نهاية المطلب في دراية المذهب

كتاب السِّيَر
11269 - السِّيَر جمع السِّيرة (1)، والكتاب مترجم بالسير، فإن الأحكام المودعة فيها متلقاة من سِيَر الرسول صلى الله عليه وسلم في غزواته. والسِّير من سار يسير.
والفِعلة للهيئة كالجِلسة (2) والقِعدة، والرِّكبة. والسنةُ: الطريقة. فأحكامُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتمهيدُه الشرعَ شُبّه بالطريقة الموضحة، ووقع التعبير عنها بالسيرة أخذاً من السَّيْر.
والأصل في الكتاب القرآنُ، وسنن الرسول صلى الله عليه وسلم، والإجماع.
قال الله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5]، وقال تعالى: {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [النساء: 89] وقال تعالى في آية أخرى {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ} [البقرة: 191] والآيات المشتملة على الحث على قتال المشركين كثيرة. وقال صلى الله عليه وسلم: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله " (3) وسِيَرُه في مغازيه أصل الكتاب.
وأجمع المسلمون على أنا مأمورون بمجاهدة الكفار، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم مأموراً بالمتاركة والاقتصار على الدعوة والصبر على الأذى، والدفع بالتي هي أحسن. والآيات الواردة في هذه المعاني كثيرة، فلما هاجر إلى المدينة، وكثر المسلمون، وعظمت الشوكة، أُمرنا بالجهاد، فشمَّر لله تعالى ذبّاً عن الدين، واستحث أصحابه على مجاهدة الكافرين، فتتابعت الغزوات، وكان الحرب سجالاً ينال المسلمون، ويُنال منهم. ثم أظهر الله تعالى دينه، ونصر نبيه، وهزم الأحزاب، ومهّد الأسباب.
11270 - وذكر الشافعي في السِّيَر الكبير، المشاهيرَ من غزواته صلى الله عليه
__________
(1) مثل سِدْرة وسِدَر.
(2) في الأصل: " والجلسة ".
(3) حديث " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله " سبق تخريجه.

(17/389)


وسلم، فنذكرها تأسياً بما ذكره الشافعي. والحاجة تمسّ إليها لإيضاح التواريخ، وإسناد الأخبار إليها، وقد أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الرواية الظاهرة بمكة ثلاثَ عشرةَ سنة، فلما هاجر إلى المدينة لم يجر في السنة الأولى قتال، وجرت في السنة الثانية غزوة بدر، واتفقت في الثالثة غزوة أحد، وفي السنة الرابعة اتفقت غزوة ذات الرقاع، وفي السنة الخامسة غزوة الخندق، وفيها قَتَل عليٌّ عمرو بنَ وُدّ، وهزم الله الأحزاب بالريح، وجرت في السنة السادسة غزوة بني النضير، ومُرَيْسيع، وفيها قصد رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة، فصُدّ من الحُديبية. ثم في السنة السابعة جرى فتح خَيْبر، وعاد إلى مكة وقضى العمرةَ، وفي السنة الثامنة فتح مكة، وسار إلى هوازن، واتفقت خَرْجته في السنة التاسعة إلى تبوك، وفيها أقر أبا بكرٍ على الحجيج، فحج بهم.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا همّ بغزوة وَرَّى بغيرها، ولم يورِّ في غزوة تبوك، بل باح حتى يأخذ الناس أنفسهم لبعد المسافة، واتفقت تلك الخَرْجة في شدة الحر، وبالغ في استحثاث المسلمين وتحريضهم، ونهيهم عن التثبيط، وقيل صحبه في تلك الخَرْجة ثلاثون ألفاً، وتخلف عنه أقوامٌ.
والمتخلفون ثلاث فرق: المنافقون، والمسلمون الذين كانوا لا يجدون أهبة الخروج، وتخلّف قادرون أيضاً استثقالاً للخروج في الحرّ. وهؤلاء كانوا ثلاثة: كعب بن مالك، وهلال بن أمية، [ومُرارة بن الربيع] (1)، فنزل على الجملة في شأن المخلَّفين قولُه تعالى: {مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ... } [التوبة: 120]، ونزل في شأن المنافقين: {فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ} [التوبة: 81].
وأمر الله تعالى رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا يُصغي إلى كلامهم إذا رجع إليهم، ولا يأذن لهم في الخروج، فقال عز وجلّ: {فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ
__________
(1) في الأصل: وأبو لبابة. والتصويب من كتب السيرة، وحديث الثلاثة المخلفين متفق عليه، ولم يذكر أحد أبا لبابة فيهم. وتابع الغزالي شيخه في البسيط فجعل أبا لبابة الثالث مكان مرارة بن الربيع.

(17/390)


فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ} [التوبة: 83] فقال المنافقون: إن محمداً يجرّنا ويحرمنا الغنائم، فنزل قوله تعالى: {سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ ... } [الفتح: 15]، ونزل في شأن الثلاثة الذين تخلفوا مع القدرة ووجود الأُهبة: {إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ ... } [التوبة: 93]، ولما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة لم يعتذروا خجلاً واستحياءً، وربطوا أنفسهم على سواري المسجد، وقالوا: " لا نَحُلُّ نفوسنا حتى يَحُلَّنا رسول الله صلى الله عليه وسلم " وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا أَحُلُّهم حتى يَحُلَّهم الله عز وجلّ " (1)؛ فنزل قوله
تعالى: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ ... } إلى قوله تعالى {وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا} [التوبة: 117، 118] ونزل في بيان العاجز عن الخروج قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى ... } [التوبة: 91]، وقوله تعالى: {وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ ... } [التوبة: 92].
وحج رسول الله صلى الله عليه وسلم في السنة العاشرة حجةَ الوداع، وفيها نزلت آية التكميل، وعاش صلى الله عليه وسلم بعد أن قضى حجه اثنين وثمانين يوماً، واتفقت له غزوات ليست من المشاهير، وهي مذكورة في المغازي.
ثم إن الشافعي أكد في صدر الكتاب طرفاً من أحكام الهجرة، والرأي ألا نخوض فيها؛ فإنها ستأتي مجموعة في باب بعد هذا، إن شاء الله تعالى، وذكر من لا يكون من أهل فرض الكفاية في الجهاد، ورأيت هذا الفصلَ لائقاً بالباب الذي يلي هذا الباب؛ فأخرته إليه.
...
__________
(1) هذه الآية التي أشار إليها الإمام قبلاً وهذا الحديث ليسا في الثلاثة الذين خُلفوا، فلم يكن منهم ربطٌ في سواري المسجد. وإنما كان الربط من أبي لبابة رضي الله عنه، واختلف في شأن هذا القصة، هل كان وحده أم ربط آخرون أنفسهم معه على خمسة أقوال، كما اختلف في شأن الواقعة هل كانت في غزوة تبوك أم في بني قريظة. (ر. تفسير الطبري- طبعة الشيخ محمود شاكر: 14/ 446 - 452، الدر المنثور: 2/ 487 - 489، دلائل النبوة للبيهقي: 5/ 270، الذهب المسبوك في تحقيق روايات غزوة تبوك لعبد القادر حبيب الله السندي: 112 - 123).

(17/391)


باب من له عذرٌ بالضعف والضرورة
11271 - الجهاد ينقسم فيقع فرضاً على الكفاذية، وقد يتعين، وجرت منا إحالات على هذا الكتاب في إيضاح فروض الكفايات، ولا بدّ من الوفاء بالمواعيد [ببسطه، ولو بسط؛] (1) فإنه من أعظم أركان الإيالة. ولكنا نذكر معاقدها ومأخذها، وننبه بذكر جُملها على تفاصيلها، ومعظم مسائلها مفرّقة في الكتب. والغرض المطلوب هاهنا التعرضُ للجوامع.
فنقول والله المستعان: المنشأ الكلي به للفرائض الثابتة على الكفاية أن الله تعالى فطر الدنيا داراً، وأجرى فيها ابتلاءً وامتحاناً واختباراً، وأسكنها آدم وذريته عُمَّاراً، وأراد إبقاءهم إلى انقضاء عمر الدنيا، فقدر أرزاقهم، وقيض لها ملكاً دوّاراً وسحاباً [مدراراً] (2)، وقدّر أرزاق الخلائق على ما شاء وأراد، وأثبت الشرائع تكاليفَ على العقلاء، ولولاها لتهالكت (3) الناس، وتعطلت [الأرزاق] (4)، على ما أوضحنا ذلك في مفتتح الكتاب، ثم تنشَّأت في قاعدة التكاليف فروضُ الكفايات في الأمور الكلية المتعلقة بمصالح الدين والدنيا، فأما ما ينشأ من أصل الدين، فالقيام بإدامة فرض
دعوتين: حجاجية وقهرية، فأما الحجاجية، فعمادها العلم، والقهرية هي الجهاد في سبيل الله تعالى.
وأما ما يتعلق بالمعاش ومصالحها (5)، فقد قيض الله تعالى الأسباب وألهم الخلائق ما يستصلحون به معايشهم في الحراثة والبيع والشراء، وما في معانيها وجبل النفوسَ
__________
(1) في الأصل: " ببسط لو بسط ".
(2) في الأصل: " حدرارا ".
(3) تهالكت: أي أهلك بعضهم بعضاً (صيغة تفاعل من هلك).
(4) في الأصل: (الارا) كذا تماماً.
(5) ومصالحها: أي الدنيا.

(17/392)


على التشوف إليها، حتى لم [يحوَج] (1) حملةُ الشريعة على استحثاث [أهل] (2) الدنيا على عمارتها، وتهيئة ما فيها من أسباب المكاسب. وقال المحققون: لو فرض انكفاف الخلق عنها، لحَرِجوا من حيث إنهم يكونون ساعين في إهلاك أنفسهم.
والمناكح من الأمور الكلية، وبها بقاء النوع، فلا حاجة إلى الاستحثاث عليها؛ فإن النفوس مجبولة على التشوف إليها.
11272 - ثم إذا تبين أصل الغرض في الدعوتين (3)، فبعدهما أمور كلية تتعلق بالإدامة والإبقاء، وهذا ينقسم: إلى مصالح الأبدان، وإلى مصالح الأديان.
فأما مصالح الأديان بعد ظهور الإسلام في الخِطة، فيتبعها فنٌّ يترجم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو كتابٌ برأسه لم يهتم به الفقهاء، وبسَطَ مضمونَه الأصوليون، والحاوي لمقاصد هذا الكتاب (4): الأمر بواجبات الشرع، والنهي عن محرّماته. وذلك شطران: يتعلق أحدهما بالولاية، وهي الأمور القهرية، وأحكام الإمامة. ولا نطمع في الوفاء بها.
والشطر الآخر هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من غير مكاوحة وشهر سلاح، فهذا على الناس كافة، إذا علموا صدَرَ (5) أقوالهم عن ثبت، ولا يشترط أن يكون القائم بذلك مجتهداً؛ إذ يتعلق بالولاة أمر العلماء ونهيهم (6)، وإذا زاغوا،
__________
(1) في الأصل: " يحرج ".
(2) زيادة اقتضاها السياق.
ومعنى العبارة: أن الله فطر العباد على التشوف للتملك، والكسب، وإصلاح المعايش، فلم يَحْتج علماء الشريعة وحملتها إلى جهدٍ في حث أهل الدنيا على عمارتها، والسعي في ابتكاراتهم وسائل وطرق الارتزاق والمكاسب، فكان في هذا الاستحثاث الفطري مندوحة عن فرض ذلك وإيجابه عينياً: أي فرض عين، فكان من فروض الكفايات.
(4) الدعوتين: المراد ما يتعلق بمصالح الدين، ومصالح الدنيا، وليس الدعوتين المشار إليهما آنفاً: الدعوة الحجاجية، والدعوة القهرية.
(5) أي كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
(6) صدر: أي صدور، كما أشرنا مراراً من قبل.
(6) المعنى أن العلماء يأمرون الولاة، وينهونهم، ويبيّنون لهم، وهم يرتسمون أمر العلماء في=

(17/393)


أقام العلماء أَوَدَهم (1). فهذا ما يتعلّق بالأديان.
11273 - وما يتعلّق بالأبدان سترُ العراة وإطعام الجائعين، وكفُّ الأذى عن [المغبونين] (2)، وإغاثة المستغيثين، فكل ما ينتهي إلى الضرورة، ففرضٌ على الكافة القيام به.
ثم اختلف أرباب الأموال فيما فوق سدّ الضرورة إلى تمام الكفاية التي يجب نفقته على من يلتزم النفقة. فقال قائلون: يتحتم الكفاية [في] (3) ذلك حتى لا يبقى ذو حاجة. وقال آخرون: المفروض على الكفاية إزالة الضرورة، وما ذكرناه (4) بعد تفريق الصدقات على المستحقين، وبعد أن يشغُر بيتُ المال عن السهم المُرْصد للمصالح العامة، فإذ ذاك يثبت فرضُ الكفاية على أصحاب الثروة والمقدرة.
ثم ألحق الشرع احترام الأبدان بعد الموت برعايتها في الحياة، فأوجب -على الكفاية- التجهيزَ، والمواراة على هيئة الاحترام، ثم ثبت بالشرع -غير مستندٍ إلى هذه (5) - الأمرُ بالغُسل والصلاة، فليسا من شرائط الحرمات الحالّة محلّ ضرورات الأحياء، ولكن المتبع الشرعُ.
[وما يؤدي إلى شهر السلاح- إذا تعاطاه من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، فلا ينتصب له إلا الإمام، ثم الذين يلونه من جهته، يلتحقون بالتشمير في الأمر بالمعروف] (6).
__________
=أمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، فليس إذاً من شرط الآمر بالمعروف الناهي عن المنكر أن يكون مجتهداً.
(1) أَوَدَهم: أي اعوجاجهم.
(2) في الأصل: المغرين. والمثبت من المحقق.
(3) زيادة اقتضاها السياق.
(4) وما ذكرناه أي من فرض إزالة الضرورة، أو تمام الكفاية، يكون بعد انتهاء السهم المرصد للمصالح العامة في بيت المال.
(5) غير مستندٍ إلى هذه: المعنى: أن غسل الميت، وتكفينه، والصلاة عليه ثبت بالشرع، ولم يثبت مستنِداً إلى هذه الكليات التي نسند إليها فروض الكفايات.
(6) ما بين المعقفين صياغة كاملة مستوحاة من كلام الغزالي في البسيط، وهي مغايرة لعبارة الأصل=

(17/394)


والقيامُ بتحمل الشهادة وإقامتها من فروض الكفايات، وهو متعلق بمعاونة القضاة في الإنصاف وطلب الانتصاف، وله تعلّق بإصلاح المعايش (1).
11274 - ثم ثبت في الشرع شعائر ظاهرة، ولو فُرض ارتفاعها، لشاع منها انطواء الصدور على استهانة. وهي منقسمة إلى ما هو من فروض الكفايات، وإلى ما اختلف العلماء فيه، فأما ما يلتحق بفروض الكفايات، ممّا يقع قبيلُه فرضَ عين -[وألحقه] (2) الأئمة بهذا- إحياءُ الحَرَم في السنة بالحج. وأما ما اختلف العلماء فيه، فكالتأذين، والجماعات للصلوات في غير يوم الجمعة، وكل هذا مذكور على الاستقصاء في أماكنها.
11275 - ثم ثبت فرضٌ على الكفاية لا تضبطه الكليات التي أشرنا إليها، ولكنه متلقى من إجماع الفقهاء، وهو ردّ السلام، وقد جرى رسم الفقهاء باستقصاء القول في هذا الكتاب.
ونحن نتأسى بهم هاهنا. فنذكر أولاً بعد ذكر هذه الجوامع حقيقةَ فروض الكفايات، ثم ننعطف عليها، ونلقُط منها ما نرى استقصاءَ القول فيه للإيفاء بهذا الكتاب، وهي: الجهادُ، وطرفٌ [صالح] (3) من تعلم العلوم، واستقصاء القول في السلام وردّ الجواب، فأما باقي الفروض، فمنقسمة، بعضها مستقصاة، وبعضها شطره فيما يأتي، إن شاء الله عز وجل.
11276 - فنقول: فرض الكفاية كما نبهنا عليه، يتعلّق بالأمور الكلية، وغرضُ الشارع تحصيله في عينه، وفرض العين يتعلق بالشخص المتعيَّن له، والغرض تكليفه
__________
=التي رأيناها غير مستقيمة، وقدرنا بها سقطاً، وهي: " وانتصاب الولاة والإمام أولاً ثم الذين يلونه من جهته ملتحق بالتشمير الأمر بالمعروف والقيام بتحمل الشهادة ... إلخ ". (وانظر البسيط: 5/ورقة: 151 يمين وشمال).
(1) عبر الغزالي عن ذلك، فقال: إن تحمل الشهادة وإقامتها مركب منهما، أي مما يتعلق بالدين وما يتعلق بالدنيا.
(2) في الأصل: " ألحق ".
(3) في الأصل: " مصالح ".

(17/395)


به، فالمعين معني بالفرض، وفرض الكفاية معني بالتحصيل. ثم إذا قام به من فيه كفاية، سقط الفرض عن الكافة، فإن تعطل حَرِج بتعطيله المطالبون به، والقول في ذلك يطول، ولكنا نذكر مقداراً مقنعاً، فلا تعويل على قول من يتكلم بما لا يحيط بحقيقته.
فنقول: إذا تعطل فرض كفاية في قُطْر حَرِج أهلُ الخِطة، وليس هذا مذهباً لذي مذهب، ولكني ذكرت ما يتفاوض به الأغبياء، حتى أعقبه بذكر الحق، فإذا عُطِّل فرضٌ من فروض الكفاية، حَرِج بتعطيله المطالَبون بالبحث عنه، فينال الحرج الخبير (1)، ثم يتعدى منه؛ من جهة ترك البحث إلى أهل الحارة، ويختلف هذا بكبر البلدة، وصغرها، وإذا بلغ تعطيل فروض الكفايات مبلغاً تتقاذف السمعة بها إلى البلاد، فعليهم أن يسعَوْا في التدارك. فإن لم يفعلوا نالهم الحرج، وهكذا على التدريج الذي ذكرناه إلى أن يعم الخِطة، ولا يتحقق هذا بفرض وفروضٍ معدودة.
وحقُّنا الاقتصارُ على التنبيه.
11277 - ثم قال المستقلّون بالعلوم الكلية: ينبغي أن يكون. أرباب القيام بفروض الكفاية على التبادر إليها، لا على التواكل فيها؛ فإن ذلك يجرّ التعطيل لا محالة.
ومما لا نجد بُدّاً من ذكره في ذلك أنه لو قام بفرضٍ جمعٌ، والفرض كان يسقط ببعضهم، فلكلّهم مقام القيام بالفرض، فإنهم اشتركوا أولاً في الصلاح لها، ويشتركون آخراً في الحرج لو تعطل على التدريج الذي ذكرناه، فإذا لابسوه، لم يكن البعض منهم أولى بالاتصاف بإقامة الفرض. نعم، وقد تعرض مسائل فقهية مرّت مستقصاة في مواضعها، ونحن لا نكتفي بالإشارة إليها:
منها أنه لو صلى على الميت جمعٌ وقَضوا الصلاة، ثم صلى جمع آخر، فإذا لم نمنع ذلك، فالوجه أن نجعلهم بمثابة المقارنين الأولين في الصلاة؛ فإن التنفل بصلاة
__________
(1) كذا قرأناها على استكراه. وهي صحيحة -إن شاء الله- فقد وجدناها في عبارة الغزالي، إذ يقول: " فمن لا اطلاع له عليه، وهو معذور في ترك البحث لا يحرج، فيأثم به الخبير، ويتعدى منه إلى أهل الحارة ممن ترك البحث ". والمعنى يأثم من خبر وعرف، ثم يليه من ترك البحث وقصّر في عدم المعرفة. (ر. البسيط: 5/ورقة: 151 شمال).

(17/396)


الجنازة لسنا نرى له أصلاً في الشرع، وقد تقصيت هذا في الجنازة، وهذا إنما يفرض في صورة نادرة؛ فإن [إيقاع] (1) الجماعة ليس مما يفرض تكريره، وكذا ما في معناه.
وعلينا أحكام كلية في فروض الكفايات، ونحن نجري ما لا بد منه في الأصول التي سنلقطها، ونخصها بالبيان، إن شاء الله، فهذا منتهى الغرض في ذلك.
وقد حان أن نفي بالكلام في الجهاد، ثم في العلم، ثم نختتم الكلام بالقول في السلام.
11278 - فأما القول في الجهاد؛ فإنه يثبت فرضاً على الكفاية، ويثبت فرضاً على الأعيان، فأما حيث يكون فرضاً على الكفاية، فهو إذا كان الكفار قارّين في ديارهم غيرَ متعلّقين بأطراف ديار الإسلام، فمقاتلتهم فرض على الكفاية، ثم قال الفقهاء: يتعين على الإمام أن يقيم في كل سنة قتالاً مع الكفار، ويجب أن يُغزي إلى كل صوب منهم جنداً إذا أمكن ذلك، وزعموا أن فرض الكفاية يسقط بقتال واحدٍ في كل صوب، كما سنفصل هذا إن شاء الله، وتمسكوا فيه بأن السنة مدّةُ الجزية، فلا يجوز تعريتها عن الجهاد.
والمختار عندي [في] (2) هذا مسالكُ [الأصوليين] (3)، وهم لم يَرْوا التخصيص بالسَّنة، ولكن رأَوْا أن الجهاد دعوة قهرية، فيجب إدامته على حسب الإمكان والإطاقة، حتى لا يبقى إلا مسلمٌ أو مسالم، والذي ذكره الفقهاء محمول على ما يجري به العادة الوسط من طرفي العجز ونهاية الإمكان، والغالب أن الأموال والعُدد لا تواتي لأكثر من تجهيز جندٍ في كل صوب. والرجال إذا اصطلَوْا بنار القتال، ونالوا ونيل منهم، فلا يعودون هم ودوابّهم إلى الاستعداد التام إلا في مدة السنة، ومجالب الأموال جارية في الغالب على هذه المدة، فالوجه تنزيل كلام الفقهاء على ذلك.
__________
(1) في الأصل: " اتساع ".
(2) سقطت من الأصل.
(3) في الأصل: " الأصوليون ".

(17/397)


فأما إذا أمكنت العُدّة، وكثر الجند، ورغب المطّوّعة، والكفارُ يجد الإمام منهم في أوساط السنة الغِرّةَ، واستشعار [الفشل] (1) فلا يليق بالقواعد الكلية، وقد تجمعت الأسبابُ تعطيل الفُرص، وهي تمرّ مرّ السحاب، فلا وجه إلا هذا.
ثم القول في هذا يتعلق بمفاتحتهم بالقتال، وبالاحتراس عنهم، فأما الاحتراس، فتجب إدامته بلا فتور، وذلك بعمارة الثغور، وإعداد الكُراع والأسلحة، ونصب المرابطين.
ومما يليق بما نحن فيه أن الاكتفاء بنفس الجهاد لا سبيل إليه، ولا وفاء ببث الأجناد في جميع أطراف ديار الكفار؛ فإن التمكن من هذا عزيز الكون نادر الوجود، ولكن ينبغي أن يكون شوفُ الإمام إلى أن يغزي إلى كل جهة من الأجناد ما ينشر منهم النكاية أو الرعب في ذلك القطر، وإن أمكن من استئصال شأفة الكفار في رقعة الأرض، فليفعل، وإن لم يتمكن من إغزاء جنود، فليبدأ بالأهم فالأهم. هذا أصل القول في ذلك.
11279 - وقد اختلف الفقهاء في أن الجهاد هل كان متعيناً على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم، أم كان فرضاً على الكفاية؛ فقال قائلون: كان متعيناً عليهم، وكان النَّافرون مقيمين للغزو، والمقيمون بالأمر حارسين للمدينة، وكانت ثَغْرَ (2) الإسلام.
وقال قائلون: تعيّن الجهاد على ذوي النجدة منهم، لكثرة الكفار، وقلة المهاجرين والأنصار.
وقال قائلون: كان يتعين على الذين يعينهم الرسول صلى الله عليه وسلم أن يستجيبوا.
فإن حملنا الأمر على هذا الوجه على القلّة، فلا اختصاص؛ فإن ذلك قد يفرض
__________
(1) في الأصل: " القتل ". وهو تصحيف واضح. والمعنى أن يجد منهم غرة وفشلاً. أي تفرقاً وعجزاً.
(2) ثغر الإسلام: أي عاصمة الإسلام.

(17/398)


في زماننا، كما سنصفه إن شاء الله عز وجل. وإن قلنا: كان الغزو فرضاً عليهم من غير علّة ولا قلة، فهو إذاً خاصِّيّة، ولا يكاد يثبت هذا بنقلٍ موثوق به، ولا باستفاضةٍ تغني عن النقل. ولو عين الإمام في زماننا قوماً، فحقٌّ عليهم أن يذعنوا، فإنهم لو سلّوا أيديهم عن الطاعة، لانتثر النظام، وتزعزعت القاعدة، فلا بد إذاً من ارتسام مراسم الإمام.
ثم إنه يرعى فيهم بصفة المناوبة، ولا يتحامل على طائفة بتكرير الإغزاء مع ترويح الآخرين وتركهم إلى الدَّعة.
فإذا تعلّق الكلام بمحض أحكام الإمامة، فالأولى الانكفاف. وأجمع موضوع لنا في أحكام الإمامة، مع الإيجاز والتنصيص على غوامض أحكام الأئمة الكتاب المترجم (بالغياثي).
11280 - فإذا تمهد ما ذكرناه من فروض الكفاية فإنا نذكر على الاتصال بهذا المنتهى الصفات المرعية فيمن يكون من أهل هذا الفرض. والكلام في ذلك يتعلّق بقسمين: أحدهما - في الصفات التي تعدّ من اللوازم، والثاني - الكلام في الأعذار الطارئة.
فأما القول في اللوازم، فالعبد ليس من أهل فرض الكفاية في نفسه، وإن أمره مولاه بأن يقاتل، فما الرأي فيه والأمرُ من المولى جازم؟ والوجه أنهم لا يلزمهم طاعته؛ فإنهم ليسوا من أهل هذا الشأن بأنفسهم، والمِلك لا يقتضي التعرّض للهلاك، فليس القتال من الاستخدام المستحَق للسيد على العبد المسترقّ، ولا يجوز أن يكون في هذا خلاف، وإذا لم نوجب الدفع على المسلم المقصود (1)، على التفصيل الذي قدّمناه للفقهاء، فلا يجب على العبد أن يدفع عن سيده، إذا كان في الدفع مُعرضاً نفسه للهلاك، ولا أثر للملك في هذا الباب، ولا حظ للسيد في دم عبده، على معنى أن يعرضه للتلف. نعم له استصحاب عبده ليخدمه في السفر ويسوسَ الدابة، كدأبه في الظعن والإقامة.
__________
(1) المقصود: المراد هنا المقصود بالصيال والعدوان عليه. فهو يسمى المقصود والمعتدي يسمى القاصد.

(17/399)


والمرأة ليست من أهل هذا الشأن، والكلام في فروض الكفاية.
والصبي غيرُ مكلف، والمجنون كالبهيمة. وقد قال عبد الله بن عمر: " عرضت على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد وأنا ابن أربعَ عشرةَ سنة، فردّني، وعرضت عليه يوم الخندق وأنا ابن خمسَ عشرةَ سنة، فأجازني في المقاتِلة " (1).
والذمي لا نخاطبه بمجاهدة الكفار، فإنه بذل الجزية لنذب عنه، لا ليذب عنا.
فإذاً إنما يكون الشخص من أهل فرض الكفاية في الجهاد إذا كان بالغاً عاقلاً حراً مسلماً ذكراً. فهذا قولنا في هذا القسم.
11281 - فأما الموانع الطارئة، فنحن نأتي عليها واحداً واحداً، ولا نلتزم الجريان على ترتيب (السواد) حتى يتمهد أصل الكتاب.
فمما يجب اعتباره الزاد والراحلة، فلا يكلف الإنسان أن يمشي مجاهداً، كما لا نكلّفه أن يمشي حاجاً، وهذا في المسافة الطويلة، فأما إذا قرب المسافة، فلا أثر للرَّحل فيها مع الأيْدِ والقوة، ولا بدّ من نفقة الذهاب، وإن كان ذا أهلٍ وعَيْلة، فلا بدّ من إعداد النفقة لهم.
وقال المحققون: لا بدّ من نفقة الإياب إذا كان الرجل ذا أهلٍ وولد، على حسب ما ذكرنا في سفر الحج، ولا يجوز غير ذلك. فإن قيل: هلا قلتم: لا تعتبر نفقة الإياب؛ فإن هذا سفرُ الموت، فلا ينبغي أن يبنى على توطين النفس على الإياب.
قلنا: لا سبيل إلى إلزامه توطينَ النفس على الموت، والأصل بقاؤه، وهو الذي يحدّث الإنسان به نفسَه، ولو لم يكن معه أهبة الرجوع، لجرّ ذلك تشتتاً في الرأي، وانكساراً في المُنّة.
وإن لم يكن له أهل، ففي اشتراط نفقة الإياب في الحج وجهان، وهما جاريان في سفر الغزو، ولا يبعد ترتب الوجهين في الغزو على الوجهين في الحج؛ من جهة أن
__________
(1) حديث عبد الله بن عمر: " عرضت على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أُحد ... " متفق عليه (ر. اللؤلؤ والمرجان: 2/ 253 ح 1223).

(17/400)


المعتمد في اشتراط نفقة الإياب في الحج الميل إلى الوطن، وهذا ضعيف في أصله، فيتناهى وهاؤه في سفر الغزو.
11282 - ومما يشترط في هذه السفرة العُدّة والسلاح، فإنها عتاد القتال، وذكر الأصحاب فرقاً بين سفر الغزو وسفر الحج، والقول فيه إذا كان الغزو فرضَ كفاية، فقالوا: يشترط في وجوب سفر الحج أمن الطريق، ولا يشترط ذلك في سفر الغزو؛ فإن الغزاة على المخاوف مصيرهم، ومصادمتها مقصودهم. وهذا فصله المحققون من الأصحاب، فقالوا: إن كانت المخافة من طريان طلائع الكفار، فالأمر كذلك، وإن كان الخوف من المسلمين المتلصصين، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أنا لا نشترط زوال هذا الخوف. والثاني - أنا نشترط ذلك، فإن من تطيب نفسه بملاقاة الكفار ربما لا يطيب نفساً بملاقاة المسلمين. والصحيح الذي [إليه ميلُ] (1) النص والأئمة أنا لا نشترط ذلك؛ فإنّ قصد المتلصصة من فروض الكفايات، ولعله أهم.
11283 - ومما تجب مراعاته الديون، فإن كان على الرجل دين حالّ، فلا بَراح ما لم يقض الدين، إلا أن يرضى صاحبُ الدين، ثم في ذلك نظر، فإن أبرأه مستحق الدين، فلا دين، ولا نظر، وإن لم يُسقط الدين، ولكن رضي، فله الخروج.
وهل يلتحق بأصحاب فرض الكفاية؟ فيه احتمال وتردّد، والأظهر أنه يلتحق بهم.
ولو كان الدين مؤجلاً عليه، فإن أراد المسافرة إلى غير الغزو، مثل أن يريد الحج أو غيره من المآرب التي لا تُبنى على مصادمة المَتالف والمَخاوف، فليس لصاحب الدين أن يمنعه، ولكن إن أراد الخروج معه ليطالبه إذا حلّ الدين، فليفعل على شرط ألا يُداوره مداورة الملازم؛ فإن ذلك غير جائزٍ في الديون المؤجلة، ولا فرق بين أن يقرب إليها الأجل أو يبعد، ولا يعتبر ما بقي من الأجل بالأمد الذي ينتجز في مثله السفر، وكل ذلك متفق عليه، ولا مطالبة ولا مؤاخذة قبل الأجل.
فأما سفر الغزو، فإنه مُخطِر، ولو فرض القتل، فيحلّ الدين، والترتيب في ذلك أنه إن خلَّف هاهنا وفاء بالدين، فلا منع، وإن لم يخلف وفاء بالدين، فهل لمستحق
__________
(1) في الأصل: " أميل إليه النص والأئمة ".

(17/401)


الدين منعُه من الخروج؟ فعلى وجهين: أقيسهما - أنه لا يمنعه؛ لما مهدناه من أن المطالبة لا تحل قبل حلول الأجل وإذا لم تكن مطالبة، فلا مؤاخذة، ولا اعتراض.
والوجه الثاني - أن له أن يمنعه لما أشرنا إليه، من ابتناء السفر على المصير إلى مصرع الموت. وذكر بعض الأصحاب وجهاً فيه إذا خلّف وفاءً أن له أن يمنعه أيضاً، وهذا على نهاية الضعف والبعد.
فينتظم ثلاثة أوجه: أحدها - لا منعَ، وهو الأصح. والثاني - له المنع من غير تفصيل، وهو أضعف الوجوه، والثالث - أنه إن ترك وفاءً لم يمنعه.
وقال قائلون من أئمتنا إذا كان من عليه الدين من المرتزقة، فلا يمنع؛ فإنه مترتب لهذا الشأن، بخلاف ما إذا لم يكن من المرتزقة، وإذا ضممنا هذا التفصيل إلى الأوجه التي قدمناها، صارت الأوجه أربعة.
هذا منتهى القول فيما يتعلّق بالديون، وقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في معركة القتال يوماً: " من وضع سيفه في هؤلاء مقبلاً غير مدبر، حتى قتل، فله الجنة ". فقال بعض الأنصار، وكانت بيده تمرات يأكلها: " ليس بيني وبين الجنة إلا أن يقتلني هؤلاء، ورمى بالتمرات، واخترط سيفه، وكسّر غمده، وانغمس في العدوّ، فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فعاد. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إلا أن يكون عليك دين، فعاد وانغمس حتى قتل " (1). فهذا ما يتعلّق بالدين.
11284 - ومما تجب رعايته في الخروج إلى الجهاد الموصوف بكونه فرض الكفاية رضا الوالدين. قال الشافعي: " وبإذن أبويه لشفقتهما " (2).
فنقول: إذا كان أبواه مسلمين، لم يكن له الخروج إلى الجهاد دون إذنهما.
__________
(1) حديث " من وضع سيفه في هؤلاء مقبلاً غير مدبر ... " رواه مسلم: الإمارة، باب من قتل في سبيل الله كفرت خطاياه إلا الدين، ح 1885، الترمذي: الجهاد، باب ما جاء فيمن يستشهد وعليه دين، ح 1712، النسائي: الجهاد، باب من قاتل في سبيل الله تعالى وعليه دين، 3157 - 3160، وأحمد (5/ 304).
(2) ر. مختصر المزني: 5/ 181.

(17/402)


والأصل فيه ما روي أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: إني أريد أن أجاهد معك، فقال صلى الله عليه وسلم: " ألك أبوان؟ فقال: نعم. قال: فكيف تركتهما؟ قال: تركتهما وهما يبكيان. قال: ارجع إليهما، وأضحكهما كما أبكيتهما " وفي بعض الروايات: " ففيهما فجاهد " (1). وهذا الذي ذكرناه متفق عليه، وهذا محتوم ليس من قبيل الاستحباب، فلا بدّ من رضا الوالدين إن كانا مسلمين.
فأما إذا كانا مشركين، لم يفتقر الخروج إلى الجهاد إلى إذنهما؛ لأنه يجاهد أهل دينهما. وقد قال تعالى: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا} [لقمان: 15]؛ مَنَع من طاعتهما في أصل الشرك، وكذلك الجهاد مع أهل الشرك. وقد غزا أبو حذيفة عبدُ الله بنُ عتبة بنِ ربيعة، مع النبي صلى الله عليه وسلم، وأبوه كان كافراً من كبار قريش، ولا شك أنه كره ذلك. وغزا عبد الله بنُ أبي بنِ سلول مع النبي صلى الله عليه وسلم ولا يخفى كراهةُ أبيه؛ فإنه كان يخذّل [الأجناد] (2)، حتى خذل ثلث الجند عام أحد، فكيف كان يرضى بخروج ابنه.
هذا قولنا في سفر الغزو الواقع فرض كفاية، فأما إذا استجمع الابن الأوصاف المعتبرة في استطاعة الحج، فلا خلاف أنه يجوز له الخروج، وإن سخط أبواه؛ فإنه منتهض لسفرة متعينة عليه، وليست سفرة الموت، وإن كان وقوع الموت متوقعاً في كل نفس.
11285 - فأما الخروج لطلب العلم، فسنذكر تفصيلاً في طلب العلم، ولكن ننجز هاهنا ما يتعلّق بالسفر، حتى تجري الأسفار في نظام التفصيل الذي نريده.
__________
(1) حديث: " ألك أبوان؟ ... قال: ارجع إليهما فأضحكهما كما أبكيتهما ". وفي رواية: " ففيهما فجاهد ". رواه أبو داود، والنسائي، وابن ماجه، والحاكم (أبو داود: الجهاد، باب في الرجل يغزو وأبواه كارهان، ح 2528، النسائي: البيعة، باب البيعة على الهجرة ح 4168. ابن ماجه: الجهاد، باب الرجل يغزو وله أبوان، ح 2782، الحاكم: 4/ 152) أما رواية: " ففيهما فجاهد " فمتفق عليها (البخاري: الجهاد والسير، باب الجهاد بإذن الأبوين، ح 3004، مسلم: البر والصلة، باب بر الوالدين وأنهما أحق به، ح 2549).
وانظر التلخيص: 2/ 552 ح 1115، و 4/ 172 ح 2179، 2180.
(2) في الأصل: " الأجانب ".

(17/403)


فإن أراد الرجل أن يسافر لطلب العلم المتعيَّن عليه -كما سيأتي إن شاء الله تعالى- فلا يحتاج إلى الاستئذان، فإذا كنا لا نعلّق سفرة الحج بالإذن مع أنه يقبل التأخّر، فسفر التعلم فيما لا بد منه أولى بألاّ يفتقر إلى الإذن.
فأما الحظّ الذي يتعلّق من العلم بإفادة الغير، وهو الترقي إلى رتبة المجتهدين، فالتفصيل فيه أنه إن كان في القطر والناحية من يستقل بالفتوى، فخروج الإنسان ليس خروجاً يندرىء به الحرج، فإن الحرج مرفوع باستقلال مُفتي الناحية، فهل يجوز الخروج ليكون هو من جملة المفتين أيضاً من غير إذن الوالدين؟ فعلى وجهين: أصحهما - الجواز؛ فإن الإنسان مطلقٌ لا حجر عليه، فلو حرمنا عليه الخروج دون رضا الوالدين؛ لكان ذلك مفضياً إلى حبسه ومنعه من الانتشار في أرض الله تعالى، سيّما إذا كان يبغي رتبةً شريفة، ودرجة منيفة، والغالب أن نفوس الأبوين لا تطيب بفراق الولد.
وما ذكرناه في سفر الغزو في حكم المخصوص الذي يُتّبع فيه ولا يقاس عليه، وفيه اختصاصٌ بالمصير إلى مصرع الموت، فيكثر لأجل ذلك تحرز الأبوين، وهذا لا يتحقق في سائر الأسفار، هذا إذا كان الخروج بحيث لا ينال من تركه حرج.
فأما إذا كان الفتوى معطلة، فالحرج ينبسط على كل متأخر عن التشمير، فإذا ابتدر من فيه رُشد، وهو يدرأ عن نفسه الحرج، فلا حاجة إلى استئذان الأبوين بلا خلاف، ويلتحق هذا بالعلم المتعيّن. وإن خرج أوْ همّ بالخروج أقوام، وكان هو من الهامين بالخروج، والفوزُ برتبة الفتوى غيبٌ، فلا يُدرى من ينالها، فالأصح أنه لا يحتاج إلى الاستئذان أيضاً، وفيه وجه بعيد أنه لا بدّ من استئذانهما، فإن في الناهضين كثرة، فإذا كان هو أحدَهم، وليس على ثقة من الفوز بالمراد، فقد يظن الظان أن [تنجيز] (1) برّ الوالدين أولى.
فانتظم في العلم مراتب: أحدها - الخروج لطلب العلم المتعين، وليس فيه اشتراط الإذن، والثانية - الخروج لنيل رتبة الفتوى، وفي البلد من يستقل بها، وفيه
__________
(1) في الأصل: " تنجّز ".

(17/404)


خلاف مشهور، والأقيس جواز الخروج من غير إذن. والثالثة - أن يتخلف الناس عن طلب العلم، وينتهي الأمر إلى لحوق الخروج [بالخروج للعلم المتعين] (1)، فلا حاجة بالخارج إلى الإذن. والرابعة - أن ينتهض للطلب منتهضون، فمن له أبوان هل يحتاج إلى الاستئذان؟ فيه وجهان: أصحهما -أنه لا يحتاج، والوجه الآخر - ضعيف. والقول في تفصيل العلم يأتي إن شاء الله.
11286 - فأما إذا أراد الإنسان الخروج لتجارة أو غيرها من الأغراض، فقد أطلق القاضي أن الأسفار المباحة لا بد فيها من إذن الوالدين، وهذا كلام مبهم، فلا شك أنه أراد السفر الطويل؛ فإن الخروج للنُّزه وغيرها دون مسافة القصر مطلقة قطعاً، وأما الأسفار الطويلة، فإن كان فيها تعرّض لخوفٍ ظاهر، فلا بد من إذن الأبوين، كسفر الجهاد، بل هو أولى بالافتقار إلى الإذن، لأنه ليس فرضاً على الكفاية.
وركوب البحر فيه تفصيل قدّمته في كتاب الحج على الشرائط المعروفة فيه، فقد يظهر إن لم نوجبه للحج، فلا بد لراكبه من إذن أبويه، وإن أوجبنا ركوبه لسفر الحج على الشرائط المعروفة فيه، فقد يظهر أنه يجب اعتبار رضا الوالدين، في السفر المباح في البحر؛ لأن شفقتهما إذا انضمت إلى ذكر أهوال البحر، ثار منها ما يثور منهما في سفر الجهاد. والعلم عند الله تعالى.
فأما الأسفار في البر والطرق آهلة، والأمن غالب، فالذي أراه أن ما لا يطول فيه زمان الذهاب والإياب، وإن كان يبلغ مرحلتين وأكثر، لا يحرم، وما يطول فيه الأمد، ففيه احتمال، ويجوز أن ننظر إلى الخروج إلى المواضع التي تتواصل الرفاق إليها قاصدة [وإلى] (2) ما لا يتصوّر ذلك فيه، وهذا بمثابة الخروج إلى الرّبى (3).
هذا لا يعدّ سفراً منقطعاً. والخروج إلى مصرٍ انتهاضٌ إلى بقعة لا يتواصل الرفاق
__________
(1) زيادة اقتضاها السياق.
(2) في الأصل: إلى (بدون الواو).
(3) إلى الربَى: أي إلى المتنزهات.

(17/405)


إليها، فيكون ذلك سفراً منقطعاً، ويقرب التحرز فيه من التحرز في سفر الجهاد، وينضم إلى هذا القبيل أن السفرة ليست واجبة في نفسها.
فخرج مما ذكرناه أن السفر القصير لا يجب أن يكون فيه خلاف. والسفر الطويل المباح على التردّد في كل صورة.
وإن استبعد مستبعد وجوب استئذان الأبوين، فإني أخشى أن يكون هذا من استمرار الإلف بالاستبداد بالنفس، وحكم الدين طلبُ البر بالوالدين. قال الله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ... } الآية [الإسراء: 23]، وفي الآية لطيفة لا يتفطّن لها إلا موفق، وهي أنه تعالى أبان أنه لا معبود غيره، ثم ذكر برّ الوالدين على أثر عبادته، ونبه على أنه تِلوُ عبادته تعالى، ومن أدنى آثار ذلك طلب رضا الوالدين في الأسفار المباحة. وهذا منتهى الأمر في ذلك.
وليس يبعد عندي إلحاق الأجداد والجدّات بالوالدين فيما ذكرناه من اشتراط الرضا، ولا يبعد تنزيل الأبوين الكافرين منزلة المسلمين في غير سفر الدِّين، يعني الأسفار المباحة، والأمور الدنياوية.
11287 - ومما يُرعى في الجهاد الواقعِ فرضَ كفاية المعاذيرُ التي تتصف النفوس بها. قال الشافعي في صدر الباب: قال الله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى ... } الآية [التوبة: 91]. وقد أبنَّا أنها نزلت في طائفة من المتخلفين عن غزوة تبوك للضعف والعجز، وقد نزلت آيتان في سورتين، وصيغ الكلام فيهما متقاربة، والمقصود مختلف. قال الله تعالى في سورة النور: {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ} [النور: 61]، وقال في سورة الفتح: {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ} [الفتح: 17].
والمراد برفع الحرج في سورة النور أنه لا حرج على الموصوفين بالعلل التي ذكرناها في مؤاكلة من ليس لهم تيك العلل، فللأعمى أن يؤاكل البصير، وإن كان قد لا يتأتى منه مراعاة الأدب في تقدير اليد وإعمالها فيما يليه، ولا يخفى أن الأدب أن يأكل الإنسان مما يليه، وقد روي: " أن ابن عباس كان يؤاكل رسول الله صلى الله عليه

(17/406)


وسلم في صغره في جفنة فيها ثريد، فمد يده إلى ما يلي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذ رسول الله [يده] (1) وقبلها، وردّها إلى ما يليه، وقال: كل مما يليك " فلما رفعت الجفنة أحضرت تُميرات، فالتزم ابن عباس الأكل مما يليه، فلطف به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: " كل من حيث شئت، فإنها غير لون " (2) وروي مطلقاً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا تأكل من ذروة الطعام؛ فإن البركة في أعلاها " (3)، فلا حرج على الأعمى في مؤاكلة البصير، وفي لطف معنى الآية أمر البصير بألا يتبرّم بمؤاكلته.
ثم قال الشافعي: قال الله تعالى: {وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ} وهذا يحمل على سوء جلسة الأعرج في المؤاكلة، وقد يتأذى به من على جانبه، فرفع الله الحرج على المعنى الذي ذكرناه، حتى لا ينزجر من به العرج، ولا يتبرم السليم.
وقال عز من قائل: {وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ} [النور: 61]، وهذا على المعنى الأول، ثم قال تعالى: {وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ} [النور: 61]، وأظهرُ مقال في ذلك: رفعُ الحرج في أكل الإنسان وحده، وقد ورد في الأخبار: " شر الناس من أكل
__________
(1) سقطت من الأصل.
(2) حديث " أن ابن عباس كان يؤاكل رسول الله صلى الله عليه وسلم في صغره في جفنة فيها ثريد فمدّ يده إلى ما يلي رسول الله صلى الله عليه وسلم ... إلخ " أصل هذا المعنى موجود من حديث ابن أم سلمة المشهور في الصحيحين " يا غلام سم الله، وكل بيمينك، وكل مما يليك ". ولكن بهذه السياقة التي ذكرها الإمام لم نجده عن ابن عباس، وإنما هو عن عِكراش بن ذؤيب والحديث رواه الترمذي وقال: حديث غريب، وابن ماجه، والطبراني في الكبير، وقد ضعفه الألباني. (ر. اللؤلؤ والمرجان: ح 1313، الترمذي: الأطعمة باب ما جاء في التسمية على الطعام، ح 1848، ابن ماجه: الأطعمة باب الأكل مما يليك، ضعيف ابن ماجه للألباني، ح 705، الطبراني الكبير: 18/ 82).
(3) حديث " لا تأكل من ذروة الطعام ... " رواه عن ابن عباس أبو داود، والترمذي وقال: حسن صحيح، والنسائي في الكبرى، وابن ماجه، وصححه الألباني (ر. أبو داود: الأطعمة، باب في الأكل من أعلى الصحفة، ح 3772، الترمذي: الأطعمة باب ما جاء في كراهة الأكل من وسط الطعام، ح 1805، النسائي في الكبرى، ح 6729، ابن ماجه: الأطعمة باب النهي عن الأكل من ذروة الثريد، ح 3277).

(17/407)


وحده " (1) وهو مفسر بتمام الحديث، إذ قال: " ومنع رفده ". ثم قال تعالى {أَوْ بُيُوتِ آَبَائِكُمْ} [النور: 61]، فعدّ الأقارب.
وظاهر الآية أن من أكل من طعام المسلمين إذا دخل بيوتهم، فلا حرج. وللآية معنيان: أحدهما - أن يحمل الأمر فيه على العموم، وكأن المراد كونوا كذلك، [ولْتسمح] (2) نفوسكم، فإنه سبب التداخل والتوادّ. هذا وجه. والثاني - أنه تعالى أراد الذين تطيب نفوسهم إذا عوملوا بذلك، فأما من لا تطيب نفسه، فلا يجوز ذلك معه. وذكر الله تعالى الصديق، ومعناه يخرج على الوجهين، روي أن سفيان بن عيينة حضر جماعةٌ من الأصدقاء داره، وكان غائباً، والباب مغلق، ففتحوا الباب، ودخلوا ووضعوا السفرة وجلسوا يأكلون، فدخل عليهم سفيان، فأخذ يبكي، فقيل له: ما يبكيك، فقال ذكرتموني صحبة أقوام مضَوْا، وعاملتموني معاملة الصالحين، ولست منهم. هذا بيان آية المؤاكلة.
11288 - وأما الآية التي في سورة الفتح، فهي في الجهاد. قال تعالى: {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ ... } إلى آخر الآيات والمراد بالآية رفع الحرج عن هؤلاء المعذورين
المذكورين في سياق الآية. ونحن في الجهاد الذي يقع فرضاً على الكفاية، فالأعمى (3) لا يتصدّى لهذا، وكذلك الأعرج. أطلق الأصحاب هذا تعلّقاً بظاهر القرآن، وقال العراقيون: إن كان القتال على صورة الترجّل، فالأعرج لا يندب إليه في إقامة فرض الكفاية. وإن كان القتال [ليس] (4) على صورة الترجل، فإن العرج لا يؤثر في حق الفارس.
والذي صرح به المراوزة أنه محطوط عنه التصدّي لفرض الكفاية في الجهاد؛ لأن الراكب قد يُحوَج في مضايق القتال إلى الترجل، وعقرُ الدابة وعِثارها ليس من النادر، فمن لم يكن مستقلاً إذا نزل، فهو على غرر. هذا هو القول في العرج، وكان شيخي
__________
(1) خبر " شر الناس من أكل وحده " لم نقف عليه.
(2) كذا قرأناها على ضوء السياق، وحروفها المتداخلة.
(3) في الأصل: " فالمعنى ".
(4) زيادة لا يستقيم الكلام بدونها.

(17/408)


يقول: هذا في العرج البين. فأما إذا كان يغمز الرجل، وكان به أذى ظَلْع، فلا أثر له، وهذا عندنا مضبوط بما لا يظهر له أثر في محاولة المكاوحة، ومداراة القرب في الترجل للقتال.
ثم قال عز من قائل: {وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ} والمراد من به مرض يعجزه عن الانتهاض والاستقلال بالقتال أو كان على حالةٍ يتأتى منه القتال وجوداً، ولكنه يفضي إلى أنه يعجِز أو يهلك. فإن قيل: ليلتزم القتالَ، ثم إن مات منه، فليكن شهيداً، كما لو استشهد في المعترك.
قلنا: الظاهر عندنا أنه لا يكون كذلك، فإن مَنْ به من المرض ما وصفناه، فالظاهر أنه في أثناء الأمر يعجِز ويقتل ذلاً (1) ويصير دريئة لرماح الكفار، وليس للقتال منتهى يضبط، فقد يتمادى، وقد ينجلي على القرب. هذا هو الذي يظهر عندنا، والله المستعان.
وقد انتجز القول في المعاذير التي رأيناها ملتحقة بالقسم المشتمل على ما يطرأ، وقد مضى القول فيما رأيناه معدوداً من اللوازم. وكل ما ذكرناه في الجهاد الواقع فرضاً على الكفاية.
11289 - فأما القتال الموصوف بكونه فرضَ عين، فقال الفقهاء في تصويره: إذا وطىء الكفار طرفاً من بلاد الإسلام، تعين دفعهم، وأتى نقلةُ الفقه بتخاليط، وأمور تشعر بقلّة الدراية، فنَلْقَى في الكتب أنه يتعين على كل من بلغه الخبر من المسلمين أن يطيروا إليهم جماعاتٍ ووحداناً، حتى ينجلوا، وليس الأمر كذلك، على هذا الإطلاق.
ونحن نذكر المسلك الحق ونفصله، فنقول: أولاً - أما أهل تلك الناحية، فيتعين عليهم الدفعُ إذا استولى عليهم الكفار، ثم لِما ذكرنا من الدفع معنيان لا بدّ من تصوّرهما، والوقوف عليهما: أحدهما - التأهب للقتال إذا تمكن منه أهلُ الناحية، وقدروا على التجمع والاستقلال، وأخذ أُهَب القتال. هذا وجه في معنى الدفع
__________
(1) كذا. ولعلها: هدراً. أو هزلاً. أي بدون فائدة وعائدة على الجهاد وجيش المسلمين.

(17/409)


نذكره، ونستقصي ما فيه، إن شاء الله تعالى. فإن كانوا لا يقاومون ولا يحدّثون أنفسهم بالمقاومة ما لم يتأهب معهم العبيد، فحق عليهم أن يتأهبوا، ولا حاجة إلى مراجعة السادة؛ فإنهم يدفعون عن الناحية ديناً، وبهذا يتبين أن العبد من أهل القتال والاشتغال به. وأما النسوان والحالة هذه فإن لم يكن فيهن مُنّة، فلا معنى لتأهبهن، ولعل حضورهن يجرّ على المقاتلة شرّاً إذا [جدّ الجدّ] (1).
فأما إذا أمكن استقلال الرجال الذين هم أهل فرض الكفاية، قبل أن يطؤوا ديارنا، وأمكن أن يُصطلموا، [ولا ثقة] (2) بعواقب الأمور في الحروب (3)، ولو اعتضدوا بالعبيد، لقويت القلوب، وعظمت المُنَّة، ففي هذه الصورة وجهان: أحدهما - أن العبيد ينطلقون ولا يراجعون السادة، وحق عليهم ذلك. والثاني - لا يفعلون؛ إذ الكفاية مقدّرة في غيرهم. والعبيد ليسوا من أهل الكفاية. والكفار قارّون، فلا يتعين عليهم القتال.
وإذا وطئوا بلادنا، وهذا فيه إذا أمكن استقلال الأحرار، فإن لم يكن، فالأمر على ما ذكرناه من القطع بتعين القتال عليهم.
ولو كان في نسوة أهل الناحية قوة ودفاع، فهن كالعبيد في التفصيل الذي ذكر.
هذا وجه في معنى الدفع. وحاصله يرجع إلى [أنه] (4) الدفع عن الناحية والانتهاض لإخراجهم من الأرض التي وطئوها.
11295 - المعنى الثاني - أن يبغت الكفار المسلمين بحيث لا يتأتى من المسلمين أن يتأهبوا، فحقٌّ على كل من وقف عليه كافر أو كفار أن يدفع عن نفسه بأقصى ما يقدر
__________
(1) في الأصل: " وجد الجد ".
(2) في الأصل: " أو لا ثقة ".
(3) الصورة هي: أن يكون في الرجال من أهل فرض الكفاية قدرة على ردّ الكفار وردعهم، ويكون الكفار لم يصلوا إلى دار الإسلام بعد، ولكن لا ثقة بمجريات المعارك والحروب فاحتمال أن ثدور الدائرة على رجالنا أهل الكفاية قائم مرتقب، ولو خرج العبيد لقويت المنة، فهل يخرج العبيد في هذه الصورة؟
(4) في الأصل: " أن ".

(17/410)


عليه، إذا كانوا يعلمون أنهم يُقتلون لو أُخذوا. وهذا يعم الأحرار والعبيد والنساء.
وإن كان لا يبعد أن يؤسروا ثم [لا يتسبب] (1) الأسر إلى طلب الفكاك، ولو أظهروا امتناعاً، لقتلوا، فهذا ركن من فصل الهزيمة على ما سيأتي، إن شاء الله عز وجل.
والذي نذكره هاهنا أن القتل إذا كان متحققاً، وهو مع الاستسلام؛ فإن المكاوحة استقتال في هذا المقام، وإن علمت المرأة أنها لو استسلمت، لامتدت إليها الأيدي، ولو بذلت جهدها في الدفع؛ قتلت، فيظهر أن نُلزمَها الدفعَ؛ فإن من أكره على الزنا، لم يحل له الإقدام إليه ليدفع القتل عن نفسه، ويجوز أن يقال: إذا كانت غيرَ مقصودة بالفاحشة، وإنما تظن ذلك إذا سبيت، فلها الاستسلام في الحال في الأسر. ثم إن تمكنت من الدفع عند القصد (2)، دَفَعت.
هذا قولنا في أهل الناحية.
11291 - ومن تمام الكلام فيه أن أهل الناحية لو كان فيهم كثرة، وكان في خروج البعض كفاية، فابتدر من فيه كفاية، فظاهر المذهب أنه يتحتم على الباقين أن يخرجوا أيضاً، والسبب فيه أن هذه عظيمة من العظائم اشتد [حث] (3) الدين على دفعها، فلو لم تزد على حدّ الكفاية، لما حصل غرض الشرع، ولكانت هذه الواقعة بمثابة ما لو كان الكفار قارّين في ديارهم. وإذا كان لا يطير إلى الكفار إلا أهل الكفاية، فبالحري أن يستجرىء الكفار على دخول ديار الإسلام علماً منهم [بأنّا] (4) لا نلقاهم إلا بمثلهم في العدد والعدة. وهذا هو الظاهر.
ومن أصحابنا من قال: إذا تلقاهم من فيه ثَمَّ كفاية، لم يبق على الباقين أمر، ولا يلحقهم حرج، والغرض أن يدفعوا. وكل ما ذكرناه في أهل الناحية.
11292 - فأما الذين ليسوا في تلك الناحية، فنتكلم في الأقرب منهم فالأقرب، ونقول: إن كان في أهل الناحية كفاية واستقلال بالقتال، فالذين قربوا منهم، وكانوا
__________
(1) في الأصل: " لا ينسب ".
(2) عند القصد: أي القصد بالزنا.
(3) في الأصل: (محب) كذا وبدون نقط.
(4) في الأصل: " بأنهم ".

(17/411)


دون مسافة القصر ينزلون -إن وجدوا الزاد- منزلة أهل الناحية، إذا قام بالدفع مَنْ فيه الكفاية.
وإن لم يكن في أهل الناحية كفاية، فيتعين على الأقربين أن يطيروا إليهم، وإذا قلنا؛ إنهم بمثابة أهل الناحية، لم نغادر من البيان المقصود شيئاً في طوارىء القوة والضعف.
فأما الذين يقعون من الناحية على مسافة القصر فصاعداً، فإذا بلغهم الخبر، نُظر: فإن لم يكن في أهل الناحية، وفي الذين يلونهم كفاية، تعيّن عليهم أن يتطيَّروا إليهم، ثم الأظهر هاهنا أنه إذا طار إليهم قوم فيهم كفاية، سقط الحرج عن الباقين.
ومن أصحابنا من قال: يتعين على كافة أهل الناحية التي صورناها أن يطيروا ويتسارعوا إليهم؛ فإن هذا يمنع التخاذل والتواكل، ولو بنينا الأمر على الكفاية وقد [جدّ الجد] (1) وليس هذا مما يقبل الأناة، بخلاف القتال الموضوع لإقامة فرض الكفاية، والكفار قارّون، فلا ينتظم دفع هذه العظيمة مع المصير إلى الاكتفاء بخروج البعض، لما في الطباع من الانحباس عن القتال، وإذا فرض ذلك، فإلى أن يظهر للكافة لحوق الحرج، ربما تجري عظائم من القتل والأسر، واهتتاك الحرمات، فالوجه الإيجاب على الكافة إذا لم يكن بين أيديهم إلى ما يلي الكفار من فيه كفاية، وهذا يترتب على ما ذكرناه في أهل الناحية إذا كان فيهم كفاية، وكان البعض منهم يستقلّ بالأمر.
وما ذكرناه من الخلاف في البعد مرتب على ما ذكرناه في أهل الناحية والذين يقربون منهم، فإن كنا نكتفي في أهل الناحية بمن فيه كفاية، فهذا في البعيدين أولى، وإن لم نكتف في أهل الناحية، ففي الذين يبعدون وجهان، ثم ينبني على الوجهين في البعيدين ما نذكره، فإن بنينا الأمر على الكفاية، أخرجنا العبيد والنساء، وإن قلنا: عليهم أن يخرجوا بجملتهم -وإن كان في بعضهم كفاية- ففي العبيد والنسوان وجهان، إذا كان في النسوان مُنّة، ولا خلاف أن الخبر إذا بلغهم، لم يكن لهم أن يلبثوا تعويلاً
__________
(1) في الأصل: " وجد الجد ".

(17/412)


على حركة من هو أبعد منهم؛ فإن بلوغ الخبر يوجب انزعاجهم (1)؛ إذ انزعاج من وراءهم مغيّب، وبقاء الكفار مستولين على ديار الإسلام -في لحظةٍ- عظيمةٌ في الإسلام.
وكل ما ذكرناه فيه إذا بلغ الخبر من على مسافة القصر، ولم يكن في أهل الناحية كفاية.
11293 - فأما إذا كان فيهم كفاية، وقد شمروا، فالذي ذهب إليه المحققون أنا لا نلزمهم أن ينزعجوا؛ فإنهم على البعد من الناحية، وفي أهل الناحية كفاية. وهذا ما قطع به القاضي وكل منتسب إلى التحقيق؛ إذ لو لم نقل هذا، للزمنا أن نقول: إذا انتشر الخبر إلى أقاصي الخِطة، توجه على أهل الإسلام قاطبة أن يتحركوا، وهذا بعيد (2).
وذهب طوائف من أئمتنا إلى أنه يجب على الذين بعدوا أن يتحركوا، ويصيرُ أهلُ الإسلام في هذا بمثابة أهل الناحية، ثم ينتهض الأقرب، فالأقرب لا محالة، والخبر على هذا الترتيب ينتشر، ثم إذا انزعج الذين يبلغهم الخبر، [فلا يزالون عليها ولا يتهاونون] (3) إلى أن يلقاهم خبر الكفاية (4)، وهذا التدريج في الوقوع يحقق الاستبعاد الذي ذكره المحققون.
__________
(1) انزعاجهم: المراد الخروج من مدنهم وقراهم على أهبة القتال والاستعداد، وهذا هو ما نسميه الآن التعبئة العامة.
(2) عبر الغزالي عن هذا المعنى، أو قل: اختصر هذه العبارة بقوله: " واختار المحققون أنه لا يلزمهم (الانزعاج)؛ لأن الأمر يطول فيه، ويتداعى إلى جلاء كافة الخلق عن الأوطان " (ر. البسيط: 5/ 153 شمال).
(3) في الأصل: " فلا يزالون عندها ولا يدانون ". ولم أهتد لوجهها، وما فيها من تصحيف إن كان.
ومعنى ما أثبته: أنهم لا يزالون على الأهبة والاستعداد منتهضين.
(4) الكفاية: المراد بها هنا كفاية الله شرّ الكافرين المغيرين وردّهم عن ديار الإسلام.
ويؤكد صحة هذا المعنى عبارة الرافعي، حيث يقول: " والوجه الثاني: يجب على الأقربين، فالأقربين، بلا ضبط، حتى يصل الخبر بأنهم قد كُفُّوا وأخرجوا " (ر. الشرح الكبير: 11/ 367) وما قاله النووي أكثر وضوحاً؛ إذ قال: " الثاني - يجب على الأقربين فالأقربين بلا ضبط، حتى يصل الخبر بأنهم قد دفعوا وأخرجوا " (ر. الروضة: 10/ 215).

(17/413)


11294 - ومما يتصل بتمام البيان في ذلك أن أصحاب التحقيق قالوا في الذين يقربون من الناحية: يكفي فيهم اعتبار الزاد؛ إذ لا استقلال إلا به، والمركوب لا معوّل عليه في السفر القصير سيما في المهم العظيم، فأما من يبعد عن الناحية، فقد قال هؤلاء: يعتبر في حقهم الزادُ والمركوبُ [كالحج، وفيه وجه أنه لا يعتبر، وليس كالحج] (1)، فإن الحج على التراخي، والأمر فيه أهون، وهذا الذي نحن فيه اجتمع فيه التعيين كما ذكرناه، ووجوب البدار، ورجوع الأمر إلى بيضة الإسلام.
وقد ذهب ذاهبون من العلماء كمالكٍ (2) وغيره إلى أن المركوب ليس شرطاً في سفر الحج، فلا يبعد أن يُعْتَبر في هذا السفر ما اعتبره مالك في سفر الحج.
التفريع:
مَنْ شَرَطَ المركوبَ، فلا يخفى تفريع مذهبه، ومن لم يشترط المركوب، فقد ذكر بعض المصنفين وجهين في أنا هل نشترط الزاد أم نقول: [يخرجون] (3) إلى أن يفرّج الله تعالى، ولو هلكوا لِعَدمِ الزاد، فإلى الهلاك مصيرهم، وأجرهم على الله تعالى. وهذا عندنا بعيد؛ فإن الاستقلال بغير زاد غير ممكن، وليس في أمرهم بالنهوض مع بعد المسافة إلا هلاكهم من غير فائدة تعود إلى المسلمين.
فقد انتظم هذا الفصل موضحاً كما ينبغي، وانكشف ما فيه من عماية وإشكال.
11295 - ونحن نلحق بهذا المنتهى شيئين: أحدهما - أن الكفار لو أسروا جمعاً من المسلمين، فهل يجب أن نزحف إليهم، كما نفعل ذلك لو وطئوا طرفاً من بلاد
__________
(1) ما بين المعقفين زيادة اقتضاها السياق، وهي موجودة في عبارة الغزالي، ونصها: " وأما المركوب، فلا يعتبر في حق من دون مسافة القصر، وفيمن وراءه وجهان: أحدهما - أنه يعتبر كما في الحج، والثاني - أنه لا يعتبر، فإن أمر الحج أهون، وهو على التراخي، وهذا أعظم " (ر. البسيط: 5/ورقة: 154 يمين).
(2) ر. الإشراف للقاضي عبد الوهاب: 1/ 457 مسألة 706، عيون المجالس: 2/ 765 مسألة 493، حاشية الدسوقي: 2/ 6.
(3) في الأصل: " يرجعون " ولعل المعنى: يخرجون معتمدين في خروجهم على فرج الله.
وقد صاغ الغزالي هذه العبارة قائلاً: " ومنهم من قال: لا يشترط الزاد، فليتوكل على الله، وهذا بعيد؛ فإنه إهلاك من غير فائدة " (السابق نفسه).

(17/414)


الإسلام؟ هذا فيه تردد؛ من جهة أنا لو أوجبنا ذلك فرضاً على العين، لزمنا ألا نفرق بين جمعٍ من الأسراء وبين أسير واحدٍ، حتى نقول: إذا وقع مسلم في الأسر، تحركت جنود الإسلام، وهذا قد يبعد بعض البعد، ويخالف السِّير.
فإذا حصل التنبّه لما أشرنا إليه، فالوجه عندنا القطع بإحلال استيلائهم على المسلمين محل استيلائهم على دار الإسلام، وذلك أن دار الإسلام إنما يجب دفعهم عنها تعظيماً للمسلمين، فإذا حصل الاستيلاء على المسلمين، فالبدار إليهم أولى وأهم، ولكن قد تختلف الأحكام باختلاف الصور، فيظن من لا يتفطّن لدرك الحقائق أن الأمر يختلف.
وبيان ذلك أنهم إذا أسروا واحداً أو جمعاً، وهم على القرب من ديار الإسلام، طرنا إليهم، وإن توغلوا في ديار الكفر، فلا يتأتى التسارع إليهم، وخرقُ ديارهم، وقد لا يستقلّ بهذا جنود الإسلام؛ فإن أُحوجنا إلى ترك التسارع إليهم، فعن ضرورة وأناةٍ [عاملون] (1) حاذرون على تقديم وجه الرأي؛ فلو صار مَلِكٌ عظيم إلى طرفٍ من بلاد الإسلام، وعلمنا أنه لا يُلقَى إلا بالراية العظمى، فلا نتسارج إلى دفعهم طوائف وآحاداً، فإن الرأي أولى بالمراعاة من كل شيء. فإذا كان ترك التسارع يفضي إلى هلاك الأسرى، [مستشهدين] (2)؛ فإنا لا نستفيد بالتسارع استردادهم. هذا آخر ما أردنا إلحاقه.
11296 - والثاني - أن الكفار لو استولوا على مواتٍ أو جبل بعيد عن أوطان المسلمين وديارهم وقراهم، ولكنه يعدّ من بلاد الإسلام، فالذي رأيته للأصحاب أنهم يُدفعون كما يُدفعون عن الأوطان، وفي هذا بعض النظر عندي؛ فإن الديار [تشرف] (3) بسكون المسلمين، فإذا لم تكن مسكناً للمسلمين، فتكليف أهل الإسلام
__________
(1) مكان كلمة بالأصل: لم نوفق لقراءتها، وقد رسمت هكذا: (لحومها) بدون نقط وبدون علامة إهمال الحاء، مع أنه يلتزمها (انظر صورتها).
(2) في الأصل: " مستشهدون ".
(3) في الأصل: " تعرف ". وهو تصحيف واضح. والتصويب من لفظ الرافعي والنووي.

(17/415)


التهاوي على المتالف، والتسارع على الهلكة فيه بعض البعد (1). وقد نجز الفصل.
11297 - ومما [أُقضِّي] (2) العجبَ منه تجاوز الأئمة عن كشف أمثال هذه الفصول، والقناعة بإجراء الأمور على ظواهرها. وتلك الغوائل دفينةٌ فيها، ولا أشبه كلامهم فيها إلا بنَدَبٍ (3) على جرح وراءه غور وتأكّل.
وانتهى بما ذكرناه كلامنا في كلّي الجهاد حيث يكون على الكفاية، وحيث نَصِفُه بالتعيين. وهذا القدر فيه مقنع في التمهيد والتوطئة.
وكنا وعدنا أن نتكلم في فروض الكفايات في الجهاد والعلم والسلام، وقد وفّينا بالموعد في الجهاد، ونحن الآن نعقد فصلاً في العلم.
فصل
11298 - طلب العلم مقسم قسمين: أحدهما - مفروض على الأعيان، والثاني - يثبت على سبيل الكفاية، فأما ما يتعين طلبه، فهو ما يبتلى (4) المرء بإقامته في الدين في الأوقات الناجزة، وبيان ذلك أن من بلغه أن الصلاة مفروضة، وهي ذات شرائط، فلا يتصوّر الإقدام عليها والقيام بشرائطها إلا بالإحاطة بالشرائط والأركان، وليس من الممكن أن يعرف عقد (5) الصلاة فيكتفي به، ويتحرّم ويبقى حيرانَ لا يدري ما يفعل، فكل ما يتعيّن الإقدام عليه يتعين العلم بشرائطه، وأركانه، ثم إن ما نعني العلومُ
__________
(1) هذا الوجه الذي اختاره الإمام ردّه النووي، إذ قال في زوائده: " قلت: هذا الذي اختاره الإمام ليس بشيء، وكيف يجوز تمكين الكفار من الاستيلاء على دار الإسلام مع إمكان الدفع " (ر. الروضة: 10/ 216).
(2) زيادة من المحقق.
(3) الندب بالفتح مصدر نَدِب الجرح يندَب، إذا صلبَ أثره، والندب أيضاً أثر الجرح (المعجم). وهذا التصوير من الإمام هو ما يسميه علماء البلاغة التشبيه التمثيلي، وهو تشبيه صورة كلية بصورة كلية وصرف النظر عن أجزاء الصورة.
(4) ما يبتلى المرء بإقامته: أي يجب عليه إقامته.
(5) عقد الصلاة: أي نيتها والتحرم بها.

(17/416)


الظاهرة بما يستمر (1). وقد يقع في الأركان والشرائط نوادر، ولو كُلّفنا العلم بها، لعظم الأمر، ولانْقطع الخلق عن إصلاح المعاش، لاشتغالهم بطلب العلم فيما يتوقع وقوعه.
وإن كان الرجل مبتلى بالنكاح والمعاملات، فعليه طلب العلم بما يجب عليه في ظواهر الأمور التي هو يلابسها على الحدّ الذي ذكرناه من وظائف العبادات.
وذكر أرباب الأصول تصدير ما يتعين بأحكام العقائد، ولست أرى العلم [بها واجباً عينياً، وإنما المتعين على كل واحد اعتقاد مصمم صحيح] (2)، فلا وجه إلا الاقتصار على مسالك الفقه. هذا بيان ما يتعين طلبه من العلم.
11299 - فأما ما يقع فرضاً على الكفاية، فهو ما يزيد على المتعيَّن إلى بلوغ رتبة الاجتهاد؛ فإن قوام الشرع بالمجتهدين، وهذا الفصل يتعلّق بفصولٍ عظيمة مستندة إلى قواعد الأصول، ومن [أرادها] (3) على حقائقها، فليطلبها من مجموعاتنا في الأصول.
ولو قيل: العلم المترجم بالكلام هل يُستلحق بفرائض الكفايات؟؟ قلنا: لو بقي الناس على ما كانوا عليه في صفوة الإسلام، لكنا نقول: لا يجب التشاغل بالكلام، وقد كنا ننتهي إلى النهى عن الاشتغال به، والآن قد ثارت الآراء، واضطربت الأهواء، ولا سبيل إلى ترك البدع، فلا ينتظم الإعراض عن الناس يتهالكون على الردى، فحق على طلبة العلم أن يُعِدّوا عتاد الدعوة إلى المسلك الحق والذريعة التامة إلى حل الشُّبه، ولما مسّت الحاجة إلى إثبات الحشر والنشر على المنكرين، وإلى الرد
__________
(1) كذا. والمعنى -على أية حال- العلوم الظاهرة بما يعتاد، دون الدقائق، والنوادر، أي بما يتكرر.
(2) عبارة الأصل: " ولست أرى العلم فيها مع علم بني الزمان ـالى ار يحد بها، فلا وجه إلا الاقتصار ... إلخ " وما بين المعقفين مأخوذ من كلام الغزالي، وهو معنى كلام الإمام (ر. البسيط: 5/ورقة: 154 يمين).
(3) في الأصل: " دارّها ".

(17/417)


على عبدة الأصنام، [صار من فروض الكفايات الاحتواء] (1) على صيغ الحجاج، وإبداء منهاجه. ولا شك أن هذه الآراء الفاسدة لو بُلي الناس بها، لأقام الشرع حجاج الحق من منابعها.
فإذاً علم التوحيد من أهم ما يطلب في زماننا هذا، وإن استمكن الإنسان من ردّ الخلق إلى ما كانوا عليه أولاً، فهو المطلوب وهيهات، فهو أبعد من رجوع اللبن إلى الضرع في مستقر العادة.
وإذا ذكرنا هذا المقدارَ، فالمقدارُ المتعيَّن عقدٌ مستقيم على تصميم، ولا نوجب على آحاد الناس بأن يستقلّوا بأدلّة العقول، وتتبع الشبهات بالحَلِّ، فمن استراب في عقدٍ، فعليه أن يدأب في إزاحة الشك إلى أن يستقيم عقدُه، ولست أضمّن ذكر العقائد التي نوجب حصولها على الاستقرار لآحاد المسلمين؛ فإن ذلك يطول. والوجه عندي قطع الكلام في ذلك على هذا المقدار.
11300 - ثم لا يخفى أن المفتي الواحد لا يقع الاكتفاء به في الخِطة، ويجب أن يكون في كل قطر من يُراجَع في أحكام الله تعالى. ثم قال الفقهاء: يجب أن يعتبر في هذه مسافة القصر، فإذا سكن مجتهدٌ بُقعةً، استقل به من هو على مسافة القصر منه في الجوانب، وليس من الحزم الكلام في المفتي والمستفتي؛ فإنه من لُباب الأصول.
ثم قال طائفة من الفقهاء لم يتعنَّوْا في طلب الحقائق: من خاض في التعلّم وأونس رشدُه، فلا يبعد نيله الرتبة المطلوبة، فيتعين عليه إتمام ما خاض فيه، ولو ارعوى، كان تاركاً فرضاً متعيناً.
وهذا غلط صريح عند المحققين؛ فإن العلوم ليست جملة واحدة، بل كل مسألة مطلوبة في نفسها، وهي مغايرة لما قبلها وبعدها، فلا يتحقق بالخوض [فيه حكمُ الخوض] (2) فيما له حكم الاتحاد، ولا تعويل على تشبيه ما ذكرناه من الوقوف في
__________
(1) عبارة الأصل مضطربة، فقد جاءت هكذا: " ... وإلى الرد على عبدة الأصنام، اشتملت إلى من الكتاب على صيغ الحجاج ... " والمثبت تصرف منا مأخوذ من معنى كلام الرافعي، حيث نقل هذا عن الإمام بتصرفٍ في اللفظ. (ر. الشرح الكبير: 11/ 369).
(2) زيادة اقتضاها السياق.

(17/418)


الصف؛ فإنه إنما يتعين المصابرة ثَمَّ، لما في الانصراف من الانخرام والضرر العظيم، وكسر قلوب الجند، ولا يتحقق مثل هذا في العلم، فالوجه أن يعدّ هذا من نوادر بعض الفقهاء التي لا مصدر لها عن ثَبَت وتحقيق. وسنعود إلى طرفي من هذا -إن شاء الله عز وجل- في فصلٍ يأتي بعده.
فصل
معقودٌ في السلام
11351 - قال الأئمة: السلام من السنن التي تأكد الأمر فيها، وصحَّت الأخبار في الأمر بإفشاء السلام. ثم قال العلماء: من سلّم على جمع من المسلمين، فإن أجابه واحدٌ منهم، كفى ذلك، وإن لم يجبه أحدٌ حَرِج القوم من عند آخرهم، فابتداء السلام سنة مؤكدة، وجوابه فرض على الكفاية، ثم هو مختص في المخاطبين بالسلام، لا يقوم غيرهم مقامهم، حتى لو سلّم رجل على جمع وعيّنهم لتسليمه، فسكتوا، فردّ عليه من لم يخاطبه بالسلام، فالفرض لا يسقط بذلك عن المخاطبين، وقولنا: الجواب فرض كفاية [كافٍ] (1) في بيان هذا، فإن الجواب إنما يصدر عمن تعلّق به الخطاب، وإذا أتى بلفظ السلام [من] (2) لم يخاطَب، فهذا ابتداءٌ، وليس بجواب.
11352 - ثم قال الأئمة: سنة السلام على الكفاية في وضعها، كما أن جواب السلام على الكفاية، وبيانه أنه إذا التقى جمعان، فسلم واحد من جمعٍ على الجمع الآخر، كفى ذلك في إقامة السنة، كما أن واحداً من المخاطبين لو أجاب، كفى جواب الواحد، وسقط الفرض عن الباقين، ولو سلّم رجلٌ على رجلٍ معين، تعين عليه جوابه، فقد انقسم جواب السلام في أصله إلى ما يتعين، وإلى ما يثبت فرضاً على الكفاية، كما انقسم الجهاد.
وبالجملة لا يثبت شيء على الكفاية إلا ويتطرّق إليه التعيين، فتجهيز الموتى
__________
(1) زيادة اقتضاها السياق.
(2) سقطت من الأصل.

(17/419)


والصلاة عليهم وتدارك المحتاجين إلى غير ذلك من فرائض الكفايات، [يتعين إذا حضره مسلمٌ واحد] (1). وظهور هذا يغني عن البسط.
وغرضنا الآن أن نبين أن من خصص واحداً بالسلام عليه، فلا مُخاطَبَ غيرُه، ولا جواب إلا منه، والجواب لا بد منه.
ثم صيغة السلام لا تخفى، واللفظ المشهور " السلام عليكم ". وكذلك لو قال: عليكم السلام. وكان شيخي يقول: لو سلّم على واحد، فالأولى الإتيان بصيغة الجمع تعرّضاً لمخاطبة الملائكة، وهذا يعضده أنا نستحب للمتحلل من الصلاة أن يقول: " السلام عليكم " كيف كان. وتأويل ذلك مخاطبة الملائكة، وصيغة الجواب أن يقول: وعليكم السلام. وإن أحب قال: والسلام عليكم. وعطفُ الجواب على السلام حسنٌ، ولو ترك العطف، وقال: السلام عليكم، كفى ذلك، وكان جواباً.
ثم قال الأئمة: ينبغي أن يكون الجواب متصلاً بالسلام اتصالاً يُرعَى مثله بين الإيجاب والقبول في العقود؛ فإنه إذا تطاول الفصل المتخلل، خرج الكلام عن كونه جواباً، والواجب هو الجواب لا السلام.
ولو قال المجيب: عليكم، فالرأي عندنا ألا يكتفى بهذا، فإنه ليس. فيه تعرّضٌ للسلام، وقد قال تعالى: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} [النساء: 86]، قال جماهير المفسرين: أجيبوا بأحسن من السلام، أو حيوا بمثله، حتى إذا قال المسلِّم: السلام عليكم، فالأحسن أن يقول المجيب: وعليكم السلام ورحمة الله. فإن لم يَزِدْ، فلا أقل من أن يقول: وعليكم السلام.
وقال بعض أصحابنا: إذا قال المجيب: " عليكم " من غير عطف، لم يكن جواباً، وإن قال: " وعليكم "، كان جواباً مسقطاً للفرض؛ فإنه منعطف على قول المسلّم، فكان راجعاً إلى معناه.
11303 - ولو استغرق قوم بشغل، فقد لا نرى لمن يمرّ بهم أن يسلم عليهم، كما سنفصله، إن شاء الله تعالى.
__________
(1) زيادة من المحقق لا يستقيم الكلام بدونها.

(17/420)


ثم قال الأصحاب: إذا سلّم -ولا نرى له أن يسلّم- لم يستحق جواباً؛ فإن وجوب الجواب منوطٌ باستحباب السلام.
ثم القول في الأحوال التي لا يستحب فيها السلام يستدعي تفصيلاً، فإن كل إنسان على حالة لا تجوز أو لا يليق بالمروءة القربُ منه فيها، مثل أن يكون على قضاء حاجة، أو يكون متبذلاً في الحمام يتدلّك ويتنظف، فلا سلام في هذه الأحوال. وإن كان القوم في مساومة أو غيره من شغل الدنيا، فلا يمتنع السلام لهذا، إذ لو امتنع به، لانحسم إفشاء السلام، فإن معظم الخلق في شغل.
وكان شيخي يقول: إذا كان الإنسان يأكل، فلا ينبغي أن يسلم عليه من يقرب منه، وهذا فيه بعض النظر، ويجوز أن يحمل كلامه على ما إذا كان في فيه طعام، فإن ردّ الجواب قد يعسر ويطول الفصل إذا مضغ ما في الفم وازدرده. ويبعد أن نكلفه ألا يزدرده ويلفظه، فأما إذا وقع السلام بعد البلع، وقبل رفع اللقمة الأخرى، فلا يبعد أن يقال: يستحق بالسلام الجواب؛ فإنه لا عسر فيه، والعلم عند الله تعالى.
11304 - ولا يحل لرجل أن يسلّم على امرأة أجنبية ليست من المحارم، وإن سلم، لم يكن لها أن تجيب. وقد ذكرتُ جملاً من أحكام السلام في كتاب الجمعة، عند ذكري الاستماع إلى الخطبة والإنصات.
قال شيخي أبو محمد: تشميت العاطس مستحب، وهو على الكفاية كابتداء السلام، ثم لا يجب جواب التشميت، ولعل السبب فيه أن التشميت لمكان العطاس بالعاطس ولا عطاس بالمشمت.
فصل
قال: " ومن غزا ممن له عذر أو حدث له بعد الخروج عذر ... إلى آخره " (1).
11355 - قد قدمنا المعاذير التي تُخرج الرجل عن التصدي لفرض الجهاد على الكفاية، وهذا الفصل معقود في طريان المعاذير بعد الخروج، فنقول: إذا أثبتنا سفر
__________
(1) ر. المختصر: 5/ 181.

(17/421)


الجهاد بإذن الأبوين، وإذنِ صاحبِ الدَّيْن، ثم رجع صاحبُ الدين، أو رجع الأبوان، وبلغ الخارج خبر الرجوع، نُظر: فإن بلغه خبر الرجوع عن الإذن قبل التقاء الزحفين، وتقابل الصفين، وكان الرجوع والانقلاب ممكناً، فحقٌّ عليه أن يرجع؛ فإن الجريان على حكم الإذن ليس محتوماً، والآذِن بالخيار: إن شاء أن يستمرّ على إذنه، استمرّ عليه، وإن أراد أن يرجع، كان له أن يرجع عن إذنه، وإذا رجع عن الإذن، وتمكن المأذون له من الرجوع، لزمه الرجوع.
وإن بلغه خبر الرجوع عن الإذن، وقد التقى الزحفان، نظر: فإن كان رجوعه يُخافُ منه انفلالٌ في الجند، فيحرم عليه الرجوع، وإن كان لا يتوقع من رجوعه انخرام وفتنةٌ يرجع أثرها إلى الجند، ففي جواز الرجوع والحالة هذه وجهان: أحدهما - يجوز الرجوع لجواز الإذن، ولا ضرر في الرجوع. والثاني - لا يجوز الرجوع؛ فإنه لابس القتال ووقف [في الصف] (1)، ولو فتحنا هذا الباب، لتعدى تجويزُه إلى انفلال الآحاد، والتعلق بالمعاذير، ثم يفضي الأمر إلى انخرامٍ يعظم أثر وقعه، فالوجه حسم هذا الباب بالكلية.
ثم اختلف أصحابنا في صيغة الوجهين، فقال قائلون: الوجهان في جواز الرجوع، وقال آخرون: الوجهان في وجوب الرجوع. وينتظم من الوجهين والتردد في صيغتهما ثلاثة أوجه: أحدها - يجب الرجوع؛ لانقطاع الإذن، وبلوغ الخبر به.
والثاني - لا يجوز الرجوع، وتجب المصابرة. والثالث - أنه يجوز الرجوع، ويجوز المصابرة لتقابل ملابسته القتال وانقطاع الإذن، فقد تعارض نقيضان، فيسقط أثرهما جميعاً، وتبقى الخِيَرةُ بعدهما، وهذا الوجه اختاره القاضي.
ولو أنشأ السفر نحو الجهاد، وأبواه كافران، فأسلما، أو حدث له دَيْنٌ، فهذا في حكم الطوارئ، فيلتحق الترتيب في الرجوع بما ذكرناه من رجوع الأبوين، والصورة مفروضة فيه إذا لم يأذن الأبوان بعد الإسلام في الجهاد، ولم يأذن صاحب الدَّين الجديد.
__________
(1) زيادة لا يستقيم الكلام إلا بها.

(17/422)


ولو أذن الأبوان، ثم رجعا وهو في الطريق، ولكن عسر الرجوع عليه لمخاوف يمتنع العبور عليها من غير جمعٍ واستعداد، فالرجوع غير ممكن، ولكن إذا عسر الرجوع، فيمتد إلى الجهاد ويُتم الغرضَ عازماً على أن ينقلب مع الجند إذا انقلبوا، أم يمكث حيث انتهى إليه؟ الوجه أن نقول: إن عسر المكث كما عسر الرجوع، فلا طريق إلا أن ينبعث مع الجند، ثم يرجع برجوعهم، وإن أمكنه أن يتعلق بقرية ويمكث فيها إلى أن يرجع أصحابُه، فيتعيّن ذلك؛ فإن نهيه تضمن أمرين أحدهما - ترك التحرك إلى الجهاد، والثاني - الإقبال على الرجوع، فإذا تعذر الرجوع، فالوجه ترك المسير في جهة الجهاد، فإن ذلك ممكن.
11306 - ومن الأعذار الطارئة المرض، فإذا طرأ قبل الوقوف، جاز الرجوع، وإن طرأ في أثناء الجهاد، فإن كان الرجوع يورث انفلالاً واختلالاً في الجند، فلا يجوز أن يرجع أصلاً، وإن خاف الموت والهلاك. وإن كان لا يخاف انفلالاً، ففي جواز الرجوع وجهان، ولا يجري هاهنا إلا منع الرجوع أو جواز الرجوع، فأما وجوب الرجوع، فلا ينقدح، بخلاف ما قدّمناه في مسألة رجوع الأبوين.
11307 - ثم تكلم أصحابنا في ملابسة فروض الكفايات. ونحن نأتي بمجموع كلامهم، وننزله على [مدارك] (1) الصواب.
فأما من لابس الحرب ولا عذر، وهو من أهل القيام بفرض الكفاية، فلا يجوز أن ينصرف من غير عذر، سواء كان في انصرافه خرمٌ أو لم يكن. هذا ما اتفق أصحابنا عليه، وأطلقوا أقوالهم بأن الجهاد يصير متعيناً بملابسة الحرب على من هو من أهل فرض الكفاية، وإن فرض عذرٌ وخيف انفلالٌ، فلا سبيل إلى الرجوع. فإن ثبت عذر يمتنع به الخروج، ولا خيفة، ففي الرجوع بعد الملابسة التردد الذي حكيناه.
وأما ملابسة العِلْم مع إيناس الرشد، فقد حكينا عن طوائفَ من الفقهاء أنه يمتنع الانكفاف. وأوضحنا أنه غلط، وليس العلم في حكم الخصلة الواحدة التي يفرض التلبس بها، فلا ينتهي الأمر إذاً فيه إلى التعيّن بسبب الملابسة. نعم قد يتعين على
__________
(1) في الأصل: " تدارك ".

(17/423)


الإنسان الانتدابُ للطلب، والاستتمام إن خاض، إذا لم يكن في القطر رشيدٌ غيره، والحاجة ماسة. وليس هذا من آثار ملابسةٍ أو خوضٍ في الأمر.
وأطلق أئمتنا القول بأن من تحرّم بصلاة الجنازة، تعيّن عليه إتمامها، وهذا فيه فقه؛ من جهة أن الصلاة مفروضة، وقد تعلّقت بعين المصلي، ولم تكن متعلّقة به قبل الخوض، فيتعلق الإتمام بها؛ فإنها في حكم الخصلة الواحدة، وحكى من تُعتمد حكايتُه عن القفال: أن صلاة الجنازة لا تتعين بالشروع، فإن الشروع لا يغير حقيقة المشروع فيه، ولذلك لا يلزم التطوّع بالشروع فيه.
فصل
يجمع مسائل نصوّرها بمبادىء النصوص في المختصر، ونذكر ما يحصل الإقناع به فيها.
قال: " ويَتوفَّى في الحرب قتلَ أبيه ... إلى آخره " (1).
11358 - يكره للغازي أن يقتل ذا الرحم فصاعداً، وتتأكد الكراهية إذا انضم إلى الرحم المحرمية، وتزداد تأكداً كلما ازداد المقتول قرباً، وقد روي: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أبا حذيفة عن قتل أبيه عتبة، ونهى أبا بكر عن قتل ابنه عبد الرحمن " (2)، وروي " أن عبد الله بنَ أُبي بنِ سلول لما كثر أذاه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمر بقتله، بلغ ذلك ابنَه عبدَ الله، فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: بلغني أنك أمرت بقتل أبي، وقد علمت العربُ شفقتي على أبي، فأخاف لو قتله واحد لتداخلني حميةُ الجاهلية، فأقتل مَن قتله، فأدخل النار، فأذن لي حتى آتيك برأسه، فقال صلى الله عليه وسلم: لا تفعل. نُداريه ما دام يعاشرنا " (3).
__________
(1) ر. المختصر: 5/ 181.
(2) حديث " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا حذيفة عن قتل أبيه، وأبا بكر عن قتل ابنه " سبق تخريجه.
(3) حديث استئذان عبد الله بن عبد الله بن أُبي بن سلول في قتل والده، وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: " لا تفعل، نداريه ما دام يعاشرنا " رواه الطبري في التفسير (28/ 76) وفي=

(17/424)


قال الشافعي: " لا يجوز أن يغزو بجُعلٍ ... إلى آخره " (1).
11359 - ليس للواحد من المسلمين أن يستأجر مسلماً على الغزو، وهذا متفق عليه، وقد فصَّلتُ في كتاب الصداق ما يجوز الاستئجار عليه، وما لا يجوز، وألحقتُ هذا بما لا يجوز الاستئجار عليه. ثم إذا فرض الاستئجار على الفساد، وانطلق المستأجَر، وحقق المستدعَى (2) منه، فلا يستحق الأجرة؛ فإن الجهاد يقع عمن تعاطاه، وهو بمثابة ما لو استأجر الرجل على الحج صرورةً لم يحج عن نفسه، فإذا حج الأجير، ونوى مستأجِره على ظن أن الحجة تنصرف إليه، فالحج ينصرف إلى فرض الأجير، ولا يستحق الأَجرة المسماة.
وذكر أصحابنا تردّداً في صورةٍ، وهو أن الاستئجار على الحج إذا صح، وكان الأجير حج عن نفسه حجة الإسلام، فإذا صح عن مستأجِره وانعقد الحج عنه، ثم صرف الإحرامَ إلى نفسه على اعتقاد أن الإحرام ينصرف إليه بقصده وصرفه، فلا شك أنه لا يصرفُ إليه، ويقع صحيحاً عن المستأجِر. وهل يستحق الأجير الأجرة؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنه يستحقها لتحصيله مرادَ المستأجِر [والثاني - لا يستحقها] (3) بقصده إيقاعَ الحج عن نفسه.
والصرورة إذا نوى مستأجِره، فلا شك أنه لا يستحق الأجرة المسماة؛ فإنها إنما تستحق في الإجارة الصحيحة، واستئجار الصرورة فاسد، والمذهب الذي لا يسوغ غيره أنه لا يستحق أجرةَ المثل أيضاً، لأنه عمل لنفسه، فيستحيل أن يستحق أجرةَ المثل بمجرد القصد، وأجرةُ المثل إنما تُستحق بالعمل، وليس كما إذا صرف الأجيرُ الحجَّ عن نفسه؛ فإنا في وجه ضعيف أسقطنا أجرته بقصده؛ فإنه يملك إسقاط الأجرة بطرق، وظن صاحبُ هذا الوجه أن قصده من المسقطات. فأما استحقاق أجر العمل بمجرد القصد، فمحال اعتقادُه والمصير إليه.
__________
=التاريخ (2/ 608)، والواقدي في المغازي: 2/ 420، وابن هشام: 2/ 217، 218.
(1) ر. المختصر: 5/ 181.
(2) المستدعى منه: أي المطلوب منه.
(3) زيادة اقتضاها السياق.

(17/425)


وإذا تمهد ذلك، بان منه أن المستأجَر على الجهاد لا يستحق على مستأجره أجر المثل، كما لا يستحق عليه الأجرة المسماة؛ فإن الجهاد يقع عن الأجير، فاستحال أن يستحق على عمله الذي وقع له أجرة على غيره.
11310 - فإن قيل: هل للسلطان أن يستأجر من المسلمين من أراد استئجاره، ثم يعطيه الأجرة من سهم المصالح؟ قلنا: هذا ما اضطرب فيه أصحابنا، فصار صائرون إلى جواز ذلك، وهو الذي ذكره الصيدلاني، وصرّح به، ومهّده أصلاً، وفرّع عليه.
ونحن ذكرناه أيضاً في قَسْم الفيء والغنائم، وأطلقناه ولم نفصله.
وذكر القاضي أن الاستئجار الذي ذكره الأصحاب من جهة السلطان ليس استئجاراً على الحقيقة، فإن الجهاد يقع على المجاهد، وما يصرف إليه من حق بيت المال، فهو حق المستحِق له إذا تصدى للجهاد، وعَدِمَ تمامَ الأهبة والزاد، وهذا الذي ذكره القاضي هو القياس الذي لا يجوز غيره.
وإذا جمع الجامع ما ذكرناه الآن، وما قررناه في أول كتاب الصداق، انتظم له من المجموع كلام تام.
11311 - قال الشافعي: " ومن ظهر منه تخذيلٌ للمؤمنين ... إلى آخره " (1).
يحرم على الإمام أن يستصحب متخذِّلاً، وهو الذي يحسّر القلوب، ويلقي الأراجيف، ويصرف قلوب المقاتلة عن القتال، وشرُّ مثل هذا الرجل ليس بالهين؛ فإن النفوس مائلة على وفق الطباع، فيخشى أن يُتَّبع، ثم إذا حضر المخذل بنفسه، ردّه الإمام، فإن اتفق حضوره، وهو مشهور بالتخذيل، فقائلٌ: لم يستحق سهماً ولا رضخاً، ولو قتل قتيلاً من الكفار، لم يستحق سَلَبَه، فإنه ممنوع عن حضوره، فلا يستحق بحضوره، ولا بما يستحقه في حضوره شيئاً. فإن قيل: قد ردّد الشافعي قوله في الفرس الضعيف الأعجف الرَّزَاح (2)، وإن استحقاق سهم الفارس هل يتعلق
__________
(1) ر. المختصر: 5/ 181.
(2) الرزاح: من رزح البعير يرزح رُزاحاً، ضعف، ولصق بالأرض من الإعياء أو الهزال، فهو رزاح (المعجم).

(17/426)


به. وقد نص الشافعي على أن الإمام يمنع من أدخل دارَ الحرب مثلَ هذا الفرس، ثم اختلف قوله في استحقاق السهم به، فهلاّ أجريتم هذا التردّد في المخذِّل؟ قلنا: ضرر المخذل عظيم، وأدنى ما يعاقَب به أن يُحرَمَ فوائدَ المغانم، وأما الفرس إذا حضر، فلا ضرر، وقد يقع التهيب به إذا وقع في الصف، فتردّد القول لذلك.
والمخذل لو تاب، فتوبته مقبولة، ولكن لا بد من استبرائه ليعود إلى استحقاق السهم، وذلك ممكن بأن يمتحن في السرّ والعلن.
11312 - ثم قال الشافعي: " وواسعٌ للإمام أن يأذن للمشرك أن يغزو ... إلى آخره" (1).
للإمام أن يستعين بطائفة من الكفار، على مقاتلة طائفة، إذا علم أنهم لو غدروا وانحازوا إلى الكفار، لكان للمسلمين استقلالٌ بمقاومتهم، وإن كانوا بحيث لو انضموا إلى الذين يقصدهم، لعسرت مقاومة الفئتين، فلا ينبغي أن يستعين بهم، وقد روي " أن النبي صلى الله عليه وسلم استعان بيهود بني قينقاع في بعض الغزوات " (2)، " واستعان بصفوان وما كان أسلم بعدُ في غزوة حنين " (3).
فإن قيل: أليس روي أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: إني
__________
(1) ر. المختصر: 5/ 182.
(2) حديث " أنه صلى الله عليه وسلم استعان بيهود بني قينقاع في بعض الغزوات " رواه أبو داود في المراسيل، والترمذي عن الزهري. قال الحافظ: والزهري مراسيله ضعيفة. ورواه الشافعي من طريق الحسن بن عمارة عن الحكم عن مقسم عن ابن عباس، قال البيهقي: لم أجده إلا من طريق الحسن بن عمارة، وهو ضعيف، والصحيح ما رواه أبو حميد الساعدي قال " خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا خلف ثنية الوداع، إذا كتيبة، قال: من هؤلاء؟ قالوا: بني قينقاع رهط عبد الله بن سلام، قال: وأسلموا. قالوا: لا. قال: قل لهم: فليرجعوا فإنا لا نستعين بالمشركين " (ر. المراسيل لأبي داود: ح 281، الترمذي: السير، باب ما جاء في أهل الذمة يغزون مع المسلمين، هل يسهم لهم؟ ح 1558. البيهقي: 9/ 37، التلخيص: 4/ 189 ح 2206).
(3) حديث " أنه صلى الله عليه وسلم استعان بصفوان وما كان أسلم بعدُ في غزوة حنين " رواه الشافعي (الأم: 2/ 84، 85)، والبيهقي في الكبرى: 9/ 37، وفي معرفة السنن: 5/ 200 (ر. التلخيص: 2/ 236 ح 1501).

(17/427)


أريد أن أجاهد معك، فقال: أمسلمٌ أنت أم مشرك؟ فقال: مشرك، فقال صلى الله عليه وسلم: " لا أرغب في المشركين " فردّه. قلنا: تمام الحديث " أنه عاد ثانياً، وذكر مثلَ ما ذكر أولاً، فأجابه رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثل ذلك وردّه، فلما عاد الثالثة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أمسلم أنت أم مشرك؟ فقال: مسلم، فقبله رسول الله صلى الله عليه وسلم " (1)، والغالب أنه توسّم فيه الميلَ إلى الدين، وكان يردّه رجاء أن يسلم، فتحققت فراستُه وصدق، فكان ما جرى من المرادّة محمولاً على تحصيل هذا المعنى.
ثم جوّز أئمتنا الاستعانة بالمشركين على التفصيل المقدّم، ولم يجوّزوا استصحاب المخذِّل قط، فإنا قد نظن ظناً ظاهراً أن الكفار يذبّون عن مساكنهم في الإسلام وديارهم، فإذا كانوا تحت قهرنا على ما فصلنا، لم يمتنع الاستعانة بهم. وأما المخذل، فلا خير فيه، وهو ضرر كله.
11313 - ثم ذكر الشافعي جوازَ استئجار المشرك على القتال. وقد ذكرنا طرفاً صالحاً من هذا. ولكنا نعيد الفصل، ونَزيدُ أموراً، ونتدارك أطرافاً في الكلام لا بد من التعرّض لها. فنقول: أما الاستئجار، فجوازه مبني على أن الجهاد لا يقع عن الكافر، وإنما المانع من استئجار المسلم على الجهاد أن الجهاد يقع عنه، فيبعد استئجاره على فعلٍ يقع عنه، وقد ذكرنا الكلام على إطلاق الأصحاب القولَ بأن للإمام أن يستأجر المسلمين على الجهاد، وتكلمنا عليه بما ينبغي.
11314 - وهذا الفصل مقصور على استئجار أهل الذمة: فلا امتناع إذاً من الجهة التي ذكرناها في المسلم، ولكن قد يعترض نوع آخر من الإشكال، وهو أن الاستئجار إنما يصح إذا كانت الأعمال مضبوطة، وما يشتمل عليه القتال من الأعمال ليس مضبوطاً، ولأجل هذا المعنى اضطرب أصحابنا، فقال قائلون: هذه جعالة، وقال
__________
(1) حديث " أن رجلاً جاء يريد الجهاد فقال عليه السلام: أمسلم أنت؟ ... " رواه مسلم: الجهاد والسير، باب كراهة الاستعانة في الغزو بكافر إلا لحاجة أو كونه حسن الرأي في المسلمين، ح 1817، والبيهقي: 9/ 37.

(17/428)


آخرون: تصح الإجارة، وإن كانت الأعمال مجهولة، وهذا ظاهر النص، وإليه مصير الجماهير، وهو معلل بوجهين: أحدهما - أن المقاصد هي المرعية، ومقصود هذه الإجارة لا يقع إلا على الجهالة، ولا يتأتى فيها التعرّض للإعلام. والثاني - أن المعاملات التي تجري في القتال سيّما إذا كانت المعاقدة مع الكفار تحتمل أموراً لا تحتملها التصرفات الجزئية، والشاهد في ذلك مسألة العلج على ما ستأتي مشروحة -إن شاء الله عز وجل- في دلالته على القلعة.
والذي يحقق هذا أن حكم الجعالة أن المستعمَل المجعول له [له] (1) الخيار في ترك عين [العمل] (2)، فإن حكمنا بأن هذه المعاملة جعالة، لزم أن يجوز للمشركين بعد الوقوف في الصف أن ينصرفوا أو يتركوا العمل، وهذا الذي جوّزناه يُفضي إلى خَرْمٍ عظيم، لا سبيل إلى احتماله، فلا وجه إلا حمل المعاملة على الإجارة، واحتمال ما فيها من الجهالة.
وقد يرد على هذا الكلام سؤال وجواب عنه، وهو أن أهل الذمة لو حضروا بإذن الإمام (3)، ثم أرادوا الانصراف بعد التقاء الزحفين، فالرأي أنهم يمنعون من ذلك لما فيه من الضرار، وإن لم يكونوا من أهل الجهاد، لا إذا كان فرضاً على الكفاية، ولا إذا تعين. ولكن سبب منعهم من الانصراف ما في ذلك من النكاية في المسلمين، فلا يبعد حمل المعاملة على الجعالة، حتى يحتمل مافيها من الجهالة، ثم يمتنع انصرافهم لما ذكرناه من امتناع انصرافهم لو خرجوا من غير جعل ولا أجرة إذا وقفوا في الصف.
11315 - ولو أراد الإمام أن يستأجر عبيد المسلمين على الجهاد فهذا بناه الأئمة على أصلٍ. والترتيب فيه أنا إن جوّزنا للإمام أن يستأجر المسلمين الأحرار على ما صار إليه طوائف من الأصحاب، فيجوز أيضاً استئجار عبيد المسلمين.
وإن منعنا استئجار الحرّ المسلم، فاستئجار العبد خرّجه الحذّاق على الخلاف الذي
__________
(1) زيادة اقتضاها السياق.
(2) في الأصل: " الجعل ".
(3) بإذن الإمام: أي من غير عقد معه. فلا إجارة، ولا جعالة.

(17/429)


حكيناه في أن العبيد هل يتعين عليهم الجهاد إذا وطىء الكفار طرفاً من بلاد الإسلام؟ فإن قلنا: يتعين عليهم، فهم إذاً من أهل القتال، فإذا وقفوا في الصف وهم مسلمون يتعين عليهم المصابرة ديناً، فيكون استئجارهم بمثابة استئجار الأحرار. وإن قلنا: العبيد لا يتعين عليهم الجهاد إذا وطىء الكفار بلاد الإسلام، فقد بان أنهم ليسوا من أهل الجهاد، حتى يفرض وقوع الجهاد عنهم إذا اصطف الحزبان، فاستئجارهم كاستئجار أهل الذمة.
11316 - ومما يتعلق باستئجار أهل الذمة أن الإمام لو لم يستأجرهم، وأخرجهم قهراً، فقد أساء، فإذا كلفهم الخروجَ والقتال، فإنه يلتزم أجرَ مثلهم، فإن أخرجهم قهراً، كما وصفنا، ثم خلاّهم، فعليه أجرتهم من وقت الإخراج إلى وقت التخلية، ولا يضمن أجر مثله بعد التخلية إلى أن يعود إلى وطنه، لأن منفعته عادت إلى يده، فلئن كان يبغي الرجوعَ إلى وطنه، فليفعل ما بدا له.
ولو استسخر الإنسانُ حُرّاً، غرِم له مثلَ أجر منفعته، وإذا حبسه ولم يستعمله، ففي المسألة وجهان ذكرناهما في الغصوب، وليس ما ذكرناه من تخلية الكافر بمثابة الحبس؛ فإن الكافر غيرُ ممنوع عن التقلب بعد التخلية، بخلاف الحرّ المحبوس؛ فإن منفعته تفوت عليه، ومن قال: لا ضمان على حابس الحر، فمتعلّقه أن منفعته تَلِفَتْ تحت يده، ولم يتلفها عليه الحابس بالاستعمال والاستئجار.
11317 - ومما أجريناه في قَسْم الغنائم، ونحن نعيده الآن: أن أهل الذمة إذا حضروا الواقعة بإذن الإمام، فيستحقون الرضخ، وإن حضروا بغير إذن الإمام، أو نهاهم الإمام، فلم ينزجروا، وحضروا، فللأصحاب اضطرابٌ في ذلك: والمسلك المرضي أنهم لا يستحقون الرضخ إذا لم يكن شهودهم وخروجهم بإذن الإمام، أو بإذن من إليه الأمر؛ فإنهم ليسوا من أهل الذب عن الإسلام، ثم إذا لم يكن إذنٌ، فلا فرق أن يحضروا من غير نهي وزجر، وبين أن ينهاهم صاحب الراية، فيشهدوا مراغمين.
ومن أصحابنا من قال: إذا شهدوا من غير نهي وزجر، ولا إذن، فلهم الرضخ؛ فإنهم بالعهد المؤبد صاروا على الجملة من أهل الدار، ولم يبد منهم تخذيل. حتى

(17/430)


تردد هؤلاء الأصحاب في استحقاق المراغمين المزجورين. وهذه الطريقة ضعيفة.
والعجب أنا اقتصرنا عليها في قسْم الغنائم، ولم نذكر الطريقة الصحيحة، وقد أتينا بها الآن، وكتاب القَسْم وكتاب السِّير تتداخل فصولهما، فإذا ألفى الناظر نقصاناً في أحد الكتابين، فليدبّر ذلك الفصلَ من الكتاب الثاني.
11318 - ولو قهر الإمام طائفةً من المسلمين، وأخرجهم إلى الجهاد، لم يستحقوا أجر المثل؛ فإنهم من أهل الجهاد، فالجهاد يقع عنهم، هكذا ذكره الصيدلاني وغيره، وهذا يدلّ دلالة ظاهرة على أن استئجار المسلمين على الجهاد غيرُ لازم، والعجب أن الصيدلاني قطع باستئجار المسلمين للإمام، ثم قال: لو أخرجهم قهراً، لم يلزم لهم أجر، ولو صح جواز الاستئجار، فالظاهر أنه لو أخرجهم قهراً، أدّى أجرَ مثلهم من المال الذي لا يؤدى منه الأجر المسمى، والله أعلم.
وإذا كان الجريان على الأصح، وهو امتناع حقيقة الاستئجار، فيطّرد على هذا أنه من سمى شيئاً للمسلمين، فهو تجهيز لهم وإمداد بالعتاد والزاد، فعلى هذا إذا قهرهم وأخرجهم لم يستحقوا أجراً.
قال الصيدلاني: لو عين الإمام شخصاً، وألزمه غسل الميت ودفنَه، فليس لذلك المقهور أجرٌ على عمله، وهذا الذي ذكره فيه فضل تدبر؛ فإنا نقول: إن كان لذلك الميت تركة، فأجرةُ من يتولى هذه الأعمال من تركته، فإذا قُهر شخصٌ والحالة هذه، استحق المقهور الأجر.
وإن لم يخلف الميت شيئاً، وكان في بيت المال متسع لتجهيز الموتَى، فيجب ذلك على الإمام من مال بيت المال، وإن لم يكن، فأراد الإمام أن يعين واجداً (1)، فلا معترض عليه، وإذ ذاك يتجه أن يقال: لا أجر له.
وقد قدمنا أن الإمام لو عين طائفة، وأمرهم بالخروج للجهاد، لم يكن لهم أن يخالفوه، ثم هو في نفسه لا يلي شيئاً من أموره على الخِيرة العريّة عن الاجتهاد
__________
(1) واجداً: أي غنياً مليئاً ذا مال.

(17/431)


والنظر، وإنما يتعين [غير] (1) المرتزقة إذا حَقت الحاقة، ومست الضرورة، [فإن لم] (2) تكن، اكتفى بإنهاض المرتزقة، فإنهم المستعدون لهذا الشأن.
11319 - ولو أخرج الإمام أهل الذمة قهراً، أو حملهم على القتال، التزم لهم أجر المثل، كما ذكرناه، فإن أخرجهم قهراً، فلم يقفوا يوم القتال، فلهم أجر مثل الذهاب، وإن وقفوا ولم يقاتلوا، فقد اختلف أصحابنا في المسألة، فمنهم من قال: لهم أجر الوقوف، قال: بدليل أنه يتعلّق به استحقاق السهم، ومنهم من قال: الوقوف ليس بعمل يتعلّق به الأجر، وإن كان يتعلق استحقاق السهم إذا صدر من أهله. والمسألة محتملة، فإن لم نجعل الوقوف عملاً نظر: فإن لم يكونوا تحت حبس المسلمين، فلا شيء لهم على مقابلة الوقوف. وإن كانوا محبوسين ممنوعين عن الانكفاف، فسبيلهم كسبيل الحرّ المحبوس الذي لا يستعمل، وقد ذكرنا الخلاف فيه.
ولو كان المخرَج قهراً عبيداً، فلهم أجرهم، وإذا حبسوا [على] (3) الوقوف ولم نر الوقوفَ عملاً، فحبس العبيد يوجب الأجرَ بخلاف أجر الحر.
11325 - ثم اختلف أصحابنا في أن الإمام يبذل الأجر من أي مالٍ، يعني أجر المقاتلة؟ أما إذا قُهروا أو استُئجروا، فمن أصحابنا من قال: يُخرَج أجرهم من رأس مال الغنيمة، فإن أثر قتالهم تعلّق بحيازة المغنم، ومنهم من قال: يعطيهم الإمام من سهم المصالح.
11321 ثم إذا وضح أن الإمام يستأجر الذمي، فلو أراد واحد من المسلمين أن يستأجر ذمياً ليجاهد، فالذي أطلقه الأصحاب أنه لا يجوز؛ لأنه لا مدخل للنيابة في الجهاد، وليس لآحاد المسلمين التصرف بالمصلحة العامة. وهذا فيه احتمال عندنا تخريجاً على استئجار المسلم على الأذان، ولا فقه في انفصال أحد البابين عن الثاني
__________
(1) في الأصل: " عين ".
(2) في الأصل: " فلم ".
(3) في الأصل: " عن " والمعنى إذا أُرغموا على الوقوف.

(17/432)


بثبوت الفرضية في أحدهما بعد ما تحقق استواؤهما في أن النيابة لا تتطرق إلى واحد منهما.
11322 - ثم قال الشافعي: " ويبدأ الإمام بقتال من يليه من الكفار ... إلى آخره " (1).
والأمر على ما ذكره. وقد صرح القرآن بها. قال الله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ} [التوبة: 123] ووجه المصلحة في ذلك ظاهر، ثم ظاهر الأمر أن ما ذكرناه على المعتاد الغالب، فإن لم يكن من الأقرب خوف، واقتضت الإيالة تجهيزَ جندٍ إلى الأبعدين لغائلة محذورة منهم. فعلى الإمام في ذلك ما يقتضيه الرأي، وقد غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشاً، وخلَّف بني قريظة، وهم على باب المدينة.
11323 - ثم ذكر الشافعي باباً مترجماً بالنفير (1)، ومضمونه تحقيق كون الجهاد من فروض الكفايات إذا كان الكفار قارّين، وهذا قد تقدّم مفصلاً، فلا حاجة إلى إعادة شىء من مضمون هذا الباب.
...
__________
(1) ر. المختصر: 5/ 182.

(17/433)


باب جامع السير
11324 - قال الشافعي في أول هذا الباب الذي ننتهي به: " القتال يختلف باختلاف المشركين، وهم قسمان: قسم ليس لهم كتاب، ولا شبهة كتاب، وهم عبدة الأوثان والنيران، وما استحسنوه، فهؤلاء نقاتلهم حتى نقتلَهم أو يسلموا، فالسيف عليهم إلى الإسلام. وهم المعنيون بقوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5] وإياهم عنى الرسول صلى الله عليه وسلم إذ قال: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله " (1).
وقسم من المشركين لهم كتاب، كاليهود والنصارى، أو شبهة كتاب كالمجوس، فهؤلاء نقاتلهم حتى يسلموا، أو يقبلوا الجزية. قال تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآَخِرِ} إلى قوله تعالى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29].
ثم أجرى [الشافعي] (2) فصولاً قدمناها مستقصاة في قَسْم الغنائم، فلا حاجة إلى إعادة شيء منها، وإن جدّدنا تراجمها، لم يضرّ، فمنها أحكام الأسرى، وقد ذكرنا أن أمرهم مفوّض إلى اجتهاد الإمام، فإن رأى قَتْلَهم، قَتَلَهم، وإن رأى رَقَّهم (3)، أرقّهم، وإن رأى منّ عليهم، وإن أراد، فاداهم، وإن أراد أن يحبسهم حتى يُخمِّر رأيه فيهم، وهذا في الرجال. والذراريُّ والنساء يُرقُّون بنفس السبي.
ثم ذكر بعد ذلك السَّلَب، وكيفية قَسْم الغنائم، والقول في الفارس والراجل،
__________
(1) حديث: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا ... " سبق تخريجه.
(2) ر. المختصر: 5/ 183.
وهذا ليس نص الموجود في المختصر، بل فيه شيء من التصرف.
(3) رَقَّه: أي جعله رقيقاً، وضرب عليه الرق.

(17/434)


وصحة القسمة في دار الحرب. والكلام في أن الأُجَرَاء والتجار والأسرى هل يستحقون السهمَ إذا حضروا الوقعة. وقد تقصينا جميع ذلك على أبلغ الوجوه في البيان.
فصل
قال: " ولهم أن يأكلوا ويعلفوا دوابهم ... إلى آخره " (1).
11325 - طعام المغنم فوضى (2) بين الغانمين، ينبسطون فيه على حسب الحاجة، ولا يوقف على القسمة، والأصل في الفصل ما روي عن عبد الله بن أبي أوفى أنه قال: " كنا نأخذ من طعام المغنم ما نشاء " (3) وروى عبد الله بن المغفل قال: " دُلّي جراب من جدار خيبر، فالتزمتُه، وفيه شحم ولحم، فأخذوني (4) أصحابي، فكنت أجاذبهم، ويجاذبونني، فإذا أنا برسول الله صلى الله عليه وسلم وراءنا يبتسم، ولم ينكر علينا " (5) وعن عبد الله بن عمر قال: " أصبنا في بعض الغزوات طعاماً وعسلاً، فأكلنا منه، ولم يُخَمَّس " (6).
__________
(1) ر. المختصر: 5/ 184.
(2) فوضى: أي شركاء فيه، يتصرّف كل واحد منهم في جميعه بلا نكير.
(3) حديث: عبد الله بن أبي أوفى " كنا نأخذ من طعام المغنم ما نشاء " قال ابن الصلاح في شرح مشكل الوسيط: " لم يُذكر في كتب الحديث الأصول، غير أن في سنن أبي داود عن ابن أبي أوفى: أصبنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر طعاماً فكان الرجل يجيء فيأخذ منه مقدارَ ما يكفيه " ا. هـ هذا. والحديث رواه أيضاً الحاكم، والبيهقي. (ر. شرح مشكل الوسيط (بهامش الوسيط): 7/ 32، 33. أبو داود: الجهاد، باب في النهي عن النهى إذا كان في الطعام قلة في أرض العدو، ح 2704، الحاكم: 2/ 126، البيهقي: 9/ 60، التلخيص: 4/ 209 ح 2262، 2263).
(4) كذا: على لغة أكلوني البراغيث.
(5) حديث عبد الله بن مغفل " دلي جراب من جدار خيبر وفيه شحم ... " في الصحيحين، ولكن ليس فيها قوله " فأخذوني أصحابي ". (ر. البخاري: الخمس، باب ما يصيب من الطعام في أرض الحرب، ح 1353. مسلم: الجهاد والسير، باب جواز الاكل من طعام الغنيمة في دار الحرب، ح 1772. التلخيص: 4/ 209 ح 2263).
(6) حديث ابن عمر " أصبنا في بعض الغزوات طعاماً وعسلاً ... " رواه أبو داود، وابن حبان، والبيهقي. ورجّح الدارقطني وقفه (ر. أبو داود: الجهاد، باب في إباحة الطعام في أرض=

(17/435)


والمعتمد في مقصود الفصل الأخبارُ، والذي تخيله العلماء من الأمر الكلي أن حاجات الغزاة تمس إلى الطعام، والغالب أنهم لا يَلْقَوْنَ في ديار الحرب أَسْوُقاً قائمة، فأطلق الشرع أيديَهم فيما يصادفونه من طعام المغنم، ينبسطون فيه على قدر الحاجة، والفقيه لا يلتزم طردَ معاني الأصول على حدود الأقيسة، وإنما يَنْظم فيها أموراً كلية.
ومقصود الفصل يتعلّق بأنواعٍ: أحدها - في جنس ما يجوز التبسط فيه، والآخر - في المكان، والآخر - في حدّ من يجوز له الأخذ.
أما الجنس، فالمعتمد أن يكون مقتاتاً أو يكون علفاً تستقلّ الدّواب به، كالشعير والتبن وما في معناهما، فأما الأدوية والعقرات (1) التي لا تستعمل إلا دواءً، فالأيدي مكفوفة عنها إلى أن تقسم؛ فإن مسيس الحاجة إليها تُلحق بالنوادر، حتى قال الأصحاب: لو مَرِض من الجند واحدٌ أو جمعٌ، فلا تصير الأدوية في حقهم كالأقوات والعلف. ولكن إنما يأخذونها بقسمةٍ أو بذل قيمة، كما لو مست الحاجة إلى الثياب وغيرها.
والمطعومات التي لا تعدّ للحاجات العامة ملتحقة بالأدوية كالسكّر، والفانيذ، وما في معناهما. وأما ما يطعم غالباً، وليس من الأقوات كالفواكه، ففي جواز التبسط فيها وجهان: أحدهما - يجوز لما روينا مطلقاً عن ابن أبي أوفى أنه قال: " كنا نأخذ من طعام المغنم ما نشاء ". والوجه الثاني - أنه لا يجوز؛ لأن الحاجة لا تتحقق فيها، ويمكن أن نفصل بين ما يتسارع الفساد إليه، ويعسر نقله، وبين ما لا يتسارع الفساد إليه.
فإذاً الأقوات والعلف محلُّ التبسط، والأدويةُ والأطعمة التي لا يعم أكلها في أعيانها ملتحقة بالثياب، وفي الفواكه التي يعم اعتيادها الخلافُ الذي ذكرناه، فأما الحيوانات، فما تيسّر من سوقها تساق، والغنم تذبح، والأصح أن مسلكها مسلك
__________
=العدو، ح 2701، ابن حبان، ح 4805، البيهقي، 9/ 59، التلخيص: 4/ 208 ح 2260).
(1) كذا: " العقرات " وواضحٌ أن المراد بها أصول الأدوية، والمنصوص في المعاجم أن مفردها (عَقَّار) بوزن عطّار، وجمعها (عقاقير).

(17/436)


الأطعمة؛ فإن الأغنام في الشرع كالأطعمة الضائعة، ولهذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم في الأغنام الضالة، للسائل عنها: " هي لك أو لأخيك أو للذئب ". وقال العراقيون: يجوز ذبحها وإن كان يتيسّر سوقها كما ذكرنا، ولكن هل يغرَم من ذبحها وأكلها قيمتها؟ فعلى وجهين: أحدهما - لا يغرَم كسائر الأطعمة. والثاني يغرم؛ لأنها لم تكن أطعمة في أعيانها، وإنما وردت الأخبار والآثار في أطعمة المغنم.
وهذا الوجه ضعيف، لأنه يمنع من تسليم جواز الذبح.
وقد نجز القول في الجنس.
11326 - فأما الكلام في بيان الحاجة والتفصيل في التبسط، [فالغانمون] (1) يأخذون من الأطعمة أقدار حاجتهم إلى الكفاية التامة، أما الزيادة على الحاجة، فلا.
ولو كان لواحد منهم من الأطعمة والعلف المستصحب ما فيه كفاية، فله الأخذ من طعام المغنم أيضاً في أصل الوضع، فإن الأخبار لا تفسير فيها، وإنما مقتضاها كون الأطعمة فوضى بينهم، فإن قيل: ما معنى ما ذكرتموه من الحاجة ومن معه كفايته لا حاجة به؟ قلنا: الحاجة إلى الاقتيات والعلف قائمة، فله صرف طعام المغنم إليها، وإمساكُ ما معه.
ثم قال المحققون: إذا قل الطعام، وازدحم الجند، وقد يُفضي الازدحام إلى النزاع، فإذا استشعر قائد الجند ذلك، أثبت يده على الطعام، وقسمه -إذا قل الطعام- ْعلى أقدار الحاجات، ويقول لمن معه ما يكفيه: اكتف بما معك، ولا تزاحم أصحاب الحاجات من الجند، وإنما كنت تشاركهم فيه لو أشبع الطعامُ.
ثم قال الأئمة: تُرعى حاجة الأكل والعلف فحسب، فلو مست الحاجات للغانمين إلى توقيح (2) دوابّهم بالشحم الذي صادفوه، ففي المسألة وجهان: أظهرهما، وأصحهما - أن ذلك لا يجوز، ولا نزيد على الطعم والعلف، والتوقيح خارج من ذلك.
__________
(1) في الأصل: " والغانمون ".
(2) توقيح: من وقّح حافر الدابة: صلّبه بالشحم المذاب (المعجم).

(17/437)


ومن أصحابنا من قال: لا يمنع التوقيح؛ فإنه متصل بضرورة العلف. وهذا ضعيف غير معتد به، لأنه خارج عن التطعم والعلف، والأخبار فيها. وهو أيضاً نادر، وقد ألحقنا ما يطعم نادراً بالثياب، فما الظن بما لا يستعمل طعاماً. وهذا في التحقيق استعمال طعام في غير مطعم، ولأجل ذلك اختلف الأصحاب.
وقال الأئمة: لو ذبح الغانمون أغناماً ردّوا جلودها على المغانم، فإن أكلوا جلودها على لحومها سمطاً، فلا بأس، ثم ما يأكلونه، وينبسطون فيه غير محسوب على أحد، وكأن الشارع أضافهم (1) عليه.
وقال المحققون: لو أتلف واحدٌ من الغانمين شيئاً من طعام المغنم، ضمنه، وكان ما يبذله (2) مردوداً على المغنم؛ فإنه أتلف يوماً، ولم يستعمله في الجهة التي سوّغ الشرع استعماله فيها، وكان إتلافه بمثابة إتلاف الثياب وغيرها.
ولو أخذ بعضُ الغانمين ما يزيد على حاجته من الطعام، وأضاف عليه جمعاً من الغانمين، جاز؛ فإنه تولى تعبَ الإصلاح والطبخ، ورجع الطعامُ إلى الغانمين. ولو أراد أن يُطعم أجنبياً ليس من الغانمين، لم يكن له ذلك. وعلى الأجنبي الضمان، والمقدِّم إليه من الغانمين في حكم الغاصب يقدّم الطعام المغصوب إلى إنسان، ثم التفاصيل لا تخفى في علم الضيف وجهله.
11327 - ولو أخذ بعض الغانمين شيئاً من الطعام، وأقرضه صاحباً له، فالأصح أن هذا الإقراض ليس بشيء؛ فإن الغانم لا يملك ما يأخذه وإنما له حق الانتفاع، والغانمون في أطعمة المغنم كالضيفان فيما قدّم إليهم، فليأكلوا، ويتمتعوا، فأما الإقراض والبيع، فلا مجيز له.
وذكر الصيدلاني وغيره من المعتبرين أن الإقراض يتعلق به حكم، فإن الآخذ مقدارَ الحاجة يصير أوْلى [به] (3)، ويثبت له حق اليد فيه، وفائدة هذا الوجه أنه يطالبه بما
__________
(1) أضافهم عليه: أي جعلهم ضيوفاً واستضافهم.
(2) ما يبذله: أي ما يغرمه ضماناً لما أتلفه من طعام.
(3) زيادة لاستقامة العبارة.

(17/438)


أخذه أو بمثله، ما داما (1) في دار الحرب، فإن اتصل الجند بدار الإسلام -كما سنصف، إن شاء الله تعالى، القول في المكان- فالمستقرض لا يرد على المقرض شيئاً، فإنه انقطعت حقوق الغانمين عن الأطعمة بالتعلّق بدار الإسلام.
والإمام يأخذ من المستقرض على هذا الوجه الضعيف (2) ما استقرضه إذا كانت العين باقية، ثم إن أمكن ردُّه إلى المغنم، فعل، وإن تفرق الجند وعسر فضّ مُدٍّ من طعامٍ على مائة ألف، فقد قال الصيدلاني: الإمام يصرفه إلى خمس الخمس، عنى بذاك سهمَ المصالح، ويجعل كأن الغانمين أعرضوا عنه، وقيل: سبيله سبيل الفيء، وكأنه خرج عن حكم المغنم، وهذا ضعيف لا أصل له، إذ لو كانوا كذلك، لما وجب الرّد إلى المغنم إذا أمكن الردّ. وقد اتفق الأصحاب على وجوب ذلك.
فإذاً المذهب فساد القرض، وتفريعه أن المستقرض كالآخذ بنفسه، فإن أكله في دار الحرب، فلا تبعة، وإن بقي معه حتى تعلّق بدار الإسلام، فإنه يردّه إلى المغنم على تفاصيلَ سنذكرها إن شاء الله تعالى. والوجه الذي ذكره الصيدلاني أن للمقرض مطالبة المستقرض ما داما في دار الحرب، وهذا نص الشافعي: " فإذا خرج إلى دار الإسلام، فالردّ على الإمام " (3) إذا كانت العين قائمة، فأما إذا أُكل واستُهلك، وتعلقا بدار الإسلام فالذي قطع به كل محقق أنه لا يطالَب المستقرض بشيء. وإن كانت العين قائمة، وتيسّر الردّ إلى المغنم ردّ، وإن تعذّر، ففيه التردّد الذي ذكرناه.
فخرج مما ذكرناه أن تصحيح القرض لا يفيد إلا مطالبة المقرض المستقرضَ ما دام في دار الحرب، فأما العين إذا كانت قائمة ردّها أو ردّ مثلها من طعام المغنم، وكأنه ألزمه بالإقراض أن يحصّل من طعام المغنم ما يماثل ما أخذه، فإن لم يكن في المغنم غير ما أخذ، وقد أُكل الباقي، ردّ ما أخذ، وإن أتلفه، فلا طِلْبَةَ عليه، إذا لم يكن
__________
(1) ما داما: أي المقرض والمقترض.
ثم هذا في إقراضه غانماً آخر، أما غير الغانمين، فلا يجوز إقراضهم أصلاً، وإذا أقرض الغانم أجنبياً، وجب على المفترض ردّه إلى المغنم (ر. الروضة: 10/ 265).
(2) الوجه الضعيف القائل بجواز المطالبة.
هذا. وقد عرض النووي الوجهين، ولم يرجح واحداً منهما.
(3) ر. المختصر: 5/ 184. وهذا معنى كلام الشافعي لا بنصه.

(17/439)


في المغنم طعام، لأن حق [اليد] (1) لا يضمن بالقيمة، كما لو قتل رجل كلبَ (2) إنسان، أو أتلف عليه زبلاً.
ولو جاء بصاع من ملك نفسه، لم يأخذه المقرض، فإن ما جاء به ملك المستقرض، وما أعطاه لم يكن ملكَه، ومقابلة المملوك بغير المملوك لا تصح، فرجع الكلام إلى أن الإقراض يُلزم المستقرض ردَّ ما أخذ أو ردَّ مثله من طعام المغنم ما داما في دار الحرب، فإذا اتصلا بدار الإسلام، انقطعت التبعة بينهما.
11328 - ولو باع واحدٌ من الغانمين صاعاً من طعام المغنم بصاع منه، فالقول في البيع كالقول في القرض. والوجه القطع بفساد البيع؛ فإنه تعاطٍ وتبادل كما يفعله الضيفان، فيسلم ضيفٌ لقمة إلى صاحبه، ويأخذ لقمة، ولا مؤاخذة، وعلى حسب هذا قيل: إذا تبايع الغانمان بما أخذاه صاعاً بصاعين، فلا بأس بذاك، وهو تبادل وليس بتبايع.
والصيدلاني لما ذكر في القرض ما ذكره، وعزاه إلى النص، قطع في البيع بأنه ليس بيعاً على الحقيقة، وشبه صورة البيع بما ذكرناه من التعاطي الجاري بين الضيفان، ثم ذكر فصل القرض على ما حكيناه.
وهذا تناقضٌ بيّن؛ فإن القرض إن كان يُلزم أمراً، فالبيع يجب أن يُلزم أحدَهما [أن يردّ] (3) صاعاً إلى صاحبه [لا] (4) بجهة البيع، [فلو امتنع] (5) الآخذ من ردّ صاع، [فيجب تنزيل هذا] (6) منزلةَ القرض في إثبات المطالبة، هذا لا بدّ منه إن صح القول في القرض، وإن طردنا القياس، أفسدنا أثر البيع والقرض جميعاً، وهو الذي قطع به
__________
(1) في الأصل: " السيد ".
(2) يضرب الكلب والزبل مثالاً لما تثبت عليه اليد، ويختص به صاحبه، ولكنه لو أتلف لا يضمنه المتلف بالقيمة.
(3) زيادة اقتضاها السياق.
(4) زيادة لا يستقيم الكلام بدونها.
(5) في الأصل: " وامتنع ".
(6) عبارة الأصل: " فيجب على تنزيل هذا ".

(17/440)


القاضي ومعظم المحققين. نعم. لو باع صاعاً بصاعين، وفرعنا على تنزيل البيع في إثبات حكم المطالبة في دار الحرب منزلة القرض، ففي هذا تدبّر، فإن سلم صاعاً لم يملك إلا طلبَ صاعٍ تشبيهاً بالقرض، وإن بذل صاعين، لم يطلب إلا صاعاً، ويحمل الزائد على البذل، فإنه لم يقصد ببذله إلزام عوض في مقابلته، هذا هو الممكن.
والتفريع محيط على الأصل الخارج عن الضبط والقياس (1).
11329 - ومما نتكلم فيه المكان: فالجند ما داموا في دار الحرب ينبسطون في الطعام لما ذكرنا، وإن تعلّقوا بأطراف عُمران الإسلام، وتمكنوا من شراء الطعام والعلف، كفوا أيديهم، وإن تعلقوا بأطراف دار الإسلام، ولا عمارة، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أنهم لا ينبسطون؛ فإن الرخصة تثبت في دار الحرب لا غير والثاني - أن التبسط جائز لدوام الحاجة.
ولو كانوا يجدون في دار الحرب ما يشترون من الأطعمة، فلم أرَ أحداً من الأصحاب يمنع التبسط بهذا السبب، ونزّلوا دار الحرب في أمر الطعام منزلة السفر في الرخص، فإن الرخص، وإن ثبتت في مقابلة مشقات السفر، فالمترفّه الذي لا كلفة عليه يشارك المشقوق عليه في سفره، فهذا ما يجب القطع به، إلا أن يدخل الجند في بلاد مضافة إلى الكفار يقطنها أهل الذمة والعهد، لا يشاركهم في المساكنة مسلم، فإذا كانت هذه الدار في قبضة الإسلام، وكان أهلها ملتزمين أحكامنا، فهي بمثابة ديار الإسلام في الحكم الذي نطلبه.
__________
(1) ولعل من المناسب أن نذكر عبارة الغزالي في البسيط عن هذه المسألة، قال رضي الله عنه: " فأما إذا جرى بيع صاع بصاع مثلاً من طعام المغنم، فلا ينعقد البيع؛ إذ لا تملّك، والصحيح أنه لا حكم له كما في القرض على الظاهر.
وقطع الصيدلاني في البيع بالبطلان، وفي الإقراض بإثبات حكم، وهو تناقض، بل ينبغي أن يقال: بيع الصاع اقتراض من كل وجه يستعقب من اللزوم ما يستعقبه الإقراض؛ حتى لو باع صاعاً بصاعين لم يطالِب إلا بصاع واحد، فإنه في حكم القرض، ولو باع صاعين بصاع لم يطالِب إلا بصاع واحد؛ فإن الصاع الآخر بذله من غير قصد العوض " (البسيط: 5/ورقة: 163 شمال).

(17/441)


وإن كان الكفار معنا في مهادنة، [ولا] (1) يستسلمون لأحكامنا، ولكنهم لا يؤذون من يطرقهم من المسلمين، وقد لا يمتنعون عن المبايعة والمشاراة، فإذا كان كذلك، فالأظهر وجوب كف اليد عن أطعمة المغنم إذا ظهر التمكن من تحصيل الطعام، وإن لم تكن ديار المعاهَدين المستمسكين بالهدنة مَعْزيّة (2) إلى ديار الإسلام.
وإذا أخرجنا (3) ديار أهل الذمة، وديار المعاهدين، فنعتبر (4) بفَصْل طروقنا ديار الكفار، وهم يختلطون بنا في المعاملة، ولا عهد ولا أمان، [فما ذكرناه] (5) من تصوير وجود الطعام عسر، فإن أمكن ولم يكن عهد، فجوابه ما قدّمناه.
11335 - ومما يتصل بتتمة الفصل أن الغانمين إذا تعلّقوا بديار الإسلام وحرم عليهم ابتداء الأخذ، فلو كان معهم فضلاتٌ من الطعام التي أخذوها في دار الحرب، فهل يلزمهم ردّها؟ فظاهر المذهب أنه يلزمهم الردّ، وحكى الصيدلاني وغيره قولاً عن سِيَرِ الأوزاعي أنه لا يلزم الرّد، فإنه بقيّةُ مأخوذٍ على سبيل الإباحة، فلا يُمنع. فانتظم قولان: أحدهما - وجوب الردّ، والثاني - أنه لا يجب الردّ. وكان شيخنا يفصّل بين ماله قدرٌ وقيمة، وبمثله احتفال، وبين كَسْر الخبز ونَفَض السُّفَر (6)، وبقايا الأَتْبان في المخالي، ويقول: القولان في هذه الأشياء، فأما ما يُقصد، وينتحى، فمردودٌ وفاقاً، وغيره من الأئمة لم يفصّل هذا التفصيل.
وأنا أقول: إن حمل الغازي من الطعام ما يغلب على الظن مع السير الدائم وتواصل التناقل أنه يفضل منه شيء عند الاتصال بدار الإسلام، فهذا مردود، وليس له حكم الفضلات.
__________
(1) في الأصل: " فلا ".
(2) معزيّة: من عزا يعزي؛ فالفعل واوي ويائي.
(3) أخرجنا: أي استثنينا كما هي عبارة الغزالي.
(4) فنعتبر: أي نقيس على ما قلناه في فصل طروقنا ديار الكفار.
(5) في الأصل: " مما ذكرناه ".
(6) الكَسْر بفتح وسكون: النزر اليسير، والنَّفَض: بفتح النون والفاء: المنفوض بمعنى ما يتساقط من الشيء عند نفضه. (ر. اللسان. والمعجم) ويمكن أن يُضبطَ الكِسَر (بكسر الكاف وفتح السين): جمع كِسْرة.

(17/442)


وإذا بانت الصور، فالخارج منه: أن [ما] (1) ينفصل عن المحمول الذي يبعد مسيس الحاجة إليه في دار الحرب- مردود، ولا يجوز أن يكون فيه خلاف، وما يفضل عن محمول لا يبعد [استيعاب] (2) أكله في دار الحرب، فإذا اتفق الفضل، فهذا محلّ التردد، ثم للأصحاب طريقان: منهم من أجرى القولين وإن كان الفاضل بحيث يقصد إذا كان على الحدّ الذي ذكرناه، ومنهم من خصص [بالفُتات] (3) والكَِسر، وإذا ضممنا التردد في محل القولين إلى أصل وضعهما، انتظم من المجموع ثلاثةُ أقوال: أحدها - الرّد، والثاني - أنه لا يردّ. والثالث - أنه يفصل بين ما يفضل، وبين النَّفَض والكِسر.
ثم إذا أوجبنا الرد، فإن كان ذلك قبل قسمة الغنائم، فالفاضل مردود إلى المغنم، ثم القسمة توصل كلَّ ذي حق إلى حقه. وإن قسمت الغنائم، وأمكن فض فاضل الطعام على نسب القسمة، فعلنا، وإن تفرق الغانمون، وعسر فضُّ هذا الفاضل النزر عليهم، فقد قال الصيدلاني: من أصحابنا من قال: هو مردود إلى سهم المصالح، وهذا فيه غفلة؛ فإن إخراج الخمس منه ممكن، وإنما هذا في الأربعة الأخماس، ثم ينقدح فيها الخلاف الذي ذكرناه [في] (4) الإقراض.
ويبين بهذا أن استرداد العين من المستقرض إن كانت باقية في يده كيف يقع؟ وما سبيله؟ وحاصل ما تحققتُه وجهان: أحدهما - أن حكم الاستقراض ينقطع بالتعلّق بدار الإسلام، ويصير المستقرض كآخذٍ لنفسه طعاماً إذا فضل منه شيء، ثم تخرج فيه الأقوال على تفاصيلها، ومن أصحابنا من قال: إذا كانت العين باقية في يد مستقرضها، فهي مستردّة قولاً واحداً؛ فإنه ما أخذ الطعام على حكم تبسط الغزاة، فإن استرددنا منه المستقرَض التقى التفريع على ذلك، والتفريعُ على فاضل طعام الغازي إذا لم يستقرض.
__________
(1) زيادة اقتضاها السياق.
(2) في الأصل: " استباق ".
(3) في الأصل: " القتال ".
(4) زيادة من المحقق.

(17/443)


فرع:
11331 - إذا لحق الجندَ مددٌ بعد انجلاء الحرب، وحيازة المغنم، فهل يشتركون في أطعمة المغنم حتى يتبسطوا فيها تبسط الغانمين؟ فيه وجهان لا يخفى على من أحاط بالأصول توجيههما.
فصل
قال: " وما كان من كتبهم فيه طبٌّ ... إلى آخره " (1).
11332 - الكتب المباحة في الإسلام، ككتب الطب والحساب، وما يحل تعلّمه- سبيلها سبيل سائر الأموال تقسم بعد التخميس على الغانمين، وأما الكتب المحرمة، فقد مثلها الأصحاب بكتب الشرك والهُجْر من الأشعار، ثم قالوا: إن تمكن الانتفاع بأوعيتها، مُحي ما لا يجوز تركه، وردّت الجلود والأوعية إلى المغانم، وإن لم يكن عليها جلود ينتفع بها، ولا أوعية، فسبيلها أن تمحى، وإذا كان لا يتأتى محو ما فيها إلا بالتمزيق والإحراق، فعلنا ذلك، ولم نتركها في أيدي الناس. هذا ما ذكره الأصحاب.
وفيه بقية نظر على المتدبّر، فأما الهُجر والخنا والفحش الذي لا خير فيه، فالأمر على ما ذكره الأصحاب، وأما كتب الشرك، فقد يخطر فيها للفطن أنها يُنتفع بها، على معنى أن الحاجة تمس إلى الاطلاع على مذاهب المبطلين، حتى إذا عرفت، اتجه الردّ عليها بمسالك الحق، فإن كانت تلك المقالات مشهورة، فالرأي إبطالها، وإن كان فيها ما لم يتقدم الاطلاع عليه، ففيه تردد واحتمال بيِّن.
11333 - ثم قال الأصحاب: المباحات في دار الحرب كالحطب والحشيش والصيد سبيلها كسبيل المباحات في دار الإسلام، فهي لمن أخذها، وإذا كنا نقضي بأن الحربي إذا اصطاد من ديار الإسلام، يملك ما اصطاده، فلا يخفى أن ما يأخذه [المسلم] (2) يملكه، والقصد بإيراد الفصل في هذا المكان، قطعُ ظن من يظن أن
__________
(1) ر. المختصر: 5/ 184.
(2) زيادة اقتضاها السياق.

(17/444)


ما يؤخذ من الأموال المباحة بمثابة المغانم، لأنه لا يتصوّر الوصول إليها إلا مع الاستظهار بعُدّةٍ (1)، فقد يحسب الناظر أن سبيل المأخوذ كسبيل الغنيمة، أو كسبيل الفيء، وليس كذلك؛ فإن المغنم والفيء ما كان ملكاً لأهل الحرب، فأظهَرَنا [الله] (2) عليه، إما بقتال، أو برعب من غير إيجاف خيل وركاب، والمباحات هي التي لم يتعلّق بها ملك.
ثم قال الأئمة: إذا وجد في الصيد ظبية مقرّطة، أو مقرطقة، والمقرط الذي جعل في أذنه القرط، والمُقَرْطَق هو الذي جُزّ صوفه على علامة كالقَرْطَق (3)، فنعلم أن هذه الظبية مملوكة لمن صادها (4)، فإذا وجدناها في دار الحرب، فقد تساهل الأصحاب، وقالوا: سبيلها كسبيل الغنيمة. وهذا يجيء على مذهب المسامحة، فإن كل ما يؤخذ من أملاك الكفار لا يكون غنيمة، بل المغنوم ما يؤخذ قهراً بقتالٍ ومكاوحة، وقصدٍ ودفع، وما يتفق الظهور عليه من غير مناوشة وقتال، فسبيله سبيل الفيء.
والغرض مما نذكره يبين بتفصيلٍ:
فنقول: كل ما لو وجد في دار الإسلام، لكان لقطة، فإذا وجد في دار الحرب، فهو مُجرى على ملك الكفار، ثم أخذه يتصوّر من ثلاثة أوجه: أحدها - المغالبة، فما كان كذلك، فهو غنيمة، والآخر - أن يجري انجلاء الكفار عنه بإرعاب وإرهاب من غير إيجاف خيل وركاب، فما كان كذلك، فهو فيء، والثالث - أن يتفق أخذه من غير إرهاب، ولا قتال، وفي هذا القسم فضل تدبّر؛ فإن الأصحاب أجمعوا على أن من دخل دار الحرب مستخفياً وسرق شيئاً، فإنه يختص بما أخذه، وهذا مما ليس غنيمة ولا فيئاً خصصناه لصاحب اليد.
__________
(1) المراد عُدة الصائد وجهده، فلا يدخلن الظن من هنا أنه غنيمة.
(2) زيادة من المحقق.
(3) القرطق: مثال جعفر، ملبوس يشبه القَباء. وهو من ملابس العجم (المصباح) وكانوا يجزون الصوف على هذه الهيئة علامة على أن هذا صيد مملوك. قاله الغزالي في البسيط: 5/ ورقة: 162 يمين.
(4) لمن صادها: المراد لمن صادها سابقاً.

(17/445)


وعلى هذا القانون نقول (1): إذا وجدنا في دار الحرب مالاً ضائعاً، ولم نفرض فيه انجلاء كافر، وهو أن يكون الوصول إلى مكان ذلك المال ممكناً من غير عُدّة، [فهو لصاحب اليد] (2) فإن لم يكن الوصول إليه ممكناً إلا بعدة، فالمأخوذ فيء؛ فإن قاعدة الفيء إما يؤخذ بقوة الجند أو بقوة الإسلام، من غير لُقيان قتالٍ، وما أخذنا بالقتال من أيدي الكفار، فهو غنيمة، وما ثبت عليه اليد من غير عُدّة، ولا قتال، ولا استنادٍ إلى قوة الإسلام، فذاك يجب أن ينحى به نحو السرقة.
وقد ذكرنا طرفاً من الكلام في الفيء، ومعناه في قَسْم المغانم والفيء.
وتمام البيان في ذلك أنا إذا وجدنا مالاً ضائعاً على هيئة اللقطة، فلا نأمن أن يكون فضل عن المسلمين، فينبغي أن تُنشدَ الضالة، فإن عرفها مسلم، فهي لقطة مردودة عليه على الشرط المعروف في كتاب اللقطة. وإن لم يدّعها مسلم، والدار دار الحرب، فالكلام على التفصيل الذي ذكرناه. ثم إذا كنا لا نعرف في ديار الحرب مسلماً سوى الأجناد، فيكفي أنها تعرّف إليهم، ولا نؤاخذ بتقدير طروء تاجرٍ؛ فإن ذلك يطول. فإن كان وراء هذا المنتهى بقية، فلا شك أني استقصيتها في كتاب اللقطة.
فصل
قال: " ومن أُسر منهم، فإن أشكل بلوغهم ... الفصل " (3).
11334 - [تقدّم] (4) القولُ في الأسرى وحكم الإمام فيهم واجتهاده في المن والفداء والقتل، والإرقاق، والفرق بين الذراري والنسوان، والمقاتلة، وأوضحنا أن الإمام إذا رأى قتل الرجال واستئصالَهم بالسيف، فمن وجده بالغاً، قتله، ومن استراب في
__________
(1) في الأصل: وعلى هذا القانون أن نقول.
(2) زيادة اقتضاها السياق.
(3) ر. المختصر: 5/ 184.
(4) في الأصل: " تفصّل ".

(17/446)


أمره أمر بالكشف عن مؤتزره، فمن أَنْبت منهم قتله (1)، وذكرنا في كتاب الحجر تردّدَ الأصحاب في أن الإنبات عينُ البلوغ أوْ أمارةُ البلوغ.
وقال الأئمة: نبات اللحية وشعر الإبط بمثابة شعر العانة، وإنما نكشف عن المؤتزر، إذا عدمنا شعر اللحية والإبط، وهذا متجه، ولكن اخضرار الشارب ما أراه معتبراً، والصُّدغ (2) المعدود من شعر الرأس لا يشك أنه لا تعويل عليه، والعِذار المقابل للأذن من اللحية، وإذا خشن شعر الشارب كما (3) طرّ، فهو كاللحية، وإن تزعم (4) [عند الكشف] (5) عن مؤتزره أنه استعجل بالمعالجة الإنبات، فإن جعلنا الإنباتَ عينَ البلوغ، لم ينفعه هذا، وإن جعلناه علامة البلوغ، فالمستعجَل منه لا يدلّ على البلوغ، ثم القول قوله مع يمينه، وهذه اليمين متضمنة للإثبات، وهي على خلاف قياس الأيمان (6)، ولكن حقن الدم غالب، ولذلك حقنا دم المجوسي بالجزية، وإن لم نناكحه ولا نستحل ذبيحته، وجميع أحكام الأسرى قدمناها مستقصاة في القَسْم.
وهذا الطرف الذي ذكرته في الإنبات والاستعجال أحلته ثَمَّ على هذا الكتاب، وقد وفّيتُ به، وتمام حكم البلوغ مذكور في كتاب الحج.
__________
(1) تقدم ذلك في قَسْم الفيء والغنائم.
(2) الضُّدغ: ما بين لحظ العين إلى أصل الأذن، ويسمى الشعر الذي تدلى على هذا الموضع صدغاً. (المصباح).
(3) كما بمعنى: عندما.
(4) تزعّم: تكذب، (المعجم).
(5) زيادة اقتضاها السياق.
(6) فإن قياس الأيمان للنفي، وهذه لإثبات الاستعجال.
ثم قد استشكل تحليف من يدعي الصبا، فقال بعض الأصحاب: اليمين احتياطٌ، أو استظهار، وقال الجمهور: لا بد منها؛ لأن الدليل الظاهر موجود. (ر. الروضة: 10/ 243).

(17/447)


فصل
قال: " إذا التقوا العدوّ، فلا يولُّوهم الأدبار ... إلى آخره " (1).
11335 - إذا تعارض الصفان، وتلاقى الجندان، وقابل كل مسلم من الكفار اثنان، فالفرار يحرم، وكان الأمر في الابتداء شديداً، كما اقتضاه قوله تعالى: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِئَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا} [الأنفال: 65]، فكان يجب على الواحد أن يقف لعشرة، فعظم هذا واشتد احتماله، فخفف الله تعالى عن المسلمين، وقال تعالى: {الْآَنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا} [الأنفال: 66]، فاستقر الشرع على مصابرة الواحد لاثنين، والعشرة لعشرين. هذا هو الأصل.
والفرار وعدد الكفار غير زائد على الضعف مع إمكان المصابرة من الكبائر، وقد توعّد الله تعالى عليه بالوعيد الشديد، فقال عز وجل: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ... } الآية [الأنفال: 16].
ولو التقى جمع من المسلمين بجمع من الكفار، وكان الكفار من الأبطال المنعوتين، وغلب على الظن أنهم يقتلون المسلمين لو صابروا، ولم يولّوا، فهل لهم أن يفرّوا؟ فعلى وجهين: أحدهما - أن لهم الفرار؛ فإن ما في هؤلاء من الأَيْد والنجدة يَبَرُّ معنىً على زيادة الأعداد -ولو زاد عدد الكفار على الضِّعف، لجاز الفرار- من حيث يُغَلِّب (2) الغلبة، لا من حيث صورة العدد.
وإن زاد عدد الكفار على الضعف، وغلب على الظن غلبتهم، فيجوز الانهزام، وإن لم يغلب على الظن غلبتهم، فيجوز الانهزام لظاهر الحال، وهو الذي يغلب عليه سياق الآية المشتملة على التخفيف. ولو غلب على الظن أنا نغلبهم، بأن كنا أبطالاً، وكانوا مستضعفين، فظاهر المذهب، وجوب المصابرة؛ فإنَّ فرار الرجال الأبطال من الضعفة، وإن زادوا على الضعف، ولا حاجة إليه- ذلٌّ، وليس هذا كفرار
__________
(1) ر. المختصر: 5/ 185.
(2) أي يغلِّب ما في هؤلاء من الأيد والنجدة الظنّ بغلبتهم.

(17/448)


المسلمين من أبطال الكفار، وعددهم غير زائد على الضعف؛ فإن الحاجة ماسة، ولا ذلّ في الفرار منهم.
وتمسك بعض الأصحاب بصورة العدد، واعتبار الغلبة، وجعلها وجهين، وقال: من اعتبر العدد، جوّز للمائة من أبطال المسلمين الفرار من مائتين وواحدٍ من الكفار، وإن كانوا مستضعفين بالإضافة إلى المسلمين، نظراً إلى العدد؛ فإن اتباع صفات الرجال عَسِرٌ، سيّما في القتال. ومن اعتبر غلبة الظن في الغلبة، قال: ليس لأبطال المسلمين أن يفروا، وإن زاد عدد الكفار على الضعف، إذا غلب الظن في الغلبة، وللمسلمين أن يفروا، وإن لم يزد عدد الكفار على الضعف إذا استشعروا من أنفسهم الضعف.
وهذا الترتيب غير مستحب، والأولى أن نقول: ليس لأبطال المسلمين الفرار من الكفار، وإن زادوا على الضعف إذا غلب على الظن غلبةُ المسلمين. وهل للمسلمين الفرار إذا قابلهم أبطال الكفار، وغلب على الظن غلبتهم، ولم يزيدوا على الضعف؟ فعلى الخلاف المقدّم.
11336 - ومما يتصل بذلك أن الكفار لو لاقَوْا المسلمين وليس مع المسلمين سلاح، والكفار شاكون وعددهم غير زائد على الضعف، فإن لم يكن في موضع الالتقاء حجارة، جاز الفرار، وإن كان في الملتقى حجارة، فحاصل ما ذكره الأصحاب ثلاثة أوجه: أحدها - أنه لا يجوز الفرار، ويجب مقاومتهم بالحجارة.
والثاني - يجوز الفرار؛ فإن الحجارة لا تقابل السيوف البواتر والرماح. ومنهم من قال: إن كانت معهم مقاليع، لزمهم المصابرة، وإن لم يكن، جاز الفرار. [و] (1) هذا التردد خارج عندي على الأصل المقدّم، وذلك أن المسلمين إذا عدموا الأسلحة والكفار شاكون في السلاح، فالغالب غلبة الكفار، والغالب أن الأحجار لا تقابل [الحديد] (2)، فهذا يخرج على القاعدة المقدمة.
__________
(1) زيادة من المحقق.
(2) في الأصل: " بالحديد ".

(17/449)


ويتصل بهذا المنتهى أمرٌ هو تمام الغرض، وهو أن المسلمين إذا علموا أنهم ولو صابروا لم يُنكوا في الكفار، فلا خلاف في جواز الفرار هاهنا، فانه ليس في الوقوف إلا الاستقتال، وليس يرجع إلى الإسلام من هذا قوةٌ ونُصرة، وإنما التردد فيه إذا غلب على الظن غلبة الكفار، وقد يغلبون، وهذا أصل. قلنا: إذا لم يجدوا الحجارة أصلاً، فإنهم مِزعٌ بين السيوف البواتر، فوقع القطع هاهنا بالفرار.
وتمام غرض الفصل في نجازه.
11337 - ثم إذا منعنا الفرار وحرَّمناه، فلا يمتنع التحرف للقتال، والتحيز إلى فئة المسلمين، كما قال تعالى: {إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ} [الأنفال: 16]، وأما التحرف للقتال، فمعناه أن يَلقى الكافر مسلماً في الصف، ويكون المجال ضيقاً على المسلم، فرأى في تدبير القتال أن يولّي الكافرَ ظهره ويستجرّه إلى فضاء ومتسع، حتى إذا اتسع مجاله عَكَر (1) عليه، فله أن يفعل ذلك. وكذلك لو تحرّف من الميمنة إلى الميسرة لرأيٍ يراه، فهذا معدود من التحوّل في القتال، وليس من الهزيمة في شيء وتصويره بيّن، وتعليله واضح.
11338 - وأما التحيز، فإنه يرجع إلى القصد وهو متصل بفرار محقق، والتحرّف ليس فراراً، وإنما هو مداورة في القتال.
ثم اختلف طرق الأئمة في التحيز -وهذا من أهم ما يجب الاعتناء به- فذكر الصيدلاني وصاحب التقريب وشيخي وأئمة العراق أن من ولّى، وقصد أن يتحيز إلى فئة، ويستنجد بهم، ويعود إذا عادوا، ففراره على هذا القصد لا يكون معصية، ولا فرق بين أن يكون بين تلك الفئة التي قصد التحيز إليها على مسافة شاسعة، وبين أن تكون قريبة من المعترك، وقال عمر بن الخطاب، وهو في دار الهجرة، يعني مدينة النبي صلى الله عليه وسلم في هذا المعنى الذي نحن فيه: " أنا فئة كل مسلم " (2)
__________
(1) يعكُر عليه: من عكر يعكُر عكراً وعكوراً: عطف ورجع.
(2) أثر عمر: " أنا فئة كل مسلم " رواه الشافعي (الأم: 4/ 171) والبيهقي في الكبرى: 9/ 77.

(17/450)


وفي بعض التصانيف أن التحيز ينبغي أن يكون إلى فئة قريبة، وهذا هو الذي ذكره القاضي، وهذا كلامٌ مبهم.
وأنا أرى في هذا تفاوتاً واختلافاً بيناً بين الطرق، فنذكر ما فهمناه من معنى القرب على أقرب [معتبر] (1). ثم نذكر معنى التسوية بين القريب والبعيد، فأما اعتبار القرب، فلا ينبغي [أن ينزّل على مسافة القصر] (2)، فإن هذا لا أثر له في الغرض المطلوب، بل معنى القرب أن يكون على القرب من المعترك فئة من المرابطين، وجمعٌ من المسلمين ذوي النجدة والبأس، [بحيث] (3) يقدّر التحيزُ إليهم استنجاداً بهم [حتى يدركوا المسلمين وينجدوهم] (4)، ولا يبعد أن يدركوهم والحرب قائمة.
هذا معنى التحيز إلى الفئة القريبة، وهؤلاء يقولون إذا بعدت الفئة، فليس التحيز إليهم استنجاداً في هذا القتال، وإنما هو تركُ القتال قصداً، وعزمٌ على الجهاد يوماً من الدهر إذا اتفق العود، ولو فتحنا هذا الباب فنسوغ مثلَه للجند بأجمعهم، وإن زادوا على عدد الكفار، وهذا يبعد على النسق الذي ذكرناه. وإذا حملنا التحيز على الاستنجاد بالفئة القريبة التي قد تلحق المعترك، فهذا قرين التحرف للقتال، وقد ذكر الله تعالى التحرف والتحيز في قَرَنٍ. هذا معنى القرب على هذه الطريقة.
ومن جوّز الهزيمة على قصد التحيز إلى الفئة البعيدة، فلا شك أنه فرار ناجز، وكان القصدُ في العَوْد بخلاف (5) المصابرة، ويبطل على هذا إطلاق القول بأن الجهاد يتعين المصابرة فيه، ولا حاصل لذكر الضِّعف والزيادة عليه.
ولكن يعترض في هذا شيء حتى لا يتسع الفتق، وهو أن تجريد هذا القصد ليس
__________
(1) في الأصل: " من اعتبره ". وما أثبتناه هو المعهود في لفظ الإمام، وهو المناسب للسياق.
(2) في الأصل: " أن ينزل " على ما يقصر على مسافة القصر.
(3) في الأصل: " فحيث ".
(4) في الأصل: " حتى يدرك المسلمين وينجدها ".
(5) بخلاف المصابرة: أي مكان المصابرة وبديلاً عنها.

(17/451)


أمراً يمكن مخادعة الله فيه، ووقوع إبرام العزم على العود في النفس من غير تردد إلا في مشيئة الله تعالى لا يمكن تكلف تحصيله، فهؤلاء -من الأصحاب- سوّغوا الهزيمة إذا وجد المنهزم في نفسه العزمَ على العود، ولا بدّ من التفريع على الطريقتين حتى يتناهى وضوح كل واحدةٍ منهما.
11339 - فأما من يجوّز الهزيمة إذا تحقق القصد في التحيز إلى فئة، فإنه يقول: لا يجب أن يشتغل بالعود والاستنجاد، ولا يتعين الاستبداد في ترشيح جمع، ولكن إذا اتفق الجمع، فهل يجب عليه الوفاء بالقصد الذي قدمه؟ هذا فيه نظر، فإن إيجابه وقد انتهى إلى أقصى الشرق أو الغرب في حكم القضاء لأمرٍ فات، وتصوير القضاء عسرٌ في الجهاد.
ومن ولّى الكفار دبره، وباء بغضب من الله، وتعرّض لأليم عقابه، لا يلزمه أن يعود إلى الجهاد، فكيف يلزم من قصد التحيز أن يحقق قصده؟ ومن نذر الجهاد، فسنذكر إن شاء الله تعالى أن النذر لا يؤثر في الجهاد على طريقة ظاهرة. وكذلك إذا نذر الصلاة على ميت، والقصد في العود لا يزيد على التصريح بالالتزام، ويعترض في هذا إشكال، وهو أن القصد إذا لم يجب الوفاء به في حكم اللغو الذي لا حكم له، فيجوز أن يقال: من فرّ متحيزاً، فحق عليه أن يعود إذا أمكن العود، ويجوز أن يقال: لا يجب ذلك، ولفظ الصيدلاني في مجموعه: " أنه متى فرّ على قصد أن يعود إلى الجهاد إذا وجد أعواناً وقوة، فليس بعاصٍ، وإنما العاصي من يفرّ على قصد ألا يعود، بل يعصي إمامه إذا أمره بالعود "، وظاهر هذا يدلّ على أن قصده لا يغير من أمره شيئاً، فإن الإمام مهما عين متمكناً من الجهاد، لزمه أن يمتثل أمره. وبالجملة المسألة محتملة، والاحتمال فيه ظاهر.
هذا إذا وقع التفريع على أن التحيز إلى الفئة البعيدة يحطّ مأثم الفرار، ووبال الهزيمة، فأما إذا حملنا التحيز على الاستنجاد بالفئة القريبة التي يمكن منها إنجاد أهل هذه المعركة، فهذا في نفسه مفهوم، وليس فيه ما يبيح الفرار، ومن آثار هذه الطريقة أنه إذا لم يكن في القرب فئة ذات نجدة، فتجب المصابرة، ويحرم الفرار. ويتسق على هذا المذهب وجوب المصابرة في معظم الصور؛ فإن

(17/452)


كون (1) الفئة القريبة ليس يعم بالنسبة إلى معركة القتال، بحيث يتوقع منها تدارك أهل المعركة.
ومما يجب الاعتناء به أنا إذا جوزنا التحيز إلى الفئة القريبة، فالذي أراه أن هذا إنما يجوز إذا استشعر المولِّي عجزاً من المسلمين مُحوجاً إلى الاستنجاد، فأما إذا لم يكن كذلك، وغلبهم غالب، فلا معنى للتحيز إلى فئة؛ إذ لا حاجة إلى التحيز، بل الحاجة إلى مصابرته أظهر، فإن انهزامه قد يُقلّ (2) الجند، فإن كان يبغي إنجاداً، فلا ينبغي أن يُنْجز خرماً رقيقاً قد لا يُتدارك.
والذي أراه أن التحيز إلى الفئة البعيدة لا بدّ فيه من هذا التفصيل؛ فإن المولِّي لو كان يغلب على الظن أن انهزامه -وإن قصد التحيز- يُقلّ الجند، ويقوي قلوبَ المشركين، وقد يؤدي الأمر إلى أن يتغشى الكفارُ المسلمين، فلا يجوز التحيز هاهنا.
والتحرّف للقتال إن جرّ مثل هذا، فلا يجوز أيضاً؛ فإن الإنسان قد يقصد التحرّف ثم لا يستمسك.
فهذا ما عندنا في هذا الفصل.
11340 - ثم قال الأصحاب: المتحرّف للقتال مقاتل، وهو. [كالواقفين] (3) أو كالمبارزين، فلا شك أنه يشرك في المغنم، والمتحيز إن ولّى، ثم انهزم الكفار قبل أن يفارق المتحيز جند الإسلام، شارك في المغنم، ولو فارق الجند مولِّياً متحيزاً، [وانفض] (4) القتال بعد انفصاله، فهل يستحق من مغنم هذا القتال؟ فعلى وجهين.
هكذا ذكره الأصحاب.
وأنا أقول: إن كان يتحيز إلى فئة بعيدة، فلا يحل تخيل ذلك؛ فإنه منهزم قطعاً قبل الاستيلاء على المغنم؛ فيستحيل أن يشترك لقصده أن يعود بعد سنة؛ فإن ذلك
__________
(1) كون: أي وجود.
(2) يقلّ: بالقاف. من أقل الشيء جعله قليلاً.
(3) في الأصل: " كالموافقين ". وهو تصحيف قريب.
(4) في الأصل: " وانفصل ".

(17/453)


العود والفئةُ بعيدة -[إن] (1) كان- لا تعلّق له بهذا القتال- فلا يجرى الوجهان إذاً إلا إذا حملنا التحيز على الاستنجاد بفئة قريبة. فاذا فارق، ولم يتصل بالفئة، فأظفر الله المسلمين، وانفصل القتال، فإشراكه في المغنم محتمل؛ لأنه من وجه ليس بمحارب وليس كالمتحرّف المداور المخادع، ومن وجهٍ هو مستنجد، ثم [يتضمن حكم] (2) هذا الجند في هذا المقام ما ذكرناه، من تحريم الفرار مع استئثار التحرف إذا لم يزد الكفار على الضعف، ولم يغلب على الظن غلبتُهم، كما تقدم تفصيله.
فأما إذا جوزنا الهزيمة، فالمصابرة أولى أم الهزيمة؟ نُظر: فإن لم يغلب على الظن أن المسلمين يُغلبون، فالمصابرة أولى، وإن جازت الهزيمة. وإن غلب على الظن أنهم يُغلبون، فالأولى الهزيمة، وترك التغرير بالأرواح، وهل يجوز الثبوت؟ نظر: فإن كان في الثبوت الهلاك المحض، من غير نكاية في الكفار، فلا يجوز. وإن لم يبعد النصرة والظفر، ولو قُتل المسلمون، فهو بعدُ نكاية ظاهرة في الكفار، ففي وجوب المصابرة وجهان. ذكرهما العراقيون، وهذا منتهى القول في ذلك.
فصل
قال: " ونصب رسول الله صلى الله عليه وسلم على أهل الطائف المنجنيق ... إلخ " (3).
11341 - هذا الفصل يستدعي تقديم القول في نساء الكفار، وصبيانهم، وإنه هل يحرم قتلهم، فنقول: قتل نساء الكفار وذراريهم من غير أن يصدر منهم قتال، ومن غير غرض ظاهرٍ في القتال محرّمٌ، وقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في بعض الغزوات: " الحقوا خالداً، وقولوا له: لا تقتل ذرية، ولا عسيفاً، ولا امرأة، ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأةً مقتولة؛ فتغير لونه، وقال لمن بالحضرة:
__________
(1) في الأصل: " وإن ".
(2) مكان كلمتين استحالت قراءتهما.
(3) ر. مختصر المزني: 5/ 185.

(17/454)


أتراها كانت تقاتل؟ " (1) فأبان أنها كانت تقتل إذا كانت تقاتل، وعند ذلك قال: " الحقوا خالداً ... " الحديث.
ثم تحريم قتل الكافرة والصبي الكافر ليس لحرمتهما؛ إذ لو كان ذلك كذلك، لوجبت الكفارة على قاتلهما؛ فإن حرمات النفوس تمتحن بوجوب الكفارة، فتحريم قتل النساء والذريّة، يتعلق بالاستصواب الراجع إلى طريق الإيالة؛ من جهة أن سبيهنّ وإرقاقَهن أجدى على المسلمين من قتلهن، والاشتغالُ بقتال الرجال أولى من الاشتغال بقتال النساء والصبيان.
وإن كان في [قتل] (2) النساء والصبيان من الكفار غرض ظاهرٌ في مقاصد القتال، نُظر: فإن لم يُقصدوا بأعيانهم، ولكن قُصدت القلعة بأسباب تعم آثارُها كالمنجنيق، وإرسال المياه، والرمي بالنيران، وما في معانيها، وكان لا يتأتى الفتح إلا كذلك، أو كان لا يتيسر إلا كذلك، والفتح بغير هذه الجهة يعسر ويطول، فيجوز التعلّق بهذه الأسباب. روي: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نصب المنجنيق على أهل الطائف " (3)، " وشن الغارة على بني المصطلق، وفيهم النسوان والصبيان " (4) فخرج
__________
(1) حديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى امرأة مقتولة فتغير لونه وقال: " أتراها كانت تقاتل " وأنه قال: " الحقوا خالداً وقولوا له: لا تقتل ذرية ... " رواه أبو داود، والنسائي، وابن ماجه، وأحمد، وابن حبان، والحاكم وصححه على شرط الشيخين ووافقه، والبيهقي، من حديث رباح بن الربيع (ر. أبو داود: الجهاد، باب في قتل النساء، ح 2669، النسائي في الكبرى: السير، باب قتل العسيف، ح 8571 - 8573، ابن ماجه: الجهاد، باب الغارة والبيات وقتل النساء والصبيان، ح 2842، أحمد: 3/ 488، ابن حبان: 4769، الحاكم: 2/ 122، البيهقي: 9/ 91، التلخيص: 4/ 192 ح 2215).
(2) في الأصل: " قتال ".
(3) حديث " نصب المنجنيق على أهل الطائف " رواه أبو داود في المراسيل عن مكحول. ورواه الترمذي فلم يذكر مكحولاً وذكره معضلاً عن أبي ثور. قال الحافظ: ووصله العقيلي من وجه آخر عن علي. (ر. المراسيل لأبي داود ص 248 ح 335، الترمذي: الأدب، باب ما جاء في الأخذ من اللحية، تحت الحديث رقم 2762. التلخيص: 4/ 196، 197 ح 2223، 2226).
(4) حديث شن الغارة على بني المصطلق متفق عليه من حديث ابنِ عمر رضي الله عنه (البخاري: العتق، باب من ملك من العرب رقيقاً فوهب وباع وجامع وفَدى وسَبى الذرية، ح 2541.=

(17/455)


من ذلك، أنه إذا ظهر الغرضُ، وانضم إليه أن النسوان غير مقصودين بأعيانهم، فلا مبالاة بهم، وقد قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: " أنبيّت بلد العدوّ وفيه النساء والصبيان "، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " هم منهم " (1).
11342 - أما إذا تعلّق غرضٌ بقتال النساء، وكانوا مقصودين، فالمقصود يتفصل بصورٍ نعدّها. ثم نذكر بعدها روابط: فإن تترسوا بصبيانهم، ونسوانهم، وهم مقيمون على مقاتلتنا، وربما يزحفون إلينا؛ فنقصدهم ولا نبالي بإصابة الأسلحة النساءَ والصبيان.
وإن كانوا يدفعون عن أنفسهم، ولا يقاتلوننا، واتخذوا النساء والصبيان تِرَسَةً وجَنَناً (2)، وكان لا يمكن قصد الرجال إلا بإصابة التِّرسَة، فقد ذكر الأصحاب قولين، واختلفوا في صيغتهما: فقال القاضي وطائفة: في جواز قتل النساء والصبيان قولان: [أحدهما - يجوز قصدهم، كما يجوز نصب المنجنيق، والثاني - المنع] (3) فإن المترّسين بهم ليسوا مقاتلين.
__________
=مسلم: الجهاد والسير، باب جواز الإغارة على الكفار الذين بلغتهم دعوة الإسلام، ح 3012).
(1) حديث " أنبيّت بلد العدو وفيه النساء " متفق عليه من حديث الصَّعْب بن جَثَّامَة (البخاري: الجهاد والسير، باب أهل الدار يبيتون فيصاب الولدان والذراري، ح 1730، مسلم: الجهاد والسير، باب جواز قتل النساء والصبيان في البيات من غير تعمد، ح 1745).
(2) التِّرسة جمع ترس، والجنن: الساتر. (معجم).
(3) ما بين المعقفين زيادة من المحقق، على ضوء المعنى والسياق، واستئناساً بما قاله الرافعي في الشرح الكبير، وتمام عبارته: " لو تترسوا بالنساء والصبيان، نظر: ... وإن لم تكن ضرورة إلى الرمي والضرب، بأن كانوا يدفعون عن أنفسهم، واحتمل الحال تركهم. فطريقان: أظهرهما أن فيه قولين: أحدهما - أنه يجوز قصدهم، كما يجوز نصب المنجنيق على القلعة، وإن كان يصيبهم، وأيضاً لو امتنعوا بما صنعوا، لا تخذوا ذلك ذريعهَ إلى تعطيل الجهاد.
والثاني - المنع؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن قتل النساء والصبيان، ونحن في غنية عنه والحالة هذه، وهذا أصح عند القفال، وكذلك حكاه الروياني -رحمه الله- ويميل إلى ترجيح الأول.
والطريق الثاني - القطع بالجواز، وردّ المنع إلى الكراهة، ويحنر هذا عن أبي إسحاق، وقد تورع في حكاية الكراهة عنه، وذكر أن عنده يستحب التوقي عنه لا غير، ومن أصحاب هذه الطريقة من قال: في الكراهية قولان " (ر. الشرح الكبير: 11/ 397، 398).

(17/456)


[والطريق الثاني - القطع بجواز] (1) إصابة النساء والصبيان تذرعاً إلى قتل المترَّسين، وفي كراهية ذلك قولان.
وإذا جمعنا الطرق، انتظم منها أقوال: أحدها - التحريم، والثاني - الجواز من غير كراهية، والثالث - رفع التحريم مع الحكم بالكراهية، ثم إن كرهنا في هذه الحالة، [فإن كانوا متحصنين في قلعة] (2) وأمكن فتح القلعة من غير سببٍ يعم النسوان والصبيان على يسير، فلا يحرم نصب المنجنيق، وفي الكراهية خلاف، ولعل الأوجه الكراهية، إذا كان الفتح متيسراً من غير هذه الجهات.
فانتظم مما ذكرناه تحريم القتل من غير غرضٍ ومقصد إذا كان القتل مقصوداً، ولا تحريم ولا كراهية إذا ظهر غرضٌ، ولم يتجرّد القصد، كما ذكرناه في نصب المنجنيق.
وإن قصدوا بالقتل وكانوا اتخذوا النساء في القتال تِرسَة، ولو تركناهم، لخفنا مكروهاً، فهاهنا لا بأس ولا كراهية، بل لو كنا نخاف مكروهاً، فيجب قتلهم.
وإن تترسوا في غيبر القتال دافعين عن أنفسهم، فهذا محلّ القولين، ثم في صيغة القولين تردد، ثم المنخول من الكلام الأقوالُ التي ذكرناها.
هذا هو الترتيب المرضي، وزاد شيخنا وصاحب التقريب مسلكاً آخر، فقال: لو تترس المتحصنون بالقلعة بالصبيان والنسوان، وتيسّر الفتح من غير رمي التِّرَسَة، ففي جواز قصد التِّرَسة قولان: أحدهما - الجواز منعاً لهم من هذه الحيلة، وأيضاً فإنهم أقاموهم أسلحة؛ فإن التِّرَسة من أقوى الأسلحة، فهم المغرِّرون بهم.
فإن قيل: ذكرتم الترس من غير قتال، ولم توضحوا تصوير ما تقولون في أصحاب القلعة إذا تترسوا، وكانوا لا يرموننا بسلاح، [هل] (3) القول يختلف؟ قلنا: نعم، هذه صورة القولين. فإن قيل: الفتح يعسرُ إذاً. قلنا: نعم، إذا كانوا لا يقاتلوننا،
__________
(1) زيادة اقتضاها السياق، وهو متصل بالحاشية قبله.
(2) زيادة لا يستقيم الكلام بدونها.
(3) في الأصل: " إن ".

(17/457)


وكان لا يتأتى الفتح إلا بقتل التِّرَسة، فنجاوز هذه القلعة، وتصوير هذا عسر؛ فإنهم إذا كانوا يقاتلون وراء التِّرَسة؛ فإنهم يقتحمون، وإن كانوا يقاتلون وراء التِّرسة، فلا عصام حينئذٍ، فقد اجتمع في هذه الصورة طريقتان متضادتان: إحداهما- أنهم إذا كانوا لا يقاتلون، فهل يجوز قتل النساء والصبيان؟ فعلى قولين. وإن كان الفتح لا يتأتى إلا بقتلهم. هذه طريقة. والأخرى على مضادتها، وهي أنا هل نقتلهم إذا كان الفتح يتأتى من غير أن يقتلوا؟ فعلى قولين. فهذا مجموع القولين في اختلاف الطرق.
وقد تمهد أصل المذهب في معنى تحريم قتل النساء والصبيان.
11343 - ثم إن الأصحاب ذكروا على الاتصال بهذا الفصل كون المسلمين بين أظهر الكفار أو في قلاعهم، والتفصيل فيه إذا تترسوا بأسارى المسلمين، والغرض من هذا يبين بذكر صور سبقت أمثالها في أطفال المشركين ونسائهم:
فإن كان في القلعة التي نبتغي فتحها مسلم أو مسلمون، وكان فتحها لا يتأتى إلا بنصب المنجنيق، والأسبابِ العامة، نُظر: فإن كانت هذه الأسباب تنال المسلمين في القلعة لا محالة، فالوجه القطع بتحريم التمسك بهذه الأسباب.
وإن كان فيهم مسلم أو أعداد قليلون، وكان يغلب على الظن سلامتهم إذا كانوا متمكنين من التوقي، ففي جواز نصب المنجنيق والحالة هذه قولان: أحدهما - المنع لمكان المسلم، وخيفةِ إفضاء الرمي إلى إهلاكه، وزوالُ الدنيا أهون عند الله من دم مسلم. والثاني - أنه يجوز لغلبة الظن في السلامة والدارُ دار حرب، والكفار لا يعدِمون أسرى من المسلمين يبدِّدونهم (1) في القلاع، فيصير ذلك ذريعة إلى التحصّن عن جنود الإسلام.
هذا تفصيل القول فيه إذا لم يكن المسلم معرّضاً لأسلحتنا بمرأى منا ومسمع.
11344 - وأما إذا تترس كافرٌ بمسلم، نُظر. فإن كان المتترس لا يبغي مقاتلتَنا، وإنما يبغي الدفع، فإن أمكن قصده مع توقي المسلم، قُصد برمحٍ أو سيفٍ، أو
__________
(1) يبددونهم: يفرّقونهم.

(17/458)


غيرهما، مما يتمكن فيه الإنسان من وضعه حيث يشاء، وفي هذا احتراز عن السهم؛ فإنه غير موثوق به، وإن كان لا يتأتى قصد الكافر إلا بإصابة المسلم، فلا يحل إصابة المسلم، وإن كان الغرض مَنْ وراءه. هذا إذا كان المتّرِس غيرَ مقاتل.
وإن كان يقاتل وراء المسلم الذي يتّرس به، وعلم الواقف من المسلمين بإزائه أنه لو لم يقصد الترس، لزحف إليه الكافر، وأهلكه، فلا يحل -مع هذا التصوير- إصابةُ المسلم، والغايةُ المحذورة أن يقتل الكافر المسلمَ، وخوفُ الإنسان على نفسه لا يسلّط على قتل مسلم غيرِ جانٍ؛ ولهذا يحرم على المكرَه على القتل أن يقتل، فلو قَتَلَ في حالة [الترس كما] (1) صورنا، باء بالإثم.
والأصح أن في استيجابه القصاص قولين، كالقولين المذكورين في المكرَه، ففي أصحابنا من قال: يجب القصاص على الذي قتل المسلم [الذي] (2) يتّرس الكافر به قولاً واحداً، لأن فعل الكافر محطوط مرفوع من البَيْن؛ من جهة أن الخطاب منقطع عنه، فكان قتلُ المسلمِ المسلمَ مع ظهور الخوف بمثابة قتل المضطر مسلماً ليأكله؛ فإن السبب منحصر في القتل. والأصح طريقة القولين، ومن قطع بوجوب القصاص؛ فإنه يقول لا محالة: لو أكره حربيٌّ مسلماً على قتل مسلم يجب القصاص على المكرَه قولاً واحداً، وهذا بعيدٌ لا أصل له، ولا تعويل عليه.
11345 - وتمام البيان في هذا يتعلّق بشيء ذكره العراقيون وذلك أنهم قالوا: التترس بالمسلمين إذا لم يكن عند التقاء الزحفين، فالتفصيل فيه كما ذكرناه، والصفوف قارّة في مقارّها، فأما إذا التف الصف بالصف، فتترس الكفار بأسرى المسلمين، وكان لا يتأتى مقاومة الكفار ما لم نُصب أسرى المسلمين، ففي جواز الإصابة منهم وجهان، ذكرهما العراقيون، وهذا يحتاج في تصويره إلى مزيد كشف، فما ذكروه فيه إذا كان الانكفاف عن الأسرى يُفضي إلى أن يُصطلم جند الإسلام، ثم يختل بانفلالهم ركنٌ عظيم، فهذا يتعلق بأمرٍ كلي، ولا يبعد أن نُجري الأمر في
__________
(1) في الأصل: " الضرورة بعدما ".
(2) سقطت من الأصل.

(17/459)


أشخاصٍ من أسرى المسلمين على مساهلة وتهوين؛ إذ لو لم نفعل هذا، لجرّت الحالة خَرْماً عظيماً في أمرٍ كلي، وحفظُ الكليات أولى من حفظ الجزئيات.
فانتهض مما ذكرناه قسمان في التقسيم الأول: أحدهما - أن يكون المسلمون في القلاع، وقد فصلنا ذلك على بيان شافٍ، والقسم الثاني - فرضُ قتل المسلم إذا تترس به الكافر، وهذا ينقسم إلى فرض محصورين من الغزاة في مقابلة مترسين، ولو هلك الغزاة، لم ينخرم أمرٌ كلي، وإنما هو إتلاف أشخاص، وإبقاء أشخاص، فلا يجوز إصابة المسلمين على ما تفصّل، والآخر أن يُفرض التترس عند التفاف الزحفين، وكان بحيث لو ترك التعرض للتِّرسة، لخيف عليه اصطلام [الجند] (1) وانخرام أمر كلي، فهذا موضع التردد في جواز قصد المسلم، كما حكيناه عن العراقيين.
وقد نجزت قواعد الفصل، وأعاد الأئمة في هذا المقام فصولاً قدمناها في الجنايات والديات، ومهدنا أصولها، ونحن نجتنب المعادَ جهدنا، ولكني أرى إعادة تلك الفصول لترتيبٍ حسنٍ ألفيناه لصاحب التقريب.
11346 - فنقول: ذهب صاحب التقريب إلى أن الغازي إذا رمى سهماً إلى صف الكفار في دار الحرب، فأصاب سهمُه مسلماً: نُظر. فإن لم يَعرِف أن فيهم مسلماً، فإذا فيهم مسلم، ولم يسدّد سهمَه إليه، ولكن [حاد] (2) السهم، ومال إليه، فأهلكه، فلا تجب الدية في هذه الصورة، وتجب الكفارة.
ولو علم أن فيهم مسلماً على الجملة، وسدّد سهمه نحوه (3)، [فأطنه] (4)، فمات، قال صاحب التقريب: تجب الدية في هذه الصورة قولاً واحداً، ولا يجب القود. ولو علم أن فيهم مسلماً ولم يقصده في عينه، وإنما قصد غيره، ولكن أصابه
__________
(1) في الأصل: " الحد ".
(2) في الأصل: " صاب ". وهو عكس المعنى المقصود.
(3) وهو لا يعلم أنه المسلم الذي في صفهم.
(4) في الأصل: " فطنّه "، ولم أجده متعدياً إلا بالهمزة. وأطنَّه: أي قطع ساقه (قاموس ومعجم) وهنا بمعنى قتله.

(17/460)


سهمه، ومِنْ قَصْده (1) الكفار، فتجب الرقبة، وفي وجوب الدية قولان في هذه الصورة. هذا ترتيب صاحب التقريب، وهو حسن.
فإن قيل: أليس ذكر الأئمة أن من قتل مسلماً على زي مشرك في دار الحرب، فلا قود، وفي لزوم الدية قولان، وقد قطع صاحب التقريب أنه إذا قصده فقتله، يلتزم الدية؟ قلنا: يمكن أن يقال: لا اختلاف بين الطرق في ذلك، والترتيب أن نقول: إذا اجتمع شيئان (2)، فتجب الدية قولاً واحداً، وإن فُقدا، لم تجب قولاً واحداً، وإن فقد أحدهما دون الآخر، ففي وجوب الدية قولان.
وبيان ذلك أنه إن علم أن فيهم مسلماً، واجتمع مع ذلك أنه قصده، وقتله، فتجب الدية قولاً واحداً، وإن حسبه كافراً. ولو عُدم الشيئان جميعاً، فلم يعلم أن فيهم مسلماً، ولا قصد عينه، ولكن أخطأ السهم إليه، ففي هذه الصورة لا تجب الدية قولاً واحداً، وإن قصده، فقتله جاهلاً، ولم يعلم أن فيهم مسلماً على الجملة، ففي وجوب الدية قولان؛ فإنه وُجد أحد الشيئين، وهو قصد القتل، وعُدم الثاني؛ فإنه لم يعلم أن فيهم مسلماً، وبمثله لو علم أن فيهم مسلماً، ولم يقصده في عينه، ولكن أخطأ السهم، ففي لزوم الدية قولان لوجود أحد الشيئين، وهو علمه أن فيهم مسلماً، ولم يقصده في عينه.
وما ذكره الأئمة من القولين فيه إذا قتل شخصاً مقصوداً، يمكن حمله على ما إذا لم يعلم أن فيهم مسلماً، فيتجرد القصد، فهو أحد الشيئين. هذا بيان هذه الطريقة.
ولكن ذكر جماعةٌ من الأصحاب قولين فيمن قتل مسلماً ظنه كافراً على زي الكفار في لزوم الدية، ودلّ كلامهم على أنه لا فصل بين أن يعلم أن فيهم مسلماً أو لا يعلم، وهذا فصلٌ قد قدّمته، ولكني أحببتُ إعادته للضبط الذي أشرنا إليه.
ثم كل من قتل شخصاً خطأ، فالدية على عاقلته، فإن لم يكن في القتل خطأ، ولكن درأنا عنه القصاص، لا لمعنًى في الكفاءة، ولكن لجهل كما صورناه، فإذا
__________
(1) المعنى: وكان قصده الكفار.
(2) شيئان: هما: علمه بوجود المسلم والثاني قصده بالقتل (من غير علمٍ بأنه المسلم طبعاً).

(17/461)


ألزمناه الدية، فهي عليه، أو على عاقلته؟ فعلى قولين، فإذا قتل مسلماً في دار الحرب على زي مشرك، وظنه مشركاً، أو قتل الجلاد من استوجب القصاص، ثم وضح أن مستحق القصاص كان عَفَا عن القصاص، فإذا ألزمنا الدية على تفصيل فيه، فهي عليه أم على العاقلة؟ فعلى قولين، وهذا يطّرد في كل قتلٍ لا خطأ في عينه، وإنما سبب اندراء القصاص ظنٌ وحسبان في (1) القاتل.
فصل
قال: " فأما قطع نخيلهم، وإحراقُ أموالهم ... إلى آخره " (2).
11347 - إذا أراد المسلمون قطع النخيل التي في دار الكفر، وإحراق الأموال، نُظر: فإن كانوا يرجون أن تصير للمسلمين، لم يجز. وإن بعد الرجاء فيه، جاز ذلك، ولكن على شرط ألاّ يلهيَهم ذلك عن الاشتغال بالأهم، وهو القتال والتشمير لوجوه الحزم فيه، وقد روي " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قطع نخيلاً بخيبرَ والطائف " (3)، " وأمر بقطع نخيل بني النضير، فنادى واحدٌ من الحصن: إن هذا فسادٌ يا محمد، وإنك تنهى عن الفساد، فتركه " (4).
وفي هذا الفصل استدراك؛ فإن اليأس عن مصير الأشجار للمسلمين غير ممكن، حتى يخصص القطعُ بها، وقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قطع نخيلاً بخيبر والطائف، ثم صارت الناحيتان في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم للمسلمين، فقد يغمُض على ذلك إطلاق القول بأن قطع النخيل لا يجوز حيث نرجو أن
__________
(1) في: مرادفة لـ (من)، قاله ابن هشام في المغني.
(2) ر. المختصر: 5/ 185. وهذا معنى كلام الشافعي وليس لفظه.
(3) خبر قطع النخيل بالطائف رواه البيهقي عن عروة بن الزبير عن موسى بن عقبة (9/ 84) وقال الحافظ: رواه ابن إسحاق في المغازي (التلخيص: 4/ 207 ح 2254). وخبر قطع نخيل خيبر رواه الشافعي في الأم (4/ 141، 244).
(4) حديث " قطع نخيل بني النضير، وقولهم: يا محمد هذا فساد .. " أخرجه البيهقي في دلائل النبوة (3/ 355) عن مقاتل بن حيان، وابن هشام في السيرة عن ابن إسحاق 3/ 144، وأخرجه السيوطي في الدرّ المنثور وعزاه لابن مردويه عن ابن عباس (6/ 278).

(17/462)


يصير للمسلمين؛ فإنها ليست مملوكة لنا في الحال، وليست لها حرمة الحيوانات، فالكراهية ألْيق بهذا المقام من التحريم. والله أعلم.
ويمكن أن يقال: ما يتعلّق بالاستصواب، ويرتبط برأي الإمام، فما يراه صواباً، لا يجوز لنا مخالفته، كما لا يترك الولي ما يظنه غبطة للطفل. وفي المسألة احتمال على حالٍ. والعلم عند الله تعالى.
11348 - وإن أدركونا، وفي أيدينا نساؤهم وصبيانهم، وعلمنا أنهم يستردونها (1)، فلا يجوز لنا أن نقتلهم لنغيظهم، وفي مثل هذا المقام، تحرق الأموال، ويقطع النخيل، ولا نبالي.
ثم قال الأئمة: كما لا يحلّ لنا قتل النساء والولدان إذا أدركونا، فكذلك لا يحل لنا قتل البهائم رعايةً لحرمة الروح بخلاف الأموال والأشجار المثمرة وغير المثمرة، ويجوز عقر الفرس تحت الكافر؛ فإنه قد لا نتوصل إلى الكافر إلا بذلك، والفرس أداتُه وآلته، والأخبار في عقر الأفراس تحت الأبطال مشهورة.
فصل
قال: " وإنما تركنا قتل الرهبان اتباعاً لأبي بكر الصديق ... إلى آخره " (2).
11349 - أصحاب الصوامع [والبيَع] (3) والرهابين والشيوخ الذين لا رأي لهم، والزمنى والعسفاء، وهم الأجراء والحرّاثون المشتغلون بشغلهم في الحراثة هل يجوز قتلهم؟ فعلى قولين: أحدهما - لا يجوز. وبه قال أبو حنيفة (4) في أظهر الروايتين عنه. والقول الثاني - يجوز قتلهم.
__________
(1) كذا. والتأويل قريب.
(2) ر. مختصر المزني: 5/ 186.
(3) مكان كلمة استحالت قراءتها (انظر صورتها).
(4) ر. مختصر الطحاوي: 283، مختصر اختلاف العلماء: 3/ 455 مسألة 1610، المبسوط: 10/ 29، 64، فتح القدير: 5/ 201، 202، تحفة الفقهاء: 3/ 295.

(17/463)


توجيه القولين: من منع القتل، احتج بما روينا: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " الحقوا خالداً، وقولوا له: لا يقتل عسيفاً ولا امرأة "؛ ولأن هؤلاء ليسوا من أهل القتال، فكانوا كالنسوان والصبيان.
ومن قال: إنهم مقتولون، احتج بقوله صلى الله عليه وسلم: " اقتلوا شيوخ المشركلين، واستحيوا شَرْخَهم " (1) والشرخ الشباب.
ثم اختلف أئمتنا في وجه تنزيل القولين في الشيخ، فذهب المحققون إلى أنهما يجريان في الشيخ الفاني الذي لا يرجع إلى بطش، ولا إلى رأي، فأما من كان صاحب رأي، فهو مقتول قولاً واحداً. ومن أصحابنا من أجرى القولين في الشيخ ذي الرأي، إذا لم يكن من أهل القتال، وهذه الطريقة ضعيفة. ثم لا ينتهي صاحبها إلى الانكفاف عن قتل شيخ حضر الواقعة، وكان يدبّر الجند أو يَصلُح (2) له، فمثل هذا مقتول، ويدلّ عليه قصة دريد بن الصِّمة. وقيل: إنه كان ابنَ مائة وخمسين سنة، فقتل في غزوة أَوْطاس (3). فأما إذا حضر الواقعة شيخ لا يرجع إلى بطش، ولا إلى رأي، فيجوز إجراء القولين فيه، ولا يمتنع القطع بقتله؛ لأنه بحضوره، ووقوفه مقاتلٌ.
11350 - ثم إن قلنا: هؤلاء مقتولون، فلا شك أن سبيلهم سبيل المقاتلين، فتغنم أموالهم، وتسبي ذراريهم، ونساؤهم.
وإن قلنا: لا يقتلون، فكيف سبيل الرق فيهم؟ حاصل ما ذكره الأئمة في التفريع على هذا القول ثلاثة أوجه: أحدها - أنهم يَرِقون بنفس السبي كالنساء والذراري.
والثاني - أنهم لا يَرِقون بنفس الوقوع في الأسر كالمقاتلة من الرجال، ولكن للإمام
__________
(1) حديث " اقتلوا شيوخ المشركين واستحيوا شرخهم " رواه أبو داود، والترمذي وقال: حسن صحيح غريب، وأحمد، والبيهقي. وقد ضعفه الألباني (ر. أبو داود: الجهاد، باب في قتل النساء، ح2670، الترمذي: السير، باب ما جاء في النزول على الحكم، ح 1583، أحمد: 5/ 12، 20، البيهقي: 9/ 91، ضعيف سنن أبي داود: ح2670، ضعيف سنن الترمذي: ح 1648 التلخيص: 4/ 193 ح 2217)
(2) يصلح له: أي يصلح للتدبير. والمعنى سواء كان يمارس التدبير فعلاً أو يصلح له.
(3) حديث مقتل دريد بن الصمة. متفق عليه من حديث أبي موسى الأشعري (ر. اللؤلؤ والمرجان: 3/ 169 ح 1624).

(17/464)


إرقاقهم، وليس له قتلهم، والوجه الثالث - أنهم لا يَرِقون ولا يُستَرقَّون، وكأن هذا القائل يلتفت إلى ما يقتضي الاحترام فيهم. وهذا سخيفٌ لا أصل له؛ إذ ليس للعسيف ما يوجب إجلالَ قدره؛ فإذا كانت النسوة -على أنهن لا يقتلن- يجري الرّق عليهن، فالامتناع من إجراء الرق على العسفان بعيد.
وإن ظن ظانٌّ أن منع جريان الرق يختص بالرهابنة، فهذا فيه تعظيم الكفر، ولا سبيل إليه، [في حق المذهب، وهو مُمعنٌ في ترفيه] (1) الكفر وقد يشير فحوى قوله تعالى: {لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ} [الحج: 40]، إلى ما يقرب من معنى الاحترام والله أعلم.
ثم إن كان يجري هذا في الرهابنة، فلا وجه لطرده في العسفان.
ثم إن قلنا: يجري الرق عن (2) هؤلاء، فتسبى نساؤهم وذراريهم؛ فإن إجراء الرق عليهم تملُّك رقابهم، فإذا لم يبعد هذا، لم يبعد تملك أموالهم ونسائهم وذراريهم.
وإن قلنا: لا يجري الرق عليهم، فهل تغنم أموالهم؟ فعلى قولين: أحدهما - لا تغنم، وهذا ضعيف سخيف، مستنده تعظيم الرّهابنة، وتقدير [الشرك جهةً] (3) حاقنة عاصمة، ومن كثر صغوه إلى هذه الجهة، فإنما يقترب من ورطة مُخْطِرة، فالأولى الميل إلى إخراجهم من أحزاب المقاتلة، وهذا يجب ألا يمنعَ اغتنامَ الأموال؛ فإن أموال النساء والصبيان مغتنمة، والحقُّ أَوْلى متّبع، وهذا [تخبُّط جاء من] (4) الامتناع من إرقاقهم، ولو ثبت ذلك -وهيهات- فلا محمل [له] (5) إلا الاحترام، ويجري على قياسه المنع من اغتنام الأموال على التضيق. وذكر القاضي في بعض التعاليق قولاً: إن
__________
(1) عبارة الأصل مضطربة وغير مستقيمة، فقد جاءت هكذا: " ولا سبيل إليه والترتيب معهر في تربية الكفر " (انظر صورتها) والمثبت من (البسيط: 5/ورقة: 159 يمين).
(2) عن بمعنى (على) قاله ابن هشام في المغني، وعليه قوله تعالى: {فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ} [محمد: 38].
(3) في الأصل: " الترتيب دمه " والمثبت مكانه من تصرف المحقق.
(4) عبارة الأصل: " وهذا ـحـ ـط إلى من الامتناع من إرقاقهم ".
(5) زيادة من المحقق.

(17/465)


ذراريهم لا تسبى، ونساؤهم يسبون، ولا يكاد يتضح الفرق (1) بين الذراري والنساء.
وكان شيخنا يذكر طريقين في السُّوقة الذين لا يتعاطَوْن الأسلحة، ولا يمارسون القتال، وينزلهم منزلة العسفاء، وهذا وإن كان يتجه، فلم يتعرّض لذكره أحد من الأئمة، وإذا طردنا القولين فيهم، فالمقتولون من الكفار الأقلون، ومن قال في التفريع على القولين: لا تغنم أموال السوقة، فقد قرب من خرق الإجماع. هذا منتهى الفصل.
فصل
11351 - المسلم إذا نكح حربية في دار الحرب، ففي استرقاقها وجهان مشهوران: أحدهما - أنه لا تسترق لحرمة المسلم، ولما له من العصمة، والعُلقة فيها. والوجه الثاني - أنها مسترقة؛ لأنها حربية، والرق يرد على الرقبة، وحق المستمتع يتعلّق بالمنفعة. فلا تَضاد، فإن الموردين متغايران.
ولو أعتق المسلم عبداً كافراً والتحق بدار الحرب، وعليه ولاء المسلم، فالذي ذهب إليه الأكثرون أنه لا يسترق؛ فإن في استرقاقه قطع ولاء المسلم عنه، والولاء إذا ثبت، لزم، فلم يقبل القطع، والنكاح عرضة للفسخ، فلا يمتنع انتفاؤه بسبب الاسترقاء، كما سنوضح ذلك في التفريع. إن شاء الله.
وذكر صاحب التقريب أن من أصحابنا من أجرى الوجهين في استرقاق مُعتَق المسلم، وهذا غريب.
وكان شيخنا يقول: الزوجة الحربية للذمي مسبية، ومعتَقُه لو التحق بدار الحرب هل يُسبى؟ فعلى وجهين. ومعتَق المسلم لا يُسبى، وزوجته هل تسبى؟ فعلى وجهين، ويُثبت الخلافَ في الزوجية والولاء جميعاً.
ثم ما ذهب إليه الأصحاب، واختاره صاحب التقريب لنفسه أن زوجة المسلم إذا
__________
(1) أشار الغزالي إلى الفرق بين الذراري والنساء، فقال: " لأن ذراريهم كأجزائهم " (ر. البسيط: 5/ 156 يمين).

(17/466)


سبيت، انقطع النكاح بجريان الرّق على الزوجة، كما لو سبيت زوجة الحربي؛ فإن الإقهار بالإرقاق قطع الحقوق عن المسترقَّة، ولا فرق في ذلك بين زوجة الحربي وزوجة المسلم.
وحكى صاحب التقريب وجهاً ضعيفاً أن زوجة المسلم إذا سبيت، انقطع النكاح بجريان الرّق على الزوجة، كما لو سبيت زوجة الحربي؛ فإن الإقهار بالإرقاق قطع الحقوق عن المسترقة، ولا فرق في ذلك بين زوجة الحربي وزوجة المسلم.
وحكى صاحب التقريب وجهاً ضعيفاً أن زوجة المسلم إذا سبيت، تصير رقيقة بالسبي، وتبقى منكوحة للمسلم، وزعم هذا القائل أن ذلك ممكن، وإذا أمكن الجمع بين ثبوت الرق، وبين استبقاء النكاح، وجب القضاء بالأمرين. نقل هذا الوجهَ وزيّفه، ونسب الأصحابُ إليه، [اختيارَ هذا الوجه الضعيف] (1)، وما أنصفوه؛ فإنه وافق في تضعيفه، واختار ما عليه الأصحاب، والخللُ في كتابه أنه لم ينبه على وجه التزييف.
[وقال] (2) المحققون: لا تسبى إلا كافرة، والأمة الكتابية يستحيل نكاح المسلم عليها دواماً وابتداء، وهذا متجه لا دفع له، إلا أن يشترط صاحب هذا الوجه أن يزول الرق في مدة العدّة، إذا كانت مدخولاً بها، كما يشترط زوال الردّة في العدّة، إذا تقيد النكاح بالمسيس، ولم يصر إلى اشتراط هذا صاحب هذا الوجه، بل زعم أن النكاح يستمر، وهذا يبعد، وما يتجه في تضعيف هذا الوجه ما ذكرناه من أن الإرقاق اقتهارٌ يقطع كلَّ استحقاق. وقد ينفصل صاحب هذا الوجه عن زوجة الحربي، فإن الحربي مُقهَر في جميع أملاكه بخلاف المسلم، وهذا لا بأس به، إن اشترط زوال الرق في العدّة، وإذا سُبي الزوج والزوجة الكافران انْبَتَّ النكاح، وكذلك إذا سبي أحدهما، لم يختلف أصحابنا في شيء من ذلك.
وإنما حكى صاحب التقريب الوجه الغريبَ في زوجة المسلم؛ من حيث إنه غير مغلوب على حقه، وغائلة ذلك الوجه ما نبهنا عليه.
__________
(1) في الأصل: " واختيار هذا الوجه ضعيف ".
(2) في الأصل: " فقال ".

(17/467)


11352 - ولو غنمنا زوجاً رقيقاً وزوجة رقيقة، كانا رقيقين في دار الحرب، فهل يرتفع النكاح بينهما؟ ذكر الأصحاب وجهين مشهورين والذي يبتدره الفقيه ارتضاءً واختياراً إبقاء النكاح؛ فإنّ تبدّل الملك عليهما بالاغتنام بمثابة تبدل الملك على الزوجين الرقيقين المسلمين بالبيع والإرث وغيرهما.
فإن قيل: فما وجه قول من يقول بارتفاع النكاح؟ قلنا: وجهه أن سيّد الأمة يَغْلِبُ قهراً على رقبة الأَمَة، ويمنعه بُضعها، وكان يترتب استباحة الزوج على ملك المولى، والانتقال بالأسباب الناقلة في الإسلام تجري على مذهب الخلافة، والسبيُ في حكم الإعدام للأول، وإخراجه من البَيْن، وليس القاهرُ بالاغتنام والسبي خلفاً للمقهور.
والأصح الوجه الأول.
ثم قال المحققون: لو كان الزوج والزوجة الرقيقان لأهل الحرب مسلمين، فغُنما، فالوجهان يجريان في انفساخ النكاح، كما ذكرناه.
ورأيت الأئمة قاطعين بأن المسلم إذا استأجر داراً استئجاراً صحيحاً من دور أهل الحرب، ثم غُنمت تلك الدار، وجرى عليها ملك الاغتنام قهراً، فحق إجارة المسلم لا ينقطع، وهذا يعضد الوجه الغريب الذي حكاه صاحب التقريب في منكوحة المسلم، ولكن المنكوحة تمتاز عن الدار المستأجرة بما ذكرناه من امتناع النكاح دواماً وابتداء على الأمة الكتابية، كما سبق تقريره، ومثل هذا لا يتحقق في الإجارة.
هكذا ذكره العراقيون.
وإذا قلنا: اغتنام االزوجين الرقيقين يوجب انقطاع النكاح بينهما، فلا يبعد أن نحكم بانفساخ الإجارة إذا غنمت الدار تحقيقاً لما ذكرناه من امتياز الملك بالقهر عن غيره من جهات التناقل.
11353 - والذي يختلج في نفس الفقيه أن المسلم إذا نكح حربية، فقد أمّنها، والأمان يثبت العصمة، فكيف يجوز سبيها؟ [وهذا] (1) لا حقيقة له؛ فإن الأمان إن صح يستحيل أن يَثبُت مؤبداً، كما سنصفه -إن شاء الله تعالى- في قاعدة الأمان على
__________
(1) في الأصل: " فهذا ".

(17/468)


الاتصال بهذا- والنكاح مؤبدٌ، فإن ردّ السائل سؤاله إلى أنه هل يجوز سبي زوجة المسلم على الاتصال بالنكاح؟ أم تترك ولا تسبى إلى المدة التي يجوز امتداد الأمان إليها؟ قلنا: لا سبيل إلى هذا التفصيل؛ فإن من ينكح زوجة ليس يبغي عقد الأمان لها، وإنما يبغي له منكوحة أبداً، وليس في نكاحه إياها أمان إلى أمدٍ مع مزيد، بل القصد في النكاح على نسقٍ واحد، فإذا كان لا يمتنع السبي بعد مدة، فلا يمتنع السبي على الاتصال، وقد انتجز الغرض من الفصل.
فصل
قال: " وإذا أمّنهم مسلم حُرّ بالغ ... إلى آخره " (1).
11354 - الأمان نوعان: عام وخاص، والعام منه يختص بالولاة، وهو عقد الأمان لأهل بلدةٍ، أو ناحيةٍ، وسيأتي تفصيل ذلك في الباب المعقود لعقد المهادنات، إن شاء الله تعالى.
وأما الأمان الخاص، فمعناه عقد الأمان لشخص أو أشخاصٍ معدودين على ما سنقرر -إن شاء الله تعالى- في ذلك ضبطاً. وهذا مقصود الفصل، فنذكر من يصح أمانه، ثم نذكر حكمَ الأمان، ثم نذكر ما يحصل به الأمان، ثم نذكر أمد الأمان.
فأما من يصحّ منه عقد الأمان، فهو المسلم المكلف، فالإسلام لا بدّ منه لينفذ تصرّفه على المسلمين. والمكلف ذكرناه لتصحيح العبارة (2)، ويصحّ الأمان من العبد المسلم، سواء أذن له مولاه أو لم يأذن، ومعتمد المذهب الذي عليه تنشأ المسائل والتفاريع أن [من] (3) كان من أهل الذب عن الإسلام بالقتال، فهو من أهل الأمان، إذا صحت عبارته، أو نفذت إشارته، والعبد من أهل القتال، ولكنه مستوعَب المنافع لحق المولى، ولو استمكن من تردية كافرٍ من شاهق في أثناء تردداته في مآرب السيد وحاجاته، فلا حرج عليه، وإذا وطىء الكفار بلاد الإسلام، فقد
__________
(1) ر. المختصر: 5/ 187.
(2) المعنى أن غير المكلف لا تصح عبارته.
(3) ساقطة من الأصل.

(17/469)


نقول: يتعين على العبد الكائن في الناحية أن يستفرغ وُسعه في الذَّب.
ومما تجب الإحاطة به في تحقيق الأمان أن الكافر يستفيد أماناً من المسلم الذي أمَّنه، وأَمَنة المسلم أيضاً. والأمان نقيض الإرهاب بالقتال، ولو ترك القتال -إذا لم يكن متعيناً-[فالحاجات] (1) تمس إلى التردّدات في أقطار ديار الكفار إلى الأمان. ثم إذا انتظم الأمان، اقتضى ذلك العموم، فإن من يحرم على مسلم قتله، فالمسلمون أجمعون بمثابته، والمحجور عليه لسفه كالمطلق. والمجنون ليس من أهل الحل والعقد، والذي قطع به الأئمة أن الصبيّ كالمجنون في أنه لا يصح منه عقد الأمان.
وذكر بعض المصنفين أن الأمان يصح [من] (2) الصبي المميّز؛ فإنه لا ضرار فيه، ولا تبعة، فكان كالوصية والتدبير، وهذا بعيدٌ لا أصل له.
والمرأة كالرجل في صحة الأمان، فإنها على الجملة -وإن كانت لا تقاتل- من أهل إعانة الرجال على القتال بالرأي والمال. وكذلك القول في الزَّمْنى والشيوخ. وقد أجارت زينب زوجَها أبا العاص، وذكرت ذلك لما تحلل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صلاة الصبح، فقال صلى الله عليه وسلم: " أجرنا من أجرت " (3). هذا تمام القول فيمن يكون من أهل الأمان.
11355 - فأما حكم الأمان، فالذي انعقد له الأمان لا يُتعرض له، وللمال الذي معه، وأما أمواله الغائبة عنه، فمطلق الأمان لا يتضمن عصمتَها، فتغنم حيث تصادَف، وأما الأموال التي معه، فإن جرى لها تعرّض في الأمان، اشتمل عليها الأمان، وإن لم يجر لها تعرّض، وإنما قال المسلم: أمنتك، فالرأي الظاهر اختصاص الأمان بحقن دمه وعصمة رقبته من السبي، والأسر. وليس هذا كعقد
__________
(1) في الأصل: " والحاجات ".
(2) في الأصل: " في ".
(3) حديث إجارة زينب لزوجها العاص بن الربيع رواه أحمد وأبو داود والحاكم والبيهقي من حديث عائشة رضي الله عنها (ر. المسند: 6/ 276. أبو داود: الجهاد، باب في فداء الأسير بالمال، ح 2962، الحاكم 3/ 236، البيهفي: 6/ 322، التلخيص: 4/ 203 ح 2244). وقد حسنه الألباني في الإرواء: 5/ 43 ح 1216.

(17/470)


الذمة؛ فإن مطلقه يتضمّن عصمة الأموال، كما سيأتي ذلك مشروحاً -إن شاء الله تعالى- في كتاب الجزية.
وشبّبَ بعض أصحابنا بأن الأمان يتناول الأموال التي هي مع الكافر، وسلك فيه مسلك التقرير، فقال: يبعد أن يجوز سلب ثياب من أمّنه مسلم، وإذا بعد ذلك، فالمال الذي في رَحْله بمثابة الثياب التي على بدنه، ولا خلاف في تصحيح عقد الأمان مع التصريح بالتخصيص بالدم والنفس، والذمةُ لا تعقد كذلك، كما سيأتي، إن شاء الله عزوجل.
وهذا التردد يرجع إلى حكم اللفظ وما يقتضيه إطلاق الأمان، والأصح أن مطلَقَه لا يتناول المال الذي معه، وأجرى الأئمة هذا التردّد في زوجاته، وذراريه الذين هم معه، ثم إذا حُقن دمُه بالأمان، فلو قتله قاتل، فالوجه عندنا القطع بأنه يضمن [بما] (1) يُضمن به المعاهَد والذمي، وليس حقن دم المؤمّن بمثابة تحريم قتل الحربية؛ فإن الحربية ذاتُ الشرع دفع القتلَ عنها في حالٍ، وبسط الأيدي إلى سبيها وإرقاقها، فليس ارتفاع القتل عنها للأمان. فهذا حكم الأمان.
11356 - [فأما] (2) ما يصح به الأمان، فإن جرى لفظٌ مشعر، فذاك، وإن أشار مسلم، بإثبات الأمان لكافر، وأفهم بإشارته، جرت الإشارة مجرى العبارة -باتفاق الأصحاب- مع القدرة على العبارة. وهذا مبناه على الاتساع، وقد تمس الحاجة إلى إبدال العبارة بالإشارة، أو إلى الاكتفاء بالكتابة، ثم لم يُخصص هذا بقيام الحاجة، حتى يجري مجرى العلّة المطّردة المنعكسة.
ومما يجب الاعتناء به أن انعقاد الأمان يستدعي علمَ المؤمَّن به وقبوله، حتى لو أمّن المسلمُ كافراً، وهو جاهل بالعقد، لجاز لكل من ظفر به قتله واسترقاقه، ولو علم بإيجاب (3) عقد الأمان له، فلم يقبله، وردّ، فلا يصحّ الأمان، فإن قبله، انعقد الأمان حينئذٍ.
__________
(1) زيادة من المحقق.
(2) في الأصل: " فهذا ".
(3) بإيجاب: أي الإيجاب المقابل للقبول.

(17/471)


ولو جرى الأمان من مسلم، ولم يبلغ الخبر الكافر، فابتدره هذا الذي أمّنه، جاز؛ فإن الأمان لا استقلال له قبل بلوغ الخبر.
وإن خاطب كافراً بأمانٍ، ولم يقبل ولم يردّ، فهذا فيه تردّد (1)، والرأي الظاهر أنه لا بدّ من قبوله، ثم لا يشترط أن يعبر عن القبول، بل لو أشار له، أو بدت عليه مخايل القبول، كفى ذلك؛ فإن أصل الأمان إذا كان لا يفتقر إلى القول ممن هو من أهل القول، فالقبول في معناه.
ثم الأمان لا يلزم الكافر وإن قبله؛ فإنه لا يزيد على الذمّة، وللذمي أن ينبذ إلينا الذمة ويلتحق بدار الحرب، وكذلك القول في المؤمَّن، وهو لازم من جانب المسلم المؤمِّن، كما تلزم الذمّة من جانب الإمام.
11357 - ومما يتصل بهذا أنا سنذكر -إن شاء الله تعالى- ما ينقض الذمةَ من الأمور الصادرة من الذمي في كتاب الجزية، ونذكر أن توقع الخيانة لا يوجب نبذَ الذمة، وإذا خاف المسلم المؤمِّن خيانةً ممّن أمّنه، نبذ إليه الأمان؛ فإن المبيح للأمان لآحاد الناس ما يتوقع من انتفاع المؤمِّن بأمان الكافر، فإذا كان لا يأمن الكافر، فلا خير في الأمان، وقد نصّ الرب تعالى على ذلك، فقال عز وجلّ: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ} [الأنفال: 58]، والآية في المهادنة، كما سيأتي وصفها -إن شاء الله تعالى- فإذا جرى هذا في المهادنة، فأمان الآحاد بذلك أولى، وهذا يتم إذا ذكرنا المهادنة والذمة في موضعهما.
ولو أمن المسلم كافراً، فقبل أَمْنه، وقال: لست أؤمنك مني، فكن آخذاً حذرك مني، وقد قبلت أمانك لي، فهذا ردٌّ للأمان؛ فإن الأمان لا يصح في أحد الطرفين دون الثاني. ولعلّ سبب اشتراط القبول هذا.
ولا خلاف أن الأمان يقبل التعليق بالأعذار، وسيأتي من ذلك قدرٌ صالح في مسألة العِلْج إن شاء الله تعالى.
__________
(1) حكى النووي هذا التردد عن الإمام (ر. الروضة: 10/ 280).

(17/472)


11358 - فإذا تمهدت هذه القواعد، انعطفنا على الأمان بالإشارة، لنذكر مسائل كانت تستدعي تقديم ما قدّمناه.
فلو أشار مسلم في الصف إلى كافرٍ، فانحاز ذلك الكافر إلى المسلمين؛ معوّلاً على إشارته، فإن قال المشير: أردت الأمان، وقال الكافر: فهمتُ الأمان، فهذا كافر مستأمن لا يُتعرض له.
ولو قال: ما أردتُ الأمان، وقال الكافر: ما فهمت الأمان، فهو كافر وقع في قبضتنا بلا أمان، فنقتله أو نسترقه.
وإن قال المسلم: ما أردت الأمان، وقال الكافر: فهمت الأمان، بلغ المأمن، ولم نتعرّض له، فإن قال المسلم: أردت الأمان، وقال الكافر: ما فهمت الأمان، فهذا في حكم أمانٍ غير مقبول، وقد ذكرنا أنه لا يصح، فيقتل أو يفعل به ما يفعل [بالأسراء] (1).
هذا ما ينعقد به الأمان مع ما يتصل به.
11359 - فإن قيل: جوّزتم لآحاد المسلمين أن يؤمنوا آحاد الكفار، فما قولكم فيه إذا وقع في الأسر كافر أو كفار، فأراد بعض الغانمين أن يمنن على بعض الأسارى؟ قلنا: لا سبيل إلى ذلك. والفرق بين المنّ والأمان أن المن يجري بعد تعلّق الحقوق بالأسرى، فلا ينفذ التصرف فيه إلا من ذي أمر، وهو الإمام، أو المستند إليه، والكافر [المؤمَّن] (2) الحربي لم يتعلّق به حق لمستحق.
فإن دخل بلاد الحرب طائفةٌ، وغنموا وأسروا، ثم إنهم أرادوا المن على الأسرى، قلنا: ليس لهم ذلك، فإن الإمام قد يرى إرقاقهم، [كما] (3) يتعلق برقابهم [حق] (4) الخمس. وهذا يعارضه أن الإمام إذا [من] (5)، فقد أبطل حقوق الغانمين،
__________
(1) في الأصل: " الأمراء ".
(2) مكان بياضٍ قدر كلمة.
(3) زيادة لاستقامة العبارة.
(4) في الأصل: " حتى ". والمثبت تقدير من المحقق.
(5) في الأصل: " أمن ".

(17/473)


ولكن لا يبعد أن يرتبط هذا باستصواب ذي الأمر، ونظره، فإنهم بالوقوع في الأسر صاروا أموالاً، والتصرف في الأسرى من الأمور الخطيرة التي لا يدري فيها إلا ذو الأمر، ولا يستبد بها الآحاد.
11360 - ومما نرى إلحاقه بهذا المنتهى أنا إذا صححنا أمان المسلم، فلا نشترط أن يرجع من أمانه مصلحة على أهل الإسلام، ولا يتصوّر اشتراط هذا في كافرٍ يؤمّن، ولكن كما لا نفع لأمانه، لا وقع لبقائه حربياً. وإذا كنا لا نرعى إظهار مصلحة في حق المسلمين، فلا نطالب المؤمَّن بغرض له يبديه في الأمان؛ فإن تكليف إظهار الأغراض الخاصة عسر؛ على أن هذا يجري غير متعلّق بمجالس الحكام وأصحاب الأمر. نعم، يشترط ألا يكون في الأمان المعقود ضرر عائد إلى المسلمين، فلو أمن طليعةَ الكفار، أو جاسوساً، كان الأمان باطلاً.
ثم الوجه ألا يُثبت هذا الأمان له حقَّ التبليغ إلى المأمن؛ فإن دخول مثل هذا في ديار الإسلام جناية (1)، فحقُّه أن يغتال بها، والعلم عند الله تعالى.
11361 - ومما أبهمناه وهذا أوان تقريب القول فيه أنا قلنا: إنما يؤمِّن المسلم محدودين، ولسنا نرى عدداً نقف عنده، فنقول: ما ذكره الأئمة في ذلك أن الأمان ينبغي أن يكون بحيث لا ينسد بسببه الجهاد في جهة من الجهات، وهذا يُبيِّن أن الأمان لو عُقد لأهل الناحية، فهو مردود، وإن فرض عقده لآحادٍ، أمكن فرض الغزو في الناحية، مع ترك التعرض للمؤمَّنين، هذا ما ذكره الأئمة، وسرّه أن الجهاد شعار الدين، والدعوة القهرية، وهو من وجهٍ من أعظم المكاسب للمسلمين، ومن أظهر مجالب الأموال لبيت المال، فينبغي ألا يَظهرَ بأمان الآحاد انحسامٌ ولا نقصان يُحَسّ (2).
ولو أمن مائةُ ألف من المسلمين، مائةَ ألفٍ من الكفار، فكل واحدٍ لم يؤمن إلا
__________
(1) نقل النووي هذا عن الإمام، وتصحف إلى (خيانة). (ر. الروضة: 10/ 281).
(2) حكى النووي هذه المسألة عن الإمام، وأشار إلى التردد في صحة أمان الكل عند الانحسام أو النقص. (ر. الروضة: 10/ 278).

(17/474)


واحداً، ولكن إذا ظهر انحسامٌ أو نقصان، فأمان الكل مردود، وقد يختلف الأمر بأن يكون المؤمنون في قُطرٍ، أو يفرضوا متبدّدين (1).
وقال قائلون: لو أمّن المسلمُ آحاداً على مدارج (2) الغزاة في المنازل والمناهل، ولولا الأمان، لانبسطت أيدي الغزاة، وإذا فرضت [هذه الصورة، وانكففنا عن] (3) الغنيمة، عسر [مَسير] (4) العسكر، واحتاجوا إلى نقل العلف والزاد، فالأمان على هذا الوجه مردود، وهو من الأمان المضرّ.
11362 - فأما القول في المدة المرعية في الأمان، فعقد الأمان، بمثابة المهادنة، حيث لا ضعف بالمسلمين، وسنذكر أن المهادنة والحالة هذه من ذي الأمر تصح أربعةَ أشهر، ولا تجوز سنة، وفيما دون السنة ووراء الأربعة الأشهر قولان. فكذلك الأمان، فإن قيل: أليس للإمام إذا استشعر ضعفاً أن يهادن الكفار عشرَ سنين؟ قلنا: نعم. ولكن ذلك النظر إلى الإمام، ولا يرقى نظر الآحاد إلى دَرْك الضعف والقوة في أجناد المسلمين، فالأمان مبني على أقل الدرجات في المهادنة في المدّة.
فرع:
11363 - إذا أمن المسلم امرأة، فقد قال القاضي: يخرج في ذلك جوابان، بناء على أنه إذا صالح صاحب الراية أهلَ حصن فيها (5) نسوان لا رجل بينهن، وقد أشرفن على أن نسترقهن، فبذلن مالاً، فهل يسقط حق الاسترقاق؟ فعلى وجهين: ووجه البناء أن النسوة يتبعن الرجال، ويبعد أن يفرض استقلالهن باستفادة الأمان من الرق. فإن أسقطنا حق استرقاقهن بمال، فلا يبعد أن يسقط حق استرقاق واحدة أو محصورات بأمان واحد من المسلمين.
__________
(1) متبدّدين: أي متفرقين.
(2) مدارج: المراد طرق ومنازل الاسترواح في الطريق.
(3) مكان بياضٍ بالأصل.
(4) في الأصل: " مصير ".
(5) فيها بضمير المؤنث على معنى القلعة.

(17/475)


وقد نجزت معاقد المذهب في الأمان. ولها مسائل ستأتي في فصل العلْج، على أثر هذا، إن شاء الله تعالى.
11364 - ومما أغفلناه، ونرسمه [فرعاً] (1): الأسير إذا أمّن كافراً، فهل يصح أمانه أم لا؟ فيه خلاف بين الأصحاب. والوجه أن نقول: إن كان مكرهاً على الأمان، فهو مردود، وإن كان مختاراً في إنشاء الأمان، فمن أصحابنا من قال: يصح ذلك منه؛ فإنه مسلم مكلف أنشأ الأمان اختياراً، ولم يجرّ ضرراً، فيصحّ.
ومن أصحابنا من قال: لا يصح، فإن شرط الأمان أن يكون المؤمِّن على أمان، ولا يتحقق الأمان في حق المأسور.
التفريع على الوجهين: إن قلنا: يصح أمانه، فلا كلام، وأمانه كأمان المطلَق، وإن قلنا: لا يصح أمانه في حق المسلمين، فهل يصير ملتزماً بحكم الأمان في حق نفسه، فعلى وجهين: أحدهما - لا يلزمه حكم الأمان، كما لم ينفذ في حق غيره؛ فإن الأمان لا ينفذ على الخصوص (2). الثاني - أنه ينفذ أمانه عليه في حق نفسه؛ فإن سبب الرّد في حق الغير أنه مقهور مأسور، فلا ينفذ أمانه على المطلقين، ولا يبعد من مقتضى هذا أن يصح إلزامه في حق نفسه.
والذي يجب الإحاطة به في تمام ذلك أن المأسور لو أمن من أسره، فالوجه ألا يصح ذلك، وجهاً واحداً، وإنما التردّد الذي حكيناه فيه إذا أمّن من ليس هو أَسَره من آحاد الكفار. وأطلق بعض من لا يعتاد طلب الحقائق، وجهاً في تصحيح أمانه لآسره إذا أنشأه ولم يُكرَه عليه. وهذا لا أصل له. فانتظم منه أن الإكراه على الأمان يُبطله لا شك فيه، وإذا لم يكن إكراه، فأمن غيرَ الآسر، فعلى الخلاف، وإن أَمَّن من أسره، فالمذهب البطلان، وفيه الوجه الضعيف الذي حكيناه.
__________
(1) في الأصل: " فرعان ".
(2) على الخصوص: يعني من جانب واحد.

(17/476)


فصل
قال: " ولو أن علجاً دلّ مسلماً على قلعة ... إلى آخره " (1).
11365 - العلج يعبر به عن الكافر الغليظ الشديد، وهو من المعالجة، ومعناها المجالدة، وسمي العلاج علاجاً لدفعه الداء، والعلج يدفع بأيْده عن نفسه، وفي الحديث: " الدعاء والبلاء يعتلجان في الهواء " (2) أي يضطربان، ويتدافعان، فيدفع الدعاء البلاء.
وهذه المسألة نصوّرها أولاً، فنقول: إذا لجأ إلى المسلمين علجٌ من الكفار، وقال: أدلّكم على قلعة، وذكر فيها جاريةً، وشرط أن القلعة إذا فتحت، فهي له، فإذا قبلنا ذلك، والتزمنا استفراغ الطاقة والإمكان في الوفاء، فهذه المعاملة هل تصح؟ وكيف سبيلها؟ هذا تصوير المسألة.
وحكمها يستدعي تجديدَ العهد بتقديم أصول من الجِعالة، وقد نُجري فيها ما لم نُقدّم ذكره، فنقول: أولاً - لا خلاف أن عقد الجِعالة بين المسلمين لا يصح إلا على جُعل معلوم مقدرر على تسليمه، فكل ما يصح ثمناً وأجرة، وصداقاً، فهو الذي يصح أن يكون جُعلاً، فلو كان مجهولاً أو غير مقدورٍ على تسليمه أو غير مملوك للجاعل، لم يصح، حتى لو قال: إن رددت عبدي الآبق، فلك مما أصطاده كذا، ومما أحتطبه كذا، فالجعالة فاسدة، للجهالة، فإن عمل على حكم هذا العقد، لم يبطل عمله، وله أجرُ المثل؛ لأنه لم يخض في العمل على شرط التبرع به.
وإذا ثبت الجعلُ صحيحاً، وكان عيناً مملوكة، كائنة مقدوراً على تسليمها، فقال إن رددت عبدي الآبق، فلك هذا الثوبُ، جاز. والأصح أنه لا يتعلق
__________
(1) ر. المختصر: 5/ 187.
(2) حديث " الدعاء والبلاء يعتلجان في الهواء " رواه البزار والحاكم والطبراني من حديث عائشة.
قال الحافظ: وفي إسناده زكريا بن منظور وهو متروك. (ر. الحاكم: 1/ 492 وصححه، وتعقبه الذهبي بقوله: " زكريا مجمع على ضعفه ". الطبراني في الأوسط: ح 2519، كشف الأستار: 2165، التلخيص: 4/ 221 ح 2294، خلاصة البدر المنير: 2584).

(17/477)


استحقاق المجعول له بالجعل أصلاً، ما لم يتم العمل، وليس كالأجرة في الإجارة (1)؛ فإن الإجارة معاوضة محضة، مبناها على اللزوم، وهو صنف من البياعات، ومبنى الجعالة على أن يتوقف استحقاق الجعل على إتمام العمل، ثم يجعل الاستحقاق بعقد العمل على أثره، ولا يستند إلى ما تقدم تبيّناً (2).
11366 - ثم إذا [تمَّ] (3) العمل لم يخلُ: إما إن كانت العين قائمة أو تالفة، فإن كانت تالفة، فلا يخلو: إما أن تتلف قبل الردّ، أو بعده، فإن تلفت قبل الردّ، فلا يخلو: إما أن يردّه عالماً بتلف المسمى، أو جاهلاً به؛ فإن علم بتلف العين، وأنشأ العمل بعد التلف والعلمِ، فلا شيء له؛ لأن المعاملة معقودة على استحقاق تلك العين، فإذا تلفت، وأنشأ العمل، فلا متعلق لعمله، وهو في حكم المتبرع.
وإن جهل العامل التلف، وعمل، فله أجرُ المثل؛ لأنه لم يتبرع بالعمل، هذا إذا تلف قبل العمل.
وإن تلف المسمى بعد الرد، فلا يخلو: إما أن يتلف بعد المطالبة، أو قبلها، فإن تلف قبل المطالبة بها، ففيما يرجع العامل إليه قولان، كالقولين في الصداق المعين، إذا تلف قبل القبض، وفيه قولان، عنهما يتشعب معظم مسائل الصداق. أحدهما - أنه مضمون بالعقد، فيجب عند فرض التلف مهرُ المثل، فعلى هذا في مسألتنا يُضمن الجعل بالعقد، فإذا تلف، فالرجوع إلى أجر المثل، وهذا يناظر مهرُ المثل، والقول الثاني - أن الصداق مضمون باليد، فتجب القيمة أو المثل إن كان مثلياً، وكذلك يخرج هذا القول في الجعل إذا تلف، والغرض تنزيله منزلة الصداق في جهة الضمان.
فإن قيل: ما وجه التشابه؟ قلنا: وجهه أن المنفعة في الجِعالة فائتة بعد تسليم العمل على وجهٍ يستحيل تداركها، كما أن البضع بعد العقد في حكم الفائت، فاقتضى ذلك جريان القولين في الأصلين، ولا يبعد عندنا القطع بأن الجعل مضمون ضمان
__________
(1) أي يستحق الأجير بكل جزء من العمل جزءاً من الأجرة بخلاف الجعالة.
(2) تبيُّناً: التبين مصطلح أصولي سبق شرحه.
(3) في الأصل: " سلّم ".

(17/478)


العقد؛ من جهة أنه رُكن الجعالة، وليس الصداق رُكنَ النكاح، وهذا يوجب القطع هاهنا بضمان العقد. والعلم عند الله تعالى.
ولو تمم العامل العملَ، وطالب بالجعل، وهو قائم، فلم يسلّمه الجاعل، فقد تعدى، فلو تلف في يده، فإن قلنا: إنه مضمون باليد، فالجواب كما تقدم، وإن قلنا: إنه مضمون بالعقد، فقد قال القاضي: تلفه بعد الامتناع بمثابة إتلاف الجاعل الجعلَ بنفسه. ثم هذا بمثابة ما لو أتلف البائع المبيع، وفي المسألة قولان: أحدهما - أن حكمه حكمُ ما لو تلف بآفة سماوية، فينفسخ العقد، ويرجع العامل إلى أجر المثل، والثاني - حكمه حكمُ ما أتلفه الأجنبي، فعلى هذا هو بالخيار بين الفسخ والإجازة، ولا يخفى عاقبة الإجازة والفسخ.
والذي يجب فيه فضل تدبّر أن موجب ما ذكرناه، وهو بعينه كلام القاضي أن الحبس على عدوانٍ مع تصوّر التلف بالآفة السماوية ننزله منزلة الإتلاف، ويلزم على هذا المساق أن يقال: إذا توفر الثمن على البائع، وتوجهت الطِّلبَة بتسليم المبيع فأبى معتدياً، [وتلف] (1) المبيع، يكون هذا بمثابة ما لو أتلف البائع المبيع. وهذا فيه احتمال وفضل نظر، من جهة أن الإتلاف إذا لم يوجد، فاليد القائمة يد عقد، ولهذا لا يتصرف المشتري في المبيع الكائن في يد البائع، في الصورة التي ذكرناها. وإن وفّى الثمن واستحق الانتزاع، فإذا كانت اليد قائمة على هذا الوجه، فتغليب ضمان العقد أولى، حتى يقال: التلف بالآفة السماوية يوجب انفساخ العقد، ومقتضى هذا ألا يُخرَّج القولان في إتلاف البائع المبيع.
فهذه مقدمات ذكرناها في أحكام الجعالة.
11367 - والآن نعود بعدها إلى مسألة العِلج، فنقول: كافرٌ في دار الحرب، قال: أدلكم على قلعة فيها أموال وغنائم، فإذا فتحتموها، فأعطوني الجارية الفلانية، ووصفها وسماها. فقد قال الأصحاب بأجمعهم: هذه الجِعالة جائزة، وإن كانت على جُعل غيرِ مملوك، ولا مقدورٍ على تسليمه، ولا شك أن مثل هذه
__________
(1) في الأصل: " وأتلف ".

(17/479)


الجِعالة لا تصح بين المسلمين فيما لا يتعلّق بالكفار، وسبب تصحيح هذه المعاملة فيما يتعلّق بالكفار أن الإمام قد لا يتهدَّى في دار الحرب إلى القلاع، وربما لا يتهدّى المسلمون إليها في الغالب، فتمس الحاجة إلى دلالة كافر، فإذا لم يرض الكافر إلا بما سمَّى، فالحاجة تقتضي تصحيحَ المعاملة، إذا قيل: الجهالة تحتمل في الجعالة لمسيس الحاجة، فإذا اضطررنا إلى إثبات فعلٍ يخالف القياس الدائر بيننا، اتبعنا الحاجة.
ولو كان الدال على القلعة مسلماً وشرط مثلَ الشرط الذي حكيناه صادراً عن العلج، فالمذهب الأصح بطلانُ هذه المعاملة معه، إلا على شرط المعاملة بين المسلمين.
وفي بعض التصانيف أن هذه المعاملة تصح معه كما تصح مع العلج؛ فإن مبنى جوازها على مسيس الحاجة إليها، ولا يفرق في ذلك بين المسلم والكافر.
وهذا كلام مبهم عندنا، والوجه أن نقول: حكينا تردد الرأي في أن الوالي لو استأجر مسلماً على الغزو هل يصح؟ فإن منعنا الاستئجار، فلا معنى لهذه المعاملة مع المسلم، فإن ما يأتي به يقع جهاداً منه، فلا يستحق عليه أجراً. ثم كما لا يستحق الجارية المسماة في القلعة، لا يستحق أجر المثل.
وإن قلنا: يصح من الوالي استئجار واحد من المسلمين على الغزو، فهل تصح هذه المعاملة معه، كما تصح مع الكافر؟ فعلى وجهين قدمنا ترجيحهما.
11368 - ثم إذا حضر الإمام بابَ الحصن، وحاصرها (1)، فلم يتفق الفتح، نظر: فإن قال العلج الدال: إن فتحتموها، فلي الجارية، فلا يستحق إذا لم يتفق الفتح شيئاً؛ فإنه علّق استحقاقه بالفتح، فإن اشترط الجارية، ولم يقيد المعاملة بالفتح، ففي المسألة وجهان: أصحهما - أنه لا يستحق شيئاً؛ فإن رضاه بالجارية بمثابة التصريح بذكر الفتح؛ إذ لا يتعلق التوقع بتسليم الجارية إلا من جهة الفتح، فصار كما لو قيد بالفتح.
__________
(1) حاصرها: بضمير المؤنث على معنى القلعة.

(17/480)


وفي بعض التصانيف وجه آخر أنه يستحق أجر المثل للدلالة؛ لأنه عمل لنا عملاً ولم يرض بأن يكون متطوعاً.
وهذا الكلام فيه اختلال، لا يبينه إلا تفصيل، وهو أنه لو دلّ، واكتفى بالجارية، وذكر الفتح صريحاً أو لم يذكره، ولكن اكتفى بالجارية، فإذا حصرنا الحصن، وكان القتال ممكناً، فلم نقاتل، فهل يستحق الدالّ والحالة هذه شيئاً؟ هذا محلّ التردد؛ فإنه يقول: دللتُ، وفعلتُ ما علي، فقصّرتُم. وينقدح أن يقال: لا شيء له، للتعلق بالفتح تصريحاً، أو تعريضاً. ويجوز أن يقال: يستحق الدالّ أجرَ المثل؛ من جهة أنه استتم عمله.
وإن حصرنا القلعة، فلم يكن القتال ممكناً، وكان بحيث لا يُطمع في افتتاحها إلا باتفاقٍ نادر، فالوجه هاهنا، القطعُ بأنه لا يستحق شيئاً؛ لأنه ما دلنا على ممكن.
وإن كان القتال ممكناً على الجملة، ولم يكن الفتح مقطوعاً به، فقاتلنا، فلم يتفق الفتح، فهذا يُبنى على ما إذا لم نقاتل أصلاً. فإن قلنا: إذا تُرك القتال أصلاً، مع إمكان الفتح، لم يستحق شيئاً، فلأن لا يستحق هاهنا أولى، وإن قلنا: الدّالّ لا يستحق، فإذا قاتلنا، فإن حصل اليأس، وبذلنا المجهود، فهذا يقرب منه، إذا بان لنا اليأس، كما (1) حصرنا، وإن لم يحصل اليأس، ولكن تبرّمنا بالقتال، أو استنفرَنا أمرٌ انزعج الجند له، فهذا محل التردد.
وبالجملة: ينبغي أن تؤخذ هذه المسألة من هذه المآخذ التي أشرنا إليها.
11369 - وإن فتحنا القلعة ووجدنا الجارية التي شرطناها للعلج، فيجب تسليمها إليه، والوفاء به، ولا يسوغ منعُها.
وإن لم نجدها، نُظر: فإن كان أخطأ العلج في ظنه كونَ الجارية في القلعة، أو كانت، ولكن تقدم موتها، أو كانت ميتة يوم المعاقدة مع العلج، أو لم يخلقها الله تعالى، فقد قال الأئمة: لا شيء للعلج في هذه الصورة؛ فإنه اكتفى بجارية ظنها، وقد أخلف ظنه، فحبط عمله.
__________
(1) كما: بمعنى: عندما.

(17/481)


وإن وجدناها لكنها ماتت بعد [المعاقدة] (1) فللأئمة طرق نسردها، ثم نجمعها على العادة في أمثالها.
قال قائلون: إن ماتت بعد الظفر بها، غرمنا القيمة للدلالة، وإن ماتت قبل الظفر، فقولان، والفرق أنه إذا ظُفِر بها، فقد دخلت في يد الإمام أو صاحب الراية، ووقعت في قبضته، [فيغرم قيمتَها] (2).
وقيل: إنها تلفت من ضمانه (3).
[والطريقة الثانية: أنها] (4) إذا ماتت قبل الظفر، فلا ضمان. وإن ماتت بعد الظفر، فقولان: أحدهما - أنه يجب الضمان لموتها تحت أيدينا، فينبغي أن تكون محسوبة علينا. والثاني - أنا لا نضمن شيئاً؛ فإن الجارية المذكورة ليست عوضاً في الحقيقة، وليست على حقائق الأعواض، وإنما أجرينا فيها عِدَةً؛ فإن اتفق الوفاء بها، فذاك، وإلا فلا ضمان. نعم يجب الوفاء إذا أمكن، وإن فرض تقصيرٌ، فمنتهاه المأثمُ، وتركُ الواجب.
وقال (5) العراقيون: لا فرق بين أن تموت قبل الظفر أو بعده، ففي الصورتين جميعاً قولان في أنا هل نغرم للعلج قيمة الجارية.
وإذا جمع الجامع الطرق (6)، انتظم أقوال: أحدها - الضمان في الحالتين قبل الظفر وبعده. والثاني - انتفاء الضمان فيهما. والثالث - وجوب الضمان بعد الظفر، ونفيه قبل الظفر. هذا حاصل ما ذكره الأئمة.
__________
(1) في الأصل: " المعاملة "، والمثبت لفظُ الإمام الغزالي في البسيط.
(2) عبارة الأصل: " فغرم قيمتها، وقيل: إنها ما ".
(3) المعنى: يقال: تلفت من ضمانه، فيغرم قيمتها.

(4) زيادة اقتضاها السياق.
(5) هذا هو الطريق الثالث.
(6) والطريق هي:
أ- ماتت بعد الظفر: وجب الضمان، وقبل الظفر: قولان.
ب- ماتت بعد الظفر: قولان، وقبل الظفر: لا ضمان.
ج- ماتت بعد الظفر: قولان، وقبل الظفر: قولان.

(17/482)


11370 - وقد يتطرق إلى ما ذكرناه مزيد بحث، وهو أن يقال: إذا فتحنا القلعة، واستمكنا من تسليمها، فلم نسلّمها حتى ماتت تحت قبضتنا، فيظهر وجوب الغرم هاهنا.
ولو فتحناها، وماتت قبل تمكننا من تسليمها، فهذا فيه تردّد، من جهة أنها ماتت من وجهٍ بعد الفتح، وماتت من وجهٍ آخر قبل التمكن، وغايتنا أن نبذل كنه المجهود فيها، هذا لابد منه مع ما قدّمناه، ثم يعود فيه ما ذكرناه مقدمة في أحكام الجعالات، من تلف العين المجعولة جعلاً قبل الطلب وبعده، وقد ذكرنا في تلف العين قبل الطلب، وبعد العمل قولين في أن المضمون القيمة أو أجر مثل العامل، وهذا الخلاف يجري هاهنا إذا أثبتنا الضمان، وإن فرضنا الطلب والاستمكان، فهذا يناظر ما إذا كانت العين قائمة، وجرى التقصير في تسليمها، مع توجه الطلب بها، فلا بأس من التنبه لما ذكرناه.
11371 - ومما يتصل بتقاسيم المسألة أنا إذا وجدناها، ولكنها كانت مُسْلِمة، فالذي ذهب إليه المحققون أنا نغرم قيمتها للدالّ سواء أسلمت قبل الظفر أو بعده، بخلاف الموت، فإنا فصلنا المذهب فيه كما تقدّم، والفرق أنها إذا أسلمت، فالإمام هو الذي يحول بين العِلج وبينها، بحكم الإسلام، وإلا فالتسليم بحكم المشاهدة (1) ممكن فيها، فيغرم قيمتَها بالحيلولة، وإذا ماتت، فليس صاحب الأمر هو الحائل بينهما، وإنما وقعت الحيلولة [بأمرٍ خارج] (2).
وفي بعض التصانيف: في إسلامها وجهان: أحدهما - ما ذكرناه. والثاني - أنا ننزل إسلامها منزلة الموت، ثم في الموت التفصيل المقدّم، وهذا ضعيف، ووجهه على بعده، أن الإسلام صيرها كالمعدومة، وشرط الجارية للعلج وإن كان مطلقاً، فمعناه التقييد ببقائها على الكفر، فإنا إنما نتمكن لو بقيت كافرة، فإذا أسلمت فلا تَمَكُّن.
__________
(1) بحكم المشاهدة: أي حسّاً، كما عبر بذلك الغزالي في البسيط.
(2) زيادة من المحقق لإيضاح المعنى.

(17/483)


ويمكن أن يقال: إذا أسلمت قبل الفتح، فهذا بمثابة الموت، لأنا لا نملكها إذا فتحنا القلعة، ولم نقدّر استحقاقها بالشرط، فكان ذلك بمثابة ما لو صادفناها ميتة، وإن أسلمت بعد الفتح؛ فإنها تبقى مملوكة، فيتجه هاهنا القطع بالغُرم للعلج، ولا يتجه غيره؛ فإن المنع يعود إلى مراعاة حكم الشرع والملكُ عليها ثابت، فإنها رقَّت لما وقع الفتح، ثم أسلمت من بعدُ.
11372 - ولو فتحنا القلعة، فلم نجد غير تلك الجارية، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أنا نسلّم الجارية إلى العلج وفاء بالشرط، إذ لا مانع من التسليم. والثاني - لا نسلّم؛ فإن هذا في التحقيق فتحٌ للعلج، ولا أَرَبَ لنا فيه، وهذا التردد الذي ذكرناه فيه إذا لم نؤثر تملك القلعة أو لم نتمكن منها، لأنها محفوفة بالكفر، ويعسر تخليف جمع يقومون بحفظها عن الكفار. فأما إذا ملكنا القلعة، وأدمنا اليد عليها، فيجب القطع بتسليم الجارية.
11373 - ولو حاولنا الفتح، فلم نستمكن، واستفزّنا أمرٌ، ورأينا أن مثل ذلك يُبطل حق العلج، فلو اتفق لنا عودٌ إلى القلعة في كَرّةٍ أخرى، فاتفق الفتح فيها واستمكنا من الجارية، فهل نوجب تسليمها إلى العلج؟ ذكر الأصحاب وجهين، ووجه التردد والاحتمال لائح.
ولكن لا بدّ من التفصيل، فإن عدنا واستمكنا في العودة بالأعلام (1) التي أقامها العلج، ولولا تقدم دلالته، لما عدنا، فيظهر هاهنا تسليم الجارية إليه، والمصير إلى أنه لا حكم لما تخلل من المحاولة، وترك المقاتلة. وإن اتفق ونحن نؤمّ بقعة أخرى وقوعنا على القلعة، من غير استمساك بأعلام استفدناها من دلالة العلج، فهاهنا يظهر الاحتمال في أنا هل نسلم الجارية إذا تمكنا منها والشرط مطلق، والأصح أنا لا نسلّمها؛ فإن المعاملة الجارية بيننا، وإن كانت مطلقة، فهي من طريق العُرف وفهم الخطاب متقيّدة باتصال الفتح بالدلالة، وهذا الظهور جرى منقطعاً.
وبالجملة ليس تخلو حالة من الأحوال التي فصلناها عن احتمال، ولا يعجِز الفطن
__________
(1) بالأعلام: أي بالعلامات التي دلنا عليها العلج، والمعلومات التي قدمها لنا.

(17/484)


عن إجراء الخلاف فيها وترتيب البعض منها على البعض، ولسنا نطوّل بذكرها.
ولا خلاف أنه لو انتهى إلى القلعة طائفة أخرى لم تكن في المعاملة (1)، فلا يلزمها شيء، وإن تمكنت من الجارية، وإن كانت هذه الطائفة تلتفت إلى الأعلام منا ونحن تلقيناها من العلج، فلا يلزمهم شيء؛ فإنه لم يجر منهم التزام وخوض في المعاملة.
ويبقى الكلام في أنا إذا لم نفتح -وربما كان الفتح ممكناً لو أطلنا المحاصرة- فهل نغرم للعلج؟ وهذا مما تقدم تفصيله.
ولو جاوز الإمامُ القلعة، ثم ردّ جمعاً من الجند الذين كانوا معه، فإن ردهم على القرب، واتفق الفتح؛ فالوجه تنزيل هذا منزلةَ ما لو أقام حتى فتح.
وإن جاوز القلعةَ، وانقطع عنها بحيث يبعد الرجوع إليها من غير استمساك بالدلالات التي ذكرها العلج، [فأبان] (2) للراجعين تلك [العلامات] (3)، فانقلبوا، وفتحوها، فهذا بمثابة ما لو رجع هو بنفسه.
وإذا أحاط المرء بمقتضى اللفظ في هذه الجِعالة، لم يخف عليه محلُّ الوفاق والخلاف.
11374 - ثم حيث يغرم الإمام للعلج أجر المثل، أو قيمةَ الجارية على التفاصيل التي تقدّمت، ففي المحلّ الذي يأخذ [منه] (4) ما يغرَمه للعلج الخلافُ الذي قدّمناه في محل الرضخ، ففي وجه يخرج ما يبذلُ للعلج من سهم المصالح، وفي وجه يُخرجه من رأس المغنم، ووجه ما ذكرناه بيّن.
11375 - ولو جرت المعاملة كما وصفناه، وحاصر صاحب الراية أهلَ الحصن، واقتضى الرأي أن يصالحهم على أن صاحب القلعة وأهلَه في أمان، فلما فتحوا القلعة على موجب هذا الصلح؛ بان تلك الجارية من أهل صاحب القلعة، فقد تصدّى لنا
__________
(1) المعاملة: المراد المعاقدة مع العلج.
(2) في الأصل: " بان ".
(3) في الأصل: " المعاملات ".
(4) زيادة اقتضاها السياق.

(17/485)


صلحٌ يجب الوفاء به، ومعاملة سبقت مع العلج يتعين تحقيق المقصود منها، فالوجه أن نقول لصاحب القلعة: قد شرطنا لفلان هذه الجارية؛ فإن رَضِيتَ تسليمَها إليه، غَرِمنا لك قيمتها، فإن رضي، فذاك، وإن لم يرض، قلنا للدالّ: قد صالحناه على أن نؤمّن أهله، والجارية المشروطة من أهله، فإن رضيتَ [بقيمتها] (1)، بذلناها لك، فإن رضي، فذاك، وإن لم يرض، قلنا لصاحب الجارية: إما أن تسلم الجارية، أو تعودَ حرباً، فنردّك إلى القلعة، فاستوثق منها، وأغلق بابها، وارجع إلى ما كنت عليه، ثم نعود إلى القتال، فإن اتفق الفتح، سلمنا الجارية، وإن لم يتفق الفتح، فالكلام على ما مضى.
11376 - ثم استنبط الفقهاء من هذه المسألة فوائدَ: إحداها - تصحيح جعالة جعل مجهولٍ غير مقدور على تسليمه. والثانية - أن الأمان مع الجهل بتفصيل العدد، في الذين يؤمنون جائز؛ لأن أهلَ صاحب الحصن مجهول العدد.
11377 - قال الأصحاب: ويجوز الأمان مضافاً إلى عدد معلومٍ مع الجهل بالأعيان، وذلك أن يؤمِّن من أهل القلعة خمسين أو مائة فيكون التعيين إلى شخصٍ، وروي: " أن عمر صالح أهل قلعةٍ على أن مائة من أهل القلعة في أمان، وكان عمر يحب أن يظفر بصاحب القلعة من غير أمان، فأخذ صاحبُ القلعة يختار المائة من أهل القلعة، ويعدّهم، ويعينهم، وعمرُ يدعو ويقول: اللهم أنسِه نفسَه، فعدّ مائة، ونسي نفسه، فعرض عليه الإسلامَ، فلم يسلم، فحز رقبته " (2).
11378 - ومما يُتلقى من أطراف هذه المسألة: أن الصلح إذا عارضه عذرٌ يعسر الوفاء به معه، فيجوز للإمام ردّه ونبذه، كما ذكرناه في مصالحة صاحب القلعة، على أن يؤمّن أهله، ثم كانت المشروطة من أهله.
__________
(1) في الأصل: " بقيمته ".
(2) خبر " أن عمر صالح أهل قلعة على أن مائة من أهل القلعة في أمان ... ثم حزّ رقبة صاحب القلعة " لم نجد هذا عن عمر، وإنما هو مروي عن أبي موسى الأشعري حين حاصر مدينة السوس، والخبر رواه البلاذري في فتوح البلدان 2/ 466 ح 941. (ر. التلخيص: 4/ 223 2298).

(17/486)


فصل
قال: " وإن غزت طائفة بغير أمر الإمام ... إلى آخره " (1).
11379 - الذي يقتضيه الإذن ألا ينتهض جمعٌ من المسلمين للجهاد إلا صادرين عن رأي الإمام أو نائبه، فلو لم يراجَعوا، فدخلوا دار الحرب، فغنموا أموالاً، فهي مخموسةٌ، سواء كانت الطائفة ذاتُ نجدة وعُدّة، أو كانت طائفة يسيرة، وإن دخل رجل أو رجال دار الحرب مختفين، وسرقوا من أموال الكفار وأحرزوه، فالمذهب المشهور أنهم ينفردون بما سرقوه، ولا يخمّس ما ثبتت أيديهم عليه.
وقاعدة المذهب في ذلك تستدعي ثلاثةَ أشياء: أحدها - في أصل المغنم، والثاني - في المسروق على ما صورناه، والثالث - في المال المظفور به المحظور لكونه فيئاً.
أما المغنم، فهو ما يحصل في أيدي المقاتلة، بالمكاوحة، فاليد فيها ثابتة، ولكن الأملاك غير مقصودة؛ إذ الجهاد وملاقاة أعداء الدين، مع التغرير بالمهج لا يجوز لأجل المال، فلا يجوز إلا لإعلاء كلمة الله، والذب عن دين الله تعالى، ثم المغانم إن حصلت، فهي في حكم التبع، [ولذلك] (2) تسقط حقوق الغانمين بالإعراض؛ فإنهما لم تُقصد بالاستيلاء بالأيدي، وكل ما يملك بالاستيلاء، فللقصد فيه تأثير، وسنوضح هذا في فصلٍ معقودٍ في أملاك الغانمين، إن شاء الله تعالى. ثم ما يكون مغنوماً، فهو مخموس لا محالة.
وأما المسروق، فمقصودٌ بالتملك في عينه، فيثبت فيه ملك السرّاق، والأصح أنه غير مخموس، وسبيل الأخذ على هذا الوجه من أموال الكفار كسبيل الاصطياد، وما في معناه من الجهات التي يُقصد الملك فيها باليد.
ومن أصحابنا من قال: المأخوذ على جهة السرقة مخموس كالغنيمة، وهذا ضعيف، لا أصل له. ولكن حكاه شيخي، وكان يقول: يتميز المسروق عن المغنوم
__________
(1) ر. المختصر: 5/ 187.
(2) في الأصل: " وكذلك ".

(17/487)


بتأكد الملك في المسروق كما (1) استقرت اليد عليه، حتى لو أراد السارق الإعراض عنه، لم يسقط حقه، بخلاف المغانم. ولعلنا نعيد هذا في الفصل المعقود في أملاك الغانمين، إن شاء الله تعالى.
وأما المظفور به من غير قتال، فهو على ما تقدّم التفصيل فيه، وهو متميز عن المسروق من حيث إن المسروق حصله السارق بيده، وإن لم يكن قتال، ويده أقوى من يد الغانم؛ فإنها مقصودة. وذلك ما أردنا أن نبين.
11380 - ثم ذكر الشافعي رحمه الله فصلاً في السرقة من الغنيمة، وهذا قد قدّمنا أصله، ومعظم ما يتفرع عليه في كتاب السرقة عند ذكرنا السرقة من المال المشترك، والأخذ من الأموال العامة، وفي هذا الفصل زوائد هينة، ولكنها متعلقة بحقيقة ملك الغانمين، فأخرتها إلى ذلك الفصل.
ثم ذكر إحياء الأرض الموات في بلاد الحرب، وقد قدّمناه مستقصى في إحياء الموات.
11381 - وقال: " ما فعله المسلمون بعضهم ببعض في دار الحرب لزمهم حكمه ... إلى آخره " (2).
قصد بهذا الفصل الرّد على أبي حنيفة (3) في مصيره إلى أن من قارف من المسلمين موجبَ حدّ في دار الحرب، لم يلزمه الحد؛ فإن الشافعي من مذهبه أن أحكام الله تعالى على المسلمين جاريةٌ في دار الحرب جريانَها في دار الإسلام، والحدود تجب على الذين يقترفون موجباتها، وكذلك القول في العقوبات التي يستحقها الآدميون كالقصاص، وحدّ القذف، ومما أجراه الردّ عليه في قوله: " من أسلم، ولم يهاجر، فقتله مسلم مع العلم بإسلامه عمداً، فلا قصاص عليه " (4).
__________
(1) كما: بمعنى عندما.
(2) ر. المختصر: 5/ 188
(3) ر. مختصر اختلاف العلماء: 3/ 473 مسألة 1627. البحر الرائق: 5/ 18، تبيين الحقائق 3/ 182.
(4) ر. الجامع الصغير: ص 314، مختصر اختلاف العلماء: 3/ 477 مسألة 1631، الغرة=

(17/488)


ولا فرق في المغارم والعقوبات وقواعد التكليف بين الباب والباب، وكيف يستحسن الإنسانُ المصير إلى أن الصائرين إلى دار الحرب من دار الإسلام تنحلّ عنهم عُرى أحكام الإسلام، ولا يلتزمون منها ما يُلزِمُه أهلَ الحرب.
واختلف نص الشافعي في أن الإمام هل يقيم الحد على من استوجبه من المسلمين في دار الحرب، فاضطرب أئمتنا، فقال قائلون: في كراهة ذلك قولان، ولا أحد يصير إلى التحريم.
وقال قائلون: النصان منزلان على حالين، فإن كان لا يخاف افتناناً، أقام الحد، وإن خاف فتنة، فلا نؤثر إقامةَ الحد، وذلك بأن يتداخل المحدود مغيظةٌ، وقد تكون سبب انقلابه، وقد يكون شريفاً في قومه، فيحملهم ما يجرى على سيدهم على الانفلال (1)، فالنهي عن الإقامة محمول على مثل هذه الصورة. وإن ظهر وقوع ما أشرنا إليه، وغلب على الظنّ كونُه (2)، فالظاهر عندي، أنه يجب اجتنابه، وحد الكراهية لا ينتهي إلى المباح الذي وصفناه، ولكن إن كان التوقع على ندور، أو لم يكن غالباً في الظن، فهذا مظنة الكراهية، وإن غلب وظهر، فالأوجه الاجتناب.
ثم ذكر الشافعي رحمه الله كلاماً في الذين لم تبلغهم الدعوة إذا انتهينا إليهم (3).
وهذا مما قدمته على أبلغ وجهٍ في البيان في كتاب الديات، عند ذكري أبدال نفوس أهل الملل وأقدار دياتهم.
...
__________
=المنيفة: ص 174، طريقة الخلاف: ص 241 مسألة 97، إيثار الإنصاف: ص 244.
(1) الانفلال: الانهزام. من انفلّ القوم أو الجند: أي انهزموا (المعجم).
(2) كونه: أي وجوده: كان هنا تامة.
(3) ر. المختصر: 5/ 188.

(17/489)


باب ما أحرزه المشركون من أموال المسلمين
11382 - صدّر الشافعي الباب بالمسألة المشهورة في الخلاف مع أبي حنيفة، وهي إذا استولى المشركون على أموال المسلمين، وأحرزوها بدار الحرب (1)، فمذهبنا أنها باقية على ملك مالكها من المسلمين، فلا يملكها المشركون بالاستيلاء عليها، ومهما (2) وقع الظفر بها، فهي مردودة على ملاكها، ثم إن وقعت في أيدي الغانمين من المسلمين، فإن تبينا قبل القسمة، فالخطب يسير، فتردّ، وإن كان بعد القسمة، وسهل نقض القسمة، نقضناها، ورددنا الأعيان على أصحابها، وانتحينا القسمة بعد ردها.
وإن لم يكن نقضُ القسمة ممكناً، فالوجه استرداد تلك الأعيان من أيدي من وقعت في أيديهم، ثم يعوِّض الإمامُ من استُردّت العين منه من بيت المال، والخلاف في المحلّ الذي يخرج منه مثل ذلك، لا يجرى هاهنا حسب جريانه في الرضخ والمغارم التي تقع قبل القسمة، فالوجه أن يُغرم من المال العام، وهو مال المصالح. فأما الرجوع على الغانمين -وقد تبدّدوا- متعذّر (3)، وجهات المصالح متسعة، والمسألة مشهورة مع أبي حنيفة (4).
__________
(1) ر. المختصر: 5/ 189.
(2) ومهما: بمعنى: وإذا.
(3) متعذر: جواب أما بدون الفاء.
(4) ر. رؤوس المسائل للزمخشري: 360، مسألة: 239، طريقة الخلاف: 239 مسألة: 96.

(17/490)


فصل
قال: " وإذا دخل الحربي إلينا بأمان، فأودع وباع ... إلى آخره " (1).
11383 - إذا دخل الحربي دار الإسلام، وأودع عندنا ودائعَ، وبايع الناس، وثبت له قروضٌ وأثمان في الذمم، ثم إنه التحق بدار الحرب ناقضاً عهده، أو خرج إليه بإذن الإمام، أو لم ينقض عهده، ولكن خرج لشغلٍ ليقضيه، فإن خرج غيرَ ناقضٍ عهدَه، وترك أمواله، فلا شك أن تبقى الأموال في أمانه في زمان حياته، وإن مات، فسنذكر ذلك بعدُ في أثناء الفصل، إن شاء الله عز وجل.
وإن خرج إلى دار الحرب ناقضاً عهده، فقد ذكر الصيدلاني وغيره من أئمة المذهب ثلاثةَ أوجه في الأموال التي خلفها: أحد الوجوه- أنه لا يُنقض الأمانُ في أمواله، ما دام حياً، وربما كان يقطع شيخي بهذا الوجه، ووجهه أنه يثبت لماله حكم الأمان، كما ثبت له، ثم انتقض الأمان في حقه بالالتحاق بدار الحرب على قصد نبذ العهد، فنحكم في الأموال الباقية عندنا بالبقاء على حكم الأمان.
والثاني - ينتقض العهد في الأموال التي خلفها؛ فإن المال اكتسب الأمان من جهة المالك، فإذا لم يبق للمالك عهد وأمان، لم يستقل المال بحكم الأمان.
والوجه الثالث - أنه ينظر، فإن لم يَعقِد للمال أماناً على حياله، وإنما عَقَد الأمان لنفسه، ثم تعدى حكمُ الأمان إلى ماله، فإذا انتقض العهد في نفسه، انتقض العهد في ماله؛ فإنه ثبت تابعاً، فزال بانقطاع المتبوع وإن ثبت الأمانُ للمال مقصوداً، كما أثبته لنفسه، فإذا انتقض العهد في نفسه لم ينتقض العهد في ماله، والأولان يعممان في النفي والإثبات، ولا يفصلان بين أن يجري الأمان للمال مقصوداً وبين أن يثبت تبعاً. وهذه الأوجه الثلاثة يفرع عليها الحياة، وحكم الممات.
11384 - ونبدأ بتفصيل الحكم في الحياة، فإن قلنا: الأمان باقٍ للمال، فلا
__________
(1) ر. المختصر: 5/ 189.

(17/491)


نتعرض لماله، ولو دخل ديار الإسلام [واستردّ] (1) أمواله، كان له ذلك، ولم يجز التعرض له، وإن لم نجدد له عهداً، فماله هاهنا سببُ تَسلُّطِه على دخول دار الإسلام، وهو بمثابة ما لو دخل كافرٌ دارَ الإسلام ليسمع الذكر، ويبحثَ عن الدين، ويتقبَّله إن ظهر له، قال الله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ} [التوبة: 6]، فقال العلماء: ليس المراد أن يُعقَد له أمانٌ ثم يدخل، ولكن قصدُه هذا يؤمنه، وهو في أمان الله تعالى، ومقصود الآية إعلامُنا أنه مؤمّن. وكذلك لو دخل كافر ديار الإسلام رسولاً، فتصدّيه للرسالة يؤمِّنه، وإن لم يُعقد له أمانٌ، كذلك عود الحربي لأجل أمواله سائغ من غير تجديد أمان.
ثم قال الأئمة: ينبغي أن يعجل تحصيل أغراضه، ولا يعرّج على أمرٍ. وإن زاد على الحد الذي ذكرناه، تصدى للقتل والأسر.
وإن قلنا: لا أمان لماله، فهو مأخوذ فيئاً؛ فإنه مال كافرٍ مظفور به من غير إيجاف خيل وركاب، فالتحق بالفيء.
وهذا الطرف من الفصل فيه أدنى التباس. ونحن نفصله ونكشفه، فنقول: إذا أراد المستأمَن أن ينبذ إلينا العهد، فلا شك أنا نُبلغه المأمنَ، ولا نتعرض لأمواله التي يستصحبها؛ فإنه في علقة من الأمان بها استمساكه إلى أن ينتهي إلى مأمنه، فإذا استصحب أمواله، فحكمها حكم نفسه، وإذا التحق بدار الحرب، وخلّف عندنا أموالاً، ففيها الخلاف، ولو فارق الأموال المخلّفة، ولم يستصحبها ولم يلتحق بعدُ بالمأمن، فكيف سبيل أمواله المخلّفة؟ الوجه عندي أنها في أمان، فإن مالكها بعدُ في أمان، وإنما التردد إذا انقضت عُلقةُ الأمان في حقه بأن التحق بدار الحرب.
ويجوز أن يقال على بعدٍ: إذا فارق الدار، وانقطع عن الأموال، يجري الخلاف، بخلاف الأموال التي في صحبته؛ فإن من ينبذ إلينا العهد، وإن كنا نبلغه المأمن، فهو من وجهٍ خارج من الأمان؛ إذ لو أراد أن يرجع، ويتوطن من غير أمانٍ جديد، لم يكن له ذلك، فكأنّ ما يُطلَقُ من الأمان، يُبَذْرِقه (2) إلى دار الحرب.
__________
(1) في الأصل: " استردّ ".
(2) يبذرقه: يحرسه: فالبذرقة: الجماعة تتقدم القافلة للحراسة. قيل: معربة، وقيل: مولّدة.=

(17/492)


ومما تجب الإحاطة به، فيما أَبهم الأصحابُ: إذا عاد بجميع ماله على الوجه الذي نقول فيه: يبقى الأمان في المال، فلا ينبغي أن يتخذ ذلك المالَ، أماناً له يرجع إليه، ويأخذ البعض، ويُبقي البعض، ويتردّد في ديار الإسلام من غير أمانٍ يتجدد، ولو فعل ذلك، امتدت أيدي المسلمين إليه. نعم، لو دخل ولم يستمكن من استرداد الأموال، وانقلب ثم عاد، فلا بأس عليه. والغرض أنه يقتصر على قدر الحاجة، في استرداد الأموال.
فكل ما ذكرناه تفريع الحكم في حالة الحياة.
11385 - فأما إذا خلّف عندنا أموالاً، ولحق بدار الحرب، ومات في دار الحرب، فإن لم ينقض العهد في خروجه وطروقه، وإنما خرج لبعض وطره في شغلٍ، ثم يعود، فلا شك أن ماله في أمان ما دام حياً، فهاذا مات، فهل يصرف إلى ورثته؟ ظاهرُ المذهب أنه مصروف إلى ورثته كما لو مات هاهنا في العهد على أمواله؛ فإن أمواله مردودة إلى ورثته، وإن كانوا حربيين لا عهد لهم، ولا أمان بيننا وبينهم.
هذا هو المذهب.
فأما إذا كان التحاقه بدار الحرب بعد نبذ العهد إلينا، فإن قلنا: أموالُه عندنا [فَيْء] (1) في حياته، فلا يخفى أنها تكون فيئاً بعد وفاته، وإذا كنا لا نصرفها إليه وهو حي، فلا [شك] (2) أنا لا نصرفها إلى ورثته بعد موته.
وإن قلنا: إن أمواله مردودة عليه في حياته، فإذا مات، وقد كان نبذ العهد إلينا، ففي أمواله حيث انتهى التفريع إليه قولان في الأصل: أحدهما - أنها تصرف إلى ورثته كما كانت تصرف إليه في حياته.
والقول الثاني - أنها تصير بعد موته فيئاً؛ وذلك أنا كنا نعلّق أمان ماله بعُلقة أمانه على معنى أنه يعود، فيأخذها. فإذا مات وقد كان نبذ إلينا العهد في الحياة، وانضم
__________
=وبعضهم يقول: بالذال، وبعضهم يقول: بالزاي. (المصباح).
(1) زيادة اقتضاها السياق.
(2) في الأصل: " يشكل ".

(17/493)


إليه مماته وفواتُه؛ فيضعف أثر الأمان في حكم المال، وقد أطلقنا هذين القولين الآن، وسنذكر -إن شاء الله تعالى- في أثناء الفصل وجهَ مأْخذ القولين، وتصرّفَ الأصحاب.
وقال قائلون: إذا خرج المعاهد إلى دار الحرب، ولم ينبذ عهده، ولكن أراد قضاء وطرٍ وعودةٍ بعدُ، فإنه إذا مات في دار الحرب، ففي أمواله التي عندنا قولان، كالقولين فيه إذا نبذ العهد، والتحق، فانتظم قولان، في الذين نبذوا، وطريقان في الذي خرج لشغل، ثم اتفق موته في دار الحرب.
11386 - ومما يجب الاهتمام به في مسائلِ هذا الفصل أن الحربي إذا أمّناه، وأوح عندنا أموالاً -كما ذكرناه- ثم خلّف الأموال، ونبذ العهد، والتحق بدار الحرب، وسُبي، فضرب الرق عليه، وعاد إلى أيدي المسلمين رقيقاً، فكيف حكم الأموال التي كان أودعها عندنا قبل الالتحاق وقبل الاسترقاق؟ فنذكر في هذه الصورة حكمَ ماله في حياته، وهو في نفسه مسترق، ثم نذكر حكم ماله إذا مات رقيقاً.
فأما تفصيل القول في أمواله حالة حياته، فنقول: إن لم نر لأمواله أماناً إذا التحق بدار الحرب، فلا إشكال في أن أمواله المخلَّفة فينا فيءٌ. وإن فرّعنا على أنه يبقى لأمواله حكمُ الأمان إذا التحق بدار الحرب، ويبقى في قضية الأمان في حياة ذلك الملتحق النابذ للعهد، فهذا ما دام على نعت المالكين، فإذا وقع في الأسر، ورفَقْناه، فالذي يجب تحصيله ونقله -على قولنا: إن أمان المال يبقى لو لم نسترقّه- قولان: أحدهما - أنا نقف ماله، وننتظر عاقبةَ أمره، فإن مات رقيقاً، وقعت المسألة في القسم الذي التزمنا بيانه، وهو أن يموت رقيقاً، وإن عَتَق، رُدّ المال إليه، وجعلنا طريان الاسترقاق مع اتفاق العتاق بمثابة تماديه في نقض العهد، فإذا زال، عاد الأمر إلى ردّ المال إليه، فهذا قولٌ، وحاصله وقفٌ. وله عاقبتان بينا إحداهما، وأجلنا الأخرى.
والقول الثاني - أنه إذا استُرق، فالأموال التي خلّفها فيءٌ؛ فإنه انضم إلى نبذ العهد خروجُه عن كونه مالكاً، فوهى الأمان في المال وانبتَّ، وإن كان يبقى لو بقي مالكاً، وهو قولٌ متجه منقاس.

(17/494)


فأما إذا استُرِق، ومات رقيقاً، فنقول: أولاً- لا مطمع لسيده في ملك الأموال، ولا تعلق له فيها، والمنصوص عليه في هذه الصورة أنها تصير فيئاً. هذا هو النص، وليس كما لو مات حراً بعد نبذ العهد؛ فإن الشافعي نص على قولين في أنا هل نصرف الأموال إلى الورثة، فأجرى قولين، ثم قطع هاهنا بأن تلك الأموال فيء، والفرق متضح؛ فإن التوريث ثَمَّ إن قلنا به، فهو توريث من حرّ، وهاهنا لو صرفنا المال إلى الورثة، لكنا صرفناه إليهم توريثاً عن رقيق، وهو غير جارٍ على القاعدة، فاتضح الفرق.
11387 - ولكنْ للشافعي نصٌّ في مسألة تساوي هذه، والنص على المخالفة، وتلك المسألة مقصودة في نفسها، وقد أجلناها من كتاب الجراح إلى هذا الفصل، وقلّما يوجد في المعضلات مثلُها؛ فإنه يشترك فيها -كما سنُفصّلها- أصول متعارضة.
فالرأي أن نأتي بها ونبالغ في كشفها، وتنزيل فروعها على أصولها، ثم إذا لاحت المسألةُ، انعطفنا بعدها على غرضنا من الأموال التي استُرق مالكها.
وصورة المسألة أن يجني مسلمٌ أو ذمي على ذمي، فيقطع يديه مثلاً، ثم يلتحق الذميّ المجني عليه بدار الحرب، ويصير حرباً لنا، ثم يقع في الأسر، ويرى صاحب الأمر أن يضرب عليه الرق؛ فإذا رَقَّ -وتعيّن مالكه ضرْباً للمثل- والجراحة القديمة به، وسرايتها دائمة، فما الذي يجب على الجاني؟ وما يصرف إلى السيد؟ وإن فرض فاضل، فإلى من يصرف؟
فالذي يقتضيه الترتيب أن نذكر أولاً ما يلتزمه الجاني، ثم نذكر من يصرف إليه، والقول فيما يلتزمه الجاني يستدعي تجديد العهد بتراجم الأصول؛ فإن المسألة تلتفت إليها.
منها أن من قطع يدي عبدٍ قيمته مائتان من الإبل، ثم عتق ومات، فلا خلاف أن الجاني لا يلتزم أكثر من الدية نظراً إلى المآل، وهذا من الأصول الممهَّدة، وهو النظر إلى المآل في المقدار.
هذا مذهب الشافعي وأصحابه.

(17/495)


وقال المزني فيما نقله عنه الناقلون: يجب على الجاني أرش اليدين، مائتان من الإبل، وقد نبهنا على هذا في الجراح، وذكرنا غائلتَه، وغرضُنا الآن الاقتصارُ على تراجم.
ومن الأصول المقدمة أن من قطع يدي مسلم ورجليه، ثم ارتد المجني عليه، ومات مرتدّاً، فالمذهب أنه لا يجب على الجاني إلا ديةٌ واحدة.
وقال الإصطخري: يجب عليه أروش الأطراف، وهذا مما مضى مبيَّناً.
ومما يُحتاج إليه في المسألة التي انتهينا إليها أن من جرح مسلماً، فارتد المجروح، ثم عاد إلى الإسلام، ومات بتلك الجراحة مسلماً، ففي وجوب القصاص على الجاني تردّدٌ؛ فإن أوجبناه، فلا شك أن الدية تكمّل إذا آل الأمر إليها، وإن لم نوجب القصاص، فالمنصوص عليه أنه يجب تمام الدية، وخرّج ابن سريج قولاً أنه يجب ثلثا الدية، ويهدر ثلثها، فوزَّع الدية على حالتي الضمان، وحالة الإهدار، المتخللة، وذكر بعض الأصحاب قولاً آخر أنا نهدر نصفاً، ونوجب نصفاً.
11388 - فإذا تجدد العهد بما ذكرناه، عدنا إلى مسألتنا التي صورناها. وهي: إذا جرح مسلم ذمياً، فنقض المجني عليه العهدَ، والتحق بدار الحرب، والسرايةُ باقية، فاستُرِق، ومات في يد مالك رقّه بتلك السراية، فحاصل ما نقله الأصحاب فيما يجب على الجاني ثلاثةُ أقوال: الأولان منهما منتظمان: أحدهما - أن الجاني يلتزم أقلَّ الأمرين من أرش الجناية، أو قيمة الرقيق، ونقدر أرش الجراحة دية يهودي، والرجوع في القيمة إلى السوق، فيجب على هذا القولِ على الجاني الأقلُّ من الأرش أو القيمة. والقول الثاني - أنه يجب القيمة بالغةً ما بلغت، ولا نظر إلى الأرش.
وحكى القاضي، والإمام والدي قولاً ثالثاً، أن الجاني يلتزم أرش الجناية بالغاً ما بلغ، ولا نظر إلى مقدار القيمة. وهذا أضعف الأقوال توجيهاً.
[توجيه الأقوال] (1):
11389 - من قال: يجب أقلُّ الأمرين، احتج بأن قال: إن كانت القيمةُ أقلَّ،
__________
(1) زيادة اقتضاها السياق.

(17/496)


فالاقتصار عليها خارج على اعتبار المآل، وهو من أصول المذهب، وقد صارت الجراح نقصاً، وإن كان الأرشُ أقلَّ، فلا وجه لإيجاب زائدٍ؛ لأن المجني عليه بعد الجناية صار مباحاً، والرق نتيجة الإباحة، ومن استحق الرقَّ، فاستحقاقه طارئٌ على إباحةٍ قاطعةٍ للعهد السابق، فيبعد أن يضمن الجارح قبل الإباحة مزيداً بسبب رقٍّ ترتب على الإباحة، وحق من يملك مباحاً أن يكتفي بما يصادفه. هذا توجيه هذا القول.
ومن أوجب القيمة، استمسك باعتبار المآل، وقال للقائل الأول: إنك تنظر إلى القيمة إذا كانت أقلَّ. فإذا توجه النظرُ إليها، تعين اعتبارها، وكان الرق بعد الحرية في العاقبة كالعتق فيه إذا جنى على عبدٍ ثم عتق ومات.
وأما من قال: يجب أرش الجناية بالغاً ما بلغ، فليس لهذا اتجاه إلا على المذهب الذي حكيناه للإصطخري فيه إذا قطع رجلٌ يدي رجل ورجليه، ثم ارتد المجني عليه، ومات، فإنه يوجب أرش الجراحات، وإن زادت على الدية؛ مصيراً إلى أن الإباحة بعد الجناية، تمنع اعتبار المآل؛ من حيث لو اعتبر المآل، للزم الإهدار، فعلى هذا يتجه إيجاب أرش الجراحات بالغاً ما بلغ.
فإن قيل: كيف وجه التشبيه؟ والذي ارتد في مسألة الإصطخري مات مرتداً، والمجروح في مسألتنا مات رقيقاً مضموناً؛ قلنا: وإن كان كذلك، فالرق مرتب على الإباحة وهو نتيجة الإباحة.
11390 - وبقي وراء الأقوال مباحثة وإشكال [متلقى] (1) من أصلٍ من الأصول التي ذكرناها، وهو أن من جرح مسلماَّ، ثم ارتد، ثم عاد إلى الإسلام، ومات في الجراحة، فإن قلنا: تجب الدية الكاملة، فلا إشكال في مسألتنا، وإن رأينا على التخريج أن نوجب بعض الدية، ونهدر بعضها، لمكان الإهدار الطارئ، فعلى هذا يجب إنعام النظر في مسألتنا، من جهة أن سراية الجراحة بقيت، وهو حر ثم استرق بعدها، فحقُّ تلك السراية ألا يُضمن موجبها، فنقول: يستعمل هذا الأصل على
__________
(1) في الأصل: " ملتقى ".

(17/497)


الأقوال، فإن قلنا: الاعتبار بالقيمة، فلا نظر إلى أرش الجناية، فعلى هذا يخرج أن نقول: يجب ثلثا القيمة، أو نصف القيمة، كما ذكرنا هذا في مسألة طريان الرّدة.
وإن قلنا: الواجب على الجاني أرش الجراحة بالغاً ما بلغ، فلا يعترض هذا الإشكال على هذا القول، ولا نظر إلى الإهدار بعد الجراحة، ولا نظر إلى المآل بحال.
وإن قلنا: على الجاني أقلُّ الأمرين من أرش الجراحة أو القيمة، فالوجه أن نقول: على الجاني أقلُّ الأمرين: من الأرش أو نصفُ القيمة في قولٍ، أو ثلثي القيمة في قول، فنعتبر المناسبة في استخراج الأقل على النسبة التي يقتضيها التخريج في القيمة إذا قلنا: الاعتبار بالقيمة.
هذا نجاز القول فيما يلتزمه الجاني.
11391 - والكلام وراء هذا في أن ما يلتزمه الجاني إلى من يُصرف؟ نرسل في هذا ما ذكره المحققون، ثم نذكر مستدركا قريباً بيّناً: فإن قلنا: على الجاني أقلُّ الأمرين من الأرش أو القيمة، فهو مصروف إلى ورثة المسترَق، هكذا نصّ الشافعي؛ فإن الأرش إن كان أقل، فقد جرى في حالة الحرية قبل الإباحة، وتولّج بينها وبين الرق إباحة فاصلة، فالأرش مصروف إلى الورثة، وإن كانت القيمة أقل، فهذا سمّي قيمة، وهو في التحقيق بعضٌ من الأرش، وكأن الأرشَ نَقَصَ بنظرتنا إلى المآل، فإذا كنا نصرف الأرشَ إلى الورثة بالتقدير الأول، وهو مثل الجناية، فالناقص أولى بالصرف إليه.
ووراء هذا غائلة، ولكن بيان المسألة عند نجازها.
وإن قلنا: الواجب قيمة المسترق بالغة ما بلغت، فمقدار الأرش من القيمة يصرف إلى الورثة؛ فإن ذلك ثبت بسبب الجناية، في الحرية، وأما الفاضل من القيمة، فإنه مصروف إلى المولى، وإن كانت القيمة مثلَ الأرش أو أقلَّ منه، فهي بجملتها مصروفة إلى الورثة، وإن قلنا: يجب الأرش بالغاً ما بلغ، ولا نظر إلى القيمة، فالوجه القطع بأنه مصروف إلى الورثة، لا حظ للسيد فيه.

(17/498)


وقال القاضي: يصرف مقدار القيمة من الأرش إلى السيد، ويصرف الفاضل إن فضل شيء إلى الورثة، وهذا غلطٌ صريح؛ فإنا إذا أوجبنا الأرش بالغاً ما بلغ، فلسنا نلتفت إلى القيمة، ولكن صاحب هذا القول يعتقد أن طريان نقض العهد يمنع اعتبار المآل؛ فإن الرق وإن أحدث ضماناً، فهو مترتب على الإباحة كما سبق تقديره، فإذا كان مقتضى هذا القول قطعَ النظر عما بعد الجناية، وحق مستحق الرق يتعلّق بالرق، فإنا إذا لم نعتبر القيمة، ولم نلتفت إليها، فيستحيل صرف شيء من الأرش إلى السيد، بل يتعين صرف الأرش بكماله إلى الورثة على موجب النص.
فالوجه أن نقول: إن حكمنا بإيجاب الأرش، فهو مصروف إلى الورثة على مقتضى النص، وإن قلنا: الواجب القيمة بالغة ما بلغت، فإن كانت قدرَ الأرش، أو أقلَّ منه، فهو مصروف إلى الورثة، وإن كانت أكثر من قدر الأرش، فمقدار الأرش مصروف إلى الورثة، والفاضل مصروف إلى السيد.
هذا هو التفريع القويم على الأقوال.
وعلينا بقايا في هذه المسألة.
11392 - ولكن حان أن نرجع من هذه المسألة إلى ما كنا فيه قبل الخوض في هذه من أحكام الأموال التي أودعها ثم استرِق: ظاهر النص أن تلك الأموال فَيْءٌ إذا مات المسترَق على رقه، وقبل أن يموت فيه قولان. هذا هو النص في الأموال.
ونصَّ في مسألة الجراحة أن الواجب على الجاني مصروفٌ إلى ورثة المسترَق أو بعض ما يجب، كما فصلنا في التفريع على الأقوال الثلاثة في مسألة الجناية، ولا فرق؛ فإن المجروح مات رقيقاً، والمسترَق الذي كانت له أموالاً مات رقيقاً، والتوارث من الرقيق بعيد، غير جارٍ على القولين في المواريث، وإن أسندنا الإرثَ إلى ما قبل جريان الرق، كان هذا توريثاً من حي، ويستوي فيما نبهنا عليه أرش الجراحة والمال.
فقال أصحابنا: في المسألتين قولان بالنقل والتخريج -إذا اتصل (1) -: أحد
__________
(1) كذا. ولعل في ذكر عبارة الغزالي في البسيط مزيدَ توضيح، قال: " فإن قيل: كيف نصَّ=

(17/499)


القولين- أن الأموال والأرش على ما تقدم التفصيل فيءٌ، فإنها أموالاً متلقاة من كافر من غير قتال، وقد عسر تقدير الميراث؛ من جهة أن التوريث من الرقيق غير ممكن، والتوريث في حالة الحياة، لا سبيل إليه، وهذا عندي أقيس القولين.
والقول الثاني - أن الأموال مصروفة إلى الورثة، وكذلك الأرش على ما فصلنا التفريع على الأقوال الثلاثة، ووجهه أن الأموال كانت مبقّاة فينا (1) على حكم أمانٍ ونقضُ مالكها العهد لم يُبطل الأمانَ في المال؛ فإن هذه التفريعات بجملتها مجراة على أن حكم الأمان يبقى في الأموال، ثم لو مات الحربي عليها، فقد ذكرنا قولين في أنه هل يورث، وصححنا التوريث منه، فالاسترقاق ينبغي ألا يحُلَّ (2) أمانَ المال، كما لم يحُلّ نبذُ العهد أمانَ المال، وإذا لم يحُل أمان المال، وتعيّن ألا يُصرفَ إلى جهة الفيء، ثم لا مسلك أخص به من مسلك التوريث، فاقتضى مجموعُ ذلك الصرفَ إلى الورثة.
فأما امتناع التوريث من الرقيق، فذاك من تفاصيل شرعنا، والكفار لا يتعبدون بتفاصيل الشرع إيقاعاً وابتداءً، ومن زعم أنهم مخاطبون عَنَى بذلك ربطَ المأثم بهم في ردّهم الشرع المشتمل على تفاصيل الأحكام، ثم يتعرضون لاستيجاب العقاب على كلّ محرّمٍ في الشرع اقتحموه، وكل واجب تركوه، فأما ربط ما يتعلق بهم بقواعد الشرع وشرائطها، فلا سبيل إلى التزامها، فقد جرى القولان في الأموال، والأروش الذي كنا نصرفه في مسألة الجناية إلى الورثة.
__________
=الشافعي على الصرف إلى الوارث، وقد مات رقيقاً، ونص في وديعة المستأمنَ إذا مات رقيقاً أنه فيء لعسر التوريث من الرقيق؟ قلنا: من ذلك قال الأصحاب: في المسألتين قولان بالنقل والتخريج من غير فرق: أحدهما - أن المال في المسألتين مصروف إلى الفيء؛ فإن التوريث من الرقيق بعيد، وأبعد منه التوريث من الحي لو أسندنا الاستحقاق إلى ما قبل الموت.
والثاني - أنه للورثة، إذ جعلُه فيئاً نقضٌ لحكم الأمان، فلا بدّ من بقاء الأمان، ومنع التوريث من الرقيق حكمُ شرعِنا، فلا ننقض أمان الكفار بهذا العذر، وهم لا يؤاخذون بحكم شرعنا في الحال ". (ر. البسيط: 5/ورقة: 172 يمين).
(1) فينا: أي في ديار الإسلام.
(2) ألا يحُل أمان المال: أي ألا يبطل أمان المال.

(17/500)


11393 - فإن قلنا: الأموال والأروش مصروفة إلى مصارف الفيء، فلا كلام.
وإن قلنا: هي مصروفة إلى الورثة، ففي طريق الصرف إلى الورثة تردد عندي، يجوز أن يقال: لا يصرف إليهم إرثاً، وإنما يصرف من حيث لا يؤخذ منهم، فالمال في أمانٍ غير منحلّ. وهذا يناظر ما إذا قلنا: من مات وبعضه حر وبعضه رقيق، فالأموال التي خلصت له بسبب الحرية مصروفة إلى مالك الرق في بعضه، وليس هذا توريثاً، وإنما هو صرف مال إلى أخص الجهات، حيث يعسر إجراء قوانين الميراث، ولذلك أقمنا السيد مقام العبد المقذوف بعد موته في طلب التعزير، وليس هذا من التوريث، ولكنه استمساك بأخص الطرق.
ولو استدّ نظر الناظر، استبان له أن التوريث بابٌ من التخصيص أيضاً؛ فإن الأموال إذا زال عنها مالكها المختص، ولا سبيل إلى تعطيلها، فالوجه إقامة من يختص بالميت مقامه في نسب أو بسبب كما تقتضيه قواعد الفرائض، هذا مسلكٌ.
ويجوز أن يقال: هذا توريث. وقد صرح بذلك النص، وأطلقه الأصحاب، ثم على هذا تردد سيأتي شرحنا عليه، إن شاء الله تعالى.
فإن قلنا: ليس ما ذكرناه توريثاً، فلا محاشاة من المصير إلى أن المال يصرف إلى الأخصِّين يوم الموت، وإن قلنا: هذا توريث، فينقدح فيه وجهان: أحدهما - أن نقول: نتبين استناد استحقاق الورثة إلى ما قبل جريان الرق، فإن قيل: هذا توريث من حيٍّ. قلنا: هو كذلك. والعبارة القريبة من النظم أن نقول: هذا توريث يناظر مسألةً ذكرناها في الجراح، وهي أن من قطع يد مسلم ثم ارتد المجني عليه ومات مرتدّاً، فقد قال الشافعي: لوليه المسلم القصاصُ في الطرف، فهذا في التحقيق خلافةٌ أثبتها بين المسلم وبين المجني عليه لمّا كان مسلماً، فإنه لو اعتبر حالة الممات، لكان مورِّثاً مسلماً من كافر، ولا يرث المسلم المرتد عندنا.
والذي يحقق ما ذكرناه أن من استُرق ومات، فقد زالت أملاكه بالرق، كما يزول ملك الحي بالموت، فكان الرق المتقدم على موته في معنى الموت، فأثبتنا الخلافة متصلة بمُزيل الملك، وإن لم تكن متصلة بالموت نفسه.

(17/501)


11394 - وقد أجرينا في أصول هذه المسألة أموراً بديعة من أدناها: أنا قلنا: من جنى على عبدٍ ثم عَتَق، فالواجب الدية، ويصرف قسط منها، أو كلُّها إلى من كان مالكاً قبل الموت، وإن كان مستحق الرق [لا يستحق] (1) من بدل الحرية شيئاً، والدية بدل الحر.
ثم إنا خصصنا ما ذكرناه من الخلافة بحال الموت، لأن الرقيق، وإن لم يكن مالكاً، فالملك له متوقع، ولا إرث ما لم ينقطع التوقع.
هذا بيان هذه المسألة.
فإن قيل: أين يقع التوريث من الرقيق من صرف شيء من الدية إلى من كان مالكاً في مسألة طريان العتق؟
قلنا: شرط استحقاق الورثة حريةُ من يُتلقى الاستحقاق منه، كما أن شرط استحقاق المالك رقُّ المجني عليه، وقد تقدم الرقُّ في مسألة طريان العتق، ولم نجد سبيلاً إلى إبطال حقّ مُستحِق الرق، وإن زال الرق بالعتق؛ لأن العتق لا ينعطف على ما فات بالجناية. وفي مسألتنا ما فات في زمن الحرية أو مُلك في زمن الحرية، فالرق لا ينعطف عليه. والحكم السابق لا سبيل إلى إبطاله بما يَلْحق، على ما قررناه.
فالتقت المسألتان في التحقيق. وإن تقدّمت الحرية في أحدهما، وتأخرت في الأخرى، فالمسألتان مفترقتان من الصورة مجتمعتان في الحقيقة.
ومما كان يذكر شيخُنا متصلاً بهذا الفصل أنه لو أعتق الذمي عبداً، وثبت له الولاء عليه، ثم نقض العهدَ، والتحق بدار الحرب، فوقع في السبي، فأرققناه. فإن مات رقيقاً، فلا حظ للسيد في ولاء مواليه ومعتَقيه إذا كان ذمّياً، كما لاحظ له في المال، وهو لما رَقَّ خرج عن أن يكون مستحِقاً للولاء، فحكم ولاء المعتقين كحكم الأموال.
وقد ذكرنا مصارف أمواله.
وهذا الكلام مفهوم في نفسه. ولكن ليس على الحد الذي أُحبه، فإن غاية البيان لا يتأتى في الوَلاء إلا بعد الإحاطة بأصله، وقد تركت وخلَّفت فيما تقدّم غوامضَ من أحكام الوَلاء، وأنا أرجو من الله تعالى أن آتي بقواعد الوَلاء في بابٍ من كتاب العتق
__________
(1) زيادة لا يستقيم الكلام بدونها.

(17/502)


على وجهٍ لا يغادر مشكلة، إن شاء الله عز وجل.
ثم قال: لو أعتق مالكُ المسترَق، فهل ينجرّ الولاء إليه؟ فعلى وجهين. وهذا يستدعي الإحاطة بجر الولاء وموضعه، وسيأتي ذلك كله في موضعه من باب الولاء إن شاء الله تعالى.
وإذا انتهينا إلى ذلك الباب أعدنا هذه المسائل في الولاء، وتداركنا ما فيها من إبهام، إن شاء الله عز وجل.
فصل
قال: " ومن خرج إلينا منهم مسلماً ... إلى آخره " (1).
11395 - من خرج إلينا مسلماً من الكفار قبل الظفر به، عصم دمه وأحرز ماله ولا فرق بين العقار والمنقول، فلو كانت له أموال في دار الحرب لم نعرض لشيء منها، ولا فَصْل بين مالٍ ومال. فأما الأولاد، فإن كانوا صغاراً ثبت لهم حكم الإسلام تبعاً، وإن كانوا كباراً، فلا يلحقهم من عصمة إسلام أبيهم [شيء] (2)؛ فإنهم مستقلون، فإن أرادوا العصمة، فليسلموا، والإسلام لا يجري مجرى العهود والمواثيق التي تعقد للواحد مرة والجمع أخرى، وإنما هو اتصافٌ بالدين، ثم مالُ المسلم معصوم كدمه، والمتعلقون به يُعصمون لإسلامهم لا لإسلام من ينتمون إليه.
وهذا على وضوحه يزداد بياناً بأن [نفرّق] (3) بين الإسلام والذمة، فنقول: من عقدنا له الذمة تعدّت قضية الذمة إلى زوجاته وبناته الكفار، كما تتعدى إلى أمواله؛ فإنه بذمته يبتغي أن نُقرّه مع أهليه في دار الإسلام، والبنت الكبيرة لا تقبل الجزية بنفسها، فاندرجت تحت الذمة المعقودة للذمي.
ومن أسلم من الكفار، وله بنت كبيرة حربية، فعصمة إسلام الأب لا تلحقها؛ فإنها متمكنة من الإسلام انفراداً، فلْتُسلم، وهي من طريق التقريب والتشبيه في
__________
(1) ر. مختصر المزني: 5/ 189.
(2) زيادة من المحقق.
(3) في الأصل: " فرّق ".

(17/503)


الإسلام تنزل منزلة الابن الكبير في الذمة، فإن الذمّي لا يستتبع بنيه في الذمة، بل إن أرادوا العصمة، فليقبلوا الجزية بأنفسهم. فلما تُصوّر استقلالهم لم يتبعوا في الجزية، والبنت في الاستقلال بالإسلام كالابن، وهذا وإن أطلناه، فهو بينٌ عند الفقيه، لكنا نرى ألاّ نُغفل في تمهيد الأصول جليَّاً ولا خفيّاً.
11396 - ولو بدت تباشير الفتح في القلعة التي حاصرناها، فمن أسلم قبل حقيقة الفتح، عصم نفسه وماله، وتعدّت العصمة إلى صغار أولاده، من حيث يلحقهم الإسلام على جهة التبعية. واحتج الشافعي في ذلك بقصة ابني سَعْية (1)، كانا من بني قريظة، فخرجا مسلمين لما حاصر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعصما بإسلامهما أموالهما وصغار أولادهما، وابنا سَعْية هما: ثعلبة وأُسيد، وسبب إسلامهما معروف (2).
ولو كان الذي أسلم زوجَةً حربية، فقد قدمنا الخلاف في أن زوجة المسلم هل تُسبى؟ فذلك الخلاف يعود، ولو كان للذي أسلم ولدٌ مجتنّ في بطن حربية، فإن كانت زوجتَه، فقد مضى الكلام فيها، وإن لم يكن عليها زوجية، فهي مسبية مسترقة، والجنين الذي في بطنها، لا يرق، من جهة أن الإسلام لحقه، وهو موصوف بالإسلام، فلا يلحقه السبي والرق، كالمولود المنفصل.
وخالف أبو حنيفة (3) في مسائل مما ذكرناه منها: أنه قال: من أسلم، فماله المنقول لا يغنم، وعقاره يغنم. وقال: لو اشترى مسلمٌ دخل دار الحرب عقاراً، فهو مغنوم، وإن كان مِلكَ المسلم. والجنينُ في بطن الأم يلحقه الرّق عنده إذا سبيت الأم.
__________
(1) سَعْية: بفتح السين وسكون العين، وقيل بضمها، وهو تحريف، وقيل بالنون بدل الياء المفتوحة، قاله الحافظ في تنبيهاته في التلخيص.
(2) الحديث رواه البيهقي في قصة طويلة (ر. السنن الكبرى: 9/ 114، وانظر التلخيص: 4/ 206 ح 2250) وراجع الإصابة: 1/ 33، 49 وفيه: أُسيد كما ذكره الإمام، وقال: " بضم الهمزة، وقيل بفتحها، وقيل أسد " أي بدون ياء كما في التلخيص.
(3) ر. مختصر الطحاوي: 289، 290، فتح القدير: 5/ 231، 232، تبيين الحقائق: 3/ 253، ملتقى الأبحر: 1/ 645.

(17/504)


وحكمُ الذمي، وحكم أمواله الكائنة في دار الحرب سيأتي مستقصىً في كتاب الجزية، إن شاء الله تعالى، وسنذكر أحكام المعاهدَ والفرقَ بينه وبين الذمي في هذه القضايا التي أشرنا إليها.
والإسلام بعد الأسر، ممّا سبق القول فيه في كتاب القَسْم، وبينا نص الشافعي رضي الله عنه، حيث قال: " إذا أسلموا بعد الإسار رقّوا " وأوضحنا تأويل ذلك، وقد روي أن [عُقيلياً] (1) أُسر، فأسلم بعد الإسار، فقال صلى الله عليه وسلم: " لو قيلت (2) قبل هذا، لأفلحتَ كل الفلاح " (3).
فصل
قال الشافعي: " قال الأوزاعي: فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة عَنْوة ... إلى آخره " (4).
11397 - حقيقة مذهبنا في ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل مكة مستعداً للقتال لو قوتل؛ ولكنه لم يقاتل، فأمّن أهلَ مكة على جملةٍ، ثم على تفاصيلَ، وأمر بقتل رجالٍ مخصوصين كان عزم على قتلهم، وأمر بقتل القَيْنتين؛ فهذا ما جرى، وقتل خالدُ بنُ الوليد بين الصفا والمروة طائفةً من بني نُفاثة (5)،
__________
(1) عقيلياً: أي من بني عقيل، وفي الأصل: " عقيلاً "، وهو تصحيف.
(2) في الأصل: " قتلت ". والتصويب من نص الحديث.
(3) حديث " لو قيلت قبل هذا لأفلحت كلّ الفلاح " رواه مسلم وأبو داود والشافعي من حديث عمران بن حُصين (ر. مسلم: النذر، باب لا وفاء لنذر في معصيته ولا فيما لا يملك العبد، ح 1641. أبو داود: الأيمان، باب النذر فيما لا يملك، ح 3316، ترتيب مسند الشافعي 2/ 404).
(4) ر. المختصر: 5/ 190.
(5) قال الشافعي: والذين قاتلوا، وأذن في قتالهم بنو نفاثة قتلة خزاعة (ر. المختصر: 5/ 190) وبنو نفاثة هم من بني بكر الذين دخلوا في عهد قريش يوم صلح الحديبية، وبنو نفاثة هؤلاء هم الذين بيتوا خزاعة ناقضين لعهد الحديبية مما كان السبب في انتصار الرسول صلى الله عليه وسلم لخزاعة، بفتح مكة؛ إذ كانث قريش قد شاركت في نقض العهد والعدوان على=

(17/505)


وقيل: كانوا بيتوا خزاعة المستجيرين برسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يقع ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم موقع الرضا، ولما رأى بريق السيوف على الميسرة، والمؤمرُ عليها خالد بنُ الوليد، قال: " اللهم إني أبرأ إليك مما فعل خالد "، وفي الحديث " أنه ودى القتلى من عند آخرهم، حتى ميلغة الكلب " (1).
فمن قال: دخل مكة عَنوة على معنى أنه مُنع، فقاتل، فليس الأمر كذلك، ومن أراد بدخوله عَنْوة أنه دخلها بعُدّة على هيئة الاستمكان من القهر، فهذا حق لا ينكر، وما جرى من القتال فيه وصفناه. وليس في الخلاف في هذه المسألة كثير فائدة.
والذي جرى الرسم بذكره في أطراف هذه المسألة، القول في عقار مكة.
وعَقارُها وعِراصها المحياة كلها مملوكة، كالدور في سائر البلاد، يصح بيعها، وتنفذ جميع تصرفات الملاك فيها.
ومذهب أبي حنيفة (2) أن بيع عقار مكة مردود، ولهم اضطراب، لا حاجة بنا إلى نقله.
...
__________
=خزاعة. (ر. مغازي الواقدي: 2/ 612، 782، 783، واللباب في تهذيب الأنساب: 3/ 319 وفيه بنو نفاثة، وهو بطن من كنانة، ولا منافاة؛ فبنو نفاثة من بكر، وبكر من كنانة).
(1) خبر قتال خالد يوم فتح مكة، وقوله صلى الله عليه وسلم " إني أبرأ إليك مما صنع خالد ... " رواه البخاري، والنسائي، وأحمد، والواقدي في المغازي، وابن هشام في السيرة عن ابن إسحاق، وابن سعد في الطبقات (البخاري: المغازي، باب بعث النبي صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد إلى بني جذيمة، ح 4339، النسائي: آداب القضاء، باب الرد على الحاكم إذا قضى بغير الحق، ح 5407، المسند: 2/ 151، المغازي للواقدي: 3/ 881، 882، السيرة لابن هشام 4/ 72 - 74، طبقات ابن سعد: 2/ 148).
(2) فيما رأيناه في كتب الأحناف فإنّ أبا حنيفة رضي الله عنه لا يرى بأساً ببيع بناء مكة، ويكره بيع أرضها، وكذا إجارة بيوتها في الموسم من الحاج والمعتمر. (ر. مختصر اختلاف العلماء: 3/ 66 مسألة: 1146، مختصر الطحاوي: 439، الجامع الصغير: 481، بدائع الصنائع: 5/ 146، تكملة فتح القدير: 8/ 495).

(17/506)


باب وقوع الرجل على الجارية قبل القسمة
قال الشافعي: "إن وقع على جارية من المغنم قبل القسيمة ... إلى آخره" (1).
11398 - مضمون هذا الباب يستدعي تقديمَ القول في أملاك الغانمين في المغنم قبل اقتسامه، ونحن نذكر في ذلك ترتيباً ضابطاً، ثم نفُضُّ عليه مسائلَ الباب. وقد استاق صاحبُ التقريب فصلاً جامعاً على أبلغ وجه في البيان، فقال: إذا غنم الغانمون النساء، ولم يقسموها، فهل يثبت الملك قبل القسمة للغانمين؟ فعلى ثلاثة أوجه: أحدها - أنه لا يثبت لهم الملكُ حقيقةً قبل القَسْم، وإنما يثبت له (2) حق التملك.
والدليل عليه أن من أعرض منهم، سقط حقه، كما سنصف ذلك، إن شاء الله تعالى، في أثناء الفصل، ولو ملكوا بالاستيلاء، لاستقر ملكهم، كما يستقر ملك المصطاد، والمحتش، والسارق من مال الكفار من غير مطاردة، وقال: فإن الأملاك إنما تنضبط بالجواز في العقود التي تلحقها الخيارات.
والوجه الثاني - أنه يثبت لهم ملكٌ ضعيف، كما يثبت الملك للمشتري في المبيع في زمان الخيار على القول الصحيح؛ فإن سبب الملك الاستيلاء؛ فاستحال أن يثبت السبب، ولا يثبت الملك، وأيضاً، فإن ملك الكفار زال، والأموال المغنومة أملاك محققة، ويبعد على مذهب الشافعي ملك لا مالك له.
والوجه الثالث - أن ملكهم موقوف، فإن سلمت الغنيمة حتى قسمت، تبين لنا أنهم ملكوها لمّا غنموها، وإن لم تتفق القسمة حتى تلفت الغنيمة، أو أعرض من يريد الإعراض، فيتبين لنا أن الغنيمة لم تُملك إن تلفت، وتبين أنه لم يملكها من أعرض
__________
(1) ر. المختصر: 5/ 190.
(2) الضمير يعود على الغانم.

(17/507)


عنها. ووجه هذا: أن الاستيلاء على حكم تجريد القصد [للملك] (1) لا يتحقق في المغانم، لما أوضحناه من أن الغرض من قتال الكفار إعلاءُ دين الله تعالى، والذب عن الملّة، والمغانمُ في حكم التابع؛ فإذا فُرضت القسمة فيها، تبينا حقيقةَ الاستيلاء، وإن فرض تلفٌ أو إعراض، تبيّنا نقيضه. فهذا وجهُ الوقف.
ثم إذا فرعنا على قول الوقف، فقسمت الغنيمة، فالرأي الحق أنا لا نقول: نتبين أن حصة كل واحد من الغانمين كانت له على التعيين قبل القسمة، ولكن معنى التبيّن أنهم إذا اقتسموها، تبيّنا أنهم ملكوا المغنم لما استولَوْا عليها ملكاً شائعاً، وتمييز الحصص يحصل بالقسمة، كما يقسم الورثةُ التركة؛ فإن القسمة تُخَلِّص لكل واحد حصته بالقرعة.
وحكى صاحبُ التقريب وجهاً غريباً مفرعاً على قول الوقف؛ فقال: إذا اقتسم الغانمون، تبيّنا أن كل واحد منهم ملك الحصة التي أصابته عند الاستيلاء على المغنم، وهذا على نهاية البعد، ولكن نقله صاحب التقريب، وفرّع عليه، كما سنبين تفريعه، إن شاء الله تعالى.
ووجه هذا الوجه على بعده أن كل واحد منهم قبل القسمة كان على خِيَرةٍ من أمره، إن شاء أعرض، وإن شاء طلب حقَّه من المغنم، وليس كذلك الأملاك المشتركة بين الشركاء، فإذا حصل الاقتسام، فتمام الاستيلاء في حق كل واحد منهم يتحقق بالقسمة، فالغرض يتضمن الانعطافَ على أول السبب، وهذا وإن تكلفنا توجيهه ليس بشيء.
11399 - ومما نذكره في أصل الملك أن من أعرض من الغانمين عن حصته قبل القسمة، سقط حقه من المغنم. وهذا يدل على عدم ملكه. أو على ضعف ملكه، أو على تردد على مقتضى الوقف.
ثم قال الأئمة: لو أفرزنا الخمس، وأفرزنا من رأس المغنم السّلَب على تفاصيلَ تامة جرت في القَسْم، وبقيت حقوق الغانمين، فلو أعرض واحد منهم بعد إفراز
__________
(1) زيادة اقتضاها السياق.

(17/508)


الخُمس، وما يخرج من رأس المغنم، فهل يسقط حق المُعْرِض بالإعراض والحالة هذه؟ ذكر صاحب التقريب أن المذهب أنه يَسقط حق المُعْرِض، وقال: وذكر ابن سُرَيج قولاً مخرجاً أن الإعراضَ بعد ما وصفناه من الإفراز لا يتضمّن إسقاطَ حق المعرض.
وحقيقة القولين ترجع إلى أن الملك هل يستقر بما وصفناه، من الإفراز حتى يصير الغانمون في حقهم الخالص بمثابة المشتركين في مالٍ؟ أم لا يستقرّ ملكهم ما لم يقتسموا حصصَهم؟ فعلى قولين: أحدهما - وهو المنصوص عليه أنه لا يستقر ملكهم، والثاني -وهو المخرّج- أن ملكهم يستقر. والتوجيه بيّن. فمن مال إلى أن ملكهم لم يستقر احتج بأن إفراز الخمس لا يُثبت القسمة في حقوقهم. وهم فيما يُخصّ بهم (1) كما لو كانوا من قبل. وهذا يتأيد بالدلالة التي جعلناها عماد الباب، وهي أن الغنيمة في وضع الشرع ليست مقصودة، وإنما يتأكد القصد فيها بالقسمة، وإفراز الخمس يؤكد قصدَ الغانمين في حصتهم.
والذي أراه في تنزيل القول المخرّج أن الإمام لو استبدّ بإخراج الخمس، فحقوق الغانمين لا تحول عما كانت عليه؛ لأنهم لم يُحدثوا في المغنم أمراً يشعر بتجريدهم القصد إليه، وإن استقسموا الإمام، واستدعَوْا منه أن يميز الخمسَ، فأجابهم الإمام، فهذا يشعر باختيارهم تأكيدَ حقوق أنفسهم. وهذا التفصيل مني. والذي حكاه صاحب التقريب مطلق، لا تفصيل فيه.
11400 - وينبني على ما حكيناه من المنصوص والمخرج أمرٌ، لا بدّ من التنبيه له: وهو أن ظاهر كلام الأصحاب أن من أعرض عن حصته، أُخرج من البَيْن، ويقدّر كأنه لم يكن، ويخمّس المغنم، ويصرف أربعة أخماسه إلى الذين لم يُعرضوا.
ويظهر مما حكاه صاحب التقريب من تخريج ابن سُريج أن نصيب المعرض ينقلب إلى الخمس، ولهذا يسقط أثر الإعراض بإفراز الخمس، وهذا يتأكد بشيء، وهو أن الخمس لا يتصوّر إسقاطه، وهو متأكد، لا يتطرق إليه الخِيَرةُ وإمكان الإعراض، فلا
__________
(1) من أَخصه به: أي خصّه.

(17/509)


يبعد أن يكون [أصلاً] (1) يرجع إليه [ما يسقطه] (2) كل معرض، ويحسن [الاستئناس] (3) بعد ذلك بقوله تعالى: {قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} [الأنفال: 1]، فالأصل أن تكون المغانم لله تعالى، ومن أعرض، رجعت حصته إلى أصلها.
وهذا استخراج وتكلّف، والمذهب الذي عليه التعويل ما قدّمناه من إخراج المُعرِض من البَيْن، والمصيرُ إلى أنه كالمعدوم، وتنزيلُ القسمة على الخُمس والأربعة الأخماس المصروفة إلى الذين لم يُعرضوا.
11401 - ومما ظهر اختلاف أصحابنا فيه أن الغانمين بجملتهم لو أعرضوا، فهل يصح إعراضهم أم لا؟؟ فالذي ذهب إليه المحققون أنه تسقط حصصهم بإعراضهم، وينعكس الأربعة الأخماس على مصارف الخمس، وتتوزع عليها.
ومن أصحابنا من قال: إذا أعرضوا بجملتهم، لم يسقط بإعراضهم شيء من حقوقهم في المغنم؛ لأنه يبقى -لو قدّرنا الإسقاطَ- كالخمس ومصارفه، ولا وجه لصرف مال الغنيمة إلى هذه المصارف دون غيرها، فينبغي أن يكون المغنم مخموساً. قال الله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال: 41]، وهذا التردد مترتب على ما هو المذهب من أن حصة المُعرض تفضّ على الخمس أو الأربعة الأخماس.
ومما يتعلّق بما نحن فيه أن الغانمين إذا أعرضوا، فالأقيس سقوط حقوقهم، كما قدّمنا، فلو قالوا: اخترنا القسمة، فهل تلزم أملاكهم بالاختيار، كما تسقط بالإعراض؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنه لا حكم للاختيار، ولا تستقر الحصص إلا بالقَسْم والإفراز. والثاني - أن حقوقهم وأملاكَهم تستقر، حتى لو فرض إعراضٌ لم يؤثر.
وقال شيخنا: لو أعرض القاتل عن سَلَب القتيل: هل يسقط حقه من السلب
__________
(1) في الأصل: رسمت هكذا " معـ ـصا " بدون نقط، ولم أُلْهم قراءتها.
(2) في الأصل: " وهو ما يسقطه ".
(3) مكان كلمة غير مقروءة في الأصل، رسمت هكذا: " المر " بدون نقط.

(17/510)


بالإعراض؟ فعلى وجهين: أحدها - يسقط كحصة الغانم من المغنم، والثاني - لا يسقط؛ لأنه يتعين له، فصار كتعين الحصة بالقَسْم. وهذا يضاهي الخلافَ في إعراض جميع الغانمين، فإن جملة المغنم متعينة لهم، ثم في إعراضهم من الخلاف ما قدّمناه.
وأصحاب الرضخ إذا أعرضوا، وكانوا مالكين لأنفسهم، فهو كإعراض أصحاب السهام، وإن رأينا أخذَ الإرضاخ من رأس المغنم، فلا نظر في ذلك.
والعبيد يصرف ما يقابلهم من الإرضاخ إلى مواليهم، ولا حكم لإعراض العبيد؛ فإنه لا حق لهم، وإذا أعرض سادتهم، سقط ما يصرف إليهم، وإن لم يكونوا من الغانمين؛ فإن إعراض الغانم مع اختصاصه بالاغتنام إذا أسقط حقه، فإعراض من يملك بواسطةٍ أولى بأن يسقط حقه.
11402 - ولو أعرض ذوو القربى عن حصتهم من المغنم، فكيف حكمه؟ وإنما فرضنا الكلام فيهم، فإنهم يُستوعبون، بخلاف اليتامى على الرأي الظاهر، فليسوا في حكم الجهة المبنية على الصفة نحو (1) الفقراء في الصدقات، فإذا أعرضوا عن حقوقهم، فهل تسقط حقوقهم؟
الأظهر أنها لا تسقط؛ فإن هذا منحة أثبتها الله تعالى لهم من غير مقاتلة وشهود وقعة، فليسوا كالغانمين الذين يحمل شهودهم على إعلاء كلمة الله تعالى، ويمكن أن يقال: تسقط حقوقهم بالإعراض قبل القسمة كالغانمين، فإن ما يُصرف إليهم ملكٌ لا يرعى فيه الحاجة، فكانوا كالغانمين؛ وقد صح: " أن عمر التمس من عثمان وعلي والزبير، وجبير بنِ مطعم أن يتركوا حقوقهم من غنيمةٍ كانت وافت المدينةَ من الأهواز ". وهذا فيه سؤالان: أحدهما - أن يقال: لعله استقرض منهم. وفي بعض الروايات ما يدل على ذلك، ولكن قول الزبير لعثمان: " لا تطمعه في حقنا؛ فإنه إن أسقطه، لم يعد " (2). يدل على أنه ما استقرض. هذا وجه.
__________
(1) نحو: أي مثل.
(2) خبر عمر مع عثمانَ وعليٍّ والزبير وجبير بنِ مطعم في ترك حقوقهم من غنيمة وافت المدينة من الأهواز، لم نصل إليه، والذي رأينَاه أن القصة جرت لعمرَ مع علي والعباس، فقد روى=

(17/511)


والوجه الثاني - أنه استوهبهم، فوهبوه. وهذا هو الظاهر. وانتجز به ما حَضَرنا من أحكام الإعراض عن المغنم. وقد انتهى به الكلام الكلي في أملاك الغانمين.
11403 - ونحن نخوض بعد ذلك في تخريج المسائل، فأول مسألة نُفَرِّعُها المسألةُ التي صدر الشافعي البابَ بها، وهي إذا كان في المغنم جاريةٌ، فوطئها أحدُ الغانمين، فلا يخلو: إما إن أحبلها، أو لم يحبلها. فإن لم يحبلها، فلا يخلو: إما إن وقعت تلك الجارية في قسمته، أو وقعت في قسمة غيره، لما قسمت الغنيمة، فإن وقعت تلك الجارية في حصة غيره، فلا يخلو: إما إن كان الغانمون محصورين، أو كان بحيث يتعذر ضبطهم لكثرتهم، فإن كانوا محصورين يتيسر ضبطهم، فحكم المهر يُخرَّج على الملك. فإن قلنا: لا يثبت لواحدٍ منهم ملك على الحقيقة قبل القسمة، فالواطىء يلتزم مهرها مكملاً، ويُردّ مهرُها على المغنم، ويقسم بين الغانمين كسائر الغنيمة.
وإن قلنا: يملك كلُّ غانم حصته، فالمذهب أن الواطىء يُغرَّم مهرَ الجارية إلا قدر حصته، فإنَّ وطأه صادف ملكه، وملكَ غيره، فسقط قدرُ حصته من الغنم.
ومن قال: إذا وقع شيء من المغنم في حصة واحد، تبيّنا أنه كان ملكاً له وقت الاغتنام، فعلى هذا إذا كانت الجارية واقعةً في حصة غير الواطىء، فتمام المهر يجب أن يصرف إليه.
هذا مقتضى هذا الوجه، والتفريع عليه أضعف منه.
__________
=الشافعي عن إبراهيمَ بنِ محمد عن مطر الوراق ورجل لم يسمه كلاهما عن الحكم بن عيينة، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى أنه سأل عليّاً: ما فعل أبو بكر وعمر في حقكم أهلَ البيت من الخمس؟ فقال علي: " أما أبو بكر فلم يكن في زمانه أخماس، وما كان فقد أوفاناه. وأما عمر فلم يزل يعطيناه حتى جاء مال السدس والأهواز، فقال (عمر لعلي): في المسلمين خلّة، فإن أحببتم تركتم حقكم فجعلناه في خلة المسلمين حتى يأتينا مال فأوفيكم حقكم منه.
فقال العباس لعلي: لا نطمعه في حقنا. فقلت: يا أبا الفضل ألسنا أحق من أجاب أمير المؤمنين ورفع خلة المسلمين. فتوفي عمر قبل أن يأتيه مال فيقضيناه ". والحديث رواه أبو داود بألفاظ أخرى مقاربة (ر. الأم: 4/ 148، مختصر المزني: 151، أبو داود: الخراج، باب في بيان مواضع قسم الخمس وسهم ذي القربى، ح 2984).

(17/512)


ولو وقعت تلك الجارية في حصة الواطىء، فالمذهب في المهر كالمذهب فيه إذا وقعت في حصة الغير، ومن أصحابنا من قال: لا شيء على الواطىء بناء على أنا نتبين أنها كانت في ملك من وقعت في حصته، وهذا ساقط، ولكن نقله صاحب التقريب، وصرح بهذا التفريع. ولا عود إلى هذا الوجه بعد ذلك. وكل ما ذكرناه فيه إذا كان الجند محصورين.
فأما إذا عسر ضبطهم لكثرتهم، فقد قال الأصحاب: إذا رأينا تغريمه المهر، غرّمناه تمام المهر؛ فإن حصته من المهر ليس يتبين قدرها؛ فالوجه أن يُغرَّم تمامَ المهر ويردّ إلى المغنم، ثم إذا قسم ما غرمه مع المغانم يرجع إليه مِنْ عَينِه أو بدلِه ما يوجب سقوط الغرم في حصته.
هذا ما ذكره الأصحاب.
قلت: وهذا فيه إذا طابت نفس الواطىء بأن يغرم جميع المهر. فإن قال: لا تغرموني الجميع وأسقطوا مقدار حصتي، فلا بد أن يجاب؛ فإن الجند وإن كثروا، فلا بدّ من إمكان حصرهم، ولولا ذلك، لما تُصوّرت القسمة عليهم. ويستوي إذا كان المغنوم نزراً أو كثيراً، أو كان أقلّ من مهر الجارية في مسألتنا، ثم إذا تيسر الضبط، فنأخذ [المستيقن] (1)، وإن تفرقوا وعسر الأمر، فلا يخفى الحكم في مثل هذه القضية، والوجه أن نحط عنه المستيقنَ، ونتوقفَ في الباقي، كما نفعله في الحقوق المشكلة، وكل ما ذكرناه إذا وطىء الجارية ولم يحبلها.
11404 - فأما إذا وطىء جارية وأحبلها، فالذي ذكرناه قصداً ولم نفرّع عليه الكلامُ في الحدّ؛ فإن المذهب أنه لا يجب، ويخرَّجُ فيه القول القديم الذي ذكرناه في وطء أحد الشريكين الجارية المشتركة، وليس من الترتيب تطويل المسائل بالمكررات، وعلينا شغلٌ شاغل من الإطناب في البحث عن أعواص الفقه، فلو ضممنا إليه أدراج الوجوه البعيدة في التقاسيم، لطال الكلام، وتعدّى حدَّ الاعتدال. فنعرّج على أن الحدّ لا يجب، والقولُ في المهر كما قدّمناه إذا عري الوطء عن الإحبال، لا يختلف
__________
(1) زيادة اقتضاها السياق، وهي عند الغزالي في البسيط.

(17/513)


منه شيء بإفضاء الوطء إلى الاستيلاد، ولهذا قلنا: الأب إذا وطىء جارية الابن التزم مهرَها، سواء أحبلها أو لم يحبلها.
11405 - فأما حكم الاستيلاد والولد، فإنا نذكره، وهو المقصود، والكلام يقع في فصلين: أحدهما - في الموسر إذا أحبل جاريةً من المغنم. والثاني - في المعسر.
فأما الموسر، فقد قال الأصحاب: أما الولد، فإنه نسيب حرُّ، وقال أبو حنيفة (1): لا يثبت النسب، والولد رقيق، وفي حرّية الولد مباحثة سننعطف عليها بعد طرد ترتيب المذهب في الاستيلاد، فليثق الناظر بحرية الولد.
فأما ثبوت الاستيلاد، فلأصحابنا طريقان: قال صاحب التقريب: إن قلنا: الغانم لا يملك قبل القسمة، فلا يثبت الاستيلادُ في شيء من الجارية؛ فإن وطأه لم يصادف ملكه، ولكن لو وقعت الجارية في حصته، فهل تصير الآن مستولدة؟ فعلى قولين مشهورين، ذكرناهما في نظائر هذه المسألة. وإن قلنا: الغانم يملك ملكاً واهناً ضعيفاً، ففي ثبوت الاستيلاد وجهين في حصة الغانم؛ إذ الملك ضعيف، وهما كالوجهين في أن المشتري إذا استولد الجارية في زمن الخيار، وقلنا: الملك له، فهل ينفذ استيلاده؟ فيه اختلاف وتفصيل ذكرناه في موضعه. هذه طريقة.
ومن أصحابنا من قلب هذا الترتيب، وقال: إن قلنا: يُنسب الملك للغانم، فالاستيلاد يثبت، وإن قلنا: لا ملك له قبل القسمة، ففي ثبوت الاستيلاد قولان مرتبان على القولين في إحبال الأب جارية الابن، ولو رتب مرتب، وجعل الاستيلاد في جارية المغنم أولى بالنفوذ، لم يكن مُبعداً؛ فإن حق الغانم في المغنم لا ينكر، ولا حق للأب في جارية ابنه؛ إذ لو كان له فيها حق، [لحرمت] (2) على الابن، كما تحرم جارية المغنم على الغانم.
وعندي أن أخذ هذه المسألة من استيلاد الأب جاريةَ ابنه ليس بسديد؛ فإن نفوذَ الاستيلاد في حق الأب ليس بقياس بدليل ما ذكرناه من خلوص الجارية ملكاً تاماً للابن.
__________
(1) ر. مختصر اختلاف العلماء: 3/ 474 مسألة رقم 1629.
(2) زيادة من المحقق اقتضاها السياق.

(17/514)


ثم إذا أطلقنا القولَ بالاستيلاد، فمن ضرورة هذا التسرية (1)، وبها يكمل الاستيلاد، وليقع التفريع على أن [الشريك] (2) الموسر إذا أولد الجارية المشتركة، سرى استيلاده في الحال، غيرَ متوقف على أن يغرم لشريكه قيمةَ حصته.
ثم إن حكمنا بثبوت الاستيلاد، وهو المذهب الصحيح، فإن قيمة الولد تخرج على الترتيب الذي ذكرناه، فإن كان الجند محصورين، أسقطنا حصة المستولِد من المغنم، وغرمناه الباقي، [وخصصنا] (3) به من عداه من الغانمين. وإن كانوا غير محصورين، فقد أوضحنا أن وجه الرأي أن يغرم كمال القيمة، ثم نُلقي القيمة في المغنم فإذا فُضت، رجع إلى الغانم بتعديل السهام حصتُه من هذه القيمة أو من بدلها.
11406 - ثم ذكر صاحب التقريب تفريعاً على هذا المنتهى، وقال: إذا قلنا لا يثبت الاستيلاد في حصته أيضاً، فقد قدمنا أن الولد حرٌّ على ما سنبحث عنه حق البحث، إن شاء الله تعالى. فالجارية في المغنم حبلى بولد حر من الواطىء، وأوضحنا في كتاب البيع أن الجارية الحبلى بالولد الحر لا يصح بيعها على ظاهر المذهب، ما دامت حبلى.
فعلى هذا يمتنع إدخالها في القسمة، ما دامت حاملاً. هكذا ذكر صاحب التقريب. ثم بنى عليه. وقال: يجوز أن يقال: تقوّم الجارية على الواطىء، فإن كانت قيمتها مقدارَ حصته أو أكثر، فتسلّم إليه الجارية من جملة المغنم، والغرض من ذلك أنها تتعين له من غير إقراع، وهذه المسألة فيها احتمال وتردد، فيجوز أن يقال: [توقف] الجارية إلى أن تلد، ثم تُلقَى في القسمة، ويجوز أن يقال: إنما تلقى في القسمة وإن كانت حاملاً، ونَفصل بين القسمة والبيع، ويَقْوى هذا إذا قلنا: القسمة إفراز حق وليست ببيع، وقد نُجيز القسمةَ حيث لا نُجيز البيع.
__________
(1) التسرية: سريان الاستيلاد، فتصير الجارية بجملتها أم ولد، وليس حصة الواطىء فقط.
(2) في الأصل: " شريك "، والمثبت من تصرف المحقق.
(3) في الأصل رسمت هكذا: وحمضا (تماماً رسماً ونقطاً).

(17/515)


قال صاحب التقريب: ويجوز أن يقال: يُغَّرمُ الواطىء قيمةَ الجارية، فتُلقى (1) في القسمة؛ لأنه أوقع بإيداع رحمها الولدَ الحرّ حيلولة بينها وبين الغانمين.
11407 - فأما القول في قيمة الولد -وقد أجرينا الحكم بحرية الولد- ففي لزوم قيمة الولد قولان معروفان إذا أثبتنا الاستيلاد، كالقولين فيه إذا وطىء أحد الشريكين الجارية المشتركة وأولدها، وقضينا بنفوذ الاستيلاد، وهذا يرجع إلى أن الملك متى ينتقل إلى المستولد؟ وفيه قولان: أحدهما - أنه ينتقل إليه قبل العلوق. والثاني - أنها تنتقل إليه مع العلوق أو بعده، وقد ذكرنا حقيقة هذين القولين في كتاب النكاح، عند ذكرنا استيلاد الأب جاريةَ ابنه، فإن لم نوجب القيمة، فلا كلام، وإن أوجبناها، فإنما تجب حصةُ من عدا الواطىء من الغانمين، ثم يعود التفصيل إلى كون الجند
محصورين، أو غير محصورين، وقد تمهد ذلك في المهر، وفي قيمة الأم (2)، فلا حاجة إلى إعادته.
وكل ما ذكرناه فيه إذا كان الواطىء موسراً.
11408 - فأما إذا كان الواطىء معسراً، وقلنا: لا يثبت الاستيلاد في حصة الموسر، فلا شك أنه لا يثبت في نصيب المعسر، وإن قلنا: يثبت الاستيلاد في حصة الموسر، فيثبت أيضاً في حصة المعسر، ولكن لا يسري، ثم إن كان الجند محصورين، يثبت الاستيلاد في حصة المعسر، والغرض يتبين بإيضاح حصته، فإن كانت الجارية جميعَ المغنم، فحصة المعسر بينة، وإن كانوا قد غنموا غيرها، فالمعسر غنيٌّ بما يزيد على حصته في هذه الجارية، فإن كانت حصته في سائر المغنم وافية بقيمة الجارية، أمكن أن يقال: يثبت الاستيلاد، تعويلاً على غناه بغير حصته من الجارية من سائر المغنم على [ترتيب] (3) سنبينه، إن شاء الله تعالى.
وإن كان ما يخصه من غير الجارية لا يفي بقيمة الجارية، فيثبت السريان في
__________
(1) أي تُلقَى قيمة الجارية في القسمة.
(2) أي الجارية المستولدة.
(3) في الأصل: " تدبّر ". والمثبت من المحقق على ضوء المعهود من ألفاظ الإمام، والسياق.

(17/516)


الجارية بمقدار ملكه، كما سيأتي شرح ذلك في باب العتق، إن شاء الله.
ومنتهى البيان يقف على أمرٍ لا بدّ من التنبه له، وهو أن الأمر في الحكم بغناه بنصيبه من غير الجارية موقوف على ألاّ يُعرِض، ويستقرَّ ملكُه في غيرها، مما تفصل من قبل، فلو أعرض، تبينا أنه لم يكن غنياً، وأن [العتق] (1) يقتصر على حصته من الجارية، ولا نقول: حق سريان العتق يُلزمُه اختيارَ حصته؛ فإن الاختيار بمثابة ابتداء الاكتساب في الغرض الذي نطلبه، وينشأ من هذا أن الغانم إذا أفلس، وضرب القاضي عليه حجرَ الديون التي ركبته، فحقه من المغنم لا يلزم، بل هو على تردده في الإعراض، وطلب الحق.
ولو كان الغانم سفيهاً، فإعراضه هل يُسقط حقَّه من المغنم؟ هذا فيه ترددٌ، ولعل الأظهر أن حقه يلزم؛ فإنه حق ملك، والإعراض في حق المطلق (2) يُسقطه، فيبعد أن يملك السفيه إسقاطَ حق الملك.
وإن قلنا: لا ملك للغانم، وهو أضعف الوجوه، فقد ينقدح عليه تردد بأن حقه من المغنم هل يسقط بالإعراض؟ ولو تبين رشده قبل اتفاق قسمة المغنم، فأعرض، سقط، ولا نقول: كونه سفيهاً حالة الاستيلاد يقرر ملكه على وجهٍ لا سبيل إلى دفعه.
11409 - ولو حضر المراهق، وثبت له الرضخ، باستيلاء جند الإسلام، وانفلال الكفار، فلم تتفق القسمة حتى بلغ الصبي رشيداً، فأعرض، سقط حقه، ولو ثبت حق الشفعة للطفل، فإن أخذ الولي الشقص المبيع بالشفعة على موجب الغبطة، ثم بلغ الصبيُّ، لم يملك الردَّ، ولو لم يتفق أخذ الشقص حتى بلغ الصبيّ رشيداً، فعفا عن الشفعة، سقطت الشفعة، وأَخْذُ الشقص بالشفعة من الولي يناظر ما لو قُسّم المغنم.
__________
(1) في الأصل: " المعتق ".
(2) المطلق: المراد غير المحجور.

(17/517)


و [لو] (1) أخذَ نصيبَ المراهق أو السفيه، ثم رشد السفيه، وبلغ المراهق، فلا أثر لإعراضهما بعد القسمة (2).
ولو كان اشترى الرجل شيئاً على شرط الخيار، ثم ضرب القاضي عليه حجراً بالفَلَس، وقلنا: الملك في زمان الخيار للمشتري، فقد ذكرنا تردداً في [أصل] (3) المذهب في أن الخيار هل يبقي للمفلس المحجور عليه، حتى يملك الفسخَ، والغبطةُ في الإجازة، فإن خرّج الفقيه إعراض السفيه عن المغنم على تصرفه في الخيار بعد الحجر عليه، لم يبعد، وهذا الكلام نشأ من قولنا: الاستيلاد لا يُلزم المستولد تقريرَ الملك في المغنم، حتى يصير غنيّاً به، وهذا لامراء فيه، ثم تشعب الكلام في أساليبه.
هذا قولنا في الاستيلاد.
11410 - فأما الولد وقد تبعض الاستيلاد، ففيه وجهان: أحدهما - أنه مخلوقٌ حراً بجملته. والثاني - أن الحرية مقدارُ ما يثبتُ الاستيلادُ فيه من الأم، فتقع الخلقة على التبعيض في الرق والحرّية.
توجيه الوجهين: من قال: جميعُ الولد مخلوق حراً، استدل بأن الشبهة تعم الجارية، وحريةُ الولد تثبت بالاستيلاد، وإن كان الاستيلادُ لا يثبت بها. والدليل عليه أن من وطىء جارية الغير، وظنها جارية نفسه، أو ظنها زوجته الحرة، فالولد ينعقد حراً، وإن كان الوالد معسراً، والاستيلاد لا يثبت في الحال، ولو ملك الجارية يوماً؛ فإذ ذاك يخرج قولان مشهوران في صور الاستيلاد، فإذا عمت الشبهة جارية المغنم على معنى أنها قد تكون حصتَه، وقد يُعرِض أصحابه، فتخلُص له: ولا حاجة إلى ذلك؛ فإن الشبهة بالشركة عامة، ولهذا يَسقُط الحدّ عنه، ونشأ تفريع هذه المسألة على أن الحد لا يجب على أحد الشريكين بوطء الجارية المشتركة.
__________
(1) زيادة اقتضاها السياق.
(2) المعنى: لو أخذ الولي نصيب المراهق أو السفيه ... إلخ.
(3) مكان بياض قدر كلمة.

(17/518)


ومن قال بالوجه الثاني احتج بتبعيض الاستيلاد، وانفصل عن وطء الجارية بالشبهة، وقال: لا معترض على الشرع في تنزيل الظن منزلة الحقيقة، ثم إذا تمهد هذا، فالظن متعلّق بجميع الجارية، والأمر متبعضٌ في مسألتنا، والشبهة من الملك تؤخذ عمن هو (1) متبعض، فإذا زال الظن، ووقع وطؤه في ملكه وملكِ غيره، وجب تبعّض الولد في الحرية والملك.
وقد ذكر أصحابنا وجهين في أن الإمام إذا أراد أن يُرِق النصفَ من الأسير، ويُبقي نصفَه على الحرية، فهل له ذلك؟ وجهان: أحدهما - له ذلك، وهو القياس، والثاني - ليس له ذلك؛ فإن الرأي في الإرقاق وغيرِه في الخلال لا يكاد يتبعّض، وليس هذا خِيَرةً من الإمام، فلا وجه إلا الإرقاق، أو التعلّق بجهةٍ أخرى من الجهات.
وسئل القاضي عن وطء امرأة نصفها حرٌّ، ونصفها رقيق في نكاح أو زنا، فالولد الذي تأتي به كيف حكمه في الحرية والرق؟ فقال: يمكن أن يخرج ذلك على الوجهين في ولد الجارية المشتركة من الشريك المعسر، ثم استقر جوابه بعد أيام على أن الولد بمثابة الأم، تعلّقاً بقول الشافعي: " ولد كل ذات رحمٍ بمثابتها ".
ومعنى هذا الكلام أن حكم الولد إذا كان يؤخذ من ذوات الرّحم، فولدها بمثابتها، وليس هذا كالجارية المشتركة؛ فإن [الشركة] (2) قد تُظن شبهة عامة في الجارية، وهاهنا لا مجال لتقدير الشبهات، فإن الزوج إذا وطىء زوجته لم تأت حرية الولد إلا منها، فيجب القطع بما استقر عليه جوابه.
11411 - فإن قيل: هذا الذي ذكرتموه في الولد إذا ضُم إلى ما قدّمتموه فيه إذا كان المستولد موسراً، ينشأ منهما تناقض. وذلك أنكم قطعتم أن الولد حرٌّ بجملته، وذكرتم قولاً أن الاستيلاد لا ينفذ أصلاً إذا قلنا: لا ملك له. أو قلنا: يثبت الملك ولكنه ضعيف، بقي الاستيلاد لا أصل له، كما أن نَفْيَ الملك لا أصل له، فلا يؤاخذ بما لا حقيقة له.
__________
(1) كذا قرأناها بصعوبة.
(2) في الأصل: " المشتركة ".

(17/519)


وإذا تقرر هذا، فالوجه إثبات الاستيلاد في حصته، فإن سرَّينا، نقضي بأن الولد حر كله، وإن لم نثبت الاستيلاد في جميع الجارية وقوعاً [فإن] (1) اليسار إذا كان يوجب تكميل الاستيلاد بطرق السريان، فاليسار أيضاً يوجب تكميل الحرية في الولد بطريق منع الرق؛ إذ لا أصل في استيلاد الولد، غير أن طريق التكميل فيه بتقرير وقوع الخلقة في الحرية، كولد المغرور، ثم الغرم يناط به إن لم ينقل الملك في المستولدة إلى ما قبل العلوق، وإذا كان الوالد معسراً؛ فلا يثبت الاستيلاد في الجميع بجهة السراية، وينقدح خلافٌ في الولد؛ من جهة أن حرية الولد سببها انتفاء الرّق، وكمَّلها قومٌ، لأن السراية فيها غير مرعية، فتخلُّف السراية في الأم لا يؤثر في جهة الولد، ونزّل منزلون حرية الولد في جهتها منزلة عدم نفوذ الاستيلاد.
فلو قال قائل، إذا حكمتم بأن الاستيلاد لا يثبت في حق الموسر في نصيبه لضعف ملكه، فما قولكم في الولد؟
قلنا: هذا وجه ضعيف لا ينبغي أن نلتزم الكلام عليه في الفرق والجمع، ثم ظاهر النقل عن الأصحاب أن الولد حر، وذلك أن الشبهة ملكاً ويساراً [عامة] (2) في الجميع، فاقتضى ذلك تنزيل الولد في هذا المقام منزلته فيما إذا وطىء الرجل جارية الغير، وظنها جارية نفسه.
وكان شيخي أبو محمد يقول: إذا وطىء الرجل جاريةَ الغير، وظنها زوجته المملوكة، وهو موطنٌ نفسه على أن الولد -إن اتفق العلوق به- فهو رقيق، فإذا فرض ولدٌ في الشبهة التي وصفناها، فهو رقيق؛ اعتباراً بصفة ظنه، والدليل عليه أن حرية الولد ورقه [مداران] (3) في نكاح المغرور [على الظن] (4)، وإلا، فلا مقتضى للحرية سوى الظن.
ورأيت لغير شيخي ما يدلّ على أن من وطىء جارية الغير، وحسبها زوجته
__________
(1) في الأصل: " إن ".
(2) في الأصل: " عاماً ".
(3) في الأصل: " مدران ".
(4) زيادة من المحقق.

(17/520)


المملوكة؛ فالولد حرّ، كما لو وطىء المغرور زوجته [الحرة على ظن أنه زانٍ بجاريةٍ رقيقةٍ للغير، فالولد حر] (1)، وإن كان الواطىء غير بانٍ أمره على وطء حرّة.
وهو عندي غلط، والوجه ما ذكره شيخي، وذلك أن حرية الولد إذا كان تأتي من قبل الظن، وهو ما ظن ظنّاً لو تحقق، لاقتضى حرية الولد، فإذا كان الحكم يُتلقى من الظن، والظن كما وصفناه، فلا معنى للحكم بحرية الولد. وكون [الوطء] (2) محترماً لا يوجب حرية الولد، فإن ولد الزوج من زوجته الرقيقة رقيق، وإن ترتب على وطءٍ مستحق. وأما مسألة المغرور، فالظن فيها باطل، والوطء صادف مغرور زوجته، فقدّرنا كأن الظن لم يكن، وقضينا بحرية الولد بحصول العلوق به في نكاح المغرور.
فهذا تمام ما أردنا ذكره في أحكام الولد.
11412 - ولو وطىء أجنبي من المغنم جاريةً من المغنم، نُظر: فإن مُيّز الخمس ولا شبهة للواطىء، فهو زانٍ لا يخفى حكمه في الحال والمآل.
وإن كان للواطىء أبٌ في المغنم، فوطؤه زناً أيضاً، فإنّ وطء الابن جارية أبيه زنا. وإن كان له ابن في المغنم فوطؤه جارية المغنم كوطء [جارية] (3) ابنه الغانم، فإن جارية الابن مستولدةُ الأب، كما تصير مستولدةً للابن. ثم تعود التفاصيل.
هذا إذا جرى الوطء بعد إفراز الخمس، ويتصل بهذا أنا نؤكد ملك الغانمين على
__________
(1) عبارة الأصل: كما لو وطىء المغرور زوجته التي يحسبها حرة، فوجدها جارية غيره، وقد زيفه لإتيانها فإن الولد حر، وإن كان الولد ... إلخ.
والمثبت من عبارة الغزالي في البسيط، التي لخص فيها كلام الإمام، فقال: " قال الشيخ أبو محمد: لو وطىء جارية الغير على ظن أنها زوجته المملوكة، فالولد رقيق لأن مستند هذا العتق الظن وظنه لو تحقق لم يوجب حرية.
ومن الأصحاب من خالف وقال: الولد حر هاهنا الأصل الشبهة، إعراضاً عن تفصيل الظن، كما إذا وطىء زوجته الحرة على ظن أنه زان بجارية رقيقة للغير، فالولد حر.
وهذا فاسد؛ لأن هذا الظن إذا قدر كالمعدوم، وحصلت حرية الولد بحرية الأم، وفي الرقيقة لا موجب للحرية إلا الظن، فليتْبع ظن لو تحقق لاقتضى حرية " (ر. البسيط: 5/ورقة: 165 شمال).
(2) في الأصل: " الموطىء "، ومعنى كون الوطء محترماً أنه في نكاح صحيح.
(3) زيادة اقتضاها السياق.

(17/521)


أحد القولين إذا جرى إفراز الخمس، ولا يخفى التفريع بعد التنبيه.
وإن لم يفرز الخمس، فلبيت المال في الجارية حق. فإذا وطىء أجنبي جاريةً في المغنم، وفيها حق الخمس، وكان للأجنبي حقٌّ في بيت المال، فهذا يخرج على التردد الذي حكيناه في كتاب السرقة، فإنا نقول: السارق من بيت المال لا يقطع إذا كان له في بيت المال حق، على المذهب الظاهر، ولو وطىء مثلُ هذا الشخص جاريةً من بيت المال، ففي وجوب حدّ الزنا وجهان. وهما يعودان في جارية المغنم، إذا جرى الوطء فيها قبل إفراز الخمس، وجميع أطراف المسألة مجراة على أن الحدّ لا يجب بوطء الجارية المشتركة.
11413 - ثم قال الشافعي: " وإن كان في السبي ابن أو أب ... إلى آخره " (1).
نص الشافعي على أنه إذا وقع في المغنم من يَعْتِق على بعض الغانمين إذا ملكه بحكم القرابة، فلا نحكم بعتقه عليه قبل القسمة.
وقد نص الشافعي على أن الغانم إذا وطىء جارية المغنم، ثبت الاستيلاد، فمن أصحابنا من نقل جواب مسألة العتق إلى الاستيلاد، ومسألة الاستيلاد إلى العتق، وخرّجهما على قولين، ويكون مأخذ القولين في التوجيه ضعيف المُدرك كما قدّمناه.
ومن أصحابنا من حاول الفرق بين الاستيلاد، ونفوذ العتق بحكم القرابة، وقال: ينفذ الاستيلاد كما قدّمنا، ولا يَعتِق القريب على الغانم؛ لأن الاستيلاد ينفذ في محل امتناع العتق؛ فإن الأب إذا استولد جارية الابن، ثبت الاستيلاد، ولو ملك الابن من يعتق على الأب، لم يَعتِق على [الابن] (2) وذلك إذا ملك أخاه، وهو ابن أبيه، لم يعتق على الابن، وذلك لأن الاستيلاد في حكم الإتلاف بالفعل، والفعلُ لا مدفع له، وحصول العتق في القريب حكم محض.
واختيار المزني أن الجارية لا تصير أم ولد، واحتج بعدم عتق القريب أخذاً من
__________
(1) ر. المختصر: 5/ 190.
(2) في الأصل: " الأب ".
(3) وصورة المسألة -على وضوحها- أنه إذا ملك الابن أخاه لأبيه، فهو ابن أبيه، فلو ملكه الأب يعتق عليه للبعضيّة، ولو ملكه الابن لا يعتِق عليه.

(17/522)


النص، وهو لا يرى النقلَ والتخريجَ، ويستشهد بالنص على النص.
وذكر بعض أصحابنا في عتق القريب مسلكاً آخر، فقال: القريب لا يعتق على الغانم إن لم يختره؛ فإن اختاره عَتَق حينئذٍ، على تفصيل اليسار والإعسار، ونزل اختياره فيه منزلة الاستيلاد، وهذا هو الذي نبهنا عليه في قاعدة الملك، إذا (1) قلنا: الاختيار عند بعض الأصحاب يؤكد الملك ويلزمه. أما إذا جرى الاستيلاد، فلا أثر للاختيار معه؛ فإنه أبلغ من الاختيار.
11414 - وكنا أخرنا إلى تفصيل ملك الغانمين القولَ في السرقة، وهذا مما أوضحنا أصوله في كتاب السرقة عند ذكرنا سرقة أحد الشركاء المالَ المشترك، وإنما أعدنا هذا الفصل لزيادةِ فائدةٍ، وذلك أنا ذكرنا أن من أصحابنا من قال: إذا سرق أحد الشريكين من المال المشترك ما يزيد على حصته بالجزئية مثل أن يسرق ديناراً وربعاً من دينارين، له نصفهما، فالمسروق زائد على مقدار حقه، والزيادة بالغةٌ نصاباً، فمن أصحابنا من قال: يجب القطع، وذكرنا ما عدا هذا من كلام الأصحاب.
فإذا فرعنا على الوجه الذي حكيناه الآن، وسرق الغانم من المغنم ما يزيد على مقدار حصته، والتفريع على أن القطع يتعلق بالزائد على المال المشترك، ففي المغنم وجهان على هذا الوجه: أحدهما - القطع في المال المشترك. والثاني - لا يجب، لأن حقَّ كلِّ غانم ثابتٌ في جميع المغنم. وكذلك القول، لو أعرض الكلُّ إلا واحداً، قلنا: كأنه الغانم بنفسه، وكأنا نجعل الغانمين كالمزحومين، بمثابة الشفعاء، وهذا يوجب الدرء في الحد، ولا يقع الاكتفاء في إثبات الاستيلاد؛ فإن إثبات الاستيلاد يقتضي ملكاً محققاً، ثم إن اقتضت الحال سرياناً، وقع الحكم به، والمقدار الذي يدرأ الحد، لا يُثبت حقوق الأملاك. فهذا ما أردنا أن ننبه عليه.
وقد قال القاضي: إذا قلنا: يجب الحد على أحد الشريكين إذا وطىء الجارية المشتركة، -وهذا قولٌ حكيناه- فإذا وطىء الغانم جارية المغنم، فهل يلزم الحد؟ فعلى وجهين منشؤهما ما ذكرناه من أن لكل غانم حظاً في جميع المغنم، كما نبهنا
__________
(1) إذا: بمعنى إذ.

(17/523)


عليه، وهذا ضعيف؛ فإن [معتمده] (1) القول القديم. وهذا متحقق في جارية المغنم تحققه في الجارية المشتركة، والقول القديم في إيجاب الحد يجري على وطء الرجل أخته المملوكة من الرضاع.
وقد انتجز القول في أملاك الغانمين، وآثارها جملة وتفصيلاً.
فصل
قال: " ومن سُبي منهم من الحرائر ... إلى آخره " (2).
11415 - ذكر الشافعي سبي الزوجين، وسبي أحدهما، وترتب انفساخ النكاح على ذلك. وقد قدمنا ذكر هذا مستقصىً، وأجرى الأصحاب في أثناء الكلام أحكامَ الديون الثابتة للحربي، إذا استُرِق، وأحكام الديون الثابتة عليه، ونحن نأتي بما يتعلق بهذا على [أكمل] (3) بيان. وهو مما لم يعتن الأصحاب بجمع كلامٍ فيه على التواصل.
فنقول: لو كان للمسلم دينٌ على حربيّ، فاستُرق مَنْ عليه الدين. قال الأئمة: لا يسقط الدّين عن المسترَق، ورأيتُ أقوال أصحابنا متفقةً على هذا. ومذهب أبي حنيفة (4) أن الدّيْن يسقط عن المسترَق، وأورد الأصحاب هذا في مسألة سبي الزوجين، وشبب الخلافيون بموافقة أبي حنيفة في سقوط [الدين المحترم] (5) من حيث إنه انقلب عما كان عليه، حتى كأنه عُدم. ثم وجد (6)، وهذا لا يلحق بالمذهب، [والمقطوع] (7) به أن الدين لا يسقط.
__________
(1) في الأصل: " معتمد ".
(2) ر. المختصر: 5/ 191.
(3) زيادة من المحقق على ضوء المعهود من كلام الإمام.
(4) ر. الجامع الصغير: 316، مختصر الطحاوي: 290، ملتقى الأبحر: 1/ 658، مختصر اختلاف العلماء: 3/ 451 مسألة 1603.
(5) عبارة الأصل: " في سقوط الدين من المحترم ".
(6) أي كأن المسترق مات ثم وجد بعد ذلك ثانية.
(7) في الأصل: " المقطوع " (بدوان الو او).

(17/524)


ثم ننظر: فإن أُرق الحربي، ولم يغنم ماله، فحق المسلم في عين ماله، والرق بمثابة الحجر، أو بمثابة الموت في المسلم المديون عليه. حتى لو ظفر به المسلمون وأخذوه -يعني المال- بعد تعلق الدين به يُقضى الدين من ذلك المال.
ولو غُنم أولاً، ثم سبي، أو غنم المال معه، فحق المسلم الغريم في ذمته، يتبعه بعد العتق. ولا يُقضى من عين المال؛ فإن المال إن غُنم قبلُ، فلا شك أن الدَّيْن لا ينعكس عليه، وإن غُنم المال معه، فقد تعقق ملك الغانمين بعين ماله. وحق صاحب الدين إن كان في الذمة [فالحق] (1) المتعلّق بالعين مقدّم على المتعلّق بالذمة؛ ولذلك قلنا: إذا جنى العبد المرهون يقدم حق المجني عليه على حق المرتهن؛ فإن موجب الجناية لا يتعلق بذمة المولى، فكان تعلقه بالعين أقوى من تعلّق الرهن به.
وعندنا إذا غُنم ماله، ورَق، فالملك في الغنيمة سابق على جريان الرق إن كان المأسور رجلاً، فإن الرق [يُضرب] (2) بعد الأسر؛ فإن كان كذلك، فلا إشكال.
وإن فرض الكلام فيه إذا أسر أولاً، ثم غنم المال مع إرقاق الإمام، أو وقع الفرضُ في المرأة تسبى مع مالها، فيحصل الرق والاستيلاء على الغنيمة معاً، فليس يبعد على القياس تعلّق الدين المحترم بالمال في هذه الصورة، قياساً على ديون التركة، مع حقوق الورثة؛ فإن حق الورثة يتعلّق بعين التركة، والدين يتعلّق بالتركة في الوقت الذي يحصل الإرث فيه، ثم قُدِّم الدين، فلا يبعد أن يكون الأمر كذلك فيما نحن فيه.
وهذا متجه جداً. وما قدمناه من الاستشهاد بجناية العبد المرهون كلامٌ مُخيلٌ ظاهره؛ فإنا إنما قدّمنا حق المجني [عليه] (3) كما نُقدّم حقَّ المجني عليه على حق مالك العبد، إن صدرت الجناية من غير إذن السيد، ولا يزيد حق المرتهن على حق
__________
(1) في الأصل: " والحق ".
(2) في الأصل: " تصرف ". وهو تصحيف قريب المأخذ.
والمعنى أن الرق لا يكون في الرجال بمجرد الأسر، بل يضرب عليهم بعد ذلك.
(3) زيادة اقتضاها السياق.
ومعنى العبارة: أننا قدمنا حق المجني عليه على حق المرتهن، كما تقدم حق المجني عليه على حق مالك العبد.

(17/525)


المالك؛ فإذا كان يطرأ ملكٌ على المالك، فيطرأ على حق المرتهن، ولسنا نُلزَم الآن ذكرَ تعليل تعلق الأرش برقبة العبد، وقد أجريتُ -فيما أظن- في ذلك كلاماً كلياً في (الأساليب).
وما يتعلّق بهذا الفصل أنه إذا كان للمسلم عليه دين مؤجل، فاسترق، ففي حلول الأجل وجهان مرتبان على الوجهين فيه إذا حُجر على الرجل بالفَلَس، وعليه ديون مؤجلة، ففي حلول الديون عليه جوابان. والرق أولى بأن يقتضي الحلول؛ فإنه أشبه بالموت؛ من جهة أنه يقطع النكاح، ويزيل الملك، بخلاف الحجر.
هذا كله فيه إذا كان لمسلم على حربي دين، فاسترق الحربي.
11416 - فلو كان الدين لذمي، فالجواب كما ذكرناه؛ [فإن دين الذمي] (1) محترم بمثابة أعيان ماله.
11416/م- ولو كان لحربي عليه دين، فاستُرِق من عليه الدين، قال القاضي: يسقط الدين عن ذمته (2). ولتكن هذه المسألة على الذكر حتى نعود إليها.
11417 - ومما نذكره في ذلك أن المسلم لو استقرض من حربي شيئاً، أو اشترى منه شيئاً، والتزم الثمن، ثم استُرِق الحربيّ المستحِق الدين، فالدين لا يسقط عن ذمة المسلم. ثم سبيله كسبيل أموالاً الحربي المودعة عندنا على حكم الأمان. وقد ذكرنا مصارف أمواله، وهذا الدين من أمواله.
ومن أهم ما يجب الاعتناء به أن الحربي إذا استقرض شيئاً من الحربي، ودخل المستقرض إلينا بأمان أو ذمة أو أسلم، قال العراقيون: نص الشافعي على أنه يلزمه ردّ ما استقرضه من الحربي، وحكَوْا نصّاً آخر عن الشافعي على خلاف ذلك في مسألةٍ وهي أنه إذا نكح حربي حربية على مهرٍ، ودخل بها، وماتت الزوجة، وأسلم الزوج، وهاجر إلينا، فجاء ورثة الزوجة، وطلبوا مهرها، قالوا: قال الشافعي ليس لهم
__________
(1) في الأصل: " فإن في دين الذمي ".
(2) عبارة الأصل: " قال القاضي: يسقط الدين عن ذمته، فإن ذلك الدين، ولتكن المسألة على الذكر ... " (ففيها خرمٌ، أو إقحام).

(17/526)


عليه طَلِبة. ثم تصرفوا في النصين، وقالوا: من أصحابنا من نقل وخرّج، وجعل المسألتين جميعاً على قولين: أحدهما - أنه لا طلبة على المستقرض، ولا طلبة على الزوج.
والقول الثاني - أنه تثبت الطلبة على من التحق بنا بأمان أو ذمة أو إسلامه.
وهذا الذي أطلقوه لا يصفو على ما أحب وأوثر إلا بمزيد شرحٍ وبيان. فنقول: إذا نكح حربي حربية على مهر يصح مثله في الإسلام، ثم أسلم، فلا خلاف أن الزوجة تطالب زوجها بمهرها المسمى، وإن التزم المهر حربي لا تجري عليه أحكامنا لحربية لا حرمة لها، لم يكن التزام الحربي كالتزام المسلم؛ فإن المسلم من أهل عقد الأمان للحربي، ويصح تخصيص الأمان بمال، وعلى هذا تخرّج المعاقدات التي تجري بين المسلم، وبين الحربي، وهذا متصور فيما يجري بين الحربيين، ولكن أجمع الأصحاب على أنهما إذا أسلما، فحكم العقد مستدام [فيهما] (1)، ومن استدامته
توجهت الطلبة بموجبه وعهدته. ومسائل نكاح المشركات خارجة على هذا القانون.
كذلك إذا بايع كافرٌ كافراً ثم أسلما، والثمن المذكور مما يصح طلبه، فلا شك أن الطلب يتوجه، وكذلك إذا أسلم المستحَق عليه ثم أسلم المستحِق، فالأمر على ما وصفناه، وإن ترتب الإسلام.
11418 - فأما إذا التزم حربي لحربي، ثم أسلم الملتزم، فتصوير الطلب من الحربي فيه بُعْدٌ، وقولنا يجب على هذا الذي أسلم أن يبذل ما التزمه، مع أن الإسلام يجُبّ ما قبله، وقد جرى الالتزامُ والملتزمُ حربي، فيعسر توجيه الطلب، وهذا منشأ القولين.
ثم إن أوجبنا، فالتعبير عنه أن ينزل المسلم على دوام العقد منزلة المسلم حالة ابتداء العقد. فإن قيل: ذلك المسلم من أهل عقد الأمان. قلنا: نعم، ولكن لو أسلما، لا خلاف أن العهدة تبقى بينهما للأصل الذي مهدناه قبلُ من قضاء الشرع باستدامة العقد.
__________
(1) في الأصل: " فيها ".

(17/527)


ومن قال: لا طلبة على المسلم أو الذي عقدنا له الذمة، فلا يُسقط الدين؛ فإن المستحِقَّ لو أسلم طالب، وإنما هذا تَوقُّفٌ في الطلب، فليفهم الناظر ذلك.
ثم قال العراقيون: وقال ابن سريج في النص [الوارد] (1) في النكاح: ذاك فيه إذا أصدقها خمراً ثم ماتت، وقد أسلم الزوج، فلا طلبة للورثة؛ فإنها قبضت في الشرك تمام ما رضيت به.
فإن قيل: إذا ثبت دين لحربي على حربي، واستُرِقَّ من عليه الدين، فقد ذكرتم أن الدين يسقط، فهلاّ جعلتم الرق أماناً، ونقلتم الدين إلى ذمة الرقيق؟؟ قلنا: هذا لا ينكر توجه احتمال فيه، لما نبهنا عليه. والظاهر السقوط؛ فإن ملتزم الدين انتقل من كونه حربياً لا يجري عليه حكمٌ إلى كونه رقيقاً ليس له على نفسه حكم. والاحتمال مع هذا قائم، والله أعلم.
11419 - ولو أتلف حربي على حربي شيئاً، ثم أسلم المتلف، لم يغرم شيئاً، وليس كما لو استقرض منه. ونزيد، فنقول: لو أسلم المتلف والمتلَف عليه، فلا طَلِبَةَ بينهما بخلاف الاستقراض، والمعاملات المقتضية إلزاماً؛ فإن الإتلاف ليس عقداً نقضي بدوامه، وإنما هو حالةٌ جرت حيث لا حكم، ثم جبّ الإسلام ما كان، وأيضاً؛ فإن الحربيَّ إذا قهر الحربيَّ على مَالِه، مَلَكَه، والهلاك باب من القهر. فهذا ما يجب القطع به.
وفي التعليق عن القاضي أن الحربي إذا جنى على مسلم، فاسترق، فأرش الجناية في ذمته، ولا تتحول إلى رقبته، ثم قال: وهذا بخلاف المكاتب إذا جنى، فالأرش في ذمته يؤدّيه من الكسب، فلو عجز وعاد قنّاً، [تحول] (2) الأرش إلى الرقبة، وفرّق، وقال: الرق الذي هو متعلق الأرش كان موجوداً في حال الكتابة المانعة من البيع، فإذا عجز، ارتفع المانع، وتعلّق الأرش بالرقبة بخلاف الحربي، لأنه لم يكن رق عند الإتلاف، وإنما حدث الرق من بعدُ، وهذا الفرق لا باس به.
__________
(1) في الأصل: " الممكن ".
(2) في الأصل: " وتحول ".

(17/528)


ولكن المسألة في وضعها فاسدة؛ فإن الحربيَّ إذا جنى على مسلم، أو ماله، فلا ضمان، ولا تعلّق بموحَب الإتلاف بالذمة، فإنه فعل ما فعل، ولا حكم عليه، وليس عقداً يُستَدام، والرق وإن أدخله في حكمنا، فالذي مضى من الإتلاف لا يُعقب تبعةً يُتَّبع بها في أحكام الإسلام، ونحن وإن قلنا: لا يملك الحربي على المسلم بالاستيلاء، فإنا نقول: لو أتلف حربي على مسلم مالاً، لم يضمنه إذا أسلم، ولم يطالَب به، فهذا ما يجب القطع به.
وحكى بعضُ الناس [عن القاضي] (1) أن الحربيّ إذا أتلف، ثم عقدنا له ذمة أو أماناً، فهو مطالب بضمان ما أتلفه، ولو أسلم لا يطالب، وهذا لا يحل إلحاقه بمذهب الشافعي. والقاضي أجل قدراً في المذهب من أن يفرع على [مذهبه] (2) ذلك؛ فما أرى ما جرى إلا خللاً من ناقل، أو هفوة من ذلك الإمام في مسألة جريان الرق بعد الجناية.
فصل
" ولا يفرّق بينها وبين ولدها ... إلى آخره " (3)
11420 - لا يجوز التفرقة بين الأم وولدها الطفل سواء كانا مسلمين أو كافرين، أو كان أحدهما مسلماً والآخرُ كافراً، على تفاصيلَ سيأتي الشرح عليها، إن شاء الله تعالى. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تولّه والدة بولدها " (4) وقال
__________
(1) زيادة للفائدة. وهي من عبارة الغزالي: " وحُكي عن القاضي " (ر. البسيط: 5/ورقة: 160 شمال).
(2) في الأصل: " مذهب ".
(3) ر. المختصر: 5/ 191.
(4) حديث " لا تُوَلَّهُ والدة بولدها " رواه البيهقي من حديث أبي بكر، قال الحافظ: " بسند ضعيف، ورواه أبو عبيد في غريب الحديث من مرسل الزهري، وراويه عنه ضعيف، والطبراني في الكبير من حديث قتادة، وقال ابن الصلاح: روي عن أبي سعيد وهو غير معروف وفي ثبوته نظر ". والحديث ضعفه الألباني في ضعيف الجامع الصغير، وفي سلسلة الضعيفة وعزاه للديلمي (4/ 11) من حديث أنس مرفوعاً. (ر. البيهقي: 8/ 5، غريب الحديث=

(17/529)


صلى الله عليه وسلم: " من فرّق بين والدة وولدها، فرّق الله تعالى بينه وبين أحبته يوم القيامة " (1).
واتفق علماؤنا على أن التفريق محرّم، وليس النهي الذي أطلقناه نهيَ كراهية، فإن فرّق المالك بينهما في البيع، فباع الأم دون الولد، أو الولد دون الأم، ففي انعقاد البيع قولان: قال في القديم: ينعقد، وهو مذهب أبي حنيفة (2)، وقال في الجديد: لا ينعقد؛ لأن النهي متعلق بالمنهي عنه قصداً، وهو محمول على الفساد، وقد روي: " أن جارية بيعت دون ولدها، فردّ رسول الله صلى الله عليه وسلم البيع " (3).
ولو كان للولد أم وجدة، فبيع مع الأم كفى، ولو بيع مع الجدة دون الأم، فعلى قولين. ولو لم يكن له أم، وكانت له جدّة. قال الأصحاب: الجدة كالأم، وقطعوا بهذا، ولفظهم: الجدة كالأم عند عدم الأم، وأرادوا بذلك أن الأم إن كانت رقيقة فالاعتبار بها، ولا حكم للجدة معها.
فأما التفرقة بين الوالد والولد، فهل تحرم؟ على قولين: أظهرهما - أنها لا تحرم؛ فإن الأخبار في الوالدة، وهي أيضاً تختص بنهاية التحنن والشفقة، وضعف
__________
=لأبي عبيد: 2/ 405، التلخيص: 3/ 36 ح 1170، مشكل الوسيط لابن الصلاح- بهامش الوسيط: 7/ 30، ضعيف الجامع الصغير: 6280، سلسلة الضعيفة: 4797، المجلد العاشر، القسم الأول، ص 338).
(1) حديث " من فرّق بين والدة وولدها ... " رواه أحمد (5/ 413، 414)، والترمذي وقال: حسن غريب: البيوع: باب ما جاء في كراهية الفرق بين الأخوين، أو بين الوالدة وولدها في البيع، ح 1283، الطبراني في الكبير: 4/ 217، والدارقطني: 3/ 67، والحاكم وصححه على شرط مسلم (2/ 55) كلهم من حديث أبي أيوب. قال الحافظ: وفي إسنادهم حي بن عبد الله المعافري: مختلف فيه، والحديث رواه الدارمي من طريق آخر (2479)، والبيهقي أيضاً في الكبرى (9/ 126) من طريق آخر غير متصل، كما ذكر الحافظ (التلخيص: 3/ 36 ح 1171).
(2) ر. مختصر الطحاوي: 85، 286، مختصر اختلاف العلماء: 3/ 162 مسألة: 1242، اللباب 2/ 30.
(3) حديث أن " جارية بيعت دون ولدها ... "، رواه أبو داود: الجهاد، باب في التفريق بين السّبي، ح 2696، والحاكم (2/ 155) وصححه وواففه الذهبي، والدارقطني (3/ 66) والبيهقي في الكبرى (9/ 126)، والمعرفة (7/ 79).

(17/530)


المُنّة في التصبر. فإن قلنا: يجوز التفريق بين الولد والوالد، فلا كلام. وإن قلنا: لا يجوز، ففي غير الوالد من المحارم من القرابات قولان على هذا القول: أحدهما - لا يجوز التفريق بين كل شخصين بينهما قرابة ومحرمية. والقول الثاني - يجوز.
ويختص ما قدّمناه بالأم، أو من هو على عمود النسب. فإن قلنا: يجوز التفريق، فيصح البيع لا محالة. وإن قلنا: لا يجوز التفريق، ففي صحة البيع على حكم التفريق قولان.
ثم إذا كان للولد أبوان، فلا أثر للتفريق بين الولد والوالد، إذا كنا نرعى الجمع بين الولد والأم كما ذكرناه في الأم والجدة.
ثم ما ذكرناه من المنع من التفريق إلى متى؟ المذهب أنه إلى استقلال الصبي ببلوغ سن التمييز، وهو السبع والثمان. وذكر أئمتنا قولاً آخر أن التحريم وحكمه يمتدّ إلى البلوغ.
11421 - وكل ما ذكرناه فيه إذا لم يكن في التفريق ضرورة. فإن وقعت ضرورة، فالبيع جائز، وبيانه أن الأم إذا كانت حرة، فَبَيْعُ الولد جائز، فإن حسم البيع لا سبيل إليه، وكذلك لو كان الولد لزيدٍ والأم لعمرو، فيجوز لكل واحد منهما أن ينفرد ببيع ما يملك؛ فإن هذا التفريق واقع، ومن يبيع يُقيم غيره مقام نفسه، وليس بمحدث تفرقاً لم يكن.
ولو رهن جارية، ولها ولدٌ دون ولدها، جاز؛ إذ كان الرهن لا يوجب تفرقة؛ إذ الملك بعدُ واقع ولا حيلولة.
وإذا جاز (1) البيع، فقد قال الشافعي: تباع الجارية والولد، ويوزع الثمن عليهما. وقد ذكرنا هذا على الاستقصاء في كتاب الرهن، وما ذكرناه من [منع التفرقة في البيع يجري] (2) في منع التفرقة في الوصية والهبة، وكل جهة مملِّكة.
ومن باع جارية، فسلّمها قبل قبض الثمن، فولدت للمشتري ولداً رقيقاً، وفلس
__________
(1) كذا. والمراد إذا حُقَّ بيعُ الجارية المرهونة.
(2) زيادة اقتضاها السياق.

(17/531)


المشتري، وعجز عن توفية الثمن، فكيف يرجع البائع إلى عين الجارية، ولو رجع فيها، لكان ذلك تفريقاً بين الأم والولد؟ قال العراقيون: في ذلك وجهان: أحدهما - أنه يقال للبائع: خذ الجارية وولدها بثمن المثل، وإن أبيت أخذ الولد، فليس لك إلا مضاربة الغرماء بثمن الجارية، ولا شك أن هذا مفرع على منع صحة البيع على حكم التفريق.
والوجه الثاني - أنه يرجع إلى عين الجارية، والضرورة تلجىء إلى ذلك، وقد قدّمنا أن التفرقة بسبب الضرورة جائزة.
11422 - ثم قالوا على الاتصال بهذا: من اشترى جارية، وقبضها، فولدت له ولداً رقيقاً، ثم وجد بها عيباً قديماً، فلا سبيل إلى ردّها إذا منعنا التفريق؛ إذ لا سبيل إلى إلزام البائع بملك الولد حتى ينتظم الرد عليه.
ومن الممكن أن نقول: الراجع في عين ماله بعد الفلس يرجع في الجارية وحدها. هكذا ذكروه، وليس يبعد عندنا أن نسلّطه على ردّ الجارية وحدها لأجل الضرورة الداعية، وهذا إذا لم تعبها الولادة، ولا تُلحق بها نقصاً، فإن نقصت، وقعنا في تفصيل العيب الحادث مع الاطلاع على العيب القديم.
ثم ذكر الشافعي مسائل في حصول الإسلام بالتبعية، وقد ذكرنا [وجوه] (1) التبعية في كتاب اللقيط على أبلغ وجه في البيان، فلا نعيد منها شيئاً.
...
__________
(1) في الأصل: " وجوب ".

(17/532)


باب المبارزة
11423 - المبارزة في الجملة جائزة، وعن الحسن البصري (1) تحريم المبارزة.
والأولى ألا يبرز الغازي دون إذن صاحب الراية، وإن أراد المبارزة دون إذنه، ففي جواز ذلك وجهان: أحدهما - يجوز، وقياسه ظاهر؛ فإنه فن من القتال، ولا سبيل إلى مراجعة صاحب الراية في تفاصيل القتال؛ فإن مراعاةَ هذا عسرٌ، سيّما إذا عظم الجند، واشتد القتال. والوجه الثاني - أنه لا يجوز؛ فإن له في تعيين المبارزين رأي واجتهاد فيهم. فلا بدّ من مراجعته. وبالجملة من لا يعلم في نفسه بلاءً وشجاعة، فلا يجوز له أن يبارز بطلاً من الكفار، لأنه ربما يصاب، فتنكسر قلوب المسلمين، وتتجرأ به الكفار.
ثم يتعلق بالمبارزة فصول من الأمان، فإذا برز مسلم، وتنصَّل (2) من الصف كافر، فلا أمان للكافر، ويجوز لجمع من المسلمين أن يغتالوه. وإن شرط أن ينفردا ولا يُعينَ المسلمون صاحبَهم، ولا الكفارُ صاحبَهم، فيجب الوفاء بموجب الأمان، ثم نَنظر إلى صيغته، فإن وقع العهد إلى أن يثخن أحد القِرنين صاحبَه، فإذا قتل الكافرُ المسلمَ، جاز قتلُ الكافر قبل الرجوع إلى الصف، وإن كان العهد ممدوداً إلى الرجوع إلى الصف، فلا نَتعرّض له.
وإن أثخن المسلمَ، ولم يبق فيه قتال، فأراد التذفيفَ عليه، ابتدرناه، ومنعناه، وإن كان العهد ممدوداً إلى تمام القتال، فإن القتال قد انتجز [بالإثخان] (3)، فإن كان العهد ممدوداً إلى القتل، فالعهد -على هذا الوجه- باطل؛ فإنا إن رأينا في
__________
(1) الحسن البصري: الحسن بن يسار، من وجوه التابعين في العلم والعمل، وحيثما قيل: (الحسن) فقط فإياه يعنون.
(2) تنصل من الشيء: خرج منه.
(3) غير مقروءة في الاصل

(17/533)


المبارزة وجهاً من المقاتلة، فلا تتم المبارزةُ إلا بأن يأمن كلُّ قِرنٍ في وقت المحاربة أن يُغتال من غير جهة قِرنه، فلئن اتجه هذا، فلا معنى لتسليط كافر على مسلم لا قتال فيه.
وإن كان العهد ممدوداًَ إلى القتال، فإذا ولى المسلم دُبره، فليس للكافر أن يتبعه، وقد ترك القتال، فإن تبعه، دفعناه وقتلناه، فإن ولّى الكافر دبره، فيجوز للمسلمين أن يقتلوه، لأن الأمان له ما داما يتقاتلان، وقد انتهى القتال بينهما.
وإن شرط البارز منهم ألا يتعرض له حتى يرجع إلى الصف، وجب الوفاء بالأمان. ولو أعان الكافرَ جماعةٌ من المشركين، فإن كان باستنجاد من برز منهم، قتلناه، ومن يعينه، فإن أعانوه من غير استنجاده، دفعنا من يعينه، ولم نقتل المبارز، وتركناه إلى قِرنه.
ولا فقه في هذه المسائل، والجامع لجميعها أن المرعي نصُّ الأمان وصيغتُه، فنفي به إذا وافق ما يجوز الأمان فيه.
وحظّ الفقه من جميع ما ذكرناه شيئان: ذكرنا أحدهما - وهو أن الأمان المسلّط على القتل بعد الإثخان باطل. والثاني - أنا إذا جوّزنا للواحد من الصف أن يبرز دون [إذن] (1) صاحب الراية، فلو أمّن المسلمُ البارزُ الكافرَ الذي خرج إليه على ألا يُتعرض له حتى يرجع إلى الصف، فيجب الوفاء بهذا الأمان، وإن لم يجر الأمان إلا منه.
وإذا قلنا: لا ينفرد بالبراز، فلسنا نعني به إذا كالح (2) كافراً لا يجوز، وإنما نعني به أن أمانه لا ينفذ، فلا تنتظم المبارزة والحالة هذه؛ فإن المسلمين يقصدون ذلك الكافر، ويقتلونه.
فهذا معنى تردد الأصحاب في الانفراد بالمبارزة دون الرجوع إلى صاحب الراية، فإن قيل: ألستم تنفذون أمان الواحد للواحد؟ قلنا: هذا إذا لم يكن المؤمَّن مقاتلاً، ووقوف الكافر في الصف قتال.
...
__________
(1) زيادة من المحقق.
(2) كالحه: واجهه بالخصومة. (المعجم).

(17/534)


باب فتح السواد
قال الشافعي: " ولا أعرف ما أقول في فتح السواد إلا بظنٍّ مقرونٍ إلى علم ... إلى آخره " (1).
11424 - وإنما قال الشافعي ما قال لاختلاف الروايات، في السواد، وكان أعرفَ خلق الله بهذا القسم، ولكن تحرّج حتى لا يُنسب إليه غريبُ الروايات كلها، واختار من جملتها: أن سواد العراق فُتح عَنوةً، وقد روي أنه فتح صلحاً، وروي أن بعضها فتح صلحاً، والبعض عَنوة، والأصح أن أرض العراق فتحت عَنوة بجملتها، وأريق على جوانبها دمُ آخر الأكاسرة يزدجرد وأعوانه، ولم يثبت صلحٌ في قطر من أقطار العراق، ثم استقسم الغانمون الأراضي، فقسمها عمر -رضي الله عنه- بينهم بعد أن قال: " أخشى أن يتعلقوا بأذناب البقر، ويتقاعدوا عن الجهاد " (2) فخاف أن يتعطل أمر الجهاد، فاستطاب أنفسهم عنها، فمنهم من طاب نفساً بردّ نصيبه، ومنهم من أبى، فعوّضه، واستخلص الكلَّ للمسلمين.
وفي رواية جرير بن عبد الله البجلي، وهي أصح الروايات في سواد العراق، قال: " كانت بَجِيلةُ (3) رُبعَ الناس، فأصابهم ربعُ السواد فاستغلوه ثلاث سنين أو أربعَ سنين، فقال عمر: لولا أني قاسم مسؤول، لتركتكم وما قسم لكم ... الحديث " (4). وروي أن أم كُرز قالت: " إن أبي شهد القادسية وثبت سهمه، وإني لا أرضى حتى يملأ كفي
__________
(1) ر. المختصر: 5/ 192.
(2) أثر عمر في فتح السواد " أخشى أن يتعلقوا بأذناب البقر ... " لم نصل إليه.
(3) بجيلة: وِزان سفينة.
(4) أثر جرير بن عبد الله البجلي في فتح السواد رواه الشافعي في الأم 4/ 279، والبيهقي في الكبرى: 9/ 135 وفي المعرفة: 7/ 87. (ر. التلخيص: 4/ 212، ح 2274).

(17/535)


دنانيرَ وفمي لآلىء، ويُركبَني ناقة ذلولاً عليها قطيفةٌ حمراء، فأعطاها عمر ما سألت " (1)، فثبت أن الفتح كان عَنوة.
ثم لما استخلص عمر أراضي العراق للمسلمين، ردّها على سكان العراق، ووقفها على المصالح، وضرب على الذين يستغلونها أموالاً رآها الشافعي أجرةَ الأراضي، والإجارةُ مؤبدة، وكانت [تتكرر] (2) بتكرر السنين. ثم أسلموا عليها، فلم تسقط عنهم الأموال الموظفة عليهم، فإنهما كانت أجرة، ولم تكن جزية.
والمأخوذ منهم يُسلك به مسلك مال المصالح؛ لأنه مستفادٌ من موقوفٍ على عامة المسلمين، ومثل هذه الجهالة محتملة لمسيس الحاجة في المعاملات العامة المتعلقة بالمصالح الكلية. قال الشافعي: من انتهت إليه قطعة من تلك الأراضي من آبائه وأجداد، فليس للغير أن يقول: أنا أستغلها، وأعطي الخراج؛ فإنهم استحقوا منافعها بإجارة لازمة، عقدها أمير المؤمنين، والأجارة لا تنفسخ بموت المستأجر، ولو أراد واحد منهم بيع رقبة الأرض، لم يصح؛ فإن رقاب تلك الأراضي محبسة، ولو أراد واحد منهم أن يكري تلك الأرض مدة معلومة بأجرة معلومة، صح. وإن أراد أن يكريها إكراء مؤبداً بمالٍ يَتفق عليه التراضي، ففي ذلك تردد من الأصحاب، والأصح المنع؛ فإنا حملنا تجويز التأبيد في إجارة عمر رضي الله عنه على تعلق تلك المعاملة بالمصلحة العامة، وإذا أراد الواحد أن يكري، فتصرفه مردود إلى قياس التصرفات الجزئية. ومن يجوّز الإجارة المؤبدة، لا يجوّزها إلا في [تلك الأراضي] (3)، ويحتج بأنهم استحقوا منافعها على جهةٍ، فلا يبعد أن يملكوا إخراج أنفسهم من البَيْن، وإحلال غيرهم محالّ أنفسهم، فيقع جواز هذا تبعاً لما أجراه [لهم] (4) عمر.
وقال ابن سريج: باع عمر بن الخطاب تلك الأراضي من سكان العراق، وجعل الثمن مؤجلاً عليهم. وهذا غير صحيح، وهو يخالف النص، فإن نص الشافعي
__________
(1) أثر أم كرز في فتع سواد العراق رواه البيهقي في الكبرى: 9/ 135، وفي المعرفة: 7/ 90.
(2) مكان بياض بالأصل قدر كلمة.
(3) في الأصل: "ملك الأراضي".
(4) مكان بياض بالأصل.

(17/536)


موجود في كتاب الرهون، على أن رهن السواد مفسوخ. أراد بالمفسوخ الفاسد، ولو كانت رقاب الأراضي مبيعة، لجاز بيعها، ولو جاز بيعها، لجاز رهنها. ثم ما ذكره غير صحيح، وذلك أن الأجرة إذا كانت تتجدد بانقضاء السنين، فهذا محمول على مقابلة كل سنة بأجرتها، والمنافع متجددة، ومثل هذا لا يتصوّر في البيع، فإن الموظف على أهل العراق لو كان ثمناً، فالثمن لسنا نرى له ضبطاً، ولا غاية، ولا مقابلة بما يتجدّد حالاً على حال.
وقال أبو حنيفة (1): السواد فتح صلحاً، وردّها عمر عليهم بخراجٍ يؤدونه كلَّ سنة، وزعم أن الخراج لا يسقط بإسلامهم. وهذا مطرد على مذهبه؛ فإنه يقول: إذا ضرب الإمام الخراج على أراضي الكفار، وكان يأخذه منهم جزيةً، فإذا أسلموا على أراضيهم، لم يسقط عنهم الخراج الموظف، وعندنا أن الخراج المضروب على الكفار سبيله سبيل الجزية، فإذا أسلموا على أراضيهم، سقط الخراج عنهم كما تسقط الجزى عن رؤوسهم.
ومما يتصل بهذا الباب أنه لو وقع مثل هذه الواقعة، وعلم الإمام أنه لو ترك الأراضي في أيدي الغانمين، لتعطل الجهاد، ثم زاد (2) أصحابُ الأراضي بسطتَهم، فأَبَوْا، وعلم أنه لا خلاص إلا باقتهارهم، وأَخْذِ الأراضي منهم قسراً، فليس للإمام أن يفعل هذا، بل يقتهرهم على الخروج إلى الجهاد على حسب دعاء الحاجة إليهم.
وقد نقل المعتمدون: أن أمير المؤمنين استطاب قلوب المسلمين، وطلب المسلمون مرضاتَه، لما عرفوا نظره للدين وأهلِه، وروي: " أن بلالاً أبى عليه، فراجعه، فأغلظ بلال القولَ على عمر، فاحتمل عمر، ثم قال: اللهم خلصني من بلال وذويه، فما مرت سنة حتى لم يبق من آل بلال نافخ ضَرْمة (3) " (4).
...
__________
(1) ر. مختصر اختلاف العلماء: 3/ 494، 495 مسألة: 1644، 1645.
(2) في الأصل: " ثم زادوا " على لغة: أكلوني البراغيث.
(3) ضرمة: أي جمرة وهي النار. (المعجم).
(4) أثر عمر " اللهم خلصني من بلال ... " رواه البيهقي عن جرير بن حازم عن نافع مولى ابن عمر: 9/ 138، وقال: والحديث مرسل. ورواه أيضاً في معرفة السنن: 7/ 91.

(17/537)


باب الأسير يؤخذ عليه العهد ألا يهرب أو على الفداء
11425 - مضمون الباب الكلام على أحوال الأسرى إذا أطلقهم الآسرون، وأثبتوا عليهم عهوداً، ونحن نفصل الغرض فيما يجوز، وما لا يجوز.
فنقول: إذا خلَّوْا الأسير وشرطوا أن يتردّد فيما بينهم، ولا يخرج إلى دار الإسلام، فمهما (1) تمكن، فلا يسعه المقام، إذا كان يخاف أن يُفْتَنَ عن دينه، وإن كان لا يخاف ذلك، وكان متمكناً من إقامة شعائر الشريعة غيرَ مدفوع عنها، فالأصح أنه لا يحرم عليه المقام.
ومن أصحابنا من حرم المقام؛ فإن المسلم بين أظهر الكفار مقتهَرٌ مهانٌ، فإن انكفوا عنه، فلا تعويل عليه؛ فإنهم قد يؤذونه، أو يقهرونه، أو يفتنونه عن دينه.
وحق المسلم أن يكون مستظهراً بأهل دينه، قال علي رضي الله عنه: " أنا بريء من كل مسلم بين المشركين " (2)، حتى قال الأصحاب، لو كانوا حلّفوه، فلا يسعه المُقام، فإن أكرهوه على اليمين، فلا حِنث عليه، وإن لم يتحقق الإكراه على اليمين، ولكنه
__________
(1) فمهما: أي: فإذا.
(2) أثر علي: " أنا بريء من كل مسلم بين المشركين " لم نصل إليه من كلام علي رضي الله عنه، وإنما هو حديث مرفوع، ومن عجب أن علياً ليس من رواته.
والحديث المرفوع رواه أبو داوَد، والترمذي، والطبراني من حديث جرير بن عبد الله، وصححه الألباني في الإرواء، ورواه النسائي مرسلاً عن قيس بن أبي حازم، قال الحافظ في التلخيص: وصحح البخاري، وأبو حاتم، وأبو داود، والترمذي، والدارقطني إرساله إلى قيس بن أبي حازم (ر. أبو داود: الجهاد، باب النهي عن قتل من اعتصم بالسجود، ح 2645، الترمذي: السير، باب ما جاء في كراهية المقام بين أظهر المشركين، ح 1604، الطبراني في الكبير، ح 2264، 2265، النسائي: القسامة، باب القود بغير حديدة، ح 4784، التلخيص: 4/ 218 ح 2285، إرواء الغليل: 5/ 30 ح 1207).

(17/538)


يرى أن يحلف لتسكين قلوبهم، ولنفي التهم، فعليه الخروج، إذا تمكن، ثم يلزمه الكفارة.
ولو حلف بالطلاق أو العتاق طائعاً -غير مكره- فلا شك أنه لو خرج، وقع الطلاق والعتاق، ولا ينتصب توقع وقوعهما عذراً في جواز الإقامة، بل يتعين الخروج على الرأي الظاهر الذي هو المذهب.
ثم إن أمّنوه، فليس له إذا استمكن من الخروج أن يغتالَهم في دمائهم وأموالهم، وذراريهم، ونسائهم؛ فإن الأمان إذا ثبت على شرط، اقتضى الأمانَ من الجانبين، ولو أطلقوه، وخلَّوْا سبيله، ولم يتعرّضوا للأمان، فله أن يغتالهم، لأنه لم يجر أمان يتضمن الأمن، فإذا جرى أمان، منعناه من اغتيالهم، وأوجبنا عليه أن يهرب إذا استمكن، ولو هرب، فتبعه أقوام ليردوه، فله أن يقاتلَهم، ويغتالَهم، ولا يتعرّض لغير الذين اتبعوه.
ولو خلَّوه على أن يخرج إلى دار الإسلام، ويزور أقاربه، ثم يرجع إليهم، فلا يحلّ له الرجوع إليهم، ولو همّ به، منعه الإمام.
وقال الزهري والأوزاعي: يلزمه الوفاء بالعود إليهم حتى لا يصير امتناعه سبباً لامتناعهم عن إطلاق الأسرى.
11426 - ولو باعوا منه فرساً أو غيره من الأمتعة بأكثرَ من ثمن المثل أو بثمن المثل، فإن كان مكرهاً عليه، فالبيع باطل. غير أنه يلزمه أن يردّ إليهم ما أخذه بعد الخروج إلى دار الإسلام؛ لأن تلك العين حصلت في يده على حكم المعاوضة؛ فإذا لم يلزمه الثمن، ألزمناه ردَّ العين.
وقال الشافعي في القديم: هو بالخيار بين أن يردّ عين مالهم، وبين أن يبعث إليهم بثمنها. وهذا شَرْعٌ (1) إلى [وقف] (2) العقود. وقد قررناه في كتاب البيع، وإذا جوزنا وقف العقد، فالمكره على البيع يملك الإجازة لو أرادها.
__________
(1) شَرْعٌ: أي طريق إلى وقف العقود.
(2) في الأصل: " وقت ". والمثبت تصرّف من المحقق.

(17/539)


ولو جرى البيع على اختيار، واشترى ما اشترى طائعاً بثمن يصح مثله في الإسلام، فيلزمه الوفاء بالعهد، وبعث الثمن. وفي تعليقنا عن الأمام (1) أنهم إذا خلّوا الأسير على شرط أن يبعث إليهم مالاً، وفادَوْه به أنه لا يلزمه أن يفي بما وعد من المال، ولا يجوز أن يعود. قال: وحكى الشافعي عن بعض السلف: أنه يجب عليه أحد الأمرين: إما العود إلى الأسر، وإما بذلُ المال، وقيل هذا قول الشافعي في القديم. وهذا بعيد لا أصل له، ولم أره في غير تعليقنا، ولست أعدّه من المذهب.
فرع:
11427 - قال العراقيون: لو كان في المغنم كلاب، فإن لم يكن منتفَعاً بها، خُلّيت، ويُقتل العقور منها فأما إذا كانت منتفعاً بها بحيث يجوز اقتناؤها للانتفاع بها. قالوا: لو أراد الإمام أن يسلّمها إلى واحدٍ من الغانمين لعلمه باحتياجه إليها، فعل ذلك، غيرَ محسوب عليه.
وهذا فيه احتمال؛ فإن الكلاب في الجملة منتفع بها، فلا يبعد أن نقول: يثبت لجميعهم حق اليد فيها. ومن مات وخلف كلاباً على الصفة التي ذكرناها، فلا يستبدّ بها بعض الورثة، وليس للقاضي تخصيص بعضهم؛ فليكن الأمر كذلك في كلاب المغنم.
فرع:
11428 - إذا أراد الغزاة حمل رؤوس الكفار إلى بلاد الإسلام، فالمسألة ليست منصوصة للشافعي، والذي يقتضيه قياسه كراهيةُ ذلك، فإنه لم يعهد في زمن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس فيها فائدة. وقد تعلق الأصحاب بما روي أن جماعة نقلوا رؤوس الكفار إلى المدينة في زمن أبي بكر، فقال: لا تنقلوا هذه الجيف إلى حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم (2).
__________
(1) الإمام: المراد والده.
(2) أثر أن جماعة نقلوا رؤوس الكفار إلى المدينة في زمن أبي بكر فأنكره عليهم، رواه البيهقي (9/ 132) قال الحافظ: إسناده صحيح. ورواه النسائي في الكبرى: ح 8673. وفي الخبر أن أبا بكر رضي الله عنه أنكر ذلك فقال له عقبة بن عامر (راوي الحديث): " يا خليفة رسول الله، فإنهم يصنعون ذلك بنا. فقال أبو بكر: أفاستناناً بفارس والروم! لا يُحمل إليّ برأس، إنما يكفي الكتاب والخبر " (التلخيص: 4/ 201).

(17/540)


قال شيخي: هذا يمكن أن يحمل على تنزيه الحرمين عن نقل جيف الكفار، حتى إذا كان نقل الرؤوس ناجعاً في الكفار، فهو ضربٌ من التنكيل، لو رآه الإمام، لم يكن في تجويزه مع نفي الكراهية بأسٌ.
فرع:
11429 - إذا حاصر صاحب الراية قلعة، فرضُوا بأن ينزلهم على حكم رجل عيّنوه، فيجوز للإمام أن ينزلهم على حكمه إذا كان أميناً عدلاً.
قال العراقيون: ينبغي أن يكون مجتهداً، وما أظنهم شرطوا أوصاف الاجتهاد المعتبرة في المفتي، فإن عَنَوْا بالاجتهاد التهدِّي إلى طلب الصلاح والنظر للمسملمين، فهذا لا بد منه، وإن أرادوا استجماع شرائط الفتوى، فهو غلط غير معتدٍّ به، والأصل في ذلك ما جرى لرسول الله صلى الله عليه وسلم من تنزيل بني قريظة على حكم سعد بن معاذ في قصة مشهورة (1).
ثم إذا حكم المحكّم بالقتل وسبي الذرّية، فللإمام أن يمن عليهم، ويفاديهم، ولا يتعين على الإمام قتلُهم، نعم لو حكم المحكَّم بالمن، فلا يقتلهم الإمام، وإذا حكم بالقتل، فله المن. وتعليل ذلك بيّن، ولو حكم عليهم بالجزية، فإن قبلوها، اتبعها الإمام، وفاء بالرضا بحكمه، ولو رأى أن يمن، فلا حرج عليه، وبالجملة: إن الإمام لا يزيد على حكم المحكَّم ومقتضاه، وإن أراد التجاوز والتساهل، ورأى ذلك وجه الصلاح، فلا يُعتَرضُ عليه.
ولو حكم المحكّم بالجزية، فهل يلزمهم الرضا بحكمه، والتزام الجزية؟ ذكر ابن سريج وجهين فيما حكاه العراقيون: أحدهما - يلزمهم وفاءً بتحكيمه والنزول على رأيه.
والثاني - لا يلزمهم.
فإن ألزمناهم، فليس معناه أنا نوجب عليهم أن يلتزموا، ولكنا نقضي بأن الجزية
__________
(1) حديث تنزيل بني قريظة على حكم سعد بن معاذ رضي الله عنه متفق عليه من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه (البخاري: المغازي، باب مرجع النبي من الأحزاب، ومخرجه إلى بني قريظة ح 4121. مسلم: الجهاد، باب جواز قتال من نقض العهد، ح 1768).

(17/541)


تلزمهم، فإن أبَوْا، كانوا بمثابة أهل الذمّة إذا التزموا الجزية، ثم امتنعوا عن أدائها.
وسيأتي حكم هؤلاء في كتاب الجزية، إن شاء الله تعالى.
وإذا قلنا: لا تلزمهم الجزية، فلا يجوز التعرّض لهم، ولكنهم يُبَلَّغون المأمن، فإنهم نزلوا متمسكين بأمانٍ على الجملة، وهذا الوجه يفارق الوجه الآخر؛ من حيث أنا لا نغتالهم على الوجه الأخير وجهاً واحداً، وإذا ألزمناهم الجزية، وامتنعوا، فقد نغتالهم في وجه.
ولو حكم المحكَّم بالقتل، فأراد الإمام أن يسترق، فقد اختلف أصحابنا، فمنهم من قال: له ذلك، لأن الاسترقاق دون القتل، والإمام لا يزيد على حكم المحكم، وله أن ينقص، والاسترقاق دون القتل.
ومن أصحابنا من قال: ليس له أن يسبي، وهو اختيار الصيدلاني؛ فإن الاسترقاق نوع من العذاب، وقد يؤثر الإنسان الموت عليه، وليس كالمنّ، فإنه تركٌ للعقاب من غير بدل، فلو حكم بالقتل، ثم أسلم المحكوم عليه، امتنع القتل، فمن جوز للإمام أن يسترق في الكفر، جوّز ذلك بعد الإسلام، ومن لم يجوّز الاسترقاق، فلا يجوز هاهنا؛ فإن الاسترقاق زال بحكم القتل، ثم زال القتل بالإسلام.
فرع:
11430 - ذكر الشيخ في أثناء كلامه في شرح التلخيص أن العبد المرتدّ مالٌ يُباع، ولو قتله مسلم، لم يلتزم بقتله ضماناً، ولو غصبه غاصب، فتلف في يده، لزمه الضمان؛ فإنه مالٌ تام قابل للتصرفات المتعلّقة بالملك التام، وما كان كذلك، فهو مضمون باليد العادية (1)، ولا يضمن بالقتل؛ لأن قتله حكمُ إقامة الحد، فمن ابتدر قتله من المسلمين كان مقيماً حدّ الله تعالى، وإن لم يكن له ذلك؛ فإنه مفوّض إلى نائب المسلمين.
وهذا ممثل بعبدٍ مغصوب في يد الغاصب يقول مولاه: اقتله، فلو قتله، لم يضمنه، ولو تلف في يده، ضمنه، ولو قطع رجلٌ يدَ مرتدٍّ، واندمل، وأسلم المقطوع يدُه، فلا ضمان، وإن لم يكن قَطْعُ اليد قتلاً، ولم يكن واقعا حدّاً،
__________
(1) العادية: أي المعتدية بالغصب.

(17/542)


ولا محمل لهذا إلا أنه لو قتله، لكان هدراً، والأطراف تهلك بالقتل، والذي يقرّب ذلك أن قطع الطرف لو أدى إلى التلف، لكان قتلاً، فإذا لم يُودَ، لم يخصص بالضمان، والوجه أن نقول: إذا قال مالك العبد لإنسان: اقتل هذا العبد، فلو قتله، لم يضمنه، ولو قطع يده، لم يضمن يده أيضاً، قياساً على قطع يد المرتد، والله أعلم.
فرع:
11431 - ذكر الشيخ في أثر كلام أجراه في أحكام الكفار، أن الكافر إذا حلف وحنث، انعقد يمينه، ولزمته الكفارة، بالحنث، وهذا مشهور من أصلنا. ثم قال: فلو أسلم الكافر، فهل تسقط عنه الكفارة؟ فعلى وجهين: أحدهما - تسقط، ولا يخاطب بها، والإسلام يجبها. الثاني - لا تسقط، كما لا تسقط عنه [القروض] (1) والديون التي التزمها في الشرك.
وهذا الذي ذكره يجرّ إشكالاً عظيماً على المذهب؛ فإن الكفارة إذا كانت تسقط بالإسلام، والطَّلِبة بها لا تتوجه على الكافر، وليست من الأحكام المتعلّقة بالحكام، حتى يُفرض فيها [إلزامٌ] (2) من الحاكم عند تقدير رضا الكافر بحكمه، سواء إذا كان الكافر في كفارة اليمين [أو غيرها] (3)، فإذا لم يظهر طَلِبة، والإسلامُ المتضمن التزام الأحكام يُسقطها، فلا معنى للزومها.
ولو كانت الكفارة مفروضة في الظهار، والظهار نافذ من الكافر؛ فإنه يقتضي تحريماً، وإن كان لا يقطع الملك (4)، فيتجه أن يقال: لا يرتفع التحريم إلا بالتكفير، وبالجملة إذا أسقطنا بالإسلام كفارة اليمين، فلا معنى لوجوبها على الكافر، والمصير إلى أن كفارة الظهار تسقط بالإسلام لا أصل له.
ويلزم على مساق هذا أن يقال: إذا آلى الكافر من زوجته، ثم أسلم، انقطع الإيلاء، لمصيره إلى حالة لو وطىء، لم يلتزم بالوطء أمراً، وقد ذكرنا أن من علّق
__________
(1) في الأصل: " الفروض ".
(2) في الأصل: " التزام ".
(3) ما بين المعقفين تقدير من المحقق.
(4) المراد ملك النكاح.

(17/543)


عتق عبده بوطء زوجته، وحكمنا بأنه مُولٍ موقوف بعدّ الأربعة الأشهر، فلو باع ذلك العبد، والتفريع على امتناع عود الحنث، فينقطع الإيلاء.
فإذاً يجب القطع ببطلان سقوط الكفارة بالإسلام؛ فإن في الذهاب إليه هدمُ القواعد. ووجوب كفارة اليمين على الكافر مشكل، وإن كان الفقيه يتكلف لإثبات الكفارة في الظهار تبعاً للظهار، وكذلك القول في الكفارة المتعلقة بالإيلاء.
فهذا منتهى المراد في ذلك.
***

(17/544)


باب إظهار دين الله تعالى
11432 - تكلم الشافعي في هذا الباب على آيةٍ وأخبارٍ ظاهرها التعرض لما سيكون، فأما الآية، فقوله تعالى: {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} [التوبة: 33]، وقد قيل: أراد إظهار دينه بالحجة، فعلى هذا انتجز الموعود، وظهرت الحجة، ووضحت المحجة.
وقيل: أراد ظهورَ الملة في جزيرة العرب، وهذا متجه أيضاً.
وقيل: أراد استيلاء ملوك الأمة على المشارق والمغارب. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " زويت لي الأرض، فأريت مشارقها ومغاربها، وسيبلغ ملك أمتي ما زوي لي منها " (2).
وقيل؛ ينتجز هذا الوعد عند نزول عيسى عليه السلام، وقصة نزوله مشهورة.
وأما الأخبار التي جمعها الشافعي، فهي، ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إذا هلك كسرى، فلا كسرى بعده، وإذا هلك قيصر، فلا قيصر بعده، والذي نفسي بيده، لتنفقَن كنوزهما في سبيل الله " (3). وكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى كسرى: " بسم الله الرحمن الرحيم من محمدٍ رسول الله إلى كسرى عظيم فارس " فلما بلغه الكتاب قال: عبدي يقدم اسمه على اسمي، ومزق كتاب رسول الله صلى الله
__________
(1) وهي في سورة الفتح أيضاً: 28، وسورة الصف: 9.
(2) حديث: " زويت لي الأرض ... " رواه مسلم من حديث ثوبان رضي الله عنه: الفتن، باب هلاك هذه الأمة بعضهم ببعض، ح 2889. وأبو داود: الفتن، باب ذكر الفتن ودلائلها، ح 4252. والترمذي: الفتن، باب ما جاء في سؤال النبي ثلاثاً في أمته، ح 2176. ابن ماجه: الفتن، باب ما يكون من الفتن، ح 3952. والبيهقي: 9/ 181.
(3) حديث " إذا هلك كسرى ... " متفق عليه من حديث جابر بن سَمُرة، ومن حديث أبي هريرة رضي الله عنهما (ر. اللؤلؤ والمرجان: 3/ 208 ح 1848، 1847).

(17/545)


عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يمزّق ملكُه " (1).
وكتب إلى قيصر: " بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم: أما بعد، أسلم تسلم، الكتاب " وهو معروف. فلما أتاه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أكرمه وطيبه وغلفه بالمسك والغوالي، وقبّله ووضعه على رأسه، وأمر حتى نثر عليه. فقال صلى الله عليه وسلم، لما بلغه الخبر: " ثبت الله ملكه " (2).
أما الأخبار في هلاك الأكاسرة، وتمزق ملكهم، فلا اختلاف فيه، وأما حديث قيصر، فقد روي أنه قال: " إذا مات قيصر، فلا قيصر بعده " معناه: لا قيصر بعده بالشام، وكانت القياصرة تسكن الشام، وهي دار ملكها. وأما قوله: ثبت الله ملكه أراد امتداد ملك القياصرة، وهذا حق معاين، وأما قوله صلى الله عليه وسلم: " لتنفقن كنوزهما في سبيل الله " أي كنوز قيصر الشام، وقد أنفقت، وقيل: أراد جملة القياصرة، وهذا سيكون في آخر الزمان.
...
__________
(1) حديث كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى كسرى، رواه البخاري من حديث ابن عباس: المغازي، باب كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى كسرى، وقيصر، ح 4224.
(2) حديث كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قيصر متفق عليه من حديث أبي سفيان رضي الله عنه الطويل (ر. اللؤلؤ والمرجان: 2/ 219 ح 1162).

(17/546)


ولكن الفقيه إذا لم يكن وافر الحظ من الكليات وأحكام الإيالات إذا انتهى إلى مواقف تعارض النص، تخبط.
الإمام
في نهاية المطلب

(18/4)