفرد بالالتقاط. وهذا بعيد -في حق من لا يلي- على قياس الأمانات، فإن الأمين من آحاد الناس من يأتمنه المالك، وهذا هو الأصل، فإذا جاز الانفراد بالالتقاط، كان ذلك حملاً على الانفراد بالاكتساب، ثم حكم الأمانة يثبت ثبوتاً غيرَ غالب.
هذا بيان القولين، وظهورهما بتفريع المسائل عليهما.
5936 - ثم فرّع الأصحاب على القولين مسائلَ: منها التقاط الصبي، ومنها التقاط العبد، والمكاتب، والفاسق، والمبذّر، وقد يجري التقاط الذمّي في آخر الفصل.
فأما الصبيّ المميز إذا التقط، فهو مخرّجٌ على القولين. فإن قلنا: الغالب على اللقطة معنى الأمانة، فليس الصبي من أهلها؛ فإنه ليس ممن يؤتمن، وكيف يؤتمن

(8/459)


من يتردد بين غباوة يمتنع معها الاستقلالُ بالأمر، وبين فطنةٍ تُطلعه على أنه غير معاقب [أو مُتَّبَع] (1).
وإن قلنا: الغالب على الالتقاط معنى الاكتساب، فهو من أهله؛ إذ يتصور منه الاكتساب الذي يتعلق بالأفعال كالاحتشاش والاحتطاب، وما في معناهما.
5937 - فإذا ثبت القولان، فالتفريع عليهما أنا إن قلنا: ليس الصبي من أهل الالتقاط، فلو التقط فيده يدُ ضمانٍ، حتى لو تلفت اللقطة في يده أو أتلفها، وجب الضمان في ماله، ولو علم الولي حصولَ اللقطة في يده، لم يجز له تقريرها تحت يده، بل عليه أن يسعى في انتزاعها من يده.
5938 - ثم ذكر العراقيون وجهين في أن [الولي] (2) لو أراد أخد اللقطة من يد الصبي، والتفريع على أنه ليس من أهل الالتقاط، على نية ابتداء الالتقاط: أحد الوجهين- أن ذلك سائغ؛ فإن اللقطة في يد الطفل ضائعة، وهي بمثابة ما لو صادفها في مضيعة، فله الأخذُ من يده، كما له الالتقاط من قارعة الطريق.
والوجه الثاني -وهو قياسنا- أنه لا يصح الالتقاط من يده؛ فإن الالتقاط له صورة في العرف، وعليها يدلّ الشرعُ. والقياس لا جريان له في مفتتح الأمر. والذي يحقق ذلك، أن الصبي يعرض للضمان إذا ثبتت يده على اللقطة، فلو جعلنا الوليَّ ملتقطاً، لتضمَّن إسقاطَ الضمان عن الصبي، وهو في التحقيق إسقاطُ [حق تملّك] (3) اللقطة بعد ثبوته.
فإن حكمنا بأن الولي يلتقط من يد الطفل، لم يختص هذا به، فلو صادفه أجنبي من أهل الالتقاط، كان له الأخد من يده، على حكم الالتقاط. وإنما يختص بالولي ما يختص
__________
(1) في الأصل: " أو يتبع " هكذا قرأتها بكثيرٍ من التوسّم. وفي (د 1)، (ت 3): " لو توسع " والمثبت اختيار منا على ضوء السياق. والمعنى أنه غير معاقب في الآخرة، وغير مؤاخذٍ في الدنيا، فلا يتبع بالطلب والمؤاخذة.
(2) في الأصل: الوالي.
(3) في الأصل، (ت 3): حق لمالك اللقطة، وفي (د 1): لحق المالك اللقطة. والمثبت تقدير منا، نرجو صوابه.

(8/460)


بالطفل من مصالحه، ولا نظر إلى سقوط الضمان عن الطفل عند التقاط الأجنبي من يده.
ثم يتفرع على ذلك أنا إذا جعلنا الولي ملتقطاً، فيزول الضمان عن الصبي بالكلية، ولا يبقى في ماله تبعة؛ إذ قد التقط اللقطة من هو من أهل التقاطها، وانقلب الصبي عند التقاطه مشبَّهاً بمضيعةٍ بقارعة طريق.
هذا ما ذكره الأصحاب.
5939 - وللاحتمال إليه تطرّقٌ من قِبل أن من غصب عيناً، وأضلّها، فالتقطها ملتقط، فقد ثبت حكم اللقطة فيها، ويبعد في هذه الصورة إبراء (1) الغاصب، وإن اتصلت العين بيد ملتقطٍ هو من أهل الالتقاط. وستكون لنا إلى مسألة الغاصب عودة في آخر الفصل، إن شاء الله عز وجل.
5940 - وإن لم نجعل [للولي] (2) مرتبةَ الالتقاط بعد ثبوت يد الطفل، فالكلام وراء ذلك في فصلين:
أحدهما - أن العين لو تلفت في يد الصبي، فلا شك في وجوب ضمانها، كما لو غصب عيناً، وكذلك لو أتلفها، فالتلف والإتلاف يضمِّنانه القيمة.
وأما (3) الولي، فينبغي أن لا يترك نظرَه للطفل، فإن استمكن من رفع الأمر إلى مجلس القاضي، فعل، وفيه تفصيل ساذكره في فصل العبد، وأرمز إذْ ذاك إلى حظ الصبي منه، إن شاء الله عز وجل.
وإن لم يتمكن من رفع الأمر إلى الحاكم، حَفِظ اللقطةَ جهدَه، وأخذها من يد الطفل، ثم لو تلفت، فالضمان ثابت على الطفل، وفائدة الاحتياط صون العين عن التلف، والتضييع.
وهذا أيضاًً [ممّا] (4) لا يمكن تقريره إلا بعد تمهيد أصلٍ، نذكره في فصل العبد على أثر ذلك، إن شاء الله عز وجل.
__________
(1) (د 1)، (ت 3): أثر.
(2) ساقطة من الأصل.
(3) هذا هو الفصل الثاني قسيم (أحدهما) الذي سبق من عدة أسطر.
(4) في الأصل: فيما.

(8/461)


5941 - وإن [جعلنا] (1) الصبي من أهل الالتقاط، فلا يترك الولي العينَ في يده، بل يأخذها منه. وإذا ثبتت يد الولي عليها، فهي أمانة، لو تلفت في يد الولي، لم نثبت ضمانها وفاقاً؛ فإنا نفرّع على أن الصبي من أهل الالتقاط، ولو ترك الولي اللقطة في يد الطفل، كان منتسباً إلى التضييع؛ فإنه إذا كان لا يترك في يده خالصَ ملكه، فكيف يترك في يده ملكَ غيره.
وإن علم الولي بكون اللقطة في يده، فتركها حتى ضاعت، فسنذكر ما يتعلق بذلك في فصل العبد، إن شاء الله عز وجل.
5942 - ولو لم يشعر الولي بحصول اللقطة في يده، فأتلفها الصبي، تعلق الضمان بماله، وإن تلفت في يده، ففي وجوب الضمان وجهان. والتفريع على أنه من أهل الالتقاط.
ولو أودع رجل عند طفلٍ مالاً، فلو تلف في يد الطفل، لم يضمن، وإن كان سبب التلف تضييعه، فإن استحفاظه لم يصح، وانتسب من استحفظه إلى تضييع ماله، وإن أتلف الصبي الوديعةَ، ففي وجوب الضمان وجهان، وإنما اختلف الترتيب؛ من جهة أن المودِع هو الذي ضيع ماله؛ إذ استحفظ الصبيَّ فيه، وإذا التقط الصبي، فلم يوجد من جهة المالك تفريط في استحفاظه، فلذلك جعلنا المسألة على وجهين فيه إذا تلفت اللقطة في يده.
فإن قيل: لم ضمّنتموه، والتفريع على أنه من أهل الالتقاط؟ قلنا: معنى كونه من أهله أنه قد يُتملّك له قيمة ما التقط، إذا رأى النظرَ فيه، فأما أن تكون يده صالحة للأمانة في مدة التعريف قبل دخول وقت التملك، فلا.
فإن قيل: هلا قطعتم بوجوب الضمان لما ذكرتموه؟ قلنا: صاحب الضالّة على الجملة منتسب إلى التقصير، وإن لم يستحفظ الصبي على التعيين.
5943 - ومما يتعلق بالتقاط الصبي أن القيّم إذا استخرج اللقطة من يده، فعرّفها
__________
(1) في الأصل: حملنا.

(8/462)


سنة، فإن كان صلاحُ الطفل في أن يتملكها له فعل، وكان (1) ذلك استقراضاً للطفل.
وإن لم يرَ في التملك صلاحاً، أمسك اللقطة أمانةً، أو سلمها إلى القاضي. وقد أحلنا أطرافاً من الكلام في لقطة الصبي على العبد وبيان حكمه.
5944 - فأما العبد إذا التقط، فقد خرّج الأئمةُ التقاطه على القولين في تغليب الأمانة والكسب.
فإن حكمنا بتغليب الأمانة، فإن العبدَ ليس من أهل الالتقاط.
وإن حكمنا بتغليب الكسب، فهو من أهل الاكتساب. هكذا أطلقه الأئمة المراوزة. وفي هذا فضل تفصيل، سيأتي الشرح عليه، إن شاء الله تعالى.
ولا ينبغي أن يعتقد الناظر في أوساط أمثال هذه الفصول أنه يطّلع على سرّ ما ينتهي إليه، فإن أسرار المسائل المسلسلة تتبيّن عند نجازها.
5945 - قال صاحب التقريب: اختلاف القول فيه إذا التقط العبد ونوى نفسه، فأما إذا نوى سيدَه، بالالتقاط، ففي المسألة احتمالٌ: يجوز أن يقال: يصح ذلك قولاً واحداً، ويجوز طرد القولين في هذه الحالة.
وفي هذا الكلام فضلُ نظر؛ فإن السيد لم يأذن لعبده في هذا النوع، فاستبداد العبد به دون إذن سيده لا يختلف حكمه بأن ينوي نفسَه، أو سيدَه، فلا وقع للتردد الذي أبداه.
5946 - ولو أذن السيد لعبده في الالتقاط، وقال: مهما وجدت ضالةً، فارفعها، وائتني بها، فيجب قطعُ القول بوقوع الالتقاط عن جهة السيد، ويتطرق إليه نوعٌ من الاحتمال، لما في اللقطة من معنى الأمانة.
فإن قيل: لو أذن السيد لعبده في قبول الوديعة، صح منه قبولها، وكانت يده بمثابة يد السيد؟ قلنا: الأمر كذلك، ولكن الأمانة الثابتة في اللقطة مشوبةٌ (2) بقضية الولاية؛ فإن الملتقط يستبدّ بإثبات اليد على اللقطة من غير إذنٍ من ربّها، والإذن
__________
(1) (د 1): " وكل ذلك استقراض "، (ت 3): وإن كان ذلك استقراضاً.
(2) (د 1)، (ت 3): مثبوتة.

(8/463)


لا يُلحق العبد بالولاية، وسيتضح هذا المعنى -إن شاء الله عز وجل- في أثناء الفصل.
التفريع على القولين:
5947 - فإن قلنا: العبد ليس من أهل الالتقاط، فإذا حصلت اللقطة في يده، فلا يخلو إما أن يشعر السيدُ بها أو لا يعلمها، فإن لم يعلمها، فاللقطة مضمونة في يد العبد؛ فإن تلفت أو أتلفها، تعلّق الضمان برقبته؛ فإن ما يتلف تحت اليد العادية بمثابة ما يتلف بالجناية.
ثم تفصيل القول في فداء السيد إياه لا يخفى.
وتقريره في آخر كتاب الجراح، إن شاء الله تعالى.
هذا إذا لم يشعر السيد بحصول اللقطة.
5948 - فأما إذا علم حصولها في يد العبد، فأضرب عنها مقصّراً، حتى تلفت أو أتلفها العبد، فالقيمة تتعلق برقبة العبد، كما قدمناه، فإن ضاقت قيمة العبد عن الوفاء بقيمة اللقطة، فالذي نقله المزني عن الشافعي: " أن الفاضل من مقدار قيمة العبد يتعلق بسائر مال السيد، وتتوجه عليه الطَّلبة به، وإن سلّم العبدَ ليباع في الجناية، ولم يؤثر فداءه " ونقل الربيع عن الشافعي قولاً آخر: " أن الغرم ينحصر في رقبة العبد، ولا يتعلق الفاضل بسائر مال السيد ".
5949 - توجيه القولين: من قال: بانحصار الضمان في رقبة العبد، قاس ما نحن فيه على ما إذا أتلف العبدُ شيئاً بإذن سيده؛ فإن الضمان لا يعدو رقبة العبد، ولا أثر لإذن السيد في الإتلاف، فتقريره اللقطة في يد العبد لا تزيد على إذنه في الإتلاف وأمرِه به من غير إكراهٍ.
ومن قال: لا ينحصر الضمان في رقبة العبد، احتج بأن يد العبد بمثابة يد السيد، فإذا انضم إلى يد العبد تقصيرُ السيد في تقرير اللقطة في يد العبد، كان ذلك بمثابة ما لو تلفت العين في يد السيد، وهو معتدٍ. وهذا إنما كان يقوى، لو كنا نعلّق الضمان في الفاضل بالسيد، وإن لم يشعر بحصول اللقطة في يد العبد؛ فإن أسباب الضمان

(8/464)


لا تختلف [قضاياها] (1) بالعلم والجهل.
5950 - ومما يتعلق بالتفريع على هذا القول أن السيد لو أخد اللقطة من يد العبد، وقصد بأخذها من يده الالتقاطَ، فقد ذكر العراقيون وجهاً أن ذلك يكون التقاطاً من السيد؛ لأن يدَ العبد على القول الذي عليه نفرع ليست يدَ التقاط واللقطة فيها ضائعة، فكانت بمثابة ما لو صادفها السيد في مضيعة.
وهذا الذي ذكروه بعيدٌ غيرُ متَّجهٍ؛ فإن العبد تعرّض للضمان بأخد اللقطة، فلو قلنا: يصح التقاط السيد من يده، لتضمّن ذلك إسقاطَ الضمان وتبرئةَ رقبة العبد، وفيه إبطال حق مالك اللقطة، واستفادة السيد حقَّ التملك في اللقطة. وهذا بعيد، لا اتجاه له، على قياس المراوزة. وما ذكره العراقيون لا يختص بالسيد، بل لو أخذ الأجنبي اللقطة من يد العبد، لبرىء العبدُ، وثبت الأجنبي ملتقطاً على الابتداء، وهذا بعيدٌ، لا اتّجاه له.
5951 - فإن فرعنا على أن السيد لا يصير ملتقطاً، فيتعلق (2) الكلام بعد هذا بأمرٍ يستدعي تفصيل مقدمة.
وهي أن نقول: إذا صادف القاضي عيناً مغصوبة في يد الغاصب، فلو أخد القاضي العين المغصوبة من الغاصب ليحفظها على مالكها، فهل يبرأ الغاصب عن الضمان؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنه يبرأ، وهو ظاهر القياس، لأن يدَ القاضي نائبةٌ عن يد المالك، فرجوع العين المغصوبة إلى يده، بمثابة رجوعها إلى يد المالك. والوجه الثاني - أنه لا يبرأ الغاصب عن عهدة الغصب، ما لم ترجع العين إلى يد المالك؛ فإن مالك العين ليس موليّاً عليه وِلاية قهر، وليس القاضي مستناباً من جهته، ولكنه يرعى المصلحة لتصدّيه للنظر العام، والذي يقتضيه الصلاح إزالة يد الغاصب، مع بقائه على غرر الضمان.
__________
(1) في الأصل: " قضاها "، وقد تكون قضاؤها.
(2) (د 1)، (ت 3): فنفتتح الكلام.

(8/465)


فإن قلنا: يبقى الغاصب في عهدة الضمان، فالقاضي (1) يأخد العين المغصوبة منه، وإن قلنا: يبرأ الغاصب لو أخد القاضي منه العين المغصوبة، فهل للقاضي أن يأخذها، ويحفظها على مالكها؟ فعلى وجهين: أحدهما - له ذلك؛ فإن قطع العدوان وحفظَ العين المملوكة للمالك أحوط وأليق بالنظر للغاصب والمغصوب منه.
والوجه الثاني - ليس له ذلك؛ فإن إبقاء العين في عُهدة الضمان أولى من تبرئة الغاصب، ورد العين أمانة.
وهذا التردد فيه إذا لم تكن العين المغصوبة معرضة للضياع، [فإن كانت معرضة للضياع] (2)، وكان الغاصب بحيث لا يبعد تغييبه وجهَه، فالرأي: للقاضي أخذُ العين، وإن وقع التفريع على أن الغاصب يبرأ. هذا قولنا في القاضي وأخذه العينَ المغصوبة.
5952 - فأما إذا أراد واحدٌ ممن ليس والياً أن يأخد العينَ المغصوبة محتسباً، ويوصِّلَها إلى مستحقها، فهل له ذلك، أم لا؟
ننظر: فإن لم تكن العين عرضةً للضياع، ولم يكن الغاصب ممن يفوت توجيه الطلب عليه، فليس لآحاد الناس أن يتعرضوا لإزالة يده.
وإن كانت العين عرضة للضياع، فهل يجوز للأمين من آحاد الناس أن يزيل يدَ ذلك الغاصب، ويحفظ المغصوب على المالك؟ فعلى وجهين: أحدهما - ليس له ذلك؛ فإن هذه الأمور يستفيدها الولاة بالولاية؛ من جهة أن الأمر يُفضي إلى المغالبة، وقد يؤدي إلى القتال، وشهْر السلاح، وكل ما كان كذلك، فهو مفوّض إلى راعي الرعية، والقاضي ينوب عن الغائبين بولايته.
والوجه الثاني - أنه يجوز للأمين أن يتولى ذلك احتساباً، ونهياً عن المنكر.
وهذا غير مرضيّ.
ثم يتصل بذلك أنا إذا لم نجوّز ما ذكرناه، فلو فعله الأمين، صار ضامناًً، وكان بمثابة الغاصب من الغاصب.
__________
(1) (د 1)، (ت 3): والقاضي.
(2) ساقط من الأصل.

(8/466)


وإن جوزنا ذلك، فلا ضمان على الأمين، وفي براءة الغاصب وجهان مرتبان على الوجهين في براءته إذا أزال القاضي يدَه، وهاهنا أولى بأن يبقى الغاصب في عهدة الضمان.
ولو فصل فاصلٌ بين أن يجري ذلك من الواحد من الناس وفي الموضع قاضٍ يمكن رفعُ الأمر إليه، وبين أن تكون البقعة شاغرةً عن الوالي، لكان حسناً خارجاً على الترتيب الذي قدمناه في تفاصيل هرب الجمّال.
5953 - فإذا تمهد ما ذكرناه، عاد بنا الكلامُ إلى العبد إذا التقط، وقلنا: إنه ليس من أهل الالتقاط، ويده على اللقطة يدُ غصب. فلو أراد السيد أن ينتزع تلك العينَ من يده، ويحفظها لمالكها، فهل له ذلك أو لا؟
نقول: لو استدعى السيد من السلطان أن يفعل ذلك، فهذه الصورة أولى بأن يزيل السلطان فيها يدَ العدوان، وإذا أزالها، فحصول البراءة أولى، والسبب فيه أن البراءة من الضمان ترجع إلى السيد، وهو غير منتسب إلى العدوان، حتى يغلّظ عليه الحكم، وليس كذلك إذا كانت الواقعة مع الغاصب نفسه.
5954 - هذا إذا التمس السيد من السلطان، فأما إذا أراد السيد بنفسه أن يزيل يدَ العبد ويحفظ اللقطةَ على مالكها، فهل له ذلك؟ ولو فعل هذا يسقط الضمان؟
فعلى وجهين مرتبين على الوجهين فيه إذا تعرض لإزالة يد الغاصب آحادُ الناس، وهذه الصورة أولى بألا تحصلَ البراءة فيها؛ فإن السيد ساعٍ في حق نفسه ويدُ العبد يدُه، فلا يحصل الانتقال التام، ولا تتحقق الحسبة، والسيد في حكم من يبرىء نفسه بنفسه.
فإن قلنا: لا يملك السيد انتزاع العين من يد العبد، ولو فعله، لكان غاصباً بنفسه، والضمان باقياً، كما كان، فلا كلام.
وإن قلنا: للسيد أن يزيل يدَ العبد، وإذا أزالها، زال الضمان فلو كان العبد موثوقاً به، والتفريع على الوجه الذي انتهينا إليه، فأراد السيد استحفاظ عبده، وتقرير العين في يده، وإحلال يده على الابتداء محل يده، فهل يسقط الضمان إذا فعل

(8/467)


ذلك؟ فعلى وجهين: أظهرهما - أنه لا يسقط؛ فإن اليد، لم تتبدل حسّاً، وقد كانت يدَ ضمان في ابتداء ثبوتها، وهذا هو الأصل.
ومن أصحابنا من قال: استحفاظ السيد إيّاه نازلٌ منزلة أخذه العينَ من يده.
وهذا بعيد.
وكذلك تكون التفاريع إذا كثرت، فإنها تزداد بعداً.
5955 - وقد كنا وعدنا أن نذكر في الصبي إذا لقط، وشعر الوليّ به، وقرره تحت يده، والتفريع على أن الصبي ليس من أهل الالتقاط تفصيلاً، فنقول أولاً:
السلطان ينبغي أن يُزيل هذه اليد؛ نظراً للطفل، واحتياطاً له، فإذا فعل، فالأصح أنه يبرأ، ولا يغلَّظ عليه التغليظ الذي ذكرناه في الغاصب. هذا هو الأصل.
وقيل لا يزول الضمان بعد ثبوته، ولكنا مع ذلك نزيل يد الطفل.
5956 - والوليُّ هل يأخد من الطفل ما التقطه إذا قلنا: إنه ليس من أهل الالتقاط؟ هذا يترتب على أخد الأمين من آحاد الناس العينَ المغصوبة من الغاصب عند الإشراف على الضياع، والولي أولى بذلك؛ لأنه منصوبٌ شرعاً للنظر للطفل.
وإن قلنا: لا يبرأ الصبي، ولا سلطان في البقعة، تعيّن على الوليّ انتزاعُ المال من يد الطفل، وإن كان لا يستفيد بذلك تبرئة الصبي عن الضمان؛ لأنه إن كان [لا] (1) يحصِّل البراءة، فيصون العينَ عن التلف، وهذه فائدة ظاهرة، فإذا فعل الولي ذلك، فهل يتعلق الضمان به؟ هذا فيه احتمالٌ؛ من جهة أن التفريع على أن البراءة لا تحصل، وليس لآحاد الناس أن يفعلوا ذلك محتسبين، ويجوز أن نجعل الولي كالقاضي في هذا المقام؛ حتى لا يتعلق الضمان به، ووجه الاحتمال بادٍ؛ من جهة أن ولاية الأب لا تتعلق بصاحب المال، وإنما هي مقصورة على رعاية مصلحة الصبي.
وإذا قررنا الضمان على الولي، فلو تلفت العين في يده، فيبعد أن يكون القرار عليه، مع أنا جوزنا له، أو أوجبنا عليه أن يأخد العين من يد الصبي، فالوجه أن نجعله كالمودَع من الغاصب، مع الجهل بحقيقة الحال، حتى تتعلق الطّلبة به،
__________
(1) ساقطة من الأصل.

(8/468)


ولا يتقرر الضمان عليه. هذا تفصيل المذهب في انتزاع العين من يد الطفل.
5957 - فلو قررناها في يده، تفرع هذا على ما ذكرناه. فإن قلنا: الولي لو انتزع العين، لم يزُل الضمان، فلا يكاد يظهر فائدة. وإن قلنا: لو أزال يدَ الطفل، وأخذ العينَ منه لبرىء، فإذا قرر العين تحت يده، مع العلم بحقيقة الحال، تعلق الضمان بالولي، لا محالة؛ فإنه حيث انتهينا إليه تَرَكَ النظرَ، وورَّطَ الطفل في الضمان، مع التمكن من تبرئته عنه، فيستقر الضمان عليه؛ فإنه لو سلم مالَ الطفل إليه حتى ضاع تحت يده، ضمنه، وما ذكرناه بهذه المثابة.
وقد قال الأئمة: لو أركب الولي الطفل دابة صعبة، فأتلفت الدابة بخبطها ورفسها شيئاً، فالضمان على الولي.
فهذا منتهى الكلام في ذلك.
5958 - وقد حان أن نفرع على أن العبد من أهل الالتقاط.
فإذا التقط وأراد السيد أن يُبقي اللقطةَ في يد العبد ليعرفها، وكان موثوقً به، فله ذلك.
وإن أراد أخد اللقطة منه، ومباشرة التعريف بنفسه، فله ذلك، ثم إذا مضت سنة التعريف، فالسيد بالخيار إن شاء تملك، وإن شاء حفظ اللقطة أمانة، واستحفظ العبد فيها، إن كان موثوقاً به.
5959 - ومما يجب التنبه له الآن أنا إذا جعلنا العبد من أهل الالتقاط، فلو التقط، ولم يشعر السيد، وعرّف بنفسه [سنة] (1)، من حيث لم يدر السيد، ثم إنه بعد مضي السنة تملك اللقطة لمولاه، فهل يصح ذلك أم لا؟
هذا يترتب على أن الرجل إذا وهب من عبد إنسان شيئاً، فاتهبه دون إذن مولاه، فهل يصح اتّهابُه، حتى يدخل الموهوب في ملك السيد؟ فيه وجهان: أحدهما - أن الاتّهاب يصح، والموهوب يدخل في ملك السيد، كما يدخل في ملكه ما يصطاده، ويحتطبه.
__________
(1) ساقطة من الأصل.

(8/469)


والثاني - لا يصح؛ فإن الهبة عقدٌ متعلِّق بقولٍ، ويبعد أن يصح من العبد عقدٌ يتضمن تمليكَ السيد من غير إذن السيد.
ولم يختلف أصحابنا أن العبد إذا خالع زوجته على مالٍ أن الخلع يصح، وعوضه يدخل في ملك سيد العبد قهراً دخول الصيد إذا اصطاد العبدُ؛ فإن العوض في الخلع يتبع الإبانة (1)، وهي حق الزوج، فلم يثبت مقصوداً، وملك الموهوب مقصودُ الهبة.
5960 - فإذا ثبت ذلك، فلو عرّف العبدُ اللقطةَ، وتملكها بعد السنة للسيد، فقد ذكر صاحب التقريب وجهين في صحة ذلك: أصحهما (2) - أنه لا يصح؛ فإنه تملك للسيد بعوضٍ، وليس كالتملك بالهبة.
وحق ما ذكره من الوجهين أن يرتبا على الوجهين في انفراد العبد بالاتهاب، وهذا أولى بألا يصح، والفرق لائح.
5961 - ولو اشترى العبدُ شيئاً بثمن في الذمة بغير إذن مولاه، فالأصح بطلان البيع. وقد ذكرنا قولاً بعيداً: إن البيع يصح، وهو ضعيف غير معتد به، ومن صححه، فالثمن عنده في ذمة العبد يطالب به إذا عتَق.
5962 - فإن قلنا: يصح تملك العبد للسيد، فيبعد أن يقال: لا يطالب السيد بعوض اللقطة إذا ظهر مالكها، وليس كما إذا فرعنا على صحة شراء العبد بغير إذن سيده؛ فإن البائع رضي بذمة العبد، ولم يرض مالك اللقطة بذمة العبد في مسألتنا، فيجب القطع بأنا إذا صححنا تملّكَ العبد لسيده، فالعوض في ذمة السيد.
فإن قيل: فجوِّزوا أن يستقرض العبد لسيده، ويشغل ذمته بعوض القرض. قلنا: ذلك غير سائغ، والفرق على هذا الوجه الضعيف أنا جعلنا العبد من أهل الالتقاط، وهو السبب الأظهر في التملك، حتى كأنه ملتحق بالأفعال المملّكة، كالاحتشاش ونحوه.
__________
(1) (د 1)، (ت 3): الإنابة.
(2) (د 1)، (ت 3): أحدهما.

(8/470)


5963 - وإن جرينا على الأصح، وقلنا: لا يتملك العبد اللقطة دون إذن سيده، فمن أصحابنا من قال: لا يصح تعريفه دون إذن سيده أيضاً، وهذا غير سديد؛ فإنا إذا جعلناه من أهل الالتقاط، فالتعريف في معنى الالتقاط. نعم، إن قلنا: انقضاء التعريف يوجب حصولَ الملك، فيجوز أن يقال: لا يصح التعريف؛ فإنه لو صح، لاقتضى الملك. ويجوز أن يقال: يصح، ولا يقتضي الملك في هذه الصورة، كما لو عرف الملتقط، ولم يقصد التملك ابتداءً ودواماً.
5964 - ومما يتم به تفريع التقاط العبد أن مدة التعريف إذا انقضت، ودخل وقت التملك، وليقع الفرض فيه إذا كان أذن السيد لعبده في التملك، فلو تلفت اللقطة في يد العبد أو أتلفها، فكيف الحكم؟ نُقدِّم على ذلك بيانَ هذا الحكم في حق الحر الملتقط الذي هو من أهل الالتقاط.
5965 - فإذا عرّف (1) اللقطة سنة، نُظر: فإن كان قصد بالالتقاط التملك بعد التعريف، ثم انقضت مدة التعريف، وهو على قصد التملك، والتفريعُ على أن مضي السنة لا يفيد التمليك، فإذا تلفت اللقطة قبل التملك، فهي مضمونة على الملتقط، بمثابة العين المأخوذة على سبيل السَّوْم.
ولو التقط أوّلاً على قصد الحفظ، ثم لم يغيّر قصده، وعرّف، فتلفت اللقطة بعد انقضاء التعريف، فهي أمانة؛ فإنّ قصد الأمانة اقترن بالابتداء، ولم يطرأ ما يناقضه.
ولو التقط، ولم يقصد تملكاً، ولا أمانةً، وعرّف على هذا الإطلاق أيضاً، ثم انقضت السنة، ولم يُحدث قصداً في التملك ولا في نفيه، فلو تلفت اللقطة، فيمكن أن يخرّج الضمان في هذه الحالة على القولين في أن الغالب على اللقطة حكمُ الأمانة أو حكم الكسب، حتى إذا قلنا: الغالب مقتضى الكسب يضمن اللقطةَ إذا تلفت، وإن قلنا: الغالب الأمانة لا يضمن.
__________
(1) فإذا عرّف: أي الحر الذي هو من أهل الالتقاط.

(8/471)


هذا بيان حكم الضمان في [حق] (1) الحر، ونقول بعده:
5966 - العبد إذا كان مأذوناً في التملك، فإذا مضت سنةُ التعريف، فتلفت اللقطة في يده قبل أن يتملكها، وهو مأذون من جهة السيد في التملك، فإذا لم يتملك، وتلفت اللقطة، فالضمان يتعلق بذمة السيد، وذمة العبد، وهو كما لو أمر عبده حتى أخد عيناً على سبيل السوم، فتلفت في يد العبد، فالضمان يتعلق بالسيد من جهة صدور سبب الضمان عن إذنه.
هذا هو المذهب.
ومن أصحابنا من قال: إذن السيد في هذا بمثابة إذنه في الغصب، ولو أذن لعبده، فاعتدى وغصب، لم يتعلق الضمان بذمة السيد، كذلك هاهنا.
والقائل الأول يقول: لو اشترى بإذن السيد، تعلّق الضمان بكسب العبد، وهو من ملك السيد، ويطالَب السيد بالثمن أيضاً إذا وقع المبيع ملكاًً له.
والأقيس أن الضمان في [التالف] (2) المأخود على سبيل السوم لا يتعلق بذمة السيد.
فإن قيل: هلا علقتم الضمان بكسب العبد، كالثمن الذي يلتزمه بإذن مولاه؟
قلنا: إذا قال السيد، التزِم، فقد قال: أدِّ. وأقرب مصرف يحمل الأداء عليه مع بقاء العبد على حكم الرق الكسبُ، وإذا قال له: خد شيئاً مستاماً، فليس في هذا إذنٌ بالالتزام.
5967 - ولو لم يصدر من السيد إذنٌ في التملك، وتلفت اللقطة في يد العبد بعد مضيّ زمان التعريف، فالمذهب أن القيمة تتعلق بذمة العبد يتبع بها إذا عتق، ولا يطالب السيد به أصلاً.
وأبعد بعض أصحابنا، فقال: تتعلق القيمة برقبة العبد؛ فإنها لزمت من غير معاملة صدرت من مالك العين، فكانت كأرش الجناية. وهذا مزيّفٌ، لا أصل له؛
__________
(1) في الأصل: حكم.
(2) في الأصل: التلف.

(8/472)


فإن الشرع (1) إذا سلّط على التملك بالعوض (2 في وجهٍ 2) ودخل وقتُه وأوانُه، كان ذلك بمثابة رضا المالك. والدليل عليه أن التملك يسوغ من غير إذن المالك تعويلاً على تسليط الشرع.
5968 - ولو أتلف العبدُ اللقطة قبل التملك، فقد ذكر صاحب التقريب وجهين: أحدهما - أن القيمة تتعلق برقبة العبد لمكان الإتلاف، وإذا صادف الإتلاف ملكَ الغير، فموجبه يتعلق بالرقبة إذا كان المتلِف العبدَ.
والوجه الثاني - أن القيمة تتعلق بذمة العبد؛ فإن اللقطة وإن لم تتملك، فهي في حكم المتملّكة، وإذا اشترى العبد شيئاً شراءً فاسداً، وأتلفه، فالقيمة تتعلق بذمته؛ لأن البائع [قد سلط المشتري على الإتلاف، وتسليطُ الشرع كتسليط البائع] (3).
وقد نجز القول في العبد والتقاطه (4).
فرع:
5969 - إذا التقط العبد، وقلنا: إنه ليس من أهل الالتقاط، فلو أعتقه السيد واللقطة في يده، فعرّفها سنةً، فهل يملكها؟
ردّد الشيخ أبو حامد في هذه المسألة جوابه، ولم يفصّل (5) فيها جواباً، ولكنه قال: المسألة محتملة، فيجوز أن يقال: إنه يملك في الصورة التي ذكرناها، ويجوز أن يقال: لا يملك استدامةً للحكم السابق.
وهذا التردد الذي ذكره رضي الله عنه قريبُ المأخد مما ذكرناه فيه إذا التقط الحرّ، ونوى الاختزالَ والخيانة، وقرن النية بالالتقاط، فلو عرّف، وأراد أن يتملك، ففيه خلاف ذكرناه، والعلم عند الله تعالى.
5970 - فأما الفاسق إذا التقط، فطريق المراوزة فيه تخريجه على القولين في أن
__________
(1) (د 1)، (ت 3): السيد.
(2) ساقط من (د 1)، (ت 3).
(3) ما بين المعقفين ساقط من الأصل.
(4) في الأصل هنا العبارة الآتية: " تم الجزء بحمد الله ومنه " وبعدها " بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله وحده ".
(5) في (د 1)، (ت 3): ينقل.

(8/473)


الغالب على اللقطة الأمانة أو الكسب؟ فإن قلنا: الغالب الأمانةُ، فالفاسق ليس من أهل الالتقاط، والعين التي أخذها مغصوبة في يده، ولو عرّفها لم يتملكها. وهذا فائدة قولنا: إنه ليس من أهل الالتقاط.
وإن قلنا: الغالب على اللقطة معنى الكسب، فالفاسق من أهل الالتقاط، وإذا عرّف، تملك.
5971 - ثم ذكر المراوزة وجهين في أن اللقطة هل ينتزعها الوالي من يده، حتى تنقضي مدة التعريف: أحدهما - أنه يفعل ذلك احتياطاً لمالك المال. والثاني - لا ينتزعها من يده، ولكن يضم إليه من يراقبه، حتى إذا مضت المدة، انفرد بنفسه، واستقل بالتملك.
فإن قيل: إن لم يكن العبد ممن [يؤتمن] (1) فالفاسق يجوز ائتمانه. ولو أودعه إنسان شيئاً، فتلف في يده، لم يلزمه الضمان.
قلنا: يتصور الإيداع عنده، ولكن الشرعَ لا يأتمنه، وحكم الأمانة في اللقطة ثابت شرعاً. وأيضاً الأمانة ممزوجة بحكم الولاية؛ فإن الملتقط يستقل بالالتقاط، من غير ائتمان، والفاسق ليس من أهل الولاية على هذا الوجه.
هذا طريق المراوزة.
5972 - وأما العراقيون، فإنهم سلكوا مسلكاً آخر، فقالوا: الفاسق إذا التقط، ففي المسألة قولان: أحدهما - أنه يُخرِج القاضي اللقطةَ من يده.
والثاني - لا يخرجها من يده. ولكن ينصب من يشارفه (2) حتى لا يضيعها.
5973 - ثم قالوا على القولين: إذا عرّف وتحقق تعريفه؛ فإنه يتملك اللقطة، فقطعوا [القول] (3) بأن الفاسق من أهل تملك اللقطة، وردّدوا القول في إزالة يده.
__________
(1) في الأصل: يوثق.
(2) يشارفه: يدنو منه ويطلع عليه. (المعجم).
(3) ساقطة من الأصل.

(8/474)


وهذا يخالف طريقَ المراوزة. وما ذكروه [منقاس] (1) حسن، فإنه إذا أمكن إجراء الأمانة [دون] (2) الفاسق، مع تبقية حقه في الكسب، فلا وجه لمنعه من الاكتساب.
وليس الفاسق في هذا كالعبد؛ فإن العبد ليس من أهل الاكتساب لنفسه، فيبعد أن يكتسب بالعوض لسيده، فكان الكلام في العبد على نسق آخر.
5974 - ويجوز أن يقول من يسلك طريق المراوزة: الفاسق لو تملك اللقطة، لتملكها بالعوض من غير رضا مالك اللقطة، وهو ليس موثوقاً به، ولم يصدر من المالك رضاً بذمته، فيتجه خروجه عن هذا النوع من الاكتساب، مع أن إجراء الأمر في اللقطة مأخود من أوّله، والغالب على أول اللقطة الأمانةُ، وقد أوضحنا أن الفاسق ليس من أهلها.
5975 - فأْما المكاتب، فقد قال أئمتنا: إن غلَّبنا معنى الكسب، فالمكاتب من أهل الالتقاط، ثم يستبد بالتعريف، والتملكِ بعد مدة التعريف، ولا شك أنه يتملك لنفسه.
وإن قلنا: الغالب الأمانة، فلا يلتقط المكاتَب، وإذا التقط، كان غاصباً، ولا يتملك في العاقبة.
والمكاتب وإن كان موثوقاً به، ويجوز الإيداع عنده. فليس من أهل الولاية، وقد أوضحنا أن الالتقاط فيه شَوْبُ الولاية.
وربما كان يقول شيخنا: المكاتب مرتب على القِنّ، وهو أولى بأن يكون من أهل الالتقاط.
والعراقيون قطعوا بأن المكاتب إذا التقط؛ فإنه يتملك اللقطة قولاً واحداً.
والقولان في أن اللقطة هل تبقى تحت يده أم لا؟ على القياس الذي قدموه في الفاسق.
__________
(1) في الأصل رسمت هكذا: " مُد قياس حسن " وهو تصحيف طريف.
(2) في الأصل: في حق الفاسق. والمعنى: إذا أمكن مشارفة الفاسق أو حفظها من يده حتى يتم تعريفها -وهذا معنى إجراء الأمانة دونه- فلا معنى لمنعه من الكسب، وهو من أهل الاكتساب بالاتفاق.

(8/475)


وما ذكروه من القطع بأنه يتملك متَّجهٌ، لأنه موثوق به، وهو من أهل الاكتساب.
وما ذكروه من القولين في إزالة يده فيه بعدٌ، مع القطع بأنه يتملك، وهو موثوق به، فإن قيل: تزال يده في قولٍ لما ذكرت من شَوْب الولاية، فلا وجه للقول الآخر الذي ذكروه من أن القاضي ينصب عليه من يشارفه، فإن هذا إن اتجه في الفاسق من جهة سقوط الثقة به، فلا اتجاه له في المكاتب الموثوق به، فالوجه أن يقال: تزال يده على قولٍ وتترك اللقطة تحت يده على قولٍ من غير مشارفةٍ ونصب مراقبٍ، فقد تبين من أصل العراقيين أن الفاسق، والمكاتَب من أهل تملك اللقطة قولاً واحداً، لمّا كانا من أهل الاكتساب. والتردد في العبد القِنّ، كما ذكرناه.
5976 - وأما الصبي، فهو من أهل الاكتساب، ولكنه ليس من أهل التملك بنفسه، فيجوز أن يوافق العراقيون فيه المراوزة في تخريج القولين في أن ما التقطه الصبي هل يتملكه؟
5977 - فأما من نصفه حر، ونصفه عبد، فقد قال أئمتنا: هو بمثابة المكاتب؛ فإن له على الجملة استقلالاً بسبب [حرية نصفه] (1) كالمكاتب.
وهذا فيه نظر؛ فإن الرق الذي فيه كامل، وإذا كمل الرق، ضعف التصرف فيما يقابل الرق، وإذا تحقق ذلك في بعض الملتقَط، عم جميعه؛ فإن التقاط البعض الذي يضاف إلى الحرية غيرُ ممكن؛ إذ من ضرورته لقطُ الكل.
5978 - فإن قلنا: إنه من أهل الالتقاط، فلا يخلو إما أن يكون بينه وبين مالك الرق منه مهايأة، وإما ألا يكون بينهما مهايأة، فإن لم تكن مهايأة، فاللقطة إذا ملكت، تقسطت على النصف الحر، والنصف الرقيق.
وإن كانت مهايأة فاللقطة من الأكساب النادرة، وقد اختلف الأصحاب في أن الأكساب النادرة هل تدخل تحت المهايأة؟ فإن قلنا: إنها لا تدخل تحت المهايأة، فالملك فيها يقع منقسماً.
__________
(1) في الأصل: بسبب حريته كالمكاتب.

(8/476)


وإن قلنا: إنها تدخل تحت المهايأة، فالنظر إلى النوبة، فإن وقع ما هو المعتبر في نوبة السيد، فالملك في اللقطة له، وإن وقع في نوبة من نصفه حر، فالملك له.
5979 - وفحوى كلام الأصحاب يدل على أن الاعتبار فيما ذكرناه بما بعد سنة التعريف، وفي كلام بعض المحققين ما يدل على أن الاعتبار بيوم الالتقاط؛ فإنه المستند، وهذا فقيه حسن.
فلو وقع الالتقاطُ في نوبةٍ، وانقضاءُ سنة التعريف في نوبة أخرى، فللتردد في ذلك مجال.
والأصل عندي القطع بأن الالتقاط لا يدخل تحت المهايأة؛ فإنه ليس اكتساباً محضاً، وإنما هو في حكم استقراض، وإنما يقع هذا بجملته.
هذا منتهى القول فيمن يكون من أهل الالتقاط، وفيمن لا يكون من أهله.
فرع:
5980 - ذكر العراقيون وجهين في [أن الذمي هل يكون من أهل الالتقاط في دار الإسلام، والذي قطع به] (1) أئمتنا أنه من أهل الالتقاط؛ فإنه أمينٌ مكتسب.
فصل
جامع فيما يجوز التقاطه، وما لا يجوز التقاطه
5981 - فنقول: إذا وجد الرجل مالاً ضائعاً، لم يخل إما أن يجده في الصحراء أو يجدَه في العمران.
فأما إذا وجد في الصحراء، فلا يخلو: إما أن يكون الموجود حيواناً، أو غير حيوان. فإن لم يكن حيواناً، لم يخل: إما أن يكون مما يتسارع إليه الفساد، أو لا يكون كذلك.
فإن كان مما يتسارع إليه الفساد كالطعام، وما في معناه، يأكلْه على مكانه، ولا نكلفه التعريف؛ فإنه غير ممكن في الحال، ولو ترك الطعامَ، ولم يأكله،
__________
(1) ما بين المعقفين ساقط من الأصل.

(8/477)


لضاع، وسبب الأمر بالتعريف فيما لا يفسد التسبب إلى ظهور مالك اللقطة، ليأخذها قبل أن تملك عليه، فإذا كان التعريف يؤدي إلى إفساد المال، استحال اشتراط تقديمه.
ثم إذا أكل الطعام، فهل يجب عليه التعريف بعد الاكل؟
فعلى وجهين: أحدهما - لا يجب عليه، فإنَّ وَضْع التعريف في الشرع أن يقدّم على التصرف في اللقطة، فإذا تقدم التصرف، وفاتت العين، فالتعريف خارج عن وضعه، ويشهد لهذا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: لما سئل عن الشاة يجدها الواجد، فقال: " هي لك، أو لأخيك، أو للذئب " ولم يتعرض صلى الله عليه وسلم لإيجاب التعريف، والطعام في معنى الشاة، وأيضاً التعريف في المضْيعة لا يفيد، والطعام مما لا يطلب في الغالب، فإذا تقدم الأكل ولم يُفد التعريفُ في مكان الوجود، وبَعُد العثور على صاحب الطعام في بلدةٍ سيصل إليها، فاجتماع هذه
الأسباب يُسقط التعريف.
والوجه الثاني - أنه لا بدّ من التعريف؛ فإنه لو تركه، وقد أكل الطعام، كان في حكم الكاتم المُغَيِّب لملك الغير. وهذا بعيد.
5982 - فأما ما لا يتسارع إليه الفساد، فلا بد من تعريفه سنةً أوّلاً.
وسبيل تعريفه ما ذكرناه في فصول التعريف، فيبتدىء التعريف إذا انتهى إلى البلدة التي يقصدها، وقد قدمنا تفصيل ذلك.
5983 - فأما الحيوان إذا وجد في الصحراء، فلا يخلو إما أن يكون مما يمتنع عن صغار السباع كالإبل، والبقر، والخيل، والبغال، والحمير، فلا يجوز التعرض لها. والدليل عليه حديث زيد بن خالد، وما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقوله متبعٌ، وفيه مَقْنع، ولعل المعنى أن هذه الحيوانات لا يطرقُها الطارقون في الصحارى إلا على الندور، وهي ممتنعة من صغار السباع، ويندر انتهاءُ كبار السباع إليها، كالأُسْد والنمور، وكأنها ليست ضائعة، وقد يخطر للإنسان أن الحُمر ضعيفة لا تمتنع عن الذئاب، ولكن الأصحاب مجمعون على إلحاق الحُمر بالحيوانات الممتنعة عن صغار السباع.

(8/478)


5984 - وأما الحيوانات التي لا تمتنع عن صغار السباع، كالغنم، والفُصلان، والعجاجيل، وما في معانيها، فواجدها يأخذها. والأصل فيها قوله صلى الله عليه وسلم لما سئل عن الشاة: " هي لك، أو لأخيك، أو للذئب "، ثم لواجد الشاة الانتفاعُ بها في الحال، والقول في التعريف بعد الانتفاع بها، على ما قدمناه في الطعام الذي يتسارع إليه الفساد، وسيأتي في ذلك فضل بيان في أثناء الفصل، إن شاء الله تعالى.
5985 - فأما ما لا يؤكل من صغار الحيوانات كالجحش، فكيف السبيل فيه؟ وقد وجده من وجده في الصحراء؟ الأصح أنه لا بد من تعريفه سنة، بخلاف الشاة؛ فإنها ملتحقة بالمطعومات، والعاثر على الجحش لو كان يستديمه، فهو مما يبقى، وإن كان يعسر استدامته، فلا طريق إلى الانتفاع به.
ومن أصحابنا من ألحقه بالغنم، وجوز تملّكه في الحال، واستدل عليه بأن تعهده بالعلف مما لا تسمح به الأنفس من [غير] (1) تملكه، وفي منع تملكه في الحال تضييعُه وتركُه بالعراء في مضيعة الصحراء، وأصل اللقطة أُثبت محافظةً على الأموال أن تضيع. هذا قولنا فيما يوجد في الصحراء.
5986 - فأما ما يجده الإنسان في العمران؛ فإنه ينقسم على حسب ما ذكرناه في الصحراء، فمنه ما ليس بحيوان، ومنه الحيوان.
فأما ما ليس بحيوان، فينقسم إلى ما يتسارع إليه الفساد، وإلى ما لا يتسارع إليه الفساد.
5987 - فأما ما لا يتسارع إليه الفساد، فهو اللقطة التي سبق وصفها، وسبيلها أن تُعرّفَ سنةً، كما تقدم.
ثم القول في السبب المملك ما ذكرناه.
5988 - فأما ما يتسارع إليه الفساد كالطعام، فهل يجوز لمن يجده أن يبتدر أكله
__________
(1) سقطت من الأصل.

(8/479)


إذا كان بيعه ممكناً؟ فعلى قولين: أحدهما - أنه يأكله، وفي بعض الكتب (1) أنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فيمن وجد طعاماً: " أكله، ولم يعرّفه " (2).
والقول الثاني - أنه لا يأكله، بل يسعى في بيعه، ثم إن كان في الموضع حاكم، فرفعت القصة إليه، وباع الطعام، فلا كلام.
وإن أراد الملتقط أن ينفرد بالبيع مع القدرة على مراجعة الحاكم، ففي المسألة وجهان مشهوران: أحدهما - أنه لا يبيعه؛ فإن التصرف بالبيع في الأموال التي غاب عنها ملاكُها إلى الحكام.
والوجه الثاني - أن الملتقط ينفرد ببيعها، كما ينفرد بأخذها وتعريفها وتملكها، والسبب في ذلك أن الشرع أثبت له التصرفَ في اللقطة على الموضوعات المعلومة في الشريعة.
التفريع:
5989 - إن حكمنا بأن واجد الطعام يأكله، فالأصح أنه يجب عليه التعريف، بخلاف ما لو وجد الطعام في الصحراء؛ فإن التعريف في المفازة عسرٌ، غيرُ مجدٍ، وإذا استأخر التعريف بَعُد العثور على مستحق الحق، والأمر في العمران على خلاف ذلك.
ثم إذا أوجبنا التعريف، فالتعريف يعتمد ذكرَ بعض أوصاف الطعام؛ فإنه المعرَّف، وبذكره يتوقع العثور على مالكه.
5990 - ثم هل يجب على معرِّفه أن يميِّز قيمته من ماله، حتى يقع التعريفُ، والقيمةُ مُمَيَّزَةٌ؟ فعلى وجهين معروفين: أطلقهما الأصحاب: أحد الوجهين - أن ذلك واجب، لتقومَ القيمة مقام المقوَّم، ويصادفَ التعريفُ كائناً موجوداً خلفاً عن العين المستهلكة.
__________
(1) في بعض الكتب: يقصد الإمام أبا القاسم الفوراني، وإمامنا شديد الحط عليه، وتضعيفه -وبخاصة- في النقل.
(2) نقل الحافظ في التلخيص قول الإمام الرافعي في "التذنيب" عن هذا الحديث: " الأكثرون لم ينقلوا في الطعام حديثاً، بل أخذوا حكم ما يفسد من الطعام من قوله صلى الله عليه وسلم؛ هي لك أو لأخيك أو للذئب ". فافهم أن هذا ليس بحديث. ر. التلخيص: 3/ 75 ح 1336.

(8/480)


والوجه الثاني - أن ذلك لا يجب، ولكن يعرِّف من يعرف، والقيمةُ في ذمة من استهلك الطعام.
وقال أئمة العراق: التعيين في القيمة والتمييز من سائر أملاك الملتقط موجَبُه أن القيمة لو تلفت في مدة التعريف، كان تلفها على حكم الأمانة، وكان ينزل منزلة تلف العين المعرَّفة، لو كانت باقية، حتى تلفت في مدة التعريف.
5991 - وهذا فيه بعض الخبط، وسببه شيئان: أحدهما - إطلاق الأصحاب لذكر القيمة وتمييزها، وهذا [يجرّ] (1) إشكالاً في التصوير. والآخر - ضعفُ الوجه.
أما التصوير، فوجه الغموض فيه أن الملتقط المستهلك للطعام لو ميز قيمة الطعام في قصده فعيَّنها في تقديره، فهذا ليس بشيء، وليس هو التعيين الذي ذكره الأصحاب؛ فإن القيمة لا تتعين بمثل هذا من غير فرض يدٍ قابضة عن المتلِف الملتزِم، والذي أراده الأصحاب بالتعيين ما ذكره الصيدلاني، وكلُّ واقفٍ على المراد من هذا الفصل، قالوا: حقٌّ على الملتقط أن يسلّم القيمةَ إلى القاضي أو إلى نائبه، ثم يكون القاضي بمثابة يد المستحِق في إفادة التعيين، وتفرض القيمة من طريق التقدير مملوكةً لمالك الطعام، ثم إذا فرضنا تلفَ القيمة في مدة التعريف، فيكون تلفُها بمثابة تلف العين المعرَّفة في مدة التعريف، إذا كانت باقية.
هذا بيان ما يتعلق بالتصوير.
5992 - أما ضعف الوجه، فلا شك فيه، فإن التزام القيمة من غير طالبٍ ومطالَبٍ بها في اللقطة (2) بعيد، وليس في تمييزها احتياط لمالك الطعام؛ فإن تبقية [الطعام] (3) في ذمة الملتقط المستهلك للقطة أحوطُ لمالك اللقطة، من تعريض حقه للسقوط بتقدير تلف القيمة.
ثم الأصحاب قالوا في التفريع على تمييز القيمة: القيمة قائمة مقام العين، وليست مملوكة في الحقيقة لمالك اللقطة.
__________
(1) في الأصل: جرّ.
(2) (د 1)، (ت 3): اللغة.
(3) في الأصل: الضمان.

(8/481)


والقدر الذي ذُكر في ثبوت حكم التعيين ما صرح به العراقيون، إذ قالوا: لو أفلس الملتقط، وظهر مالكُ الطعام، فهو أولى بالقيمة المميَّزة على الصورة التي ذكرناها، يستبدّ بها ولا يضارب الغرماء. وهذا فيه بُعدٌ، وسببه أنه مفرّعٌ على وجه بعيد.
5993 - ثم الذي أراه في ذلك أن يتملك صاحب الطعام إذا ظهر القيمةَ المميَّزةَ له، ويكون أولى بتملكها بحق التعيين السابق، ولو لم يتملكها، وأعرض عنها، لم يكن إعراضه عنها كإعراض المالك عن ملكه، وتمكّنُه من التملك فيها بمثابة تمكن البائع من الرجوع إلى العين المبيعة بطريق فسخ البيع، ولم يكن المبيع ملكاًً له حالة الإفلاس، ولكنه أوْلى به من الغرماء، كذلك القول في القيمة.
5994 - ولو انقضت السنة على شرط التعريف، والقيمةُ المميَّزةُ متروكةٌ في يد الحاكم، أو في يد من عينه الحاكم مبقَّاةٌ على حق مالك اللقطة، فإن لم يظهر، ولم (1) يظهر المالك، وتلفت القيمة، سقطت العهدة بالكلية عن الملتقط المستهلك.
ولو لم يكن في الناحية حاكم، فأراد الملتقط بسلطان الالتقاط أن ينصّب نائباً عن مالك اللقطة، ويسلم [القيمة] (2) إليه، فيُنزله منزلة الحاكم لو كان. هذا فيه احتمالٌ، كما ذكرناه من الاختلاف في أن الملتقط هل يملك بيع الطعام، إذا فرعنا على أنه يباع؟ ثم هذا الاحتمال يجري، وإن كان في الناحية حاكم، غيرَ أن البقعة إذا شغرت عن الوالي، والتفريعُ على وجوب البيع، فالملتقط يبيع وجهاً واحداً.
وإذا فرضنا خلوَّ المكان عن الوالي، فلا يجري إنفاقٌ على ملك الملتقط [و] (3) نصب نائبٍ عن مالك اللقطة حتى يقبض القيمة التي يعتمدها التعريف، بل الأمر محتمل مشكل في ذلك؛ فإن ملك بيع مال الغير أمرٌ مفهوم، وتمييز القيمة، ونصب من يقبضها عن مالكٍ مجهول، كلام فيه اضطراب بيّن. [وإنما] (4) يظهر بعض الظهور إذا صدر قبضُ القيمة من والٍ ينوب عن الملاك الغُيَّب، وإن كانوا مجهولين.
__________
(1) كذا في النسخ الثلاث، فما وجه هذا التكرار؟.
(2) في الأصل: اللقطة.
(3) زيادة اقتضاها السياق، حيث سقطت من النسخ الثلاث. والله أعلم.
(4) في الأصل: فإنما.

(8/482)


هذا منتهى القول في ذلك.
5995 - ولو عين القيمة على الوجه الذي يصح، ثم أراد إبدالها، لم يكن له ذلك، وامتناع الإبدال من أول آثار التعيين الذي يهتدى إليه. فأما إذا قلنا: بأن الطعامَ يباع، وأمكن بيعه فنحصِّل ثمن الطعام أولاً، ثم نفرض ابتداء التعريف، فإذا مضت سَنةُ التعريف، تملَّك الملتقط الثمنَ، ولو تلف الثمن في مدة التعريف، كان أمانةً، ثم الثمن يسلّم إلى الملتقِط إذا كان من أهل الالتقاط، كما تُبقَّى اللقطة في يده لو كانت اللقطة مما لا يتسارع الفساد إليها.
هذا كله إذا لم تكن اللقطة حيواناً.
5996 - فأما إذا كانت حيواناً، وصادفها، وأخذها في أثناء العمران، من القرى والبلدان، فقد جمع صاحب التقريب ثلاثة أوجه للأصحاب:
أحدها - أنه لا يأخد الحيوان واجدُه، فإنه ظاهر ليس عرضة للضياع. وإنما يثبت حق الالتقاط في متعرَّض للضياع.
وهذا القائل لا يفصل بين الكبار من الحيوانات التي منعنا التقاطها في الصحراء، وبين الصغار منها، وأجرى الجميع في منع الالتقاط مجرى الكبار في الصحراء.
والوجه الثاني - أن الواجد يلتقط ما يجد من الحيوانات في العمران، من غير فرق بين الكبار وبين الصغار؛ فإن جميعَها عرضةٌ لأخد الآدميين، واحتوائهم، وإذا أمكن اختزالها وتقدير تغييبها، فالكل بمثابةٍ واحدةٍ، وليس كذلك الصحارى؛ فإن طروق الآدميين فيها نادر، والحيوانات منقسمة بالإضافة إلى السباع، كما تقدم، وإمكان التغييب يعمّ في العمران الصغارَ من الحيوانات والكبارَ.
والوجه الثالث - أن واجدَ الحيوان يلتقط في العمران ما يلتقطه في الصحراء، ولا يلتقط ما يمتنع عليه التقاطه في الصحراء؛ تمسكاً بظاهر حديث الرسول صلى الله عليه وسلم.
5997 - ثم ذكرنا في صغار الحيوانات إذا صادفها واجدُها تفصيلاً، وقسمناها إلى

(8/483)


المأكول، كالشاة وإلى ما لا يؤكل كالجحش، فالشاة إذاً ملحقة بالطعام، وقد مضى التفصيل في الطعام في العمران. وفي الجحش، وما لا يؤكل التفصيلُ المقدم.
ومن سَلَّط على تعجيل التملك فيه، فسببه تعذر العلف.
والرأيُ الظاهر أنه لا يتملكه قبل التعريف، فإنا ألحقنا الشاة بالطعام للخبر، ومن رأى تعجيل التملك لضرورة العلف لا يصير إلى هذا المذهب في الحيوان الكبير، إذا فرّعنا على جواز التقاطه في العمران، فإنه يصير إلى ما يصير إليه لمشابهة الصغير الشاةَ في الضعف، وعدمِ الاستقلال.
5998 - ثم إذا التقط حيواناً، فلا خلاف أن مؤنة علفها (1) لا تكون على الملتقط، وإنما هي على مالك اللقطة، ثم الوجه في تحصيلها بيعُ جزءٍ من الحيوان، وصرفُ الثمن إلى العلف، وسائر المؤن، فإن تمكنا من رفع الأمر إلى قاضٍ، فعلناه، ثم إنه يفعل ذلك فعلَه لو كان يريد إمساك بهيمةٍ على مالكها.
وإن لم نجد حاكماًً، تولّى الملتقط ذلك بنفسه، ولو أراد أن يتولاه مع وجود الحاكم، ففيه الوجهان اللذان سبق ذكرهما.
وكان شيخي يقول: يجوز أن تُلحِق ضرورةُ العلف وتوقعُ مسيس الحاجة إلى أن تأكل الدابةُ [نفسها] (2) - الدابة (3) بالطعام الذي يتسارع الفساد إليه، حتى يباع [ويَعْتُد] (4) ثمنُه، [ثم] (5) يفرض التعريف على حسب ما فرعناه في بيع الطعام، وهذا حسن بالغ.
__________
(1) كذا بضمير المؤنث، وتوجيهه ميسور.
(2) في الأصل: " تشبيها ".
(3) الدابةَ: مفعول لقوله: تُلحق. والمعنى أن ضرورة العلف، والإنفاق على الدابة الملتقطة، قد يستهلك قيمتها، وهذا معنى " تأكل الدابةُ نفسها " وهذا يجعلها تشبه الطعام الذي يتسارع إليه الفساد، فتأخد حكمه، من جواز البيع وغيره.
(4) ويعتُد: أي يصير حاضراً معدّاً. يقال: عتُد الشيء (بفتحٍ وضم): أي تهيأ وحضر (المعجم، والمصباح) وهي في نسخة الأصل: بعد.
(5) ساقطة من الأصل.

(8/484)


وقد نجزت معاقد الكلام على أصناف اللقطة في البقاع المختلفة.
5999 - ومما يجب إلحاقه بخاتمة الفصل الكلامُ في الفرق بين القليل والكثير، وتصرف الأصحاب فيه، فنقول أولاً: القليلُ الذي لا يتمول لقلته، لا [لخسته] (1) إذا صادفه الواجد، فأخذه، لا يتعلق به حكمٌ في تعريفٍ أو غيره. ولكن الواجد يختص به، وهذا كالزبيبة يجدها، وما في معناها، وقد ذكرتُ في آخر كتاب البيع ما يجب اتباعه فيما يتموّل، وما لا يتمول، ويمكن أن يطرد في ذلك لفظان: أحدهما - الانتفاع، وكل ما يقدّر له أثر في النفع، وموقعٌ في هذه الجهة، فهو متموّل. وكل ما لا يظهر له أثر في الانتفاع، فهو لقلته خارج عما يُتموّل. وهذا مما قدمته.
ويمكن أن يقال: المتمول (2) هو الذي يفرض له قيمة عند غلاء الأسعار، والخارج عن التموّل هو الذي لا يفرض ذلك فيه.
6000 - ثم ما لا يتموّل لا يصح بيعه، لا بما يتموّل ولا بما لا يتمول. وصاحبه الظاهر أولى به، فلا يزاحَم عليه، وله منع من يزاحمه.
ولو وهبه، فيظهر عندي تصحيح الهبة فيه، على معنى إحلال المتَّهِب محلَّ الواهب في الاختصاص. وهذا محتمل لا أقطع به.
وإذا كنا نذكر الخلاف في هبة الكلب، تعويلاً على حق الاختصاص، فلا يبعد إجراؤه فيما ذكرناه. ويسوغ أن يقال: الهبة في الكلب تعتمد إمكان الانتفاع به، ولا نفع فيما لا يتمول، فيظهر إبطال الهبة.
6001 - ولو أتلف متلفٌ المقدار الذي لا يتمول، وكان جنسه من ذوات القيم، فلا شيء على المتلف، كسلك من ثوب.
وإن كان المتلَف من ذوات الأمثال، فقد ذكر [بعض] (3) الأصحاب خلافاًً في أنه
__________
(1) في الأصل: لجنسه.
(2) هذا هو اللفظ الثاني الذي يطرده، قسيماً (لأحدهما) الذي ذكره في الأسطر السابقة.
(3) ساقطة من الأصل.

(8/485)


هل يضمن له مثلَ ما أتلفه. ويخرّج عليه التردد الذي ذكرناه في الهبة، والأظهر إبطال الهبة، ونفيُ غرامة المثل.
6002 - فإن أخذ الملتقط ما لا يتموّل، استبد به، ولا تبعة في الحال؛ فإن ما يقتضيه سلطانُ الالتقاط [يزيد] (1) على ما ذكرناه.
6003 - فأما إذا كان الشيء المصادف متموَّلاً، ولكن عُدّ يسيراً، فللأصحاب فيه تردد، نأتي به على وجهه، ثم بيان القول فيه يبين آخراً.
فإذا وجد الملتقط شيئاً يسيراً متموّلاً، فمن أصحابنا من قال: هو كالكثير في جميع الأحكام، فلا بد من تعريفه سنة؛ فإن أحكام الأموال في هذه المنازل لا تختلف بالقلة والكثرة إذا كان الشيء مما يتمول.
ومن أصحابنا من قال: لا يجب تعريف الموجود سنة كاملة.
وهذا فيما ذكره الأصحاب ظاهرُ المذهب. ووجهه أن الشيء الخطير لا يبعد توقُّع طلبه في مدة السنة، والشيءُ الحقير قد ينعكس عليه فاقده على قربٍ، فإن لم يجده بَعُد (2) دوامُ الطلب فيه المدةَ الطويلة، هذا حكم العرف.
فإن قيل: فلا توجبوا التعريف أصلاً؛ فإن الحقير قد لا يطلب. قلنا: لا يمكن الحكم بهذا على طبقات الخلق، فإن فيهم من يرجع على طلب ما نعتقده حقيراً.
فإن قيل: هلا أوجبتم التعريف سنةً؛ إذ في الناس من يطلب ما نراه حقيراً مدة طويلة؟ قلنا: ليس الأمر كذلك؛ فإن طبقات الناس على خلاف المراتب يستوون في ترك إدامة الطلب في الحقير الذي لا يؤثر العاقلُ التعبَ الكثيرَ في طلبه، ثم لهذا السؤال صار صائرون إلى وجوب التعريف سنة على ما قدمناه.
6004 - فإن قيل: إذا لم تُوجبوا التعريف سنة، فما المعتبر عندكم؟ وقد أوجبتم
__________
(1) في الأصل: زِيدَ.
(2) بَعُد: بفتح وضم. ومن عجبٍ أنها ضبطت في الأصل: بفتح الباء وسكون العين وفتح الدال.
والأعجب من العجب أن هذه النسخة نادرة الضبط جداً، وهي مع ذلك من أضبط النسخ وأصحها. ولكن لكل جوادٍ كبوة، ولكل صارمٍ نبوة.

(8/486)


أصل التعريف؟ قلنا: الذي تلقيناه من كلام الأصحاب في ذلك تحصره أوجه:
أحدها - أن مدة التعريف ثلاثة أيام. وهذا تقريب لا بأس به. وفي بعض التصانيف (1) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من التقط لقطة يسيرة، فليعرّفها ثلاثة أيام ". وهذا إن صح معتمدٌ ظاهر.
ومن (2) أصحابنا من لم يقدّر في ذلك مدة، وقال: تعرف مدة يُظن في مثلها رجوعُ الفاقد على ذلك المفقود، وهذا يختلف باختلاف أقدار ما يندرج تحت اليسير.
وهذا وإن كان مستنداً إلى فقه الفصل، فهو كلام مبهم، لا يكاد يتحصل. ثم عبر الأئمة عن هذا، فقالوا: يعرّفه يوماً، أو يومين، ومنهم من قال: وأكثره ثلاثة أيام.
ومن (3) أصحابنا من رمز إلى أنه يكفي فيه التعريف مرة واحدة على شرط الإظهار.
وهذا في نهاية الحسن؛ فإن هذا القدرَ يكفي في إخراج اللقطة عن حيز ما يُكتم؛ فإنه لا ضبط بعده لمدة تذكر.
__________
(1) هنا أمور نبينها على النحو الآتي:
أ- قوله: " بعض التصانيف " يقصد أبا القاسم الفوراني، فهكذا يعبّر عنه!! وقد أشرنا إلى ذلك مراراً، ولكن نجدد العهد به هنا؛ لأن الحافظ ابن حجر صرح بذلك في التلخيص، حيث قال تعقيباً على هذا الحديث: " قال إمام الحرمين في النهاية: ذكر بعض المصنفين هذا الحديث، وعنى بذلك الفوراني، فإنه قال: فإن صح، فهو معتمد ظاهر " ا. هـ بنصه.
ب- إن إمام الحرمين لم يذكر هذا الحديث قاطعاً به، ولا معتمداً عليه، ولكنه قال عن التحديد بثلاثة أيام: " إنه تقريب لا بأس به " ثم أردف ذلك بذكر الحديث، قائلاً: " إن صح، فهو معتمد".
ج- إن إمام الحرمين استخدم في الرمز إلى ضعف الحديث، أداة الشرط (إن) وهي تدل على الشك وعدم التوقع، ولم يستخدم (إذا).
د- الحديث رواه أحمد (4/ 173) والطبراني، والبيهقي (6/ 195) عن عمر بن عبد الله بن يعلى عن جدته. وقال عنه الحافظ: "لم يصح، لضعف عمر" ا. هـ. ر. التلخيص: (3/ 162 ح 1371).
هـ- قلت: ألا يدرأ هذا عن إمام الحرمين قول القائلين: " إنه كان لا يدري الحديث "؟
(2) هذا هو الوجه الثاني في المسألة.
(3) هذا هو الوجه الثالث.

(8/487)


وهذا إنما يتجه لو لم يصح الخبر الذي ذكرناه.
6005 - فإن قيل: لم تذكروا ضبطاً يُتمسك به في الفصل بين الحقير والخطير؟ قلنا: ذكر أولاً بعض المصنفين في ذلك ثلاثة أوجه: أحدها - أن الحقير ما دون نصاب السرقة؛ فإن ما دون ذلك تافه، وقد قالت عائشة رضي الله عنها: " كانت الأيدي لا تقطع في المال التافه، على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم " (1) هذا وجه.
والوجه الثاني - أن التافه ما دون الدرهم؛ فإن ما ينقص عنه مما يستوي طبقات الخلق في الحكم بتحقيره، والدرهم التام قد لا يكون كذلك، ثم لا ضبط للهمم، فقد يستحقر الرجل المعظمُ المالَ العظيمَ في حق غيره.
والوجه الثالث - أن الدينار، فما دونه حقير، وقد روى من ذكر هذه الأوجه: أن علياً رضي الله عنه وجد ديناراً، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم، بأن يستنفقه، ولم يأمره بتعريفه (2). وهذا لم أره في غير هذا التصنيف، وفيه إشكال وهو إسقاط أصل التعريف، ولم يصر أحد من أصحابنا إلى إسقاط أصل التعريف، وإن قل مقدارُ الملتقَط.
وقد يتجه خروج ذلك إن صح الأثر على الاكتفاء بالتعريف مرة واحدة.
فإن قيل: لم يجر التعريف مرة واحدة؟ قلنا: ليس للتعريف لفظٌ يجب اتباعه، وإنما الغرض شهر الأمر وإظهار القصة، وهذا يحصل بمراجعة عليّ رضي الله عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، في الواقعة على رؤوس الأشهاد، وحكمه صلى الله عليه وسلم فيها.
وكان شيخي أبو محمد لا يضبط اليسير بمقدارٍ ويأبى أن يحتكم في التقدير من غير توقيف، ويقول: الرجوع في ذلك إلى ما يغلب على الظن أن مثله لا يطول من طبقات
__________
(1) أثر عائشهَ رضي الله عنها رواه ابن أبي شيبة: 9/ 476، ح 8163. وانظر التلخيص: 2/ 162 ح 1372.
(2) حديث علي رواه الشافعي في الأم 4/ 67، وأبو داود: كتاب اللقطة، باب التعريف باللقطة، ح 1714، 1715، وعبد الرزاق 10/ 142، 143، ح 18637، والبيهقي: 6/ 194.
وانظر التلخيص: 3/ 163 ح 1373.

(8/488)


الخلق طلبه، وإن فُرِض طلبُ الفاقد له، فلا يتمادى أمدُ طلبه.
وهذا الذي ذكره حسن في طريق المعنى، وفَرْضُنا وراءه قائم في التقريب إن أمكن.
فرع:
6006 - إذا صادف الإنسان كلباً منتفعاً به، فقد ذكر العراقيون: أنه إذا صادفه في العمران، وقلنا بالتقاط الحيوان فيه، فإنه يعرّفه، ثم يصير أولى من غيره.
ولست أرى الأمر كذلك؛ فإنه لا يتصور جريان الملك فيه، وأحكام الالتقاط تثبت فيما يملك، ثم [يعسر] (1) التفريع على ما ذكروه؛ من جهة أن الملتقِط إنما يصير أولى باللقطة بعوضٍ يلتزمه، والكلب لا عوض له.
وإن قيل: يعتبر عوضه بمنفعته، فعوض المنفعة لا تتقدّر من غير فرض مُدّة، ثم يلزمهم طرد هذا في الأعيان النجسة المنتفع بها؛ فإنه يثبت فيها حق الاختصاص، والكلب نجس العين، فإن طردوا ما ذكروه في الأعيان النجسة، كان بعيداً.
فرع:
6007 - من وجد لقطة في الحرم، فقد ظهر اختلاف أصحابنا فيها: فمنهم من قال: لا سبيل إلى تملكها، واستدل بظاهر الحديث المشهور المأثور عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذْ ذكر الحرمَ، وتحريمَ الله تعالى له، وقال في أثناء كلامه: " لا يُنَفَّر صيدُها، ولا يُعْضَدُ شجرُها، ولا تَحِلّ لُقَطَتُها إلا لمنشد " (2).
ومن أصحابنا من قال: من صادف لقطة في الحرم، عرّفها، وملكها على قياس اللقطة في سائر البلاد، وتأويل هذا الحديث عند هذا القائل [قريب] (3) محتمل؛ فإنه يقول: قطع رسول الله صلى النه عليه وسلم وَهْمَ من يظن أن اللقطة في الحرم لا تعرّف أصلاً، وقد يظن ذلك ظانٌّ فيما يَلقى في المواسم إذا تفرق الحجيج مشرِّقين، ومغرِّبين؛ فإنه يبعد منهم أن ينعطفوا في طلب ما يفقدون، وقد مَدّت المطيُّ
__________
(1) في الأصل: يصير.
(2) حديث: " لا تحل لقطتها ... " رواه البخاري من حديث ابن عباس: اللقطة، باب كيف تُعَرَّف لقطة أهل مكة، ح 2433، وأطرافه كثيرة، وانظر مواضعها عند الحديث 1349، وعن ابن عباس رواه مسلم: الحج باب تحريم مكة وتحريم صيدها وخلاها وشجرها ولقطتها إلا لمنشد على الدوام، ح 1353، وعن أبي هريرة، ح 1355.
(3) زيادة من (د 1)، (ت 3).

(8/489)


أعناقها (1)، وأخذت أصوابَها، فأبان رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لا يجوز ترك الإنشاد؛ حملاً على ما نبهنا عليه.
ويجوز للقائل الأول أن يقول: ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم تحريمَ اللقطة في سياق ذكْرِه خصائص الحرم وما يتعلق به من تحريمٍ وتعظيمٍ، وليس في كلامه ما يشعر بالتعرض للمواسم ومزدحم الخلق. ثم هذا لا يختص بالحرم، بل يمكن فرضه في كل بقعة يجتمع عليها سَفْرٌ (2)، ثم ينقلبون.
فصل
6008 - قد ذكرنا أصل الالتقاط وأنه واجب، أو مستحب، أو مباح، وقد تردد نص الشافعي في الإشهاد على الالتقاط، فدل بعضُ مجاري كلامه على إيجاب ذلك، وقد اختلف أصحابنا فيه:
فمنهم من قال: يجب الإشهاد، وهو مذهب أبي حنيفة (3)، وفي بعض التصانيف، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من التقط لقطة، فليشهد عليها " (4) وهذا إن صح متعلق قوي.
ومن أصحابنا من قال: الإشهاد احتياط، وهو غير واجب، وهو مذهب أبي يوسف، وتعليله أن الالتقاط تردد بين الأمانة والكسب، ولا يجب الإشهاد عليهما
__________
(1) " مدت المطي أعناقها " كناية عن السرعة في السير.
(2) السفْر: بسكون الفاء: المسافر للواحد والجمع.
(3) ر. مختصر الطحاوي: 140، المبسوط: 11/ 12، البدائع: 6/ 201، تبيين الحقائق مع حاشية الشلبي: 3/ 301، 302، الاختيار: 3/ 32. وانظر هنا أيضاً مذهب أبي يوسف الذي سيشير إليه الإمام.
(4) حديث الإشهاد على اللقطة رواه أبو داود: اللقطة، التعريف باللقطة، ح 1709، والنسائي في الكبرى: اللقطة، باب الإشهاد على اللقطة، ح 5808، وابن ماجه: اللقطة، باب اللقطة، ح 2505، وابن حبان: 7/ 199 رقم: 4874، والبيهقي في الكبرى: 6/ 193، والطحاوي في معاني الآثار: 136، والطبراني في الكبير: 985، 989، 990، 991. والحديث صحيح كما قال ابن الملقن في البدر المنير: 7/ 153، وانظر التلخيص: 3/ 161 ح 1370.

(8/490)


جميعاً، والخبر إن صبح محمولٌ عند هذا القائل على الاستحباب، كقوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} [البقرة: 282].
6009 - ثم من أراد الإشهاد، ورآه مستحقاً أو مستحباً، فإنه لا يشترط وصف اللقطة بكمالها للشهود، أو إظهارها لهم؛ من قِبل أنه لو فعل ذلك، لم يأمن أن يجرّ ذلك لَبْساً، وخبلاً، بأن يذكر للشهود الوصفَ ويواطئوا شخصاً حتى يصف اللقطة ويدّعي الملك فيها، وهذا يظهر إذا قلنا: يجب ردّ اللقطة اعتماداً على الوصف، ولا نأمن أن يشهد أولئك له بالملك عن مواطأة؛ فإذاً الوجه الاقتصارُ على بعض الوصف.
ومن أصحابنا من قال: يكفي أن يُشهد على أنه وجد لقطةً من غير أن يتعرض لشيءٍ من الأوصاف. وهذا ساقطٌ عديمُ الفائدة. فإن قيل: أتحرّمون ذكرَ تمام الوصف، أم تكرهونه؟ قلنا: ما نرى الأمر ينتهي إلى التحريم في ذلك.
فرع:
6010 - إذا التقط لقطة، فجاء إنسان، ووصفها بصفاتها، فإن غلب على الظن صدقُ الواصف، فله أن يسلّمها إليه. وظاهر المذهب أنه لا يلزمه التسليم، حتى يقيم البيّنة.
وإن لم يغلب على ظن الملتقط صدقُه، وجوز كذبَه مع الإحاطة بالأوصاف عن قرينةٍ، فلا ينبغي أن يسلمها إلى الواصف، وقد رأيت في هذا تردداً في جواز التسليم.
والظاهر عندي أنه لا يسلِّم ما لم يغلب على ظنه صدقُه، فلو سلمه إليه عند الغلبة، ثم ثبت أن المستحِق غيرُه، وأقام المستحِقُّ بينةً، فله أن يطالب من شاء، فإن طالبَ الآخد الواصفَ، وكانت العينُ تالفةً، وغرّمه القيمة، فلا يجد به (1) مرجعاً على الملتقط.
ولو غرَّم المستحقُّ الملتقطَ، فلا يخلو إما إن كان أقر ابتداءً بالملك للواصف، أو لم يقر له، ولكن اقتصر على ظاهر الرد، فإن أقر له بالملك، لم يرجع عليه إذا
__________
(1) كذا في النسخ الثلاث بضمير المذكر.

(8/491)


غرِم؛ فإنه مُؤاخد بموجب إقراره المتقدم. وإن لم يقر بالملك لمن ردّ عليه، فإذا غرَّمه المستحِقُّ، رجع بما غرِم له؛ على المردود عليه؛ فإن قرار الضمان على من تلفت العين المضمونة في يده.
فصل (1)
6011 - إذا انقضت سنةُ التعريف، وتملّك الملتقطُ اللقطةَ، فإذا ظهر مالكها، فهل يكون أوْلى بعين اللقطة؟
فيه اختلاف بين الأصحاب، ذكرنا مثله في القرض. فمن استقرض شيئاً، ولم يخرجه، ولم يتصرف فيه، فأراد المقرض الرجوعَ في عينه، وقال المستقرض: أردّ بدله، فهل يجاب المقرض إلى مُراده؟ فيه خلاف قدمتُه في موضعه.
ومأخذ الملك في اللقطة كمأخذ الملك في القرض، غير أن الاستقراض مبني على الإقراض (2)، والملك يحصل في اللقطة من غير تمليك من مالكها، ثم إذا ظهر المالك، كان كحضور المقرض.
6012 - ثم إذا عابت اللقطة بعد التملك، فإن قلنا: لا يملك الرجوع في عينها، فيطالِب بالبدل. وإن قلنا: يملك الرجوع في العين، فلو كانت عابت بعد التملك، كما ذكرنا، فإنه يسترجع العينَ، ويغرِّم الملتقطَ أرش النقص؛ فإن العين لو تلفت، لكانت مضمونة بقيمتها، فإذا عابت، كانت مضمونة بالأرش.
وإذا كنا نفرعّ على أنه أوْلى بعين اللقطة، فلو كانت سليمة، فأراد أن يطلب بدلَها، لم يجبه الملتقط إلى مراده، فإذا عابت، فقال: لست أستردها، وقد عابت، وأرجع إلى البدل، وقال الملتقط: بل أردُّ العينَ، وأغرَم أرش النقص، فقد ذكر الأئمةُ في هذا خلافاً: فمنهم من قال: ليس له إلا الرجوع في العين الناقصة مع أرش النقص.
ومنهم من قال: له الرجوع إلى البدل؛ فإن العيب قد لا يقف، ويسري.
__________
(1) في (د 1)، (ت 3): (فرع) مكان (فصل).
(2) أي أن تملك القرض مبنيٌّ على تسليم المقرِض.

(8/492)


ومن غصب عيناً فعابت في يده عيباً لا سريان له، فليس للمغصوب منه إلا استرداد العين، وتغريم الغاصب أرش النقص، وفي مسألتنا الخلاف الذي ذكرناه يتعلق بنقص يد ثابتةٍ شرعاً متعلقةٍ بحق في الاختصاص، فكان الخلاف لذلك.
فرع:
6013 - قال صاحب التلخيص: من وجد بعيراً في الصحراء، فقد ذكرنا أنه لا يحل له أخذها (1). ثم استثنى من هذا مسألة، وهي أن يجد الرجل بعيراً في أيام منى ضالاً في الصحراء، وهو مقلَّد بما يقلّد به الهدايا، فظن الواجد أنه هديٌ شرد عن صاحبه. قال: نص الشافعي على أن له أن يأخذه، فإن خاف فوات أيام النحر، فله أن ينحره (2).
قال الشيخ أبو علي وأئمة المذهب: هذا الذي ذكره صاحب التلخيص، فهو مصدق في نقله. ولكن ذكر بعض أصحابنا قولاً آخر: إنه لا يأخذه، ولا يحل له أخذه؛ بناءً على ما ذكرناه من أنه لا يجوز التعرض لكبار البهائم في الصحراء.
وكان الشيخ القفال يُخرِّج هذين القولين على أن من وجد بدنة منحورة، ورأى ميسمَها قد غُمس في دمها، وضُرب به غاربها، فهل يحل له الأكلُ بناء على هذه العلامة، وعلى شعار الإشعار؟ والهدي المسوق إذا كاد أن يعطب، يُفعل به هذا؛ دَلالةً على أنه مأكول. ففي جواز الأكل اعتماداً على هذه العلامات قولان مذكوران في كتاب الحج، وله نظائر. كذلك الهدي المقلّد بما يقلد به الهدايا عليه العلامة، والظاهر أنه خُلِّف لانقطاعه عن المسير.
6014 - والضحية المعيّنة لجهة التضحية إذا ذبحها في أيام الذبح من ظفر بها، وقعت مجزئةً، وإن لم يصدر الذبح عن [إذن] (3) صاحبها.
وهذا فيه بعض النظر؛ فنا وإن حكمنا بأن التضحية وقعت موقعها ممن ليس مأذوناً فيها، فلا يجوز الإقدام عليها.
__________
(1) كذا بضمير المؤنث، فلفظ (البعير) يقع على الذكر والأنثى. (المصباح).
(2) ر. التلخيص لابن القاص: 430.
(3) ساقطة من الأصل.

(8/493)


وصاحب التلخيص استثنى هذه المسألة وحكم فيها بجواز الأخذ والنّحر، كما وصفناه.
وهذا قد لا يشبه المنحور الذي على غاربه العلامة التي وصفناها؛ فإن تلك العلامة تثبتُ مسلّطةً على جواز الأكل منها، ولم يثبت في مسألتنا علامة تسلط على جواز الذبح، مع جواز أن هذه البدنة شردت عن الرفاق، وامتنع عليهم أن يلحقوها، فغاية الإمكان أن تُقدَّر أنها خُلِّفت، ولم تُنحر قصداً لضعفها عن المسير قبل أيام النحر.
فهذا منتهى الإمكان في ذلك، مع التنبيه على ما فيه.
6015 - وقد يستثنى عن تحريم أخذ البدنة جواز أخذها على قصد الرد على مالكها. وهذا يخرّج على الوجهين اللذين ذكرناهما فيه، في أن من وجد مالاً ضائعاً، فأراد أن يأخذه محتسباً ليرده على مالكه، فهل له ذلك أم لا؟ وفيه الخلاف الذي مهدناه فيما تقدم.
***

(8/494)


باب يجمع فصولاً في الجعالة (1)
6016 - ذكر المزنيُّ فصولاً في آخر هذا الكتاب في أحكام الجعالة، ونحن نضبط قواعدَها، ونبين طريقها وتحقيقها، فنقول أولاً:
هذه معاملة أُثبتت، واحتُمل فيها جهالةٌ لمسيس الحاجة إليها، وسميت جِعالة لما فيها من ذكر الجُعل. ووجهُ مسيس الحاجة إليها أن العبد إذا أبِق، والبهيمةَ إذا شردت، ومست الحاجة إلى ردها، فقد (2) لا يستقل به صاحب الواقعة، ولا يسمح به من يتمكن منه. والغالب وقوع هذه الوقائع عند الجهل بمكان العبد الآبق، والجهةِ التي أخذ [فيها] (3)؛ وإذا كنا نحتمل جهالةَ القراض توصّلاً إلى تحصيل الأرباح من غير اضطرار وإرهاق إليها، فجهالة الجعالة أولى بالاحتمال.
ثم أثبت الشارع هذه المعاملة جائزةً، على ما سنصف ذلك فيها؛ فإن منتهاها غيرُ معلوم، وكل ما كان كذلك ثبوته على اللزوم بعيد، كما ذكرناه في القراض، بخلاف المساقاة والإجارة فإن المقصود منهما مضبوط، كما تقدم ذكر ذلك. ولا تُحتمل الجَهالة في الجُعل المسمى؛ من جهة أنه لا حاجة إلى احتمالها، كما وصفنا القول في ذلك، فليكن الجُعل في هذه المعاملةِ على قياس الثمن المذكور، والأجرةِ المسماة، ويُحتمل ما وراء ذلك من غررٍ.
6017 - ثم الجعالة تُتصور على وجهين: أحدهما - أن تُعلَّق بمخاطب معيّن.
والآخر - أن تُبهَم، ولا يُعيَّنُ فيها عاملٌ مخصوص.
__________
(1) الجعالة: بكسر الجيم، وبعضهم يحكي التثليث فيها (المصباح).
(2) في جميع النسخ: وقد.
(3) في الأصل، (د 1): منها. و"أخذ فيها": أي انطلق، وأوغل ضارباً فيها.

(8/495)


وصورة تعليقها بمعيّن أن يقول قائلٌ لشخصٍ: إن رددتَ عليّ عبدي، فلك دينار. أو يقولَ: رُدّ عليَّ عبدي، ولك دينار؛ فتصبح المعاملةُ كذلك، على صيغة الشرط، وعلى صيغة الأمر.
ثم لم يشترط أئمة المذهب القبولَ من المعيَّن للعمل، واكتفَوْا بصدور الشرط من الجاعل.
وهذا فيه بعض الاحتمال، وهو بعينه كما ذكرناه فيه، إذا قال (1 لمن يوكِّل: " بع عبدي هذا "، فقد أوضحنا أن الظاهر أن القبول لا يشترط في هذه الصيغة، وإنما التردّد، فيه إذا قال 1): وكلتك بيعَ هذا العبد، فيحتمل أن يقال: إذا قال الجاعل لمن يخاطبه: جعلت لك على رد آبقي ديناراً، فاشتراط القبول هاهنا لا يبعد أن يخرّج على الخلاف الذي ذكرناه في الوكالة.
وبالجملة الجعالة المعلّقة بمعيّن لا يمتنع أن تكون كالوكالة في اشتراط القبول، ولا يمتنع مع ما ذكرناه الفرقُ؛ من جهة أن الوكالة لا تحتمل إبهام الوكيل المستعمل، والجعالة تحتمل ذلك؛ فإنه لو قال: أذنت لكل من أراد في بيع عبدي هذا، لم يصح التوكيل على هذا الوجه. ولو قال: من رد عليّ عبدي الآبق، فله كذا، صحت الجعالة على هذا الوجه.
فهذا ما أردناه.
6018 - ثم قد أوضحنا أن الجهالة احتملت في الجعالة لمسيس الحاجة، فلو فرضى الجعالة، حيث لا جهالة، مثل أن يقول القائل لمن يخاطبه: إن خطت ثوبي هذا، فلك كذا، أو أبهم، فقال: من خاط ثوبي هذا، فله درهم، ففي صحة الجعالة حيث لا جهالة، ولا حاجة إلى احتمالها وجهان. والضابط لمحل الخلاف أن ما أمكن الاستئجار عليه على الشرائط المذكورة في الإجارة، ففي عقد الجعالة فيه ما ذكرناه، والأصح منعُ الجعالة إذا أمكنت الإجارة.
6019 - ثم من حَكم بالجعالة حيث تصح، قال: إن المجعول له لا يستحق من
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من (د 1).

(8/496)


الجُعل شيئاً ما لم يتم العمل. هذا متفق عليه، حتى لو ردّ العبدَ الآبق من مسيرة فراسخ إلى قرب البلدة، ثم سيَّبه، أو تركه على مكانته مقدوراً عليه، ولم يردّه، فلا يستحق مما سمي له شيئاً، ولا يستحق -والحالة هذه- أجرَ المثل أيضاً؛ فإن موضوع هذه المعاملة على تحصيل تمام المقصود من العمل، فإذا لم يحصل، لم يثبت للعامل استحقاقٌ.
هذا إذا أضرب العامل قصداً.
ويتصل به ما لو عسُر عليه إتمام العمل؛ فإنه لا يستحق الجُعْلَ، وإن لم يقصِّر وفاقاً، وكذلك القول فيه إذا مات العبدُ في الطريق.
والجملة أن تمام العمل لا بد منه، ولا يحصل استحقاقُ جزء من الجُعل دونه.
6020 - ولو فسخ الجاعل الجعالة، انفسخت، ولكن إن جرى الفسخُ على علمٍ من المجعول له قبل الخوض في العمل، فقد ارتفعت المعاملة.
ولو خاض المجعول له في العمل، أحبطنا عمله. وهذا على قياس فسخ القراض قبل الخوض في العمل.
ولو عمل العامل بعض العمل، وكان متمادياً إلى استتمامه، ففسخ الجاعل، نفذ فسخُه، وفائدة نفوذه سقوطُ الجعل المسمى بالكلّيّة، ولكن لا يحبَط عمل العامل، وله أجر مثل عمله.
وقد ذكرنا نظير ذلك في القراض.
وهذا هو الذي يليق بمصلحة المعاملة. أما سقوط الجعل، فلثبوت الجواز من الجانبين، وأما منعُ إحباط عمله، فسببه أن يثق العامل بالخوض في عمله، ولو لم يكن كذلك، لما حصلت الثقة، ولما رغب العامل في تعريض عمله للإحباط.
ولو فسخ الجاعل المعاملة من حيث لم يشعر العامل، فهذا لا يبعد تخريجه على أن الوكالة هل تنفسخ على غيبة من الوكيل قبل أن يبلغه الخبر؟ والظاهر أن الجعالة تنفسخ في مسألتنا؛ فإن مقتضاها ما ذكرناه من الجواز، وقبول الجهالة. والله أعلم.
6021 - فهذه صيغةٌ في الجعالة معلقة بمعيّن مخصوصٍ، ويجوز فرضها مع

(8/497)


شخصٍ واحد، ومع أشخاصٍ معينين، فإذا قال لنفرٍ: إن رددتم عليّ عبدي الآبق، فلكم كذا، فإذا ردّوه، واشتركوا في رده، استحقوا الجُعل. ثم ظاهر كلام الأصحاب أنهم إذا كانوا ثلاثة وردّوا العبدَ، فالجعل مفضوضٌ عليهم، نظراً إلى الرؤوس، دون أقدارِ الأعمال؛ وذلك أن العمل في أصله مجهول، فلا يمكن رعاية مقداره في الفضّ والتفسيط.
وليس يبعد عن قاعدة المذهب أن نقول: الجعل إنما يدفع إليهم عند تمام العمل، وإذا تم، فقد انضبط العمل، وتبين ما صدر من كل واحد؛ فيجوز أن يُفضَّ الجُعل على أقدار أُجور أمثالهم.
6022 - ومن حُكم الجعالة أن العمل إذا تم، استقر الجُعل، ولزم لزوماً لا يُدرَأ، وانتهر، بانتهاء العمل مقتضى الجواز، وسلطان الفسخ.
6023 - والأصل المقصود في الجعالة الذي منه ينشأ الإشكال على الناظر ما نصفه، ونبيّن ما فيه على تدريجنا في محاولة البناء.
فإذا قال القائل لمن يخاطبه: إن رددت عبدي الآبق، فلك دينار، فهذا في ظاهره يقتضي استدعاءَ العمل من المخاطب دون غيره. وهذا يتأكد في صيغة الشروط؛ فإن المطلق منها ما يقع التعرض له على التعيين، حتى يمتنعَ قيامُ غيره مقامه.
ولكن المعاملات تُبنى على مقاصد الخلق، لا على صيغ الألفاظ، لا سيّما إذا عم العرف، في بابٍ، فهو المتبع. ومما نعلمه من مقصود الخلق في هذه المعاملة أن من قال لمعيّن: إن رددت عبدي، فلك كذا، فقد لا يستمكن المعيّنُ من تعاطي ذلك بنفسه على الانفراد، والغالب أن حاجته تمس إلى الاستعانة بغيره، فلا معنى لحمل اللفظ على قصر العمل في المخاطب، ولكن يتعيّن حمله على تحصيل المقصود، والسعي فيه بأي وجهٍ أمكن، حتى لو استعان العامل بمن أراد بأجرة يبذلها، أو بأن يتبرع عليه المستعان بالإعانة، فإذا حصل المقصود، فلا نظر إلى جهات العمل بناءً على مقصود الباب.
وقد قال الشافعي: إذا عيّن الجاعل شخصاً في عمل الجعالة، فأعانه آخر، قلنا

(8/498)


للعامل: ماذا أردتَ بعملك، ومن أردته به؟ فإن زعم أنه أراد إعانة العامل متبرعاً، فللعامل تمامُ الجُعل، نظراً إلى ما مهدناه الآن. وإن زعم أنه قصد إعانة الجاعل فنفضُّ الجُعلَ عليهما، ونُسقط منه قدراً، ثم يعترض الفض على الرؤوس أو على أقدار الأعمال؟ والظاهر عندنا في هذا المقام الفض على أقدار الأعمال، والله أعلم.
6024 - ومما يتعلق بالقاعدة التي نحن فيها أنه إذا قال لزيد: رد عبدي الآبق، ولك عشرون درهماً، وقال لرجل ثانٍ: ردّ عبدي، ولك ثلاثون، وقال لثالث: رُدّ عبدي ولك ستون، فإذا اشتركوا في العمل وردوا العبد، فلكل واحدٍ منهم ثلثُ الجعل الذي سمي له، نصَّ الشافعي على ذلك.
فإن قال قائل: ينبغي ألا يستحق واحدٌ منهم شيئاً؛ فإنه علق استحقاق كل واحدٍ لما جعله له بأن يُتم العمل، ولم يتم واحدٌ منهم العملَ، ولم يعلق المعاملة بهم، على الاشتراك، ولم يقل: إن رددتم؟
قلنا: هذا خارج على الطريقة التي ذكرناها في اتباع المقصود وتحكيمه في الغرض المطلوب من غير رجوعٍ إلى صيغة اللفظ؛ فهذا مبنى الباب، وهو متفق عليه بين الأصحاب.
ولا حكم لبعض العمل فيها، قبل حصول المقصود، كما ذكرناه في ترك العامل عملَه في أثناء الأمر، وإذا حصل المقصود، فهو الأصل، وعليه التعويل.
هذا كله إذا علّق المعاملة بمعينين.
6025 - فأما إذا أبهم الشرط، ولم يعيّن، وقال: من رد عليّ عبدي الآبق، فله دينار، فالمعاملة تصح على هذا الوجه اتفاقاً، وسببه ما قررناه من بناء العمل على المقصود؛ فإن الرد قد لا يتمكن منه معيّن، ومن يقدر عليه لا يكون حاضراً، فإذا أشاع في الناس اشتراطَ الجُعل، واستوى فيه من شهد، ومن غاب، ترتب عليه حصول الغرض. وهذا حسنٌ في بابه.
ولا يلزم مثله في القراض؛ فإن تعيين العامل ثَمَّ ممكنٌ، والغالب مسيسُ الحاجة إلى إبهام العامل في الجعالة.

(8/499)


ولو قال: من رد عبدي، فله دينار، فتبرع إنسان بردّه، وما كان بلغه ذكرُ الجُعل على الردّ، فلا يستحق الرادُّ المتبرع شيئاً.
ولو رد إنسان العبدَ، وبنى عملَه على أنه يستحق الأجرة على كدِّه، وقد يعتقد ذلك كثير من الناس في العادات، ويرَوْن أن حق عملهم ألا يحبَط، فإذا جرى الرد على هذا القصد، وقد سبق من صاحب العبد ذكرُ جُعلٍ على الإبهام في العامل، فهذا مما تردد فيه شيخي، إذ طُرحت عليه المسألةُ، وزعم أن ثبوت الجُعل للرّادّ ممكن؛ فإن لفظ الشرط على الإبهام قد شمله بشيوعه وعمومه، وقد حصل المقصود بالرّد.
6026 - والظاهر عندنا القطعُ بأنه لا يستحق شيئاً؛ فإنه لم يخصَّص بالمعاملة تعييناً. ولم يبلغه لفظُ الجاعل على مقتضى العموم، وإذا انتفى الأمران، تجرد عملُه عن [العوض] (1).
وسر الباب أنا إنما احتملنا إثبات الجُعل مع إبهام العامل ليشيع اللفظُ في الناس ويستحثهم الجُعْل على إتمام العمل، وتحصيل المقصود، حتى كأن شيوع الخبر فيهم في دُعائهم إلى تحصيل المقصود ينزل منزلة تعيين العامل وتخصيصه بالمعاملة. فإذا وقع [العمل] (2) من غير تعيينٍ، ولا بلوغِ خبرٍ، كان خارجاً عن الضبط بالكليّة.
6027 - ولا ينبغي أن يعتقد الفقيه في مسائل هذا الباب فرقاً بين أن يذكر الجاعل لفظَ الشرط، فيقول: إن رددتَ، وبين أن يقول: رُدَّ عليّ، ولك دينار؛ فإن الأمر معه معنى الشرط، ولهذا نجزم جوابَه بالعربية جَزْم الجزاء، فنك تقول: ائتني أُكُرمْك، كما تقول: إن أتيتني أكُرمْك.
6028 - ولو أثبت الجاعل جُعلاً مجهولاً، أو أثبت مكان الجُعل خمراً أو خنزيراً، فإذا عمل العامل، استحق أجر المثل.
ولو ذكر الجاعل ثوباًً معيناً، وكان مغصوباً، أمكن تخريجه على جَعْل المغصوب صداقاً، أو بدلاً في الخلع حتى يخرّج على قولين في أن الرجوع إلى قيمة ما يقابل
__________
(1) في الأصل: التعلق.
(2) في الأصل: العامل.

(8/500)


الجُعل، وهو أجر المثل في هذه المعاملة، أو إلى قيمة العوض المسمى.
ويمكن أن يقال: نقطع هاهنا بثبوت أجر المثل؛ فإن العوض ركنٌ في المعاملة، بخلاف الصداق، والعلم عند الله تعالى.
6029 - ولو قال الرجل لإنسانٍ: رُدّ علي عبدي الآبق، ولم يسمّ له شيئاً، فإذا ردّه هل يستحق عليه أجرَ المثل؟ هذا يخرّج على ما مهدناه في الإجارة فيه إذا استعمل رجلاً في غسلِ ثوبٍ، أو خياطته، أو ما عنّ له من المقاصد، ولم يذكر له أجراً، وفيه الاختلاف المعروف بين الأصحاب.
6030 - ولو لم يستعمل أحداً، ولكن ردّ العبدَ رادٌّ من غير إذنٍ من المردود عليه، فإنه لا يستحق عندنا شيئاً، خلافاًً لأبي حنيفة (1)، ولا فرق بين أن يكون الرادُّ معروفاً برد الإباق متعرّضاً لهذا الشأن، وبين ألا يكون كذلك، فلا يستحق شيئاً إذا لم يذكر صاحبُ العبد جُعلاً، ولم يستعمل في رد العبد أحداً.
ومن يَرُدّ العبد من غير أمرٍ هل يصير ضامناًً للعبد بإثبات اليد عليه؟ فعلى الوجهين اللذين ذكرناهما في أخْد الرجل المالَ على قصد الرد إلى المالك.
...
__________
(1) ر. مختصر الطحاوي: 141، المبسوط: 11/ 17، البدائع: 6/ 203، مختصر اختلاف العلماء: 4/ 351 مسألة: 2049، الاختيار: 3/ 35.

(8/501)


باب (1) التقاط المنبوذ
6031 - وصل الشافعي هذا البابَ بمنقرض اللقطة لمّا كان فيها التقاطٌ، والغرض منه الكلامُ في أخذ الصبي الضائع الموضوع في قوارع الطرق، على الاعتياد فيه.
وللصبي الضائع اسمان مأخوذان من طرفي حاله، فيسمى المنبوذ؛ أخذاً من نبذه وطرحه، ويسمى اللقيط أخذاً من لقْطه وأخذه.
ثم الحكم الكلي فيه أنه إذا وُجد صبي في مضيعة، افتُرض على الكافة كفايتُه، والقيامُ بما يصلحه، ويقيه عن الهلاك، فإن قام بذلك قائم، سقط الفرضُ عن الكافّة بقيامه، وإن لم يقم به أحدٌ حتى ضاع، حَرِجَ أهلُ الناحية، على تفاصيلَ سنذكرها، إن شاء الله تعالى، في فروض الكفايات.
وكان يجمعها شيخي في كتاب السِّيَر إلحاقاً لها بالجهاد الذي يقع على الكفاية.
وروي: " أن عمر استشار الصحابة رضي الله عنهم في أمر اللقيط، فأجمعوا على أن نفقته في بيت المال " (3). فإذاً لكل من يستقل بأمر هذا الطفل، على ما سنذكر
__________
(1) تستمر نسخة (د 2) أصلاً، ويستمر معها (د 1)، (ت 3)، ويضاف إليها (ت 2).
(2) أثر عمر رضي الله عنه أنه استشار الصحابة في نفقة اللقيط فقالوا: " في بيت المال ". هو بهذا السياق غير معروف، فقد قال الحافظ في التلخيص: لم نقف له على أصل. وإنما يعرف من قصة أبي جميلة، ففيها أن عمر قال: " وعلينا نفقته من بيت المال ".
وقصة أبي جميلة هي أن أبا جميلة -واسمه سنين- وجد منبوذاً فجاء به إلى عمر، فقال: " ما حملك على أخذ هذه النسمة؟ " فقال: وجدتها ضائعة فأخذتها، فقال عريفه: يا أمير المؤمنين إنه رجل صالح، فقال: " اذهب فهو حر، ولك ولاؤه، وعلينا نفقته ". رواه مالك في الموطأ (2/ 738)، والشافعي (ترتيب المسند برقم 456). وزاد عبد الرزاق في مصنفه (9/ 14 رقم 16182): " وعلينا نفقته من بيت المال ". وعلقه البخاري بمعناه=

(8/502)


الشرائطَ المرعية في اللاقط أن يبتدره فيأخذه، ابتدارَه اللقطةَ التي يجدها، ويثبتُ له حقُّ حضانته، كما يثبت لواجد اللقطة حقُّ الاختصاص بها، ولا حاجةَ إلى مراجعة الوالي في ابتداء الأخذ، ولا في دوامه. هذا مجمع عليه فليعتقده الفقيه كذلك في صدر الباب.
6032 - ثم افتتح الشافعي الباب، وصدّره بذكر الأموال التي يصادفها اللاقط مع اللقيط.
ونحن نذكر أولاً- أن اللقيط له يدٌ تثبت على المال كما للبالغ يدٌ؛ فإنا لا نشترط في اليد الاستمكانَ من التصرف، والاستقلالَ بالذات، بل نكتفي في اليد بظهور اختصاص ذي اليد بما تحت يده. ونحن نعلم أن القميص الذي على الطفل في ظهور اختصاصه به، كالقميص الذي على البالغ المتصرف. ومن خلّف أطفالاً وأموالاً، فهم أصحاب الأيدي فيها، ولو فرض ادعاءٌ، فلهم حكم اليد في الأصل المعتبر في الخصومة.
6033 - ثم تكلم الأصحابُ وراء ذلك في يد الطفل، فقالوا: ما تحقق اتصاله به على ما يُعتاد في مثله، فهو تحت يده، ويدخل تحته لباسُه أوْ خِرقةٌ كان لُفَّ فيها، وما فُرش تحته وِطاءً، وما طرح عليه غطاءً، كل ذلك تحت يده، ويتصل بما ذكرناه الدُّرَيْهمات التي تُلفى في جيبه، أو مشدودةً على طرف ثوبه.
وكذلك لو صادفنا دُريْهماتٍ تحت الفراش، فهي حكم الفراش، وكذلك لو وجدنا دراهمَ مصبُوبةً على هذا الطفل من فوق، وكذلك لو وجدنا دابَّهً مشدودة بطرف ثوبه، فهي تحت يده.
فأما إذا وجدنا دَابّةً ترتع، ولم تكن متصلة به، ووجدنا على البعد منه ثياباً، أو دراهمَ، فهذه الأشياء خارجةٌ عن يده، والمحكّم في هذا كله العرفُ، والعادةُ.
__________
= (الشهادات، باب إذا زكى رجل رجلاً كفاه، 50/ 324 فتح) ر. تلخيص الحبير: (3/ 167، 169 ح 1382، 1384).

(8/503)


ومن نبد صبياً، فإنه قد يجمع إليه ثياباً، ونفقةً حتى يتخذها لاقطُه عُدةً في تربيته، ثم في ذلك عادة مضطربة (1).
6034 - والغرض من هذا الفصل يحصلُ بذكر مراتب:
المرتبة الأولى - في بيان ما يُعدّ تحت يد المنبود وفاقاً، وهي ما يتصل به لُبساً، أو شداً، أو افتراشاً، فالثياب الملفوفة عليه، أو المخيطة به لا يخفى أمرها، وكذلك الثياب التي هي موضوعةٌ عليه؛ فإنها ملتحقةٌ بالمفروشة، والوطاء الذي هو مفترشه بهذه المثابة.
وألحق الأصحاب بالفراش الدراهمَ الموضوعةَ تحت الفراش، والمصبوبةَ فوق الفراش، أو على الطفل. وأما الشدُّ، فبيّنٌ، ومن وجوهه شدُّ دابة به.
6035 - فأما المرتبة الأخرى فنقول فيها: كل ما لا يتصل بالصبي من الوجوه التي ذكرناها، ونراه بعيداً منه، كالدابة تُشد بشجرةٍ أو غيرها، وموضعها بعيدٌ عن موضع الطفل، فليست في يده، وكذلك الثوب [المطروح] (2) بعيداً منه، والدابة المسيّبة وإن قرب مرتعُها منه، فإنها في حكم البعيدة؛ فإنا إنما نتوصل إلى إثبات اليد من الجهة التي ذكرناها في العرف؛ إذ قلنا: [يُنبد الطفل ومعه] (3) ما يظهر للعاثر عليه أنه ماله.
وهذا لا يتحقق فيما يبعد (4).
6036 - وأما إذا كان بالقرب منه دراهمُ أو ثيابٌ أو دابة مربوطة، فقد تحقق القرب والاتصال من الوجوه التي ذكرناها، ففي هذه الأشياء وجهان: أحدهما - أنها تحت يد اللقيط.
والثاني - أنها ليست تحت يده، وسبب الاختلاف اضطراب القول في العرف،
__________
(1) (د 1)، (ت 3): سقط لفظ (عادة) ووصفت بـ (مضبوطة).
(2) في الأصل، (د 1)، (ت 3): المطرح.
(3) في الأصل: " تمهيد يد الطفل إذا كان معه ... ".
(4) هذه هي المرتبة الثالثة.

(8/504)


وكل ما يُتلقى من العرف، فوفاقه من ظهور العرف مع انتفاء الريب. والوفاقُ في نفيه لانتفاء العرف من غير شك، والاختلاف سببه تطرّق الريب إلى العرف وإمكان تقابُل الظنون. وألحقنا الدابة المسيَّبة، وإن صادفناها قريبةً بالمرتبطة البعيدة؛ لأن الدابةَ إذا كانت مسيّبةً، فلا ضبط لها، ويستحيل أن [يُعوِّل] (1) من يبغي ضمَّها إلى الطفل على قربها، ثم يتركها مسيَّبةً.
6036/م- ولو صادفنا تحت الطفل دفيناً في الأرض، فهو بمثابة ما يبعد، وإن كانت مسافة العمق بحيث لو فرضت بين الطفل وبين الثوب المطّرح، لكانت قريبةً داخلةً في الوجهين.
والسبب فيما ذكرناه أن الدفن في قصد الضم إلى الطفل مما لا يُعتاد؛ إذ لا يعثر على الدفين لاقط المنبود إلا على وفاق.
واضطرب أصحابنا في صورةٍ، وهي أنا إذا وجدنا في أدراج ثوب الطفل رقعةً مضمونُها: أن تحت الطفل دفينٌ، وهو له، فليأخذه لاقطه، فهذا مما اختلف الأصحاب فيه: فمنهم من لم يبالِ بالرقعة، وأجرى القياس في الدفين على ما ذكرناه، ومنهم من ألحق الدفينَ بسبب الرقعة بما هو تحت يده؛ فإن مثل هذا غير منكر في العرف.
ثم من عوّل على الرقعة فيما ذكرناه، فليت شعري ما قوله فيه إذا أرشدت الرقعة إلى دفينٍ بعيدٍ، أو إلى دابةٍ ربيطةٍ بالبُعد، وهذا فيه تردّدٌ ظاهر؛ تخريجاً على ما ذكرناه من الخلاف في الدفين تحت الطفل، أو قطعاًً عن تلك الصورة، والعلم عند الله تعالى.
6037 - وممَّا نختم به هذا الفصل أن من لقَطَ المنبوذَ، صارَ أولى به، وأحقَّ بحضانته، إذا كان من أهل الحضانة، ولا يسوغ لأحدٍ مزاحمتُه.
أما الأموال التي تكون تحت يده، ففيها وجهان: أحدهما - يكون أولى بحفظها.
والثاني - أنه يتعين عليه رفعها إلى القاضي.
__________
(1) في الأصل: يقول.

(8/505)


ومن قال: يتعين رفعها، إلى القاضي، احتج بأن اليد لا تثبت على مال الطفل إلا بولايةٍ خاصة، أو عامّة، وهذا اللاقط لا ولاية له على العموم، ولا على الخصوص.
ومن تمسك بالوجه الثاني، احتج بأنه إذا صار أولى بحفظ المالك من السلطان، فلا يبعد أن يصير أولى بحفظ ملكه.
والقائل الأول يقول: قد ثبتت الحضانة حيث لا تثبت ولايةُ المال؛ فإن الأم لها حق الحضانة، وهي أولى بحضانة الطفل الذي لم يبلغ مبلغ التمييز من الأب، ثم لا ولاية لها في المال.
وهذا الذي ذكرناه في ثبوت حق اليد فحسب، فأما التصرف في مال اللقيط من غير مراجعة الوالي، فلا سبيل إليه، كما سنصفه بعد ذلك، إن شاء الله عز وجل.
6038 - ومما حكاه بعضُ من يوثق به عن القاضي أنا لو صادفنا منبوذاً في دارٍ أو بيتٍ، فتلك البقعة تحت يد المنبوذ. وهذا حسنٌ فقيه. وإن كان يرتاع أولُ الفكر منه؛ فإنّ صورة يد الطفل كصورة يد البالغ، وإن كان البالغ قد يذبُّ عما في يده، والطفلُ لا يذب.
6039 - ولا يبعد عندي أن تُرتَّب يدُ البالغ على المراتب الثلاث، إن فرض نزاعٌ، وأردنا أن نعلّق حكماً بيدٍ، حتى يطرد الوفاق نفياً وإثباتاً، والخلاف على ما رتبناه.
وقد جرى ذكر الدفين في الفصل، فذكرنا أمر الركاز وما يميّزه عن اللقطة.
وسأعقد فيه فصلاً في أثناء الكتاب، إن شاء الله تعالى.
فصل
قال: " وإن كان ملتَقِطه غيرَ ثقة، نزعه الحاكم منه ... إلى آخره " (1)
6040 - الفاسق ليس من أهل الالتقاط للمنبوذ؛ فإنه أمانة محضةٌ صادرةٌ عن ائتمان الشرع، والشرع لا يأتمن الفاسق، سيّما في الأمور الخطيرة، وإن كان الملتقِط مما
__________
(1) ر. المختصر: 3/ 131.

(8/506)


لا يظهر للناس منه إلا الخير، فهو من أهل الالتقاط ولا يتوقف ثبوت حقِّه في الحضانة إذا التقط، على ظهور عدالته ولكن حق السلطان أن يرعاه، ويبحث عن حاله، فإن اطّلع منه على خيانة خفية، انتزع اللقيط من يده، وإن ظهرت له عدالته، أقر المنبوذ تحت يده.
ولا يؤذيه بنصب رقيب عليه يخالطه، ويداخله، ولكن إن فعل هذا، فعل من حيث لا يتأذّى. ثم إذا وثق، انكفّ عنه.
6041 - ونص الشافعي على وجوب الإشهاد على التقاط المنبوذ، وردّد نصه في وجوب الإشهاد على التقاط اللقطة.
أمّا القول في اللقطة، فقد تقدّم.
وأما الإشهاد على التقاط المنبوذ، فالترتيب الحاوي لما قيل فيه أنا إن أوجبنا الإشهاد على اللقطة؛ فاللقيط بذلك أولى؛ فإن الأمرَ فيه أخطر، والمحذور أعظم وأظهر؛ فإن الملتقط إذا لم يكن موثوقاًً به باطناً، وإن كان يُظهر العدالة- قد يُخفيه، وقد يدعي رِقَّه، وهذا أعظم من تلف الأموال.
وإن لم نوجب الإشهاد على اللقطة، ففي وجوب الإشهاد على لقْط المنبود أقوالٌ: أحدها - أنه لا يجب تعويلاً على ظن الخير، فإنه لو قُدّر غيرُه، لم يندفع بالإشهاد شيء، ولم تنحسم الغوائل.
والقول الثاني - أنه يجب الإشهاد؛ فإن الملتقط ليس متمسكاً بولاية عامةٍ، ولا بولاية خاصة، وإذا أراد الواجد أن يتصرف تصرُّفَ الولاة عند مسيس الحاجة، فينبغي أن يُسند ما هو فيه إلى الإشهاد، حتى يدنو حاله من حال الولاةِ، ولهذا نظائر مضت، وسيأتي على القرب شيء منها.
والقول الثالث - أن الملتقِط إن كان ظاهِر العدالة، لم نكلفه أن يُشهد، وإن كان مستورَ الحال، نكلفه أن يشهد، حتى يصبر الإشهاد قرينةً تُغلب على الظن الثقة كالعدالة إذا ظهرت.

(8/507)


فصل
قال: " ويأمره بالإنفاق منه عليه بالمعروف ... إلى آخره " (1).
6042 - مضمون الفصل القول في نفقة اللقيطِ. واللقيطُ لا يخلو إما أن يكون معه مالٌ، أو لا يكون، فإن كان معه مالٌ، فالإنفاق عليه من ماله.
ولكن لا خلاف أن الملتقط لا يتولى ذلك بنفسه، مع القدرة على مراجعة الحاكم، بل يرفع الأمر إليه، ليرى فيه رأيه، فإن رأى أن ينزعه من يده، ويدفعه إلى أمين ينفق عليه، جاز، ولو أذن له في أن يصرف ما صادفه للطفل إلى نفقته، جاز ذلك؛ إذ لا فرق بين أن يكون المنصوب أجنبياً، وبين أن يكون المنصوب الملتقط.
وذكر العراقيون وجهاً بعيداً: أن القاضي لا يأذَن له في صرف مال الطفل إلى نفقته.
وهذا بعيدٌ لا أعرف له وجهاً، ولا آمن أن يكون غلطةً من ناسخ.
فإن دفع ماله إلى أمين لينفقه عليه، أنفق ذلك الأمين بالمعروف من غير سرفٍ، ولا تقتير، يجر ضرراً على الطفل.
6043 - ولو أنفق الملتقط مال الطفل عليه، وفي البلد قاضٍ، ضمن إذا لم يراجعه والخلاف الذي ذكرناه في الفصل الأول في ثبوت حق الحفظ له في المال، فأما التصرف، فلا يملك الاستبدادَ به، مع القدرة على مراجعة الحاكم، وإنما له ولاية الحضانة.
وإن لم يكن في البلد حاكم، فتولى الملتقطُ الإنفاق بنفسه من مال الطفل، ففي المسألة أوجه: أحدها - أنه يفعل ذلك، ويملكه.
والثاني - لا يملكه.
والثالث - إنه يملكه إن أشهد على كل إنفاق، ولا يملكه إذا لم يشهد.
__________
(1) ر. المختصر: 3/ 131.

(8/508)


وهذا الخلاف بمثابة الخلاف الذي ذكرناه فيه إذا هرب الجمّال، ومَسّت حاجةُ المستأجِر إلى الإنفاق على الجمال.
فإذا أنفق من مال نفسه، فهل يملك الرجوع على الجمّال؟ فعلى الخلاف الذي ذكرناه.
وذهب بعض الأئمة إلى ترتيب إنفاق الملتقط من مال اللقيط على إنفاق المستأجِر في مسألة هرب الجمّال، وجعل إنفاق الملتقط أولى بالجواز لسببين: أحدهما - أنه ذو حضانة وولاية في اللقيط، فلا يبعد أن يتصرف في ماله إذا عسُرت مراجعةُ الوالي.
والآخر - أنه إذا أنفق من ماله على الجمال، فإذا أراد الرجوع، فإنما يرجع بحق نفسه على غيره، فبعُد ذلك بعضَ البعد، وليس كذلك إنفاق الملتقط على اللقيط؛ فإن الذي يرتقبه في عاقبة الأمر أن يصدَّق، وإذا كان مؤتمناً في نفس اللقيط، لم يبعد أن يؤتمن في ماله إذا عسر الرجوع إلى الوالي.
هذا كله إذا كان للطفل مالٌ.
6044 - فأما إذا لم يكن له مال، فنفقته في سهم المصالح. أجمع عليه علماء الصحابة رضي الله عنهم، كما حكيناه في أول الباب.
ومضمون هذا الكلام الآن يتصل بطرفٍ من الإيالة (1)، وقلّما يخوضُ الفقهاء فيها، فيسلمون عن خبطٍ.
ونحن نذكر ما قيل في ذلك، ثم نوضح الحق:
6045 - فإن لم يكن في بيت المال مالٌ، ولم يتمكن الإمام من الاستدانة، فنفقة المنبوذ على أهل اليسار والاقتدار من المسلمين، وهذا ركنٌ عظيم في الإيالة، فلا شك أن السلطان لا يقدر على فضّ نفقته على جملة الموسرين في الصُّقع والناحية، فضلاً عن أهل خِطةِ الإسلام، وليس هذا مما ينفصل الأمر فيه بقرعة؛ فإنها إنما تجري عند انحصار الجهات، أو الأشخاص. فقال العلماء: يضرب السلطان نفقته على من يراه من أهل البلدة، ويكون له رأي في ذلك، حتى لا يهجم من غير تعلق
__________
(1) الإيالة: السياسة.

(8/509)


بوجهٍ من النظر، فإن استوت عنده جهات النظر، فليس إلا التخيّر.
6046 - ثم اختلف الفقهاء في أن من أنفق على لقيطٍ لا مال له، أوعلى فقيرٍ مضطر بالغٍ بأمر الإمام، ولم يقصد التبرعَ بما يخرجه فهل يجد مرجعاً، أم لا؟ فذهب طائفة من المحققين، وإليه مَيْلُ القاضي: أنه لا يجد مرجعاً.
وذهب آخرون إلى أنه يرجع؛ فإن وجوب الإنفاق لا يُسقط حقَّ الرجوع بالقيمة؛ فإن من كان يملك طعاماً فاضلاً عن حاجته، وصادف مضطراً مشرفاً على الهلاك، فعليه تسليمُ الطعام إليه بالقيمة، فليكن الأمر فيما نحن فيه كذلك.
والوجْه في هذا عندنا أن المضطر الذي لا يملك الطعامَ، ولا يقدر على التوصّل إليه إذا كان له مالٌ، فصاحب الطعام يُطعمه بالقيمة، كما أطلقه الأصحاب، فأما من لا يملك شيئاً، وظهر افتقاره، واضطرارُه، فهو عيالٌ على المسلمين، ولكن مرجعه إلى بيت المال إن كان في بيت المال، مالٌ، فإن لم يكن في بيت المال مال، وحَكَمَ الإمامُ مجتهداً، أو على حكم [التخيّر] (1) على من يرى، فأنفق عليه، فلا مرجع للمنفِق على الفقير إذا أيْسر، ووجدَ وفاءً.
ولكن هل يثبت له الرجوع على بيت المال إذا وُجد فيه مال في الاستقبال؟ هذا مختلفٌ فيه، ولعلنا نقرر من ذلك طرفاً صالحاً عند ذكرنا أحكام القضاة والولاة، وما لهم وعليهم.
6047 - ثم إذا دفع القاضي مالَ الطفل اللقيط إلى ملتقِطه لينفق عليه، فالقول قول المنفق فيما ادّعى إنفاقَه مع يمينه إن حلّفه اللقيطُ بعد بلوغه.
وهذا إذا ادّعى قصداً أو أمراً وسطاً معروفاً في الإنفاق. وإن ادعى مزيداً على المعروف، لم يحلَّف، وكان مُقرّاً على نفسه بالعُدوان، فيلتزم الضمان، ولا معنى لتحليفه إلا أن يقع النزاع في عينٍ من أعيان المال (2)، فالقول قوله: إني أخرجتها، وإن كان يلتزم لأجل السَّرف ضمانَها.
__________
(1) في الأصل: (التخيير) والمثبت من (د 1) وحدها. وهو الصواب إن شاء الله.
(2) أي فيحلّف على أنه أخرج العين محل النزاع.

(8/510)


وقد قال الشيخ أبو بكر القفال: إذا ادّعى الغاصبُ تلف العين المغصوبة، والتزم قيمتها، فقال المغصوب منه: عين مالي قائمةٌ غيبتَها، وأنت تبغي الاستبدادَ بها، وبذْلَ قيمتها، فالقول قول الغاصب. وهذا لا ريب فيه، ولكنه بدعٌ قد يغفل القيَّاسُ عنه؛ فإن الأصل بقاء العين، وليس الغاصبُ مؤتمناً، فيصدّق، وتغليظ الشرع عليه بيّن، ولكن لو لم نصدقه، وحلفنا المغصوب منه، فحكم ذلك أن يُحبَسَ الغاصبُ، ولو حُبس، فكيف خلاصه لو كان صادقاً؟ وهذا محالٌ، لا سبيل إلى إفضاء الحكم إليه.
6048 - ولو قال الحاكم للملتقط: أنْفق عليه من مالك، لترجعَ به، فقد ذكر الأئمَّة في ذلك وجهين: أحدهما - أنه لا يجوز هذا، فإن في تجويزه تسليطُه على أن يتملك على الغير مالاً بنفسه لنفسه بمعاملة يستبد بها، من غير تمسكٍ بالشفقة العظمى. وهي شفقة الأبوّة.
وقد ذكرنا نظيرَ ذلك في هرب الجمال، إذا قال القاضي: أنفق وارجع.
وهذا الذي ذكره الأصحابُ هاهنا يستدعي مَزيد تفصيلٍ؛ فإن اللقيط إن انتهى إلى حالة الضرورة، فقد قررنا القولَ في أن الإنفاق عليه من بيت المال، وإن لم يكن في بيت المال مالٌ، فالإنفاق هل يُثبت رجوعاًً؟ وإن أثبت فعلى من؟
ولا ينبغي أن يكون ما ذكرناه من الاختلاف هاهنا موضوعاً فيما يسدُّ الضرروة، ولكن الإنفاق على اللقيط ينقسم، فمنه ما يقع سدّاً للضرورة، ومنه ما يقع وراء سدّ الضرورة، وإن كان لا يبلغ السَّرفَ، وذلك هو الذي يتعلق بنظر الوالي وإذنه، ويجوز أن يُفرض الرجوع فيه على اللقيط إذا بلغ، وعلى هذا يتفرع ما ذكرناه.
6049 - ولو استقرض من الملتقط مالاً وقبضه ثم دفعه إليه، وأمره بالإنفاق على الطفل، فهذا جائز وجهاً واحداً، فيقع الاستقراض الأول من الحاكم على الطفل، ثم يصير ما قبضه مالاً للطفل، فيعود التفصيل إلى ائتمانه الملتقطَ على الإنفاق من مال الطفل.

(8/511)


فصل
قال: " لو وجده رجلان؛ فتشاحّا فيه، أقرعتُ بينهما ... إلى آخره " (1).
6050 - تعرّض الشافعي لازدحام الملتقِطَيْن، وتنازعهما في حق الحضانة.
والقول في تحقيق ذلك يستدعي تقديم صفات من هو من أهل الالتقاط، ومن ليس أهلاً له، ونحن نوضح ذلك، ثم نبني عليه تقدير الاجتماع؛ حتى نبيّن أن من لا يكون من أهل الالتقاط، ليس من أهل الزحمة، وإنما تُفرض الزحمة بين شخصين كل واحد منهما من أهل الالتقاط.
فنقول: الحر الأمين المسلم من أهل الالتقاط. وذكْرُنا الحرَّ يُخرج العبدَ، والأمين يخرج الفاسق، والمسلم يخرج الكافر من الضبط الجامع.
والمبذرُ -وإن كان عدْلاً في دينه- ليس رشيداً، ولا يأتمن الشرعُ من لا يتصف بالرشد.
أما العبد، فليس من أهل الالتقاط؛ فإنه لا يتفرغ إلى حضانة اللقيط، ومنفعتُه مستغرقةٌ بحق مولاه، فإن أَذِن له السيد في التقاط منبوذٍ، فالسيد هو الملتقط، فيعود النظر إلى صفته.
وأما الفاسق، فليس من أهل الالتقاط، وإن التقط، وشعر الحاكم به، انتزع اللقيطَ من يده. فأما المستور، فقد قدّمنا فيه قولاً بالغاً، فلا حاجة إلى إعادته.
وأما ذكرنا المسلم، فنقول: إن كان اللقيط محكوماً بإسلامه على ما سنذكر تفصيل ذلك في الفصل الذي يلي هذا الفصل -إن شاء الله تعالى- فليس الكافر من أهل التقاطه، ولو التقطه انتزع من يده. وإن كان اللقيط كافراً، فالكافر من أهل التقاطه، والمسلم أيضاًً.
والمعسر من أهل الالتقاط؛ فإن الحضانة تتأتى منه، والإنفاق سبيله ما قدّمناه في الفصل المقدم.
6051 - ومما نقدمه على الخوض في الازدحام أن نقول: من التقط لقيطاً في
__________
(1) ر. المختصر: 3/ 132.

(8/512)


البلد، وأراد أن ينقله إلى البادية، لم يمكّن منه، لمعنيين: أحدهما - أن عيش أصحاب البوادي ضيّق، ويقلّ فيهم الاتساع في المعيشة، والرغد، وقد تمس حاجة الطفل إذا مرض إلى مراجعة الطبيب، وابتغاء دواءٍ وسعيٍ في استصلاحه، وليس ما أشرنا إليه من النوادر في الأحوال، وأسبابه [عَسِرةٌ] (1) في البادية.
ومنهم من علل منع نقله بخفاء النسب؛ فإنه لو ترك في البلد، لأوشك أن يظهر له أبٌ، أو أمّ، وإذا نُقل إلى البادية، فقد يتعذر ذلك. وهذا مَنَعَ الإبعادَ. فأما إذا كان الموضع الذي إليه الانتقال قريباً، فسأذكره في التفصيل، إن شاء الله تعالى.
ومن نقل لقيطاً من البلد الذي وجده فيه إلى بلدٍ آخر، ففي جواز ذلك وجهان مبنيان على المعنيين اللذين ذكرناهما، فمن راعى في المنع ضيقَ المعيشة في البادية، فهذا المعنى مفقود في النقل إلى بلدة أخرى، ومن راعى توقُّعَ ظهور النسب منع النقل إلى بلدة أخرى، فإنّ توقّع ظهور والدٍ مستلحِقٍ، أو والدةٍ يختص بالبلدة التي فيها العثور على اللقيط.
ومن وجد لقيطاً في باديةٍ، فإن كان في مضيعةٍ، ولو تركه، لهلك، فيأخذه، ثم لا ينقلب لأجله، ولكن يأخذ صوبَه وتلقاءَ قصده.
6052 - فأما إذا صادفه، في أثناء قبيلة ضخمةٍ ولقطه، وأراد أن ينقله إلى بلده، فالذي قطع به شيخي، ومعظم الأصحاب أن ذلك جائز، وما يفرض من انقطاع توقع الظهور في النسب لا يعادل أمنَ البلد، وخَيْره، وأصحاب البوادي على أغرارٍ.
وذكر القاضي وجهين مبنيّين على المعنيين. وقال: إن راعينا النسب وعوّلنا عليه، ففي نقله إلى البلدة تضييعُ ما يتوقع من ظهور نسبه، وإن راعينا مصلحة اللقيط في نفسه وتهيؤ أسباب المعيشة، فيجوز النقل حينئذ.
6053 - ولو وجد في البلد، ونقل إلى برّية قريبة، لا يتعذر نقل الحوائج من البلدة إليها، ولا يتحقق في الانتقال إليها ضيقٌ في المعيشة معتبر، فمن راعى هذا المعنى، لم يمنع من هذا الانتقال.
__________
(1) في الأصل: عشرة. وفي باقي النسخ: (عسر).

(8/513)


ومن راعى النسب، وجب أن يعتبر اختلاط أولئك المنتقلين بأهل البلدة، واختلاط أهل البلدة بهم، فإن كان الأمر كذلك، فلا يخفى النسب، وأهل البريّة في الصورة التي ذكرناها بمثابة محلّةٍ من بلدةٍ في المعنى الذي نطلبه من أمر النسب. وإن كانوا لا يكثرون الاختلاط بأهل البلدة، فيوشك أن يمنع من هذا الانتقال مَنْ يعتبر معنى النسب. والله أعلم.
6054 - ولو وجد لقيطاً في البادية، فأراد أن ينقله إلى قطرٍ آخر من البادية، فللقبائل في البوادي سنّةٌ في [التعارف] (1) والاعتناء بالأنساب، ولا حاجز.
ومن راعى عسر المعيشة، فلا عسر، ومن راعى أمر النسب، فلا ضرار عليه.
وهذا إذا وقعت القبائل موقعاً لا ينقطع عن بعضها أخبار البعض.
فأما إذا نأت المسافاتُ وتقاذفت الديار، فالمسافة البعيدة حائلة، فيتحقق عند ثبوتها ما أشرنا إليه من أمر النسب.
فهذا تفصيل القول في النقل الجائز والنقل الممتنع.
فإذا ثبتت هذه المقدمات، عدنا بعدها إلى تفصيل القول في اجتماع الملتقطين على لقيطٍ واحد، فنقول:
6055 - إذا اجتمع حرّ وعبد، فليس هذا من الازدحام في شيء؛ فإن العبد ليس من أهل الالتقاط. وهذا إذا انفرد دون إذن مولاه، فإن كان بإذنه، فالنظر في السيد، والملتقط الآخر.
وإذا اجتمع مسلم وكافر على لقيطٍ محكوم له بالإسلام، فليس هذا من الازدحام الذي نعنيه؛ فإن الكافر ليس من أهل التقاط المسلم.
وكذلك إذا اجتمع عدل وفاسق.
فإذا اجتمع فقير وموسر، فالموسر أولى إن كان يغلب على الظن ضيق معيشة الفقير واشتغاله [بجمع] (2) قوته عن القيام بحق الحضانة على كماله.
__________
(1) في الأصل: التقارب.
(2) في الأصل: بجميع.

(8/514)


ولو كان موسراً متوسعاً في الغنى، ولم يكن الثاني من الفقراء، ولكن كان ضمه إلى المتوسع في يساره أنفع له، فهذا مما اختلف الأصحاب فيه: فمنهم من رأى ضمَّه إلى من الضم إليه أنفع، ومنهم من يقول: إذا استويا في انتفاء الافتقار، فلا نظر إلى الأنفع؛ فإن ذلك غير متناهٍ، ولا منضبط.
وإذا كان ظاهرُ أحدهم العدالة، وكان الثاني مستوراً غيرَ ظاهر العدالة، وقد أوضحنا أن المستور من أهل الالتقاط، فقد اختلف أصحابنا في ذلك:
فالذي كان يميل إليه شيخي القطع بأنه يضم إلى العدل الذي عدالته ظاهرة. وكان يُنزل ظهور العدالة بمنزلة الغنى وحال المستور منزلةَ الفقر.
ومن أصحابنا من ذكر في ذلك خلافاًً؛ من جهة أن المستور لا يُسلِّم لمن ظهرت عدالتُه اختصاصه بالعدالة، ويقول: التقصير ممن لم يبحث عن عدالتي، ولم يطلع على سيرتي، والحضانة حقي؛ فلا أسلمها.
وكأن شيخي (1 جعل التفاضل في العدالة كالتفاضل في اليسار والغنى، وقد سبق التفصيل فيه.
وكان يقول: البلدي والقروي إذا ازدحما، فالبلدي أولى، والبلدي والبدوي لا يزدحمان؛ فإن البدوي ممنوع عن نقل اللقيط الموجود في البلد إلى البادية، وإنما تظهر أحكام الازدحام إذا كان كل واحد بحيث لو انفرد، كان من أهل الالتقاط.
وكان شيخي 1) يقول: المكاتب ليس من أهل التقاط المنبوذ؛ فإنه تحت أسر الرق، واشتغاله بالحضانة يلهيه عن كسبه، ويعطِّل كثيراً من منافعه، فينزل ذلك منزلة التبرع، وحكم التبرع أنه إن انفرد به، لم يصح ذلك منه، وإن كان بإذن مولاه، ففيه اختلاف، ويتأيد ما قاله بالتحاق حق الحضانة بالولايات، والمكاتب ليس من أهلها، وإنما صححنا منه التقاط اللقطة على قولٍ ظاهر لما في التقاط اللقطة من غرض الكسب، والتقاط المنبوذ ائتمان محض من الشارع والشرع لا يأتمن المكاتبَ والعبدَ، فهذا منتهى المراد في هذا الفصل.
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من جميع النسخ ما عدا الأصل.

(8/515)


6056 - ثم إن تحقق استواء المزدحمَيْن على اللقيط، فلا يضم إليهما جميعاً، فإنه لا يتصور قيامهما بحضانته على الاجتماع، ولو جعلنا حفظه مهايأةً بينهما، لظهر تضرر المولود، فإن للإلف وقعاً في النفوس لا ينكر، فلو ضُم الصبي إلى أحدهما، فقد يألفه، ويتخلق بأخلاقه، فإذا قطعناه عن هذا وضممناه إلى صاحبه، تضرر بالانقطاع عمّن ألفه، ثم يكون على نِفارٍ مع الثاني في ابتداء الأمر، فإذا أنس به، احتجنا إلى قطعه ورده إلى الأول؛ فلا يصير إذن صائر إلى ضم اللقيط إلى المتنازعين جميعاً، ولا بد من ضمه إلى أحدهما، ولا طريق إلا أن نقرع بينهما، فمن خرجت قرعته سلّم الطفل إليه.
6057 - ولو سبق أحدهما إليه واحتضنه، فهو أولى.
ولو كان السابق المحتضن فقيراً وطلب الحضانة، أجيب إليها، فإذا احتضن، ثم ظهر موسرٌ لو شاركه عند العثور، لكنا نقدمه، فإذا جاء من بعدُ، فلا حق له في الحضانة؛ فإن الحق المستحَقَّ لا يُنقض بأمثال هذا.
6058 - ولو ازدحم رجلان متساويان، وقلنا: إنه يُقرَع بينهما، فلو طلب أحدهما، وترك الثاني حقه بعد تقدُّم الازدحام، فهل نترك تاركَ حقه، حتى يخلص حقُّ الحضانة للثاني؟ فعلى وجهين: أحدهما - يسقط حقه، ويصير الثاني كالمنفرد بالاحتضان والوجدان أول [أمره] (1). وهذا هو الصحيح، كما لو ازدحم شفيعان، ثم عفا أحدهما عن حقه؛ فإن حق الشفعة يخلص للثاني.
والوجه الثاني - أنه لا يخرج العافي من البَيْن (2)، فإنه ثبت له حق ناب فيه عن المسلمين، فلا يتأتى إخراجه نفسه من البَيْن.
وهذان الوجهان ذكرهما العراقيون، ونقلهما القاضي، ووجه الأول بيّن.
__________
(1) في الأصل، (د 1)، (ت 3): مرة.
(2) البين: هذا اللفظ نجده عند إمام الحرمين في البرهان، وفي هذا الكتاب، ومعناه واضح من السياق. ولكنه غير منصوص في المعاجم التي وقعت لنا (المصباح، والوسيط، والقاموس المحيط، والأساس، واللسان، والزاهر، وكشاف اصطلاحات الفنون، وكليات أبي البقاء).

(8/516)


وأمّا الوجه الثاني، فلا ينقدح له وجه إلا على التقدير الذي أذكره فأقول: من التقط لقيطاً، واحتضنه، فهو في حكم الخائض في فرض الكفاية، ومن لابَس فرضاً من فروض الكفاية، وكان متمكناً من إتمامه، فأراد الإضراب عنه، فقد نقول: ليس له ذلك، ويصير فرضُ الكفاية بالملابسة متعيّناً.
وهذا فيه نظرٌ وتفصيلٌ، وسأذكره في أحكام فروض الكفايات من كتاب السّير، إن شاء الله تعالى.
6059 - وعلى هذا التقدير لو انفرد الرجل بلقط المنبود واختص بحضانته، فلا شك أنه يحرم نبذه وردُّه إلى ما كان عليه أولاً، ولكن هل يجوز له أن يدفعه إلى القاضي حتى يسترده منه، [فيقيمَ] (1) غيرَه مقامه؟ فيه تردد مأخود من كلام الأصحاب والمسألة مفروضةٌ فيه إذا لم يكن به عجزٌ عن القيام بحق الحضانة.
6060 - والسرّ في ذلك موقوف على المباحثة عن مراتب فروض الكفايات، وذكر ما يتعين منها بالملابسة وما لا يتعين، وما يضطرب الرأي فيه.
وهذا الذي نحن فيه مما اضطرب فيه علماؤنا، فإذا ثبت ذلك، بنينا عليه صورة الازدحام، وقلنا: إن رأينا على المنفرد بالالتقاط ألا يترك الحضانة ما وجد إليها سبيلاً، فإذا ازدحم رجلان، ثم أعرض أحدهما، ففي المُعرض وجهان: أحدهما - أنه لا يُترَك [و] (2) الإعراضَ، كما ذكرناه في المختص بالالتقاط. والثاني - له الإعراض؛ فإنه لم يثبت له حقٌّ خالص، بل كانت الحضانة متنازعةً بينه وبين مزاحمه.
وقد أوضحنا أنه لا يتصور ثبوت حق الحضانة لهما جميعاً على الاشتراك، فإذا ترك أحدهما حقه، لم يكن تاركاً حقّاً مستقراً.
ثم الذي يقتضيه القياس في التفريع على هذا الوجه أن القاضي يقول لهذا التارك: ليس لك إخراجُ نفسك من البين، ولكن يُقرَع بينكما، فإن خرجت القرعة في الحضانة لك، فالتزمها وتمّمها، كما لو كنت منفرداً باللّقْط، وإن خرجت القرعةُ لصاحبك،
__________
(1) في الأصل: أو يقيم.
(2) الواو للمعية. ثم هي ساقطة من نسخة الأصل وحدها.

(8/517)


خرجت من البين. هذا وجه تفريع هذا الوجه.
وقال: بعضُ أصحابنا: إذا ترك أحدهما حقه، وقلنا: إنه لا يُخرج نفسَه من البين، فينصب القاضي أميناً، ويقيمه مقام هذا التارك، ويُقرع بين الباقي من المزدحمَيْن، وبين هذا الأمين الذي نصبه، فإن خرجت القرعة للأمين، سلّمه إليه.
وهذا كلام مضطرب، لا مستند له من أصلٍ، ولا طريقَ إلا ما ذكرناه.
6061 - ومما كان يذكره شيخي أنه لو سبق إلى طفلٍ إنسانٌ ووقف عليه ولم يرفعه، فهل يكون وقوفه مثبتاً له حق الاختصاص؛ حتى إذا لحقه إنسان آخر يساويه في الصفات المرعية فيكون السبق له؟ كان يذكر في ذلك وجهين: أحدهما - أنه إنما يصير أولى بحق الحضانة إذا سبق إليه، فرفعه، أو أمر من يرفعه له؛ فإذ ذاك لو لحق لاحقٌ، لم يزاحمه، فأمّا إذا اتصل السابق بمكان اللقيط، واقتصر على الوقوف عليه، فلحقه الثاني، فهما مزدحمان. ففي المسألة احتمال.
6062 - ولو انتهى إلى اللقيط رجل وامرأة، فالأنوثة لا تصيّر المرأة أولى، وإن كنا نقدّم الأم في الحضانة على الأب إذا لم يكن الصبي مميِّزاً، والفرق أن الأم تختصُّ بمزيد شفقة لا يُنكر ذلك منها، ويتأتى منها من [الاحتضان] (1) ما لا يتأتى من الأب نفسه، والأب لا يتمكن من تعاطي الحضانة بنفسه، ولو أقام امرأة أجنبيةً حاضنةً، لكانت حضانة الأم أولى من حضانة الأجنبية المتبرعة، أو المستأجَرة، وفي مسألتنا لو أناب الرجل أجنبية في الحضانة، لكان ذلك ممكناً. وإذا عاد النظر إلى حضانة أجنبيتين: إحداهما التي زاحمت الرجل، والأخرى التي يستنيبها الرجل، فلا يبقى فرقٌ.
6063 - ومن تمام الكلام في ذلك أن الصبي إذا بلغ مبلغ التمييز يخيّر بين أبويه في حكم الحضانة كما سيأتي شرح ذلك إن شاء الله تعالى. فلو ازدحم على اللقيط رجل وامرأة، أو رجلان، ولم يتفق انفصال الأمر بينهما حتى ميّز الطفل، فهل نقول: إنه يخير بين المزدحمين، ويُضم إلى من يختاره؟
__________
(1) في الأصل: الاختصاص.

(8/518)


هذا محتمل يجوز أن يقال: إنه يُخير، كما ذكرناه، ويجعل اختياره أولى من القرعة، ويجوز أن يقال: لا يخير؛ فإن اختيار المولود أحد الوالدين على سن التمييز محمول على ميله إلى أحدهما، ولا يبعد ذلك في الأبوين، فأما ميل الطفل اللقيط إلى أحد الملتقطَيْن، فليس له [معنى] (1) يعوّل عليه.
6064 - ومما يتعلق بذلك أنا لو صادفنا صبياً بالغاً مبلغ التمييز، وكان في حكم اللقيط، على معنى أنه ليس يتبين له أب ولا أم، فهل يثبت له لمن يَبْتَدِرُه حقُّ الاحتضان، كما يثبت في اللقيط الذي لم يبلغ مبلغ التمييز؟ هذا فيه تردد عندي، واحتمالٌ: يجوز أن يقال: لا يثبت لآحاد الناس فيه حق الاحتضان، وهو مميّز، بل يتولى الحاكم أمره لا غيره، ويختص به منصوبُ القاضي.
ويجوز أن يقال: حكمه في الاحتضان حكم الصبي الذي لا يميز؛ فإن تمييزه لم سبت له حقَّ الاستقلال، فلا أثر له.
وإنما (2) ورد الشرع في التقاط منبوذ على صورة الضياع، والمميز له حق الاستقلال؛ من جهة تمييزه؛ إذ يمكن مراجعتُه على حالٍ، وهو يشبه من أحكام اللقطة ضالة الإبل.
هذا منتهى تفريع الفصل.
فصل
قال: " فإذا أعرب، فامتنع عن الإسلام، لم يبن لي أن أقتله، ولا أجبره على الإسلام ... إلى آخره " (3).
6065 - هذا الفصل من القواعد، ومضمونه بيان أحكام التبعية في الإسلام.
ونحن نجمع فيه ما يتعلق به، ونستوعب الأطراف مستعينين بالله تعالى.
6066 - ونقدم أولاً بيان ما يحصل به الإسلام. ونقول: الناس في الإسلام
__________
(1) في الأصل: وجه.
(2) هذا الكلام عودٌ إلى نصرة الوجه الأول.
(3) ر. المختصر: 3/ 133.

(8/519)


قسمان: مكلف، وغير مكلف، فالمكلف هو العاقل البالغ، حراً كان أو عبداً، ذكراً كان أو أنثى، فيصح إسلامه بنفسه، ولا يُتصوّر أن يَتْبَع في الإسلام غيرَه.
6067 - وأما غير المكلف في الإسلام، فقسمان: الصبيان والمجانين.
أما المجانين، فلا شك أنه لا يتصور إسلامهم بأنفسهم؛ إذ لا عبارة لهم، ولا حكم لنطقهم.
وأما الصبيان، فإن لم يكونوا مميزين، فهم كالمجانين في أنه لا يصح الإسلام بعبارتهم.
وإن كانوا مميزين، فالمذهب المشهور الذي عليه التعويل أنه لا يصح منهم الإسلام بعبارتهم.
6068 - وذكر أصحابنا مع ذلك وجهين أخرين: أحدهما - أن الإسلام يصح من الصبي المميز العاقل، كما يصح من البالغ، وهذا مذهب أبي حنيفة (1).
والوجه الثاني - أن الإسلام الذي أعرب عنه في صباه موقوف؛ فإن بلغ وأعرب عن نفسه بالإسلام، أسندنا حكمَ إسلامه إلى وقت تلفظه به في صباه.
وإن أعرب عن نفسه بالكفر لما بلغ، تبيّنا أنه لا حكم للفظه السابق في صباه.
وهذان الوجهان غيرُ معدودين من متن المذهب، والمنصوص عليه لصاحب المذهب قديماً وجديداً أنه لا اعتبار بلفظ الصبي بالإسلام، ووجودُه وعدمُه بمثابةٍ.
6069 - وقد قال الشافعي في بعض مجاري كلامه: " إنه إذا نطق صبي مميز من صبيان الكفار بالإسلام، وظهر لنا إضماره الإسلامَ، نحول بينه وبين الكفار ".
وهذا الذي ذكره الشافعي مما اختلف أصحابنا فيه تفريعاً على مذهبه الصحيح، فقال بعضهم: هذه الحيلولة محتومة فعلى هذا للفظه بالإسلام حكمٌ، وهو اقتضاء إيقاع الحيلولة.
__________
(1) ر. مختصر الطحاوي: 260، المبسوط: 10/ 120، رؤوس المسائل: 359 مسألة 238 مختصر اختلاف العلماء: 3/ 490 مسألة: 1640، الاختيار 4/ 148.

(8/520)


ومن أصحابنا من قال: هذا الذي ذكره الشافعي محمول على أنا نتوصل إلى ذلك برفق، ونستعطف فيه والدي الصبي، فإن أبيا، لم نحل بينه وبين والديه؛ فإن لَفْظَ الصبيّ في ذلك لا حكم له.
وكان شيخي يحكي عن الأستاد أبي إسحاق أنه قال: " من مات من صبيان الكفار، لم نقطع له بالفوز في الآخرة ".
وأمْرُ أطفال الكفار على تردّدٍ بيِّنٍ في الأخبار، وليس الخوض فيه من مناصب الفقه؛ فإن الفقه لا يتعدى أحكام الدنيا.
ثم كان يقول: " إذا عقل صبيّ وعلم الإسلام واعتقده، فهو من الفائزين لو مات على عقده هذا صبيّاً، وإن كان لا يتعلق بإسلامه أحكام الدنيا ".
وما عندي أن هذا الحبر يخالَف فيما صار إليه، ثم اتباعه يجر إشكالاً في المسألة عظيماً؛ فإن من يُحكم له بالفوز لإسلامه كيف لا يحكم بإسلامه.
هذا منتهى القول في حصول الإسلام بالتبعية؛ فإنه يتعلق بالصبيان، والمجانين.
6070 - ونحن نبدأ بالصبيان أولاً، فنقول: التبعية في الإسلام تقع من ثلاثة أوجه: أحدها - تبعية الوالدين.
والثاني - استتباعُ السابي الطفل المسبيّ.
والجهة الثالثةُ - تبعية الدار. ونحن نذكر -إن شاء الله تعالى- في كل قسم ما يليق به.
فأما استتباع الأبوين الولد في الإسلام، فيحصل من وجهين: أحدهما - أن يُفرض إسلامهما أو إسلام أحدهما يوم العلوق، فإذا كانا مسلمين أو كان أحدهما مسلماً، فحصل العلوق، والحالةُ هذه- ثبت للطفل حكم الإسلام على التحقيق، من غير فرض توقفٍ، أو توقع نقضٍ، فينتجز له أحكام الإسلام في صباه.
وإذا بلغ، وأعرب عن نفسه بالكفر، كان مرتداً، لا خلاف فيه.
والسبب في ذلك أن أحد الأبوين إذا كان مسلماً حالة العلوق، فهو جزء من مسلم، فيتحقق له حكم الإسلام، هذا أحد وجهي التبعية.

(8/521)


والوجه الثاني في التبعية- أن يحصل إسلام الأبوين، أو إسلام أحدهما بعد العلوق، ثم لا فرق بين أن يحصل بعد انفصال المولود على الكفر، وبين أن يحصل والمولود جنين، فإذا تأخر الإسلام عن العلوق، لم يفترق الأمر بين أن يكون بعد الانفصال، أو في حالة الاجتنان والاتصال، ثم الحكم أن الصبي يُقضى له بالإسلام تبعاً إذا أسلم أحد والديه، أو أسلما.
6071 - ثم اتفق الأصحاب على أن هذه التبعية تحصل بإسلام الأم حصولَها بإسلام الأب، وإن لم تكن الأم من أهل الولاية على ظاهر المذهب.
ولو أسلم جدّ الصبي أو جدته، فالترتيب المرضي أن ذلك إن كان بعد موت الأبوين، يتضمن إسلام الطفل، وإن كان في حياة [الأبوين] (1)، أو حياة أحدهما، ففي الحكم بإسلام الطفل وجهان، ثم لم يفرِّق الأئمةُ بين من يرث وبين من لا يرث من الأجداد، أو الجدات، والأصل في الباب تغليبُ الإسلام من أي جهة أتى، وإنما انتظم الوجهان في بقاء الأبوين، أو في بقاء أحدهما، من جهة أن الاستتباع من الأجداد، أو الجدات، قد يبعد مع بقاء من هو الأصل في الولادة.
وقد ذكرنا ترتيباً فيمن يرجع في الهبة من الأصول، وهذا لا يُنحى به ذلك النحو، لما ذكرناه من أن الأصل تغليبُ الإسلام. والقياسُ منعُ الرجوع في الهبة وإحالةُ ثبوته على قول الشارع.
وفي الأئمة من لا يثبت للأم الرجوعَ في الهبة، لاختصاص الخبر بالوالد.
6072 - فإذا ثبت أن الصبي يتبع الأبوين في الإسلام وإن حصل العلوقُ به على الشرك، فترتيب المذهب في أحكام الطفل مضطرب في الطرق، ونحن نأتي إن شاء الله
عز وجل بأضبط ترتيبٍ، وأجمعه [لمضمون] (2) الطرق، فنقول أولاً:
نفرض لمن يثبت له حكم الإسلام بالتبعية بعد العلوق على الشرك ثلاثَ مراتب:
إحداها - في الصِّبا.
__________
(1) في الأصل: الابن.
(2) في الأصل: لمصير.

(8/522)


والأخرى - بعد البلوغ، وقبل أن يُعرب عن نفسه بكفرٍ أو إسلام.
والثالثة - في إعرابه عن نفسه.
فأما القول في حال الصبا، فإنا نحكم له ناجزاً بحكم الإسلام من جميع الوجوه، فيُنفَق عليه من بيت المال إذا مست الحاجة إليه، ونقول: لو قتل في صباه، وكان قاتله مسلماً، وجب القصاص عليه، ويرثه المسلمون لو مات، ويرث هو بنفسه المسلم، وحكمه حكم من حصل علوقُه على إسلام أحد أبويه، وهذا حكمُ الحال.
ومن الأحكام أنه لو كان رقيقاً، فأعتقه مظاهرٌ عن كفارته (1)، حكمنا ببراءة ذمته عن الكفارة، وجوّزنا له الإقدامَ على وطء التي ظاهر عنها.
ولو جرت هذه الأحكام، [ومات] (2) الطفل، فقد استقرت الأحكام.
هذا حكم هذه المرتبة.
6073 - ومما يدور في النفس أنا إذا فرعنا على الوجه الضعيفِ نقلاً، القويِّ توجيهاً، وقلنا: يصح من الصبي الاستقلالُ بالإسلام، كما ذهب إليه أبو حنيفة.
فهل نقول لو أسلم أحد الأبوين والصبي بمحلّ أن يستقل على هذا الوجه: إنه يتبع المسلمَ من أبويه؟ هذا مما تردد فيه أحاب أبي حنيفة رضي الله عنه، وهو لعمري محل التردد؛ فإن الجمع بين إمكان الاستقلال، وبين إثبات التبعيّة بعيدٌ.
ثم قال أبو حنيفة (3): يصح ردّة الصبي كما يصح إسلامه، ولا شك أنا نقول بذلك إذا فرعنا على هذا الوجه؛ نظراً إلى الاعتقاد ووقوعه. وقد ينقدح لذي نظر أن يصحح ما فيه صلاح الصبيّ ويُحبط نقيضَه، كما ذهب إليه بعض أصحاب أبي حنيفة (4)، والعلم عند الله تعالى.
__________
(1) واضح من سياق الكلام أنه يشترط في الرقبة التي يكفر بها المظاهر أن تكون مؤمنة. وهذا من باب حمل المطلق على المقيد، الذي يقول به الشافعية هنا. بخلاف الأحناف الذين لا يشترطون الإيمان في رقبة كفارة الظهار؛ لأنهم لا يحملون المطلق على المقيد هنا.
(2) فى الأصل: وفات.
(3) ر. مختصر الطحاوي: 260، المبسوط: 10/ 122، مختصر اختلاف العلماء: مسألة 1640، 3/ 490.
(4) الذي يعنيه الإمام هو " أبو يوسف " (ر. المراجع السابقة).

(8/523)


6074 - وقد عدنا إلى ترتيب الكلام، فنقول: إذا بلغ من حَكَمْنا له بالإسلام في صباه للتبعية التي وصفناها، فكيف حكمه ما بين البلوغ إلى أن يُعرب عن نفسه بكفرٍ أو إسلام (1)؟
فالرأي أن يقدَّم حكمُ إعرابه عن نفسه، فنقول: إن أعرب عن نفسه بالإسلام، فلا كلام، وقد استقرت الأحكام على موجب التبعية التي وقع القضاء بها.
وإن أعرب عن نفسه بالكفر، فللشافعي قولان: أحدهما - أن نجعله مرتداً.
والقول الثاني -وهو الذي يميل إليه ظاهر النص الذي ذكره المزني- أنا لا نحكم بكونه مرتداً.
توجيه القولين: من حكم بكونه مرتداً، احتج بأن هذا كفرٌ جرى ممّن تقدم له الحكم بالإسلام، فصار كما لو كان حصل العلوق على الإسلام.
ومن قال بالقول الثاني، احتج بأن الصبيّ خلق على الكفر، ثم جرى إسلامُ الوالدين بعد ذلك، فاقتضى تبعيّةً في الإسلام ممزوجةً بالتوقف، فإذا تبينا بإعرابه عن نفسه بالكفر أنه على الكفر الذي فطر عليه، فالنظر إلى إعرابه الآن أولى من النظر إلى تبعيةٍ سبقت، وليس كما لو فطر على الإسلام، فإنه جزءٌ من مسلم، كما قررناه مع قوة الإسلام في العلوق والغلبة.
التفريع على القولين:
6075 - إن حكمنا بكونه مرتداً، لم يخف حكمه، ولم يُنْقَض بردته ما أمضيناه من أحكام إسلامه قبلُ.
وإن حكمنا بأنه كافر أصلي، فنقول أولاً: إن كان الكفر الأصلي بحيث يُقَرُّ عليه بالجزية، فإذا بدا ذلك من هذا الشخص، فإن قبل الجزية، أقررناه. وإن أبى، ألحقناه بدار الحرب، ولم نر اغتياله.
وإذا كان ذلك الكفر مما لا يُقَرُّ عليه بالجزية، لم نقره بها، وألحقناه بدار الحرب.
__________
(1) هذه هي المرتبة الثانية، والثالثة معاً.

(8/524)


وإن كان أبواه على كفر ابتداء، وأعرب هو عن نفسه بكفرٍ آخر، مثل إن كانا يهوديين، فأبدى هذا تنصراً، أو على العكس، فالقول الوجيز فيه: أنا نجعله كمن ينتقل من ملة في الكفر إلى ملةٍ، وسيأتي تفصيل الأقوال في أن من فعل ذلك هل يُقر على الكفر الذي انتقل إليه، وموضع استقصائه كتاب النكاح، إن شاء الله تعالى.
6076 - فإذا تبين هذا، قلنا بعده: الأحكام التي سبقت مترتبة على تبعية الإسلام هل تنتقض؟ وقد أعرب عن نفسه بالكفر؟ إن قلنا: إنه مرتد، فلا شك أنا لا ننقض شيئاً مما تقدم.
وإن قلنا: إنه كافر أصلي، فكل حكمٍ قررناه بعد البلوغ قبل الإعراب، فهو منقوض.
وكل حكم كُنّا أمضيناه في الصبا، فهل ننقضه الآن؟ فعلى وجهين: أقيسهما - أنا ننقضه، والمعنيّ بنقضه أنا نتبيّن انتقاضَه، فإن كان أعتقه مُكَفِّرٌ تبيناً بالأَخَرة أن ذمته لم تبرأ، وإن كنّا ورَّثناه من مسلم، تبيَّنا ارتداد ذلك الإرث. وإن كنا أنفقنا عليه من بيت المال، استرددناه. ولو حرمناه في صباه الإرث من كافرٍ، نتبين الآن عوْده إلى الاستحقاق.
وهذا كله قياس قولنا: إنه كافر أصلي؛ إذ لو كنّا نُبقي تلك الأحكام، لكان هذا الكفر بعد إسلام، والكفرُ بعد الإسلام ردة.
ومن أصحابنا من قال: لا ننقض شيئاً من أحكام الإسلام التي أمضيناها في حالة الصبا؛ فإنها جرت والتبعية قائمة، والاستقلالُ بالكفر والإسلامِ غيرُ ممكن [من الصبي] (1)، فلا ننقض ما مضى الحكم به، وإنما تُرد الأحكام الواقبة بعد البلوغ.
وهذا وجهٌ ضعيف في القياس، مشهور في الحكاية.
وقال صاحب التقريب: إن نقضنا أحكام الصبا، وتتبعناها، لم ننقض النفقة، ولم نستردها؛ فإن السلطان لو صرف شيئاً إلى ذمي من المحاويج، لم يبعد ذلك عن وجه الصلاح.
__________
(1) ساقط من الأصل.

(8/525)


فإن قيل: فمن يتوقع تبيّن انتقاض هذه الأحكام هلا توقف فيها، ولم يُمضها؟ قلت: أجمع الأصحاب على إمضائها لتأكد التبعيّة وسقوطِ استقلال الصبي. وهذا يناظر تبرعات المريض؛ فإنها تُنفد في الحال، ولا يُعترض على المتبرَّع عليه بل يتسلط على جميع جهات التصرفات. وإن كنا قد نتتبّعُها بالانتقاض تبيُّناً، إذا مات من مرضه الذي تبرع فيه.
هذا منتهى القول في تفريع حكم الكفر إذا بنينا على أنه كافر أصلي، وقد أعرب عن نفسه بالكفر.
6077 - فأما إذا بلغ ولم يعرب بعدُ عن نفسه، فلو أعتقه معتق عن كفارته في هذه الحالة، فكيف السبيل؟ وكذلك كيف توريثه من المسلم والكافر؟ وكيف التوريث منه، وهل [نستديم] (1) الإنفاق عليه من بيت المال مع استمرار حاجته؟
ما كان يقطع به شيخي أبو محمد، وتابعه عليه صاحب التقريب: أنا نخرّج ذلك على القولين في أنه لو أعرب عن نفسه، فهو مرتد، أو كافر أصلي؟ فإن حكمنا بكونه مرتدّاً، فحكم الإسلام ثابتٌ قبل أن يُعرب عن نفسه بالكفر؛ فإنا نقول: إن أعرب بالإسلام، فقد استمر الإسلام وحكمه، وإن أعرب بالكفر، جعلنا الكفر قاطعاًً للإسلام من وقته، وهذا معنى وصفه بكونه ردّة. فعلى هذا كل ما يجري قبل إعرابه مُقَرٌّ على حكم الإسلام، فلو قُتل، وجب القصاص على قاتله، وإذا مات ورثه المسلم، ويرث هو من حميمه المسلم، ولو أُعتق أجزأ، ويُنفَق عليه من مال
المسلمين، ثم لا يُتبع شيء من هذه الأحكام بالنقض.
6078 - وإن حكمنا بأنه لو أعرب عن نفسه بالكفر، لكان كافراً أصلياً، ففي حكمه بعد البلوغ، وقبل الإعراب تفصيلٌ نسوقه على أبلغ وجهٍ وأجمعه للمقصود، فنقول: ما أمكن الانعطاف عليه تبيُّناً، فإنا نتبيَّن ارتفاعه وانتقاضه، كإرثٍ قدّرناه لهذا الشخص من حميمٍ له مسلمٍ مات، وكالإعتاق عن الكفارة، فما كان كذلك، فإذا
__________
(1) في الأصل: نستثني.

(8/526)


أعرب عن نفسه بالكفر تبيّن ارتفاع ما يقبل الانعطافَ عليه بالنقض، فالميراث مردود، والعتق غير مجزىء.
ولصاحب التقريب وقفةٌ في النفقة، واستردادها، تقدّمت الإشارة إليها.
وما يجري بعد البلوغ قبل الإعراب، ثم يفوتُ الإعراب بموتٍ أو قتلٍ، ففي الجميع وجهان، وهذا كما لو قُتل أو أُعتق عن كفارة، ثم مات قبل أن يعرب، أو يموت حميم له مسلم، ثم يموت قبل أن يعرب، ففي وجهٍ نقول: هذه الأحكام ممضاة على الإسلام الذي جرى الحكمُ به في الصبا، وفي وجدٍ لا نمضيها؛ فإن سبيل التبعية هو الصغر، وقد انقضى، والكفر الأصلي مرتقب، فإذا فات الإعراب بالكفر أو الإسلام وقد [انقطعت] (1) التبعية من أصلها، فالوجه ردُّ الأمر إلى كفر الفطرة، وينبني على هذا ما هو في الحقيقة عين ما ذكرناه. ولكنا نبدّل صيغةَ الكلام للتهذيب و [تدريب] (2) الناظر، فنقول: إذا مات له حميم مسلم، فنقف الميراث أو نسلمه إليه؟ وإذا أعتقه مظاهر، فَنُحِل قِربانَ التي ظاهر عنها (3)، أو نتوقف؟ فعلى وجهين هذا تحقيق القول فيما [ذكروه] (4).
6079 - ولا بد بعد طول الكلام، وامتداد التفريعات من إعادة ترجمة تحوي ضوابطَ، ونعطف آخر الكلام على أوله فنقول: إن جعلنا إعرابه عن نفسه بالكفر ردةً، فما جرى في الصبا وبعد البلوِغ مُقرٌّ على حكم الإسلام من غير استثناء. وإن قلنا: إعرابه عن نفسه بالكفر يُبيّن كونه كافراً أصلياً، ففيما جرى في الصبا حكمان: أحدهما - التنفيد (5) في الحال، والآخر الانعطاف بالنقض. فأما التنفيذ، فهو ثابت في حالة (6 الصبا، وفي الانعطاف بالنقص وجهان لقيام سبب التبعية، وأما ما يجري بعد 6)
__________
(1) (د 1)، (ت 3): انقضت.
(2) في الأصل: تقريب، وفي باقي النسخ تدرّب. والمثبت اختيارٌ من المحقق.
(3) ظاهر عنها: لا أدري لماذا أجمعت النسخ الأربع على التعبير بلفظ: " ظاهر عنها " مع أن عبارة القرآن الكريم: {يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ} [المجادلة: 2]. أقول هذا مع علمنا بما قاله النحاة من أن (عن) تأتي مرادفة لـ (مِن)!!
(4) في الأصل: ذكرناه.
(5) (د 1)، (ت 3): التقييد.
(6) ما بين القوسين سقط من جميع النسخ ما عدا الأصل.

(8/527)


البلوغ وقبل الإعراب إن أمكن الانعطاف عليه، نُقض إذا جرى الإعراب بالكفر.
وإن فات الإعراب بالموت، ففي الانعطاف وجهان من غير أن يتحقق إعرابٌ بالكفر. وفي الحكم بالتنفيد وجهان.
هذا حاصل المذهب.
ولصاحب التقريب ميْلٌ إلى الفرق بين النفقة وغيرها.
وإن رأينا التنفيد حيث انتهى الكلام إليه، ولم نر النقضَ إذا فات الإعراب، ففي وجوب القصاص على [قاتله مع] (1) هذا ترددٌ. ونص الشافعي (2) يميلُ إلى سقوط القصاصِ، والسبب فيه تعرّض القصاص للاندفاع بالشبهة (3).
ثم نقل المعتمدون أن الشافعي أسقط القصاص وأوجب دية مسلم. وهذا فصلٌْ عظُم (4) فيه اختباط (5) الأصحاب والذي ذكرناه مضبوط -إن شاء الله عز وجل- نقلناه على ثبت وتحقق.
6080 - فإذا انتجز ما نحاوله؛ فإنا نذكر بعد ذلك هفوتين لا نعدّهما من المذهب، ولا نجدُ بداً من نقلهما. قال من يُعتمد نقله: قال القاضي: " إذا قُتل الصبيُّ التابع في الإسلام، وجب القصاص على قاتله. وهذا لا مراء فيه، ولو قتل بعد البلوغ، وقبل الإعراب، فلا قصاص على قاتله، ولو حكمنا بأنّه لو أعرب، كان مرتدّاً "، وأجرى نص الشافعي على القولين.
وهذا زلل لا يستريب فيه منصف. ونصُّ الشافعي جرى على القول الآخر. والذي نقله المزني عن الشافعي في المختصر: أنه لو أعرب عن نفسه بالكفر، لم نحكم بردّته، ولم يجبر على الإسلام، ثم استاق التفريع على هذا، وكيف ينتظم قول من
__________
(1) ساقط من الأصل.
(2) (د 1)، (ت 3): وميل النص.
(3) وجه الشبهة هنا أنه لم يعرب عن نفسه، " فسكوته يحتمل الكفر والجحود " على حدّ عبارة الرافعي.
(4) (د 1)، (ت 3)، (ت 2): عظيم.
(5) في الأصل، (ت 3): احتياط. وغير مقروءة في (د 1)، والمثبت من (ت 2).

(8/528)


يقول: لو أعرب بالكفر، كان مرتداً، ولا يثبت له حكم الإسلام قبله.
6081 - والهفوة الثانية أنه حُكي عن القاضي في المقام الذي نفى القصاص فيه أنه قال: لو مات في هذه الحالة قبل الإعراب، ورثه حميمه، ولو مات له حميمٌ مسلم، فإرثه عنه موقوف. أما التوريث منه، فخارج على أنه إذا أعرب هل يُنقض حكم الإسلام، وأما قوله: فإرثه عنه موقوف؛ فإنه إن عنى به أنه يقال له: أعرب عن نفسك بالإسلام، فهذا قريب؛ فإنا نستفيد به الخلاص من الخلاف، وقد فات ذلك إذا كان هو الميّت. وإن مات حميمه ثم مات هو قبل أن يعرب، فلا يجوز أن يُعْتَقَدَ فرق بين التوريث عنه وبين توريثه.
6082 - ومما يتصل بهذا أنه لو مات صبيّاً، دفن في مقابر المسلمين، وأقيم في تجهيزه ودفنه والصلاة عليه شعار المسلمين.
ولو مات بعد البلوغ وقبل الإعراب، فهل يدفن في مقابر المسلمين؟ الذي يظهر عندي أنه يُتساهل في هذا، ويقام فيه شعار الإسلام، ولا يُضن عليه بمدفنٍ في مقابر المسلمين، والذي يقتضيه القياس الترتيبُ على التفصيل الذي ذكرناه.
هذا بيان القول في استتباع الأبوين المولودَ في الإسلام بعد العلوق على الشرك.
6083 - فأما المجنون، فإن بلغ على الجنون، فهو كالصغير، وإن بلغ عاقلاً، ثم جن، فيبتني [أمرُه] (1) على ولاية المال.
فإن قلنا: تعود ولاية المال إلى الأب، فإذا أسلم يستتبعه في الإسلام، كما لو بلغ مجنوناً.
وإن قلنا: لا يليه الأب، ويليه السلطان، فإذا أسلم الأبُ، لم يستتبعه، والسلطان يلي الكافر والمسلم بالولاية العامة.
وإن قلنا: تعود الولاية إلى الأب، فلو أسلمت الأم، استتبعته أيضاًًً؛ لأنا مهْما (2) أثبتنا التبعية من جانب الأب؛ فإنا نثبتها من جانب الأم.
__________
(1) ساقطة من الأصل.
(2) "مهما": بمعنى (إذا).

(8/529)


وكل ما ذكرناه كلام في جهة واحدة في التبعية.
6084 - فأما استتباع السابي المسبيَّ الطفلَ؛ فإنا نقول فيه:
إذا سبى المسلمُ طفلاً من أطفال الكفار منفرداً عن الأبوين، فالطفل يتبع السابي في الإسلام؛ لأنه صار من جملته وتحت قهره وولايته، فيتبعه في حكم الدين، وهذا يتم بأن يُعلَم أن السَّبْي يقلبه عما كان عليه قلباً كليّاً؛ فإنه كان محكوماً بحرّيته، متعلقاً بسبب الاستقلال إذا بلغ، والآن قد رُقّ بالسبي، حتى كأنه عُدِمَ عمّا كان عليه، واستُفتح له وجودٌ تحت ولاية السابي.
6085 - ولو كان السّابي ذمّياً توطّن (1) بلاد الإسلام، فقد ذكر أصحابنا وجهين: أحدهما - أنه يحكم له بالإسلام؛ فإن السَّابي من أهل دار الإسلام.
وهذا كلام غث، لا أصل له؛ فإن كونه من أهل دار الإسلام لم يخرجه عن حقيقة الكفر، ولم يُخرج أولاده عن تبعيته في الكفر، فيستحيل أن يؤثر ذلك في إسلام مَسْبِيّه. وهذا هو الوجه الثاني الذي يجب القطع به.
فإذا فرعنا على الأصح، وهو أنا لا نحكم بإسلام المسبيّ، فلو أسلم السابي بعد السَّبي، فالإسلام الطارىء لا يُثبت للمسبيِّ حكمَ الإسلام وفاقاً؛ فإنا نعتبر حالة السّبي وعندها يتحقق تحول الحال.
6086 - ولو باع الكافر الطفلَ الكافرَ من مسلم، لم يثبت له حكم الإسلام لثبوت ملك المسلم عليه؛ فإن هذا تجدّدُ المالك، والرق مستمر. وقد ذكرنا ما في ابتداء السبي من تحويل الحال، وكذلك يؤثر سبيُ الزوجين في ارتفاع النكاح عندنا، ولا يؤثر تجدّدُ الملك على الزوجين الرقيقين في ارتفاع النكاح.
6087 - وما ذكرناه فيه إذا سبى المسلمُ الطفلَ مفرداً عن الأبوين، فأمَّا إذا سباه مع أبويه أو مع أحدهما، فلا يُحكم بإسلامه تبعاً للسابي، لم يختلف أصحابنا فيه؛ لأن الأبوين أولى بالاستتباع من السابي لمكان البعضيّة.
__________
(1) (د 1)، (ت 3): بقُطر.

(8/530)


وهذا فيه بعضُ الغموض، من جهة أن الطفلَ إذا كان ذا أبوين، [ولم] (1) يكونا معه، ثم أتبعناه السَّابي، للرق الطارىء، وحكمنا بأنه في حكم المُقْتَطَع عما كان عليه، فكأنه ولد جديداً، فكان لا يبعد [ألا يبالَى] (2) بكون الأبوين معه. ولكن لم يختلف أصحابنا فيما ذكرناه، وكأن الأمر مبنيّ على ألا نبحث عن أبويه، وعن كفرهما، وبقائهما وموتهما.
ولو سُبي الطفلُ مع أبويه، أو مع أحدهما، وامتنعت التبعيّة (3)، فلو مات الأبوان بعد السبي، فلا يُحكم بالإسلام؛ لأن السَّبي في أصله لم ينعقد مُستتبِعاً، فلا استتباع بعده.
فإذا ثبت ما ذكرناه، فحكم الطفل التابع للسَّابي حكم الطفل التابع لأبويه في الإسلام، في جميع ما ذكرناه، فلا معنى للإعادة إذا كان لا يفترق البابان.
6088 - فأما الجهة الثالثة - وهي استتباع الدَّار، فإنا نقول: الدار قسمان: دار الإسلام ودار الشرك.
فأما دار الإسلام، فقد قسمها المرتّبون ثلاثة أقسام:
أحدها - دارٌ يقطنها المسلمون، وهي تحت قبضة الإسلام، فإذا وجد فيها لقيط، واستبهم نسبه، فإنا نحكم بإسلامه ظاهراً سواء كان الغلبة للمسلمين فيها أو للمشركين. والحكم بالإسلام أمرٌ أطلقناه، وتفريع الأحكام نفصله.
6089 - وقسمٌ هو تحت قبضة الإسلام، ولكن كان لا يسكنها إلا المشركون، وهي دار افتتحها المسلمون، واستوْلَوْا عليها، وأقروا أهلَها فيها. فإن كان يساكنهم مسلمون، أو مسلم واحد، فحكم اللقيط الذي لا نسب له- الإسلامُ. وهذا بعينه القسمُ المُتقدِّم؛ فإنا قد ذكرنا أنه لا نظر إلى غلبة أهل الذمة وكثرتهم.
وإن كان لا يساكنهم مسلم أصلاً، فاللقيط المنبوذ منهم نحكم له بالكفر، لم يختلف فيه أئمتنا.
__________
(1) في جميع النسخ: وإن لم.
(2) (د 1)، (ت 3): أن يبالى.
(3) وامتنعت التبعية: أي للسابي.

(8/531)


6090 - والقسم الثالث - ما كان من ديار الإسلام تحت قبضة المسلمين، فانجلى عنها المسلمونَ واستولى عليها الكفار، فإن كان لا يساكنهم مسلم أصلاً، فالذي ذهب إليه جمهور الأصحاب أن اللقيط في تلك الدار كافر.
وذهب أبو إسحاق المروزي إلى أنا نحكم للّقيط بالإسلام، من جهة أن مثل هذه البلدة قد لا تخلو عن مسلمٍ، لم يَنْجل فيمن انجلى؛ لإلْف الوطن، وهو يُخفي إسلامه، ولقد كانت الدار منسوبةً إلى الإسلام قبلُ.
وهذا كلام غير منتظم؛ فإنه إذا فرض استيلاء الكفار، والقطعُ بانجلاء جميع المسلمين، فلا يتحقق ما ذكره، والدار بأن كانت. في الزمن الماضي للمسلمين لا تقتضي استتباعاً.
نعم، لو كان يساكنهم مسلمٌ، أو مسلمون، فهذا فيه تردد، يجوز أن يقال: يثبت للقيط حكم الإسلام، ويجوز أن تجري هذه الدار، وقد استولى عليها أهل الحرب مجرى دار الحرب، وسنصف القولَ في دار الحرب الآن، إن شاء الله تعالى.
6091 - ومما يتعلق بتمام البيان فيما نحن فيه أن اللقيط الموجود في دار الإسلام لو استلحقه ذميّ، لحقه نسبه؛ فإن الذمي من أهل الدعوة والاستلحاق، ثم إذا لحقه نسب اللقيط، فيحكم له بالإسلام، أو الكفر؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنا نحكم له بالإسلام نظراً إلى الدار، وتغليباً للإسلام.
والثاني - أنا نحكم له بالكفر؛ فإن نسبه ثبت من الذمّي الذي استلحقه، والنسب أولى بالاستتباع من الدار، ولا خلاف أن أولاد أهل الذمة يتبعون أصولهم في الكفر؛ وإذا استلحق الذمي لقيطاً في دار الإسلام، ثم أكد استلحاقه، فأقام بيّنة على نسب اللقيط منه، فلا خلاف أنه يتبعه في الكفر، ولا يتبع الدار في الإسلام، فهذا هو الترتيب المرضي.
6092 - فإذا تمهد ما ذكرناه فيبتني على ذلك غرضنا، ونقول:
إذا ثبت للمولود حكمُ الإسلام بتبعية الدار، فقد اختلف أصحابنا: فمنهم من

(8/532)


قال: حكم من يتبع الدار في الإسلام حكم من يتبع أبويه، أو يتبع السابي، وقد مضى ذلك.
ومن أصحابنا من قال: هذا المحكوم له بالإسلام تبعاً للدار إذا بلغ وأعرب عن نفسه بالكفر، فهو كافر أصلي قولاً واحداً؛ فإن تبعيته الدارَ ضعيفة، وهؤلاء يقولون: لا يخرج في المسألة قول: إنه لو أعرب عن نفسه بالكفر بعد البلوغ نحكم بردته.
6093 - ثم من سلك هذه الطريقة [اضطربوا] (1) في أحكامه (2) في الصبا، فقال قائلون: هي مُنفَّذة، وإنَّما التردّدُ فيما ذكرناه من الإعراب بعد البلوغ.
ومن أصحابنا من قال: لا يُقطع بتنفيد الأحكام، بل نتوقف إلى أن يبلغ، فيعربَ عن نفسه بالإسلام، فإن مات في صباه، لم نحكم له بشيءٍ من أحكام الإسلام.
وإلى هذا مال صاحب التقريب، وخرّج اختياره على أصلٍ سنذكرُه، بعد هذا، وهو أن اللقيط التابع للدار في ظاهر الإسلام لو قتله مسلمٌ، ففي توجّه القصاص عليه قولان. قال صاحب التقربب: إن أوجبنا القصاص، فهذا يخرّج على تنفيد أحكام الإسلام في حالة الصّبا، وإن لم نوجب القصاص، فهذا يخرج على أنا لا ننفد حكمَ الإسلام في الصبي.
6094 - وقد قال بعض أصحابنا في توجيه نفي القصاص: إن علة سقوطه أنه لو ثبت، لاستحقه المسلمون، وفيهم الأطفال والمجانين، وبلوغ الأطفال وإفاقة المجانين من أولياء الدم منتظران عندنا.
وهذا غير مرضي عند صاحب التقريب؛ فإن الاستحقاق لا يعزى إلى أعيان المسلمين، وإنما يُعزى إلى جهة الإسلام. ولو كان الاستحقاق ينسب إلى أشخاص المسلمين، لما صح ممن ليس له وارث (3) خاص أن يوصي لطائفةٍ من المسلمين؛ فإن
__________
(1) في الأصل: اضطروا.
(2) في (د 1)، (ت 3): أحكام.
(3) (د 1)، (ت 3): ممن هو وارث خاص.

(8/533)


ذلك على التقدير الذي ذكره هذا القائل وصيةٌ للوارث، فالقول إذاً موجَّهٌ بالتوقف الذي ذكرناه.
وسنعود إلى تقرير هذا في فصل القصاص، إن شاء الله تعالى.
وإذا انتهى الناظر إلى آخر هذا الفصل، استبان أن ما أطلقناه من الإسلام بتبعيّة الدار قد لا يطلقه بعض الأصحاب، بل يتوقف فيه؛ فإن التوقف في حكم الإسلام توقفٌ في الإسلام.
وقد نجز غرضنا من أحكام التبعية في الإسلام، ولم يبق إلا حكم دار الحرب.
6095 - ونحن نقول: كل بلدة مختصة بأهل الحرب لا يساكنهم فيها مسلم، فاللقيط [فيها] (1) كافر، ولا خلاف أنه لا يُنظر إلى من يطرق عابراً من المسلمين إذا كان لا يساكنهم، فإن كان يساكنهم، تجارٌ من المسلمين، ففي اللقيط وجهان: أحدهما - أنه يحكم بإسلامه؛ نظراً إلى المسلمين المساكنين. والثاني - لا يحكم له بالإسلام نظراً إلى الدار، وغلبة الكفر فيها. ونحن لا نجتزىء بالإمكان المجرّد؛ إذ لو اكتفينا به، لحكمنا بالإسلام لطروق المجتازين من المسلمين، هذا والمساكنون تجار.
فأما إذا كان في تلك البلدة أسارى من المسلمين، ففي اللقيط وجهان مرتبان على الوجهين فيه إذا كان في البلدة تجار مساكنون، والأسرى أولى بألا يؤثر كونهم (2)؛ لأنهم تحت الضبط، بخلاف التجار.
ومن يذكر في الأسارى خلافاً، فلعله يفرض في قوم ينتشرون، وهم ممنوعون من الخروج من البلدة ووراءهم العيون، فأمَّا المحبوسون في المطامير، فلا يتجه لكونهم أثر، وكونهم أخفى أثراً في إمكان الإعلاق من طروق التجار.
وهذا منتهى الفصل.
__________
(1) في الأصل: فيهم.
(2) كونهم: واضح أن (كان) تامة هنا بمعنى وجد.

(8/534)


فصل
قال: " ولو أراد الذي التقطه الظَّعْن به ... إلى آخره " (1).
6096 - إذا أراد ملتقط المنبوذ أن يسافر به، قال الشافعي: إن كان أميناًً، وظهرت الثقة به، وعُرفت أمانته، مُكِّن منه، وإلا، فلا يُمكَّن؛ مخافةَ أن يسترقَّه.
فإن قيل: ألستم قدّمتم في أول الباب عند ذكركم من هو من أهل الالتقاط، ومن ليس من أهله، إن الفاسق، ومن لا يؤمَن ليس من أهل التقاط المنبوذ، وإذا كان كذلك، فلا معنى للتفضيل الذي ذكره آخراً، ويجب أن يقال: من كان من أهل الالتقاط، فهو من أهل المسافرة؛ فإنه لا يلتقط إلا أمين موثوقٌ به؟
قلنا: فيما قدمناه ما ينبه على الجواب عن هذا، فإنا قلنا: لا يمتنع الالتقاط ممن هو مستور الحال ظاهره الخير، ثم أوضحنا ما يليق بحال من هذا وصفه، فوقع كلامُ الشافعي في التقسيم دائراً بين من بانت عدالته ظاهراً، وخبرنا سريرته باطناً، وبين المستور.
والجواب فيهما أن من خبرنا سريرته، وعثرنا على حسن سيرته، لا نمنعه من المسافرة؛ ثقةً بما بيّناه من أمانته.
وإن كان مستور الحال، لم نتركه يسافر باللقيط حتى يصير مختبر السيرة والسريرة ظاهراً وباطناً؛ فإنَّا لا نأمن أن يسافر به، فيسترقّه، فهذا محمل كلام الشافعي.
6097 - فإن قيل: هلاَّ حملتم كلامه على التفاصيل التي ذكرتموها في نقل اللقيط من العمران إلى البرية قلنا: ما يمتنع من ذلك، فهو ممتنع على العدل الرضا الذي تثبت عدالته سرّاً وعلناً؛ فإذا كان كذلك، فليس هذا مما يختلف بالأمانة وخفائها، فلا محمل لكلام الشافعي إلا ما ذكرناه.
__________
(1) ر. المختصر: 3/ 133.

(8/535)


فصل
قال: " وجنايته خطأ على جميع المسلمين ... إلى آخره " (1).
6098 - مضمون هذا الفصل الكلامُ في جناية اللقيط على غيره، وجناية الغير عليه.
فأما إذا جنى، وهو طفل، فلا يخلو: إما أن يجني خطأً أو عمداً في [الحس] (2).
6099 - فإن جنى خطأً، فموجَب جنايته مضروب على بيت المال؛ إذ ليس له عاقلة على الخصوص، فأروش جناياته مضروب على الجهة التي يصرف إليها مالُه لو مات.
6100 - وإن جنى عمداً في الصورة، فهذا يبتني على قولين سيأتي ذكرهما، في أن الصبيّ هل له عمد؟ فإن قلنا: لا عمد له في الحكم، فحكم جنايته، وهو عامد في الصورة، كحكم جنايته وهو مخطىء.
6101 - وإن قلنا لعمده حكمٌ، فموجب جنايته مضروب على ماله إن كان له مال، وإن لم يكن، فهو متعلِّق بذمته إلى أن يجد مالاً، فإن وجده في صباه، أُخرج موجَب الجنايةِ عنه، وإن لم يجده حتى بلغ، تعلّقت الطَّلبة به إن كان له شيء.
فالغرض بيان انقطاع الطَّلبة عن بيت المال؛ فإن بيت المال إنما يتحمل أرش جناية يتحمل مثلَها العاقلةُ الخاصة لو كانوا.
6102 - ولو أتلف مالاً، فلا يكاد يخفى أنه لا يُضرب بدلُ ما أتلف على بيت المال؛ فإن هذا الغرم غيرُ معقول ولا محمول.
6103 - فأما الجناية عليه، فلا تخلو إما أن تكون خطأً، أو عمداً.
فإن كانت خطأ، فعلى عاقلة الجاني على تفاصيلَ سيأتي ذكرها في كتاب الديات، إن شاء الله تعالى.
__________
(1) ر. المختصر: 3/ 133.
(2) في الأصل: الجنين، (ت 2): الجنس، والمثبت من (د 1)، (ت 3).

(8/536)


6104 - وإن كانت عمداً يوجب مثلُه القصاصَ، فلا يخلو إمَّا أن يكون نفساً، أو طرفاً.
فإن كانت نفساً، فهل يجب القصاص على قاتله؟ وهل للإمام أن يقتص منه؟ الذي نقله المزني أن للإمام أن يقتص، ونقل البويطى عن الشافعي أنه ليس له أن يقتص؛ فنظم الأئمة قولين: أحدهما - ثبوت القصاص.
والثاني - انتفاؤه. ثم اختلفوا في توجيه القولين، ونحن نذكر ما ذكروه، ثم نُفرع على أصل القولين، ومأخذهما ما يتفرع عليهما.
6105 - فقال قائلون: وجه قولنا: القصاصُ واجبٌ بناءُ الأمر على أنه محكوم بإسلامه مَعْصُوم الدم، وحق عصمة الدم إيجاب القصاص على القاتل عمداً.
ووجه القول الثاني أن القصاص لا يجب؛ لأنا لو قدرنا وجوبه، نسبنا استحقاقه إلى المسلمين كافة، وفيهم الأطفال والمجانين، فنزل منزلة من قُتل، وفي أوليائه أطفال؛ فإنه لا يجوز استيفاء القصاص دون بلوغهم، وكذلك القول في انتظار إفاقة المجانين. هذه طريقةٌ مشهورة في التوجيه.
ووجّه صاحب التقريب القولين بأن بناهما على أن المسلم بتبعية الدار هل تنفد له أحكام الإسلام أم أمره في الحكم بالإسلام موقوف؟
وقد تقدم هذا.
6106 - وكان شيخي يفرّع على اختلاف الطريقين مسائلَ يعددها: إحداها - أن اللقيط لو كان بلغ وأعرب عن نفسه بالإسلام، وقُتل، فكيف سبيل القصاص؟ فمن أخذ القولين من اشتمال المسلمين على الصبية والمجانين، طرد القولين في هذه الصورة.
ومن أخذ القولين من التردد في إسلام اللقيط، قطع القول هاهنا بوجوب القصاص.
والمسألة الأخرى - أن يُقْتَل رجل نسيب، ولا يخفف وارثاً خاصاً، وكان ماله مصروفاً إلى المصالح، فأمره مخرَّجٌ على ما ذكرناه.
والمسألة الأخرى - أن يموت رجل، ويخلف حقَّ قصاصٍ، كان ثبت له في حياته

(8/537)


لم يستوفه، ولا عفا عنه، وورثه المسلمون الآن، فالذي يقتضيه قياسُ كلام معظم الأصحاب تخريجُ ذلك على القولين.
والذي يقتضيه قياس صاحب التقريب أن للإمام أن يقتص في هذه الصورة قولاً واحداً.
6107 - ثم إن لم نُثبت القصاصَ في الصورة (1 الأولى، أو في الصورة 1) المذكورة بعدها، فعلى القاتل الدّيةُ، والكفارة، فالديةُ مصروفةٌ إلى سهم المصالح من بيت المال.
فإن أوجبنا القصاص، فقد أجمع الأئمة في الطرق على أنه لا يتعين على الإمام أن يقتص، ولكن لو أراد الرجوع إلى المال، ورأى ذلك صلاحاً، فله ذلك، وهذا فيه بعض الميل عن القانون؛ فإن وضع القصاص عند الشافعي على أن الوالي لا يملك إسقاطه، غيرَ أن هذا القصاص ليس على قياس غيره؛ فإنه كما يمتنع عفوُ [الوالي] (2) يمتنع استيفاؤه، غيرَ أن الشرع فوّض هذا إلى رأي الإمام ونظرِه، وقد ذكرنا أن ما نضيفه إلى رأي الإمام لانريد به أن يتخيّر فيه، بل نريد به أنه يرى الأصلح والأولى، والأليق بالحال، ولوْ (3) لم يثبت له العفو إذا رآه، لخرج القصاص عن موضوعه، ولتحتم استيفاؤه، وهذا يُفضي إلى التحاقه بالحدود، التي لا محيد عنها، هذا منتهى القول فيه إذا قُتِل اللقيطُ عمداً وقتل من ليس له وارث خاص.
6108 - فأما القول في القصاص في الأطراف، فإذا قطع جانٍ يدَ اللقيط، فالقصاص ثابت على الجملة.
أما على طريقة جماهير الأصحاب، [فعلة] (4) ثبوته أن مستحقّه اللقيطُ، وهو متعيَّن، بخلاف ما إذا قُتل؛ فإنّ القصاص لو ثبت، لاستحقه المسلمون، وفيهم الأطفال والمجانين.
__________
(1) ما بين القوسين سقط من (د 1)، (ت 3).
(2) في الأصل: الولي.
(3) (د 1)، (ت 3): ولم.
(4) في الأصل: فعليه.

(8/538)


وأما على طريقة صاحب التقريب، فالقول في القصاص يضاهي القولَ في الإسلام، فلو بلغ وأعرب عن نفسه بالإسلام، تبيّنا وجوبَ القصاص. ولو بلغ وأعرب عن نفسه بالكفر والجاني مسلم، تبينا على طريقته أن القصاص، لم يجب؛ فإن الإسلام أطلقناه معلقاً بتبعية الدار، وفي تبعية الدار من الضعف ما وصفناه. 6109 - ثم إذا حكمنا بثبوت القصاص في الطرف، فلو أراد السلطان أن يقتص، لم يكن له ذلك؛ فإن استيفاء القصاص على مذهبنا لا يتعلق بتصرّف الولاة.
[وحكى الشيخ أبو بكر (1) عن القفال أنه ذكر وجهاً بعيداً في أن السلطان يستوفي القصاص الواجب في طرف المجنون، وهذا لم أره لأحد من الأصحاب، ولم يورده أحدٌ عن القفال غيرُه، وهو وإن كان يتجه إذا قلنا: يجوز إسقاط القصاص وأخذ الأرش، فهو غير معتدّ به. قال: ولا خلاف أن الأب لا يستوفي القصاص للمجنون، وإنما هذا الوجه في السلطان، ثم زيفه] (2).
6110 - ولو أراد السلطان أن يأخذ أرش الجناية، فهل له ذلك؟ الترتيب المرضي فيه ما ذكره صاحب التقريب.
قال: إن كان الصبي مميزاً غنياً، فليس للوالي أن يأخذ المال، بل يتوقف حتى يبلغ الطفل، ويقتص إن أراد.
والجاني يحبس، ولا يخلّى؛ فإن في تخليته إحباط القصاص. ولا مبالاة بما عليه من الأذى بسبب الحبس؛ فإنه يعارضه إمهاله في الحياة، وفي سلامة الأطراف.
ثم ليس مما ذكرناه بدٌّ، ونحن نحبس من عليه دين إلى أن يتبين إعساره، بأن كنا (3) نجوّز تبيينه. وفي حبسه تنجيز مُعاقَبةٍ.
__________
(1) الشيخ أبو بكر: المراد به أبو بكر الصيدلاني. كما نبهنا على ذلك من قبل.
(2) ما بين المعقفين سقط من الأصل وحده.
(3) (د 1)، (ت 3)، (ت 2): ونحن نجوّز. والمعنى: أننا نحبس مدّعي الإعسار إذا كنا نتوقع أن له مالاً غيّبه، ونرجو أن يبينه ليخلص من الحبس. فإذا جاز هذا، فحبس من عليه القصاص إلى بلوغ المجني عليه أولى.

(8/539)


ولو كان الصبي مجنوناً فقيراً، وتحقق مسيس الحاجة إلى المال، وبَعُد توقع الإفاقة من المجنون، فالإمام يأخذ الأرش عند اجتماع هذين المعنيين.
ولو كان الصبي مجنوناً غنيَّاً، أو كان فقيراً عاقلاً مميزاً، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أنه يأخذ الأرش نظراً إلى الحاجة الحاقّة في إحدى الصورتين، وإلى اليأس من الإفاقة في الأخرى.
والوجه الثاني - أنه لا يأخذ الأرش أصلاً وينتظر ما يكون. والذي ذكره الأئمة من انتظار البلوغ في الصبيّ المميز الفقير متجهٌ. فأما الانتظار إلى إفاقة المجنون، فعظيم، وهو يؤدي إلى تخليد الحبس على الجاني من غير انتظارٍ محقق. ولكن هذا لا بد منه مع التفريع على هذا الوجه، ولسنا نقطع بحصول اليأس من الإفاقة.
6111 - ثم مهما (1) أخذ مَنْ إليه الأمرُ الأرشَ إما في صورة الوفاق، أو في صورة الوجهين، فأخذه الأرشَ هل يتضمن إسقاطَ القصاص والعفوَ عنه حتى لو بلغ الصبيّ مُفيقاً لا يرد الأرشَ ولا يستوفي القصاصَ أم له رد الأرش، وطلبُ القصاص؟ ذكر صاحب التقريب في ذلك وجهين، وعبر عنهما بأنّ أخذ الأرش عدولٌ إليه بالكلية وإسقاطٌ للقصاص أم هو ثابت بسبب الحيلولة؛ من جهة أن القصاص الواجب لا سبيل إلى استيفائه؟ فيه الخلاف الذي ذكرناه. وأخذ الأرش على وجهٍ نازلٌ منزلة أخذ المغصوب منه قيمة العبد الآبق من الغاصب، وهذا يتجه بعضَ الاتجاه، سيّما إذا أفضى الأمرُ إلى إدامة الحبس، ولكن ينخرم بصورةٍ لا خلاف فيها، وهي إذا كان الصبي عاقلاً غنياً؛ فإنا لا نثبت الرجوع إلى الأرش، للحيلولة في هذه الصورة أصلاً، ولعل الجواب عنه أنه إذا كان إلى البلوغ مصيرُه، فلا نجعل لهذه الحيلولة حكماً، غير أنه يلزم على مساق ذلك أن نقطع بامتناع الرجوع إلى الأرش إذا كان الصبي فقيراً مميزاً.
هذا منتهى الكلام في ذلك.
6112 - ثم ما قدمناه في السلطان واللقيط يجري مطّرداً في الطفل الذي يليه أبوه،
__________
(1) "مهما": بمعنى (إذا).

(8/540)


والكلام في أنه يأخذ الأرش أم لا يأخذه على التفصيل المقدم.
وكان شيخي يقول: ليس للوصي في حق الطفل سلطانُ (1 أخذ الأرش، وإنما يثبت هذا لوالٍ، أوْ وَليّ 1).
وهذا الذي ذكره حسن، إذا جعلنا أخذ الأرش إسقاطاً للقصاص، وإن حكمنا بأنه مأخود للحيلولة، فيظهر تنزيل الوصي منزلة الولي.
على أن المسألة فى أصلها ليست خاليةً عن الاحتمال؛ فإن القصاص ليس داخلاً تحت الولاية استيفاءً وإسقاطاًً حتى يقال: هذا النوع من التصرف من خصائص الولاة. والعلم عند الله تعالى.
فصل
قال الشافعي: " ولو قذفه قاذف ... إلى آخره " (2).
6113 - أما قذف اللقيط غيرَه في صباه وبعد بلوغه لا يخفى حكمه.
وأما إذا قذفه غيرُه، فمقصود الفصل دائر على التردد في حرّيته، فإنه إذا كان مشكل الحال، أمكن أن يقدّرَ رقيقاً، وسنصف بعد هذا تفصيل القول في حرّيته، وما يجري الحكم به، إن شاء الله تعالى.
ولكن المختص بمضمون هذا الفصل أن المقذوف إذا كان بالغاً مسلماً، متعففاً عن الزنا، وكانت حريته على ما أشرنا إليه، فقال القاذف: أنت رقيق، فلا حدّ عليّ، وقال المقذوف: بل أنا حُرّ، فالذي نصّ عليه هاهنا أن القول قولُ المقذوف مع يمينه، ونصّ في اللعان على أن القول قول القاذف، فحصل في المسألة قولان.
قال الأئمّة: هما من تقابل الأصلين؛ فإنّا إن نفينا الحدّ، بنينا على أصل براءة الذمة، وإن أوجبناه، بنينا على أن الأصل في الناس الحريّة، والرق عارض.
6114 - ثم تخبط الأصحاب في مسائل أجرَوْها مجرىً واحداً، وبعضها ليس من
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من (د 1)، (ت 3).
(2) ر. المختصر: 3/ 134.

(8/541)


تقابل الأصلين عندنا. ونحن نذكر ما ذكره الأصحاب، ثم نوضّح ما يليق بهذا الفصل من المباحثة.
فممّا ذكروه إعتاق العبد الغائب الذي انقطع خبر حياته (1)، قالوا: فيه قولان خارجان على تقابل الأصلين: أحدهما - أنا لا نحكم ببراءة الذمة؛ لأن الأصل اشتغالُها بالكفارة.
القولُ الثاني - أنا نحكم ببراءة الذمَّة بناءَ على أن الأصل بقاء العبد.
وقالوا أيضاً في العبد الآبق الذي انقطع خبره: هل يجب زكاة فطرِه على سيده؟ فعلى قولين مأخوذين من تقابل الأصلين: أحدهما - لا تجب بناءً على أصل براءة الذمة.
والثاني - تجب، بناء على بقاء العبد.
وخرّجوا ما نحن فيه من وجوب الحد على القاذف على هذا الأصل، وألحقوا بذلك اجتماعَ غلبة الظن في النجاسة مع أصلٍ مستصحبٍ في الطهارة، والاختلاف في ذلك مشهور على الجملة: فأحد القولين: يجوز الأخذ بالطهارة، بناء على استصحاب الطهارة. والقول الثاني - أن التعلّق بما يغلب على الظن.
ولهذا الأصل صور مذكورة في كتاب الطهارة.
6115 - وأول ما نرى استفتاحه والتنبيه عليه أن مسائل القولين في الطهارة ليست من قبيل تقابل الأصلين؛ فإنا إذا رُمْنا طردَهما على التقابل، لم ينتظم الكلام؛ فإن العبارة على القولين في مسائل النجاسة: أنا في قولٍ نستصحب أصل الطهارة، فلا نوجب إزالةً.
وفي القول الثاني - نوجب الإزالة تعلقاً بغالب الظن، وتقديماً للاجتهاد على استصحاب الحال.
والوجه لو استند غالب الظن إلى اجتهادٍ ظاهرِ- طَرْحُ استصحاب الحال.
وما ذكره الأصحاب من أنا لا نترك اليقين بالشك مجازٌ؛ فإن اليقين غير معقول مع
__________
(1) إعتاق العبد الغائب: أي إعتاقه عن الكفارة.

(8/542)


الشك، فضلاً عن ثبوت غلبة الظن على خلافه.
وقد ذكرنا في مراتب الأدلة في الأصول أن التعلق باستصحاب الحال باطل في معارضة الاجتهاد. وسبب اختلاف الأدلة في القول في النجاسات ضعفُ الاجتهاد؛ من قِبل أن علامة النجاسة خفية، فإذا فرض ظهورها، كانت مستيقنة. فهذا النوع إذاً من قبيل معارضة استصحاب الحال اجتهاداً ضعيفاً. وقد تجرّد الاستصحاب في الحدث والطهارة؛ إذ لا علامة فيهما أصلاً. وإذا عدمنا الاجتهاد بالكلية، استصحبنا ما كنا عليه.
فهذا مسلك الكلام في ذلك.
6116 - والذي يلتحق بقاعدة تقابل الأصلين على التحقيق المسألتان المذكورتان في غيبة العبد: إحداهما - في أن إعتاقه هل يبرىء ذمة المعتق؟ والأخرى في أن فطرته هل تجب؟ ففي قولٍ يبنى الأمر على بقائه؛ فنوجب الفطرة ونبرىء الذمة عن الكفارة وفي قولٍ لا نبرىء الذمة، ولا نوجب الفطرة.
وبالجملة مستند القولين اجتهادان يَعسُر على غير المدقق ترجيحُ أحدهما على الثاني، فمن لا يبرىء الذمة يقول: الأمر بالكفارة ثابت تحقيقاً، فليكن الخروج عنها في الظهور بمثابة موجِب الكفارة، وهذا اجتهادٌ ونوعٌ من النظر. والقائل الثاني يقول: إذا أعتق، فلسنا نستيقن بقاء الأمر بالكفارة الآن؛ إذ لو تحققنا بقاء العبد، لتبينّا براءة الذمة عن الكفارة، وإذا تبيّن سقوطُ اليقين ببقاء الأمر، فليس إلا التعلّق بنوعٍ من النظر المغلِّب على الظن، والغالب على الظن بقاء العبد.
6117 - ثم قد يظن كثير من الناس أنه لا يترجح في هذا الفن قول على قول، ولو كان كذلك، لانْحسم الفتوى وسقط مسلك الحكم في النفي والإثبات، واعتقاد ذلك محال. ونحن نتخد هذه المسألة معتبراً في طريق الفتوى، فنقول:
الظاهر عندنا أن ذمته لا تبرأ عن الكفارة؛ فإنه متعبَّد بعتقٍ ظاهر، وإذا غاب العبد وانقطعت الأخبار عنه مع طروق الطارقين، وتوافر الأخبار وبذل الجد في المباحثة، فهذا قد يدل على الفقد والموت، والأصل في الباب أن اليقين في حصول

(8/543)


العتق ليس مطلوباً؛ إذ لا يستيقن ملكٌ في عبد، بل نجتزىء بإنشاء عتقٍ في ملك ظاهر، وإذا قامت الأدلة على الفقد، لم يظهر العتق، وإذا لم يكن إلى تحصيل اليقين سبيل، فلا بدّ من الظهور، والقولان فيه إذا عميت الأخبار عن الحياة لو كانت، مع اجتماع أسباب ظهورها، حتى لو كان انقطاع الأخبار محالاً على انقطاع الرفاق، واضطراب الطرق، فيجب القطع بحصول البراءة ظاهراً؛ فإن مما ثبت أن كل أصل تقرر، ولم ينتفِ، ولم تنتصب دلالة تُغلِّب على الظن انتفاءه، فهو مُقَر على حكم البقاء. وصورة القولين في انتصاب الأدلة على نقيض البقاء.
6118 - وقد يتطرق إلى هذا سؤال، وهو أن يقال: كما يظهر البقاء مع البحث، فكذلك يظهر الموت، ولعل الدواعي إلى نقل الموت أميل منها إلى نقل الحياة؛ فإن الموت في حكم النادر في حق الحي، والنفوس مجبولة على نقل النّوادر، ولكن قد يُخفى على الإنسان ما يسوءه، وإن كان لا يُكذب له.
ثم مثل هذا إذا وقع، فالغالب ظهور خبر الموت وتبيّن الأمر على ما هو عليه،
فموقع القولين ما إذا انقطعت أخبار الحياة من غير مانع، ولم يظهر بعدُ الموتُ، فلو صوَّر مصوّرٌ استبهام الموت والحياة مع طول الزمان، كان ذلك على خلاف العادة، وإن شطت المسافة، أمكن حمل الانقطاع على بُعدها، ولا يجري القولان هاهنا.
6119 - ومما يجب التنبّه له أنا إذا لم نحكم ببراءة الذمة عن الكفارة، فلا نحكم بصحة بيع العبد والحالة هذه.
وإن حكمنا ببراءة الذمة عن الكفارة ظاهراً، ففي نفود البيع احتمالٌ؛ فإن إعتاق الآبق مُجزىءٌ مع امتناع بيعه.
ومما يجب دركه أنا إذا منعنا البيع، فلو تبين بقاء العبد، فالظاهر عندي نفوذ البيع، وإن كان قد يلتفت هذا على الوقف. ولكن إذا بأن الأمر، وكان البيع مستنداً إلى الملك، والتمكن من التسليم، فظنُّ التعذر لا يبقى أثره، مع تبين خلافه.
وكأن هذا في المعاملات يضاهي صلاةَ الخائف من سوادٍ يحسبه عَدُوا، ثم تبين خلافه. ولا يخفى أنا إذا تبيّنا بقاء العبد، فنحكم باستناد براءة الذمة عن الكفارة إلى وقت الإعتاق.

(8/544)


6120 - فخرج مما ذكرناه أن تقابل الأصلين لقب أطلقه الفقهاء اصطلاحاً، وإلا فحاصل القولين فيما سماه الفقهاء تقابل الأصلين يرجع إلى تقابل الأمارات الظنية.
وعلى هذا يخرّج كلُّ مختلَف فيه من المظنونات.
فإن قيل: فما الظاهر في إيجاب الفطرة في مثل العبد الذي ذكرتموه؟ قلنا: هو يخرّج على ما ذكرناه.
وبين المسألتين دقيقةٌ، وهي أن الموت ترجّح في المسألة الأولى على الحياة، وخرج العتق عن الظهور، وثبت التعبد بعتقٍ ظاهر، والأمر باقٍ إلى الامتثال.
وفي مسألة الفطرة ثبت الملك أولاً، وظهر بالأمارة موتُ العبد، كما ذكرناه، والبقاء غير خارج عن طرق الظنون، ولم يثبت عندنا في وضع الشرع أن ما تحقق وجوده أولاً، ولم نستيقن انقطاعَه، فلا فطرة فيه.
وهذا تلويح في الظن، والأصل أن لا فرق بين المسألتين.
فقد تحصّل التنبيه على مسلك الأقوال في المواقع التي يسميها الفقهاء تقابل الأصول.
6121 - وألحق العلماء بهذا ما نحن فيه من وجوب الحدّ على القاذف عند إنكار حرية المقذوف، وهو جارٍ على التقرير السابق. والظاهرُ في الحال انتفاء الحد، كما سنقرره بعدُ -إن شاء الله عز وجل- في فصل يحوي أحكامَ حرية اللقيط وتطرّقَ إمكان الرق إليه.
6122 - ومما يتصل بما نحن فيه القصاص عند فرض الجناية على اللقيط. فإذا قال الجاني الحرّ للّقيط بعد بلوغه: أنت عبد. وقال المجني عليه: بل أنا حر، ففي وجوب القصاص طريقان: من أصحابنا من أجرى القصاص مجرى حد القذف، وخرّج وجوبه على القولين.
ومنهم من قطع [باستيفاء] (1) القصاص، واعتلّ بأنا لو نفيناه على تقدير الرق،
__________
(1) في النسخ الأربع: قطع بانتفاء. ولعل الصواب: " قطع باستيفاء " كما هو واضح من تعليل القطع.

(8/545)


لانتقلنا إلى مشكوك فيه، وهو القيمة، والقصاص ظاهرٌ بناء على الحرية، وهذا يتضمن انتقالاً من ظاهرٍ إلى مشكوك فيه، وإذا (1) درأنا الحد عن القاذف، أوجبنا عليه التعزير، [والتعزير] (2) من طريق الحس بعضٌ من الحد، وهو مستيقن الثبوت، ففي إسقاط الحد، والرجوع إلى التعزير تركٌ للظّاهر، وتعلّق بالمستيقن.
وكان شيخي يقول: في القصاص طريقان: أحدهما - تخريج القولين، والآخر - القطع بالوجوب؛ فإن القصاص أبعد عن السقوط بالشبهة من حد القذف.
وهذا ضعيف لا مستند له على مذهب الشافعي؛ فإن حد القذف من حقوق الآدميين عنده.
ولا يصفو هذا الفصل عن شوائب الإشكال إلا بالفصل الذي نعقده في حرية اللقيط ورقّه، وتمام البيان في جناية اللقيط والجناية عليه موقوف على ذلك الفصل المنتظر.
6123 - ثم إن المزني نقل جملاً من أحكام الدعوى، ولحوق النسب، والقيافة، وقد عقد فيها باباً على أثر كتاب الدعاوى، ونحن التزمنا الجريان على ترتيب مسائِل المختصر، فالوجه أن نبين ما أورده من مسائل الدعوى، ونحيل باقي المسائل على آخر الدعاوى.
6124 - ومما نقله [أيضاًًً] (3) فصلٌ بيّن قصد به الرد على بعض العلماء، وذلك أنه قال: لا ولاء له كما لا أب له، وأراد بقوله: لا ولاء له أي لا ولاء عليه، وقصد بمضمون الفصل الرد على من زعم أن الملتقط يرث اللقيط، فقال رادّاً عليه: ليس بين الملتقط وبين اللقيط سبب مورِّث، ولا نسب، وتعرّض لبيان انتفاء الولاء فيما حاول نفيه. هذا مقصوده.
__________
(1) وإذا درأنا الحد: بيان للفرق بين حد القذف والقصاص.
(2) ساقطة من الأصل.
(3) سقطت من الأصل.

(8/546)


فصل
قال: " ولو ادعاه الذي وجده، ألحقته به ... إلى آخره " (1).
6125 - افتتح رضي الله عنه أحكاماً من الدّعوة (2)، والذي ذكره أولاً له اختصاص باللقيط. ومذهبنا أن الملتقِط إذا استلحق اللقيط، وقال: إنه ولدي، لحقه النسب.
وهذا من الأصول في الشريعة، وهو في ظاهر وضعه مخالف لأبواب الدعاوى، فمن ادّعى نسب طفل مجهول النسب لحقه نسبه بمجرد الدِّعوة والدِّعوة على صورة الدعوى المجردة.
والنسب من الحقوق المطلوبة، ثم لا نقول: يثبت ما على صاحب الدِّعوة من الحقوق، ولا يثبت ما له، بل تثبت أحكام النسب من الجانبين، حتى لو مات الطفل، ورثه مستلحقه، كما يرثه الطفل، لو كان هو الميت.
6126 - وهذا مع كونه مجمعاً عليه مستندٌ إلى طرفٍ من المعنى، وهو أن الإشهاد على النسب وسببه عسر، فلو لم يحصل بالدِّعْوة، لضاعت الأنساب. وإذا فرضنا ثبوت نسب ببينة، فالشهود لا يبنون شهادتهم على [عِيان] (3)، وإنما يبنونه (4) على استلحاق الرجل طفلاً، وتصرفه فيه بوجوه الاستصلاح على حسب تصرف الآباء، ثم إنه يشيع من هذه الجهة حتى ينتهي إلى التسامع الذي هو مستند البينات.
6127 - ثم إذا ثبت النسب بالدِّعْوة، وجرى الحكم به، فلو بلغ الطفل، وأنكر النسب، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أن النسب لا ينتفي بإنكاره؛ فإنه جرى الحكمُ به في الصبا واستمر، فلا ينقض بعد ثبوته.
__________
(1) ر. المختصر: 3/ 134.
(2) الدعوة: بالكسرة: ادّعاء الولد الدعي.
(3) في الأصل: علم.
(4) كذا في النسخ الأربع (يبنونه) بضمير المذكر. نظراً للمشهود عليه: النسب، أي يبنون النسب. والله أعلم.

(8/547)


والثاني - أنه ينتفي إذا أنكر بعد البلوغ وحلف، فإنه لو ادعى نسبَ بالغٍ، فأنكره، وحلف، لم يثبت النسب، فإذا انفرد المستلحِق بالدِّعوة في زمن الصبا، استحال أن يبطُل أثر الإنكار بعد البلوغ، وسنذكر في ذلك مثالاً في فصل الحرية والرق، إن شاء الله تعالى، ونبيّن قاعدة المذهب في مجموع هذه المسائل.
6128 - والذي نذكره الآن بعد القول فىِ أصل الدِّعوة أن دِعوة الملتقط في اللقيط مقبولةٌ، كما تُقبل دِعوةُ غيرِه فيه.
وقال مالك (1): إن اشتهر أن الملتقط لا يعيش له ولد، فدِعوته مسموعة؛ فإن النبد واللَّقْط محمول على عادةٍ في الناس، تتعلّق بالفأل: فإن من لا يعيش له ولد، ينبد ولدَه، ثم يلتقطه، ومن عَقْد العوام أنه إذا فعل ذلك، عاش المنبوذ. فأما [إذا لم يكن الملتقط] (2) ممن لا يعيش له ولد، فلا يُقبل استلحاقه للّقيط؛ من قبل أن الظاهر يكذبه؛ إذ الإنسان لا ينبد ولده هزلاً.
وهذا الذي ذكره لا أصل له، والقواعد لا تزول بأمثاله.
6129 - ولو اجتمع على اللقيط الملتقِطُ وغيرُه، وتداعيا نسبه، فلا نرجح الملتقط على غيره لمكان يده، بل هو وصاحبه مستويان في الدِّعوة، وسنذكر في الفصل الذي يلي هذا الفصل اجتماعَ المتداعيين في النسب، وإنما لم نرجح جانب الملتقط؛ لأن يدَ الالتقاط لا تدل على مزية في النسب.
وقد قال أئمتنا: إذا صادفنا صبياً تحت تصرّف إنسان، وما عهدناه منبوذاً، فإن كان المتصرِّف فيه بجهات استصلاح الآباء ادّعى نسبه، وجرى له الحكم به، ثم جاء إنسان، وادعى نسبَه، فجانب صاحب اليد مرجح؛ فإن النسب ثبت معتضداً بظاهر اليد، فلا تزحمه دعوى مَنْ لا تصرّف له، ولا يد.
__________
(1) ر. منح الجليل لعليش: 8/ 248، التاج والإكليل للمواق - بهامش شرح الحطاب: 6/ 82.
(2) في الأصل: إذا كان الرجل. والمثبت من باقي النسخ.

(8/548)


وإن كان تحت يده كما صورنا، ولم يصدر منه إسماعُ الناس استلحاقَه، فجاء إنسان، وادّعى نسبه، وقال صاحب اليد: هو ابني، فهذا مما تردّد الأئمة فيه، وهو في محل التردد، فمنهم من قال: صاحب اليد أولى إلا أن يقيم المدّعي الآخر بيّنةً.
ومن أصحابنا من قال: لا فرق، كما لا فرق بين الملتقِط وغيرِه، والجامع أن يد الملتقط ليست علامةَ نسب اللقيط، وقد دلّ النبد والالتقاط عند مالك على مناقضة الدِّعوة في النسب.
كذلك من تثبت يده على طفل، فالغالب أن يُشهر ويذكر نسبُه، إن كان ولدَه، فإذا لم يفعل، صارت يده كيد الملتقِط؛ من جهة أنها لا تدلّ على النسب، ويد الملتقط، وإن طال الزمن عليها لا تتضمن ترجيح جانبه؛ فإن مستندها الالتقاطُ الأول، وليس في الالتقاط ترجيحٌ فيما يتعلق بالنسب عند التداعي فيه.
6130 - نعم، لو كان التنازع في الحضانة، فقال أحدهما: أنا الملتقط، وقال الثاني: بل أنا الملتقط، وصادفنا اللقيط في يد أحدهما، فالذي صادفنا اللقيط في يده مقدّمٌ على صاحبه.
فلو قال صاحبه: كان الصبي في يدي، فانتزعه مني، ولم يُقم واحدٌ منهما بيّنةً، فالقول قول من يصادَف اللقيط في يده في الحال مع يمينه.
والفرق بين النسب وبين الحضانة بيّن؛ فإن حق الحضانة يثبت بالالتقاط واليدُ دلالةٌ عليه، وحق النسب لا يثبت بالالتقاط.
فصل
قال: " ولو ادعى اللقيط رجلان ... إلى آخره " (1).
6131 - إذا تنازع رجلان نسب مولودٍ، وكان كل واحد منهما من أهل الدِّعوة حالة الانفراد، فإن أقام كل واحدٍ منهما بيّنة على أن الولد ولدُه، والنسب ثابت من جهته،
__________
(1) ر. المختصر: 3/ 134.

(8/549)


فالبيّنتان تتهاتران، وتسقطان، ولا ينتظم استعمالهما (1).
والسبب فيه أن في كيفية الاستعمال على القول بالاستعمال ثلاثة أقوال:
أحدها - القرعة.
والثاني - القسمة.
والثالث - التوقف.
والقسمة غيرُ ممكنة، والقرعة لا جريان لها في الأنساب، ولا معنى للتوقف؛ فإن فيه تعطيلَ النسب، وليس فيه زيادة حكم بحالٍ على البيّنتين، فلا يجري إذاً قولٌ من أقوال الاستعمال، ويتعين الحكم بسقوط البيّنتين.
6132 - ثم لو لم يكن معهما بينة، فإنا نُري الولدَ القائفَ، فهذا هو السبيل لا غير، ثم إذا [ألحقه] (2) القائف بأحدهما، ونفاهُ عن الثاني، ألحقناه بالذي ألحقه القائف به.
وتفصيل القول في كيفية مراجعة القائف، وفي خطئه لو أخطأ مذكورٌ في كتاب الدعاوى. والقدْرُ الذي لا نخلي عنه هذا الباب أنا إذا أَرَيْنا الولدَ القائفَ مع أحد المتنازعيْن، فألحقه به، فلا نقتصر على هذا، بل نريه مع الآخر، فإن ألحقه به أيضاًً، تبين خطأ القائف، وسقط التمسك بقوله، وكان كما لو لم نجد قائفاً، إذا لم نجد غيره، ولا أثر لتقدم الإلحاق بالأول؛ فإنا نراجعه في حق الثاني، فإذا ألحق بالأول ونفاه عن الثاني؛ فإذ ذاك يحكم بقوله.
ولو رأى الولد مع المتنازعَيْن جميعاً، فلا بأس، [فإن ألحق بهما، أو نفى
عنهما، فلا قائف] (3)، وإن ألحق بأحدهما، ونفى عن الثاني، ثبت النسب ممن ألحقه.
__________
(1) عبارة الأصل، (ت 2) هكذا: " ولا ينتظم استعمالهما، فإن فرعنا على أن البينتين المتعارضتين تستعملان، والسبب فيه أن في كيفية الاستعمال ... ".
(2) في جميع النسخ: الحق (بدون هاء الضمير).
(3) ساقط من الأصل.

(8/550)


وفي القائف صفات مرعية ليس هذا موضع ذكرها، وستأتي في كتاب الدعاوى، إن شاء الله تعالى.
6133 - وإذا تعذر الرجوع إلى القائف، وقد تقدم أنه لا تعلّق بيد الالتقاط، فلا وجه إلا التوقف إلى أن يبلغ الغلام فينتسب إلى أحدهما، فإذا بلغ، لم يكن انتسابه إلى أحدهما صادراً عن التشهي والتمني، ولكنا نقول له: راجع جبلَّتك، وانظر، فإن وجدت نفسك أَمْيل إلى أحدهما رقةً وشفقة، فانتسب إليه. ولا ينبغي أن يبني انتسابه على غنى أحدهما، ورغد المعيشة في جنابه، بل حقٌّ عليه أن يتبع الشفقة والرقة الجبلِّيّة في القرابة.
6134 - وهذا الذي نحن فيه يباين تخيير المولود بين الأبوين إذا تنازعا الحضانة من وجهين: أحدهما - أن الصبي كما (1) بلغ مبلغ التمييز خيرناه، ولا نكتفي بهذا السن في التخيير الراجع إلى النسب، والفرقُ أن التخيير في الحضانة ليس قولاً مُلزماً، فإن الصبي لو اختار في الحضانة أحدَ الأبوين، ثم بدا له، فاختار الثاني، اتّبعناه، وضممناه إلى الثاني. وانتسابه إلى أحدهما قول ملزم، والصبي ليس من أهل القول الملزم. فهذا أحد الوجهين في الفرق.
والوجه الثاني - أن الصبي المخيَّر لو اختار أحدَهما تشهِّياً، انبنى عليه الحكم ظاهراً وباطناًً، إلى أن يسأم ويؤثر الثاني، وكذلك لو مال إلى أغناهما، ورأى العيش معه أهنأ، فله أن يختاره (2)، وقد ذكرنا أنه لا يجوز التعويل في الانتساب إلى أحدهما إلا على الشفقة والرّقة التي تثيرها القرابة.
6135 - فلو بلغ وانتسب إلى أحدهما، ووجدنا قائفاً وقت انتسابه؛ فإن ألحقه بمن انتسب إليه، فلا كلام، وإن ألحقه بالثاني، فإلحاق القائف هو المتبع؛ فإنه حكم صادرٌ ممن هو حاكم في الباب.
وكذلك لو انتسب إلى أحدهما، فأقام الثاني بينةً، فالبينة مقدّمة.
__________
(1) كما: بمعنى عندما.
(2) كل هذا في جانب الحضانة.

(8/551)


ولو اجتمعت بينة في أحد الجانبين، وإلحاق القائف في الثاني، فالبينة مقدّمةٌ، اتفق عليه الأصحاب؛ فإن مستند البينة أثبت، وقول القائف وإن كان مقبولاً؛ فإنه صادرٌ عن حدسٍ وتخمين، والبيّنة حجة عامة في الخصومات جُمَع.
6136 - ولو كان التنازع في الحضانة لا في النسب، فالسابق في الالتقاط هو الحاضن، لا شك فيه.
فلو أقام كل واحد منهما بينةً أنه السابق، وصادفنا اللقيط في يد أحدهما، فبيّنته تُرجَّح ترجيح البينتين بين الداخل والخارج في خصومة الملك، على ما سيأتي في الدعاوى؛ فإن حقيقة الحضانة ترجع إلى اختصاصٍ بيد، فإذا كانت اليد تدلّ على الاختصاص بالملك، فلأن تدل على الاختصاص بالحضانة أولى.
وإذا كان المولود بينهما، وهما واقفان عليه، فأقام كل واحد منهما بينة، فإن حكمنا بتهاتر البينتين، فكأن لا بينة (1). وإن حكمنا باستعمال البينتين عند التعارض، فلا يخرّج قول الوقف؛ فإن الحضانة لا تحتمل ذلك، ولا يخرّج قول القسمة.
ولو قال قائل ردّدوا اللقيط بينهما على حكم المهايأة، امتنعنا من ذلك، لما فيه من الضرار على الطفل، كما حققناه في الفصول الماضية.
فلا يجري على قول الاستعمال إلاّ قولُ القرعة، ولا امتناع في إجرائه في حق الحضانة؛ فإنا إذا كنا نجريه في الملك، فإجراؤه غير ممتنع في الحضانة، وليس كما لو كان المتنازع نسباً؛ فإن القرعة لا جريان لها في النسب، فتنحسم (2) أقوالُ الاستعمال في النسب.
6137 - ومما تنفصل فيه الحضانة عن خصومات الأموال وعن النزاع في النسب أن المتنازعَيْن في الحضانة إذا أقام أحدُهما بينةً أنه التقط هذا الصبي أمس، وأقام الثاني بينة أنه التقطه اليوم، فالبينة الشاهدة بالسبق مقدمة.
__________
(1) في النسخ الثلاث -غير الأصل- فكأن لا تهاتر.
(2) فتنحسم: أي فتمتنع.

(8/552)


ولو قامت بينتان من المتنازعَيْن في الملك وتقيّدت (1) إحداهما بالسبق، ففي تقديمها قولان سيأتي ذكرهما في الدعاوى، والفرق أن من يثبت له السبق في الحضانة، فلا سبيل إلى إبطال حقه، ويتصور في الملك أن يسبق أحدهما، ثم يزول الملك عنه إلى الثاني، وكذلك في النسب لو سبق أحدهما بالدِّعوة، ثم جاء آخر، ونازع وادّعى النسب، فسبْقُ السابق إلى الدِّعوة لا يُثبت له اختصاصاً في باب النسب، فإن الدِّعوة وإن كانت تقتضي النسب لو تجردت، فهي دَعوى محضة إذا فرضت الدعوى من رجلين.
6138 - ولو قامت في النسب بينتان من الجانبين وتقيدت إحداهما بتصديق القائف، أو باختيار المولود، فلا ينبغي أن نقول: تترجح البينة، ولكن الوجه الحكم بتساقطهما، ثم الحكم بإلحاق القائف بعد اعتقاد سقوطهما، وكذلك القول في الاختيار.
فهذه القواعد لا بدّ من الإحاطة بها في النسب والحضانة.
فصل
قال: " ودِعوة المسلم والذميّ والعبد سواء ... إلى آخره " (2).
ومقصود هذا الفصل الكلامُ في دِعوة العبد، ودِعوة الذمي.
6139 - أما دِعوة العبد، فقد نص هاهنا على أن العبد من أهل الدِّعوة، كالحر.
ونص في الدعاوى على أن العبد ليس من أهل الدِّعوة، ولو استلحق نسباً، لم يلحقه، فحصل قولان:
توجيههما: من قال: إنه من أهل الدِّعوة -وهذا القول هو الأصح- احتج بأن الدِّعوة تعتمد إمكانَ العلوق، وتصوّرَ النسب، فإذا كان العبد في هذا كالحر، فليكن بمثابته في الاستلحاق، وليس هذا كما لو أراد حضانةَ طفلٍ؛ فإن السيد يمنعه؛ من
__________
(1) (د 1)، (ت 3): فتقدرت.
(2) ر. المختصر: 3/ 135.

(8/553)


جهة كونه مستغرَق المنفعة باستحقاق سيده.
ومن قال: العبد ليس من أهل الدِّعوة، احتج بأن العبد لو استلحق نسباً ولحقه، لِتَقَدَّمَ النسبُ على حق الولاء (1) إذا أعتقه مولاه؛ فإنَ الإرث بالبنوة مقدّمٌ على الإرث بالولاء.
وهذا عندي في نهاية الضعف؛ فإن النسب ليس أمراً يُنشأ حتى يقدّر مبطلاً، وكيف يتجه ردُّ قولٍ ممكن ممن هو من أهل الإمكان، لأمرٍ سيكون بعد زوال الرق.
وكان شيخي أبو محمد يطرد هذين القولين بعد نفود العتق، ويقول: إذا استلحق المعتَق نسباً بعد ثبوت الولاء، ففيه قولان؛ بناءً على قطع حق الولاء.
وقد ذكر غيرُه هذا، وردُّ دِعوتِه بعد العتق في نهاية الضعف مع تمكينه من التزوج على سبيل الاستقلال، والتوصل إلى النسب.
6140 - ومما يتعلّق بذلك أن الحر لو استلحق نسب عبدٍ، فلأصحابنا طريقان: منهم من قطع بثبوت النسب؛ فإن الحر من أهل الدِّعوة على الإطلاق ولا حجر عليه.
ومنهم من جعل استلحاق الحر العبدَ، كاستلحاق العبد الحرَّ؛ من جهة أن في استلحاق الحرّ قطعَ الإرث المتوهم بالولاء، كما تقدم.
فهذا قولنا في العبد.
6141 - فأما الذمي، فإنه في الدِّعوة كالمسلم لا خلاف فيه، فإذا استلحق ذميٌّ نسبَ لقيط، ثبت النسب، وفي الإسلام الخلاف الذي ذكرناه.
وقد ذكر أصحابنا وجهين، ونقلهما شيخي والقاضي قولين؛ فإن الشافعي قال هاهنا: " أحببت أن أجعله مسلماًً "، وقال في كتاب الدعاوى: " جعلته مسلماًً "، فانتظم قولان.
6142 - ثم إن حكمنا بالإسلام تبعاً للدار، حُلْنا بين الذميّ وبينه، مع الحكم بالنسب، وفوَّضنا الحضانة إلى غيره.
__________
(1) (د 1)، (ت 3): " في حق الولادة ". وهو خلل بيّن.

(8/554)


وإن لم نحكم بإسلامه، فلا يخلو إما أن كان يصف الصبي الإسلامَ، أو كان لا يصفه، فإن كان لا يصفه، ضممناه إلى الذمي، وإن كان يصف الإسلام قبل سن التمييز، أحببنا ضمه إلى مسلم، ولم نوجبه، ولا بد من استرضاء الذمي؛ فإنا نثبت له حقَّ الحضانة، حيث انتهينا إليه، فلا سبيل إلى إبطاله عليه قهراً.
ولو وصف الصبيُّ الإسلامَ على سن التمييز، فقد جزم الشافعي قوله بأنه يُفرَّق بينهما، ويسلّم الصبي إلى مسلم؛ فإن الكافر قد يستزله ويمرّنه على الكفر.
ولم أر أحداً من الأصحاب يشير إلى جواز تركه تحت حضانة الكافر، بل صاروا إلى أنه يجب نزعه منه.
وإذا قلنا: لا حكم لإسلامه، ولا يتعلق بتلفظه بالإسلام حكم له أو عليه، فلا يبعد في القياس ألا ينزع من يد الكافر، ولكن يستحب نزعه مع استرضاء الأب الكافر؛ فإن في نزعه من يده إلزام أمرٍ، وإبطال حق.
ولكني لم أرَ هذا لأحد من الأصحاب.
فصل
قال: " ولا دِعوَة للمرأة إلا ببيّنة ... إلى آخره " (1).
6143 - المرأة إذا استلحقت مولوداً، وذكرت أنها ولدته، فإن أقامت بيّنةً، ثبت ما تدّعيه بالبينة، والولادة تثبت بشهادة أربع نسوة.
ثم إذا ثبتت الولادة، فلا فرق بين أن تكون ذاتَ زوج، وبين أن تكون خليّة، أمَّا الانتساب إليها بالولادة، فلا شك في ثبوته.
وأمَّا إلحاقه بالزوج إن كانت ذاتَ زوج، وكان العلوق منه ممكناً، فهو ثابت، ولا ينتفي النسب عن الزوج إلا باللعان.
6144 - فأما إذا اقتصرت المرأة على الدِّعوة، ولم تقم بيّنةً، فحاصل ما ذكره الأصحاب أوجه:
__________
(1) ر. المختصر: 3/ 136.

(8/555)


أحدها - أن الولادة لا تثبت بدِعوتها أصلاً، بخلاف الرجل. والفرق أن النسب في جانب الرجل مما لا يدرك موجِبه ومقتضيه؛ فمست الحاجة إلى إثباته بمجرد الدِّعوة، كما قررناه فيما تقدم، والمرأة قادرةٌ على إثبات الولادة بالبيّنة، فرُدَّت إلى قاعدة القياسِ، ولم يثبت الانتساب إليها بالولادة لمجرّد دِعوتها.
والوجه الثاني - أن المرأة في الدِّعوة كالرجل ووجه القياس بيّن، وقد تلد حيث لا يشهدها نسوة معتمدات من أهل قبول الشهادة.
والوجه الثالث - أنها إن كانت خليّةً عن الزوج، تثبت الولادةُ بدِعوتها، وإن كانت ذات زوج، لم تثبت الولادة بدِعوتها؛ فإنا لو أثبتناها، لزمنا أن نلحق الولادةَ بالفراش، وفي المصير إليه إلحاق نسب بالزوج مع إنكاره أصلَ الولادة.
6145 - ومن قال من أصحابنا بقبول دِعوتها سواء كانت خليةً، أو ذاتَ زوج؛ فإنه يقول: إن كانت ذاتَ زوج، يلحقها الولد، ولا يلحق زوجها، فليس في الأصحاب من يستجيز إلحاق الولد بالزوج مع إنكاره ولادتَها.
وهذه المسألة منصوصةٌ في كتاب اللعان، فإن الشافعي قال: " إذا ذكرت المرأة أنها ولدت ولداً، وقال الزوج: استعرتيه (1)، وما ولدتيه، فالقول قول الزوج مع يمينه ".
فمن فصل بين الخليّة وذاتِ الزوج، استبعد أن يلحقها الولدُ في فراش النكاح، مع امتناع إلحاقه بالزوج. ومن عمم قال في ذات الزوج: يختص الإلحاق بها، وكأنها
__________
(1) استعرتيه وما ولدتيه. هكذا بإثبات الياء في جميع النسخ، وقد يتبادر إلى الذهن أنها خطأ أو تحريف وتصحيف من الناسخ، لكن اتفاق النسخ الأربع ينفي هذا الاحتمال. وفعلاً بالبحث والتمحيص وجدنا هذا سائغاً صحيحاً عليه شواهد من النثر والشعر، قال سيبويه: وحدّثني الخليل أن أناساً يقولون: ضربتيه، فيلحقون الياء، وفي خزانة الأدب بتحقيق أستاذنا عبد السلام هارون 5/ 268، 269 الشاهد رقم 382:
رميتيهِ فأقصدتِ ... وما أخطاتِ الرَّمْيَهْ
بسهمين مليحينِ ... أعارتْكِيهما الظَّبْيَهْ
وانظر سيبويه: 4/ 200.

(8/556)


أتت بالولد لزمانٍ لا يحتمل أن يكون العلوق به من الزوج، ثم لا شك أن الخصومة تقوم بين الزوج والزوجة كما ذكرناه فيه إذا قال: استعرتيه، وقالت: بل ولدتُه.
6146 - فإذا فرعنا على أن المرأة من أهل الدِّعوة، إذا ادعت امرأتان ولادة مولود، فالولد نُريه القائفَ معهما، على ترتيبٍ، أو جمعٍ، كما سيأتي في باب القيافة من كتاب الدعاوى، إن شاء الله تعالى، فإن لم نجد قائفاً، وقفنا الأمر إلى أن يبلغ المولود على الترتيب الذي ذكرناه في الرجلين إذا تداعيا نسب مولود، ثم إذا كانتا تحت زوجين، أو كانت إحداهما ذات زوج، فبلغ المولود، وانتسب إلى إحداهما، فلا يلتحق النسب بالزوج، كما لا يلتحق بدِعْوتها المجردة إذا لم تُزاحَم في الدِّعوة؛ فإن قول المولود دَعوى كما أن قول المرأة دعوى.
ولو ألحق القائفُ الولد بذات الزوج، فقد اختلف أصحابنا في أن الولد هل يلحق الزوج؟
فمنهم (1) من قال: يلحقه؛ فإن قولَ القائف حجة أو حكم، وعلى أي وجه فرض، وجب الجري على موجَبه، فصار إلحاقه بمثابة ما لو أقامت المرأة بيّنةً على الولادة، ولو فعلت ذلك، التحق الولد بالزوج، ولا ينتفي عنه إلا باللعان.
والوجه الثاني - أن قولَ القائف لا يُلْحِق الولدَ بالزوج؛ فإن قوله يختص بمن يدّعى، بدليل أن القائف لو ألحق منبوذاً برجلٍ من عُرض الناس، لا يدّعي نسبَه، لم يُلحق به.
وسنستقصي ذلك في باب القيافة، إن شاء الله عز وجل.
فصل
قال: " ولو ادّعى رجلٌ على اللقيط أنه عبده ... إلى آخره " (2).
6147 - هذا الفصل يشتمل على تفصيل القول في حرية اللقيط ورقِّه، وبيان إقراره
__________
(1) " فمنهم من قال: يلحقه ". هذا هو الوجه الأول. وسيأتي الوجه الثاني بعد أسطر.
(2) ر. المختصر: 3/ 136.

(8/557)


بالرق، وهو مما يجب الاهتمام بفهم مضمونه، وبه تتهذّب أحكامٌ أطلقناها. وهذا الفصل يُطلع الناظرَ على تفاصيلها -إن شاء الله- فنقول أولاً:
6148 - أطلق الأئمة أقوالهم بأن الدار تقتضي للّقيط الحرية الظاهرة، كما أطلقوا القولَ بأنها تقتضي له الإسلام.
ووجه ما قالوه أنا حكمنا بظاهر الإسلام؛ لاستيلاء حكم الدار، ولقوّة الإسلام، حتى كأنا نقول: الأصل في هذه الدار الإسلام والمسلمون، والكفر في حكم العارض، والكفار في حكم الدخيل [الذي لا تُربط به] (1) الأحكام الجُملية، وينضم إليه ما تأسّس في الشرع من قوة الإسلام.
كذلك الرقُّ عارضٌ، والأرقاء مجلوبون، وليسوا من أهل الدار، والحرية غالبةٌ في بني آدم؛ فإنهم فطرُوا ليملِكوا ويتصرفوا، وسُخِّرت لهم الأشياء؛ فإن ثبت رقٌّ، فهو بالإضافة إلى الحرية كالنادر، فاقتضى ذلك الحكمَ بالحرية لظاهر الدار، كما ذكرناه في الإسلام.
6149 - وقد ذكرتُ لصاحب التقريب وغيرِه تردُّداً في تبعية الدار، وحاصله: أنا لا نجزم القول بحصول الإسلام، وقد أجرى الأصحاب مثل هذا التردد في الحرية، ورأَوْا التردّدَ في الحرية أقربَ من التردد في الإسلام؛ لما ثبت من قوّة الإسلام، واقتضائه الاستتباع في المولود (2 والمسبيّ.
وبنى هؤلاء على ما ذكرناه تفاريعَ نصفها 2)، فقالوا: إذا قُتل اللقيط قبل أن يبلغ خطأً، ففي الواجب بقتله وجهان: أحدهما - أن الواجب الدية بناءً على الحرية التي يقتضيها ظاهرُ الدار.
والثاني - أن الواجب أقلُّ الأمرين.
وليقع الفرضُ فيه إذا كانت القيمةُ أقلَّ، حتى ينتظم لنا تمهيد الغرض. وهذا
__________
(1) في الأصل: الذين لا نربط بهم.
(2) ما بين القوسين سقط من (د 1)، (ت 3).

(8/558)


القائل يقول: ليست الحرية مستيقنةً، ولا معنى لشغل ذمة الجاني أو ذمة عاقلته بما ليس مستيقناً.
وهذا منقدحٌ حسنٌ خارجٌ على ما قدمناه في اختلاف القاذف والمقذوفِ (1) اللقيطِ إذا بلغ، وقد ذكرنا القولين في وجوب الحد على القاذف، أو نفيه عنه. وهذا ذاك بعينه، ومرجعه إلى التردد في جزم الحكم بالحرية، أو ترك الجزم بها.
فإن (2) قلنا: لا نوجب الدية، فلا نوجب القصاص وإذا كان القتل عمداً، وكان القاتل حراً.
وإن قلنا بإيجاب الدية، ففي وجوب القصاص وجهان. وسبب التردد فيه مع إيجاب الدية تعرضه للسقوط بالشبهة.
6150 - وهذا موقفٌ للناظر نستبين فيه تفصيلَ [مهماتٍ] (3) سبق إطلاقُها، وذلك أنا أرسلنا قولين في أن من قتل اللقيط هل يستوجب القصاص؟ وحكينا عن معظم الأصحاب توجيه نفي القصاص بأن أولياء [المقتول] (4) لو ثبت - المسلمون، وفيهم الأطفالُ، والمجانين.
وقد نبهت على مأخذٍ آخر لهذا القول فيما تقدم، وأنا الآن أُنهي القول فيه نهايتَه، فأقول: في اللقيط إذا قُتل وقفتان: إحداهما - في دِينه، والأخرى - في حرّيته.
فمن لا يجزم الحكمَ بإسلامه، وحريته، لا يوجب القصاصَ على الحرّ المسلم إذا قتله.
ومن جزم الحكم بإسلامه وحريته يذكر قولين في وجوب القصاص على قاتله الحر المسلم، ويوجِّه نفيَ القصاص حينئد بما ذكره الأصحاب.
ولو كان قاتله على صفة العمد كافراً عبداً، فينحسم النظر في دينه وحريته،
__________
(1) في الأصل رسمت هكذا: والمقذو من اللقيط، وواضح أن (الفاء) حرفت إلى (من).
(2) فإن قلنا: " لا نوجب الدية " هذا تفريع على الوجهين اللذين ذكرهما آنفاً في القتل الخطأ.
(3) في الأصل: ما سبق إطلاقها.
(4) في جميع النسخ: أولياءه. والمثبت من (ت 2) وحدها.

(8/559)


ويرجع مأخذ القولين إلى ما ذكرناه من النظر في أطفال المسلمين ومجانينهم. فهذا هو التنبيه على الغرض في مأخذ الكلام في ذلك.
6151 - وفي بعض التصانيف ما ذكرناه من الترتيب على إيجاز، وفيه أن اللقيط إذا جنى خطأً، تعلّق أرش جنايته ببيت المال وجهاً واحداً.
وهذا مما يجب إمعان النظر فيه؛ فإن مال بيت المال مضنون به، لا يبذل إلاّ على ثَبَتٍ. وإذا لم نجزم القولَ بالحرّية، وخرّجنا عليه المسائل التي ذكرناها، فلا سبيل إلى القطع -والحالة هذه- بضرب أروش جناياته على بيت المال، بل يجب التوقف.
ويمكن أن يقال: يقطع بضرب موجَب جنايته على بيت المال -وإن ترددنا فيما قدمنا- أخذاً من شيء، وهو أنه لو مات وخلّف مالاً، وكان الموت في حالة الصغر، فماله موضوعٌ في بيت المال من غير توقّفٍ، فلا يبعد أن يتحمل بيتُ المال من غير توقفٍ؛ نظراً إلى صرف ماله إلى بيت المال، وتشبيهاً للمغرم بالمغنم.
6152 - ومما يجب التثبت فيه أنا نحكم للّقيط بالملك فيما نصادفه معه من غير توقف، وهذا من مقتضى حكمنا بحرّيته، فلا ينبغي للناظر أن يسترسل في مثل هذه المضايق، ويتعثر (1) بمشكلات تُقتحم فيها حُرم المذهب.
فنقول:
6153 - منخولُ هذه الفصول: أنا نحكم للقيط بالحرّية ما لم ينته إلى إلزام الغير حكماً مبنياً على الحرية، فإذا انتهينا، تردّدنا إذا لم يعترف الملتزم بالحرية.
فإن قيل: إذا أتلف المتلف مال اللقيط، فما رأيكم؟
قلنا: يضمن؛ فإن الغرم واجبٌ. وإذا كان الغرم واجباً عليه، فلا أرَبَ له في أن يصرفه إلى الطفل، أو يتوقف فيه (2).
__________
(1) (د 1)، (ت 3): ويتعين.
(2) عبارة الرافعي عن هذا المعنى الذي حكاه عن الإمام: وإذا أتلف ماله متلف، أخذنا الضمان، وصرفناه إليه، لأن المال المعصوم مضمون على المتلف، فليس أخذ الضمان بسبب الحرية حتى يأتي فيه التردد إذا أخذناه فلا غرض للمتلف في أن يصرفه إلى اللقيط أو لا يصرفه (فتح العزيز: 6/ 420).

(8/560)


6154 - وقد ينتظم من مجموع ما ذكرناه تفريعٌ يُنبّه على مقصود المتوقف في الإسلام والحرية، وهو أن نقول: إذا قُتِل اللقيط أمكن أن يكون رقيقاً، وأمكن أن يكون حرّاً كافراً، ثم إذا كنا نبغي الأقل، تعين الحمل على التمجس، فإذا سئلنا - والتفريع على ابتغاء الأقل- عن الواجب بقتله، فالوجه أن نوجب الأقلَّ من دية مجوسي، أو قيمة عبدٍ.
وهذا تفريع لا تنتهي الفتوى إليه، ولا يرتضيه ذو فقه، ولكنه موجَب ما قدمناه.
فإذا تمهد هذا الفصل، قلنا بعده:
6155 - ما صار إليه معظم الأصحاب أن من التقط اللقيط وادعى كونه رقيقاً له؛ فإنه لا تقبل دعواه إلا أن يقيم بيّنةً -على ما سنصفها في تفريع الفصل- لأن الظاهر الحرية، وهذه اليد ثبتت للملتقط حديثاً جديداً بالالتقاط. وهذا بيّن متّضح منطبق على مصلحة [الطفل] (1).
وقد ذكرنا أن الذمي إذا استلحق نسب منبوذ في دار الإسلام، فالنسب يلحقه لا محالة، وهل يثبت للقيط حكم الكفر؟ فيه اختلافٌ قدمناه، وليس ما ذكرناه الآن من ادعاء الملتقط رقَّ المنبوذ من ذاك بسبيل، فإن نسب المنبوذ متعرِّض للاستلحاق؛ من جهة أن نسبه مجهول، فاستوى في استلحاقه الكافرُ والمسلم، ثم انبنى على الاستلحاق ما ذكرناه من حكم الدين.
فإن قيل: فاليد تدل على الملك وقد صار الملتقِط ذا يدٍ؟ قلنا: هذه اليد لا تدل على الملك، وقد أحدثها بمرأى منا.
هذا ما ذهب إليه الأصحاب.
6156 - وذكر صاحب التقريب وجهاً بعيداً أنه تقبل دعوى الرق من الملتقط، ويثبت الرق بمجرد دعواه، إذا لم يمنع منه مانع.
__________
(1) في النسخ كلها الفصل. والمثبت من المحقق.

(8/561)


وهذا الوجه لا شك أنه ينبني على أنا لا نحكم للّقيطِ بالحرية حكماً جازماً، واستشهد عليه -مع البناء على ما ذكرناه- بمسألة، وهي أن الرجل لو وجد ثوباً في قارعة الطريق، وقال كما (1) وجده: هذا ملكي، كان ضل مني، فيقبل منه ويحكم له بالملك، حتى يجوز ابتياعه منه، تعويلاً على هذه اليد.
وهذا الوجه البعيد منحرفٌ عن قاعدة المذهب بالكلية، ولست أرى [الاعتداد] (2) به، وليس كالثوب؛ فإنه مملوك، فإذا لقطه، وزعم أنه ملكه، فليس دعواه مغيراً صفة الثوب، وإنما [يتضمن] (3) تعيينه لكونه مالكاً له، فتبين أن الملتقط إذا ادّعى رق اللقيط، لم يقبل منه إلا أن يقيم بينةً. هذا هو الذي عليه التعويل.
6157 - ولسنا ننكر دلالة ثبوت اليد على الرق على الجملة إذا لم تكن اليد مستحدثة بالالتقاط، فمن رأينا في يده صبياً، وهو يتصرف فيه تصرف المالك في ملكه، ولم تستند يدُه إلى الالتقاط، فإذا ادعى كونَه مملوكاً صدَِّق.
ولو ادّعى آخرُ رقَّه، فالقول قول صاحب اليد.
وإن استمرّ منه ادّعاء الرق، جرى الحكم به ظاهراً، فلو بلغ وأنكر الرق أصْلاً، وادّعى الحرية الأصلية، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أنا نستديم الملك المحكوم به، ونجعل هذا الذي بلغ وادعى الحرية مدّعياً، فعليه البينة، فإن لم يجدها، حلف صاحبُ اليد، ثم لا يخفى نظر الخصومة إلى انتهائها.
والوجه الثاني - أن القول قول هذا الذي ادعى الحرية، وعلى من كان يدّعي الرق البينةُ.
وقد ذكرنا مثل هذين الوجهين في النسب في حق من استلحق نسب صبي، وجرى الحكم به، ثم بلغ، وأنكر النسب، فهل يرتدّ النسب بإنكاره؟ على الخلاف المقدم.
[وكل ذلك] (4) متلقىً من اختلاف القول في أن من حكمنا له بالإسلام تبعاً، ثم بلغ
__________
(1) كما: بمعنى: عندما.
(2) في الأصل: الاعتقاد.
(3) في الأصل: يتغير.
(4) في الأصل: ولو كان ذلك.

(8/562)


وأعرب عن نفسه بالكفر فهو كافر أصليٌّ أو مرتد؟ فإن قضينا بكونه كافراً أصلياً، فقد عطفنا حكم الكفر تبيُّناً وإسناداً على ما مضى، وكأنا كنا نحكم بالإسلام ظاهراً، وننتظر بعد ذلك ما يكون من إعرابه عن نفسه إذا ملك لسانه، وهذا يجري في النسب، والرق، وهو مضمون الفصل.
وهذا إذا كان ثبوتُ اليد غيرَ مستندٍ إلى التقاط، فإن استند إلى الالتقاط، فلا يجوز بناء دعوى الملك عليه، على المذهب الذي عليه الجريان، ولا عود إلى ما ذكره صاحب التقريب.
6158 - فإن أقام الملتقط بيّنةً، قُبلت منه على الجملة، والكلام في تفصيلها.
فالذي يدل عليه ظاهر النص أنه لو أقام بينة على كونه ملكاً له مطلقاً، لم تسمع منه البيّنة (1 على هذا الوجه 1) حتى يشهد الشهود على سبب الملك.
وذكر أصحابنا قولاً آخر: إن البينة تسمع على الإطلاق قياساً على البينات الشاهدة على الأملاك.
والأصح أنها لا تقبل مطلقة؛ فإنا لا نأمن أن تعتمد ظاهر اليد الثابتة للملتقط، وقد أوضحنا أن يد الملتقط لا يجوز أن تُعتقد دَلالة على ملكه، فلا بد من ذكر سببٍ حتى يزول توهّم إسناد الشهادة إلى يد الالتقاط.
التفريع:
6159 - إن قبلنا الشهادة على الملك مطلقاًً، فلا كلام. وإن شرطنا تقييد الشهادة بسبب الملك، فلو قالت البينة: هذا ابن أمته أوْ ولدته مملوكتُه، فهل يقع الاكتفاء بهذا المقدار؟
في المسألة وجهان: أحدهما - أنه لا يقع الاكتفاء بهذا القدر؛ فإنا إن كنا نطلب من التقييد بياناً، فلا بيان في هذا، فإن أمته قد تلد حراً إذا كانت مَوْطوءةً بالشبهة، وقد تلد حملاً مملوكاً للغير بأن كان حاصلاً قبل جريان الملك في الأم، ثم تجري الوصية بذلك الحمل لإنسان، وتجري الوصية بالأم لهذا الشخص؛ فإذاً لا بيان في قول الشاهد: هذا ولدته أمته.
__________
(1) ما بين القوسين سقط من جميع النسخ غير الأصل.

(8/563)


ومن أصحابنا من اكتفى بهذا القدر، ووجهه: أن الشهادة على الملك مطلقاً مقبولة في غير مواضع النزاع، وإنما رددنا الإطلاق في اللقيط خشية أن يُسند الشاهد الشهادة على الملك إلى اليد الحاصلة بالالتقاط. فإذا جمع الشاهد إلى الشهادة بالملك أن أمته ولدته، فقد قطع الوهمَ الذي عليه بنينا ردّ الإطلاق، ثم ذِكْرُه الملكَ مع الولادة مصرحٌ بأنها ولدته ملكاً له.
التفريع على هذين الوجهين:
6160 - إن اكتفينا بهذا التقييد، فلا كلام.
وإن لم نكتف به، فينبغي أن يقول: ولدته أمتُه مملوكاً له في ملكه، ولو قال: ولدته أمتُه في ملكه، لم يكفِ ذلك. والمطلوب عند هذا القائل التصريحُ بسبب الملك، على وجه لا يبقى للاحتمال مساغ.
قال صاحب التقريب: ما ذكره الأصحاب، ودلّ عليه ظاهرُ النص من أنه لا يقع الاكتفاء بالشهادة على الملك المطلق، ولا بد من ذكر الولادة على التقييدات التي ذكرناها- ليس تعييناً (1) منهم لهذا السبب؛ حتى [لا] (2) يسوغ غيره؛ فإن أسباب الملك شتى. ولكن اتفق التنصيص على هذا السبب، ثم أغرق الأصحاب في ذكر ما يحتمله هذا السبب من جهات الاحتمال، ورأَوْا قطعها وردّها إلى جهةٍ لا يتقابل فيها احتمالان ويتعين وجه حصول الملك.
فلو قال الشاهد؛ هذا رقيقه، ورثه من أبيه ملكاً، أو اشتراه، أو اتهبه من مالكه، فكفي ذكر سبب من هذه الأسباب؛ فإن المحذور في اشتراط التقييد ما كرَّرْناه من ظن الشاهد أن يد الملتقط يدُ ملكٍ، فمهما أسند الملك إلى جهة أخرى، فقد جانب المحذور، ودرأ الشبهة والتهمة.
وما عندي أن أحداً من الأصحاب يخالف صاحب التقريب فيما ذكر. ولكن من تأمّل صيغة النص، و [فحوى] (3) كلام الأئمة، فَهِمَ أنهم يشترطون إسناد الشهادة إلى
__________
(1) (د 1)، (ت 3): تغليباً.
(2) ساقطة من الأصل.
(3) في الأصل: تحرى.

(8/564)


الولادة على الملك، ولا تعويل على ذلك؛ فإن تصويرهم ليس عن اعتقاد اشتراط التعيين، ولكنه تصوير وفاقي، ثم تناهَوْا في شرحه، وهذا مقطوعٌ به، لا يجوز أن يُتمارى فيه.
6161 - ومما يتصل بهذا أن المزني لما نقل في صدر الفصل عن الشافعي أنه شرط على الملتقِط تقييد البيّنة كما سبق، حكى بعد نجاز ذلك الكلام عنه نصَّاً آخر، واعتقد أنه مخالف للنص الذي نقله أوّلاً، وذلك أنه قال: إذا التقط الرجل منبوذاً، فجاء آخر، وقال: هذا [اللقيط] (1) ملكي، كان في يدي قبل ذلك، وأقام بينةً على أنه ملكُه، وأطلقت البيّنةُ شهادتَها على الملك، نقل عن الشافعي قبول الشهادة (2)، ثم أخذ ينظم قولين ويختار أحدَهما.
وهو مأخود عليه؛ فإن النص الأول في ادعاء الملتقط الملك فيمن التقطه، وهذا النص الذي حكاه آخراً، فيه إذا ادعى الملكَ في اللقيط غيرُ الملتقط، وليس في حق المدعي يد [التقاط] (3)، حتى نحْذَر [استناد] (4) الشهادةِ إليها، [فكانت] (5) الشهادة مقبولة على الملك مطلقاً، من غير تعرض للسبب، قياساً على البينات الشاهدة على الأملاك، في سائر الخصومات.
فقد بأن غلط المزني، وأنه عَدّ مسألتين مختلفتين مسألة واحدة، وقدر فيها اختلاف جوابٍ.
6162 - وإذْ نجز الفصل على أحسن مساقٍ وترتيب، فأنا أذكر بعد نجازه طريقةً
__________
(1) في نسخة الأصل وحدها: " الملتقط ". وهي صحيحة بفتح القاف، ولكنا آثرنا المثبت، قطعاً للاحتمال، وتفادياً لما يحدث (أحياناً) من خلل في الضبط.
(2) ر. المختصر: 3/ 137. ونصُّ العبارة المشار إليها: " (وقال) في موضع آخر: إن أقام بينة أنه كان في يده قبل التقاط الملتقط، أرفقته له.
(قال المزني): هذا خلاف قوله الأول، وأولى بالحق عندي من الأول " ا. هـ بنصه من المختصر، وبالتنسيق نفسه.
(3) في الأصل: التقاطه.
(4) في الأصل: استناده. والمثبت من باقي النسخ.
(5) في الأصل: لكانت. وفي باقي النسخ: وكانت. والمثبت تصرف من المحقق.

(8/565)


لشيخي كان يقول: إذا ثبت الملك بإقرار المملوك -حيث يُقبل إقراره- فلا كلام.
والتداعي وراء ذلك في تعيين الملك، فلا حاجة -والحالة هذه- إلى تعيين السبب.
فأما إذا كان دعوى الملك في معارضة الحرية الأصلية، فلا بد من إسناد البينة شهادتها إلى الولادة على الملك.
وهذا الذي ذكره ليس بالبعيد، ويجوز أن يقال: هو معتضدٌ بالنص، وفحوى كلام الأصحاب، وهو مخالف لما ذكره صاحب التقريب.
ولكن يدخل عليه شيء، وهو أن ملك الأم الوالدة كيف يطلق، وهل على الشهود أن يقولوا [إنها] (1) أقرت بالملك أم يجب في الأم أيضاً إسناد ملكها إلى ولادة؟ وهذا أمرٌ طويل، ولهذا أخرت ما ذكره الشيخ، والتعويل على الكلام المقدم.
فصل
قال: " وإذا بلغ اللقيط، فاشترى، وباع ... إلى آخره " (2).
6163 - مضمون هذا الفصل مشتمل على بقيةٍ من أحكام الرق والحرية وهو بالإضافة إلى ما تقدم خفي منسوب [إلى جلي] (3)، فليعتن (4) الناظر به، وليستعن بالله تعالى.
ونحن نستفتح الكلام بذكر ثلاث مراتب نترجمها، ثم ننعطف على بيانها: إحداها - أن يبلغ اللقيط ويقرَّ بالرق لإنسانٍ ابتداء، من غير أن يتقدم منه إقرارٌ بالحرية، أو يتقدم منه تصرّفٌ يقتضي الاستبدادُ به الحريةَ.
والمرتبة الثانية- أن يبلغ، فيقرَّ بالحرية، ثم يُقرّ بعده بالرق لإنسان.
المرتبة الثالثة - مضمونها أن يتصرف تصرفاتٍ لا يستبدّ بها إلا حرٌّ، ثم يُقرّ بعدها بالرق لإنسان.
__________
(1) ساقطة من الأصل.
(2) ر. المختصر: 3/ 137.
(3) في الأصل: الرجلين.
(4) (د 1)، (ت 3): فليعتبر.

(8/566)


فهذه المراتب قواعدُ الفصل.
6164 - ونحن نرجع إلى أولاها: فإذا بلغ، وأقرَّ بالرق ابتداء لإنسانٍ، من غير أن يتقدم على إقراره هذا دعوى حرية أو تصرف. فالمذكور المشهور في الطرق أن إقراره بالرق (1 مقبولٌ.
6165 - وذكر صاحب التقريب قولاً آخر: إنه لا يُقبل إقراره بالرق على نفسه 1)؛ فإن الدار حكمت له بالحرية، فلا يُنقض مقتضى الدار إلا ببيّنةٍ، وشبّه صاحب التقريب الحريةَ المحكومَ بها بظاهر الدار مع الإقرار بالرق بعدها، بالإسلام الحاصل بتبعيّة الدار، ثم اللقيط إذا بلغ وأعرب عن نفسه بالكفر، ففي أصحابنا من نقل قولاً: إنه يحكم بردّته، ولا يُنقض الأصل السابق تبيّناً، فكذلك وجب: ألا تُنقض الحريةُ.
غير أن المسلم يُتصور منه أن يرتدّ، والحرّ الأصلي لا يتصور منه أن يُرِقَّ نفسه.
6166 - فإن قلنا: لا يُقبل إقراره بالرق في هذه المرتبة، فلا كلام.
وإن قلنا: يقبل إقراره بالرق -وهو الأصح الظاهر- فيتوصّل من هذا المنتهى إلى ذكر المرتبة الثانية-[وهي إذا] (2) زعم أولاً أنه حرٌّ بعد بلوغه، ثم أقرّ بالرق بعد ما سبق منه الاعتراف بالحرية.
فالذي قطع به العراقيون أن إقراره بالرق لا يقبل بعد ذلك قولاً واحداً، فإن الحكم الظاهر بحريته في صباه تأيّد، وتأكّد بإعرابه عن نفسه بعد بلوغه بالحرية، فإذا أراد أن يناقض ذلك، كان كما لو بلغ اللقيط، فأعرب عن نفسه بالإسلام، ثم أعرب بعده بالكفر، ولو فعل ذلك، كان مرتداً قولاً واحداً جانياً على الإسلام، والفرقُ بين البابين أن الجناية على الإسلام بالردة ممكنة، وخرمُ الحرية بعد ثبوتها وتأكدها (3) غيرُ ممكن.
وهذه الطريقة هي التي صححها القاضي، وذكر أنها المذهب.
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من (ت 3).
(2) في الأصل: فإذا زعم.
(3) في غير نسخة الأصل: وتمكنها.

(8/567)


6167 - وقطع الصيدلاني القول بقبول الإقرار بالرق بعد تقدم الاعتراف بالحرية، وشبه هذا بما لو ادّعى الزوج الرجعة وأنكرت المرأة مصادفتها العدة، على صيغةٍ تقتضي تصديقَها، كما سيأتي تفصيل ذلك في كتاب الرجعة -إن شاء الله تعالى- فإذا جعلنا القول قولَها، وحلفت، وانتجزت الخصومة، ثم عادت، فاعترفت بتصديق زوجها، فالرجعة ثبتت.
وهذا الوجه الضعيف ذكره القاضي وزيّفه، وزعم أن ناصره يقول: إقراره بالحرية، ثم إقراره بالرق بعدها، بمثابة ما لو أقر بكون الشيء ملكاًً له، وعزاه إلى نفسه وادّعاه، ثم أقر به لإنسانٍ من غير أن يتخلل بين الإقرارين ما يتضمن نقل الملك، فإقراره لذلك الإنسان مقبول.
وهذا الاستشهاد ضعيف؛ فإن الحرية إذا ثبتت، فلا سبيل إلى رفعها، ولله في استقرارها حقٌّ، وفي الإقرار بها تعرُّضٌ لالتزام حقوقٍ تقتضيها الحرية ُلله، وللعباد.
وأما ما استشهد به الصيدلاني، فلنا في تلك المسألة من الرجعة نظر أولاً [كما] (1) سيأتي، إن شاء الله تعالى.
ثم ليست الحرية بمثابتها؛ فإن اللقيط إذا بلغ، وأقر بالحرية، فقد وافق إقرارُه بها حريةً اقتضتها الدار، كما تقدم، فلا سبيل إلى نقضها بعد ثبوتها ظاهراً، وإقراراً.
هذا بيان الحكم في هاتين المرتبتين.
6168 - فأمّا بيان المرتبة الثالثة - وهي ألا يصدر من بعد البلوغ إقرارٌ برقٌ، ولا حرية، ولكنه تصرّف تصرفاتٍ يقتضي نفوذُها الحريةَ، فنكح، وأصدق، وباعَ، واشترى، ثم إنه بعدها أقر بالرق، فكيف السبيل؟
الوجه في افتتاح الكلام أن نقول: إن رددنا إقراره في المرتبة الأولى، وصرنا إلى أن الرق لا يثبت أصلاً إلا ببينة، فلا حكم لإقراره بالرق، وهو كلام لاغٍ مطّرح، ولا يرد على هذا إلا مسألة وهي إذا نكح، ثم أقر بالرق فإقراره اعتراف منه بأن التي نكحها محرّمةٌ عليه، فيستحيل أن نحلّها له، وهو يزعم أنها محرمة، وصدقُه في
__________
(1) سقطت من الأصل.

(8/568)


الإقرار بالرق ممكن، وهذا يضاهي ما لو أقرّ أحد الابنين الوارثين بنسب بنتٍ، فالمذهب الظاهر أن إقراره مردود ولا يثبت النسب، ولا الإرث ظاهراً وباطناًً، ولكن التي أقر لها بالأخوّة محرمةٌ عليه، وإن كان أصل إقراره مردوداً، فهذه المسألة فيما نحن فيه ملحقةٌ بتلك.
6169 - وإن فرعنا على أنه لو أقرّ بالرق بعد البلوغ، قُبل إقراره -وهذا طريق الأصحاب، والمسلك المشهور- فعليه نخرِّج المرتبة الثالثة، ولا نعود إلى ما ذكره صاحب التقريب في المرتبة الأولى، فنقول:
6170 - إذا أقر بالرق بعد تصرفاتٍ، فأصل إقراره بالرق مقبول، ولكن اختلف قول الشافعي في تفصيل القبول: فأحد القولين - أنه يقبل إقراره عموماً في الماضي، والحال، والمستقبل، وفيما له وعليه، وفيما يتضمن إلحاقَ ضررٍ بغيره.
والقول الثاني - أنه لا يقبل إقراره على العموم، بل يقال: هو مقبول فيما عليه.
ثم اختلفت الطرق، ففي بعضها أن إقراره يقبل في المستقبل عموماً فيما له وعليه، ويقبل إقراره فيما مضى، وسبق، فيما هو عليه، ولا يقبل إقراره فيما يتضمن إبطال حقٍّ لغيره.
ومن أصحابنا من طرد هذا القولَ على هذا التفصيل في المستقبل والماضي، وقال: لا يقبل إقراره فيما يتضمن إلحاق ضررٍ بغيره ويستوي فيه الماضي والمستقبل.
وإذا جمعنا الأقوال من غير التفاتٍ إلى ما ذكره صاحب التقريب، كان حاصلها ثلاثة أقوال:
6171 - أحدها - أن إقراره بالرق مقبول عموماً، فيما له وعليه، وفيما يضر بالغير، وفيما لا يضر، من غير فرق بين السَّابق واللاحق، والماضي والمستقبل.
والقول الثاني - أن إقراره مقبول فيما عليه، ولا يقبل قوله في إبطال حق غيره، ويستوي فيه الماضي والمستقبل.
والقول الثالث - أنه يقبل إقراره عموماً في المستقبل فيما لهُ وعليه، ولا يقبل فيما

(8/569)


سبق ومضى، إذا تضمن إضراراً بغيره، ويقبل إقراره فيما هو عليه إذا لم يضر بغيره فيما مضى.
هذا بيان الأقوال.
6172 - توجيهها: من قال بقبول إقراره عموماً، احتج بأن أصل الرق قد ثبت، والمقر غيرُ متهم؛ فإن العاقل لا يورّط نفسه في أسر الرق وضبطه (1) المؤبّد، ليضرّ بغيره، وإذا انتفت التهمة، نفد الإقرارُ، وإن كان يؤدي نفوذُه إلى الإضرار بحق الغير، وهذا بمثابة ما لو أقر العبدُ بجنايةٍ، توجب القصاصَ عليه؛ فإن إقراره مقبول، والقصاصُ واجب.
وهذا القول الذي ننصره يضاهي ما لو أقر العبد بسرقة نصاب؛ فإن أصل إقراره مقبول، والقطع متوجه، وفي قبول إقراره بأخذ المال قولان.
ووجه قول من يبعّض حكم إقراره عموماً في الماضي والمستقبل أن التعرض لإبطال حق الغير لا وجه له، والعقوبات مستثناة عن هذه القاعدة؛ فإنه لا يهجم على التزامها لقصد الإضرار بالغير عاقل.
ومن فصل بين الماضي والمستقبل، قال: إذا قبلنا الإقرار بالرق، فيستحيل تبعيض حكمه في مستقبل الزمان، فأمَّا ما تقدم على الإقرار، فقد يتجه فيه التبعيض والتجزئة تخريجاً على ما مهدناه.
وهذه الأقاويل مجملة يفصّلها التفاريع، ونحن نأتي بها، ونفصلها مسألة مسألة، ونخرّج كل واحدة على الأقاويل، إن شاء الله تعالى.
فنقول:
6173 - اللقيطة إذا بلغت، ونكحت بناء على الحرية، ثم اعترفت بأنها رقيقةُ فلانٍ، وصدقها المقرُّ له بالرق.
فهذا نخرّجه على الأقوال، فإن قلنا: يقبل إقراره عموماً من غير تبعيض، فنحكم برقها، ونتبين أنها نكحت من غير إذن مولاها، ونقضي بأن النكاح فاسد.
__________
(1) "وضبطه": بمعنى حبسه.

(8/570)


فإن لم يكن دخل الزوج بها، فلا نصفَ مهرٍ، ولا متعة، و [إن] (1) كان دخل بها، فعليه مهر المثل للسيد المقَرُّ له بالرق.
وإن كانت ولدت منه أولاداً، فأولاده منها أحرارٌ؛ فإنها أتت بهم والزوج على اعتقاد الحرية فيها، ويلزمه قيمتُهم للسيّد حين سقطوا وانفصلوا.
وأما العدّة، فقد قال الأصحاب: لا يلزمها عدة، ولكنها تستبرىء بقُرء؛ لمكان الوطء.
قال القاضي: الصحيح أنها تؤمر بأن تعتد بقرأين؛ فإن عدة الأمة بعد ارتفاع النكاح الصحيح قرءان، ونكاح الشبهة في حُرماته بمثابة النكاح الصحيح، فلتعتدّ بقرأين.
وهذا التردد للأصحاب يجب اطراده في كل نكاح بشبهة على أمةٍ، ولكن الذي ذكره القاضي أن هذا من قول الأصحاب يختص بهذه الصورة، والاعتداد بالقرأين متفق عليه في غيرها من الأنكحة الفاسدة المعقودة على الأمة بالشبهة، ولا فرق عندنا.
وإن تخيل متخيل في هذه الصورة أن سبب الاكتفاء بالقرء الواحد أنا نقبل إقرارها عموماً، ونستأصل أثر الحرية بالكلية، ولا يبقى لتصرفها أثر، فيلزم على مساق ذلك ألا نحكم بحرية الأولاد، أو [نشبب] (2) بخلاف فيها، وقد أجمع الأصحاب على حرية الأولاد كما ذكرناه.
وكان شيخي لا يذكر هذا الاختلاف، ويقطع بأنّها تعتد بقرأين.
هذا تفريع على قولنا بقبول الإقرار عموماً.
6174 - وإن قلنا: يُبعَّضُ الإقرار؛ فيقبل فيما عليها دون ما لَها؛ فنحكم على هذا
__________
(1) في الأصل: فإن.
(2) في الأصل حرّفت إلى: نشبت، وكذلك حرفت في (د 1) إلى نتشبت، و (ت 3)،
(ت 2): حرفت أيضاً إلى نحو ذلك. والمثبت تقدير منا على ضوء المعهود من ألفاظ الإمام في مثل هذا السياق.

(8/571)


القول برقها (1) أولاً، ولا نحكم بانفساخ النكاح في المستقبل، ولا بفساده فيما مضى، وإن (2) فرقنا بين الماضي والمستقبل؛ فإنا إذا التزمنا إلزام النكاح فيما مضى فنلتزم الوفاء بحكم الصحة، ونجعل كأن النكاح في حكم المستوفى المقبوض فيما تقدم، ولهذا نظائر من النكاح لا تخفى على الفقيه، وعلى هذه القاعدة بنينا مذهبنا في أن الحرّ إذا وجد الطَّوْل بعد نكاح الأمة، لم نقض بارتفاع النكاح.
هذا حكمنا في أصل النكاح.
ثم الكلام بعد ذلك في المهر.
قال الأئمة: على الزوج أقلُّ الأمرين من المسمَّى ومهر المثل، فإن كان مهر المثل أقلَّ الأمرين، فالسيّد المقَرُّ له لا يدّعي غيره، وإن كان المسمى أقل، فإلزام الزوج أكثرَ منه إضرارٌ به، وقد ذكرنا أنا لا نضر بالغير للإقرار بالرق.
فإن قيل: حطّكم من مهر المثل إضرار بالسيّد المقر له، قلنا: هذا حكم الرق، وإنما نُثبت الرقَّ بالإقرار، ونحن نتوقى الإضرارَ بالغير.
فليتثبت الناظر في هذا المقام، فلا شك فيما ذكره الأصحاب. وما يفرض فيه من سؤالٍ (3) خيالٌ لا حاصل له.
6175 - والأولاد الذين أتت بهم قبل الإقرار أحرار، وليس على الزوج قيمتهم للسيّد المقر له؛ فإنا لو ألزمناه ذلك، كنا مضرّين به لإقرارها.
ولكن لو استمر على النكاح، فالأولاد الذين تأتي بهم في المستقبل أرقاء [قطع] (4) الأصحاب بهذا أقوالَهم.
__________
(1) (د 1)، (ت 3): بإقرارها.
(2) قوله: " وإن فرقنا بين الماضي والمستقبل " معناه: سواء فرقنا بين الماضي والمستقبل، أو لم نفرق. وهو واضح بشيء من التأمل. وانظر المسألة بكل تفاصيلها عند الرافعي. (فتح العزيز: 6/ 431، 432).
(3) سؤال: أي اعتراض كما هو واضح، فالسائل، ويسمى أيضاً المستدلّ، منصب من مناصب الجدل، وهو المعترض (راجع رسالة الآداب للشيخ محمد محيي الدين عبد الحميدص 63).
(4) في الأصل: جمع.

(8/572)


فإن قيل: هلا قلتم: إن الأولاد أحرار، إذا (1) فرعتم على اجتناب الإضرار في الماضي والمستقبل، كما أنكم بقَّيتم النكاح في المستقبل، فقولوا: يبقى النكاح له في المستقبل على حكمه فيما مضى، وإرقاقُ أولاده إضرار به؟
قلنا: ما ذكره الأصحاب ظاهرٌ إذا عممنا قبولَ الإقرار في المستقبل من غير تفصيل. فإن قلنا بالتفصيل في الماضي والمستقبل، والتزمنا اجتناب الإضرار، فالمسألة محتمِلةٌ (2).
ظاهرُ كلام الأصحاب ما ذكرناه؛ لأن الأولاد الذين يحدثون في مستقبل الزمان متجددون، وأمرهم يشابه استفتاح تصرف بعد الإقرار بالرق؛ فلا ينتظم مع الحكم بالرق، وعِلْمِ الزوج بأن الرق محكوم به - القضاءُ بحريّة الأولاد، وليس الولد متضمَّن النكاح ولا معقودَه، وإن كان مقصوداً منه على الجملة، وليس هذا كحكمنا بدوام النكاح؛ فإن الحكم بدوامه هو الحكم بصحته أوّلاً، فمن الوفاء بالصحة الإدامةُ، وهي المقصودةُ، والأولاد في المستقبل بخلاف ذلك.
ولست أنكر اتجاه احتمالٍ في حرية الأولاد في المستقبل اتباعاً لحق الزوج ومصيراً إلى أن الأولاد من مقاصد النكاح، ولا أُبعد أن الأصحاب فرّعوا ما ذكروه من رق الأولاد في المستقبل، على تعميم قبول الإقرار في المستقبل، وردّ التفصيل إلى ما مضى.
وهذا منِّي تنبيه على كل وجه بعد أن ظهر لي من كلام الأصحاب القطعُ برق الأولاد في المستقبل، وقد ذكرت وجهه، والله المستعان.
6176 - فإن أراد الزوج ألا يَرِقّ أولادُها، فليطلّقها، وإذا طلقها، اعتدت بثلاثة أقراء، وهذا يظهر إذا كان الطلاق رجعيّاً، فإنّ الرجعية منكوحة، فإدامة التربص في القرء الثالث من إدامة النكاح، وإن طلقها زوجها البتة، فبانت، فالذي قطع به
__________
(1) في جميع النسخ: " إذا ". وهي بمعنى (إذ) وهو واردٌ سائغٌ كعكسه، وقد سبق بيان ذلك.
(2) محتملة أي ذات احتمالين. أحدهما:- ظاهر كلام الأصحاب الذي ذكر.
والثاني - أيده الإمام بقوله الآتي قريباً: ولست أنكر اتجاه احتمالٍ في حرية الأولاد.

(8/573)


الأصحاب أنها تعتد بثلاثة أقراء؛ فإنّ ذلك من توابع النكاح. وأمرُ العِدد لا يختلف بكون الطلاق رجعياً أو مُبيناً.
ولو مات الزوج، فقد قال الشافعي تفريعاً على القول الذي انتهينا إليه: تتربص شهرين، وخمسةَ أيام، ورأى عدة الوفاة، وراء انتهاء (1) النكاح نهايته، ولم يرها من حق الزوج، ومَحَّضها تعبداً بخلاف عدة الطلاق. وهي (2) رقيقةٌ، فلتعتد عدة الإماء عن وفاة زوجها.
وهذا حسنٌ.
ولم يصر أحد من الأصحاب إلى أنها تعتد عدة الحرائر أربعةَ أشهر وعشراً.
وثار (3) بعض الفقهاء في هذا المقام، فقال: لا يجب عدة الوفاة؛ فإن حظ الزوج قد انقضى، فلا التفات عليه، والرق ثابت، فلتعتد بالقرء (4).
ثم ينقدح عندي في هذا أنه إن جرى وطءٌ، فالكلام في القرء الواحد والقرأين على ما مضى في أول هذا التفريع، وإن لم يجر وطء أصلاً، ففي المسألة احتمال: يجوز أن يقال: تستبرىء بقرء، كما إذا اشتُرِيت من امرأة، أو مجبوب. ويجوز أن يقال: لا استبراء؛ فإن السيد ينكر ما كان. وما ذكرناه من الحكم بصحة النكاح ظاهرٌ، وليس أمراً باطناً ولكنَّا [كنا] (5) نرعى حق الزوج في ظاهر الأمر، فإذا انقضى، وانقطعت حقوقه، فالسيّد يقول بعد ذلك: لم يكن نكاح قط، فلا استبراء.
فليتأمل الناظر هذه الفصول.
__________
(1) وراء انتهاء النكاح: أي أن عدة الوفاة ليست لحق الزوج الحرّ، وإنما تكون بعد وفاته، وهي ليست حقاً للزوج. ولذا تعتد هذه عدة الإماء.
(2) " وهي رقيقة ". الواو هنا للاستنئاف. فالمعنى: ثم هي رقيقة.
(3) ثار: أي انبعث، وأنشأ من هذا المقام. والتعبير المعهود هو: وعن هذا ثار رأيٌ بكذا، أو فلان بكذا.
(4) " فلتعتد بالقرء ": المراد هنا أنها تستبرىء لمكان الوطء؛ فهذه ليست عدة وفاة كما تقرر، وليست عدة طلاق أيضاً، وأصلاً هي تزعم بطلان النكاح بقرارها بالرق. (راجع فتح العزيز: 6/ 433).
(5) ساقطة من الأصل.

(8/574)


وأسدُّ الطرق وأقطعُها للشغب ما ذكره الشافعي رضي الله عنه في الشهرين والخمسة الأيام؛ فإن عدة الوفاة من حرمات النكاح، وإن كان لا يعتبر فيها شغل الرحم. فإذا جرى الحكم بالنكاح، لزم إثباتُ عدة الوفاة، ثم لم تثبت العدة الكاملة لما نبهنا عليه.
6177 - ومما أجراه الشافعي أنه قال: يملك الزوج عليها ثلاث طلقات. وظاهر [هذا] (1) الكلام يشير إلى أن ذلك بسبب كونها حرة في حق الزوج.
ولا حاصل لهذا على مذهب الشافعي؛ فإن الاعتبار في عدد الطلاق بحرية الزوج ورقّه، والزوج الحر يملك على زوجته الأمة ثلاثَ طلقات، حتى قال الأصحاب: هذا تفريع من الشافعي على مذهب أبي حنيفة، وهذا غير منتظم؛ فإنّ الشافعي لا يفرع على مذهبٍ يُبطله، ولكن الذي ينقدح فيه أمران:
أحدهما - أنه غفل عن مذهبه في هذا، وأجرى القياس الذي كان [فيه] (2).
والآخر - أنه أراد أن يبيّن مشكلات هذا الفصل [بالتقدير] (3) والتحقيق، حتى كأنه قال: لو كان الطلاق يتغيّر برقها وحريتها، لحكمنا بأن الزوج يملك عليها ثلاث طلقات تحقيقاً لثبوت النكاح، على تمام قضاياه.
6178 - وممّا يتصل بهذا الفصل أنا إذا [أَدَمْنا] (4) النكاحَ في المستقبل كما ذكرناه، فنحكم بأنها تُسلَّم إلى الزوج تسليم الأمة المنكوحة، حتى يقال: يستخدمها السيد نهاراً، ويسلّمها إلى الزوج ليلاً، أم نقول: تسلم إلى زوجها تسليم الحرة، حتى لا نبالي بتعطل منافعها على السيد المقَرِّ له؟ ما يقتضيه قياس قول الأصحاب أنا نسلمها إليه تسليم الحرة، فإنا لو لم نفعل هذا، لعظم الضرر، وظهر النقص في عين مقصود النكاح، ومعقوده.
__________
(1) ساقطة من الأصل.
(2) في الأصل: منه.
(3) في الأصل: التقرير.
(4) في الأصل: أثبتنا.

(8/575)


وهذا ينفصل من هذا الوجه عن رقِّ الأولاد في المستقبل؛ فإن العلوق بالولد أمرٌ موهوم، لا يجوز أن يُبنى عليه ما ينتجز من الضرر، ولولا ذلك (1)، لما جوّزنا للحر الفاقد للطَّوْل أن ينكح أمةً؛ فإن السعي في إرقاق الولد لا يجوز لشهوات النفوس، ولكن لما كان ذلك موهوماً، والحاجةُ ناجزةٌ، صححنا النكاح.
ويرد على ما ذكرناه أن الزوج يسافر بها الشرق والغرب، وهذا مما ترتاع منه نفسُ الفقيه مع الحكم بالرق وتسليط السيد على البيع وغيره من التصرفات، فليتأمل الناظر ذلك، فهو منتهى تفريع هذه المسألة.
ونحن نأخذ الآن في تفريع مسألة أخرى فنقول:
6179 - اللقيط إذا نكح بعد البلوغ، ثم أقر بكونه رقيقاً، فإن قلنا: الإقرار بالرق مقبول عموماً فيما له وعليه، فالنكاح مردود من أصله.
فإن لم يكن دخل بها، فلا شيء لها، وإن كان قد دخل بها، فقد قيل: لها مهر المثل.
ثم يتعلق بذمة العبد، أو برقبته؟ فيه وجهان، كما لو نكح العبد المعروف بالرق من غير إذن مولاه نكاح شبهة، فوطىء ووجب المهر، ففي تعلّقه بالذمة، أو الرقبة خلاف، وسبب توهم التعلق بالرقبة تنزيلُ العُقر (2) منزلة أُروش الجنايات، وفي هذه المسألة وأمثالها بابٌ معقود في كتاب النكاح.
فلو كان المهر المسمّى أقلّ من مهر المثل، فقد يخطر للفقيه أنها لا تطلب إلا المسمى؛ لأنها قنعت به، وليس كما إذا جرى نكاح مشتمل على مسمى؛ ثم تبيّنا فسادَه قبل الدخول؛ فإن الرجوع إلى مهر المثل ثَمَّ.
والسبب فيه أنا تحققنا فساد النكاح ظاهراً وباطناًً، وهاهنا نحكم بفساد النكاح لأجل الإقرار حُكماً ظاهراً، فيجوز أن يقال: هي مؤاخذة بحكم رضاها بالمسمى.
ويجوز أن يقال: إنما تؤاخد برضاها بالمسمى لو بقي النكاح، والعلم عند الله تعالى.
__________
(1) ذلك إشارة إلى أن الولد موهوم. في مقابلة حاجة ناجزة محققة.
(2) العُقر: بضم المهملة: مهر المرأة إذا وطئت بشبهة.

(8/576)


6180 - فأما إذا فرّعنا على تبعيض الإقرار، فيقبل إقراره، فيما عليه دون ما لَه، ونحكم بانقطاع النكاح من وقت الإقرار، لا من أصله.
ثم إن لم يكن دخل بها، فعليه نصفُ المسمى كما لو طلقها. وإن كان دخل بها، فلها جميع المسمى، وليس لها إلا المسمّى، حتى لو كان مهرُ مثلها أكثرَ، فلا مطمع لها فيه، لأنا على هذا القول لا نُسند ارتفاع النكاح إلى ما مضى.
ثم هذا المسمى يتعلق بكسب العبد إن كان له كسب، ونجعل كأن عبداً نكح بإذن مولاه.
وإن لم يكن له كسب، فلا تعلق للمهر إلا بذمة العبد، كما لو نكح بإذن المولى، ولم يكن كسوباً، ولا يخفى أن القول القديم في دخول السيد في ضمان المهر والنفقة لا يخرّج هاهنا؛ فإن ذلك القول على ضعفه مبناه على صدور الإذن من السيد تحقيقاً، وهذا المعنى مفقود هاهنا.
6181 - ومما نفرعه على ذلك: البيعُ والشراء فنقول: إذا بلغ اللقيط، وباع، واشترى، ثم أقر بالرق، فإن لم نبعض الإقرار، فالتصرفات كلُّها فاسدة، وأعيان الأموال مستردّة، وما صودف تحت يد اللقيط، فهو ملك المقَرّ له بالرق، وإن تلفت الأعيان في أيدي من قبضها، ضمن قيمتها، وإن حصلت في يده بالشراء أعيانُ أموالِ الناس رُدت على ملاكها، وإن تلف في يده شيء منها، فالضمان متعلق بذمته، فإن عهدة المعاملة الجارية بغير إذن المولى لا تتعلق إلا بذمّة العبد.
ولو قال من عامله: حسبته حراً، لم يختلف الحكم بحسبانه بعدما نفد الإقرار عموماً.
6182 - وإن قلنا: يتبعض الإقرار، فلا ينقض شراؤه وبيعه، وما اشتراه يؤدّي ثمنه مما في يديه؛ نص الشافعي عليه، ولا نقول: ما في يده يسلّم إلى المقر له بالرق، وتتعلق الأثمان بذمته، ولكنا نجعله كعبد مأذونٍ له، يشتري وفي يده الأموال هذا هو الذي يقتضيه الإنصاف، فإن لم نصادف في يده شيئاً، فيتعلق الثمن بذمته حينئذ.

(8/577)


6183 - ومما نفرّعه أنه إذا جنى، ثم أقر بالرق، فإن كانت الجناية موجبةً للقود، فعليه القصاص، وإن كانت موجبة للمال، تعلق الأرش بالرقبة؛ فإن العبد المعروفَ بالرق إذا جنى هكذا حُكمُه.
وإن جُني عليه، فإن كان الجاني عبداً، فعليه القصاص إن كان عمداً، وإن كان حراً، سقط القصاص، والنظر في الأرش؛ فإن كان قطعَ يدَ اللقيط، ثم أقر بالرق، فإن كان نصفُ اليد ونصفُ القيمة سواء، فذاك، وإن كان نصف القيمة أقل من نصف الدية، فليس على الجاني إلا نصفُ القيمة؛ فإن السيد لا يطلب إلا هذا، وقد استقر الرق له.
وإن كان نصفُ الدية أقلَّ من نصف القيمة، فهذا يُبتنى على تبعيض الإقرار، فإن حكمنا بالإقرار عموماً، وجب على الجاني نصفُ القيمة، وإن زاد على نصف الدية.
وإن فرعنا على تبعيض الإقرار، ففي الأخذ بنصف القيمة إضرار بالجاني، وفي الأخذ بنصف الدية [نقصٌ من حق الرق، وفيه إضرار بالسيد المقر له] (1)، فما الذي نعتبره؟ اختلف أصحابنا في المسألة: فمنهم من قال: يغلّظ على الجاني؛ فإن أرش الجناية يبين مقداره بالأَخَرة، وقد بأن أنه جانٍ على رقيق، وثبت الرق قطعاً.
ومن أصحابنا من قال: لا يجب على الجاني إلا نصفُ الدية، وهذا هو الأقيس والأصح؛ فإن الجناية جرت قبل ثبوت الرق، فيبعد أن نعطف من ثبوت الرق مزيد غُرم على الجاني قبل ظهور الرق.
فإن قال السيد: نقصتم من حقي؟ قلنا له: هذا بمثابة إدامَتِنا النكاحَ على اللقيطة إذا أقرت بالرق.
وقد نجز تمام المراد في التفريع على الأقوال. ونحن نرسم بعد ذلك فروعاً متعلقة بما مضى.
فرع:
6184 - ما ذكرناه مفصلاً مفرّعاً فيه إذا أقر اللقيط بالرق لإنسان فصدّقه المقَرُّ له، أو ادّعى إنسان رقَّه، فاعترف.
__________
(1) عبارة الأصل وحدها: " إضرارٌ بحق السيد، ونقص من حق الرق فيه ".

(8/578)


فأمّا إذا أقر بالرق لواحدٍ، فكذبه المقرّ له، فلو أقر بالرق لآخر، فهل يُقبل إقراره الثاني؟ قال الشافعي فيما حكاه العراقيون: لا يُقبل إقراره الثاني أصلاً؛ فإنّا حكمنا بعتقه لما رَدّ إقرارَه، وكأن العبد رجع إلى يد نفسه -لو قدرنا الرق- وحكمُ ذلك العتقُ، وليس هذا عتقاً على التحقيق يُعقب ولاء، وإنما هو تقديرٌ أطلقناه.
وقال ابن سريج يقبل إقراره للثاني، كما [لو] (1) أقرّ بثوبٍ لواحدٍ، فردّه، ثم أقر به لآخر.
وفيما استشهد به ابن سريج نظرٌ، وترددٌ للأصحاب، ذكرناه في كتاب الأقارير.
على أن الفرق ظاهرٌ؛ فإن الثوب لا يفرضُ إلا مملوكاً، وأما الحرية، فإنها الأصل في بني آدم، وفي حصولها حقٌّ لله تعالى؛ فإن حقوق الله تعالى تكثر على الأحرار، وفي ردّ الحرية ردُّها.
6185 - ومما يتفرع على هذا المنتهى، أنا إذا ردَدْنا إقراره للثاني، فلو ادّعى مدَّعٍ عليه الرقَّ، [فلا] (2) تُقبل دعواه من غير بينة. [و] (3) هذا على نص الشافعي ظاهر، وليس للمدّعي أن يحلّفه؛ فإن الحلف يفرض لتوقع الإقرار، فإذا كان إقراره مردوداً، فلا معنى للحلف، ولو قدر نكوله، لكانت يمين الرد بمثابة الإقرار، فإذا كان الإقرار مردوداً، فلا معنى لهذا التقدير.
فإن ذهب ذاهب إلى أن يمين الرد بمثابة البيّنة، فقد يرى التحليف لتقدير النكول، حتى إذا فرض النكول، أثبتت عليه يمين الرّد. وهذا ضعيف، لما ذكرناه من تعلّق حق الله تعالى بالحرية. والله أعلم.
...
__________
(1) سقطت من الأصل.
(2) في الأصل وحدها: هل تقبل دعواه من غير بينة.
(3) ساقطة من الأصل وحدها.

(8/579)


وقد بان الآن، ومما أجريه في هذا المجموع، ولا شك في تبرم بني الزمان به - أني كثيراً ما أجري المسائل على صيغة المباحثة، ثم هي تفضي إلى مقر المذهب آخراً، ويعلم المسترشد طريق الطلب والنظر. وهذا من أشرف مقاصد الكتاب، فلست أخل به لجهل من لا يدريه.
الإمام
في نهاية المطلب

(9/4)