نهاية المطلب في دراية المذهب

كتاب الجزية
11433 - أمر الله تعالى لما افترض الجهاد بقتل المشركين كافة، فقال تعالى: {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [النساء: 89]، وفي آية أحْرى: {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ} [البقرة: 191]، فمن العلماء من قال: كان الأمر بالقتال عاماً في ابتداء افتراض الجهاد، ثم ثبتت الجزية، لقوله تعالى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29]، وكانت آية الجزية ناسخة للأمر بقتلهم كافة.
وقيل: آيات القتال عامة، وآية الجزية مخصصة لها، مبينة للمراد بها. فالأصل في الجزية الكتاب والسنة والإجماع. فأما الكتاب، فقوله تعالى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} وسنذكر تفسير الصغار في أثناء الكتاب- إن شاء الله تعالى.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاذ لما بعثه إلى اليمن: " إنك سترد على قومٍ هم أهل كتاب، فاعرض عليهم الإسلام، فإن امتنعوا، فاعرض عليهم الجزية، وخذ من كل حالم ديناراً، فإن امتنعوا، فقاتلهم" (2) والإجماع منعقد على أصل الجزية.
__________
(1) وهي أيضاً في سورة النساء: 91.
(2) هذا الحديث أجهدنا كثيراً، حيث لفت نظرنا في أول بحثنا عنه قول الحافظ في التلخيص: " وقال أبو داود: هو حديث منكر، قال: وبلغني عن أحمد أنه كان ينكره " ا. هـ ولما رجعنا إلى أبي داود لم نجد هذا الكلام عن حديث معاذ، مع أن أبا داود أتى بحديث معاذ في خمسة مواضع من السنن، ولكن لم يعقب أي موضع منها هذا التعليق.
فتشعّب علينا البحث، وأخذنا ننقّر ونفتش في كل ما استطعنا الوصول إليه من مصادر ومراجع، ونوجز ثمرة هذا البحث والجهد فيما يلي:
1 - الحديث ورد عند أبي داود في خمسة مواضع: ثلاثة في كتاب الزكاة، باب زكاة السائمة، ومن ثلاث طرق، وأرقامها: 1576، 1577، 1578. وموضعان في كتاب الخراج، باب في أخذ الجزية. وأرقامهما: 3038، 3039. وكما ذكرنا لم نجد في أي من هذه المواضع الخمسة إنكار أبي داود الذي نقله عنه الحافظ في التلخيص. =

(18/5)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
= 2 - وجدنا البيهقي في السنن الكبرى ينقل إنكار أبي داود على حديث معاذ، حيث قال بعد أن ذكر روايات الحديث من طرقه المختلفة: " قال أبو داود في بعض النسخ: هذا حديث منكر ... ".
3 - وجدنا هذا الإنكار عند أبي داود على حديثٍ لعلي رضي الله عنه يلي حديث معاذ في
آخر موضع ذكره فيه أبو داود (رقم 3039 في الخراج) وحديث علي رقمه (3040) وهو في موضوع آخر لا علاقة له بحديث معاذ.
4 - ولا مجال للقول بأن هذا الإنكار انتقل عند الطباعة خطأً من حديث معاذ إلى حديث علي الذي يليه، فقد وجدنا هذا الإنكارَ على حديث علي مفسّراً في عون المعبود من خلال هذه الزيادة التي جاءت بعد إنكار أبي داود مباشرة ونصّها: " وهو عند بعض الناس شبه المتروك، وأنكروا هذا الحديث على عبد الرحمن بن هانئ " ا. هـ وعبد الرحمن بن هانئ هو أحد رجال حديث علي، لا حديث معاذ. وقد نقل عوّامة في نشرته لأبي داود هذه الزيادة المفسِّرة للإنكار عن إحدى النسخ الخطية للسنن. أيضاً ذكر المنذري في مختصر سنن أبي داود هذا الإنكار، وذكر رجالاً من حديث علي جاعلاً الإنكار بسببهم.
فتأكّد لدينا الآن أن العبارة في موضعها الصحيح عقب حديث علي، لا حديث معاذ، وهذا الواقع فعلاً في جميع طبعات أبي داود المختلفة، وكذا في النسخ الخطية المختلفة التي اعتمدها عوّامة في نشرته للسنن.
5 - هذا ولم نجد أحداً من المحدثين الذين خرّجوا حديث معاذ، قدامى ومُحْدَثين كابن عبد البر، وابن حزم، والزيلعي، والعظيم آبادي، والشوكاني، والصنعاني، والألباني، وشعيب الأرناؤوط، ذكر إنكار أبي داود الذي وجدناه عند البيهقي، والحافظ في التلخيص.
6 - وأعجب العجب في هذا الأمر أن نسخة الحافظ ابن حجر الخطية من سنن أبي داود، وقد كان حفياً بها، يعتمدها، ويرجع إليها، ويعلّق عليها حواشي وفوائد، كما ذكر محمد عوامة، وقد اعتمدها أصلاً في نشرته المحققة الجيدة لسنن أبي داود، نقول:
لم نجد فيها هذا الأنكار على حديث معاذ، فكيف حكاه في التلخيص؟ الله أعلم بالصواب وما كان.
7 - وختاماً فالحديث كما ساقه الإمام ملفّق من حديثين، الأول في الصحيحين من حديث ابن عباس بأوله إلى قوله: " فاعرض عليهم الإسلام ". وأما الجزية فرواه أبو داود، والنسائي، والترمذي، وأحمد، والدارقطني، وابن حبّان، والحاكم، والبيهقي من حديث مسروق عن معاذ. وله طرق أخرى عن معاذ.
(. سنن أبي داود: الزكاة، باب زكاة السائمة، ح 1576، 1577، 1578، والخراج: باب في أخذ الجزية، ح 3038، 3039، مختصر سنن أبي داود للمنذري: =

(18/6)


والجزية مأخوذة من الجزاء، وهي اسم للمال المأخوذ، من أهل الذمة، وهي على وزن الفعلة، كالقِعدة، والجِلسة وبابهما.
ثم قال قائلون -من غير فكرٍ-: المأخوذ في مقابلة إسكاننا إياهم، وهذا غير سديد؛ لأن المرأة تقيم في دار الإسلام، ولا جزية عليها.
ومنهم من قال: جزاء حقن الدم. وهذا ليس مرضيّاً أيضاً؛ فإنه يثبت مع الحقن عصمة الأموال، والذراري، ووجوب الذب، فليس الحقن كلَّ المقصود، بل هو من المقاصد.
وقيل: الجِزَى (1) جزاءُ كفنا عن قتالهم في دار الإسلام سنةً، فصاعداً.
والوجه أن تُجمعَ مقاصد الكفار، ويقال هي مقابلة بالجزية، وسيكون لنا عودٌ إلى أن الجزية هل تنزل منزلة أجرة الدار المكراة أم كيف السبيل فيها؟
11434 - ثم إن الشافعي صدر الكتاب بمن تؤخذ الجزية منه من أصناف الكفار، ومن لا تؤخذ منه الجزية، ولا يقَرّر في دار الإسلام (2).
فنقول: الكفار على ثلاثة أقسام: قسم- ليس لهم كتاب، ولا شبهة كتاب، فهؤلاء لا تؤخذ منهم الجزية، ولا يقرون في دار الإسلام بالجزية أصلاً، وهم عبدة الأوثان والنيران، وما استحسنوه من الصور الحسان، فلا تعقد لهم الذمة، بل نقاتلهم
__________
= 4/ 250 ح 2918، سنن أبي داود بتحقيق محمد عوامة: 3/ 488، 489 ح 3033، 3034، 3035، عون المعبود: 8/ 289، بذل المجهود: 13/ 380، 381، معالم السنن للخطابي: 3/ 22، سنن الترمذي: الزكاة، باب ما جاء في زكاة البقر، ح 623، النسائي: الزكاة، باب زكاة البقر، ح2450 - 2453، مسند أحمد: 5/ 230، 233، 247، ابن حبان: 11/ 244 - 247 ح 4886 (طبعة شعيب الأرناؤوط)، الدارقطني: 2/ 102، مستدرك الحاكم: 1/ 398، سنن البيهقي: 9/ 193، التمهيد لابن عبد البر: 2/ 275، المحلى لابن حزم: 6/ 11 - 16، نصب الراية: 3/ 445 - 446، خلاصة البدر المنير: 2/ 359 ح 2592، نيل الأوطار: 4/ 132، سبل السلام: 2/ 250، إرواء الغليل للألباني: 3/ 269 ح 787، التلخيص: 4/ 224، 225 ح 2300).
(1) الجزى: جمع جزية، مثل سدرة، وسدر.
(2) ر. المختصر: 5/ 196، 197.

(18/7)


حتى نستأصلَهم أو يسلموا، وحمل أصحابُ المعاني قوله تعالى: {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [النساء: 89]، على هؤلاء.
وقسم لهم حقيقةُ الكتاب، وهم اليهود والنصارى، وهؤلاء تحقن دماؤهم بالجزية، وتحل ذبائحهم، ومناكحتهم بنصوص القرآن، فأما الحقن، ففي قوله تعالى: {وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29]، وحل الذبيحة في قوله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ} [المائدة: 5]. والمراد الذبائح، وحل المناكحة في قوله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [المائدة: 5].
وقسمٌ ليس لهم كتاب، ولهم شبهة الكتاب، وهم المجوس، فتحقن دماؤهم بالجزية، ولا تحل ذبيحتهم، ولا مناكحتهم على ظاهر المذهب، فغلّبنا فيهم أمرين يقضي الشرع بتغليبهما: أحدهما - الحقن، وعليه أخذ الجزية. والثاني -[الحرمة] (1) في المناكحة والذبيحة، وقد روي " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أخذ الجزية من مجوس هجر " (2). وروجع عليٌّ فيهم، فقال: " أنا أعلم الناس بأمرهم. كان لهم كتاب يدرسونه، وعلم يتعلمونه، فواقع فيهم ملك ابنته، فاطلع عليه أهل مملكته، فهموا بقتله، فقال: هل تعلمون ديناً خيراً من دين أبيكم؟ (3) كان يزوج بناته من بنيه، فلما أصبحوا كانوا قد أُسري على كتابهم ومُحي ما كان في حفظهم " (4).
__________
(1) في الأصل: " الحقن ". والمثبت تصرف من المحقق.
(2) حديث أنه صلى الله عليه وسلم أخذ الجزية من مجوس هجر رواه البخاري من طريق بجالة بن عبدة قال: كنت كاتباً لجَزء بن معاوية فأتانا كتاب عمر بن الخطاب قبل موته بسنة " فرقوا بين كل ذي محرم من المجوس ". ولم يكن عمر أخذ الجزية من المجوس حتى شهد عبد الرحمن بن عوف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذها من مجوس هجر.
ر. " البخاري: الجزية والموادعة، باب الجزية والموادعة مع أهل الحرب، ح 3156، 3157).
(3) يقصد آدم عليه السلام.
(4) أثر علي " أنا أعلم الناس بأمرهم ... " رواه الشافعي (الأم: 4/ 173)، وعبد الرزاق في مصنفه (6/ 70 ح 10029)، والبيهقي في الكبرى (9/ 188)، والمعرفة (7/ 115).

(18/8)


وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " سنوا بهم سنة أهل الكتاب " (1).
هذه قاعدة المذهب في الكفار، وتفصيل الحكم في أقسامهم.
ثم لا أثر عندنا في قبول الجزية وردها للعرب والعجم، وإنما التعويل في قبول الجزية على من قَبِل الكتابين، التوراةَ والإنجيلَ، أو للتمسك بشبهة كتاب المجوس، ثم لا فرق بين أن يكون الكتابي أو المجوسي عربياً أو أعجمياً.
فهذا تأسيس المذهب فيمن يكون من أهل الجزية، وفيمن لا يكون أهلاً لها.
11435 - ولو جاءنا قوم من الكفار، وزعموا أنهم متمسكون بالكتب المنزلة على الأنبياء، وتعلّقوا فيما زعموا بتلك الكتب كالزبور المنزل على داود، والصحف المنزلة على إبراهيم، فهل نأخذ منهم الجزية؟ ذكر العراقيون وجهين: أحدهما - أنا لا نأخذ الجزية إلا من الأصناف الثلاثة: اليهود والنصارى والمجوس؛ لأنا لا نثق بأقوال الآخرين، ولا ندري صدقَهم من كذبهم، ولم نر الأولين ينوطون أحكام أهل الكتاب إلا بأهل التوراة والإنجيل. هذا أحد الوجهين. والوجه الثاني- أن الجزية تؤخذ منهم؛ فإنهم بزعمهم أهل الكتاب وقد أُمرنا باعتماد أقوال الكفار إذا اعتَزَوْا إلى كتب الله تعالى.
ولو انتهينا إلى بلدة، ورأينا فيها جمعاً من الكفار، وزعموا أنهم يهود والتزموا الجزية، لزمنا قبولَها منهم، ولا نطالبهم بإقامة البينة على دينهم، فإنا لو كلفناهم ذلك وشهادتهم مردودة، والعلم بما ذكروه لا يأتي إلا من جهتهم، لجرّ ذلك عسراً في قبول الجزية، وإن كان هذا متفقاً عليه في الذين ينتحلون التهوّد والتنصر، [فكذلك] (2) إذا انتمى قومٌ إلى كتاب منزل على بعض الأنبياء، وجب إلحاقهم بأهل الكتاب في قبول الجزية منهم؛ تعويلاً على قولهم.
__________
(1) حديث " سنوا بهم سنة أهل الكتاب " رواه مالك (الموطأ: 1/ 278 ح 42)، والشافعي (الأم: 4/ 174)، وابن أبي شيبة (12697)، وعبد الرزاق (10025)، والبيهقي في الكبرى (9/ 189)، والمعرفة (7/ 114)، والحديث ضعفه الألباني في الإرواء (5/ 88 ح 1248).
(2) في الأصل: " وكذلك ".

(18/9)


والذي يوضح ذلك أن الجزية مقبولة من المجوس، وإن تحققنا أنه ليس بين أظهرهم كتاب، وإنما تعلقهم بشبهة الكتاب، كما قدمنا ذكره، ثم الجزية مقبولة منهم. فليكن الأمر كذلك فيما ذهبنا إليه.
ثم إذا ألحقناهم بأهل الكتاب، في أخذ الجزية منهم، فلا يحل مناكحتهم وذبائحهم؛ من جهة التردد الظاهر في تكذيبهم، ولو كان بقي من ينتمي إلى كتاب سوى التوراة والإنجيل، لرئي منهم حزب يعتزون إلى ملة، ويشتهرون بها، فمن هذا الوجه لا نبُيح المناكحة والذبيحة، ومن حيث إنه لا ينقطع الاحتمال يُحقن الدم بالجزية.
وهذا يناظر ما قدمنا ذكره في كتاب النكاح، حيث قلنا: المتهوّد الذي ينتهي جده العالي إلى التهوّد قبل المبعث، فالجزية مأخوذة منه، ومن ينتهي جده العالي إلى اليهود بعد مبعث المصطفى صلى الله عليه وسلم لا تؤخذ الجزيةُ منه، وقد انتوت (1) قبائل من العرب، فتهوّدت، وتنصّرت، وأشكل الأمر على نقلة التواريخ، فلم يحققوا أنهم تهوّدوا، أو تنصروا قبل المبعث أو بعده. وقد قال الشافعي نصاً: " الجزية مأخوذة منهم " (2)، ولا تحل المناكحة والذبيحة.
11436 - ومما يتعلق بهذه القاعدة أنا ذكرنا تردّداً في النصوص، واختلافَ أقوالٍ في أن من لا يكون من بني إسرائيل، ففي مناكحته كلام، فأما الجزية، فإنها مأخوذة. وإن كان [تمسكه] (3) بالدين بعد التغيير إذا كان الانتهاء إلى الدين قبل المبعث، فالجزية مأخوذة قولاً واحداً؛ تغليباً للحقن.
__________
(1) انتوت: أي تحوّلت: يقال: انتوى عن الأمر تحوّل عنه. (المعجم).
(2) ر. المختصر: 5/ 196.
ونص عبارة الشافعي رضي الله عنه: " انتوت قبائل من العرب قبل أن يبعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم وينزل عليه القرآن، فدانت دين أهل الكتاب، فأخذ عليه الصلاة والسلام الجزية من أكيدر دومة، وهو رجل يقال: إنه من غسان أو من كندة، ومن أهل ذمة اليمن وعامتهم عرب، فدلّ ما وصفت أن الجزية ليست على الأحساب، وإنما هي على الأديان ".
(3) مكان كلمة غير مقروءة بالأصل. (انظر صورتها).

(18/10)


وفي بعض التصانيف أن من تهوّد أو تنصّر بعد تبديل الدينين وتغيّر الكتابين، وقبل مبعث رسولنا صلى الله عليه وسلم، نظر: فإن تمسك بدين غير مبدّل، وحدث التبديلُ منه، ثم أدركه الإسلام، فلا تقبل الجزية منه، وإن كان ذلك قبل المبعث، وهل تقبل من أولاده؟ فعلى وجهين مبنيين على أن الجزية هل تؤخذ من أولاد المرتدّين؟
وهذا كلام مختلط لا تعويل على مثله، والمذهب القطع بأخذ الجزية ممن تمسك بالدين المبدّل قبل المبعث إذا أدركه الإسلام؛ نظراً إلى تغليب الحقن، فإذا تعلق بالكتاب، فليس كله مبدّلاً، وغير المبدّل منه ينتصب شبهةً في جواز حقن دمه بالجزية؛ إذ ذلك لا ينحط عن الشبهة التي يتمسك بها المجوس؛ فلا ينبغي أن يعتد بهذا، بل الوجه القطع بقبول الجزية، كما قدّمنا ذكره.
11437 - ومما يجب صرفُ الاعتناء إليه السامرة والصابئون، وقد اختلفت النصوص فيهم، فقال في موضع: تؤخذ منهم الجزية، وقال في موضع: لا تؤخذ، فاختلف طرق الأئمة، فذهب ذاهبون إلى أن النصين محمولان على تقديرين، فحيث ألحقهم باليهود والنصارى في قبول الجزية منهم أراد إذا كانوا لا يخالفونهم في أصول الدين الذي يجرى فيه التكفير بينهم، وإنما يخالفونهم في الفروع، أو ما يقع بمثله التضليل، وحيث قال: لا تؤخذ منهم الجزية، حُمل الأمر على أنهم يخالفونهم في أصل الدين، وسبب تردد النصين تردد الشافعي في عقدهم.
وقد ذكرنا في كتاب النكاح هذا التردد في المناكحة، واستحلال الذبيحة، والوجه أن نقول: إن جوزنا مناكحتهم، فلا شك أن ذلك محمول على ظاهر تعلقهم بالتهوّد والتنصّر، ورجوع مخالفتهم إلى ما لا يخرجهم من أصل الملّتين. ثم على هذا لا شك أن الجزية مأخوذة منهم، والتردد في أخذ الجزية يجري على ترتيبٍ سأصفه في آخر هذا الفصل، إن شاء الله.
والذي يعرض في الفكر من أمرهم، أنهم وإن خالفوا في الأصول، فلا يخرج السامرة والصابئون من التمسك بالتوراة والإنجيل، ثم لا ينحط تمسكهم بها عن تمسك المجوس بشبهة كتاب قدِّر لهم.

(18/11)


والطريقة المرضية في ذلك، الناصّة على المقصود، ما ذكره صاحب التقريب.
قال: حكي عنهم القول بأن مدبر العالم الأنجمُ السبعة، ومدبّرها الفلك الأعلى، وهو الحيّ الناطق. وقال بعضهم: بِقِدَم النور والظلمة. ومن ينتحل هذا المذهب، فلا معنى [ولا صورة] (1) للكتب عنده، ولا أمل لتمسكهم بالكتاب، وإذا كان التردد في معتقدهم على هذا النحو، فهم بين أن يكونوا متمسكين بالكتابين، وبين ألا يكونوا متمسكين بهما، فيقع التنزيل على هذا الترتيب، لا على النظر في مخالفة الأصول والفروع.
ثم صاحب التقريب لم يذكر خلافاً، وإنما ترك النصين على الجهة التي ذكرها.
وهذا حسنٌ بالغ، وبه يزول الإشكال ويحصل التصريح بالغرض المطلوب في الفصل.
وأما العراقيون، فقد حكوا اختلافاً، فذكروا عن أبي إسحاق، وعامة الأصحاب أن ما سبق من الشافعي ترددٌ في اعتقادهم، ثم تبين له أنهم متمسكون بالكتاب، فقطع بأخذ الجزية منهم آخراً. وحكَوْا عن أيي سعيد الإصطخري أنه كان يفتي بأنه لا تؤخذ منهم الجزية، ولا تمسك لهم بالكتاب، وهم معطلة قائلون بانحصار تدبير العالم على الأنجم.
فهذا وجوه كلام الأصحاب.
وتمام البيان في ذلك أنا إن وقفنا على تعطيلهم، فلا شك أنا لا نأخذ الجزية منهم، وإن بقي الأمر مشكلاً فيهم، فالمناكحة محرّمة، وفي أخذ الجزية منهم احتمال؛ من جهة أن أصحاب المقالات نقلوا عنهم ما أوجب تعطيل التمسك بالكتاب. والمجوس على حالٍ متمسكة بنبوة نبي يسمّونه [زرادشت] (2)، ويزعمون أنه إبراهيم صلى الله عليه وسلم، ويجوز أن يقال: تؤخذ الجزية مع التردد في السامرة
__________
(1) مكان كلمة مطموسة تماماً بالأصل.
(2) في الأصل: بنزادشت. والمثبت من مختصر العز بن عبد السلام (ر. الغاية في اختصار النهاية: 5/ورقة: 120 شمال).

(18/12)


والصابئين لأنهم على الجملة يدّعون التمسك بالكتاب، وينتمون إلى الملّتين، وإن كان الأمر على التردد، فلا مناكحة تغليباً للحظر.
هذا منتهى القول في السامرة والصابئين.
11438 - ومما نذكره متصلاً بما نجزناه: أنه إذا تهوّد وثني قبل المبعث، وله ابن صغير، ثم بعث محمد صلى الله عليه وصلم، فقد ذكرنا حكم من تهوّد قبل المبعث، وتمسك بالتهوّد، فيقرّ بالجزية؛ فإنه ثبت له حكم التهوّد في ابنه قبل المبعث، وعلى هذا الوجه ينتسب الأولاد إلى الأجداد، حتى ينتهوا إلى الجد الذي تهوّد قبل المبعث.
ولو توثن نصراني في زماننا، وله أولاد صغار، نظر: فإن كانت أمهم نصرانية، فقد قال العراقيون: الأولاد الصغار يعدّون في دار الإسلام، تبعاً لأمهم، وإن كانت هي وثنية، ففي الأولاد الصغار قولان ذكرهما العراقيون: أحدهما - يُقَرّون؛ فإنهم لم يغيّروا، والدينُ الطارئ لا يستتبع الأولاد بعد ما ثبت لهم من قبلُ حكمُ التنصر، وإن أدنى الدينين لا يزيل عن الأولاد الصغار حكمَ أشرف الدينين، وإنما ينقل الأعلى من الأدنى.
والقول الثانى- أنهم يتبعون الوالد، فيضمون إليه، وحقيقة ما ذكروه راجع إلى أن الأب إذا توثن عنْ تهوّدٍ أو تنصّر، فهل يستتبع أولاده؟
ولو كان الأولاد من وثني ووثنية، فتهوّد الأب، فلا تثبت له حرمة التهود؛ فإن هذا التهوّد بعد المبعث، وإذا لم نثبت له حرمة أهل الكتاب، فلا شك أنا لا نثبتها لأولاده الصغار، وما ذكرناه في توثن اليهودي، وهو نقضٌ للحرمة، ويتصوّر من اليهودي نقض حرمته، وفي استتباع أولاده التردد الذي حكاه العراقيون.
والأَوْجَهُ الجاري على قياس المراوزة أن حرمة الأولاد في الانتماء إلى الكتاب لا تتبعض، وتوثن الأب لا يتضمن الاستتباع، وما ذكره العراقيون من الفرق بين أن تكون الأم كتابية أو وثنية سديد؛ فإن الأم إذا كانت يهودية يبقى انتماء الأولاد إليها، والتبعية في الدين أن يثبت، فلا اختصاص لها بالولد.

(18/13)


هذا تمام الغرض.
11439 - ثم قال العراقيون: من توثن من اليهود لا نغتاله، ونُلحقه بدار الحرب.
وهذا فيه نظر؛ فإنه بتوثنه قطع الأصل الذي هو معتمد الأمان والذمة، وقد ذكر المراوزة في اغتياله خلافاً، وهو الظاهر عندنا، لأنه لا يغتال كما ذكره العراقيون.
فأما أولاده الذين كانوا في زمن التهوّد، فالظاهر أن حرمة الكتاب تستدام لهم وإن حكمنا بانتقاضها، فالوجه القطع [بأنهم لا يغتالون] (1) في [صغرهم] (2) وتمام الشرح في هذا موقوف على ذكرنا موت الأبوين الكتابيين وتخليفهم فينا صغار أولادٍ، فكيف الحكم فيهم؟ وكيف نُبقِّيهم، وقد زالت التبعية، وليسوا من أهل التزام الجزية، وسيأتي هذا مستقصى في أثناء الكتاب، إن شاء الله.
وقد تمهدت القواعد فيمن تؤخذ الجزية منه من أهل الأديان، وفيمن لا تؤخذ، وإثبات التعرض للأديان، وما يمنع أخذ الجزية منها وما لا يمنع.
فأما القول في النساء والصبيان وأنهم لا يفردون، فذلك يأتي في الباب الثاني، إن شاء الله عز وجل.
فرع:
11445 - إذا أخذ الجزية من قومٍ زعموا أنهم يهود أو نصارى، ثم أسلم منهم اثنان، وظهرت عدالتهما في الدين، وشهدا عندنا بأن قومهما ليسوا يهوداً، ولا نصارى، وإنما هم عبدة الأوثان؛ فإنا نتبين أن الذمة غيرُ منعقدة، ونعاملهم معاملة عبدة الأوثان، ثم إذا أثبتنا أن لا ذمة لهم، فهل نغتالهم بسبب تلبيسهم علينا أو نلحقهم بدار الحرب؟
هذا فيه تردد. والظاهر أنا نغتالهم؛ لأن الأمان الفاسد إنما يثبت عُلقة الأمان إذا كان المؤمِّن على جهل لا [يقدّر] (3) أن يتمهد لأجله عُذره، فإذا كان الظن منا والكافر يدلّس علينا، فلا يتجه إلا الاغتيال.
__________
(1) عبارة الأصل: فالوجه القطع بأنهم لا نحكم لا يغتالون.
(2) غير مقروءة بالأصل، وأثبتناها من لفظ الغزالي في البسيط.
(3) في الأصل: " يتعذر ".

(18/14)


11441 - ومما نلحقه بالكتاب الكلام في أولاد المرتدّين. فإن حكمنا لهم بالردّة، فلا تقبل الجزيةُ منهم، وإن حكمنا لهم بالإسلام، طالبناهم به؛ فإن أبَوْا، فهم مرتدون. وإن حكمنا بأنهم كفار أصليون، وآباؤهم المرتدّون متهوّدون ومتنصّرون، فالمذهب أنا لا نأخذ الجزية منهم؛ فإنه لم يثبت لهم جَدٌّ دان بالدين قبل المبعث، ومن أصحابنا من قال: إذا أثبتنا لهم حكم الكفر الأصلي، فنأخذ الجزية منهم، ونجعلهم كالمنتمين إلى جدٍّ دان بدين اليهود قبل المبعث.
وهذا لا أصل له، فإن لم نأخذ الجزية منهم، فلا كلام، وإن أخذناها، ففي استحلال المناكحة، وحِل الذبيحة ترددٌ، والوجه القطع بالتحريم، وأفتى بعضُ الأصحاب بإحلال وطء سبايا [غَوْر] (1) [تهامة] (2)، وقد ثبت منهم (3) أنهم ارتدّوا بعد قبول الإسلام، وهذا قولٌ صدر عن عَماية، وقلة دراية، وفيه خرم أصلٍ عظيمٍ اتفق الأصحاب عليه وهو أن الذين تهودوا بعد المبعث لا يُناكَحُ أولادهم. وأولاد المرتدّين شرٌّ منهم، ولم نذكر هذا لتخيل التحاقه بالمذهب، وإنما ذكرته للتنبيه على الغلط فيه، وظهور مناقضة الأصل المتفق عليه، فيجب القطع بالتحريم، بل يجب القطع بأن الجزية لا تؤخذ منهم؛ إذ ليس لهم جدٌّ قد دان بالدين قبل المبعث. ولو كان لهم جدٌّ دان بالدين قبل المبعث، ثم أسلموا وارتدّوا من بعد وحدث لهم أولاد، فالإسلام قطع الاعتصام بالجد العالي. وإنما يؤثر ذلك الجد، لو تواصل التهود، فإذا بطل أخذ الجزية من أولاد المرتدّين قطعاً، فما الظن بالمناكحة والذبيحة؟
ويبقى التردد في أن أولاد المرتدّين هل يسترقون؟ وهذا يجوز خروجه على أنهم كفار أصليون؛ فإن عبدة الأوثان لا يمتنع إرقاقهم على ظاهر المذهب. ومن أصحابنا من منع إرقاق عبدة الأوثان؛ فإن هذا يتضمن أماناً مؤبداً على التوثن.
__________
(1) في الأصل: " يا غور "، والمثبت من البسيط والشرح الكبير، والغاية في اختصار النهاية للعز بن عبد السلام، وفي الشرح الكبير زيادة فائدة أنها (غور تهامة).
(2) مزيدة من الشرح الكبير والغاية.
(3) منهم: من هنا مرادفة لـ (عن)، ومثله قوله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر: 22].

(18/15)


11442 - فرع: المتولد من بين وثني وكتابية، وكتابي ووثنية في مناكحته واستحلال ذبيحته قولان مشهوران: أحدهما - تغليب التحريم. والثاني - النظر إلى الأب، فعلى هذا المتولّد بين وثني وكتابية لا تحل ذبيحته قولاً واحداً. وإنما القولان فيه إذا كان الأب كتابياً والأم وثنية، فأما أخذ الجزية، فقد قال صاحب التقريب، والعراقيون طريقة مقتضاها أن التفصيل في قبول الجزية منه كالتفصيل في المناكحة وحل الذبيحة.
وهذا غير سديد عندنا. والوجه القطع بقبول الجزية منه؛ لأن شبهة الكتاب تَلحقه، وقد ذكرنا أنا نكتفي بشبهة الكتاب في قبول الجزية، وعليه أثبتنا قبول الجزية من المجوسي.
***

(18/16)


باب الجزية على أهل الكتاب
11443 - الأصل في الباب قوله تعالى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29]. والمراد بالإعطاء الالتزام لا صورةُ البذل يقال لمن أذعن لقبول الجزية: قد أعطى الجزية، أي استسلم لها.
واختلف العلماء في قوله تعالى: {وَهُمْ صَاغِرُونَ}: قال الشافعي: الصغار جريان أحكام الإسلام عليهم على خلاف عقيدتهم. وقيل: المراد بالصغار الأخذ باللحى والضرب في اللهازم، فيكلف الذمي أن يوفي الجزية بنفسه، ويطأطىء رأسه، ويصب ما معه في الكِفة، ويأخذ المستوفي بلحيته، ويضرب في لهزمته.
واختلف أصحابنا في أنه هل يجوز للمسلم بأن يوكَّل عن الذمي في إيفاء الجزية، فمنهم من لم يجوّز ذلك وسببه أن إجراء الصغار عليه في وقت تأدية الجزية من المقاصد، وكيف لا ونص الشافعي دالٌّ عليه، وهو قوله تعالى: {وَهُمْ صَاغِرُونَ} ولو جوزنا استنابة المسلم، فيكون المسلم في صورة المستخدَم، والكافر يتودَّع في رحله، وهذا نقيض ما أمر الله تعالى، ومن أجاز التوكُّل، نظر نظراً كلياً في استيفاء الحقوق وإيفائها، وينشأ من هذا التردّد الإحاطة بأن إجراء الصغار على الذمي حالة التأدية حتم أم لا؟ فإن منعنا توكل المسلم، فهو قضاء منا بإيجاب إقامةِ الصغار.
وذكر الأئمة تردّداً في أن المسلم لو ضمن الجزية، فهل يصح ذلك؟ فإن أوجبنا الصغار، لم يصح الضمان، وإن لم نوجبه، صححناه. والأوضح عندي تصحيح الضمان؛ فان ذلك لا يقطع إمكان توجيه الطلب على المضمون عنه، ونفي الضمان حتى لا يقال: إنه يُلزم الضامن شيئاً بعيدٌ.
ولو وكل ذمي ذمياً، فيتجه عندنا إجراء الخلاف؛ فإن كلَّ ملتزم بالذّمة معنيٌ بالصغار في نفسه.

(18/17)


ولو وكل كافر مسلماً في عقد الجزية له، فهذا جائز؛ إذ ليس في نفس العقد صغار، وإنما الصغار في التأدية.
11444 - ثم مقصود الفصل: الكلامُ في أقل الجزية، وفي التزام الكافر مزيداً على الدينار، فأما الأول، فدينار في السنة، أو اثنا عشر درهماً مسكوكة من النقرة الخالصة. ويقابَل الدينار بعشرة في القواعد إلا في الجزية، فإنه باثني عشر درهماً، ورأيت في كلام الأصحاب ما يدلّ على أن الأصل في الجزية الدينار، ولا يقبل الدرهم إلا بالسعر والقيمة، كما أنا نجعل نصاب السرقة ربع دينار، ولا اعتبار بالدراهم، وهي بمثابة السلع تقوم بالذهب وهذا متجه، ولولا قضاء عمر في الترديد بين الدينار والاثني عشر درهماً، لما كان لاعتبار الدراهم وجه. والأخبار كلها مشتملة على ذكر الدنانير. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاذ: " خذ من كل حالم ديناراً أو عِدْله معافر " وهي ضرب من الثياب، " وضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم على أهل أيلةَ ثلثمائة دينار، وهم ثلثمائة نفر " (1).
فأقل الجزية دينار ويستوي الغني والمتوسط والفقير المعتملُ الكسوب، والأولى للإمام أن يماكس من يضرب الجزية عليه حتى يزيد على الدينار، ولكن هذا إنما ينفع إذا لم يكن باذل الجزية عالماً بأن أخذ الجزية واجبٌ إذا بذلوها، مع العلم بأن الدينار لو اقتصروا عليه، لزم قبوله، فإذا علم الكافر ذلك، فلا معنى للمماكسة معه؛ فإنه استماحةٌ، ولو بذل الكافر أكثر من دينار، والتزم في السنة دينارين فصاعداً، لزمه الوفاء بما التزمه، وهذا يشبهه الأئمة بشراء الرجل المطلَق (2) المتاع بأكثر من ثمن المثل، وإذا جرى ذلك، لزم الثمن بكماله.
ثم قال الأئمة: من آثار المماكسة في الابتداء أن يلتزم الجزية إذا لم يكن عالماً بحكم الإسلام في أقل الجزية، وليس على الذي يعاقده أن يبين له ذلك، وإن جاء
__________
(1) حديث ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم على أهل أيلة ثلثمائة دينار وكانوا ثلثمائة نفر، أخرجه الشافعي عن أبي الحويرث مرسلاً (ترتيب المسند: 2/ 427)، ومن طريقه البيهقي في الكبرى (9/ 195).
(2) المطلق: غير المحجور.

(18/18)


المسلم بأكثرَ مما يُستحق عليه في الزكاة، فحق على القابض منه أن يُعلمه أن الذي أتى به أكثرُ مما عليه، وإذا التزم أكثرَ من الدينار في السنة، وقضينا بأن الوفاء بالملتزَم واجب، فلو نقض العهد، فقد ذكرنا أنّا لا نغتاله، فلو أنه بعد نبذ العهد طلب منا تجديد العقد بدينارٍ، لزم إسعافه، فعلى هذا يَضْعُفُ أثر الالتزام أيضاً، ولكن إن لم يكن الكافر عالماً بما ذكرناه حتى تمر السنة، فلو نبذ العهد، طالبناه بالخروج عما التزمه في السنة الماضية، وإن مضى بعض السنة، فهذا يخرج على موته في أثناء السنة.
فإن قلنا: إذا مات الذمي في أثناء السنة يجب قسط من الجزية، على ما سيأتي مشروحاً، إن شاء الله تعالى. فإذا التزم أكثرَ من الدينار، ومضت أيام، ثم نقض وعاد، فيلزمه لما مضى قسط من الجزية التامة التي التزمها.
وأوجب أبو حنيفة (1) على الفقير المعتمل ديناراً، وعلى الغني أربعة دنانير، وعلى المتوسط دينارين.
11445 - فإن قيل: إذا كنتم لا تفرقون بين الغني والفقير والمتوسط فيما يقع الاكتفاء به من الجزية، فما قولكم في الكافر الفقير إذا كان لا يستمكن من أداء دينار؟ قلنا: الفقير الكسوب المعتمل القادر على أداء دينار، يُقرّ ويطالب بالدينار في السنة.
فأما إذا كان لا يستمكن من تحصيل الدينار، فقد نقل الأصحاب قولين في أنه هل يخرج من دار الإسلام؟ أحدهما - أنه يخرج، فإنه لا سبيل إلى شغل عرصات دار الإسلام بالكفار من غير جزية يبذلونها. والقول الثاني - أنه يقر.
ثم على هذين القولين قولان: أحدهما - أنه يترك في الدار من غير جزية، حتى لو انقضت سنون، وهو لم يملك فيها ما يؤديه، ثم ملك، فالمؤاخذة تقع من وقت الملك، ولا مطالبة عليه في مقابلة ما مضى. والقول الثاني - أنه يقرّ في دار الإسلام بجزية يلتزمها، وتستقر في ذمته، فإذا ملك يوماً طولب بما استقر في ذمته من السنين
__________
(1) ر. مختصر الطحاوي: 294، المبسوط: 10/ 78، فتح القدير: 6/ 45، حاشية ابن عابدين: 4/ 196.

(18/19)


الماضية. وهذا القول أمثلُ؛ فإن تقرير الفقير سنين كثيرة بلا جزية يخالف وضع الشرع.
والأصح أن الفقير الذي ليس معتملاً لا يتمكن من دخول دار الإسلام، والمقام فيها سنة. والفقير المعتمل إذا تراخى ولم يكتسب مع القدرة على الكسب، فلا يُقَر في دار الإسلام إجماعاً، وإذا فرعنا على القول الضعيف، وهو أن الفقير يُقرّ ولا يؤاخذ بجزية الأيام الماضية في الفقر، فلو ملك في أثناء سنةٍ شيئاً؛ تطرق إلى هذه الصورة احتمال، فيجوز أن يقال: تبدأ سنة الجزية من وقت ملكه، حتى إذا مضت سنة أدى ديناراً، ويجوز أن يقال: نضبط التواريخ، ونعطل منها سني الفقر، فإذا مضت من السنة الآخرة أشهر، فملك فيها واستغنى، فإذا انقضت هذه السنة، يطالب، ثم يتجه على المطالبة أن يطالب في آخر هذه السنة التي انقسمت إلى الغنى والفقر بالدينار الكامل.
فصل (1)
قال: " فإن صولحوا على ضيافة ... إلى آخره " (2).
11446 - إذا قبل الكفار ضيافةً سوى الدينار الملتزم، ضربها الإمام عليهم، وقد روي ذلك عن عمر بن الخطاب: " أنه ضرب الضيافة على بني تغلب، وبَهْراء وتَنوخ، ثم ألزمهم أن يضيفوا من يطرقهم من أبناء السبيل " (3).
وأول ما نصدّر الفصلَ به صفةُ الضيافة، ثم نتكلم في فقه الفصل، فالمعتمد في ضرب الضيافة قضاء عمر، ثم فيها مصلحة بيّنة، لا حاجة إلى تقريرها، فينبغي أن يبين لكل واحد عدداً معلوماً من الضيفان في كل شهر أو شهرين، أو في السنة، ويبين الطعام والأُدم، جنساً، وقدراً، ويوضح علف الدواب، ويذكر منازل الضيفان، ويفرق بين الفقراء من الكفار والأغنياء، وينبغي أن يقع التفاوت في عدد الضيفان،
__________
(1) من هنا بدأت نسخة مساعدة هي (هـ 4).
(2) ر. المختصر: 5/ 197.
(3) خبر ضرب عمر الضيافة على نصارى العرب رواه الشافعي في الأم (4/ 282).

(18/20)


فيوظف على الغني عشرة مثلاً، وعلى المتوسط خمسة، وعلى الفقير ثلاثة، أو على وجه آخر يؤدي إليه اجتهاده. ولا ينبغي أن يكون التفاوت في صفات الطعام والإدام، ولو فعل ذلك، لمال الضيفان إلى أطايب الأطعمة، والمنازل الطيبة.
وُيبيِّن أن الضيفان يقيمون ليلة، أو يوماً وليلة، أو أكثر على ما يقع التوافق عليه.
ولعل الأشبه ألاّ تزيد المدة على الثلاث تأسياً بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الضيافة ثلاثة أيام، وما زاد صدقة " (1) وقال صلى الله عليه وسلم: " الضيافة ثلاثة أيام، والإجازة يوم وليلة " (2) [والإجازة] (3) إعطاء الجائزة، من قولهم: أجازه يجيزه، ومعناه أن يزوّد الضيف ليومٍ وليلة إذا رحل، ويضيفه في الإقامة ثلاثَ ليالٍ.
ولو حصل التوافق على مزيدٍ في الليالي، فلا معترض. ثم الضيافة التي ضربها عمرُ كانت للطارقين من غير اختصاصٍ بأهل الفيء، فإن هذا لو كان على الاختصاص، لأفضى إلى نزاع، فكان الأليق بالمصلحة المطلوبة تعميم الضيافة، وفي طروق أهل الذمة على المضيفين تردّد إن كان ضربُ الضيافة مطلقاً.
هذه صفة الضيافة.
11447 - ثم يتصل بمنتهاها تردّدات للأصحاب في فقه الفصل: فمما اختلف الأصحاب فيه أن الضيافة هل يجوز احتسابها من الجزية، أم حقها أن تكون زائدة على الدينار المأخوذ من كل رأس؟ فمن أصحابنا من قال: يجوز احتسابها من الجزية حتى لا يوظف غيرها؛ فإن المقتدَى في هذا رأي عمر، والذي صح منه أنه لم يطالبهم بالجزية، فهو أحق متبوع؛ سيما فيما يتعلق بالإيالات، ومن أصحابنا من قال: لا يجوز احتساب الضيافة من أصل الجزية؛ لأن التمليك لا بدّ منه في الجزية، وسبيل
__________
(1) حديث " الضيافة ثلاثة أيام، وما زاد صدقة " متفق عليه من حديث أبي شريح العدوي (خويلد بن عمرو) رضي الله عنه (البخاري: الأدب، باب من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره، ح 6019. مسلم: اللقطة، باب الضيافة ونحوها، ح 1726).
(2) قوله صلى الله عليه وسلم: " الضيافة ثلاثة والإجازة يوم وليلة " من ألفاظ الحديث السابق.
(3) في الأصل: " والإعطاء ".

(18/21)


الإطعام سبيل الإباحة، ولهذا لم تقم التغذية والتعشية مقام الإطعام في الكفارة، والجزية تختص بأهل الفيء، والضيافة لا تختص بهم.
التفريع:
11448 - إن قلنا: يجوز احتسابها من الجزية، فينبغي أن نقابل ضربها بالدينار، فإن بلغته وزادت، فذاك، وإن نقصت، طالبنا المضروب عليه باستكمال الدينار، وإن قلنا: لا تحتسب، فالدينار مطلوب، والضيافة مطلوبة، ولا بد من طلب رضاهم في قبولها، ثم إذا تقبلوها في الذمّة، لزمت لزوم الزائد على الدينار.
ولو ضرب عليهم ضيافة ثم أراد نقل المؤن إلى الدينار، وأَخْذِه منهم، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أن ذلك جائز؛ فإنه لا [إجحاف] (1) عليهم في ذلك، وأصل الأموال الملتزمة في الذمة الدنانير. والثاني - لا يجوز إلا أن يرضوا، لأنهم التزموا الضيافة بالرضا، فلا بد من طلب رضاهم.
والصحيح عندي أن الضيافة إن رأيناها محسوبة من الدينار الذي هو الأصل، فللإمام ردّها إلى الدينار، وإن كانت الضيافة زائدة على الدينار، فالوجه القطع بأنه لا يملك ردّها إلى الدنانير، [ثم إن قلنا: له الرجوع إلى الدنانير] (2) فهل تبقى الدنانير لعموم المصالح كالضيافة، أم تختص بأهل الفيء؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنها تعود إلى أهل الفيء؛ إذ كان القياس في الضيافة أن تكون كذلك، إلا أنها أثبتت على العموم لمسيس الحاجة إلى تعميمها، وتعذّر رعاية تخصيص الطارقين، فإذا ردّت إلى الدنانير، زال السبب الذي كان يقتضي التعميم.
فصل
قال: " ولا تؤخذ من امرأة، ولا مجنون حتى يُفيق ... إلى آخره " (3).
11449 - النساء لسن من أهل التزام الجزية وقد كتب عمر إلى أمراء الأجناد: " لا تأخذوا الجزية من النساء " ولأنهن لسن من أهل القتال، والجزية جزاءُ الانكفاف عن
__________
(1) في الأصل: " إحجار ".
(2) زيادة من (هـ 4).
(3) ر. المختصر: 5/ 197.

(18/22)


القتال، ولو بذلت امرأة مالاً باسم الجزية، كان حقاً على الإمام أن يخبرها بأنها غيرُ واجبةٍ عليها، وليس [التزامها] (1) لأصل الجزية بمنزلة التزام الرجل ما يزيد على الدينار؛ فإنه إذا كان من أهل الجزية، وهو في حكم العوض، فزيادته على الأقل بمثابة الزيادة في ثمن ما يقابَل بالثمن. هذا هو الأصل في الباب.
والصبيان لا يقابلون بالجزية، وكذلك المجانين، وكل من يرِق بنفس السبي بمثابة النسوان. والمجنون يرق كما يرق الصبي.
11450 - ثم استيفاء مقصود الفصل يستدعي تقديم قاعدة بدّدها الأصحاب، فلفّقناها من كتبٍ، ولابدّ من ضبطها والإحاطة بها، ثم بعد هذا نخوض في المقاصد، فنقول: النسوان الحربيات لو دخلن ديار الإسلام، بلا أمان، سبيناهن على مكانتهن، وكذلك القول في الصبيان، وكل حكم نُجريه في القتال، فهو مُجْرى فيمن نظفر به من غير ذمة ولا أمان، كالقتل في المقاتلة من الحربيين، ولو وجدنا كافراً بلا أمان، اغتلناه، وقتلناه. وقد قال شيخي وغيره من المحققين: لو دخل الفقراء من الكفار دار الإسلام، لم نمكنهم قولاً واحداً، واغتلناهم، فلو عقدنا الذمة لمن يقدر على أداء الجزية منهم، فافتقر، فما ذكرناه من تردّد النصوص، واختلاف الطرق في هذا الفقير فإنا لو جوّزنا إقرار فقراء الكفار في ديار الإسلام ابتداءً، لزحفوا إلينا يطلبون الذمة، وهذا محال تجويزه.
فنعود إلى النسوان والصبيان، فنقول: إذا عقدنا للكافر ذمةً، فليس له أن يستتبع من الأجانب الذين لا يتصلون به ذراري ونسواناً، فإن ذلك يخرج عن الضبط، وإنما يستتبع الذمي من يتعلّق به بسبب أو نسب، كما سنفصله، إن شاء الله تعالى.
والترتيب الضابط فيه أنه لا يستتبع أجنبية منه لا نسب بينها وبينه، ولا سبب، ولو شرط إدخالَها في الأمان المؤبد، لم تدخل؛ فإنه لو دخلت واحدة، لدخل جمع منهن، ثمّ لا ضبط، وهذا يُفضي إلى استتباع الرجل نسوة لا يُحصَيْن كثرة من الحربيات اللواتي بينه وبينهن قرابة، إذا لم يكنّ على عمود نسبه، يندرجن إذا شرط
__________
(1) في الأصل: " إلزامها ".

(18/23)


إدراجهن، ولا يندرجن في غير شرط، ثم إذا كن يدخلن بالشرط، فالذي أراه أنه لا يجوز ترك إسعافه بالشرط، ولكن لو لم يتفق منه الشرط، لم يدخلن، ولا يختص الحكم في هذا القسم بالمحارم من القرابات، بل يجري في جميعهن.
أما صبيان الذمي، فهل يدخلون من غير شرط؟ فيه وجهان: أحدهما - لا يدخلون كغيرهم من القرابات. والثاني - يدخلون، لقرينة الحال؛ فإن الرجل لا يتوطّن بلده إلا مع صغار أولاده في غالب الأمر، فصارت الحال كالتصريح بالشرط.
وأما الزوجات فيهن (1) طريقان: أحدهما - أنهن كالصبيان. والثاني - أنهن كالقرابات اللواتي يقعن على جانب (2)، والأصهارُ والأحماء لا يندرجن مطلقاً، وفي اندراجهن مع الشرط خلاف. هذا قولنا في النساء اللواتي يتصلن بالذمي، والصبيانُ في معنى النساء.
ولا يخفى على المحصل أن الرجال المستقلّين من بنيه وآبائه وأجداده لهم أحكام أنفسهم، ولا يتصوّر أن يُتبَعوا؛ فإنهم من أهل الاستقلال، فإذا كنا لا نقر فقيراً من غير جزية، فلا نُتبعه أيضاً غنيّاً وإن كان قريبَه. وهذا متفق عليه.
11451 - ومما ذكره الأصحاب عن النسوان أنا لو انتهينا إلى قلعة، ولم نصادف فيها إلا النسوان، فإن فتحناها، جرى الرق عليهن، وإن قلن: نبذل الجزية فانكفوا، فقد ذكر الأصحاب وجهين: أحدهما - لا حكم لالتزامهن؛ فإنهن لسن من أهل الجزية. والوجه الثاني - أنه يجب أن ننكف عنهن، فإن أصحاب القلعة لو كانوا رجالاً، وقبلوا الجزية، تركناهم، وأضربنا عنهم، فإذا كنا نحقن دماء الرجال منهم، فيجب أن نعصم رقاب حرائرهم عن الرق ببذل الجزية؛ فإن الاسترقاق دون القتل.
فهذان وجهان [يحسبهما] (3) من لا يتولعّ بالطلب جاريين في فرعٍ واقع نُبديه (4)،
__________
(1) جواب أما بدون الفاء.
(2) كذا في النسختين، والمعنى على جانب عمود النسب.
(3) في الأصل: " بحثهما ".
(4) هـ 4: " نبذة ".

(18/24)


وهو أصل؛ فإنا إذا رأينا صونهن عن الرق في الصورة التي ذكرناها، فيلزم لا محالة أن نقول: كل حربية بذلت الجزية، لزم عصمتها عن الرق، وعلى هذا الوجه يرجع نفي الجزية من النسوان إلى الصور التي نُتْبعهن فيها الرجلَ الذمي؛ فإن الرجل يُعصَم بالجزية، فيشمل الأمانُ أهلَه ومن يتصل به، وهذا على نهاية الضعف، وهو يخرم قاعدةً ممهدة لا سبيل إلى خرقها؛ فإن المرأة لو كانت من أهل الجزية بنفسها، لما تبعت، ولو كانت الجزية في حقها تصونها من الرق، كالجزية في حق الرجل تصونه من القتل، فلا وجه لقول من يقول: تقبل الجزية من النسوان إذا لم يكنْ في القلعة غيرهن.
وقد ذكر القاضي هذا الخلاف، ونقل عنه من يوثق به أنهن يبذلن على أحد الوجهين ما يبذلن، ثم لا يتكرر عليهن؛ فإنه لو تكرر، لكان جزية محققة.
وهذا الكلام، وإن كان صَدَرُه عن محاذرة إلحاق النساء بالرجال، فهو كلام مضطرب؛ فإن ما ذكره لا يكون جزية إذاً. وإنما يكون سبيله سبيل المفاداة، ثم يلزم منه ألا يستفدن بما يبذلن إلا الإعراض عنهن في هذه الكرّة؛ إذ من المحال ألا يتكرر عليهن البذل [ويتأبد] (1) لهن الأمان.
ثم الرجال لو بذلوا مالاً من جهة المفاداة، لم يُعصموا، فإن كان الأمر في هذا إلى رأي الإمام، فلا معنى إذاً لقول القائل: هل يجب علينا قبول المال منهن، بل يجب أن يقال: الأمر إلى الإمام. وسنذكر، إن شاء الله تعالى ما يبذله أهلُ المهادنة من الأموال لا على سبيل الجزية.
ومما ذكره الأصحاب في هذه المسألة، وهو كلام مختلط أيضاً أنهم قالوا: لو كان في القلعة رجل واحد، فبذل الجزية، كان ذلك عصمة لكل من في القلعة من النسوان، ولست أدري كيف يجري بمثل هذا لسانٌ أََنِس بالفقه؛ والرجل الواحد لا يستتبع إلا من يتصل به، كما ذكرناه في صدر الفصل.
وبالجملة إن كان المال من فن المفاداة قبل الظفر، فلا يختص به الرجال عن
__________
(1) في الأصل: " أو يتأبد " والمثبت من (هـ 4).

(18/25)


النساء، والأمر إلى رأي الإمام، ثم لا يجوز له أن يبذل لهم عصمة مؤبدة بدنانير يستعجلها، ولكن إنما تثبت العصمة إذا بذلوا المال على تفصيلٍ، سأذكره في المهادنة، إن شاء الله تعالى.
11452 - وأما المماليك فأموالٌ، لا يتصور ضربُ الجزية عليهم، ويتبعون سادَتَهم من غير ذكر، وتشتمل العصمة عليهم اشتمالَها على سائر الأموال.
11453 - وإذا قبل اليهودي الجزية، وكان له ابنٌ طفلٌ، وأتبعناه إياه، فإذا بلغ الطفل، فقد ذكر العراقيون وصاحب التقريب في حق ولده إذا بلغ وجهين: أحدهما - أنه لا بدّ من عقد ذمة معه؛ فإنه استقلّ بنفسه، والعقد الذي عقدناه على أبيه لا يكفيه؛ فإن التبعية قد زالت، والذي يحقق ذلك أنا أتبعناه إياه من غير غُرم، فليس على الأب إلا الدينار الموظف عليه. والابن إذا بلغ لا يقرّ من غير دينار، فلا بدّ من عقدٍ، والوجه الثاني - أنا نكتفي بعقد أبيه، وإذا بلغ استمر عليه حكم العقد غيرَ أنه لم يكن مقامه معه مقابلاً بغُرم، والآن بعد ما استقل تجري عليه الذمة، من غير احتياج إلى عقد، وظاهر النص يدلّ على هذا، والأقيس الأول.
وإن قلنا: لا بدّ من عقدٍ جديد معه، فلا يلزمه ما التزمه أبوه في حق نفسه، حتى لو كان التزم أكثر من دينار، وأبى هذا لما بلغ أن يلتزم الزيادة، فلا يلزمه إلا دينار، فإن هذا عقدٌ جديد، ولا حكم لما سبق من أبيه، وإن قلنا: إن عقد أبيه ينعقد في حقه، فيلزمه مثلُ ما التزم أبوه، حتى لو كان التزم أبوه في حق نفسه دينارين أو أكثر في السنة، فعلى الولد إذا بلغ مثلُ ذلك، فإن امتنع من قبول الزيادة كان بمثابة أبيه لو امتنع عن الزيادة بعد التزامها.
ثم إن قلنا: لا بد من عقد جديد في حقه، فلا نفرق بين أن يكون الأب قد قال ابتداءًَ: التزمت في حق ابني إذا بلغ مثل ما التزمت في حق نفسي وبين ألا يقول ذلك، فلا حكم لالتزامه عليه عند هذا القائل، فإن الجزية لا تثبت في حق الصبي، وإذا بلغ، فقد استقل بنفسه، وانقطعت عنه الولاية، ومن قال: الذمة تطّرد عليه إذا بلغ، ويلزمه مثل ما التزم أبوه، فعلى هذا لا أثر لالتزام الأب عنه، ولا يكفي أن يلتزم هذا

(18/26)


القدر في حق نفسه، ثم الانتساب إليه يوجب مساواته في القدر الملتزَم، كما يوجب اطّراد الذمّة من غير تجديد.
ولو بلغ ابن الذمي سفيهاً غير رشيد، فلا بد من الجزية، ثم القول في اطراد الذمة كما سبق. فإن قلنا: لا بدّ من عقدٍ جديد، لم يختلف هذا بأن يكون سفيهاً أو رشيداً؛ فإن الاستمرار تحت [العهد] (1) ونبذه [مما] (2) لا يدخل تحت الحجر.
وسئل القاضي عما لو التزم (3) أكثر من دينار دون إذن الولي، فقال: تلزمه الزيادة، وإن لم يأذن فيها الولي، وبناه على أن عقد العهد ونبذه لا يدخل تحت الولاية. وهذا غير سديد؛ فإن أصل العهد كذلك، فأما التزام مال، بلا فائدة، فيجب أن يقبض فيه على يده، حتى لا ينفذ التزامَه الزائد على الدينار.
ولو وجب على السفيه قصاصٌ، فأبى مستحق الدم أن يصالح إلا على أكثر من الدية؛ فإن السفيه يبذلها لحقن دمه، ولو لم يبذلها السفيه، فالولي المتصرف في نفسه هل يبذل ماله لحقن دمه [إذا كان السفيه لا يطلبه، أو ينهى عنه؟ الوجه عندنا أن يقال: للولي أن يحقن دمه] (4) كما أنه يتدارك رمقه وإن احتاج إلى استيعاب ماله لطعام يحصله له.
فإن قيل: لو لم يفعل الولي ذلك؟ قلنا: يفعله السفيه. فهذا التصرف يجب أن يكون دائراً بينهما. والوجه أن يراجع الولي فيه إذا أمكنت مراجعته، فإن عسرت المراجعة أو امتنع الولي، فيستقل السفيه بحقن دم نفسه، وإن احتاج إلى بذل ديات، وليس هذا كالجزية التي نحن فيها؛ فإن حقن الدم ممكن بدينار، والصلح عن الدم مفروض فيه إذا كان مستحقه لا يرضى بمقدار الدية، والحق له، وقد يخطر للفقيه أن السفيه إذا أبى أن يصالح، فليس لوليه التصرّف في دمه، وهذا بعيد؛ فإن ماله صين عن الضياع بنصب الولي استصلاحاً، فدمه أولى بالحقن إذا حَقَّت الضرورة.
__________
(1) في النسختين: " الحجر ".
(2) في الأصل: " ومما ".
(3) أي من بلغ سفيهاً.
(4) ما بين المعقفين زيادة من (هـ 4).

(18/27)


11454 - ومما نلحقه بمقصود الفصل أَخْذُ الجزية من أصحاب الصوامع والشيوخ الزمنى، والذين قلنا في قتلهم قولان، وللأصحاب طريقان: منهم من قطع بأخذ الجزية؛ فإنهم من جنس الرجال المقاتلة، ومنهم من خرّج في أخذ الجزية منهم قولين مبنين على جواز قتلهم، فإن قلنا: إنهم لا يقتلون، فهم ملتحقون بالنساء والذراري.
11455 - فأما من يجن تارة ويُفيق أخرى، فقد اضطرب الأصحاب فيه في حكم الجزية، وحاصل ما وجدته أوجهٌ، آتي بها، وأذكر -على حسب الإمكان- وجوهَها، فنقول: أولاً لا يضرب على المجنون الجزية، فأما إذا كان يجن مرة، ويُفيق أخرى، فمن أصحابنا من قال: يعتبر آخر الحول في أخذ الجزية، فإن كان في ذلك الوقت مُفيقاً، ألزمناه الجزية، وإن كان مجنوناً قبل ذلك في جميع الأوقات، أو معظمها، وإن كان مجنوناً في ذلك الوقت لا جزية عليه، ولا اعتبار بالإفاقة من قبل، وهذا القائل يُشبِّه ما ذكرناه من اعتبار الفقر واليسار في حق العاقلة، فإنا نعتبر فيهما آخر الحول.
ومن أصحابنا من قال: إذا كان يجن ويُفيق، فلا حكم للجنون المتخلّل، بل هو كالغشية تطْرأ، فتجب الجزية على هذا الشخص.
ومن أصحابنا من قال: النظر إلى الأغلب، فإن كان الأغلب زمان الإفاقة، وجبت الجزية، وهذا القائل يقول: إذا استوى الزمانان، نغلّب وجوب الجزية.
ومنهم من قال: تلفق أيام الإفاقة، وتهدر أيام الجنون، فمهما بلغت أيام الإفاقة سنة، وجبت الجزية.
وذكر الشيخ أبو علي وجهاً خامساً في الشرح، فقال: من أصحابنا من قال: إذا كان يجن ويُفيق، فلا جزية عليه أصلاً، وإن كان زمان الإفاقة أغلب، فجعل طروءَ الجنون مؤثراً في إسقاط الجزية، وهذا كما أن الرق لما نافى ضرب الجزية، فكذلك بعضه ينافي الجزية، فلا جزية على من بعضه حر، وبعضه رقيق، وهذا بعيد.
ثم قال: هذا إذا كان الجنون والإفاقة متعاقبين [يفيق يومين أو ثلاثة، ويجن

(18/28)


يوماً، فالجنون، والإفاقة متعاقبان] (1)، ثم لا نظر إلى زيادة زمان الإفاقة، فلو كان يُفيق يومين أو ثلاثة ويجن يوماً، فلا حكم [للإفاقة] (2). فأما إذا كان يجن في الشهر يوماً واحداً، فلا يقال: الجنون والإفاقة متعاقبان (3)، ولكن الجنون في حكم العارض يعرض، والحكم للإفاقة.
وهذا الذي ذكره من التفصيل لا بد منه، ولكنه كلامٌ غير منضبط، واضطرابه يدلّ على فساد أصله. ثم الممكن في التقريب أن يقال: إذا كان يجن يوماً ويُفيق يومين، فالإفاقة في اليومين غير موثوقٍ بها، وهو فيها بمثابة مجنون يغتلم (4) يوماً ويهيج، ويسكن ما به يوماً أو يومين، وللمجنون تارات قد يهداً ويسكن، وقد يغتلم ويتعدّى حدّ الاعتدال، فالوجه أن نقول: إذا كان زمان الإفاقة بحيث [يقع] (5) فيها آثار الجنون، فهو ملحق بالجنون، وإن طال بحيث لا يتوقع فيه آثار الجنون، فيجوز أن يقال: الحكم للإفاقة. وهذا في التحقيق تمسك بالغلبة، وقد ذكرنا عن بعض الأصحاب وجهاً: أنا ننظر إلى أغلب الزمانين، ولكن بين الوجهين فرق؛ فإن ما حكيناه في أثناء الأوجه المرادُ به أن يكون أحد الزمانين أكثر ولو بلحظة. وما ذكرنا آخراً، فالمراد به ما بيناه. والفرق بين الوجهين ظاهر لمن تأملهما.
وقد ذكرنا فيما ذكرنا وجهين متضادين: أحدهما - أن الجنون بين الإفاقتين كالغشية، والآخر أن الإفاقة بين جنونين كهدوء مجنون على اغتلامه. ولا بد من
__________
(1) ما بين المعقفين زيادة من (هـ 4).
(2) في النسختين: الجنون، والمثبت من المحقق رعاية للسياق، فالمعنى أن التعاقب بين الجنون والإفاقة يغلب حكم الجنون أياً كانت أيام الإفاقة ونسبتها.
(3) لمزيد من الإيضاح ننقل هنا كلام الإمام الغزالي، الذي عبر به حاكياً كلام الشيخ أبي علي هذا، فقد قال: " قال الشيخ أبو علي: لا جزية عليه أصلاً، كمن نصفه حر، ونصفه رقيق، لأن الجنون يمنع الجزية كالرق، وقال: هذا فيه إذا كان الجنون والإفاقة يتعاقبان، فأما إذا كان يجن يوماً، ويفيق تسعة وعشرين يوماً، فلا تعاقب، والحكمُ للعقل، والجنون عارض " (ر. البسيط: 5/ورقة: 175 شمال).
(4) يغتلم: أي يهيج ويشتد، والاغتلام أكثر ما يستعمل في شدة الشهوة للجماع، ويستعمل في الهيجان والثورة عامة، ومنه اغتلم البحر، إذا ثارت أمواجه وهاجت مياهه (المعجم).
(5) في (هـ 4): " يتوقع ".

(18/29)


التفصيل في الوجهين جميعاً، أما تفصيل إلحاق زمان الإفاقة بالجنون، فقد قدّمناه، وأما إلحاق الجنون بالغشية، فبعيدٌ جدّاً إذا طال الزمان وتمادى بحيث تُخاف بوادره في زمان الإفاقة.
وإن كان زمان الإفاقة نقياً من بوادر [الجنون] (1) وتوقعها، فلست أرى الجنون غَشْيةً مع هذا إلا أن يكون على حدٍّ يمكن تقريبه من طريق التشبيه من اغتلام الرجل الصفراوي في هيج النفس وثوران الغضب، فإن لم يكن كذلك وكان جنوناً محققاً، فلا وجه لهذا الوجه.
هذا بيان ما يكاد يعضل. وأَقْصَد هذه الوجوه تلفيق أيام الإفاقة، واعتبار آخر الحول.
فإن قيل: لو كان مجنوناً في جميع السنة إلا في اليوم الأخير، فيبعد إيجاب الجزية. قلنا: هذا مجازفة في التصوير، فإن من يجن سنة ثم حسب مفيقاً في يوم، ثم طبق عليه الجنون في سنة مستقبلة، فليس في وضع الجبلّة تحقُّقُ الإفاقة في مثل هذا اليوم، وإنما يتصوّر هذا إذا اطردت الإفاقة في السنة المستقبلة، فيحتمل الجنون فيما تقدم.
11456 - فإن قيل: هذا التردد الذي ذكرتموه في الجزية هل تطردونه في سائر الأحكام التي يؤثر الجنون والإفاقة فيها؟ قلنا: لا يجري في سائر الأحكام اعتبار آخر الحول ولا التلفيق، وإنما تغليب الجنون، أو تغليب الإفاقة، أو تخصيص الجنون في زمانه بحكمه، وتخصيص الإفاقة في زمانها بحكمها.
فإن قيل: إذا كان يجن يوماً، ويُفيق يوماً، فوقع في الأسر مثل هذا الشخص، فهل تقولون: إنه يُرقّ؟ قلنا: إن غلبنا الجنون، رُق، وإن غلبنا الإفاقة، لم يرق، ويتجه أن يعتبر يومُ السبي، وأما قبله وقد تحقق أنه [كان] (2) يجن ويُفيق، فإن غلبنا الجنون، لم يقتل، وإن غلبنا الإفاقة على التفصيل المقدم، فالظاهر الحقن، وقد
__________
(1) في الأصل: الحيوان. مع تأكيدها بوضع علامة الإهمال تحت (الحاء).
(2) زيادة من (هـ 4).

(18/30)


يخطر للناظر اعتبار يوم الأسر، [وإنما] (1) إشكال هذه المسألة من جهة أنه لا يجتمع الجنون والإفاقة في شخص حتى يقال: اجتمع فيه ما يحظر القتل وما يُبيحه، فالتغليب للحاظر، [ولو] (2) صادفناه مفيقاً، فلسنا نقطع بأنه سيجن. فمن اعتبر الحال، فهذا [وجهه] (3). والعلم عند الله تعالى.
وقد انتجز القول فيمن تقبل منه الجزية، [ويقرّ] (4) في الدار بها، وفيمن يُتبَع ولا يستقل بالتزام الجزية. ثم ذكر التغايير التي تلحق وتزول.
فصل
قال: " وأيهم أفلس أو مات ... إلى آخره " (5).
11457 - إذا مضت سنة على الذمي، فمات، استقرت وظيفتها في ذمته، تؤدى من تركته، من رأس المال مقدماً على الوصايا وحقوق الورثة، ولا تسقط الجزية بتداخل السنين.
وقال أبو حنيفة (6): إذا مضت سنة، ولم نستأد الجزية، سقطت، ولو كان هذا قولَه، فلو مات بعد مضي السنة، فلا تؤخذ الجزية من تركته. وعندنا إن بقي بعد السنة، طولب في حياته، وإن مات أُخرج من تركته بعد مماته.
ولو أسلم بعد مضي السنة، فهو مطالب بالجزية التي استقرت عليه قبل الإسلام، ولو مات الذمي في أثناء السنة، وقد مضى شطرها، ففي المسألة قولان: أحدهما - أنه يجب مقدارٌ من الجزية على قدر الزمان الماضي؛ فإن مضى شَطرُ السنة، وجب نصف
__________
(1) في الأصل: " فإنما ".
(2) في الأصل: " وإنما ".
(3) في الأصل: " في وجه ".
(4) في النسختين: ويرق.
(5) ر. المختصر: 198.
(6) ر. الجامع الصغير: 470، مختصر الطحاوي: 294، مختصر اختلاف العلماء: 3/ 487 مسألة 1637، فتح القدير: 5/ 297، الاختيار: 4/ 139.

(18/31)


الجزية وإن مضى عُشرها، فالواجب مقداره من الجزية، هذا أحد القولين، والقول الثاني - أنه تسقط الجزية بكمالها، فلا يجب من جزية هذه السنة شيء.
قال المحققون: حقيقة القولين ترجع إلى أن الجزية هل تجب بأول السنة أم يدخل وقت وجوبها عند انقضاء السنة؟ فمن قال: يدخل وقت وجوبها بدخول آخر السنة، يقول: إذا مات في أثناء السنة لم يجب من الجزية شيء، ومن أضاف وجوبها إلى أول السنة، قال: إذا مات في أثناء السنة، وجب من الجزية قسطٌ على قدر ما مضى من السنة.
11458 - ثم اختلفت عبارة الأصحاب في إضافة الوجوب إلى أول السنة، فقال قائلون: تجب الجزية بأول السنة دفعة واحدة، ولكن يستقر الجزء بعد الجزء. وقال قائلون: معنى إضافة الوجوب إلى أول السنة انبساط الوجوب على جميع الأوقات.
فأما الحكم بوجوبها دفعة واحدة في أول السنة فلا. والوجهان محتملان، ثم يجب عليهما جميعاً، قسط من الجزية إذا فرض الموت في أثناء السنة، ولو أسلم، كان في حكم الجزية كما لو مات.
ومما يتعلّق بهذه المسألة أنا إذا قلنا: الموت في أثناء السنة لا يستعقب وجوب شيء من الجزية، فلا كلام، وإن قلنا: [يجب] (1) قسط من الجزية، فلو أراد الإمام مع استمرار الذمة أن يطلب نصف الجزية مع انقضاء نصف السنة، فهل له ذلك؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنه ليس له ذلك، لأن الطلب في آخر السنة عند استمرار الأحوال، بذلك جرت سُنن الماضين، وسِيَر المتقدمين، ولعل الجزية موضوعها على الإمهال كالزكاة.
ومما يتعلّق بالمسألة أنه لو مات، [فقد] (2) استقرت عليه الجزية: أما إذا مات بعد السنة قولاً واحداً، أو مات في أثنائها على أحد القولين، فالجزية تؤدى من تركته، وهي مقدمة على الوصايا، وحقوق الورثة.
__________
(1) زيادة من (هـ 4).
(2) في النسختين: وقد.

(18/32)


ولو كان في تركته ديون للآدميين، فكيف السبيل؟ اختلف أئمتنا في أن الجزية يُنحى بها نحو حقوق الله تعالى، كالزكاة، أو يُنحى بها نحو حقوق الآدميين، فمنهم من قال: هي من حقوق الآدميين، فإن مصرفها إلى المرتزقة، وليست من القُرَب، فعلى هذا الجزية كسائر ديون الآدميين تُسْتَحق، ثم في تقديم حقوق الله تعالى على حقوق الآدميين ثلاثة أقوال: أحدها - أن المقدّم حق الله تعالى. والثاني - أن المقدّم حق الآدمي. والثالث - أنهما يتساويان ويتصادمان. وقد قدّمنا هذه الأقوال في مواضع من الكتاب؛ فلا نعيد توجيهها، وتفصيلها.
فصل
قال: " ويشترط عليهم أن من ذكر كتاب الله تعالى، أو محمداً صلى الله عليه وسلم ... إلى آخره " (1).
11459 - المقصود الأظهر من الفصل، الكلام فيما ينقض الذمة، ولا ينقضها، ونحن نصدّر الفصل بنوعين من الكلام: أحدهما - كيفية عقد الذمة، والآخر - معنى جريان الأحكام على أهل الذمة.
فأما كيفية عقد الذمة، فقد قال العراقيون: إذا عقدت الذمة، فلا بدّ من ذكر الجزية؛ فإنها عماد الذمة [ومثلُها] (2) الاستسلام لجريان الأحكام. لا بد من ذكر هذين، ولو لم يُذكرا، لم يصح العهد، وصرّحوا باشتراط التلفظ بما ذكرناه.
وذكر القاضي ذلك أيضاً على هذا الوجه.
أما قياس المراوزة، فهو أن الجزية لا بدّ من ذكرها، وأما ذكر الاستسلام للأحكام، فيجب ألا يشترط، ولا يجب التعرض له؛ لأن استسلامهم من حكم الذمة، ولا حاجة إلى ذكره، واشتراط ذكره بمثابة اشتراط ذكر الملك في البيع.
__________
(1) ر. المختصر: 5/ 198.
(2) في النسختين: ومنها. والمثبت تصرف من المحقق، حتى يتحقق الفرق بين العراقيين والمراوزة.

(18/33)


ومعتمد العراقيين أن كل ما يُنقض العهد به وجهاً واحداً، فلا بدّ من ذكره، وسنبين أن امتناعهم عن بذل الجزية، وعن جريان أحكامنا عليهم يوجب نقض عهدهم.
ثم استتم العراقيون التفريعَ على ما ذكرناه، وقالوا: يجب ذكر الجزية والاستسلام للأحكام وجهاً واحداً.
وهل يجب أن يذكر في الذمة ألا يتعرضوا للأنبياء بذكر السوء؟ ذكروا وجهين في اشتراط ذلك: أحدهما - أنه يشترط ذكر هذا؛ إذ بهذا تحصل المكافّة، وترك التعرّض منهم لنا، ومنّا لهم. والوجه الثاني - أن ذلك لا يشترط؛ فإنا إذا ذكرنا استسلامهم لأحكامنا، كفى ذلك، ومن أحكامنا أن نمنعهم عن التعرض، حتى إن تعرّضوا سيأتي حكم الإسلام فيه، إن شاء الله تعالى.
هذا بيان عقد الذمة.
ثم للأصحاب تردّدٌ في أن الذمة المؤقتة هل تنعقد؟ وسنذكر هذا في باب المهادنة، إن شاء الله تعالى عند ذكرنا وجوب التأقيت فيها، وعندها نذكر أن الذمة هل تنقضي باستشعار الخوف قبل تحققه، وسيأتي إن شاء الله تعالى.
11460 - فأما النوع الآخر الذي نريد ذكره، وهو أن الأصحاب أطلقوا أن أحكامنا جارية عليهم، وقد قدّمنا غير مرة اختلاف القول في أنهم إذا جاؤونا راضين بأحكامنا، فهل يلزمنا أن نحكم بينهم؟ فعلى قولين، فكيف سبيل الجمع بين هذا، وبين إطلاقنا القول بأن أحكامنا تجرى عليهم؟
قال العراقيون في ذلك: المراد بإجراء الأحكام عليهم أنهم إذا فعلوا ما هو محظورٌ في دينهم، وكانوا لا يستحلّونه، فيجري حكم الله عليهم، إذا كان لا يتعلّق بالدعوى، وهذا بمثابة ما لو زنى واحد منهم، وثبت زناه عند حاكم المسلمين؛ فإنه يقيم على الزاني حدّ الله تعالى، ولا حاجة إلى رضاه بحكمنا، وارتفاعه إلى مجلسنا، بل إذا شهد على زناه أربعة من عدول المسلمين، أقمنا الحد، وهذا الذي ذكروه حسن، ولم أر في طريق المراوزة ما يخالف هذا، وهو متجه.
فأما ما يستحلّونه، فهو منقسم إلى الخمر، وغيره، فأما إذا شرب الخمرَ واحدٌ

(18/34)


منهم، فالمذهب أنا لا نقيم عليه الحدّ، وإن رضي بحكمنا، وفيه خلاف، وقد قدمنا في ذلك كلاماً بالغاً.
وأما غير الخمر، فإذا نكح واحد من المجوس واحدةً من محارمه، فلا نتعرّض له، وإن ارتفعوا إلينا، ورضوا بحكمنا، فهذا يخرج على القولين في أنه هل يجب الحكم؛ [فإن التزمناه، حكمنا عليهم بحكم الإسلام] (1)؛ فإن القاضي يستتبع الخصوم في الحكم عليهم. وقد ذكرنا هذين القولين في أبوابٍ، وموضع استقصائهما أدبُ القضاء.
والغرض من ذكرهما الآن أنا حكينا من طريق العراقيين أن حد الزنا يقام عليهم، وكذلك حد السرقة، وهذا الذي ذكروه لا أنكر اتجاهه، بناء على أنا أقررناهم في دارنا على ألا نتعرّض لهم في موجَب دينهم على شرط ألا يتظاهروا به، ولا يظهروه، فأما إذا خالفوا دينهم، فالحكم جارٍ عليهم. هذا مسلكهم.
والذي أراه في ذلك أن من زنى منهم بمسلمة، أو سرق مال مسلم، فالحكم جارٍ عليهم؛ فإن الحكومات إذا تعلّقت بالكفار والمسلمين، فيجب على القاضي أن يحكم فيها على الكلفار أو لهم قولاً واحداً، وإذا اتصل الزنا بمسلمةٍ، أو فرضت السرقة في مال مسلم، [فإجراؤنا] (2) الحكمَ عليهم على قياس قطعنا القولَ بالتزامهم أحكامنا، إذا كان خصومهم المسلمين.
فأما إذا زنى كافر بكافرة، أو سرق كافر مال كافر، فالذي أراه يخرج على القولين؛ فإنهم كما حرموا الزنا في دينهم، والسرقة، فكذلك حرموا الغصب، وتغييب الودائع وجحدها، ثم الخصومات الدائرة بينهم في هذه المعاني تخرج على القولين، ولا فرق إلا أن ما يختص بالأموال يفتقر إلى تقدّم الدعوى، وثبوتُ الزنا لا يتوقف على فرض الدعوى، والسرقة قد تتعلق بالدعوى، فيجب تقريب الأمر على ما ذكرناه.
__________
(1) زبادة من (هـ 4).
(2) غير مقروءة بالأصل، والمثبت من (هـ 4).

(18/35)


11461 - ومما نذكره قبل الخوض، في نواقض العهود، أنا إذا عقدنا الذمة، التزمنا لهم كفَّ الأذى عنهم، وعدَم التعرض لهم فيما يرونه بين أظهرهم -ما أخفَوْها (1) - فلا نريق خمورهم ولا نقتل خنازيرهم، ولا نتعرض لبياعاتهم ومناكحاتهم فيما بين أظهرهم.
وهل يجب علينا أن نذب الكفار عنهم؟ يعني أهل الحرب؟ فإن كانوا في بلاد الإسلام؛ فإنا نضطر إلى الذب من غير قصدٍ ينصرف إليهم؛ فإنه يتعين علينا حمايةَ بلاد الإسلام عن طروق الكفار، وإذا نحن فعلنا هذا، فيحصل به الذب عنهم لا محالة.
ولو كان الذمي في دار الحرب لكنه التزم الجزية، وعقدنا له الذمة، فيستحيل أن نلتزم ذب الكفار عنهم؛ فإن هذا مما لا يحيط به الاستطاعة، والإطاقة.
ولو كان أهل الذمة في بلدةٍ متاخمة لبلاد الإسلام من جهةٍ، ولبلاد الكفار من جهة، وكان ذب الكفار عنهم ممكناً، فهل نلتزم ذلك لهم بمطلق الذمة؟ فعلى وجهين: أحدهما - لا نلتزم ذلك؛ فإن الغرض بعقد الذمة أن يأمنونا ويؤمِّنونا، فإذا كفيناهم بوادر أجنادنا، وكففنا الأيدي عنهم، كفاهم ذلك، والدليل عليه أنهم لا يلتزمون، الذبَّ عنا إذا تغشانا جمعٌ من الكفار، ونحن لا نلتزم لهم ما لا يلتزمونه لنا.
والوجه الثاني - أنه يجب علينا الذب عنهم إذا تمكنا منهم؛ فإنا بالذمة التزمنا أن نُلحقهم في العصمة والصون بأهل الإسلام، فيجب علينا أن نذب عنهم كما نذب عن أهل الإسلام، وهذا مشهور في الحكاية، والأقيس الوجه الأول.
وما ذكرناه فيه إذا أطلقنا الذمة، ولم نتعرّض لالتزام الذب عنهم، فإن قلنا: لا يلزمنا الذب بحكم الذمة، فلو اشترطنا ذلك، والتزمناه، فالرأي أنه لا يلزمنا الوفاء؛ فإن ما لا يلزم بقضية الذمة، لا يلزم بالاشتراط؛ وفي كلام الأصحاب ما يشير إلى أن الذب يلزم بالالتزام.
__________
(1) كذا في النسختين بضمير المؤنث. والتأويل قريب.

(18/36)


وإذا قلنا: مطلق الذمة يقتضي الذب، فلو شرطنا ألا نذب عنهم في محل الوجهين، ونكتفي بالانكفاف عنهم، فالظاهر أن الشرط يثبت، ولا يلزم الذب، وإن كان يلزم في الذمة المطلقة. ومن أصحابنا من أفسد هذا الشرط. ثم في فساد الذمة بالشرائط الفاسدة، كلام سيأتي الشرح عليها في باب المهادنة، إن شاء الله تعالى.
11462 - وقد حان أن نخوض بعد ذلك في نواقض العهود. وتمهيد الكلام يقتضي رسمَ ثلاث درجات، هكذا رتبه الأئمة: المرتبة الأولى: ما يوجب نقض العهد من غير أن يفرض فيه شرط، ثم ذكر الأكثرون في هذا القسم ثلاثة أشياء: أحدها - منع الجزية. والثاني - الامتناع من إجراء الأحكام. والثالث - نصب القتال.
وقضَوْا بأن هذه الخلال الثلاث عماد الذمة، وتركُها نقضُ عقد الذمة.
وفي هذا أدنى تدبّر: أما القتال على ما نعهده من أهل الحرب، فهو مناقضة للذمة؛ فإن الغرض الأظهر منها الأمان المؤبد، فإذا قاتلونا، فقد تركوا موجَب العهد.
فأما منع بذل الجزية والامتناع عن جريان الأحكام، فقد أطلقها الأصحاب، ولم يأتوا فيها بالبيان الشافي، ومطلق ما ذكروه يدل على أن واحداً من أهل الذمة إذا سوّف، ومطل، وامتنع عن تأدية الجزية لما طولب بها مع القدرة على أدائها، فيكون ذلك نقضاً منه، وشرطوا في هذا التمكن من الأداء، فلو اعتراه عجز وأحوجه إلى استمهال في مدة قريبة، فما أرى الأصحاب يقضون بانتقاض العهد والحالة هذه. فأما المطل المحقق، والمدافعة من غير عذر، ففيها قالوا بانتقاض العهد، وليس يبعد أن يقال: امتناع الذمي عن أداء الجزية، ويد القهر ممتدة إليه لا يوجب نقضَ عهده، ولكنا نستأدي منه الجزية قهراً، ويكون امتناعه عن أدائها بمثابة امتناعه عن ديونٍ توجهت عليه للمسلمين، وهذا متجه.
وما ذكره الأصحاب حسن بالغ، لأن الجزية عوض ترك القتال، وهو [في حكم] (1) ما يتجدد حالاً على حال، فيجوز أن يقال: امتناع المقتدر عليها حطّ منه
__________
(1) زيادة من (هـ 4).

(18/37)


لعوض ترك القتال، [وتركُ] (1) القتال لا يستقل بنفسه دون عوض. فإن قال قائل: الجزية الواجبة تقابل ما مضى من الزمان، فما قولكم فيه إذا قال: الجزية المستقرة لا أؤديها، وأؤدي الجزى في مستقبل الزمان؟ قلنا: لم يفصل الأصحاب، ولم يفرّقوا، وإذا بدا منه امتناع، كفى ذلك.
هذا كلامنا في الامتناع من الجزية.
11463 - وأما ما ذكره الأصحاب من الامتناع عن إجراء الأحكام، فذلك فيه نظر لا بدّ منه؛ فإن امتنع [من امتنع] (2) منهم عن الحكم شارداً، أو هارباً، فلست أرى ذلك نقضاً للعهد.
وإن كان الامتناع عن ركون إلى عُدّة، [وتقوٍّ] (3) بقوة، فالوجه أن ندعوهم حتى يستسلموا، كما فعل علي بن أبي طالب رضي الله عنه في الخوارج، إذ قال لهم: " استسلموا نحكم عليكم " (4) فإن امتنعوا، هممنا بهم، فإن استسلموا، حكمنا عليهم، وإن قاتلوا، آل الأمر إلى القتال الناقض للعهد.
وما ذكرته من ترديد الرأي في منع الجزية [والامتناع] (5) مستند إلى كلام.
الأصحاب؛ فإن القاضي، لم يذكر في الذي ينقض العهد [إلا نصبهم القتال] (6)، ولست أبعد أن الأولين ذكروا القتال، وعدّوا منعَ الجزية من أسبابه، وعبروا من (7) الامتناع (8) عن القتال، فإن كان كذلك، آل الأمر إلى أن الناقض بنفسه وذاته القتالُ فإنه منافٍ للأمان.
__________
(1) في الأصل: " ولو ترك ".
(2) زيادة من المحقق.
(3) في الأصل: " وـ ـول " (انظر صورتها) (وهـ4) سقطت الصفحة كاملة.
(4) أثر علي " استسلموا نحكم عليكم " رواه الشافعي في الأم: 4/ 217.
(5) زيادة من المحقق رعاية للسياق.
(6) عبارة الأصل: إلا نصبهم في القتال. وتقع العبارة في صفحة ذاهبة من (هـ 4).
(7) من: مرادفة للباء، وعليه قوله تعالى: {يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ} [الشورى: 45].
(8) الامتناع: المراد الامتناع عن أداء الجزية وعن التزام الأحكام، فمعنى العبارة: عبروا بالامتناع عن أداء الجزية والتزام الأحكام عن القتال.

(18/38)


وإن أراد الأصحاب عدّ منع الجزية، والامتناعَ مغايرين لنصب القتال، فأقصى الإمكان فيه ما قدّمناه، وظاهر ما نقله الصيدلاني أن منع الجزية والامتناعَ متغايران، وهما ينزلان منزلة نصب القتال، ولفظه في الكتاب: " بعض ما يصدر منه نقضٌ للعهد شرط ذلك عليهم أو لم يشرط، مثل منع الجزية، والامتناع عن [إجراء] (1) أحكام الإسلام عليهم، ونصبِ القتال من غير شبهة " [ونصبُ القتال من غير شبهة] (2) أراد به أن يستعين بطائفة من أهل الذمة أهلُ البغي، وهذا فصلٌ ذكرته على أقصى الإمكان في التفصيل، وشفيتُ فيه الغليل.
ومما يتعلق بهذا القسم لإتمامه أن الأصحاب جعلوا ما يقع في هذا القسم ناقضاً للعهد بنفسه سواء شرط ذلك أو لم يشرط.
ثم القتالُ فعلٌ يعد ناقضاً، وكذلك ما ألحق به، إن كان يلتحق به غيره، والسبب فيه أن الذمّة جائزة من جانب الذمي، والعهد الجائز إذا انتفى مقصوده بالكلية، لم يبعد انقطاعه، وإن كان الصادر ممن انعقد معه فعلاً، وهذا بمثابة حكمنا بانقطاع الإيداع والائتمان بعدوان المؤتمَن، وإن كانت صيغة الأمن باقية (3)، ولو قاتلناهم، وخالفنا العهد لم تنتقض الذمة؛ لأن الذمة في جانبنا واجبة لازمة، والوفاء بها حتم، ولو أردنا نبذها من غير سبب، لم نجد إليه سبيلاً. هذا منتهى ما حضرنا في هذا القسم.
11464 - فأما القسم الثاني - فهو أن يصدر من الذمّي ما هو ممنوع عنه، وكان ممّا يظهر الإضرار بسببه بالمسلمين، فإذا كان فيه إلحاق مضرة عظيمة، فنذكر في هذا القسم ما ذكره الأئمة، وما ترددوا فيه، ونبين حكمه.
فمما اتفقوا عليه، وعدوه في هذا القسم أن يزني الذمي بمسلمة، أو يصيبها باسم النكاح، أو يؤوي عيناً لأهل الحرب، أو يكتب إليهم بأسرار المسلمين، ويطلعَهم على عوراتهم، أو يفتنَ مسلماً عن دينه، فالضرر يعظم بهذه الأشياء، فمنها ما يرجع
__________
(1) في الأصل: " جهات ". ولا أدري لها وجهاً ولا عن أي لفظة صحفت.
(2) زيادة اقتضاها السياق.
(3) صيغة الأمن: أي صيغة الائتمان وصورة الإيداع باقية.

(18/39)


إلى الإسلام، ومنها ما يرجع إلى معنيين. فإذا صدرت هذه الأصناف منهم، فللأصحاب طريقان: قال العراقيون، وصاحب التقريب: في المسألة ثلاثة أوجه: أحدها - أن العهد ينتقض، كما (1) منعوا الجزية، أو قاتلوا، أو امتنعوا عن إجراء الأحكام، والأوْلى أن نقول في إيضاح هذا القسم: إن العهد ينتقض بما يظهر ضرره، قياساً على ما اشتمل عليه القسم الأول. وقد مضى تفصيل القول في القسم الأول، وتوجيه هذا الوجه، أن ما صدر منهم من هذه العظائم ينافي الأمن والأمان، فشابه ما لو نصبوا القتال.
والوجه الثاني - أن العهد لا ينتقض، لأنهم بما فعلوا، لم يقاطعونا، ولكن صدر منهم منافاة وأسباب (2) هي بالإضافة إلى الذمة كالكبائر، بالإضافة إلى الإسلام.
والوجه الثالث - أنهم إن شرط عليهم انتقاض العهد لو قَدِمُوا (3) على ما وصفنا، انتقض العهد بها إذا صدرت منهم، وإن لم يجر شرط انتقاض العهد لا ينتقض العهد. والقائلان الأولان لا يغيّران ما اعتقداه بالشرط، أما من حكم بالانتقاض مطلقاً، لم (4) يجعل للشرط موقعاً، واعتقد هذه الأشياء منافية بأنفسها، كنصبهم القتال.
ومن قال: لا ينتقض العهد بها، يقول: لو فرض شرطٌ، حمل على التخويف، وتحقيق الزجر. وسيكون لنا في هذا الفن مزيد كشف في القسم الثالث. إن شاء الله.
وأما التفصيل فبيّنٌ. هذه طريقة.
وقال الصيدلاني، وغيره من محققي الأصحاب: إن لم يجر شرطٌ، لم ينتقض العهد بهذه الأشياء، وإن جرى شرطٌ، ففي انتقاض العهد وجهان. وهذه الطريقة إذا ضُمت إلى الطريقة الأولى، انتظم من تضامّهما أنّا في وجهٍ لا نحكم بالانتقاض أصلاً،
__________
(1) كما: بمعنى عندما.
(2) (هـ 4): " هنات وسيئات ".
(3) قدِم على الأمر من باب (لعب): أقبل عليه، وقدِم على العيب رضي به. (المعجم).
(4) جواب (أما) بدون فاء.

(18/40)


كان الشرط أو لم يكن. والثماني- أنا نحكم بالانتقاض، كان الشرط، أو لم يكن، والثالث - الفصل، فلا يزيد بالضم وجه.
وربما كان شيخي يقول: من أصحابنا من قال: إذا جرى شرط في الانتقاض، انتقض العهد، وإن لم يجر، فوجهان.
فهذا مجموع ما قيل، وعكس الطريقتين يُشعر بمزيد غَرضٍ في الترتيب، وإلا فلا يشذ على الأوجه الثلاثة شيء.
وما أطلقناه من الشرط أردنا شرطَ الانتقاض لا شرط الانكفاف عن هذه الأشياء؛ فإن نفس الذمة مُزجرة عن هذه الأمور، فلا معنى لذكرها، وهذا مما اتفق الأصحاب فيه، على أنا لا نشترط ذكره في عقد الذمة، وإنما تردُّدُ الأصحاب في التعرض لترك القتال والاستسلام للحكم، وقد قدّمنا فيه ما ينبغي.
11465 - ومما يجب الاهتمام به أن طوائف من المحققين ذكروا قطع الطريق في هذا القسم، والقتل الموجب للقصاص، ولم يتعرضوا (1) لهذين آخرون، وتبين [لي] (2) أنه يسوغ أن يلحق بالمذهب تردّدٌ في القتل وقطع الطريق، فيقال: هما ملتحقان بالقسم الأول في وجهٍ؛ من جهة أنهم إذا قتلوا وقطعوا الطريق، وشهروا السلاح، لم يُبقوا من مناقضة الأمان شيئاً، فلا يبعد التحاق ذلك بالقسم الأول، وليس كالفواحش التي تجري في الاختفاء، ومن جملته السرقة، فإن السارق تحت القهر، وإنما ينتهز الفرص، ويرتاد أوقاتَ الغفلات، ويد القهر ممتدة إليه. هذا وجه.
ويجوز أن يقال: قتل الواحد والآحاد من غير منابذة، ومحاولة مفارقة المسلمين في حكم الكبائر بالإضافة إلى الإسلام. وقطع الطريق، وإن كان فيه مكاوحة، فليس فيه منابذة المسلمين، وإنما هو توثب على الرّفاق، بعُدّة وقوة، مع ارتياد
__________
(1) كذا في النسختين: " ولم يتعرضوا لهذين آخرون " وهو جارٍ على لغة أكلوني البراغيث.
(2) في الأصل: " إلي ".

(18/41)


ملازمة [الخِطة] (1) والدار، وهذا يحوج إلى مزيد تقرير في قطع الطريق؛ فإن القتل في الدم بمثابة السرقة في المال.
فهذا ما أردنا أن نذكره في ذلك، وقد يلتحق بهذا القسم شيء، ولكن الترتيب يقتضي ذكرَ القسم الثالث أولاً، ثم إذا انتجز، اشتغلنا به.
11466 - فأما القسم الثالث - فهو في بيان أمور تصدر منهم، [ممّا] (2) لا يقع في القسم الأول، ولا يتعلّق به إضرارٌ بيّن، وذلك كإظهارهم الخمور، وإسماعنا النواقيس، وتركهم الغِيَار (3)، وإظهارهم معتقدهم في المسيح، مما يُكفَّرون به، فهذه الأشياء في أعيانها لا تنقض العهد أصلاً باتفاق الأصحاب، ولكنا نمنعهم، وقد نُعزِّرهم.
وهذا كله إذا لم ينته الأمر إلى الإضرار، والامتناع، والتجمع، فإن هذا يلتحق بالامتناع عن جريان أحكام الإسلام، وقد مضى فيه البيان الشافي.
ولو شرط الإمام عليهم ألاّ يفعلوا هذا، ففعلوه، لم ينتقض عهدهم؛ فإن الشرط على هذا الوجه لا يُغيّر حكم الانتقاض ثبوتاً، وانتفاءً. ولو شرط الإمام عليهم انتقاض العهد، لو فعلوا ما وصفناه، فقد قال الأئمة: يحمل الشرط في هذا على التخويف. وهذا كلام مبهم، لا أستجيز الاكتفاء به.
وتفصيله أنا سنذكر بعد هذا -إن شاء الله تعالى- الاختلافَ في أن الذمة المؤقتة هل تصح؟ فإذا قال عاقد الذمة: إن أظهرتم خموركم، فلا عهد، أو انتقض العهد، فهذا تأقيت للذمة، فمن يُجوّزُ تأقيت الذمة إلى أمد، لا يبعد عنده تأقيت الذمة إلى إظهار فعلٍ، فعلى هذا يجب القضاء بالانتقاض.
ومن قال: الذمة المؤقتة فاسدة، فيجب عنده القضاء بفساد الذمة من أصلها، وليس للإمام أن يعقد مثل هذه الذمة على هذا الوجه، ولا بدّ مما ذكرناه إذا صرح
__________
(1) في الأصل: " الخطر " والمثبت من (هـ 4).
(2) في الأصل: " فيما ".
(3) الغِيار للذمي كالزُّنّار للمجوسي علامة يتميز بها، وهو شيء كالحزام يشدّ على وسطه.
(المعجم والمصباح).

(18/42)


عاقد الذمة باشتراط انتقاض الذمة بهذه الأفعال، ويعود الكلام إلى أن شرطه هل يُفسد الذمة أم لا؟ فإن صححنا التأقيت، صحت الذمة إلى انتقاضها، وإن لم نصحح التأقيت، فسدت الذمة من أصلها.
وفي كلام الصيدلاني ما يشير إلى أن الذمة تتأبد، والشرط يفسد. وهذا فقيهٌ؛ من جهة أن الذمة لم ترتبط بوقتٍ [زماني] (1)، وإنما أرسلت إرسالاً [يتصور] (2) أن تتأبد لو فرض عدم ما شرط انتفاؤه، فيؤول الفساد إلى الشرط، وهذا يخالف التأقيت؛ فإن العهد المؤقت ليس ذمة، وما ذكرنا في الصورتين يماثل تأقيت الوقف وتأبيده مع شرط فاسد، فقد نقول المؤقت منه مردود، وليس بوقف، وإنما هو إعارة، وإباحة، والمؤبد منه مع شرط فاسد وقف فيه شرط فاسد، وقد يرى بعض الأصحاب إحباط الشرط، وتصحيح الوقف.
هذا تمام المراد في قواعد الأقسام الثلاثة.
11467 - ثم نحن بعد نجازها نذكر أمراً مهمّاً متردداً بين الأقسام، وهو أن أهل الذمة، لو تعرضوا لرسولنا صلى الله عليه وسلم، بسوء، وقدحوا في الإسلام، وأظهروا ذلك، فقد اضطرب طرق أئمتنا، ونحن نسرد جميعها نقلاً، ثم نذكر المسلك المرتضى.
ذكر صاحب التقريب، والعراقيون وجهين في ذلك: أحدهما - أن قدحهم في الإسلام والتعرض للرسول صلى الله عليه وسلم ملتحق بالقسم الأول، وقد مضى الحكم فيما اشتمل عليه القسم الأول.
والوجه الثاني - أن الحكم في ذلك كالحكم فيما يشتمل عليه القسم الثاني؛ فإن هذا مما يعظم الضرر فيه، ويقدح في قلوب أهل الإسلام، وذو الدين إذا قدح في دينه، جاز (3) وقعُ ذلك على التعرض لدمه وماله، فاتجه إلحاقُه بالمضرّات.
__________
(1) في الأصل: " بزمان ".
(2) في الأصل: " لا يتصور ". والمثبت من (هـ 4).
(3) جاز وقع ذلك: أي زاد وتعدّى.

(18/43)


وذكر الصيدلاني [في ذلك تفصيلاً حسناً] (1)، فقال: إن ذكروا الله تعالى، ورسوله صلى الله عليه وسلم بما لا يعتقدونه فيه ديناً مثل: أن يسبوا الرسول صلى الله عليه وسلم أو يطعنوا في نسبه صلى الله عليه وسلم، فهذا يلحق بالقسم الأول أو الثاني. وأما إذا ذكروا رسولنا صلى الله عليه وسلم بما يعتقدونه فيه ديناً من أنه ليس برسول، والقرآن ليس بكلام الله تعالى، فهذا بمنزلة إظهارهم كفرهم من نحو قولهم في المسيح.
وهذا ترتيب حسن.
والذي أُحبُّه (2) أن نتخذ هذا الترتيب عماداً، ونبني عليه التعرض، ونقول: إن تعرّضوا للإسلام، وأساءوا لنبينا بما ليس هو من قاعدة دينهم، ففيه وجهان قدمنا ذكرهما، أحدهما - أن ذلك كالقسم الأول. والثاني - أنه كالقسم الثاني، وإن لم يتعرّضوا لديننا، ولرسولنا صلى الله عليه وسلم، ولكن أظهروا، قولهم في المسيح، وذكروا معتقدهم في التثليث، فهذا لا يوجب نقض العهد، ولكنا نؤدبهم لإظهارهم كفرَهم، كما نؤدبهم لإظهار الخمور، والخنازير وإسماعنا النواقيسَ، وإن أظهروا معتقدهم في القدح في الإسلام، وتكذيب نبينا، فهذا مختلف فيه: فمن أصحابنا من جعل هذا بمثابة ما لو قدحوا في الإسلام بما لا يعتقدونه، وهذا بعيد.
ومنهم من ألحق هذا بذكرهم المسيح، وإظهارهم التثليث.
هذا هو البيان التام في ذلك.
وكنت أحب لو قال قائل في القسم الثاني: لا ينتقض العهد بصدور المضرّات، ولكن للإمام أن ينقض عهدهم إن شاء. ولم يصر إلى هذا أحد في هذا الفصل، والقول به ممكن؛ فإن من أصحابنا من يجوز للإمام أن ينبذ الذمة، إذا ظهرت منهم تهمة تجر ضرراً، كما سنذكره. إن شاء الله. فكان لا يبعد أيضاً أن يصح من الإمام شرط النقض إن شاء، لست أعني شرط الانتقاض، فإن ذلك قضينا منه الوطر.
__________
(1) زيادة من (هـ 4).
(2) (هـ 4): " والذي يتجه ".

(18/44)


11468 - ثم إذا انتقض عهد الذمي، فقد أطلق الأصحاب قولين: في أنا هل نغتالهم أو نُبلغهم مأمنهم؟ وهذا لا يكشف الغطاء، فالوجه أن نقول: إذا كان انتقاض عهدهم سبباً لقتال علينا، فقد صاروا حرباً في دار الإسلام، [فلا] (1) نلبّث، وليس إلا البدار إلى اصطلامهم، وليس هذا محل القولين.
وإن أتَوْا بما اشتمل عليه القسم الثاني، وقلنا: بانتقاض عهودهم، فهل نقاتلهم، أو نبلغهم مأمنهم؟ فعلى قولين: أحدهما - أنا نغتالهم، فإنا إذ كنا نقضي بانتقاض عهدهم تغليظاً عليهم لما أقدموا عليه من الجرائم، فيليق بهذا المقام أن نستأصلهم، أو نغتالهم.
والقول الثاني - أنا لا نغتالهم؛ فإنهم لم ينابذونا، ولم يصيروا حرباً لنا. ويجوز أن يقال: انتقض عهدهم، فأما ألا تبقى عُلقة يتبلغون بها فهذا سرف.
ولو نبذ الذميّ العهدَ ورام الالتحاق، ولم يضر بأحد، فقد قطع المحققون بأنا نُبلغه المأمَن، وفي تعليق [معتمد] (2) عن القاضي إجراء القولين هاهنا أيضاً، وهذا هفوة.
والمسائل موزعة على ثلاث مراتب: إحداها - المنابذة، ونصب القتال، ومصيره حرباً، فهاهنا لا اختلاف في الاغتيال والاستئصال في النفس والذرّية والمال.
والمرتبة الثانية - في انتقاض العهد بالمضرات التي ليست منابذة، والقولان يجريان هاهنا في الاغتيال ووجوب تبليغ المأمن.
والمرتبة الثالثة - في نبذه العهد ليلتحق بدار الحرب، والوجه هاهنا القطع بوجوب تبليغه. ومن أجرى القولين في هذا القسم، فقد أبعد، ووجهه على بُعده أنه لو (3) نبذ العهد حربيٌّ بلا أمان، وكان يمكنه أن ينطلق إلى دار الحرب من غير نبذ العهد، فإذا نبذه أمكن على هذا التقدير إجراء القولين.
هذا منتهى الكلام في نواقض العهود وما يتعلق بأطرافها.
__________
(1) في الأصل: " ولا ".
(2) زيادة من (هـ 4).
(3) في (هـ 4): " بعد".

(18/45)


11469 - ونحن نختم هذا الفصل بأمر يتعلق بالمسلمين: قال الأئمة: من ذكر الله تعالى بسوء، وكان ذلك مما يوجب التكفير بالإجماع، فالذي صدر منه رِدّة، فإذا تاب، قُبلت توبته.
11475 - ولو سبّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بما هو قذفٌ صريح، كفر باتفاق الأصحاب، قال الشيخ أبو بكر الفارسي في كتاب الإجماع: لو تاب، لم يسقط القتل عنه؛ فإنّ حدّ من يسبّ رسول الله صلى الله عليه وسلم القتلُ، فكما لا يسقط حدّ القذف بالتوبة، فكذلك لا يسقط القتل الواجب بسب النبي صلى الله عليه وسلم بالتوبة، وادعى فيه الإجماع، ووافقه الشيخ أبو بكر القفال.
وقال الأستاذ أبو إسحاق: كفر بالسبّ، وتعرض للسيف تعرض المرتد، فإذا تاب، سقط القتل.
وقال الشيخ أبو بكر الصيدلاني: إذا سبّ الرسول صلى الله عليه وسلم، استوجب القتل، والقتلُ للردّة لا للسبّ، فإن تاب زال القتل الذي هو موجَب الردّة، وجُلد ثمانين، هذه طُرق الأصحاب في ذلك.
11471 - والغرض لا ينكشف في هذا إلا بمباحثةٍ وغوصٍ فنقول: من سبّ محصناً وله ورثة قاموا بطلب الحدّ، ولو لم يكن للمقذوف ورثة، فهل نقول: يرث المسلمون الحدّ، وينوب الإمام عنهم، واشتهر القولان في أن من قُتل وليس له وارث خاص، فهل يجب القصاص على قاتله؟
ذهب بعض الأصحاب إلى أن نفي القصاص خارج على أن في المسلمين صبياناً ومجانين وغُيّباً، والعقوباتُ على الدّرء، ولعل الأصح أن القولين مخرجان على قاعدة أخرى، وهي أن المال مصروف إلى جهة المصالح؛ إذ لا سبيل إلى تعطيلها، وأَوْلى الجهات ما يعم الكافّة، وهي المصالح، وأما القصاص فلا ضرورة في إقامته؛ حيث لا يطلبه معين، وينشأ من هذا أن الإمام لو أقامه، لكان بين أن يتحتّم عليه الاقتصاص؛ فيلتحق بالحدود، وبين أن يتخير ويردّ الأمر إلى الاستصواب والاجتهاد، وهذا بعيد عن قياس القصاص.

(18/46)


فإذا تمهّد هذا، قلنا: إذا قُذف المحصن، فلا يبعد خروج إقامة الحد على ما ذكرناه في القصاص، والمسلك الذي ذكره بعض الأصحاب في القصاص من أن المسلمين لا يخلون عن صبيان ومجانين لا [يستدّ] (1) في حد القذف؛ فإنه يستقلّ بطلبه كلُّ مَنْ يقوم به، هذا قولنا في سبّ من لا وارث له.
فلو سب شقيٌّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم، ثم تاب، فإن قلنا: لا يسقط القتل كما ذكره الفارسي، فلا بُعد، وللرسول صلى الله عليه وسلم عصبات من بني أعمامه، فلو سلكنا بهذا مسلك حد القذف، فيلزم سقوطه بإسقاط الورثة، وإن قيل لا ينحصر ورثته، فيجب أن يتوقف استيفاء الحد على طلب واحد؛ فإن ذلك ممكن، والاجتماع ليس شرطاً في الطلب، ويلزم أن يخرج هذا على الخلاف في قذف محصن ليس له وارث خاص.
وهذا خبط وتخليط، ولا يتجه عندنا إلا مسلكان: أحدهما - ما قاله الفارسي وهو في نهاية الحسن، ولكنه مبهم بعدُ؛ فإنه أطلق فقال: حَدُّ من يسبّه القتلُ، وهذا فيه نظر؛ فإن الحدود لا تثبت بالرأي، وقد ورد في الأخبار: " من سبّ نبيّاً فاقتلوه، ومن سبّ أصحابه فاجلدوه " (2) ولكن مع هذا لا يمكن القضاء بكونه حدَّ قذف، ولكنه هو قتلٌ بسبب هو رِدّة، وهو متعلق بتعظيم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا تصح التوبة عما يتعلق بحق الآدمي، وهذا مراد الفارسي. هذا مسلك.
والآخر - أنه ردّة، والتوبة عنه كالتوبة عن الردة، والوقيعة في رسول الله صلى الله عليه وسلم كذكر الله تعالى بالسوء. فإن قال قائل: أحبطتم حكم قذفه بالتوبة قلنا: قدره أعلى من أن يجعل سبّه كسبِّ غيره، وإذا جعلنا سبّه ردّة، فليس بعد ذلك مرتبة،
__________
(1) في النسختين: يستمر. وهو تصحيف جرى في هذا اللفظ بصورة شبه دائمة.
(2) خبر " من سبّ نبياً فاقتلوه ومن سبّ أصحابه فاجلدوه " وجدناه بلفظ " ... ومن سبَّ أصحابي ... "، قال الهيثمي في المجمع: " رواه الطبراني في الصغير والأوسط عن شيخه عبد الله بن محمد العمري، رماه النسائي بالكذب ". والحديث حكم عليه الألباني بالوضع (ر. الأوسط للطبراني: 6/ 305 ح 4599، والصغير: 137، المجمع: 6/ 260، كنز العمال: 32478، سلسلة الضعيفة للألباني: ح 206).

(18/47)


ثم إن عَظُم سقوطُ موجب الردّة على إنسان، عورض بالرّدة بذكر الله تعالى بالسوء، وما ذكره الصيدلاني من بقاء ثمانين جلدة تعرض منه لقياس جزئي في الفقه، وليس هذا موضعه، والدليل عليه أنه لو لم يتب، للزم أن يجلد، ويقتل: الجلد لقذفه والقتل لردته، هذا منتهى المراد في ذلك.
11472 - قال شيخنا: من كذب عمداً على رسول الله صلى الله عليه وسلم كفر، وأريق دمه، أما التكفير بالكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم فزلّةٌ عظيمة، ولم أر ذلك لأحد من الأصحاب، وإنما ذكرت ذلك لأنه [كان] (1) لا يخلي عنه الدرسَ إذا انتهى إلى هذا المكان، وقد ورد خبر يعضد ما ذكره من إراقة الدم: " روي أن رجلاً انطلق إلى طائفة من العرب وأخبرهم أنه رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأكرموه، ثم وفدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم [وأخبروه] (2) بأمره فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتله إذا رجعوا إليه "، وفي الحديث أنه قال: " وما أراكم تدركونه، فلمّا رجعوا ألفوه هالكاً قد أهلكته صاعقة " (3) ووجه التعلّق بالقصة من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتله.
ونحن نقول: أما التكفير، فهفوة. وأما القتل، فلا وجه له أيضاً، والوجه حَمل أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم على معرفته بأن ذلك الرجل كان منافقاً، ولا وجه لإثبات كفرٍ لا أصل له، ولا لإثبات قتلٍ لا مستند له.
__________
(1) زيادة من (هـ 4).
(2) في النسختين: " وأخبرهم ".
(3) حديث قَتْل الرجل الذي ادعى أنه رسولُ رسول الله صلى الله عليه وسلم رواه البغوي في معجمه من حديث بريدة، ومُسدد في مسنده من حديث محمد بن الحنفية، ورواه أحمد، والطبراني.
قال الحافظ بعد أن ذكر الطُّرق: " وادعى الذهبي في الميزان أنه لا يصحّ بوجه من الوجوه.
ولا شكّ أن طريق أحمد ما بها بأس، وشاهدها حديث بريدة، فالحديث حسن " ا. هـ (التلخيص: 4/ 232 ح 2320، خلاصة البدر المنير: 2/ 364 ح 2611).
هذا ونقل الحافظ في التلخيص عبارة الإمام قائلاً: قال إمام الحرمين: " هذا محمول على أن الرجل كان كافراً ". والإمام -كما ترى- حمل الأمر بقتله على أنه كان منافقاً.

(18/48)


11473 - ولو تعرض متعرض لرسول الله صلى الله عليه وسلم بوقيعةٍ ليست قذفاً صريحاً، ولكنه تعريضٌ موجَبُ مثله التعزير، فالذي أراه أنه كالسب الصريح؛ فإن الاستهانة بالرسول كفر.
ثم ينقدح فيه تحتم القتل حتى لا يسقط، ويجرى فيه السقوط بالتوبة، وقد ذكرت أن التعرض لحدّ القذف ركيك في هذا المقام. وقد انتجز الفصل.
فصل
قال: " ولا يحدثوا في أمصار المسلمين كنيسة ... إلى آخره " (1).
11474 - قال الأئمة: البلاد قسمان: بلدة ابتناها المسلمون وأثبتوا خِطتها، فلا يمكّن أهل الذمة من إحداث بِيعةٍ أو كنيسة فيها، وكذلك القول في بيوت النيران، فإن فعلوا، نقضت عليهم.
ولو كان البلد للكفار، فجرى عليهم حكم المسلمين، فهذا ينقسم قسمين: فإن فتحه المسلمون عَنْوة وملكوا رقاب الأبنية والعرصات، تعين نقض ما فيها من البيع والكنائس، وإذا كنا ننقض ما يصادَف من الكنائس والبيع، فلا يخفى أنا نمنعهم من استحداث كنائس. ولو رأى الإمام أن تبقى كنيسة ويقر في البلد طائفة من أهل الكتاب، فالذي قطع به الأصحاب منعُ ذلك، وذكر العراقيون وجهين: أحدهما - أنه يجوز للإمام أن يقرّهم ويُبقي الكنيسةَ عليهم. والثاني - أنه لا يجوز له ذلك، وهو الأصح الذي قطع به المراوزة. وهذا إذا فتحنا البلدة عنوة.
فإن فتحناها صلحاً، فهذا ينقسم قسمين: [أحدها - أن يقع الفتح على أن رقاب الأراضي للمسلمين، فهم يقَرون فيها بمالٍ يؤدونه لسكانها] (2) سوى الجزية؛ فإن استثنوا في الصلح البيعَ والكنائس، لم تُنقض عليهم، وإن أطلقوا ولم يستثنوا بيعهم
__________
(1) ر. المختصر: 5/ 198.
(2) ما بين المعقفين سقط من الأصل.

(18/49)


وكنائسهم، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أنها تُنقض عليهم، لأن المسلمين ملكوا رقاب الأبنية، والبيع والكنائس تُغنم كما تغنم الدُّور، كذلك تملك بالشرط المطلق في الصلح. والوجه الثاني - لا نملكها لأنا شرطنا تقريرهم وقد لا يتمكنون من المقام [إلا بتبقية مجتمع لهم] (1) فيما يروْنه عبادة.
وحقيقة الخلاف ترجع إلى أن اللفظ في مطلق الصلح هل يتناول البيع والكنائس مع القرائن التي ذكرناها.
هذا أحد القسمين في القسم الأخير.
القسم الثاني - أن يفتح المسلمون على أن تكون رقاب الأراضي لهم، فإذا وقع الصلح كذلك فلا نتعرض للبيع والكنائس، لأن البلد بلدهم ولنا عليهم الجزى وما يشترطه الإمام على الأصول المقدمة.
وإذا أرادوا إحداث كنائس، فالمذهب أنهم لا يمنعون؛ فإنهم متصرفون في أملاكهم، وأبعد بعض أصحابنا فمنعهم من استحداث ما لم يكن؛ فإن هذا إحداث بيعة في بلدة هي تحت حكم الإسلام.
11475 - هذا بيان ما يتعلق بإبقاء البيع وهدمها، واستحداثها، والكلام بعد ذلك في تمكنهم من العمارة، فإن تصوّرت المسألة بحيث يقرون فيها على كنائسهم ويمنعون من استحداث كنائس وبيع، فقد قال الأصحاب: إذا استرمّت الكنائس، فلا يمنعون من مرمّتها؛ فإنهم لو منعوا من ذلك، لتهدمت الكنائس. ثم اختلف الأصحاب بعد ذلك: فقال قائلون: ينبغي أن يعمروا الكنائس بحيث لا يظهر للمسلمين ما يفعلون؛ فإن إظهار العمارة منهم تربيةٌ (2) منهم للكنائس قريبة من الاستحداث. وقال آخرون: لهم إظهار العمارة، وهو الأصح.
ثم من أوجب عليهم الكتمان قالوا: لو تزلزل جدار الكنيسة [أو] (3) انتقض،
__________
(1) في الأصل: " إلا ببيعة تجمع لهم ". والمثبت من (هـ 4).
(2) تربية: أي زيادة وتنمية.
(3) في الأصل: " ولو ".

(18/50)


منعوا من الاعادة؛ فإن الإعادة ظاهرة، فإذا لم يكن من الانهدام بد، فلا وجه إلا أن يبنوا جداراً داخل البيعة، ثم قد يفضي هذا إلى أن يبنوا جداراً ثالثاً إذا ارتج الثاني، وهكذا إلى أن تفنى ساحة البيعة، وهذا إفراط لا حاصل له، ولست أدري ما يقول هذا القائل إذا أمكن نقض الجدار وإعادته ليلاً، ولا تفريع على الضعيف.
فإن فرعنا على الصحيح وجوزنا العمارة إعلاناً، فلو انهدمت الكنيسة، فهل يجوز إعادتها كما كانت؟ فيه وجهان مشهوران: أحدهما - المنع؛ لأن هذا استحداث كنيسة. والثاني - الجواز؛ لأنها وإن انهدمت فالعرصة كنيسة، والتحويط عليها هو الرأي حتى يستتروا بكفرهم، فإن منعنا إعادة الكنيسة، فلا كلام، وإن جوزنا إعادتها، فهل لهم أن يزيدوا في خِطتها؟ فعلى وجهين: أصحهما - المنع؛ لأن الزائد كنيسة جديدة، [وإن كانت متصلة بالأولى والتفريع فيه إذا كان لا يجوز لهم استحداث كنيسة جديدة] (1).
وإن بقيناهم على كنيستهم، فالمذهب أنا نمنعهم من ضرب النواقيس، فإن هذا بمثابة إظهار الخمور والخنازير، وأبعد بعض الأصحاب فقال: يجوز تمكينهم من ضرب النواقيس؛ فإنها من أحكام الكنيسة، وهذا غلط لا يعتد به.
ولو وقع الشرط على أن تكون رقاب الأبنية في البلدة وعرصاتها لهم، فلا يمنعون من ضرب النواقيس، وإظهار الخمور والخنازير في مثل هذه البلدة؛ فإنها بحكمهم، ولو كان يخالطهم المسلمون، لم يكن لهم أن يعترضوا عليهم، والبلدة في الجملة والتفصيل بمثابة دار الذمي في بلاد الإسلام، ولا يخفى أنه لا يجب البحث -بل لا يجوز- عما يتعاطَوْن في دورهم، قال صاحب التقريب: لا يكلفون الغيار في البلدة التي وصفناها، والأمر على ما قال، وقد فُتحت قرى الشام صلحاً على أن تكون لأهلها، فكانوا يظهرون النواقيس في زمن معاوية وجرت له قصة مشهورة.
__________
(1) زيادة من (هـ 4).

(18/51)


فأما ناووس (1) المجوس فلست أرى أمراً يوجب المنع فإنها [حُوَطٌ] (2) وبيوت يجمع المجوس فيها جيفهم، وليس كالكنائس والبيع التي تتعلق بشعار أديان الكفار. والله أعلم.
فصل
11476 - قال الأئمة: يمنع الذمي من مطاولة أبنية المسلمين ببنيانه، والتفصيل فيه أنه إن أراد أن يطوّل بنيانه المجاور لبنيان مسلمٍ، يمنع من ذلك، لما فيه من الاستكبار على المسلم بالازدياد عليه، وليس ذلك لإمكان اطلاعه، فإنه قد يقدر على الاطلاع وإن لم يطل. ثم ما ذهب إليه الأصحاب أن المنع من المطاولة في هذه الصورة حتمٌ، وليس من حق الجار المسلم حتى يقال: لو رضي به، لجاز له المطاولة، بل هذا من حق الدين.
وقال صاحب التقريب: من أصحابنا من رأى هذا أدباً، ولم يره حتماً؛ ذاهباً إلى أن دار الكفار ملكُهم، فمنعهم من التصرف في ملكهم لا ينقاس، وهذا بعيد غير معتد به.
ولو سوّى الكافر داره مع دار المسلمين ففي بعض التصانيف وجهان: أحدهما - أنه يمنع من المساواة، كما يمنع من المطاولة. والثاني - أنه لا يمنع من المساواة.
وكل ما ذكرناه فيه إذا أراد أن يستحدث بناء يطاول به، فلو اشترى داراً مطلة على
__________
(1) هـ 2: ناقوس، وكذلك في الشرح الكبير، والروضة نقلاً عن الإمام، وهو تصحيف أُراه من النساخ وليس من الرافعي والنووي، فليس للمجوس ناقوس.
والناووس: على وزن فاعول: مقبرة النصارى (قاله في المصباح) وفي اللسان، ومثله المعجم: هو صندوق من خشب أو نحوه يضع النصارى فيه جثة الميت، وهو مقبرة النصارى أيضاً.
وهو عند الإمام -كما ترى- مقبرة المجوس.
(2) في الأصل: " محوط " وغير مقروءة في (هـ 4). وحُوَط: جمع حُواطَة: كل ما تحوطه بجدار ونحوه.

(18/52)


الدور من جوانبها، وكانت لمسلم، فالذي رأيته متفقاً عليه للأصحاب أنه لا يمنع من سكون الدار التي اشتراها، ولا يكلف أن يحط من سمت أبنيتها، بل يتركها كما اشتراها، ويسكنها، والذي ذكرناه فيه إذا كانت دار الكافر بقرب دار أو دورٍ للمسلمين.
فأما إذا كان للذمي دار في طرف البلد لا تجاور أبنية المسلمين، فالذي قطع به الصيدلاني أنه لا يمنع الكافر من إطالة سَمْك (1) هذه الدار " فإن المطاولة هي المحرمة، وهذا المعنى إنما يتحقق في الدور المجاورة.
وقال أيضاً: لو كان للكفار حارة مخصوصة بهم لا يخالطهم فيها مسلم، فإذا أراد الكفار إطالة أبنيتهم في حارتهم، فلا يمنعون، وما ذكروه فيه إذا لم تكن (2) الحارة مجاورة للحارات، بل منفردة لا تجاور سائر المحال.
وحاصل ما ذكره أن الممنوع معنى المطاولة، وهو من قولهم: طاولته، فطلته، وإنما يتحقق ذلك عند فرض تناسب، ومن ضرورته أن يكون بين بنائه وبناء المسلم تقارب، وأطلق بعض الأصحاب المنعَ عن تطويل البناء، وليس له وجه يرتضى، فلا يحمل إطلاق من أطلق إلا على الغفلة عن التفصيل الذي ذكره الصيدلاني.
فإن اعتقد معتقِد تعميمَ المنع، فالممكن في تقريبه وتوجيهه أن الكافر إذا أظهر في تطويله البناء ما يبين منه التميّزُ بالخيلاء والسرف في الزينة والمسكن، فيمنع كما يمنع من مساواة المسلمين في ركوب الخيل واتخاذ السُّرُج والمراكب النفيسة، وهذا أصلٌ لا بأس به، ولكن لا ينبغي أن يلتزم صاحبه تقصير شأنه عن أقصر بنيان في البلدة، ولكن الممكن فيه أن يُمنع من إظهار الزينة بالإطالة، ولا يخفى درك ذلك.
ويبقى مع هذا الفرق بين المجاورة والانفراد، فإذا جاور دار مسلم أُمر برعاية مناسبة تلك الدار والانحطاط عنها، والاكتفاءِ بمساواتها، لظهور المطاولة، عند المجاورة، وهذا لا يراعى مع الانفراد.
__________
(1) السَّمك بفتح السين: البعد الثالث بعد الطول والعرض، وُيعنى به الارتفاع. (معجم).
(2) هـ 4: " إذا كانت ".

(18/53)


ولو كان الذمي في جوار حجرة لضعفة المسلمين على نهاية القصر، فهل يكلف الحط عنها، أو مساواتها؟ ظاهر ما ذكره الأصحاب أنه يكلف ذلك، وفيه نظر للناظر، والله أعلم.
فصل
في الغيار
11477 - اتفق الأصحاب أنا نأمر الكفار بالتميز عن المسلمين بالغيار، وتفصيل ذلك إلى رأي الإمام، وقال الأصحاب يمنعون من ركوب الخيل، ويكلّفون ركوبَ الحمر، والبغالُ النفيسة التي يتزين بركوبها في معنى الخيل، وينبغي أن تتميز مراكبهم عن المراكب التي يتزين بها [الأماثل والأعيان] (1) من أهل الإيمان. وقيل: ينبغي أن تكون ركابهم الغَرْز وهو ركاب الخشب، ثم يضطرون إلى أضيق الطُرق، فلا يمكنون من ركوب سَرارة (2) الجادّة (3) إذا كان يطرقها المسلمون، وإن خلت عن زحمة الطارقين من المسلمين، فلا حرج.
ثم تكليفهم التميز بالغيار واجب؛ حتى لا يختلطوا في زيّهم وملابسهم بالمسلمين فيكرموا إكرامهم، ويفاتحوا بالسلام.
وما ذكرناه من تمييزهم في الدّواب والمراكب مختلف فيه: فقال قائل: تكليفهم التميّز بها حتم كما ذكرناه في الغيار، ومنهم من جعل ما عدا الغيار أدباً؛ ثم إذا رأى الإمام ومن إليه الأمرُ ذلك، فلا معترض لهم، وليس يسوغ إلا الاتباع.
وهل يجب على المرأة منهم أن تتميز بالغيار إذا برزت؟ فعلى وجهين: أحدهما - أن ذلك لا يجب، لأن بروز النساء محمول على النادر، وذلك لا يقتضي تميزاً في الغيار.
__________
(1) في الأصل: " المراكب والأغياد ". كذا تماماً.
(2) سَرارة: بفتح السين، أوسط الشيء وأحسنه، والمعنى هنا: وسط الطريق. (المعجم).
(3) هـ 4: " الجواد " جمع جادّة: وهي الطريق.

(18/54)


وإذا دخل الكافر حمّاماً فيه مسلمون، وكان لا يتميز عمن فيه بغيار وعلامة، فالذي رأيته للأصحاب منعُ ذلك، وإيجاب التميز في هذا المقام أولى؛ لأن الكافر ربما يلوث الماء ويفسده على حكم دينه، بحيث لا يُشعَر به.
ودخول الكافرة الحمام الذي فيه المسلمات من غير غيار يُخرَّج على الخلاف الذي ذكرناه.
وكان شيخي يقول: لا يمنع أهل الذمة من ركوب خسيس الخيل، ولو ركبوا البراذين التي لا زينة فيها لخسّتها، والبغال على هذه الصفة، فلا منع، والحمار النفيس الذي يبلغ ثمنه مبلغاً إذا ركبه واحد منهم، لم أر للأصحاب فيه منعاً، ولعلهم نظروا إلى الجنس [ومن الكلام الشائع: ركوب الحمار ذُل وركوب الخيل عِزّ، والعلم عند الله تعالى] (1).
11478 - ثم ذكر الشافعي " أن الأمام أَوْ مَنْ إليه الأمر من جهة الإمام في الناحية يأمر حتى يُثبت أسامي أهل الذمّة في ديوان، ويكتب فيه حُلاهم ويعرِّف عليهم عرفاء " (2)؛ حتى لو مات واحد منهم بان بموته نقصان ما كان يخصه، ولو بلغ واحد منهم أثبتت جزيته في الديوان، ولا يخفى مضمون هذا الفصل، ومقصوده، ووجوب رعايته لشدة الاحتياج إليه في مراعاة الضبط.
فصل
يجمع مسائل في عقد الذمة خلت عنها الفصول
وهي تخامر فكرَ الفطن إذا لم تكن مجموعةً عنده، وتجرّ إليه إشكالاً، فنقول:
11479 - على الإمام ألا يقبل الجزية ابتداءً مع ظهور توقع الشر ممن يَبْذلها، وهذا يظهر من وجوهٍ: منها أن جماعةً من أهل النجدة لو توسطوا الخِطّة، وطلبوا أن يُقَروا
__________
(1) ما بين المعقفين سقط من الأصل، وهو في (هـ 4)، ومنها أثبتناه.
(2) ر. المختصر: 5/ 199.

(18/55)


فيها بالجزية، ولا يؤمن أن يناكبوا (1) ويتضامّوا، ولو فعلوا ذلك، لم يؤمن استيلاؤهم على الناحية، فحقٌّ على الإمام أن يرعى هذا ومثلَه، والرأي إن أراد قبول الجزية أن يبدِّدهم في البلاد، ويأمر من يراعيهم، ولو غلب على ظنه أن الرجل الفرد الذي يبتغي الجزية طليعةٌ أو جاسوس، فلا يقبل منه الجزية.
والمعتبر في القاعدة أنه إذا غلب على رأي الإمام وظنِّه توقّع الشر، فليس له أن يعقد الذمة، وإذا لم يظهر له ضرر، عقدها، وأثبتت الجزية، وذكر الأصحاب أنهم لو كانوا يضيقون المساكن والمرابع ومرافق البلدة بكثرتهم، وكانوا لا يحاذرون من جهة نجدتهم، فهذا محتمل، والجزية مقبولة.
11479/م- ولو عقد الوالي الذمة، ولم يذكر مقدار الجزية، فالأصح فسادُ الذمة، وأبعد بعض الأصحاب، فصحّحها، ونزّلها على أقل الجزية، وهو دينار في السنة. وهذا غير سديد.
11480 - وذكر بعض الأئمة قولين في الذمة المؤقتة وأطلق بعضُهم وجهين فيها:
أحدهما - أنها فاسدة؛ فإن مبنى الذمة على التأبيد في وضعها، فلا يجوز تغيير وضع الشرع [ومخالفة العهود] (2). والثاني - تصح الذمة. ولسنا نعني العهدَ؛ فإن العهد العريّ عن الجزية لا يجوز إلا مؤقتاً، على ما سيأتي التفصيل في المهادنة، إن شاء الله تعالى، وإنما المعنيُّ ذمةٌ مشتملة على ضرب الجزية فُرض تخصيصها بسنة أو سنتين، فالظاهر المشهور المنع، ومن صحح والتزم، لم يعدم القياس. ثم أثر التصحيح [الالتزامُ] (3)، ووجوبُ الوفاء بموجب التأقيت.
ولو أفسدنا الذمة، قضينا بأنها غير لازمة، ولكنهم لا يُغتالون، ويُبْلغون المأمن، وإن طلبوا ذمة مؤبّدة أُسعفوا بها.
ولو أقت الوالي الذمةَ إلى وقت مجهول مثل أن يقول: أُقرّكم بالذمة ما شئت،
__________
(1) هـ 4: " ينالوا ". وناكب الطريق انحرف عنه.
(2) في الأصل: " وتخالف العهود ".
(3) في الأصل: " الإلزام ".

(18/56)


فمن لم يمنع التأقيتَ، لم يمنع هذا، ومن منع التأقيتَ على صيغة إعلام الوقت اختلفوا في هذا، وسبب الاختلاف ما روي: " أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأهل الكتاب في جزيرة العرب: أقركم ما أقرّكم الله " (1) والوجه منعُ هذا منا إذا منعنا التأقيت، وحملُ قول رسول الله صلى الله عليه وسلم على توقع النسخ، وكانت جملة الأحكام القابلة للنسخ في زمنه على التردد من جهة إمكان النسخ، وهذا لا يتحقق من غيره.
ولو قال في عقد الذمة: أقركم ما شئتم، فهذا جائز لا منع فيه؛ فإنه مقتضى العقد؛ فلأهل الذمة المشيئة في نبذ العهد إلينا متى شاؤوا، فالتفويض إلى مشيئتهم تصريحٌ بموجب العقد.
11481 - ولو عقد الإمام لهم الذمة، ثم رابه منهم أمر لو ظهر في الابتداء، لما عقد الذمةَ، ولكن لم يتحقق، فهل له أن ينبذ العهد إليهم والحالة هذه؟ ذكر المحققون وجهين: أحدهما - أنه يجوز بل يجب كما تجب رعاية ذلك في الابتداء.
والثاني - لا يجوز؛ فإن الذمة إذا لزمت، بَعُدَ [أن] (2) نجوّز الهجوم على نقضها من غير ثبت.
وهذا عندي فيه إذا كان الأمر المحذور مما يمكن تداركه، فأما إذا كان يتوقع أمر يعظم أثره، ويخاف منه ما يبعد تداركه، فيجب القطع بنبذ العهد إليهم في الدوام، وهذا بيّن في حكم الإيالة.
11482 - ولو عقد الإمام ذمةً على الفساد وذكر الجزية، فمن مقتضى الفساد في الذمة ما قدمناه من أنه لا يلزمه الوفاء، قال الأئمة: إذا لم يصح عقد الذمة، فلا تثبت الذمة المسمّاة، وإنما الرجوع إلى دينار على كل حالم في السنة، حتى لو بقوا على
__________
(1) حديث " أقرّكم ما أقرَّكم الله " رواه البخاري من حديث ابن عمر، ومالك في الموطأ عن ابن المسيب (ر. البخاري: الحرث والمزارعة، باب إذا قال رب الأرض: أقرك ما أقرك الله، ح 2338. وكتاب الشروط، باب إذا اشترط في المزارعة إذا شئت أخرجتك، ح 2730.
الموطأ: 2/ 703. التلخيص 4/ 225 ح 2302).
(2) زيادة اقتضاها السياق حيث سقطت من النسختين.

(18/57)


[حكم] (1) الذمة عندنا سنة أو أكثر، فالكلام على ما ذكرناه من مقابلة كل سنة بدينار في حق كل رجل، فقد قدمنا أن عقد الذمة إلى صاحب الأمر، ولو تولاّه آحاد المسلمين، لم يلزم، ولم يثبت ولكن سبيله كسبيل الأمان، فلا اعتبار، ويُبلغ المؤمن المأمن، كما نفعله في الأمان.
11483 - ولو بقي الكافر سنة على حكم أمان الواحد من المسلمين، ففي وجوب الجزية عليه وجهان، ثم إن أوجبناها، فهي دينار في السنة.
ولو اندس واحد من الكفار فيما بيننا وبقي سنة أو سنتين، ثم شعرنا به وعثرنا عليه، فالذي رأيته للأصحاب أنا لا نأخذ منه شيئاً لما مضى، ولا نجعله بمثابة من سكن داراً سنة مغتصباً؛ فإن عماد ثبوت الجزية القبول، وهذا الداخل المتولّج فينا حَربي، لا أمان له، فلا يتحقق إلزامه من غير التزام، فإذا عثرنا [عليه] (2) فإن لم يبذل الجزية ولم نبذل الذمة، قتلناه على مكانه، وغنمنا ما معه؛ فإنه حربي لا أمان له، ولو بذل الجزية، يعني التزمها، وطلبَ الذمةَ، فالذي ذهب إليه الأصحاب أنا نبذلها له، وذكر شيخي وغيره في مثل هذا المقام وجهاً أن الجزية لا تؤخذ؛ فإنه مأسور مقدور عليه واقع في القبضة محفوف بنجدة الإسلام، فكان بذل الذمة كبذل الأسير، وقد ذكرنا هذا في حكم الأسرى، وهذا وجهٌ حسن، لا ينبغي أن يغفل الفقيه عنه فيما يجريه من التفاصيل.
11484 - ولو دخل الحربي دارنا، وزعم أنه رسول، لم نكلفه إثبات الرسالة بحجة، ولا حجة (3) إلا تصديقُه فيها، وليت شعري ما أقول ولا كتاب معه، وقد غلب على الظن كذبه؛ فإن مخايل الرسل لا تخفى، هذا فيه احتمال، والعلم عند الله تعالى.
ولو ذكر الكافر أنه دخل مستجيراً ليسمع الذكر، فهو مصدّق، ولا تعرض
__________
(1) في الأصل: " عقد ".
(2) زيادة من المحقق.
(3) هـ 4: "وجه".

(18/58)


ولا اعتراض. ولو ذكر الحربي أن واحداً من المسلمين أمّنه، فهل يصدق في ذلك، أم يكلف إثباتَه بالحجة؟ فيه اختلاف ذكره العراقيون: من أصحابنا من قال: لا يصدق؛ فإن الغالب على من يعتمد أماناً أن يستوثق فيه ببينة؛ إذ ذاك ممكن.
11485 - ومما يدور في الخلَد أن الإمام لو أراد أن يبني الجزية على التبعيض في الأخذ في السنة، حتى يطالب في كل شهر بقسطه من الدينار، أو بما اتفق التزامه، فهذا فيه احتمال مأخوذ مما إذا مات الذمِّي في أثناء السنة، أو أسلم، فهل نقول: يستقر قسط من الجزية في مقابلة ما مضى من أيام السنة؟ فيه قولان ووجه البناء عليهما بيّنٌ.
فهذا ما حضرنا من المسائل التي شذت وانسلّت عن ضبط الأصول في أحكام الذمة.
فصل
قال: " وليس للإمام أن يصالح أحداً منهم على أن يسكن الحجاز ... إلى آخره " (1).
11486 - روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا يجتمع دينان في جزيرة العرب " (2) وقال: " لو عشت إلى قابل، لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب " (3) ثم لم يعش وانقلب إلى رضوان الله تعالى، ولم يتفرغ لذلك أبو بكر؛
__________
(1) ر. المختصر: 5/ 199.
(2) حديث " لا يجتمع دينان في جزيرة العرب " رواه مالك عن ابن شهاب، وعن عمر بن عبد العزيز مرسلاً، ورواه عبد الرزاق عن سعيد بن المسيب مرسلاً أيضاً، ورواه أحمد موصولاً عن عائشة بلفظ " آخر ما عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا يترك بجزيرة العرب دينان " (ر. الموطأ: 2/ 892 - 893، عبد الرزاق: ح 9984، المسند: 6/ 274 - 275، التلخيص: 4/ 227 ح 2307).
(3) حديث " لو عشت إلى قابل لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب " رواه أحمد والبيهقي من حديث عمر، وأصله في مسلم دون قوله: " لئن عشت إلى قابل " (ر. المسند: 1/ 32، البيهقي: 9/ 207، مسلم: الجهاد والسير، باب إخراج اليهود والنصارى من=

(18/59)


للأمور المهمة التي وقعت في زمانه، فلما استخلف عمر ومضى صدرٌ من خلافته أجلاهم، وضرب لمن يقدم منهم تاجراً مقام ثلاثة أيام، وقيل إنما رجع إجلاؤهم إلى ذِكْره (1) لأنه كان بعث ابنه عبد الله إلى خيبر فسحروه، فتكوّعت (2) يده، وقيل: أخرج عمرُ من الجزيرة زهاء أربعين ألفاً من اليهود، فالتحقوا بأطراف الشام. هذا هو الأصل.
ثم مضمون الفصل فيه انتشار، فلا بد من [تفصيل] (3) الغرض، وإيقاعه في فصول. 11487 - فليقع الكلام أولاً في ضبط الجزيرة وذكرها، فنقول: الطريقة المشهورة أن الجزيرة تعني مكة، والمدينة، واليمامة ومخاليفَها المنسوبة إليها، ثم قال الأئمة على هذه الطريقة: الطائف ووَجّ وما يعزى إليهما منسوبة إلى مكة معدودة من الجزيرة، وألفيتُ في التقريب التهامة (4)، والغالب على الظن أنها تصحيف اليمامة؛
__________
=جزيرة العرب، ح 1767، التلخيص: 4/ 228 ح 2308).
(1) كذا في النسختين، وهي بمعنى تذكّره، أي رجع إخراجهم إلى تذكره، ويظهر هذا المعنى من سياقة البخاري للحديث، حيث ساقه على النحو الآتي: " عن مالك عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: لما فُدِعْت بخيبر، قام عمر رضي الله عنه خطيباً في الناس، فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم عامل يهود خيبر على أموالها، وقال: نقركم ما أقركم الله، وإن عبد الله بن عمر خرج إلى ماله هناك فعُدي عليه في الليل، ففدعت يداه، وليس لنا عدو هناك غيرُهم، وهم تهمتنا، وقد رأيت إجلاءهم ... الحديث " (ر. البخاري: كتاب الشروط، باب إذا اشترط في المزارعة: إذا شئت أخرجتك، ح 2730. وأحمد: 1/ 15، والسنن الكبرى: 9/ 7). ولكن ليس في الحديث أنهم سحروه، بل فيه أنهم عَدَوْا عليه.
(2) تكوّعت يده: أي اعوجّت، وهي من رواية الحديث بالمعنى، فلفظ الحديث: " فُدعتُ " والفدع هو عوج في المفاصل، كأنها فارقت مواضعها، وأكثر ما يكون في رسغ اليد أو القدم (المعجم).
(3) في الأصل: " تفسير ".
(4) علق ابن الصلاح في (مشكل الوسيط) على قول الغزالي: " وفي بعض الكتب: (التهامة) " قائلاً: " وما ذكره من تصحيف اليمامة بالتهامة قد ذكره أيضاً شيخه، وهو غلط موشح بعجمة؛ فإن " التهامة " لا تدخلها الألف واللام، و" اليمامة " تدخلها الألف واللام، والله أعلم ".
ا. هـ بنصه (ر. مشكل الوسيط: 2/ورقة: 131/ب) عن هامش الوسيط: 7/ 66 هامش رقم (8).=

(18/60)


فإني لم أر لليمامة ذكراً، وهي من الجزيرة باتفاق الأصحاب، ولا شك أن خيبر من الجزيرة، ومنها الإجلاء في زمن عمر وهي من مخاليف المدينة.
وأما أهل العراق فقد قالوا: الحجاز: مكة، والمدينة، واليمن. والحجاز من الجزيرة، وجزيرة البحر تمتد إلى أطراف العراق من جانب، وأطراف الشام من جانب، وسميت هذه الرقعة المتسعة جزيرة لإطافة البحر بمعظم جوانبها واتصالها بالأنهار العظيمة كدجلة والفرات من جانب العراق، فكأنها مكفوفة عن البقاع بالمياه، ثم قالوا: والحجاز من جملة الجزيرة، ومعناه ما ذكرناه.
وكان شيخي يقول: " الحجاز والجزيرة واحد، والذي نقل في الأخبار: " لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب " ولم يتعرض صلى الله عليه وسلم في اللفظ للحجاز " (1).
وهذا تردد في اللفظ، والذي يدخل تحت الضبط ما نصفه (2): فلا خلاف بين الأصحاب أن الموضع الذي يمنع الكفار من الإقامة فيه لا ينتهي إلى أطراف العراق والشام، سواء سمّي جزيرةً أو لم يسمّ، وإنما المواضع التي يُنهى الكفار عن المقام
__________
=قلت: وفي كلام ابن الصلاح تحامل واضح، غير غريب، بل هو معهود منه في حق إمام الحرمين؛ وذلك أن التصحيف يكون عند عجز الناسخ عن قراءة الكلمة، فيرسمها كما يتخيلها، أو كما يسبق ذهنه إليها، والكلمات المصحفةُ الشأنُ فيها أنها غير مقروءة، لا بعربية، ولا بعجمة.
بل إن إمام الحرمين علل لتغليب وقوع التصحيف تعليلاً جيداً، وذلك قوله: " فإني لم أر لليمامة ذكراً في الكتاب (التقريب) وهي من الجزيرة باتفاق الأصحاب " ا. هـ فإذا لم يذكر صاحب التقريب " اليمامة " المتفق عليها وذكر (التهامة) أليس ذلك يغلب على الظن أن الناسخ رسم الياء والميم تاءً وهاء، ولم يعنِّ نفسه بالنظر إلى (الألف واللام) تدخل أو لا تدخل، وربما كان في الناسخ عجمة ساعدته على الوهم والتصحيف. أليس ما توقعه الإمام " وغلب على ظنه من التصحيف " أقرب من أن يحمل الخطأ والنسيان على الإمام الجليل صاحب التقريب؟! ولكنه تحامل ابن الصلاح على إمام الحرمين، كما رأينا مظهره في مسائل أخرى من قبل.
(1) إلى هنا انتهى كلام شيخه أبي محمد.
(2) بعد أن عرض إمام الحرمين -كدأبه في كل مسألة- ما قاله الأصحاب، وكل ما روي عنهم يبدأ من هنا في مناقشة ما قيل، ويبين اختياره هو.

(18/61)


فيها على طريقة المراوزة: مكة والمدينة واليمامة، وعلى طريقة العراقيين: مكة، والمدينة، واليمن، والمخاليفُ حكمها حكم البلاد في جميع الطرق، وقد يتجه [عدّ] (1) اليمن من الحجاز؛ لأنه مجتمع العرب وفيها العرب العاربة. هذا منتهى القول في بيان الموضع الذي يمنع الكفار من الإقامة به (2).
وأما الطرق المعترضة التي لا تنسلك في أوساط البلاد المعدودة من الحجاز، ولكنها بين بلدة منها وبلدة، فمن أصحابنا من ألحقها بالحجاز، ومنع الإقامة فيها، وهذا سديد على رأي من يعين البقاعَ وانتساب البعض منها إلى البعض، ويخرِّج عليه [المنع] (3) من الإقامة بين مكة والمدينة، وإن لم يكن موضع الإقامة منسوباً إلى إحدى البلدتين، وكذلك القول في الطرق القاصدة إلى اليمامة.
__________
(1) في الأصل: " عندي ".
(2) مرة أخرى -وفي المسألة نفسها- نجد تحامل ابن الصلاح واضحاً على الإمام، فقد قال بعد أن علق على كلام الغزالي وإمام الحرمين في بيان المواضع التي يمنع أهل الذمة من الإقامة فيها، قال: وإنما أطلت في هذا الفصل بعض الإطالة؛ لإشكاله على الفقيه المجرد، ولأن كلام إمام الحرمين فيه اختلّ، ولم يستدّ على جاري عادته، والله سبحانه المسؤول أعلم " ا. هـ.
ومن يقرأ كلام ابن الصلاح هذا الذي أطال فيه يجده " موشحاً " بسخرية من الإمام، ظالماً إياه محملاً له تبعة ما لم يقله، وإنما نقله عن غيره وأسنده له صراحة، فاسمعه يقول: " وفيما ذكره ذهابٌ منه إلى أن الحجاز وجزيرة العرب واحد، وقد ذكره شيخه (يعني ذكره الغزالي عن إمام الحرمين) وغيره من المراوزة، وليس بشيء، والصحيح المعروف الشائع بين العلماء أن الحجاز غير جزيرة العرب، فالحجاز عبارة عن مكة والمدينة واليمامة ومخاليفها، نص عليه الشافعي ومن لا نحصيه من أصحابه " ا. هـ يعني أن إمام الحرمين يجهل الصحيحَ المعروف الشائع بين العلماء، والذي نص عليه الشافعي ومن لا يُحصى من أصحابه. وهذا كلام إمام الحرمين بين يديك، فهل قال إن الحجاز وجزيرة العرب واحد؟ إن إمام الحرمين -كما ترى- ْنقل هذا الكلام وردّه، ولم يقل به، ثم إن من قال هذا لا يقصد أن جزيرة العرب والحجاز شيء واحد في أصل الوضع والتسمية، وإنما يقصد أن المراد بجزيرة العرب في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم هو الحجاز، وهذا ما فاله ابن الصلاح نفسه، إذ قال: " إذا ثبت هذا، فالمراد بجزيرة العرب -في الأحاديث الواردة في إخراج أهل الذمة- بعضُ الجزيرة، وهو الحجاز " ا. هـ بنصه، فليتأمل. (ر. مشكل الوسيط: 2/ورقة: 131/ب، 1/ 132/أوذلك بهامش الوسيط: 7/ 67).
(3) زيادة من (هـ 4).

(18/62)


ومن أصحابنا من لم يلحق الطرق بالحجاز، وهذا قد يخرج على اعتياد مجتمع العرب؛ فإن الطرق ليست مجتمع العرب، وإنما هي جادّتهم، ومحل طروقهم، وقد انتجز الغرض في بيان الحجاز الذي يمنع الكفار من المقام فيه.
11488 - ثم نأخذ بعد هذا في فن آخر قائلين: الحجاز ينقسم إلى حرم مكة [وغيره] (1)، فأما حرم مكة، فيمنع الكفار من دخوله وتخطيه، وإن قصدوا التجاوز، والانتقال (2)، حتى قال الأئمة: لو وفد رسولٌ، لم يجز أن يؤذن له في دخول الحرم، وإن كان يجوز أن يؤذن للكفار في دخول مساجد البلاد، بل يخرج الوالي إليه، أو يخرج إليه من يوثق به، وكذلك إن أتى مستجيرٌ يستمع الذكر، فسبيله كسبيل الرسول.
والمعتمد فيما ذكرناه قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [التوبة: 28]، والمراد إن خفتم انقطاع التجاير (3) عنكم، وخفتم لأجل ذلك عَيْلة، فاطردوهم واعتصموا بفضل الله تعالى، ثم لا يختص المنع بخِطة مكة، بل يتعلق بالحرم وفاقاً، وحرم المدينة ليس في معنى حرم مكة، وإن كنا قد نلحقه بحرم مكة في الصيود والمنع من عضد الأشجار، فسبيل المدينة كسبيل اليمامة في المقصود الذي نحن فيه.
فأما ما عدا حرم مكة، فلا يمتنع فيه على الكفار طروقها على هيئة الانتقال، ويحرم عليهم الإقامة، ولا يمتنع أن يؤذن لهم في دخولها مجتازين، وإن مكثوا في قرية أو بلدة، فلا يزيدنّ مكثُهم على مكث المسافرين، وهو ثلاثة أيام، من غير احتساب يوم الدخول ويوم الخروج، ولو كانوا يتناقلون من بقعة إلى بقعة ولو قيست أيام تردُّدهم، لزادت على مقام المسافرين، فلا بأس؛ فإن خِطة الحجاز لا يمكن قطعها بثلاثة أيام، حتى قال الصيدلاني وغيره: لا نكلفهم أن يجروا في انتقالهم على
__________
(1) في الأصل: " وغيرها ".
(2) هـ 4: " وإن قصدوا التجارة، ولم يرد الانتقال ". (وهو خلل واضح).
(3) التجاير: التجارات.

(18/63)


المنازل المعهودة، فلو قطعوها فرسخاً فرسخاً، وكانوا يقيمون على منتهى كل فرسخ ثلاثة، فلا منع ولا حجر.
11489 - ويليق بذلك القول في المرض والموت، فمن مرض من الكفار في الحجاز وأراد الإقامة حتى يُفيق، ويستبلّ، نظر: فإن أمكنه أن ينتقل مع مرضه، كُلّف الانتقال، ولو كان يُخاف عليه الموت لو بَرِح، تُرك إلى أن يبرأ، ولو كان يناله مشقة عظيمة، وقد لا يغلب على الظن الموت، فوجهان: أصحهما - تكليف الانتقال.
ولو مات كافر في الحجاز، فإن كان في نقل جيفته مشقة عظيمة، واريناه مواراة الجيف، وإن كان على طرف الحجاز، نُقل، وإن كان دفنه أهلُه، ففي نبش قبره ولحده مع التمكن وجهين: أحدهما - أنه يترك لأنه كالمعدوم الممحَق وإلى البلى مصيره، وليس يبعد عندنا [ألا نمنع] (1) نبش قبره. ولو دخل كافر الحرم من غير إذن، ولكن كان معه تعلق بأمان، فمرض، أخرجناه من الحرم وإن أدى إلى هلاكه. ولو دفنه أهله على اختفاءٍ في الحرم، فكما (2) شعرنا به ننقله، وإن تفتت، جمعناه ونقينا الحرم منه. وهذا نجاز القول في هذا الفن، ونأخذ بعده في غيره، فنقول:
11495 - ما أطلقناه من جواز الدخول مشروط بالأمان، ولا يخفى هذا على المحصِّل، ولكن لا يضر بيانه، فالحربي لو دخل الحجاز أو غيرَه من البلاد، نُظر: فإن كان مستجيراً، أو رسولاً، فحالتُه تؤمنه شرعاً، ولا حاجة إلى عقد الأمان، وإن لم تكن رسالة ولا استجارة، فدخل الحربي للتجارة، فالتجارة لا تؤمنه، فإن كان في أمان مسلم، لم نتعرض له اغتيالاً.
وإن أراد صاحب الأمر أن يؤمن التجار حتى يدخلوا بلاد الإسلام، فليفعل، فلا
__________
(1) عبارة الأصل: " وليس يبعد عندنا نبش قبره "، و (هـ 4):، وليس يبعد عندنا أن لا يرفع نبش قبره "، والمثبت من تصرف المحقق تغيراً، وزيادة.
(2) فكما: بمعنى عندما.

(18/64)


يتأتَّى الأمان العام إلا من جهة صاحب الأمر؛ فإن الواحد من المسلمين إذا قال: أمنت من يدخل دار الإسلام تاجراً، لم نصحّح ذلك منه؛ فإنا أوضحنا أن أمان الآحاد [للآحاد] (1)، والأمن العام إلى الإمام، ومن ينصبه الإمام. ولو زعم الكافر أنه ظن التجارة أماناً، لم نبال به واغتيل، وأُخذ مالُه، ولا معوَّلَ على ظنه، إذا لم يكن له مستند.
ولو كان الكفار سمعوا واحداً من المسلمين يقول: من دخل تاجراً، فهو في أمان، فاعتمدوه، فلا شك في فساد الأمان، ولكن هل يثبت لهم حكم الأمان إذا ظنوه صحيحاً؟ فعلى وجهين: أحدهما - لا يثبت؛ لأن الأمن العام لا يُحتمل من الآحاد، ولو أثبتنا عُلقة الأمان، فقد أثبتنا فائدة الأمان، وإنما يحتمل إثبات العُلقة في الأمان الفاسد إذا كان ثابتاً على الخصوص. والوجه الثاني - لا يخفى وجهه.
ولو عَقدَ واحدٌ من المسلمين ذمةً لكافر، فلا شك في فسادها، والوجه القطع بأن عُلقة الأمان [تثبت للكافر؛ فإن هذا عقدٌ خاص، وإن كان فاسداً. وقد انتجز التنبيه على التشراط الأمان] (2).
والذمي لا حاجة له إلى الأمان في دخول الحجاز إذا كان ينتقل فيها ولا يقيم، والذمة في حقه كافية.
[فنٌّ آخر] (3)
في تعشير أموال الكفار، وهذا غمرة الفصل.
11491 - فنقول: لا يجوز توظيف مال على من دخل رسولاً أو مستجيراً، ولا فرق في ذلك بين الحجاز وغيره من البلاد، والسرّ فيه أن المال يثبت بالشرط، والرسول والمستجير لا يتوقف أمرهما على شرط، فلا ينتظم إلحاق مال بهما. فأما
__________
(1) سقطت من الأصل.
(2) ما بين المعقفين سقط من الأصل، وأثبتناه من (هـ 4).
(3) في الأصل: " من أحد ".

(18/65)


غير الرسول والمستمع للذكر، فلا يجوز للإمام أن يأذن للحربيين حتى يدخلوا بلاد الإسلام، ويترددوا فيها من غير غرض فيه صلاح للمسلمين (1)، والمستجير والرسول متعلّقان بغرض الإسلام؛ فإن الرسول لا بُد منه في الدول، والمستجير نأمل إيمانَه، فأما التردد لأغراض كافرٍ من غير حصول [مقصود] (2)، فلا سبيل إليه، فيضرب الإمام على من يطرق منهم ضريبةً في تجايرهم، ونحن نذكر ما ذكره الأصحاب، ثم نحرص على الضبط.
قال الأئمة: المعاهد إذا دخل بلاد الإسلام تاجراً، أخذنا منه عُشر ماله، هذا ضربه (3) عمر رضي الله عنه (4).
ولو دخل المعاهَد غيرََ الحجاز من غير تجارة، ولكن كان أمَّنه مسلمٌ، لم يطالَب بشيء، وإذا لم يكن بتجارة (5) [فإن] (6) دخل الحجاز على هذه الصورة، فهل يطالب؟ فيه وجهان، وسبب الاختلاف تعظيم الحجاز، وما ثبت له من الاختصاص، ثم إن أوجبنا شيئاً، فلا متعلّق غير الدينار، وهو أقل الجزية.
وهذا عندنا باطل، والوجه القطع بأنه لا يضرب على غير التاجر شيء، ولا أحد يصير إلى تعشير جميع ما معه من ثياب ومركوب.
هذا في المعاهد.
فأما الذمي فلا ضريبة عليه إذا اضطرب في غير الحجاز من بلاد المسلمين؛ فإن الجزية كافية في تثبيت الأمانِ والعصمةِ المؤبدة (7) في النفس والمال.
__________
(1) عبارة (هـ 4): " فيه صلاح للمرسلين، والرسالة والاستجارة تتعلقان ... إلخ ".
(2) في الأصل: " بمقصود ".
(3) (هـ 4): " هذه ضريبة عمر ".
(4) خبر عمر رواه مالك في الموطأ (1/ 281) والبيهقي في الكبرى (9/ 210) وانظر التلخيص: (4/ 233 ح 2327).
(5) هـ 4: " إذا لم يكن تاجراً ".
(6) في الأصل: " وإن ".
(7) هـ 4: " المؤكدة ".

(18/66)


ولو دخل الذمي أرض الحجاز تاجراً، ضربنا عليه نصف العشر، وهذا منقول من نص قضاء عمر (1).
ومن أهم ما يتصل بهذا المنتهى أن نقول: لا يثبت العشر من غير شرط في أصل المذهب، لا خلاف في ذلك إنما التردد في المعاهد في غير الحجاز. (2 وإن دخلوا الحجاز بأمان تجاراً 2) ولم يتفق شرطُ ضريبة عليهم، فقد ذكر العراقيون وجهين: أصحهما - أنه لا شيء عليه، جرياً على ما ذكرناه من اشتراط الضرب والتصريح بإثبات الضريبة، والوجه الثاني - أن العشر مأخوذ منهم، ووجهه عندنا اتباع قضاء عمر، حتى كأنا نعتقد قضاءه ضرباً على من سيكون بعده في حكم القاعدة المثبتة.
11492 - ثم إذا وضح هذا، ألحقنا به فناً آخر، فنقول: صح أن عمر رضي الله عنه ضرب عليهم في تجايرهم العشر -يعني المعاهدين- وضرب عليهم في الميرة نصف العشر، وأراد بذلك تكثير الميرة، فقال الأئمة: إذا رأى الإمام حطّاً من العشر في صنف تمَس إليه حاجةُ المسلمين، فلا بأس تأسياً بعُمَرَ في قضائه، ثم إن رأى رَفْعَ الضريبة [حتى] (3) تتسعَ المكاسب، فهل له ذلك؟ فعلى وجهين: أحدهما - له ذلك جرياً على ما ذكرناه من المصلحة. والثاني - لا يجوز ذلك، ولا بُدَّ من أخذ شيء وإن قل، ولعل هذا هو الأصح.
ثم قال الأئمة: لا مزيد على العشر؛ فإن عمر قنع به، مع ظهور سطوة الإسلام، فدل على أنه رآه الأقصى. وفي بعض التصانيف أن الإمام لو أراد أن يزيد على العشر، جاز له أن يزيد، وانتظم مما ذكرناه أن الأسقاط على المصلحة فيه خلاف، والأصح المنع، والحط من العشر جائز وفاقاً على شرط المصلحة، وفي الزيادة على العشر خلاف.
__________
(1) قضاء عمر في أن على الذمي نصف العشر إذا دخل بتجارته بلاد المسلمين رواه مالك والبيهقي (انظر الحديث السابق).
(2) ما بين القوسين سقط من (هـ 4).
(3) في الأصل: " حيث ".

(18/67)


11493 - فن آخر: قال الأئمة: إذا أخذ الإمام من تاجر ما يراه، فلو أراد أن يكرر عليه الأخذ من ذلك المال في تلك السنة، لم يكن له ذلك، فلتكن الضريبة على المال بمثابة الجزية في السنة الواحدة، ولو جاؤونا بتجارة فعشّرناها، فجاؤونا بأموالٍ أُخر في كرّة أخرى، فلا شك أنا نعشرها، وإنما نمتنع عن التثنية في المال الواحد، ثم إذا أخذنا الضريبة في مال وأراد المعاهد التردد، أعطيناه جوازاً مُؤرَّخاً حتى لا يتعرض له العشارون في السنة.
وذكر العراقيون وجهين في ترديد مالٍ إلى الحجاز في سنة مرتين فصاعداً: أحدهما - أنا نثني العشر لتعظيم الحجاز. وهذا رديءٌ، ثم شَرْط [هذا] (1) الوجه أن يخرج من الحجاز ويعود، فأما إذا كان يتردّد فيه، فلا نثنّيه.
قلت: من لم يضبط المأخوذ بعشرٍ، فلا يبعد على أصله تكريره العشر في سنةٍ أخذاً من تكثير الضريبة، لا من تكريرها، وإذا جاز تكثيرها، فالضريبة التي رأى الإمام ضربها هو بالخيار فيها إن شاء استوفاها دفعة واحدة وإن شاء استوفاها بدفعات.
فرع:
11494 - المرأة المعصومة بذمة زوجها أو بذمة قريبها إذا كانت تتردد متّجرة، فحكمها في تعشير ما معها كحكم الذمي المعنيّ بالذمة، فلا يؤخذ من تجايرها شيء في غير الحجاز، وإن دخلت الحجاز، فهي بمثابة الرجل، كما قدمنا ذكره.
...
__________
(1) زيادة من (هـ 4).

(18/68)


باب نصارى العرب تضعّف عليهم الصدقة
11495 - روي " أن عمر رضي الله عنه طلب من تنوخ وبهراء وتغلب، وهم نصارى العرب الجزية، فقالوا: نحن العرب، فلا نقبل الصغار، والجزيةُ صغار، فخذ منا ما يأخذ بعضكم من بعض -يعنون الصدقة- فقال: إنها طهرة المسلمين، ولستم من أهلها، فقالوا خُذْ بذلك الاسم، وضعِّف ما شئت، فضعّف عليهم الصدقة " (1) هذا أصل الباب.
وأول ما يجب الإحاطة به أن المأخوذ منهم، وإن كان يسمى صدقة، فهو في الحقيقة جزية، ومصرفه مصرف الجزية، ولا يؤخذ من أموال النساء والصبيان، فإذا رأى الإمام أن يأخذ من قومٍ من الكفار عرباً كانوا أو عجماً، ضعفَ الصدقات، وغرضه من المأخوذ الجزيةُ، فليفعل ما بدا له، ولا ضبط، فلو أراد أن يأخذ ثلاثة أمثال الصدقة، ووقع التراضي بها، أو أخذ مثلها، أو مثل نصفها، فلا بأس، والمأخوذ منه يُقابَلُ بالجِزَى المفضوضة على الرؤوس: لكل رجل دينار، فإن وفَّى المأخوذ، فذاك، وإن زاد وقبلوا الزيادة، لزمهم الوفاء بها، كما تمهد، وإن نقص المأخوذ عن مقدار الجزية كلّفناهم بتكميل الجزية على حسب ما ذكرناه.
ولو أراد أن يأخذ منهم مقدار الصدقة، فإن كان أكثر من أقل الجزية، جاز وإن كان مثل الجزية، فالذي اقتضاه قول الأصحاب في الطرق أن ذلك جائز، إذا رآه الإمام؛ فإن الغرض استيفاء الجزية بأي حسابٍ فُرض، وعلى أي وجه قدر، ولا يبعد عندنا أن يقال: إذا لم يكن للإمام غرض ماليٌ فيما يأخذه، فتشبيهه أهل الذمة بالمسلمين في
__________
(1) خبر عمر مع نصارى العرب وقبولهم تضعيف الصدقة فراراً من اسم الجزية، رواه الشافعي (الأم: 4/ 281)، وابن أبي شيبة في مصنفه (3/ 198)، وعبد الرزاق في مصنفه (ح 9974)، والبيهقي (9/ 216) ورواه أبو عبيد في الأموال: (ص 33 ح 71). وانظر التلخيص: (4/ 233 ح2326).

(18/69)


المأخوذ منهم ظاهراً حطٌّ للصغار المعتبر، والأمر في ذلك مفوّض إلى رأي الإمام.
ولو أراد أن يأخذ منهم نصفَ الصدقة، وألفاه زائداً على الجزية، فلا شك في جوازه، وإن كان قدرَ الجزية، فالذي ذكره الأصحاب الجواز، وما أشرنا إليه من ترديد الرأي في ملاحظة إبقاء الصغار عليهم جارٍ هاهنا.
والباب عريٌّ عن الفقه؛ فإن حاصله يؤول إلى أن المأخوذ جزية، فينبغي ألا ينقصَ عن الأقل المعتبر، وإن زاد، قبلنا الزيادة.
11496 - ثم إذا جرى للإمام تضعيفُ قدر الصدقة عليهم، فللأصحاب تصرف في معنى التضعيف راجعٌ إلى التنازع في فحوى الصيغة، وإذا لم يكن مطلوب الباب فقهاً، فلا مبالاة.
ونحن نذكر الآن ما ذكره الأصحاب في معنى التضعيف، فإذا قال الإمام: ضعّفت عليكم الصدقة، فمعناه: ضعَّفتُ عليكم قدرَ الصدقة، وكل ما يجب في مال المسلم يؤخذ ضعفه من مال الكافر، فنأخذ بدل البعير بعيرين وبدل الشاة شاتين، وعلى هذا القياس يجري معنى التضعيف، فنأخذ من خَمسٍ من الإبل شاتين، ومن عشر أربعَ شياه، ونأخذ من خمس وعشرين بنتي مخاض، ولا نقول نأخذ منها حِقة نظراً إلى نصاب الحِقة؛ فإن معنى التضعيف هذا الذي ذكرناه، وكذلك نأخذ من عشرين ثماني شياه، لا بنت لبون، ومن ستين من البقر أربعة أتبعة.
ْوالأصل أن معنى التضعيف يحمل على [ما يجب] (1)، ولا يحمل على الترقي بالسن؛ فإنا ذكرنا أن مطلوب هذا الباب يرجع إلى معنى اللفظ، فلو أخذنا من خمس وعشرين حقة، لم يسمّ هذا تضعيفاً للصدقة، وإنما هو [تضعيف لقدر المال] (2) والأخذ بحسبه، ونأخذ من مائتي درهم عشرة دراهم، ومن عشرين ديناراً ديناراً، ومن الزرع المسقي بالسماء خمساً، ومن الزرع المسقي بالنضح عشراً، وإن ملك
__________
(1) في النسختين: " ما يحسّ ". والمثبت تصرف من المحقق على ضوء المعنى، وعبارة الغزالي في البسيط.
(2) في الأصل: " تقرير تضعيف المال ".

(18/70)


مائتين من الإبل، أخذنا منه عشرَ بنات لبون، أو ثماني حقاق.
قال الأئمة: لا نفرق، فنأخذ خمسَ بنات لبون، وأربع حقاق. كما لا نفرق الصدقة؛ فإن الغرض تقدير الصدقة وتضعيفها.
11497 - واختلف الأئمة في وقص أموالهم وأنه هل يؤخذ منه شيء، مع العلم بأن الوقص لا يجب بسببه زيادة، وحاصل ما ذكره الأئمة ثلاثة أوجه: أحدها - أنه لا يؤخذ منه شيء من الكافر؟ فإن الصدقة هي المضعّفة، فإن لم يكن فيها صدقة، فلا معنى للتضعيف. والثاني - أنا نأخذ من وقص أموالهم على حساب التضعيف، فإنا لا نرعى في حقهم من التخفيف ما نرعاه في حق المسلم. والثالث - أن الأخذ من الوقص إذا كان يؤدي إلى التشقيص مع التضعيف، فلا نوجب، وإن كان لا يؤدي إلى التشقيص، [أخذنا من] (1) الوقص؛ فإن الذي أوجب منع الأخذ من وقص مال المسلم أنا لو أخذنا منه، لأوجبنا شقصاً، واعتباره عسرٌ في الحيوان، فنصبر إلى أن يكمل الواجب الزائد.
فعلى هذا إذا ملك سبعاً ونصفاً من الإبل، فعليه ثلاثُ شياه؛ إذ لا تشقيص على حسب التضعيف، وإذا ملك من الإبل ثلاثين ونصفاً، فعليه بنت مخاض، وبنت لبون، وفي خمس وثلاثين من البقر تبيع ومُسنّة، هذا ما يقتضيه حساب التضعيف، مع الأخذ من الوقص، واجتناب التشقيص.
وبيان ذلك أنه إذا ملك ثلاثين ونصفاً من الإبل فنقدر تضعيف ما يزيد على الخمس والعشرين والزائد على الخمس والعشرين خمس ونصف، فإذا ضعّفنا هذا الزائد تقديراً، بلغ المال ستاً وثلاثين؛ وواجبها بنت لبون، فنوجب بنت مخاض في الخمس والعشرين، ونوجب بنت لبون بتقدير بلوغ المال ستاً وثلاثين، فيتضعف واجب الخمس والعشرين، فإنه يجتمع عليه بنت مخاض وأجزاء من بنت لبون، ويتضعّف الوقص حتى لا يؤدي إلى التشقيص، وهذا ذكره القفّال.
__________
(1) في الأصل: " أخذ من "، (وهـ 4): " أخذنا منه ". والمثبت اختيار المحقق من النسختين.

(18/71)


11498 - والأصلُ ألا نوجب في الوقص شيئاً، فانا ذكرنا أن مضمون الباب مدارٌ على معنى اللفظ، واللفظ المذكور تضعيف الصدقة، وإنما يُضعَّفُ كائن، وإذا كانت الصدقة لا تجب في الوقص، فلا معنى لتقدير التضعيف، ولولا أن البويطي روى عن الشافعي أنه قال: " إذا ملك مائة درهم أخذ منه خمسة دراهم، وإذا ملك عشرين شاة فعليه شاة، وإذا ملك بعيرين ونصفاً فعليه شاة " وكل ذلك مما نص الشافعي عليه في رواية البويطي، فاعتضد بالنص الإيجابُ في الوقص، وبقي النظر في التشقيص، ولولا النص، لحسمنا الباب، ولما أوجبنا في الوقص شيئاً.
ثم من لم يبال بالتشقيص، يقول: من ملك ثلاثين ونصفاً من الإبل، فيجب في الخمس والعشرين بنتا مخاض، ويجب في الخمس والنصف ما يجب في الأحد عشر من أجزاء بنت لبون إذا أضيفت إلى ست وثلاثين.
ومن يجتنب التشقيص ويفرع على الإيجاب في الوقص، فلا يجد [طريقاً لا يتعطل] (1) فيه الوقص، ويجتنب التشقيص إلا ما ذكره القفّال، على ما قدمنا [تقريره] (2) وتقديره.
وفيما ذكره أمر محذور، وهو تضعيف المال، ومساق (3) ذلك يتضمن إيجاب حقة في خمس وعشرين مثلاً، وقد ذكرنا أنا لا نفعل ذلك، بل نوجب بنتي مخاض، ولكن هذه الصورة تتميز عن الخمس والعشرين بما ذكرناه من ضرورة التشقيص، مع أنا لا نريد تعطيل الوقص.
فهذا منتهى المذكور في ذلك.
ومن أوجب في الوقص بعد النصاب زيادةً، أوجب فيما لا يبلغ نصاباً بحساب التضعيف.
__________
(1) عبارة الأصل: " فلا يجد طريقاً إلى ألا يتعطل فيه التشقيص ".
(2) في الأصل: " تقريبه ".
(3) هـ 4: " وسياق ".

(18/72)


فهذا بيان الأَوْجُه، مع العلم بعرُوّ جميع ذلك عن الفقه، ورجوع الأمر إلى التصرف في لفظٍ.
وكل ما لا يناقش فيه مخالفٌ -لو صرّح به في عقد الذمة- يثبت؛ فإن ما يثبت في هذا الباب جزية، وفقه الجزية ألا تنقص عن دينار، والزيادة ممكنة، في الكل والشقص على حسب التراضي، وإن أشكل لفظ رجع إلى معناه من طريق اللسان.
11499 - ولو ملك ستاً وثلاثين ولم يكن في إبله بنتُ مخاض، فالذي يقتضيه قياس التضعيف أنا نأخذ منه بنتي مخاض مع الجبران، وهل يضعّف الجبران؟ اشتهر الخلاف فيه، والصحيح أنا لا نضعفه؛ لأنا قد ضعفناه مرة؛ إذْ أوجبنا بنتي مخاض، وضممنا إلى كل واحدة شاتين أو عشرين درهماً، فلو ضعّفنا الجبران، لكان تضعيف التضعيف في مقدارٍ.
ومن أصحابنا من قال: يؤخذ مع كل بنت مخاض أربعُ شياه، أو أربعين درهماً، وهذا غلط لا نشك فيه، ولا ينبغي أن يعد هذا من المذهب، وإن اشتهر نقله، ولكنه نادرة من رجل مرموق ضَرِي الناقلون بنقلها.
ولو ملك ستاً وثلاثين وليس في ماله بنتُ لبون، وفي ماله حقاق، فنأخذ حِقّتين، ولا بد من ردّ الجبران، ولا خلاف هاهنا أنا لا نقابل كل حقّة بجبرانٍ واحد، فلا تضعيف فيما نردّه ونبذله وإنما التردد فيما نأخذه.
ثم الإمام إذا كان يردّ الجبران، فلا شك أنه يخرجه من الفيء لا من الصدقات؛ فإن المأخوذ من هذا مقصود الباب.
11500 - وقد قدمنا أن الوالي لو أراد أن يزيد على الضعف، أو ينقص، فلا معترض عليه، وذكرنا أن المذهب أنه لا مزيد على العُشر المأخوذ من تجاير المعاهدين اقتداء بعمر، وهاهنا قطعنا بجواز الزيادة على الضعف، والسبب فيه أن الضِّعف ربما لا يفي بأقل الجزية، ولا بد من اعتبار أقل الجزية، والعشر المأخوذ من المعاهَد ليس جزية، ولو قبل المعاهدون أكثر من العشر، أخذنا منهم، كما إذا قبل الذمي أكثر من الدينار، غير أن الذي أراه أن الزيادة تلزم الذمي، كما اتفق الأصحاب عليه، لأنها

(18/73)


ذكرت في عقدٍ، والجزيةُ فيه بمثابة العوض، والضريبة الموظفة على المعاهد ليست في عقد، فإذا بذل لسانُه بمزيد، فيظهر ألا يلزمه الوفاء به، ويلزم العشر؟ اتباعاً للقضاء.
ويجوز أن يقال: يلزم الزائد على العشر بالالتزام؛ فإن الجاري مع المعاهد أمان، وإن لم يكن ذمةً مؤبدة، وكأنا لا نؤمنهم ليحصّلوا أغراضهم من تجاراتهم إلا بمال، كما لا يقر أهل الذمة في خِطة الإسلام إلا بالجزية. هذا قولنا في الزيادة على التضعيف.
11501 - فإن قيل: إنما فعل عمر هذا مع العرب لما أنِفوا من التصريح بقبول الجزية، فهلا قلتم هذا يختص بالعرب حتى لا يجوز مثلُ ذلك مع العجم؟ قلنا: قد ذهب إلى هذا بعض أصحابنا اتباعاً لعمر، وهذا ليس من ثمرات الفقه المحض، وإنما هو أمر سياسي، والذي ذهب إليه جماهير الأصحاب أن ذلك يجوز في العجم، كما يجوز في العرب، وهذا التردد سببه انحطاط الصَّغار، وهو قريب مما قدمناه من تردد الأصحاب في أن التوكيل في أداء الجزية هل يجوز أم لا؟ ولا يبعد أن يتخصص العرب بمزية عن العجم، وهذا كما أن الرّق يجري على العجم قولاً واحداً، وفي جريانه على العرب قولان.
11502 - ثم أعاد الأصحاب في هذا الباب أصلاً قدمنا تمهيدَه، فقالوا: تُقابل الصدقات بالرؤوس، فإن كانوا أغنياء، اعتبرنا لكل رأس ديناراً، وإن كانوا منقسمين منهم الفقراء، فإن أخرجوا عن أنفسهم وعن الفقراء ديناراً ديناراً، وبلغت الصدقة هذا المبلغ أقررنا الفقراء، وإن بلغت الصدقة ما على رؤوس الأغنياء، ففي تقرير الفقراء الكلام المفصّل فيما مضى، ويتعلق بذلك أنهم أدَّوا عن الفقراء، فلا بد من تقدير الضرب على الفقراء وصدر الأداء عن إذنهم.
وما ذكره العراقيون أنهم قالوا: إذا قابلنا الصدقة بالرؤوس فوفت بالدنانير، أو زادت، فلا كلام، وإن كان يعسر علينا هذا التقدير في كل سنة، ولكن غلب على ظننا وفاء الصدقة بالدنانير، فهل نقنع بغالب الظن، أو نرد الأمر إلى التحقيق؟ ذكروا

(18/74)


في ذلك وجهين ولست أرى لمثل هذا الكلام وجهاً مع العلم بأن أقل الجزية دينار، ولا بد من الخروج عنه على تحقيق، ولست أحمل ذلك إلا على نظر ناظر إلى إطلاق تضعيف الصدقة من عمر، فظن هؤلاء أنه كان لا يقيس ما نأخذ بجزية [الرؤوس] (1) في كل سنة، وهذا وَهمٌ وخطأٌ، ولا يليق بعمر رضي الله عنه المجازفة في الأمور.
...
__________
(1) زيادة من (هـ 4).

(18/75)


باب المهادنة
11503 - إذا أراد الإمام أن يهادن جمعاً من الكفار، نُظر: فإن لم يكن بالمسلمين ضعف، فله أن يهادن الكفار أربعة أشهر، وهي مدّة التسييح، قال الله تعالى: {فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} [التوبة: 2]، والذي قطع به الأصحاب أنه لا يجوز تبليغ مدة المهادنة سنة؛ فإنها مدة الجزية، فلا يجوز الكف عن الكفار في مدة الجزية من غير جزية، وذكروا قولين في جواز المهادنة أكثرَ من أربعة أشهر وأقلَّ من سنة: أحدهما - أن المهادنة تصحّ لقصور مدتها عن أمد الجزية، فأشبهت المهادنة على أربعة أشهر.
والثاني - أنها لا تصحّ؛ فإن الأربعة الأشهر منصوص عليها في كتاب الله تعالى، فاتبعناها، ولم نزد عليها.
ومن أصحابنا من قال: المهادنة على ما دون السنة محمولة (1) على ما إذا مات الذمي في خلال السنة، وقد اختلف القول في أنا هل نُلزمه قسطَ ما مضى من الجزية؟ فإن قلنا: لا يجب فيما نقص من السنة [قسطٌ من الجزية] (2)، فالمهادنة جائزة، وإن قلنا: يجب فيما نقص من السنة قسطٌ من الجزية، فلا تصح المهادنة.
ثم قال هؤلاء: لو مضى من سنة الجزية (3) أربعةُ أشهر أو أقل، فمات الذمي، لا يجب في مقابلة الأربعة الأشهر شيء، فإنها مدة التسييح؛ وإن كان يجب ما يقابلها إذا زادت المدة.
وهذا تخليط لا أصل له، ولا فرق بين الأربعة الأشهر وبين الزائد عليها في الخروج على القولين إذا مات الذمي، أو أسلم في أثناء السنة، وينبغي أن يكون
__________
(1) أي مقيسة عليها.
(2) في الأصل: " جزية ".
(3) هـ 4: " الهدنة ".

(18/76)


مأخذ القطع في الأربعة الأشهر في تجويز المهادنة، ومأخذ القولين في الزائد من نص القرآن وهو قوله تعالى: {فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} (1).
وفي بعض التصانيف ذكر قولين في جواز المهادنة على سنة. وهذا غلط، لم أره لأحد من الأصحاب، وإنما الموقفُ السنةُ (2)، فإذا خرج قول في جواز المهادنة سنة - ولا ضعف- فيجب خروج هذا القول في سنتين، فصاعداً، وهذا خرمٌ لقاعدة المذهب (3)، فلا اعتداد به، وهذا ملتحق بالهفوات.
11504 - هذا إذا لم يكن ضعفٌ، فأما إذا كان بالمسلمين ضعفٌ، فللإمام أن يهادن الكفارَ عشرَ سنين، والمتبع فيه سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إذ هادن أهلَ مكة عشرَ سنين على المكافّة، ثم إنهم نقضوا العهد، كما سنصف طرفاً من ذلك، إن شاء الله تعالى، فسار إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولا مزيد على العَشْر.
هذا ما ذهب إليه المحققون.
وحكى صاحب التقريب وجهاً ضعيفاً في جواز الزيادة، ودليل هذا القائل ما جرى لرسول الله صلى الله عليه وسلم تنزيلاً للمهادنة على المصلحة اللائقة بالحال، فليتأمل كل ناظر ما يليق بالاستصواب والاستصلاح.
وهذا وجه مزيف لا تعويل عليه، ولا اعتداد به.
ولو عقد [الإمام] (4) المهادنة وأطلقها، ولم يذكر وقتاً، فإن كان في قوة الإسلام والمسلمين، ففي بعض التصانيف قولان: أحدهما - أن الهدنة تنعقد على أربعة أشهر؛ تنزيلاً لها على أقل المدة اللائقة بالحال. والقول الثاني - أنها تنعقد على سنة، تنزيلاً لها على الأكثر.
__________
(1) المعنى أن من منع الزيادة على الأربعة الأشهر أخذ بمفهوم الآية، ومن أجاز الزيادة إلى ما دون السنة نظر إلى نقصها عن سنة الجزية.
(2) المعنى أن الموقف الذي انتهى التفريع إليه هو السنة، كما يظهر في التعليق الآتي بعده.
(3) المذهب أنه لا تجوز الزيادة على سنة قطعاً، ولا سنة على القول المعتمد في المذهب، ولا يجوز ما بين السنة الأربعةً الأشهر على الأظهر (ر. الروضة: 10/ 335).
(4) زيادة من (هـ 4).

(18/77)


وهذا خطأ من وجهين: أحدهما - تقدير الهدنة على سنة في قوة المسلمين، وقد أوضحنا هذا. والثاني - أن الهدنة لا تختص بالأربعة الأشهر ولا بالسنة، وإن كانت السنة مدةً للهدنة؛ فإنها قد تُعقد على عشرة أشهر فلا معنى للتّحكم بتنزيلها على الأربعة أو على السنة، والوجه القطع بفساد الهدنة.
وقد ذكر صاحب التقريب فيه إذا كان بالمسلمين ضعف وقد أطلقت الهدنة، فالهدنة المطلقة تحمل على عشر سنين، وهذا يناظر ما ذكرناه من حمل الهدنة على سنة إذا كانت القوة للمسلمين.
وكل ذلك باطل، والوجه إفساد الهدنة المطلقة في القوة والضعف جميعاً، لما أشرنا إليه من أن المدة لا يخصصها في الإطلاق لفظ ولا عُرف، ولا أمرٌ شرعي، فالوجه إفسادها، ثم إذا فسدت المهادنة، فأثر فسادها أنها لا تلزم.
ولكن لا يجوز المسير إلى الكفار بغتة من غير إشعارهم بأن لا عهد بيننا وبينهم، وهم ما داموا على ظن العهد آمنون.
ولو زاد الإمام على عشر، والتفريع على أن الزيادة ممتنعة، فلا شك أن الزيادة مردودة، وهل [تفسد] (1) المهادنة على العشر أم تلزم، وتنحذف الزيادة على العشر؟ فعلى قولين: أحدهما - أن الزيادة منحذفة والهدنة لازمة على العشر. والثاني - أن الهدنة فاسدة، وقرّب الأصحاب القولين من قاعدة تفريق الصفقة، فإن العشر مدة الهدنة، فإذا ذكرت مع الزيادة عليها، كان ذلك جمعاً في عقدٍ بين ما يجوز وما لا يجوز. هذا مأخذ القولين.
ثم الأصح تصحيح المهادنة؛ فإنا حيث نُفسد الصفقة بالتفريق، فمعوّلنا ما يؤدي التصحيح إليه من جهالة العوض، وهذا المعنى لا يتحقق في المهادنة، وينضم إلى ذلك ابتناء المعاملة مع الكفار على ضرب من المساهلة لا يحتمل مثله في المعاملات الخاصة الجارية بين المسلمين.
11505 - وممّا يتعلق بقاعدة الهدنة أن الكفار لو طلبوا الهدنة وليست تبعد عن
__________
(1) في الأصل: " تلزم ".

(18/78)


المصلحة والنظر للمسلمين، فهل يجب إجابة الكفار إلى ما يطلبون؟ المذهب أن ذلك لا يجب؛ فإنه ليس للمسلمين منفعة حاقة، بل ينظر الإمام ويقدم ما يراه الأصلح، وليس ما نعلّقه باجتهاد الإمام معدوداً من الواجبات، وإن كان يتعين على الإمام إذا رأى صلاحاً أن يبتدره، ولكن الاجتهاد لا ينضبط، والرأي لا تنحصر مسالكه.
وهذا بمثابة قولنا: لا يجب على الإمام أن يقتل الأسرى من الكفار والمراد به أن الإرقاق، والمن، والفداء ممكن على الجملة، ولا تعيين من جهة الشارع يقطع نظر الناظر واستصواب المجتهد، فالمهادنة مع الكفار كذلك، فإن رأى المصلحة فيها، وإن كانت القوة للمسلمين، فحق عليه أن يُمضي ما يراه، ووجه المصلحة أن يطمع في اختلاط المسلمين بهم، واختلاطهم بالمسلمين وانتشار الدعوة فيهم، وانتشار الدعاة، فلعلهم يرشدون أو بعضهم.
وفي بعض التصانيف أنهم إذا طلبوا الهدنة، وجبت إجابتهم إذا لم يكن منهم مضرّة، وهذا خطأ محض؛ فإن تعيين إيجاب الهدنة والانكفاف عن الجهاد من غير منفعة ناجزةٍ للمسلمين لا معنى له.
11506 - ولو طلب كافر أن يجار ويؤمن ليستمع الذكر، فالذي قطع به الأصحاب أنه تجب إجابته، وقد شهد النص بذلك قال الله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ} الآية [التوبة: 6]، وليس هذا من معنى الهدنة بسبيل؛ فإن الهدنة أمان عام لجيل (1) من الكفار، وما ذكرناه الآن استجارة من واحد أوآحاد ليسمعوا الذكر، ثم المستجير لما ذكرناه لو لم يشتغل باستماع الذكر، وبان إضرابه، نبذنا إليه الأمان، ولو استجار ليستمع حجة الإسلام، فهل نقول: إذا أخذ يتردد ويسأل ويجاب، فنمهله أربعة أشهر لهذا الغرض، أم نقول: إذا لم ينفصل الأمر بمجالس يُفرض في مثلها البيانُ التام، نبُذ إليه عهدُه، وقيل له: الحق بمأمنك، فلا فلاح فيك؟ فيه تردد، أخذته من فحوى كلام الأصحاب: منهم من قال: يمهل أربعة أشهر مدة التسييح. ومنهم من قال: لا يلزمنا إلا البيان له، ولعل هذا هو الظاهر، والعلم عند الله تعالى.
__________
(1) الجيل: الأمة والجنس من الناس، فالروم جيل، والترك جيل. (المعجم).

(18/79)


وليس على المستجير بذلُ مال، كما قدمناه. ولو جاء كافر، وطلب أن نعقد له الذمة ونُلزمه الجزية، ففي بعض التصانيف أن الإمام يلزمه أن يجيبه، وفيه وجه آخر أنه لا يلزمه، ولكن ينظر إلى الأصلح، وهذا فيه إذا كان لا يظن ضرراً، وقد أجرى هذا المصنف طلب الذمة وطلب المهادنة، ثم قال: المذهب أن الإجابة إلى الهدنة لا تجب، وفيه وجه أنها تجب. وإذا طلب الكافر الذمة، فالمذهب أنه تجب إجابته، وفي المسألة وجه أنه لا تجب إجابته.
وما ذكره في الأمرين جميعاً ليس على وجهه، فالوجه القطع بوجوب الإجابة إلى الذمة، إلا أن يفرض [ضرر] (1) متحقق أو مظنون. وقد ذكرتُ هذا. ومن قال: لا تجب إجابة الكافر إلى عقد الذمة، فقد رد أصلاً عرفه فقهاؤنا متفقاً عليه، وذُكر وجه في إيجاب الإجابة إلى الهدنة، وهذا في الفساد كالوجه المحكي في أن الذمة لا تجب.
فإن قيل: ألستم ذكرتم في فصل تعشير أموال الكفار أنهم لا يمكنون من دخول دار الإسلام إلا بشيء يؤخذ منهم، ثم جوزتم الانكفاف عن الكفار من غير شيء؟ قلنا: ما نضربه على من يدخل منهم دارنا في مقابلة تخطّيهم خِطة الإسلام، واختلاطهم بالمسلمين، والمهادنة معناها تقرير الكفار في ديارهم، وكف القتال عنهم، فلا يبعد أن يطالَبوا بمالٍ على ترك مقاتلتهم مدة معلومة، قدمنا وصفها، ومقدارها.
فهذا الذي ذكرناه أصول (2) في باب المهادنة.
11507 - ونحن بعدها نخوض في مسائل من الهدنة، هي مقصود الباب، ونقدم عليها طرفاً من المهادنة التي جرت لرسول الله صلى الله عليه وسلم، تمس الحاجة إليه في المسائل:
لما صُدَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية، هادن رسول الله صلى الله عليه وسلم سهيلَ بنَ عمرو، وكان رسولاً من أهل مكة، ثم أجرى رسول الله صلى الله
__________
(1) في النسختين: ظن. والمثبت من المحقق
(2) هـ 4: " فصول ".

(18/80)


عليه وسلم في الهدنة أن من جاء إلى الكفار منا، فسحقاً سحقاً، لا نسترده، ومن جاءنا من الكفار، رددناه، هكذا جرت المهادنة وهي قصة معروفة.
ثم رُوي أن المهادنة، لما انعقدت جاء أبو جندل بنُ سُهيل مسلماً، فرده رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبيه، فولّى معه باكياً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن الله يجعل لك مخلصاً، قال عمرُ: فأخذ سهيلُ ابنَه أبا جندل، واستمسك بيساره، فأخذت بيمينه وأشرت إلى سيفي، حتى ضربت كفّه بقائمته، وقلت: لا تبال -تحريضًا على قتله- فإن دم الكافر عند الله كدم الكلب، قال: كنت أُعرّض له بقتل أبيه، فعرف مرادي، وتبسم في وجهي وضنّ بأبيه، ولم يقتله.
ثم ورد أبو بصير على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد منصرفه إلى المدينة فجاء في طلبه رجلان، فردّه عليهما، فلما أدبرا به راجعين قال صلى الله عليه وسلم: " مِسعرُ حربٍ لو وجد أعواناً " يُعرِّض له ألا يرجع إن أمكنه، فلما كان ببعض الطريق قتل أبو بصير صاحبيه، وانضم إليه ممّن كان يريد الالتحاق بالمسلمين جمعٌ، ثم دخل المدينة في جماعة شاكين في السلاح، ثم هاجرت أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط مسلمة، فنزل قوله سبحانه: {إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ} [الممتحنة: 10]، فامتنع رسول الله صلى الله عليه وسلم في ردّها. هذا ما جرى والقصة طويلة " (1)، ونحن نقلنا منها ما تمس الحاجة إلى نقله في مسائل الباب.
11508 - والآن إن اتفقت مهادنة، فيجوز شرط رد الرجال عليهم على الجملة، ولا يجوز شرط رد النساء عليهم إذا جئن مسلمات مهاجرات.
ومما يجب تقديمه على الخوض في المسائل أن أصحابنا اختلفوا في أن النسوة هل
__________
(1) قصة صلح الحديبية رواها البخاري في حديثٍ طويل عن المِسْوَر بنِ مَخْرَمة، ومروانَ، (البخاري: الشروط، باب الشروط في الجهاد والمصالحة مع أهل الحرب وكتابة الشروط، ح 2731، 2732).
هذا وليس في رواية البخاري قول عمر " ... فإن دم الكافر عند الله كدم الكلب " وإنما ورد هذا في رواية الإمام أحمد في مسنده من حديث المسور (المسند: 4/ 223، 326). وانظر التلخيص: 4/ 241 ح 2341.

(18/81)


اندرجن تحت عقد المهادنة إذ أطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: من جاءنا، فهو مردود عليكم؟ فمن أصحابنا من قال: دخلن تحت العقد، واقتضى موجبُه ردَّ النساء، ثم نسخ ذلك بآية المهاجرات المؤمنات، ثم ذكر الفقهاء في هذا المقام طرفاً من نسخ الكتاب بالسنة، ونسخ السنة بالكتاب، واختبطوا فيه على غير بصيرة، ولسنا له؛ فإن مقدار غرضنا التردد في أنهن هل دخلن؟
وقال قائلون: ما دخلت النسوة في مطلق العقد في حكم الرّد، وكان قوله صلى الله عليه وسلم: " من جاءنا " عامّاً، والمراد به الرجال، ثم تبين بنزول آية المهاجرات تخصيص ذلك اللفظ العام بالرجال، ثم من سلك هذا المسلك اختلفوا في أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هل علم أنهن مستثنيات حالة إطلاق اللفظ، أو لم يعلم ذلك ثم تبيّنه عند نزول الآية؟ فقال قائلون: كان عالماً بأنهن غيرُ داخلات، ولكن لم يتعرض لذكرهن، وذكر لفظاً عاماً، ورأى في ذلك استصلاحاً. وقال قائلون: ما علم رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهن غير داخلات حتى عرّفه الله تعالى.
وهذا كلام مضطرب؛ فإن صاحب اللفظ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكيف ينتظم أن يقال: لم يعرف معنى لفظ نفسه حتى نزلت آية المهاجرات؟ والممكن في ذلك أن يقال: لم يخطر له التخصيص وتحقيق التعميم، وهذا لا يشفي الغليل، فالوجه أن يقال: أُمر بأن يقول قولاً، ولم يعرف معناه؛ فما كان صلى الله عليه وسلم مستقِلاً بإنشاء ذلك القول حتى يتّجه السؤال الذي ذكرناه، وهذه مقدمات اضطرب الأصحاب فيها، ونحن رأينا أن نذكر منها قدر الحاجة.
11509 - والآن قد حان أن نخوض في المسائل، فنقول: أُمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا يرد المسلمات، وأوجب عليه أن يغرم لأزواجهن ما أنفقوا، وأجمع العلماء على أن المراد بما أنفقوا ما ساقوا من مهور النساء. هذا حكم الله عز وجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلو جرت منا مهادنة، ثم امتنعنا من ردّ النسوان تأسّياً برسول الله صلى الله عليه وسلم، فهل يجب علينا أن نغرم ما ساقه الأزواج من المهور، كما كان يجب على رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فعلى قولين: أحدهما -

(18/82)


أنه يجب علينا، [كما كان] (1) يجب على رسول الله صلى الله عليه وسلم. والثاني - لا يجب علينا غرامة المهور، واختص رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتزامها.
ثم، قال الأئمة: القولان فينا مبنيان على تردد العلماء في أن رسول الله صلى الله عليه وسلم التزم المهور، وفيه قولان مأخوذان من معاني كلام الشافعي (2): أحدهما - أنه التزم المهور لطريان النسخ، وقد كان ثبت اندراج النساء، ثم نسخ الحكم، فالتزم رسول الله صلى الله عليه وسلم أبدال مهور النساء، لمّا تعذر عليه ردّهن بالنسخ.
والقول الثاني - أنه التزم مهورهن، لأنه صلى الله عليه وسلم أوهم بلفظه العام التزام ردّ النسوان، ثم تبين الأمر على خلاف ما ظنوه، فغرم لهم الأعواض.
فقال الأصحاب: القولان في أنا هل نغرم ما غرم رسول الله صلى الله عليه وسلم مبنيان على القولين في علة غرامة رسول الله صلى الله عليه وسلم. فإن قلنا: إنه صلى الله عليه وسلم غرم بسبب النسخ الذي جرى، فلا غرم علينا، إذ لا يتصور النسخ بعد انقلابه صلى الله عليه وسلم إلى رضوان ربه عز وجل. وإن قلنا: علة غرامة رسول الله صلى الله عليه وسلم ما جرى من إبهام اللفظ، فهذا يتصور، كما يتصور منه صلى الله عليه وسلم، فنلتزم المهر، على تفاصيل سيأتي الشرح عليها الآن، إن شاء الله تعالى.
فإن قلنا: لا غرم، فلا كلام، وإن قلنا: يجب علينا أن نغرم المهر، فهو المعني بغرم ما ينفقون في نص الكتاب.
11510 - ثم الكلام في تمهيد المقصود يتعلق بفصول توضح القواعد، ونحن نأتي بها مفضلة، ثم نذكر بعدها مسائل تحوي ما يشذ عن ضبط القواعد وتردها إلى القواعد.
فأول ما نذكره سببُ الغرم، فإذا جاءتنا مسلمة، وجاء الزوج طالباً لها، مطالباً بردها، فقد اختلف الأئمة في سبب الغرم: فمنهم من قال: سببه أنا شرطنا في
__________
(1) في الأصل:" ما كان ".
(2) هـ 4: " من قول الشافعي ".

(18/83)


المهادنة أن نردّ عليهم من يأتينا منهم مسلماً، فإذا لم نف بموجب اللفظ، كنا في مقام الغارّين، والغرورُ سببٌ في الضمان، ولا معاب في الإبهام إذا دعت الحاجة إليه، وكان يتطرق الاحتمال إلى اللفظ، وفي الحديث: " إن في المعاريض مندوحة عن الكذب " (1) وصح: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كلان إذا أراد سفراً ورّى بغيره " (2)؛ فلنا أن نوهم ونُبهم، ولكن لا نصرّح، ونُبقي لإمكان الصدق وجهاً، ثم نلتزم الغرم على مقابلة ما نأتي به من الإبهام (3)، وهؤلاء يقولون: لو صالحناهم ولم نتعرض لِرَدّ من يأتينا منهم، فإذا أتتنا نسوة مهاجرات، لم نغرم لأزواجهن شيئاً؛ فإن سبب الغرم على هذه الطريقة، التعرضُ لِردّ من يأتينا؛ فإذا لم يجر ذلك، فلا غرم.
وذهب صاحب التقريب وأئمة العراق، وكل من ينتسب إلى التحقيق أن ثبوت الغرم لا يتوقف على التعرض لردّ من يأتينا منهم، ولكن نفس المهادنة تقتضي الغرمَ إذا امتنعنا عن ردّ النسوة، ووجه هذا أن متضمّن المهادنة (4) عقدُ الأمان، وإزالة التعرض عن الأهل والمال، فإذا جاءت امرأة مسلمة مهاجرة، فمنعناها، فقد حلنا بينها وبين الزوج، وكان ذلك مخالفة لما اقتضته المهادنة، وإن لم يجر لردّ من يأتينا ذكرٌ، وهذا حسن فقيه.
فينتظم من مجموع ما أشرنا إليه مراتب: إحداها - أنا لو هادنّاهم، وشرطنا ألا نرد من يأتينا مسلماً، فإذا أتانا رجال ونساء مسلمين، فلا نرد ولا نغرم شيئاً، وكذلك لو صرحنا بالامتناع عن ردّ النساء. ولو ذكر في المهادنة أنا نرد من يأتينا منهم، ولم
__________
(1) حديث " إن في المعاريض لمندوحة عن الكذب " رواه البيهقي عن عمران بن الحصين مرفوعاً، وموقوفاً. قال البيهقي: الصحيح موقوف. (ر. السنن الكبرى: 10/ 199).
(2) حديث " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد سفراً ورّى بغيره " هذا جزء من حديث كعب بن مالك الطويل في قصة توبته وصاحبيه، وهو متفق عليه (ر. اللؤلؤ والمرجان: 3/ 246 ح1762).
(3) وجه الإبهام والغرور أنا ذكرنا لفظ (من) في شرطنا ردّ من يأتينا منهم، وهو صالح لإرادة الرجال والنساء جميعاً، ولكنا أردنا به الرجال دون النساء فهذا من المعاريض.
(4) هـ 4: " أن المهادنة تتضمن ".

(18/84)


[نفصّل]، (1) فلا نردّ النسوة المسلمات، ونغرم للأزواج ما سنفصله إن شاء الله تعالى. وإن عقدنا المهادنة، ولم نتعرض لمن يأتينا منهم مسلماً بالنفي والإثبات، فهذا موضع اختلاف الطرق: فمن أئمتنا من أوجب الغرم، وهم الجماهير؛ أخذاً من مخالفتنا موجب الأمان، ومنهم من قال: لا نغرم المهور؛ لأنا، لم نلتزم ردّ من يأتينا.
11511 - وهذا الفصل [يصفو عن الكدر بما نصفه] (2)، فنقول: إذا شرطنا ردّ من يأتينا منهم مسلماً، فيجب الوفاء بذلك، فمن يأتينا من الرجال الأحرار أصحاب العشائر نردّه، كما سيأتي، إن شاء الله، وردّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا جندل على أبيه، وردّ أبا بصير على طالبيه؛ وفاءً بالشرط، هذا إذا شرطنا أن نرد من يأتينا منهم.
فإن لم نشترط ذلك، فالذي أراه أن من أتانا من رجالهم مسلماً لا نردهم بحكم المهادنة، فإنا شرطنا ألا نتعرض لهم في دمائهم وأموالهم، فمن أتانا منهم مسلماً، فقد صار منا، وانسلّ عن مقتضى المهادنة، ونحن أثبتنا المهادنة على الكفار، ويجيء (3) على هذا ردّ رسول الله صلى الله عليه وسلم من ردّ للوفاء بالشرط، لا لاقتضاء المهادنة ذلك، وإذا جاءتنا امرأة مسلمة، فلا شك أنا لا نردها، لما ذكرناه، ولمزيد أمرٍ فيها، وهي أنها محرمة على الكفار متحرمة بحرمة الإسلام، وفي ردّها السعي في إثبات الفواحش، وهي أيضاً لضعفها عرضة لأن تفتن عن دينها، وسبب الغرم فيها عند الأكثرين حق الزوج فيها، وليس كالرجل يسلم، ويتعلق بنا؛ فإنه لا حق لهم فيه، فلا نكون بمنعه [معتدين] (4) على حقوقهم، بخلاف الزوج (5).
ثم ثار الخلاف في هذا المنشأ، فاكتفى طائفة بالمهادنة في إثبات الغرم لحق الزوج
__________
(1) في الأصل: " نفعل ".
(2) في الأصل: " لم يصف عن الكدر على ما نصفه ".
(3) هـ 4: " ولهم وعلى هذا ".
(4) في النسختين: " معترضاً ". والمثبت تصرف منا بناء على السياق.
(5) بخلاف الزوج: أي للزوج حق في زوجته إذا منعناها ولم نردّها.

(18/85)


في الزوجة، ولم يكتف آخرون؛ لأن حق الزوج ينقطع بإسلامها، فيجب أن يكون مستند الغرم الإبهام الذي يشعر به مطلق شرط الرد، فإن قيل: لم يجوز رد الرجل المسلم إلى الكفار؟ قلنا: الخبر فيه كافٍ، وسنذكر مأخذه من المعاني من بعدُ إن شاء الله.
وكل هذا تفريع على أنا نغرم المهور فإن قلنا: لا نغرم، فلا تفريع، وقد ذكرنا ذلك مرةً ونبهنا عليه ثانياً، ولا عود إلى ذلك. فليعلم الناظر أن تفريعاتنا واقعة على أحد القولين.
11512 - ولو شرط الإمام في المهادنة أن نرد عليهم الرجال والنساء، فالشرط فاسد في النساء، ولا سبيل إلى ردّهن إذا جئن مسلمات، ولكن هل تفسد المهادنة بالشرط؟ فيه تردد بين الأصحاب ممثّلٌ بنظائر كالشرائط الفاسدة في الوقف؛ فإن في إفسادها الوقفَ تردداً، والأصل في ذلك أن عقود المعاوضة تفسد بالشرائط الفاسدة؛ لأنها تجرّ إلى عوض العقد جهالةً، فكأن البائع إذا شرط شرطاً فاسداً قد باع عبده بألف وتحكّم بأمرٍ لا يُستحق.
فأمّا ما مبناه (1) على اللزوم والنفوذ، ولا عوض فيه، فإذا جرى فيه شرط فاسد، فقد يتجه فيه خلاف: فمن أصحابنا من يفسد العقد بالشرط، ومنهم من يفسد الشرط ويصحح العقد دونه، وما نحن فيه من ذلك. ثم إذا أمسكنا المرأة وقد شرطنا أن نردها، فنغرم؛ فإنا إذا كنا نغرم بذكر لفظٍ مطلق، أو بمهادنة مطلقة، فلأن نغرم إذا صرّحنا أولى. وقد انتجز هذا الفن.
11513 - نوع آخر في تفصيل القول في المرأة التي نغرم المهر بسببها، فنقول: إذا دخلت دارنا وهي مسلمة، وجاء الزوج مطالباً، فلا نردها، ونغرم، ولو جاءت إلينا كافرة؛ فإنا نردها؛ لأنها لم تتحرم بالإسلام، وليس في ردّها تسليط كافر على غشيان مسلمة.
ولو دخلت إلينا كافرة، ثم أسلمت بين أظهرنا، فلا نردها إذا طُلبت؟ وهل نغرم؟
__________
(1) هـ 4: " بناؤه ".

(18/86)


فيه اختلاف، والأوضح أنا نغرم؛ لأنا نمنعها بسبب الإسلام، فلا فرق أن يوجد المانع فينا، وبين أن تأتينا معه متصفةً به، فإن عماد الغرم المنع.
ولو جاءت وكانت أسلمت وارتدت والتحقت بنا مرتدة، فإذا جاء الزوج مطالباً، فهل نغرم له؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنا نغرم لمنعنا إياها، والتعويل عليه، لا على صورة الإسلام. والوجه الثاني - أنا لا نغرم، لأنها كافرة، وإنما يجب الغرم إذا منعناها بسبب الإسلام. ويمكن أن يقال: سبب منعنا إياها أن نقتلها إن أصرّت، وهذا وجه ضعيف. والصحيح وجوب الغرم.
ولو جاءتنا مجنونة، فإنا لا نردها؛ لجواز أن تكون مسلمة وكانت أسلمت، ثم جنّت، وإذا جاء الزوج مطالباً، فهل نغرم له شيئاً لجواز أن تكون كافرة؛ فيبنى أمرها في المنع والغرم على مقتضى الاستيقان، فما لم نعلم كفرها، فلا نردها تغليباً لحرمة الإسلام، والأصل براءة الذمة، فلا نغرم من غير ثبت.
ولو جاءتنا صبيّة تصف الإسلام، وكانت مميّزة، فإذا أظهرت الإسلام، انبنى هذا على الخلاف في صحة إسلام الطفل، فإن حكمنا بصحته، فهي كالبالغ؛ فنمنعها، ونغرم مهرها، قياساً على البالغة. وإن قلنا: لا يصح إسلامها، فلا نردها لحرمة الكلمة، وهل نغرم؟ فعلى وجهين: أحدهما - لا نغرم كما لو كانت مجنونة.
والثاني - نغرم، لأن ظاهر حالها أن تستمرّ على الإسلام إذا أصدرت قولها عن تمييز.
هذا هو الترتيب.
وأبعد بعض أصحابنا وقال: إنها ترد؛ فإن ما جاءت به ليس بإسلام، وليست كالمجنونة البالغة التي نظن أنها أسلمت ثم جُنت، وهذا له اتجاه في القياس، ولكنه مطّرح غير معتدٍّ به، وقد أجمع أصحابُنا على أن الصبي إذا كان يصف الإسلام يحال بينه وبين أبويه الكافرين؛ فإنّ صَدَر (1) ذلك عن مميز يُغلّب على الظن تعلق قلبه بالهدى؛ وظنُّ توقّع الإيمان إذا غلب، لم يعطل.
11514 - نوع آخر في بيان من نغرم له، فإذا جاءتنا امرأة وأسلمت، فجاء أبوها،
__________
(1) صَدَر: أي صُدُور، كما نبهنا على ذلك مراراً.

(18/87)


وأقرباؤها يستردّونها، فلا نردها، ولا نغرم لهم شيئاً؟ فإنهم لا يستحقون منها أمراً، حتى نكون (1) منتسبين إلى منعهم من حقوقهم؛ فلا غرم إلاّ للزوج. نعم، لو جاءتنا أمةٌ مسلمة، فإنا نمنعها عن سيدها، ونغرم للسيد قيمتها؛ لإيقاع الحيلولة بينها وبين من كان مالكاً لها، فنقول: إنها تَعتِق بالمراغمة، والاتصال بدار الإسلام. فإن قيل: لم تغرمون قيمتها وقد عَتَقَت؟ قلنا: كما نغرم مهر المسلمة وقد بانت، والسبب فيهما أن الحكم بالعتق والبينونة من مقتضى الإسلام، ومن ظنّ من الفقهاء أن غرم المهر [يستدّ] (2) على قواعد الأقيسة في المغارم، فليس على بصيرة، ومعتمد الغرم نصُّ القرآن، ثم استعملنا طرفاً من المعنى ليكون رابطة للمسائل، ولم نبُعد أن يكون هو المعنى الكلي في ذلك.
11515 - نوع آخر فيما يتعلق به الغُرم: ذكرنا من نغرم لأجله، ومن نغرم له، ونحن الآن نذكر السبب الخاص الذي يتعلق الغرمُ به، فنقول: إذا أتتنا مسلمة ذاتُ زوج، ولم يأتنا زوجها، ولا أحد من جهته، فلا غرم، وإن أتانا، ولم يطلب ردّها، فلا غرم، وإن طلب ردها، فامتنعنا للإسلام، تعلق الغرم بذلك؛ حتى قال الأصحاب لو أتتنا مسلمة، وماتت، ثم لحقها الزوج بعد الموت، فلا نغرم له شيئاً، فإنا لم ننتسب إلى المنع بعد الطلب.
وقد وضح أن السبب الأخص في الغرم الطلبُ والمنعُ. ولو طلبها الزوج، فقتلها قاتلٌ من المسلمين، فقد قال الأصحاب على القاتل ما يتعلق بالقتل من القصاص والدّية، ولا حق للزوج في ذلك؛ فإنه لا يرث الكافرُ المسلمةَ، ويجب الغرم؛ فإن القتل جرى بعد الطلب، واستقرار الحق به. ثم قال الأصحاب: غرم المهر على القاتل؛ فإنه المانع بالقتل.
وهذا عندي مفصل، فأقول: إن طلبها، فقتلها المسلم على الاتصال، فغُرم المهر على القاتل، لما ذكره الأصحاب، وإن طلب الزوج، فمنعناها، فقد استقر
__________
(1) هـ 4: " لا نكون ".
(2) في الأصل: " يستمر ". وهو تصحيف يتكرر في هذه الكلمة كثيراً. وفي (هـ 4): " يسلم ".

(18/88)


الغرم علينا، فإذا وجد القتل بعد ذلك، لم يتعلق غرم المهر بالقاتل بعد استقراره بالطلب وظهور المنع، فالغرم لا يسقط بموتها، فكذلك لا يتحول الغرم إلى القاتل.
ولو جرحها مسلم قبل الطلب، فبلغت حركة المذبوحين، [وجاء الزوج طالباً، فهذا طلبٌ بعد الموت، فلا يتعلق به استحقاق الغرم، ولو جاء الزوج] (1) وبها حياة مستقرة وطلبها، استحق الغرم. واختلف أصحابنا فيمن عليه الغرم: فمنهم من قال: الغرم على الجارح؛ فإن فواتها مستند إلى الجرح. والثاني - أن الغرم على بيت المال؛ فإن الإمام منعها، وبها حياة مستقرة، وهذا هو الصحيح، ولا حاصل للوجه الأول.
11516 - نوع آخر في بيان المغروم، فنقول: إذا جاءنا الزوج مطالباً، وما كان ساق إليها صداقها، فلا نغرم له شيئاً؛ فإن المعتمد في أصل الغرم وتفصيله نص القرآن، وقد قال تعالى: {وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا} [الممتحنة: 10]، معناه: اغرموا لهم ما بذلوا في مهور الزوجات، فالتعويل على ذلك، فلو أصدقها خمراً، وساقها، فلا نغرم شيئاً وفاقاً، ولو ساق بعض صداقها، فلا نغرم إلا المقدار الذي ساقه.
ولو كان ساق الصداق إليها، ثم إنها وهبت منه ما قبضته، ففي المسألة قولان كالقولين المذكورين فيه إذا وهبت المرأة ما قبضت من الصداق لزوجها وسلمته إليه، ثم طلقها قبل المسيس، ففي رجوعه إليها بنصف الصداق قولان، كذلك القول فيما نحن فيه.
فإن قيل هلاّ غرمتم للزوج مهر المثل كما تغرم المرضعة (2) مهر المثل، وكذلك الشهود على الطلاق إذا رجعوا عن شهادتهم؟ قلنا: هذا الذي نحن فيه لا يلائم [تلك] (3) الأصول؛ فإنها مجراة على إفساد النكاح، وتفويته على الزوج، أو على إيقاع الحيلولة بشهادة الزور، والنكاحُ يرتفع في الأصل الذي نحن فيه باختلاف
__________
(1) ما بين المعقفين سقط من الأصل. والمثبت من هـ 4، وقد كان بها تصحيف أصلحناه، حيث كانت العبارة: " فهذا طلبُ هذا الموت ".
(2) أي المرضعة التي أرضعت الزوجة الصغيرة، فحرَّمتها على زوجها.
(3) زيادة من (هـ 4).

(18/89)


الدين، فليس قطع النكاح مضافاً إلينا، ولكنا ضمنا للزوج بإطلاق المهادنة، أو شرط رَدّ من جاءنا إليهم، ثم لم ينتظم الوفاء على موجب الشرط (1)، فغرمنا للزوج ما بذله لها من المهر على مقابلة تعذّر الوفاء [لا] (2) على مقابلة إفساد النكاح، وهذا واضح.
والأصل في ذلك أن مقتضى القياس ألا نغرم شيئاً، وحقُّ الفرق [أن] (3) يُوضّح في النفي والإثبات، فرجع أصل الغرم إلى الكتاب ونص القرآن لا غير.
ولو جاءنا الزوج مطالباً والزوجة بعدُ في العدة، وكانت مدخولاً بها، فإنا نغرم للزوج المهر الذي ساقه، فلو وفّيناه المهر، فأسلم في العدة، واقتضى ذلك ردّ الزوجة إليه، فما غرمناه له مسترد منه، فإن الزوجة سَلِمتْ له، وإنما نغرم له ما نغرم إذا فاتت الزوجة.
ولو لم يسق الصداقَ إليها، وهي ممسوسة، وتخلف الزوج حتى انقضت العدة، أو أصر على كفره، ولكن التزم الذمةَ، أو أسلم بعد العدة، فهو مطالب بمهر النكاح، فلو كان طلب ردّ الزوجة عليه في زمان العدة، وهو كافر، فمنعناه إياها [لم نغرم] (4) له شيئاً؛ لأنه لم يسُق الصداق، [فإذا غرم الصداق] (5) لما أسلم أو التزم الذمة، فهذه الغرامة مستندة إلى التزام المهر بالنكاح. ولقد كان ملتزماً عند المطالبة، وهذا الغرم مستند إلى التزامه في تلك الحالة.
فيتجه أن نقول: نغرم له ما غرمه؛ نظراً إلى ما ذكرناه من الاستناد (6) ومصيراً إلى أن هذا الغرم مقدم على حالة الطلب، ويجوز أن يقال: لا نغرم له شيئاً؛ لأنه لما طلب الطلب المعتبر، لم يستحق شيئاً ساعتئذٍ، والآن قد أسلم أو التزم الذمة، وخرج
__________
(1) هـ 4: "الشرع".
(2) زيادة من (هـ 4).
(3) سقطت من الأصل وأثبتناها من (هـ 4).
(4) في النسختين: ولم.
(5) ما بين المعقفين زيادة من (هـ 4).
(6) المعنى أن وجوب الصداق واستقراره مستندٌ إلى النكاح، وقد كان ذلك قبل مجيئها إلينا مسلمة، فإذا أداه الزوج بعد منعنا إياها، فيتجه أن نغرم له ذلك المهر، لأنه حق ثبت قبل مجيئها، وإن تأخر أداؤه.

(18/90)


عن المهادنة التي كان الغرم من حكمها، وهذا يقوَى بضعف طريق القياس في هذا الغرم، ونص الكتاب ليس متناولاً لهذه الصورة. هذا قولنا في المغروم.
11517 - نوع آخر: إذا قال الزوج قد سقتُ مهرها، وذكر قدر ما ساق، فلا نغرم له بمجرد قوله شيئاً؛ فإن المسلم العدلَ الرضا إذا ادّعى، لم يثبت له بمجرد الدعوى ما ادعاه، وإن شهد للكافر عدلان مسلمان على أنه ساق ما ادعاه إليها، غرمنا له، وإن أقرت المرأة المهاجرة فقد قال العراقيون: إقرارها بمثابة البينة واعتلّوا بأنا لو طالبناه بالبينة، والذي جرى من السَّوق بزعمه كان بين أظهر الكفار، ويعسر تقدير تحمل مسلمَيْن الشهادة على ذلك، فيُفضي ردُّ إقرار المرأة ومطالبة الزوج بالبينة إلى التعطيل.
وهذا الذي ذكروه في الإقرار لست أراه كذلك؛ فإن قولها ليس حجةً علينا، وليس من الأقارير التي تُقبل لانتفاء التهمة عنها كإقرار العبد بالسرقة ونحوها مما يوجب عليه عقوبة، وإذا كان كذلك، فلا وجه لقبول قولها. والعلم عند الله تعالى.
هذا نجاز الأصول التي تجب رعايتها في هذا الفصل، ونحن نلحق بما ذكرناه فروعاً تأتي على الأطراف التي شذت في ضبط الأصول، ثم نستفتح أصلاً آخر متصلاً بهذه القاعدة.
فرع:
11518 - إذا جاءتنا مسلمة وكان طلقها زوجها طلاقاً رجعياً، فجاءت إلينا في عدة الرجعة، وتبعها الزوج، فقد نقل الرواة عن الشافعي أنه قال: " إذا جاء الزوج مطالباً، فلا نغرم له شيئاً ما لم يراجعها، وإذا راجع، لم نغرم له بمجرد الرجعة [ما لم يطلبها] (1)، ولا بُد من اجتماع الأمرين الرجعة والطلب، وخرّج المحققون قولاً آخر، ورأوه القياس، فقالوا: يستحق المهرَ بمجرد الطلب من غير رجعة؛ لأن رجعة الكافر للمسلمة فاسد، كما أن نكاح الكافر للمسلمة فاسد، فلا معنى لاشتراط فاسد.
وعندي لا يتوجه النص إلا بأن نقول: لا يتحقق من الزوج توجيه الطلب، ما لم يراجعها؛ فإنه إذا طلب وتركها، فهو في حكم المعرض عنها، فإنها إلى البينونة
__________
(1) زيادة من (هـ 4).

(18/91)


مصيرها، وإذا راجع، فقد حقق الطلب، وهذا تكلّف، ووجه القياس ما ذكرناه، فإن الرجعية زوجة.
ولو جاءتنا مسلمة قبل المسيس، فهي بائنة، ونحن نغرم للزوج، فلا تعويل على ما وجهنا النص به.
فرع:
11519 - [إذا جاءتنا أمة مسلمة] (1)، فقد ذكرنا أنا نغرم لسيدها قيمتها إذا جاء مطالباً، ولا نعتبر ما وزنه (2) السيد في ثمنها، وإنما نعتبر القيمة لا غير، والفرق قد يعسر؛ فإن الأمة عتقت [بالمراغمة] (3)، كما بانت المرأة بالإسلام، ولا وجه إلا إجراء قيمة الجارية على القياس، وربط غرم المهر بنص القرآن، فلينتبه الناظر لما يُنبّه له.
ولو جاءتنا أمةٌ مسلمة مزوّجة، فقد قال الأصحاب: نغرم قيمتَها لمولاها ومهرَها لزوجها، لو جاءا، وطلبا معاً.
ولو جاء أحدهما مطالباً، فحاصل ما ذكره الأصحاب ثلاثة أوجه: أحدها - أنا نغرم لكل من أتانا منهما حقه، ولا نقف إلى أن يأتي الثاني؛ لأنه لا تعلق لأحدهما بالثاني، وحق كل واحد منهما متميز عن حق الثاني. والوجه الثاني - أنا لا نغرم لأحدهما ما يطلب حتى يحصل طلبهما؛ فإن الحق مشترك بينهما، يعني حق الرد بحكم الشرط، أو بحكم المهادنة، والأقيس الوجه الأول. ومن (4) أصحابنا من قال: نغرم للسيد القيمة إذا انفرد بالطلب، ولا نغرم للزوج إذا انفرد. والفرق أن حق اليد للسيد ولهذا يسافر سيد الأمة بها وإن كانت مزوجة، فيتأكد من هذا الوجه حقه، والزوج إذا انفرد بالطلب؛ فإنما يبغي رد الزوجة عليه، وليس لزوج الأمة حق الانفراد
__________
(1) عبارة الأصل: " إذا جاءتنا أمة مسلمة قبل المسيس ". وفي هـ 4: " إذا جاءتنا مسلمة قبل المسيس ". والذي يظهر أن عبارة (قبل المسيس) مقحمة في النسختين، فالكلام في الأمة، وليس فى الزوجة. وقد سقطت كلمة (أمة) من (هـ 4).
(2) ما وزنه: المراد النقد الذي بذله في ثمنها.
(3) في الأصل: " بالإسلام ".
(4) هذا هو الوجه الثالث.

(18/92)


باليد على الزوجة المملوكة، وهذا الوجه اختاره صاحب التقريب، وفيه على كل حال فقه (1).
فرع:
11520 - إذا جاءنا عبد مسلم هل نرده عليهم؟ هذا مما يجب الاهتمام به، فمن جاءنا منهم وكان حراً مسلماً، فكيف يتجه رده، وهو يقول: أنا رجل مسلم لا أحب مخامرة الكفار قلنا: جوابه إنك أسلمت، والتزمت حكم الإسلام، وحكمُ الإسلام أن تُرد؛ فإن هذا الملتزمَ مما يجب الوفاء به، وإن زاد في مرادَّته، أحلْناه على رَدّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا جندل وأبا بصير.
ثم قال الأئمة: إنما يردّ إذا كان له عشيرة يضنّون به، ولا يهينونه، وإن كانوا يؤذونه بالتقييد وغيره، فلا تعويل عليه، ولا يختلف الحكم به، فإن أبا جندل ردّه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يجر سلاسله ويرسف في قيده، ثم إن كان المطالب به مستقلاً برده، فلا كلام، وإن لم يكن، فلا نلتزم أن نرده بأنفسنا.
وقصة أبي بصير شاهدة في ذلك؛ فإنه لما ردّه على رجلين جاءا في طلبه، قال كالمعرّض: " مِسْعرُ حرب لو وجد أعواناً "، فلما كان ببعض الطريق واستأنسا به، تحدّثوا في سيوفهم، فقال أحد الرجلين: إني جربت سيفي فوجدته ماضياً، فقال أبو بصير: أرنيه أنظر إليه، فلما سلّه من يده، فعل هكذا فرمى برأسه ناحيةً، فإذا هو كالأمس الذاهب، وهرب الآخر راجعاً إلى المدينة، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم مقبلاً، قال: أما هذا فقد جاء به أمر، فلما دنا أََخْبر بالحادثة، فلم يُحر رسول الله صلى الله عليه وسلم جواباً، وامتنع أبو بصير فيما بين مكة والمدينة، وانضمّ إليه جماعة من المسلمين من مكةَ وغيرِها، فجعل يقطع الطريق على أهل مكة، حتى بعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وسألوه أن يضمه معه إلى نفسه، فاستُدْعي فأتاه في سبعين شاكين في السلاح (2).
__________
(1) هـ 4: " وفيه على حالٍ بُعدٌ " وأشار في الهامش إلى أن في نسخة أخرى (فقه) مكان (بُعْد).
(2) قصة أبي بصير، في البخاري من حديث المسوربن مخرمة الطويل في قصة الحديبية: الشروط، باب الشروط في الجهاد والمصالحة مع أهل الحرب وكتابة الشروط، ح 2731، 2732.=

(18/93)


وهذه القصة مما يجب [التشبّث بها] (1)؛ فإن الرد لو كان واجباً ديناً، لما جاز لأبي بصير أن يمتنع، ولأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرجوع إلى مكة حرسها الله تعالى من غير تعرّض لهم، وقد تبيّن أنه لم يُوبخ أبا بصير، بل سرّه ما فعل، وعرّض في أول الأمر؛ إذ قال: مِسْعَر حرب لو وجد أعواناً.
ويخرج من هذا أن الرجوع ليس حتماً ديناً، وكيف يتحتم هذا في وضع الشرع، ولا حق للكفار على هذا الذي أسلم، وإنما يجب الردّ للوفاء بما قلنا؛ حتى تقع الثقة بما يجري العهد عليه؛ والمردود في نفسه ليس معاهداً، فعلينا الوفاء، وذلك المسلم المردود يفعل ما بدا له.
11521 - والذي يتم البيان به أنه لو وضع الشرط على أن نرد عليهم من جاءنا، فليس في موجب هذا الشرط التوقف في الرد إلى أن يطلبوه، وليس هذا مقام غُرم حتى يُرعَى فيه طلبٌ ومنعٌ، فكيف الوجه؟ أيجب رده من غير أن يطلبوه؟ قلنا: الذي يقتضيه الرأي أنه لا يُرد من غير طلب؛ فإن الغرم إذا وقف على طلب الزوج، فنفس
__________
=ولكن سياق الإمام للقصة جعل قول الرسول صلى الله عليه وسلم في شأن أبي بصير: " مِسْعَرَ حربٍ لو وجد أعواناً .. " عندما ردَّه مع الرجلين وقبل أن يقع منه ما وقع، والصحيح المروي هو أنَه قال هذا القول بعد ما قتل أبو بصير أحدَ الرجلين وكرَّ راجعاً إلى المدينة.
وقد نبّه ابن الصلاح على هذا قائلاً: هذا غلط؛ فإنه صلى الله عليه وسلم لم يقل ذلك عند ردِّه عليهما، والذي رواه البخاري في صحيحه -وغير البخاري- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دفعه إلى الرجلين فخرجا به حتى بلغا ذا الحليفة، فقتل أحدَ الرجلين وفرَّ الآخر حتى أتى المدينة فدخل المسجد يعدو، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رآه: " لقد رأى هذا ذعراً "، فلما انتهى إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: قُتل -والله- صاحبي، وإني ْلمقتول، فجاء أبو بصير فقال: يا نبي الله قد أوفى الله ذمتك قد رددتني إليهما ثم أنجاني الله منهم فقال النبي: ويل أمِّه، مسعر حرب ... إلخ القصة.
(مشكل الوسيط 7/ 93 بهامش الوسيط). هذا ولم يعلِّق الحافظ في التلخيص على ما وقع في سياق الإمام للقصة.
(1) في النسختين: " التثبت فيها ". والمثبت من تصرف المحقق، فإن القصة في الدرجة العالية من الصحة، كما ظهر في التعليق السابق.

(18/94)


الرد يقف على الطلب، كما أن غرم المهر يقف على الطلب، هذا هو الظاهر المفهوم من القصة التي جرت في المهادنة.
ولو صرح مهادن بأن يردَّ من جاء إلى بلاد الكفر بأعوانه، فلا يمتنع لزوم الوفاء بهذا، وإنما حَمَلْنا ما جرى لرسول الله صلى الله عليه وسلم على الطلب؛ لأن من جاء فهو مردود عليكم معناه: إذا جئتم، فهو ردٌّ عليكم، ولا تعويل عليه، فالمتبع قصة المهادنة.
11522 - عاد بنا الكلام إلى العبد وفي ردّه وجهان مشهوران: أحدهما - أنه لا يرد؛ لأنه مسلم، والظاهر أنه يُستذلّ ويُهان، ويسترقّ بعد ما عَتَقَ بالمراغمة، فصار ردّه كردّ المرأة. ومن أصحابنا من قال: هو مردود، بخلاف المرأة، فإن المحذور منها فاحشة الزنا، وإتيان كافر مسلمة، وهذا معدوم في العبد.
ولو جاءنا حُرّ لا عشيرة له، وغلب على الظن أنه يهان لو رُدَّ، فلأصحابنا طريقان في ردّه: منهم من ألحقه بالعبد، ومنهم من قطع بأنه يرد؛ نظراً إلى جنس الأحرار، وليس يبعد عندي أن يقال: على الإمام أن يشترط عليهم ألا يهينوا المسلم المردود عليهم، حتى إن أهانوه، كان ذلك نقضاً للعهد، وهذا متجهٌ؛ فإن الردّ إن كان ملتزَماً بالعهد، فيجب استفراغ الوسع في نفي الإهانة عن المسلم.
11523 - ومما نذكره متصلاً بهذا أن عمر عَرَّض لأبي جندل بقتل أبيه تعريضاً يقرب من التصريح، فلا بد من التصرف في هذا؛ فإن دماء من هادناهم مصونةٌ محقونة، وفي هذا تردُّدٌ لا بُد من إنعام النظر فيه، والمقصود منه يبين بما نصفه، فنقول: إذا هادن الإمام جماعة، ووادعهم، وذكر أنهم في أمنٍ من المسلمين، فلو أسلم من المعاهدين أقوامٌ وثاروا من بين أظهرهم، فهل لهم أن يقتلوهم؟ هذا عندنا فيه احتمال ظاهر؟
يجوز أن يقال: لهم أن يقتلوهم ويغتالوهم؛ فإن الإمام لم يلتزم إلا أن ينكف ويكف جنود الإسلام والمسلمين عنهم، فأما الذين يُسلمون من بعدُ [وينبِّتون] (1)
__________
(1) غير واضحة بالأصل، والمثبت من (هـ 4).

(18/95)


منهم، فلا يبعد ألا يكونوا ملتزمين للعهد وبموجبه، ويشهد لذلك ما كان يفعله أبو بصير من قَطْع الطريق على أهل مكة، ولو نهاه رسول الله صلى الله عليه وسلم لانتهى، ويشهد لذلك تعريض عمر.
ويجوز أن يقال: من أسلم منهم لم يكن له أن يتعرض لمن عصم الإمام دمَه ومالَه.
ومن جاءنا منهم، ولم يُطلب، ولم نردّه، فلا خلاف أنا نُلزمه من الحكم ما يلزمنا؟ فإنه صار من جملتنا. وأما تعريض عمرَ، فلا يبعد أن يحمل على حِدّته وتصلّبه في الدين، وقد جرى له من هذا الجنس عام الحديبية أمور مشهورة، لا حاجة بنا إلى ذكرها.
وقد نجز المراد تصريحاً، وتنبيهاً.
فرع:
11524 - إذا قال الإمام: من جاءنا فهو ردّ عليكم، ثم اتصلت امرأة بطرف من أطراف بلاد الإسلام، فهل للإمام أن يغرم للزوج؟ أم كيف السبيل؟ قال العلماء: إن قال: من جاءنا وأراد من جاء (1) المسلمين، فيلزمه أن يغرم؛ فإن المرأة قد جاءت المسلمين. وإن قال: من جاءني، فإذا تعلقت بطرفٍ من أطراف بلاد الإسلام، فهل يغرم الإمام؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنه لا يغرم؛ فإنها ما جاءته.
ومن أصحابنا من قال: يلزمه أن يغرم؛ فإن من جاء المسلمين، فقد جاءه؛ فإنهم رعيّته، وتحت حكمه.
ولو تعلّقت بديار البغاة حيث لا ينفذ أمر الإمام، وقد كان قال: من جاءني، فلا يغرم للزوج المطالِب شيئاً؛ فإن الفئة الباغية ليسوا تحت حكم الإمام، ولو قال: من جاءنا، ثم جاءت إلى البغاة، لم يضمن الإمام أيضاً، فإنه غير متمكِّن من ردها، والغرم يتبع طلباً مع إمكان الردّ صورةً.
وقد انتجز ما أردنا تمهيداً وتفريعاً.
11525 - ونحن نعقد فصلاً متصلاً بهذا. فنقول: من جاء الكفارَ منا مُرتداً عن
__________
(1) هـ 4: " من جاء من المسلمين ".

(18/96)


دينه وصفةُ المهادنة ما قدمناه، فسُحْقاً سُحْقاً، وإذا التحقت بهم مرتدة، فعليهم أن يردوها، وإن قلنا: من جاءكم، فلا تردوه؛ فإن النسوة مستثنيات من هذه الإطلاقات، وكما لا ترد المسلمة المهاجرة- وإن قلنا: من جاءنا، فهو ردٌّ - فكذلك نسترد المرتدة وإن قلنا: من جاءكم، فلا تردوه.
ثم لو جاءتنا مهاجرة مسلمة، وجاءتهم مرتدة، فالإمام يغرم لزوج المرتدة ما ساقه من صداقها، والأصل فيه قوله تعالى في آية المهاجرات: {وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا} [الممتحنة: 11] والسبب فيه أن المهادنة هي التي جرّت هذا الأمر، وهذا مشكل مع ما ذكرناه من أن المرتدة مستردة منهم، ويلزمهم ردّها، فمصيرها إليهم كمصيرها إلى أهل الحرب، ولكن أهل الإسلام منحجزون منه بسبب المهادنة على الجملة إلى أن يتفق نبذها، وما ذكرناه تكلّفٌ مع نص القرآن.
" وليس وراء الله [للمرء] (1) مذهب ".
ثم أجمع أصحابنا على أنها إذا جاءتنا مسلمة، وجاء الزوج مطالباً، وجاءتهم مرتدة، فالذي كنا نغرمه لزوج المسلمة نسلمه إلى زوج المرتدة إن تساوى المهران في المقدار، وإن كان مهر المسلمة أقل، صرفناه إلى زوج المرتدة، وأكملنا له ما كان ساق إلى زوجته. وإن كان مهر المسلمة أكثر، صرفنا مقدار مهر المرتدة إلى زوجها، وصرفنا الفاضل إلى زوج المسلمة، [ولا يتهدّى المعنى إلى هذا] (2)؛ فإن زوج المسلمة يقول: لا ذنب لي في التحاق تلك المرتدة بدار المهادنين، فلم منعتموني حقي، والممكن أن يقال: ليس لك حق متأكد على قياس أعواض المتلفات، وإنما نغرم [لك] (3) بحكم المهادنة، وأهلُ المهادنة في موجب المهادنة كالشخص الواحد، وقد انتهى الغرض.
__________
(1) في الأصل: " لكم ". ثم إن هذا عجز بيت للنابغة الذبياني، وصدره:
حَلَفْتُ فلم أترُك لنفسكَ ريبةً.
(2) زيادة من (هـ 4).
(3) في الأصل: " لكم ".

(18/97)


فصل
11526 - لا ينبغي للإمام أن يبذل للكفار مالاً، فإن ذلك ذلٌّ، لا سبيل إلى التزامه، والأصل في ذلك ما روي: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بلغه خبر تألّب العرب، واجتماع الأحزاب، جمع السعودَ: سعدَ بنَ عبادة، وسعدَ بن معاذ، وأسعد بن زرارة، وقال لهم: إن العرب قد كالبتكم ورمتكم عن قوس واحدة، فهل ترون أن ندفع إليهم شيئاً من ثمار المدينة؟ وروي هل ترون أن ندفع شيئاً من ثمار المدينة إلى غطفان. فقالوا: إن قلت عن وحي، فسمعاً وطاعة، وإن قلت عن رأي، فرأيك متبع، وإن كان مكيدة من مكائد الحرب، فحتى ننظر، فقال صلى الله عليه وسلم: بل مكيدة، فقالوا: كنا لا ندفع إليهم ثمرة إلا شراءً أو قِرِّى ونحن كفار، وقد أعزنا الله تعالى بالأسلام؛ فلا نقبل الدنيّة، فَسُرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بقولهم " (1) وهذا إذا لم يَخَفْ الإمامُ اصطلاماً، واستئصالاً؛ فإن خاف ذلك، فلا خلاف أن البذل سائغ، ذكره الصيدلاني وغيره، وهو مقطوع به.
__________
(1) قصة بذل ثلث ثمار المدينة في مصالحة الأحزاب، واستشارة النبي صلى الله عليه وسلم معروفة مشهورة، لكن الخلاف فيمن هم السعود الذين استشارهم النبي صلى الله عليه وسلم.
اتفق كل من روى القصة على سعد بن معاذ، وسعد بن عبادة رضي الله عنهما (وسماهما البزار في روايته: السعود). ولكن كثر الوهم في رواية القصة، فقد ذكر الإمام أسعدَ بنَ زُرارة رضي الله عنه والمعروف أنه مات قبل بدر، باتفاق أهل المغازي والتواريخ، كما قال الحافظ في الإصابة (1/ 34).
وجعل الطبراني السعودَ خمسة، وتُعقب في ذكر اثنين منهما: سعد بن خيثمة، وقد استشهد ببدر، وسعدُ بنُ الربيع، وقد استشهد بأحد.
كما اختلف لفظ رواة القصة، فقال البزار والطبراني: السعود، وقال ابن كثير: السعدين، وعزاه لابن إسحاق، وآخرون ذكروا الأسماء من غير وصف سعدين ولا سعود.
(ر. الطبراني الكبير: 6/ح 5409، البزار: 163/ 1 - 2 زوائد، مجمع الزوائد: 6/ 132، 133، السيرة لابن هشام: 3/ 174، طبقات ابن سعد: 2/ 73، تاريخ الطبري: 2/ 573، أسد الغابة: 2/ 294، 295، الكامل: 2/ 180، البداية والنهاية: 4/ 106، الإصابة: 2/ 36).

(18/98)


ثم ذكر الأئمة مسائلَ في أثناء الكلام لو اطلعنا عليها لذكرناها في مواضعها فنثبتها الآن.
فرع:
11527 - قال صاحب التقريب إذا أسلم عبد في يد كافر، فنكلفه بيعَه، فإن أبى ودبّره، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أنا نبيعه عليه، فإن بيع المدبّر جائز.
والثاني - أنا لا نبيعه، ونحول بينه وبين مولاه، كما نفعله في المستولدة؛ فإن عقد التدبير عقد عتاقة؛ فلا ينبغي أن نهجم على نقضه؛ فإن نَقَض التدبيرَ مِنْ دُبر، فلا معترض عليه.
ولو علّق الكافر عتقَ ذلك العبد بصفةٍ، فللأصحاب طريقان: منهم من قال: يباع وجهاً واحداً، ومنهم من جعله كالتدبير، وما ذكرناه في هذا من كلام صاحب التقريب.
وما ذكره الأصحاب متصلاً بهذا أنا إذا منعنا بيع المصحف من الكافر، فنطرد هذا في كتب الأحاديث، قال العراقيون: وكذلك القول في حكايات الصالحين، وطردوا في صحة البيع قولين في الجميع، ولست أرى لردّ البيع في حكايات الصالحين وجهاً.
فرع:
11528 - إذا قارض المسلم ذمياً واشترط عليه ألا يشتري محرماً، فلو اشتراه بمال القراض، وأدّى الثمن، ضمن الثمن الذي بذله، لأنه خالف الشرطَ.
ولو قارض المسلم ذمياً مطلقاً، ولم يتعرض لنهيه عن شراء المحرمات، فلو اشترى خمراً وما في معناها بمال القراض وأدى الثمن، فهل يضمن الثمن للمقارِض المسلم؟ ذكر العراقيون وجهين: أصحهما - أنه يضمن الثمن الذي بذله. والثاني - لا يضمن؛ فإن المسلم قَصَّر لما لم يشترط عليه الانكفافَ وأطلق القراض مع علمه بأن الذمي يتموّل الخمرَ، ويبيعُها ويشتريها.
ثم عقد الشافعي باباً في تبديل أهل الذمة دينهم وقد مضى هذا مستقصىً في النكاح.
ثم عقد باباً في الحكم بين المعاهدين إذا رضوا بأحكامنا، وقد مضى ذلك في مواضع، وبيّنا ما قيل في وجوب الحكم من الخلاف؛ فلست أرى لإعادة ذلك وجهاً.

(18/99)


فصل (1)
11528/م- إذا هادن الإمام على الترتيب الذي ذكرناه على مدةٍ لضعفٍ بالمسلمين، فيجب الوفاء وإن تقوّى المسلمون.
فإن خانوا، وأتَوْا بما يخالف العهد، وعلموا ذلك (2)، فقد انقضت المهادنة، فنسير إليهم، ولا نُعلمهم.
وإن فعلوا ما تُنتقض المهادنة به، ولم يعلموا أن العهد ينتقض به، فلا حاجة إلى علمهم، ولكن هل يجوز المسير إليهم من غير إعلامٍ؟ فعلى وجهين.
ولو استشعر الإمام منهم تهمة الخيانة، ولم يتحقَّقها، فله أن ينبذ إليهم عهدَهم، بخلاف ما إذا بدت تهمة من أهل الذمة؛ فإن الأصح أنه لا يجوز نبذُ العهد إليهم.
ولو بدت خيانة من بعضهم، وسكت آخرون، ولم ينكروا، فللإمام أن ينبذ إليهم العهد؛ هكذا كانت قصة أهل مكة، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم هادنهم، وكان بنو خزاعة مستجيرين برسول الله صلى الله عليه وسلم، فتوثبت عليهم طائفة من أهل مكة وقتلوهم، والباقون سكوت، فسار النبي صلى الله عليه وسلم إليهم ... (القصة). وسكوت الساكتين مع التمكن من الرد على الخائنين ينزل منزلة التهمة، أو هو أظهر منها.
وفي هذا الآن مزيد نظر؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم سار إليهم، ولم يُعلمهم ودعا الله أن يطمس أخباره عليهم، فانحسمت الأخبار عنهم وصارت مكة على أهلها كالوطيس (3) حتى نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بمرّ ظهرانَ، وظاهر هذه الحالة أنه أراد أن يتغفلهم، ثم جرت قصة لأبي سفيان وحكيمِ بنِ حزام، فظاهِرُ سير الرسول صلى الله عليه وسلم دالٌّ على أنه أراد أن يفاجئهم، وهذا فيه إشكال من جهة
__________
(1) في (هـ 4): فرع مكان (فصل).
(2) أي وعلموا أن العهد ينتقض بذلك الذي أتَوْه.
(3) الوطيس: من وطس الأرض: أي أحدث فيها حفرة (المعجم)، فالمعنى أن أهل مكة صاروا كأنهم في غيابة الجب لا يدرون ما حولهم.

(18/100)


أنه لم يوجد من أهل مكة إلا السكوت عن وقوع بني نُفاثة ببني خزاعة. وإذا ألحقنا السكوت بالتهمة، وذكرنا أن أصحاب التهمة لا يُبدؤون بالقتال من غير نبذ العهد إليهم، ففي هذا تردد.
ويجوز أن يقال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن يقدم النذير من المنزل الأخير، ويجوز أن يقال: اطلع رسول الله صلى الله عليه وسلم على تحريشهم على قتل بني خزاعة، فلم يكن ذلك تهمة في حقه، والعلم عند الله تعالى.
ومما تجب الإحاطة به أن المَضَرّات في حق أهل الذمة يختلف المذهب فيها، في أنها هل تكون نقضاً للعهد، ولا خلاف أنها من أهل الهدنة ناقضةٌ للعهد؛ فإن الهدنة ضعيفة ليست متأكدة ببذل الجزية.
فرع:
11529 - إذا أظهر أهلُ الذمة خمورهم، أرقناها عليهم، وإن لم يظهروها، فأرقناها لهم، لم نضمنها لهم، ولكن لا يجوز ذلك.
ولو غصب غاصب خمراً لهم من بيوتهم، فقد كان شيخي يقطع بأنه يجب ردّها، ويجب التزامُ مؤنة الرّد، وقال غيره من المحققين: لا يجب ذلك، ولكن لا يراق، ولا يحال بينها وبين الذمي إذا أراد استردادها.
ولو غصب مسلم خمراً محترمة لمسلم، فالوجه عندنا وجوب ردّها عليه، وفيها احتمال على حال.
ولو باع ذمي خمراً من مسلم، فسلمها إليه، فالخمر مراقة؛ لأن الذمي تعدّى بإظهارها، ولا شيء له في مقابلة إراقتها.
***

(18/101)