نهاية المطلب في دراية المذهب

كتاب أدب القضاء (1)
11878 - قال الله تعالى: {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة: 48]، وقال: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ ... } [المائدة: 44 - 45 - 47]، وقال: {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ} [ص: 26].
وقال: {وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ ... } [الأنبياء: 78]، فهذه وأمثالها آيات مشتملةٌ على مخاطبة الأنبياء بالحكم كما خوطبوا بتبليغ الرسالة.
وذم تعالى أقواماً يمتنعون عن الحكم، ومدح آخرين يأتونه مذعنين- فقال في الأولين: {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ} [النور: 48].
وقال في المذعنين: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} [النور: 51].
ومن هذا استحب بعض أصحابنا أن يقول المدعوّ إلى مجلس القاضي: سمعاً وطاعةً تأسياً بقوله تعالى؛ فإنه عز من قائل عدَّ هذا من سبيل المؤمنين.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنما أحكم بالظاهر " (2).
__________
(1) منذ باب جامع الأيمان لم يكن عندنا إلا نسخة وحيدة هي (ت 6)، وعليها استمر العمل في هذا الجزء إلى أن جاءتنا نسخة (ق) والكتاب ماثل للطبع، فكان لابد من مقابلتها، والحمد لله وافقتنا غالباً فيما قدرناه من تصويبات وتقديرات لما كان من خلل في هذه النسخة الوحيدة. وقد نبهنا على هذه الموافقة أحياناً.
(2) حديث " إنما أحكم بالظاهر ... " قال الحافظ: هذا الحديث استنكره المزني فيما حكاه ابن كثير عنه في أدلة التنبيه ... وقد ثبت في تخريج أحاديث المنهاج للبيضاوي سبب وقوع هذا الوهم من الفقهاء في جعلهم هذا حديثاً مرفوعاً، وأن الشافعي قال في كلام له: " وقد أمر الله نبيّه أن يحكم بالظاهر، والله متولي السرائر ". وكذا قال ابن عبد البر في التمهيد. وفي الباب حديث عمر " إنما كانوا يؤخذون بالوحي على عهد النبي صلى اله عليه وسلم وأن الوحي قد انقطع، وانما نأخذكم الآن بما ظهر لنا من أعمالكم ". أخرجه البخاري: الشهادات، باب =

(18/457)


وقال: " إنكم تختصمون إليّ " الحديث (1).
والقيامُ بالقضاء بين المسلمين والانتصاف للمظلومين من الظالمين، وقطع الخصومة الناشبة بين المتلازِمَيْن من أركان الدين، والقيامُ به من أهم الفروض المنعوتة بالكفاية.
ثم روى الأئمة أخباراً في الترغيب في القيام بفصل القضاء [وما فيه من مصلحة المسلمين] (2).
والمنصب الأعلى من صاحب الولاية الإمامةُ والزعامةُ العامة، وقد خلا هذا المجموع الموضوع للاحتواء على جميع القواعد، ومعظم الفروع عن مبالغ عظيمة في أحكامِ الولايات؛ لانقباضنا عن الخوض في الإمامة؛ فإن الفقهاء لم يذكروها، وألموا بأطرافٍ منها على نهاية التقصير، وشرطُ خَوْضنا في فنٍّ أن نستتمه أو نوفي على التمام فيه (3). فمن أراد أحكام الإمامة، فليطلبها من مجموعاتنا (4) فيها.
__________
=الشهداء العدول، ح 2641) وحديث أبي سعيد رفعه " إني لم أؤمر أن أنقب عن قلوب الناس " رواه البخاري: المغازي، باب بعث علي وخالد إلى اليمن، ح 4351. ومسلم: الزكاة، باب ذكر الخوارج وصفاتهم، ح 1064. وحديث أم سلمة " إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إليّ ". [وقد سبق تخريجه]. وحديث ابن عباس " لو كنت راجماً أحداً من غير بيّنة رجمتها " رواه مسلم: اللعان، ح 1497. ا. هـ ملخصاً من كلام الحافظ (ر. التلخيص 4/ 352 ح 2605).
(1) حديث " إنكم تختصمون إليّ ... " متفق عليه من حديث أم سلمة (البخاري: المظالم، باب إثم من خاصم في باطل وهو يعلمه، ح 2458، مسلم: الأقضية، باب الحكم بالظاهر واللحن والحجة، ح 1713).
(2) في الأصل: " ومما فيه مصلحة المسلمين ".
(3) يعتذر عن إخلاء هذا الكتاب من الكلام عن الإمامة، بأنه لا يريد أن ينحو نحو الفقهاء، فيذكر منها أطرافاً لا تفي ولا تكفي، فهذا ليس من دأبه. ومن ثَمّ أحال على كتابه الذي استتم فيه الحديث عن الإمامة والزعامة. ويعني به كتابه (الغياثي= غياث الأمم في التياث الظلم) وقد وفقنا الله لتحقيقه وإخراجه في صورة نرجو أن تكون على الصورة التي أرادها مؤلفه، أو أقرب ما يكون إليها.
(4) مجموعاتنا: المراد مؤلفاتنا ويعني هنا كتاب (الغياثي) كما أشرنا في التعليق السابق، وما ذكره أيضاً في كتابه (الإرشاد) ولعلّ له كلاماً عن الإمامة في غير هذين من مؤلفاته التي لم تصلنا.

(18/458)


قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لَيومٌ واحد من إمام عادل أفضلُ من عبادة ستين سنة، وحدٌّ يقام في أرض بحقِّه أزكى من مطر أربعين خريفاً " (1).
وقال صلى الله عليه وسلم: " سبعة يظلهم الله " (2) الحديث.
وقال: " لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالاً فسلّط عليه الإنفاقَ بالحق، ورجل آتاه الله الحكمة، فعلَّمها الناس، وقضى بها " (3).
وقال صلى الله عليه وسلم: " أتدرون مَن السابقون إلى ظل الله يوم القيامة؟ الذين إذا أعطوا الحق قبلوه، وإذا سئلوه بذلوه، وإذا حكموا للناس حكموا لهم كحكمهم لأنفسهم " (4) إلى غير ذلك من الأخبار.
11879 - ووردت أخبار في التحذير من الخوض في التزام القضاء.
قال صلى الله عليه وسلم: " من ولي القضاء، فكأنما ذبح من غير سكين " (5)
__________
(1) حديث " ليوم واحد من إمام عادل ... " رواه الطبراني في الكبير والأوسط، قال في مجمع الزوائد: (وفيه سعد أبو غيلان الشيباني، وبقية رجاله ثقات " ا. هـ. وحسّن إسناده الحافظ العراقي في تخريج أحاديث الإحياء (1/ 157). وقال ابن الصلاح: "روي من حديث أبي سعيد الخدري، ولم أجد له إِسناداً ثابتاً، ولكن أحاديث القضاء يتساهل في أمرها".
(ر. المعجم للطبراني: 11/ 267، ح 11932، والأوسط: 5/ 384، ح 4762، مجمع الزوائد: 5/ 197، مشكل الوسيط- بهامش الوسيط: 7/ 287، المقاصد الحسنة: 531، ح 858).
(2) حديث " سبعة يظلهم الله ... " متفق عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه (ر. اللؤلؤ والمرجان: الزكاة، باب فضل إخفاء الصدقة، 1/ 216 ح 610).
(3) حديث: " لا حسد إلا في اثنتين، رجلٌ آتاه الله مالاً فسلط عليه الإنفاق بالحق ... " متفق عليه من حديث ابن مسعود رضي الله عنه ولفظه "رجلٌ أتاه الله مالاً فسُلِّط على هلكته في الحق ... " (اللؤلؤ والمرجان: 1/ 156 ح 467).
(4) حديث "أتدرون من السابقون إلى ظل الله يوم القيامة ... " رواه أحمد، وأبو نعيم، من حديث عائشة (ر. المسند: 6/ 67، الحلية: 1/ 16، 2/ 187، التلخيص: 4/ 333 ح 2554).
(5) حديث " من ولي القضاء فكأنما ذبح من غير سكين " رواه أصحاب السنن والحاكم والبيهقي من حديث أبي هريرة، وله طرق، وقد صححه الحافظ في التلخيص (ر. أبو داود: الأقضية، باب في طلب القضاء، ح 3571، الترمذي: الأحكام، باب ما جاء عن رسول الله صلى الله=

(18/459)


قيل: معناه وقع في أمر عظيم، وقيل: تصدى لأمر لو وفى حقَّه، لأمات شهواته، وقهر نفسه عن الانبساط، وانكف عن المخالطة، فكأنه ذُبح من غير سكين.
وقال علي رضي الله عنه في خطبته: يا أيها الناس: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " ما من أمير، ولا والٍ، ولا قاضٍ إلا يؤتى به يوم القيامة ويوقف على الصراط، فينشر له الملائكةُ سيرته، فإن كلان عدلاً، نجاه الله، وإن كان غير ذلك انتفض به الصراط انتفاضة حتى يصير ما بين كل عضوين من أعضائه مسيرة مائة عام، ثم ينخرق به الصراط، فلا يلقى قعر جهنم إلا بُحرّ وجهه وجبينه " (1).
وقال عمر رضي الله عنه: " ما من أمير ولا والٍ إلا يؤتى به يوم القيامة مغلولة يداه إلى عنقه، أطلقه عدلُه، أو أوثقه جورُه " (2).
وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم النهي عن طلب الولاية. قال صلى الله
__________
=عليه وسلم، ح 1325، النسائي في الكبرى: القضاء، باب التغليظ في الحكم، ح 5923 - 5926، ابن ماجه: الأحكام، باب في ذكر القضاة، ح 2308، الحاكم: 4/ 91، البيهقي: 10/ 96، التلخيص: 4/ 338 ح 2559).
(1) خطبة علي رضي الله عنه لم نجد لها أثراً في كتب السنة، وإنما وجدناها في شرح أدب القاضي للخصاف (1/ 138) "أن صعصعة بن صوحان قال: خطبنا علي بذي قار ... ". والذي رأيناه في كتب السنة قريباً من هذا، ما روي عن عمر رضي الله عنه إذا كان يوم القيامة أتي بالوالي فقذف على جسر جهنم، فيأمر الله الجسر فينهض به انتهاضة يزول عنه كل عظم منه عن مكانه، ثم يأمر الله العظام فترجع إلى مكانها، فإن كان لله عز وجل مطيعاً أخذ بيده وأعطاه كفلين من رحمته، وإن كان عاصياً خرق به الجسر فهوى في جهنم سبعين عاماً". رواه أحمد بن منيع، وعبد بن حميد (ر. إتحاف الخيرة المهرة للبوصيري: 8/ 192، 193 ح 6727، 6728).
(2) أثر عمر رضي الله عنه لم نصل إليه، والذي وجدناه، وهو قريب منه، حديث أبي هريرة مرفوعاً " ما من أمير عشرة إلا يؤتى به يوم القيامة مغلولاً يده إلى عنقه، أطلقه الحق أو أوبقه الجور " رواه أحمد، والدارمي، وأبو يعلى، والبزار، والحاكم، والطبراني في الأوسط، والبيهقي، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير (ر. أحمد: 2/ 431، الدارمي: السير باب التشديد في الإمارة، ح 2515، أبو يعلى: 11/ 443 ح 6570، البزار: 2/ 253 ح 1638، 1640، البيهقي: 3/ 129، 10/ 95، صحيح الجامع الصغير: 5696).

(18/460)


عليه وسلم: " من طلب القضاء وُكل إليه، ومن ولِّي من غير طلب ولا استعانة، بعث الله إليه ملكاً يرشده ويسدده " (1).
وقال صلى الله عليه وسلم لعبد الرحمن بن سَمُرة: " لا تسأل الإمارة؛ فإنك إن أوتيتها عن مسألة وُكلت إليها، وإن أوتيتها من غير مسألة أُعنت عليها " (2).
[وإنما] (3) قدمنا هذه الأخبار لمسيس الحاجة إليها فيما نصدر به الكتاب من طلب القضاء وتقليده وتقلّده، وللأصحاب فيه خبط لا أنزله منزلة اختلافهم في تفاصيل الأحكام. ولكن الفقيه إذا لم يكن وافر الحظ من الكليات وأحكام الإيالات، إذا انتهى إلى هذه المواقف تخبّط.
11880 - ونحن ننقل عيون ما ذكره الفقهاء، ثم نوضح المسلك الحق إن شاء الله. قال القاضي: إن كان في الناحية من هو أصلح للقضاء ممن يطلبه، فالطلب من الطالب حرام، ويكره للإمام أن يوليه القضاء، وإن ولاّه، انعقد، ويكره له التقلّد إن أمكنه أن [يتعذّل] (4) وينسلّ.
ولو كان في الناحية من هو مثله يكره له طلب القضاء، وإن ولاّه الإمام، انعقد، والأولى ألا يتقلد.
__________
(1) حديث " من طلب القضاء وكل إليه ... " رواه من حديث أنس أبو داود، والترمذي، وابن ماجه، والحاكم وصححه ووافقه الذهبي، والطبراني في الأوسط، والبزار (ر. أبو داود: الأقضية، باب في طلب القضاء والتسرع إليه، ح 3578، الترمذي: الأحكام، باب ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ح 1323، 1324، ابن ماجه: أبواب الأحكام، باب ذكر القضاة، ح 2309، الحاكم: 4/ 92، الطبراني في الأوسط: 5955، التلخيص: 4/ 335، ضعيف الترمذي للألباني ح 223،222، الضعيفة للألباني 1154).
(2) حديث عبد الرحمن بن سَمُرَة: " لا تسأل الإمارة ... " متفق عليه (اللؤلؤ والمرجان: الإمارة، باب النهي عن طلب الإمارة والحرص عليها، 2/ 241 ح 1197).
(3) في الأصل: " وإن ".
(4) في الأصل: " يتعدل ". والمثبت بالذال المعجمة، وهو ترجيح من المحقق، ومعناه أنه يتلوّم، ويلوم نفسه وينسحب من هذا التقليد. وفي لفظ الغزالي في (البسيط) يتعلّل.
(المعجم والمصباح).

(18/461)


وإن لم يكن في الناحية أصلح منه، فلا كراهية في الطلب، بل يستحب أن يتعرض ويطلب، ولو لم يكن في الناحية من يصلح غيره، افترض عليه أن يتعرض، هذا منتهى كلامه.
11881 - وذكر العراقيون تفاصيل نستعملها في الطريقة المرضية، فنقول والله المستعان: التصدي للقضاء من فروض الكفايات، ولو فرض القيام به على حقه، كان في مرتبة الجهاد في سبيل الله؛ فإن الجهاد دعوة قهرية لتأسيس الإسلام بدءاً في أقوام، والقيامُ بمصالح المسلمين ضبطٌ لما تحصّل. والأمرُ الذي يُطلب ازدياده، فضبط الحاصل منه إذا قيس بالازدياد أعظمُ الركنين، والأجرُ على قدر النَّصَب، والدرجات العلا لا تنال بالهوينات. هذا كذلك.
وموجب ما ذكرناه التعرض لهذا المنصب، ولكن يعارضه أن الاستمكان من مناصب الولايات يورط النفوس الزكية في الورطات، ويستخرج منها خفايا البليات، حتى كأنها على سكونها في الطيِّ ما لم تُنْشَر، ومن العصمة ما لا يُقْدَر، وهي تنطوي على الأموال والحكم في تصاريف الأحوال، والميل للصديق على العدوّ والتشوف إلى أغراض الانتقام في أدراج الأحكام، والسلامةُ عن جميع هذه الخلال مُعوزةٌ (1)، وواحدة منها تزعزع أركان الدين.
11882 - فإذا [تعارض] (2) هذان الأمران كما وصفنا، فسبيل الكلام بعد ذلك: أن الرجل إذا كان لا يصلح للأمر غيره، فإذا ولاّه الإمام ابتداءً، لم يحلّ له الامتناع، بل تعيّن عليه التقلُّد.
ولو كان كذلك، ولم يولّه الإمام، لم يخل: إما أن يكون مشهوراً عند الإمام، [وإما] (3) أن يكون خاملَ الذكر، فإن كان خاملَ الذكر، ولم يصلح [للأمر] (4) غيره،
__________
(1) معوزةٌ: أي نادرة.
(2) في الأصل: " تعارضه ".
(3) في الأصل: " أو إما ".
(4) في الأصل: " الأمر ".

(18/462)


فحق عليه أن يُشهر أمرَ نفسه، ويبيّن محِلَّه من الصلاح للأمر، ولو مست الحاجة إلى الطلب، تعيّن عليه الطلب؛ فإنه لا يصلح غيره، وقد تعين (1) عليه، وفروض الأعيان لا تسقط باستشعارٍ يتعلق بالعواقب والمغيَّبات، بل حكم الله أن يتصدى لما تعين عليه، ثم حق عليه أن يراقب الله فيما لَه وعليه. وهذا كأحكام الإسلام، فالخلق منها على خطر، ولكنهم مدعوّون إلى المراشد مزجورون عن نقائضها، وكلٌّ ميسّر لما خلق له.
هذا إذا كان لا يصلح غيره، ثم يتعين عليه الطلب، ويتعين على الإمام النَّصْب والتقليد.
11883 - وإن كان ثَمّ من يصلح للأمر، ولكنه أفضلهم وأصلحهم، فقد اضطرب أرباب الأصول في إمامة المفضول، وإذا منعناها مع القدرة على نصب الفاضل، فلو أراد الإمام أن ينصب قاضياً مع القدرة على نصب من هو أفضل عنه، ففيه تردُّدٌ للأصوليين.
والذي ذهب إليه الأكثرون -وهو المختار- أن نصب المفضول في القضاء جائز، وإن منعناه في الإمامة؛ فإن نصب المفضول للإمامة مع القدرة على نصب الفاضل تفويتٌ لمزية فضل الفاضل على المسلمين، والنظر الكلي من الفاضل عظيم الغناء، وإذا نصب الإمام مفضولاً، ونظرُه من ورائه، وهو يرعاه بالعين الكالئة، فلا تفوت المزية، والعلم عند الله، والتفريع على جواز نصب المفضول للقضاء. فإن ابتدأ الإمام ونصب مفضولاً، فلا معترَض عليه.
11884 - وغرضنا الكلامُ في الطلب وقد تصدى لنا فاضل ومفضول، فنتكلم في طلب المفضول، ثم نتكلم في طلب الفاضل:
أما المفضول إذا طلب القضاء، فقد قال القاضي: يحرم عليه الطلب، وهذا مع تصحيح نصب المفضول خطأ، وقد قال: يكره للإمام أن ينصبه، وحكم الطلب يُتلقى من حكم النَّصْب.
__________
(1) تعين عليه: أي صار فرضُ الكفاية فرضَ عين بالنسبة له.

(18/463)


والقول الوجيز فيه: أنه إذا جاز النصب وصحّ، فطلبُ الجائز الصحيح كيف يحرم؟ فالوجه الاقتصار على كراهية الطلب مع [وجود] (1) الفاضل، وسيأتي في هذا [مزيد] (2) شرح عند ذكر استواء المناصب. وقد تبيَّن المقصود.
11885 - فأما الفاضل إذا طلب، فالقول في طلبه لا يستدّ إلا بعد ذكر استواء مناصب الرجال، فنقول: إذا تصدى للأمر طائفة متماثلون في الصلاح للأمر، فيقع الكلام في فصلين: أحدهما - في نصب الإمام من غير طلب، والآخر - في الطلب.
فأما إذا نصب الإمام واحداً من المتماثلين، فلا يكره له التقلّد إلا إذا كان يغلب عليه استشعارُ الميل عن مواقف الشريعة، فإن كان كذلك، وتمكّن من مقابلة تقليد الإمام بعذرٍ، فلا شك أن الذي يقتضيه الدين الاجتنابُ، والسببُ فيه أن الأمر وإن كان عظيمَ القدر بالغَ الأجر، فالخطر أعظم، ومن تصدى له فرض كفاية، وكان يغلب على ظنه غررٌ ينال نفسَه، فحق عليه أن يجتنب. وبيانُ الفصل عند نجازه.
وإن لم يغلب عليه استشعار المخالفة من نفسه، وقد قلده الإمام بدءاً من غير طلب منه، فينبغي أن يتقلد؛ جرياً على قول المصطفى عليه السلام: " إن أوتيتها عن غير مسألة، أُعنت عليها ".
وذكر العراقيون وجهين في وجوب التقلّد عند تقليد الإمام، وهذا فيه إذا كان تقليده جازماً، فأما إذا كان على خِيَرة، فلا وجوب؛ فإن الشيء إنما يجب إذا أوجب الإمام القيامَ به، وجزم الأمرَ فيه، ثم الوجهان فيه إذا لم يستشعر من نفسه المخالفة، فإن استشعرها، فالحِذارُ ما وجد إليه سبيلاً.
هذا قولنا في النَّصْب مع تساوي الدرجات.
11886 - فأما الطلب -وهذا أوان الكشف التام فيما سبق وبقي- فنقول: للطالب ثلاثة أحوال: إحداها - أن يعلم من نفسه اغتلامَ الشهوات وثورانَ القوى الغضبية والتشوّفَ إلى تعدي المواقف، فمثل هذا تشتد الكراهية في حقه في الطلب، وإن
__________
(1) زيادة من المحقق.
(2) في الأصل: " مرية ".

(18/464)


قيل: أيرقى الكلام إلى التحريم؟ قلنا: إن كان يطلب ويُضمر ما ذكرناه، فالتحريم؛ فإنه طلب أمانةً مع قصد الخيانة، والمودَع إن قصد بقبض الوديعة الخيانةَ، فهو ضامن، ومن التقط لقطة، وهو يقصد [تغييبها] (1)، فهو ضامن لا يَتَوصَّل إلى تملكها وإن عرّفها.
وإن طلب ولم يقصد الخيانة، وقصد أن يتوقَّى جهدَه، فالكراهيةُ، وليس كما لو كان يقتحم إلى فرض كفاية مخاوفَ محسوسةً كأُسدٍ ضارية أو ما في معانيها؛ فإن ما يتوقع من الأخلاق الرديئة لا ينتهي إلى ما يحسّ من أسباب التلف. هذه حالة.
الحالة الثانية - ألا يحسَّ من نفسه هَيْجاً وسَرَفاً في الأخلاق، وما كان اختبر نفسه في مخامرة [الأمور] (2) العظيمة، فهو على خطر من أمره.
فإذا أضمر التقوَى، فله حالتان: إحداهما - أن يكون فقيراً محارَفاً (3) يبغي كَفافاً من رزق يُدَرُّ عليه، فلا نطلق الكراهية والحالة هذه، وإن كان معه كفاف وبُلغة، وهو على غرر، ولم يغلب على ظنه الميل، فلا تشتد الكراهية، ولكنا نطلقها.
الحالة الثالثة - أن يكون قد اختبر نفسه في عظائم الأمور ولم ينقِم هَيْجاً ومجاوزةَ حد، فهذا تصدَّى له منصب عظيم في فروض الكفايات، وظنٌّ غالب في اقتحام المخالفات، وهو في التقاسيم كلها مستقل بالأمر: فمن أصحابنا من يطلق الكراهية، [والرأي عندنا] (4) نَفْيُ الكراهية في هذا المقام، ثم إذا نفيناها، فهل يُستَحَب الطلب؟ فعلى وجهين: أقيسهما - أنه يستحب؛ لأنه طلبُ تلبّسٍ بكفايةِ مُهمٍّ عظيم.
ولولا عموم الأخبار في التحذير، لصححنا هذا الوجه، والعلم عند الله.
فإن قيل: إذا كنتم تطلقون التحذير ولا تخصصون بشخص، فهذا يؤدي إلى
__________
(1) في الأصل: " تعيينها ".
(2) زيادة من المحقق لإيضاح المعنى. ثم جاءتنا بها (ق).
(3) محارَفاً: بفتح الراء. هو الذي حورف كسبه، فميل به عنه، كتحريف الكلام يعدل به عن جهته. (المصباح).
(4) في الأصل: " والثاني عنده " والمثبت تقدير منا، وجاءت (ق) لا تكاد تقرأ فيها هذه اللفظة.

(18/465)


انكفاف الناس قاطبة عن هذا الأمر المهم؛ فإنهم يتخاذلون ويتواكلون، فيتعطل الأمر؟ قلنا: لا مخافة من هذا، والمحذور التكالبُ على العمل، والازدحامُ عليه؛ فإن النفوس تستحث أربابها على طلب أسباب الاستعلاء، فمن حِكْمة الشرع تغليبُ التحذير، والجبلاتُ تغالبه، حتى يتوقع منه اعتدالٌ في الإقدام.
وهذا يناظر من أصول الشرع [قولنا] (1): لا يجب على الزوج أن يستمتع، وإن قطعنا بأن الغرض الأظهر من النكاح إعفافُ الزوجين عن السفاح، وهذا فيها بمثابته في جانب الزوج، ولكن اكتفى الشرع في جانب الزوج باستدعاء الجبلّة بحكمةٍ بسيطة ذكرناها في موضعها.
11887 - وقد كنا أبهمنا قولاً في طلب الفاضل، وفيما ذكرناه بيانه، فإن كان يغلب على الظن أمنُه من العدوان، فالطلب أفضل له، ومزية الفضل تمحو الكراهية، وإن كان يعلم من نفسه التعدي والهيج، فالحِذار؛ فهذا لا يكافئه مطلوبٌ في الباب، ولا فرق في هذا المقام بينه وبين واحد، والمناصب مستوية، وإن لم يعرف من خُلقه محذوراً، ولم يختبر نفسه في العظائم، فالقول فيه كالقول في واحد مع استواء الرتب، إلا أن الكراهية إن أطلقناها، فهي أخف. وإن ذكرنا خلافاً، فهو على استواء الرتب.
وقد انتجز القول في طلب القضاء وتقلُّده وتقليده، واستعمالنا ما ذكره الأصحاب حيث رأينا استعمالَه.
فصل
قال: " وأن يكون في غير المسجد لكثرة الغاشية ... إلى آخره " (2).
11888 - ظاهر ما نقله المزني أن التصدي للقضاء في المسجد لا يلتحق برتبة المكروه، ولكن الأَوْلى تركُه، وكلام الشافعي في مجموعاته ناص على الكراهية.
__________
(1) في الأصل: " ما قلنا ".
(2) ر. المختصر: 5/ 241.

(18/466)


قال في الكبير: " إذا كنت أكره القضاء في المسجد، فأنا لإقامة الحد في المسجد أكره ".
والقول في إثبات الكراهية ونفيها مع المصير إلى أن الأولى غيرُ ما فيه الكلام مما يكثر فيه خبط الفقهاء، ولا يحيط به من لم يقف على مسالك التحقيق في ذلك من فن الأصول. ونحن نقول: كلُّ ما جُرّد إليه قصدٌ في النهي عنه، وثبت [أنه] (1) ليس نهيَ تحريم، فهو نهيُ كراهية.
ثم المكروه له رتب، كما أن المندوب له رتب، وإنما نشأ الاضطراب من [سؤالٍ] (2) ونحن نؤخر الجواب عنه، وهو أن استغراق الأوقات بالخيرات مستحب، ولا يوصف ترك الاستغراق مع الإتيان بالمندوبات المشروعة بكونه مكروهاً، والسبب فيه أنه لم يرد نهيٌ مقصود عن ترك استغراق الأوقات.
والتعويل في ثبوت الكراهية على ثبوت نهي على [فعلٍ] (3) من غير تحريم، كما أن التعويل في ثبوت التحريم على ثبوت نهي مقصود يجري على حقيقته.
والتردد الذي في نص الشافعي في اتخاذ المساجد مجالسَ القضاء أتى مما ذكرناه؛ فإنه لم يرد في ذلك نهي مقصود، ولكن متعلَّق القضاء أمور ورد فيها النهي المقصود، كرفع الأصوات وإدخالِ الصبيان المساجدَ، ومنعِ النسوة الحُيَّض مع مسيس الحاجة إلى رفعهن إلى مجلس القضاء، فكان التردد لهذا.
والأصح إطلاق الكراهية؛ فإن الأمور التي أشرنا إليها من أركان القضاء.
ثم ما ذكرناه في اتخاذ المسجد مجلساً على اعتياد، فلو اتفق فصل قضيةٍ أو قضايا معدودة في [بعض] (4) الأيام من غير اعتياد، فلا بأس، وكثيراً ما كان يقضي رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد، ومَحْمَلُه ما ذكرناه.
__________
(1) زيادة اقتضاها السياق.
(2) في الأصل: " سؤاله ".
(3) في الأصل: " فضل ".
(4) زيادة من المحقق.

(18/467)


11889 - ثم قال: " لا حجاب دونه ... إلى آخره " (1).
ذكر الصيدلاني وجهين في أن القاضي هل يتخذ حاجباً؟ ثم ذكر طريقين في محمل الوجهين: إحداهما - أنه إذا لم يجلس للحكم، فله ذلك، وإن جلس للقضاء فوجهان.
والطريقة الثانية - عكس هذه، ولا معنى عندنا للخلاف في ذلك، ولكن إن كثرت الزحمة، وكانت المصلحة في اتخاذ حاجب ليمنع الزحمة، اتخذه، وإن كانت المصلحة على خلاف ذلك، اتبعها، وكذلك إذا استخلى بنفسه لحاجته الخاصة، فلا بأس لو أجلس بواباً، فلا مساغ للخلاف في ذلك.
11890 - قال: " وجلس في أرفق الأماكن ... إلى آخره " (2).
ينبغي للقاضي أن يرتاد للقضاء موضعاً رفيقاً، إن كان في الصيف تخير ظلاً في مهبّ الرياح، وإن كان في الشتاء ارتاد كَنيفاً (3). وليكن المكان متسعاً لا يضيق من الخصوم والمتصلين بهم من غاشية المجلس. وإنما رأينا اختيارَ مكانٍ موافقٍ للزمان حتى لا تُسرع الملالةُ ولا تظهر بسببه المَضَرّةُ على القاضي والمرتفعين إليه.
11891 - ثم قال: " ومعقول في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقضي القاضي ... الخبر ".
روى الشافعي رضي الله عنه بإسناده عن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه (4) عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لا يقضي القاضي بين اثنين وهو غضبان " أو قال: " لا يحكم الحاكم " (5) شك الشافعي.
__________
(1) ر. المختصر: السابق نفسه.
(2) السابق نفسه.
(3) كنيفاً: أي ساتراً. وفي بسيط الغزالي: " اختار كنّاً كنيناً " ثم جائتنا (ق) بعبارة البسيط.
(4) في الأصل: " عبد الرحمن بن أبي بكر " والتصويب من كتب السنة.
(5) حديث " لا يقضي القاضي وهو غضبان " رواه الشافعي كما قال الإمام (الأم: 6/ 199) وهو
في الصحيحين (اللؤلؤ والمرجان: الأقضية، باب كراهة قضاء القاضي وهو غضبان، ح 1119).

(18/468)


وروى أبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لا يقضي القاضي إلا وهو شبعان " (1).
والغرض من الفصل أن كل معنىً يورث مللاً، أو حدّة في الخُلق، أو خللاً في البصيرة مانعاً من التثبت والتأمل، وتوفية الاجتهاد حقَّه، فلا ينبغي أن يقضي القاضي وهو به، كالجوع، والعطش، والمرض، والغضب، والحزن البيّن، فإن احتد احتداداً لا يمنعه من [الاستداد] (2)، فإن كان احتداده لله تعالى، فهذا لا ينافي ما ذكرناه مع مَلْكه نفسه فيما يتعلق بحظِّه (3)، وذكر الأصحاب في ذلك تغير رسول الله صلى الله عليه وسلم في قصة الزبير بن العوام، إذ ارتفع إلى مجلس النبي صلى الله عليه وسلم مع جارٍ له في سقي بساتين من وادٍ بالحرّة، وكان بستان الزبير أعلى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اسق أرضك، ثم أرسل الماء إلى جارك "، فقال: ذلك أن كان ابن عمته، فتغيّر رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إذ في الحديث أنه قال ذلك ولوى شدقه، فقال صلى الله عليه وسلم: " اسق أرضك حتى يبلغ الماء الجَدْر، ثم أرسل الماء إلى أرض جارك " (4).
11892 - ثم قال: " وأكره له الشراء والبيعَ ... إلى آخره " (5).
لا ينبغي للقاضي أن يتولى البيع والشراء بنفسه: لأنه لو فعل، فربما يحابَى استحياء منه، أو طلباً لاستمالة قلبه ليميل في حكمه. ولهذا المعنى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر -وكان تصدق بفرس- فرآه معروضاً على البيع، فأراد
__________
(1) حديث " لا يقضي القاضي إلا وهو شبعان " رواه الدارقطني (4/ 306)، والبيهقي: (10/ 105 - 106) والطبراني في الأوسط (ح 4600 - 5/ 305). قال الحافظ: " وفيه القاسم العمري، وهو متهم بالوضع" (ر. التلخيص: 4/ 347 ح 2584).
(2) في الأصل: " الاستبداد". وهو تحريف واضح.
(3) أي بحظ نفسه، فلا يكون غضبه ثأراً لنفسه، وانتقاماً لها. فيدفعه ذلك إلى الزلل.
(4) حديث " خصومة الزبير مع جارٍ له في سقي بساتين وقضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها وهو غضبان " متفق عليه، وتقدّم في إحياء الموات.
(5) السابق نفسه.

(18/469)


شراءه: " لا تَعُد في صدقتك " (1). أراد أن المتصدَّق عليه ربما يستحيي فيحابي، فيكون كالراجع في مقدار مما تصدق به.
وإن وكل القاضي وكيلاً، فينبغي ألا يكون وكيلُه معروفاً به لما ذكرناه.
11893 - ثم قال: " ولا أحب أن يتخلف عن الوليمة ... إلى آخره " (2).
إجابة الداعي مسنونة، وفيها الأخبار التي رويناها في باب الوليمة من كتاب الصداق، والقاضي يجيب الداعي على شرط ألا يخصص بعض الدعاة عن بعض، فيورث التخصيصُ تهمةً في الميل وضعفاً في قلوب الذين لم يجبهم؛ فإنهم قد يرتفعون مع الذين أجابهم إلى مجلسه على انكسار في قلوبهم.
ثم كما لا يخصص داعياً، فكذلك لا ينبغي أن يحضر مأدبة هُيّئت لأجله؛ فإن ذلك يورث المعنى المحذور.
وكذلك لو دعي مع طائفة من المعتَبرين لا يشوبهم (3) من عامة الخلق أحد؛ فإن الداعي يبغي بما يفعله من ذلك الاستظهارَ والتجملَ بحضور القاضي دارَه، ولكن يشهد مأدبةً يشهدها من عامة الخلق من يبطل بسببه معنى التخصيص.
11894 - ثم قال: " فإذا بان له من أحد الخصمين لدَدٌ ... إلى آخره " (4).
من أساء الأدب في مجلس الحكم أو جاوز الحد المشروع في الخصام وانتهى إلى اللدد، فالحاكم ينهاه، فإن عاد زَبَرَه، فإن أصر عليه عزّره، ويجري في ذلك على سجيّة الزوج في زجر امرأته على النشوز، كما قال تعالى: {فَعِظُوهُنَّ} [النساء: 34]، الآية.
__________
(1) حديث قول الرسول صلى الله عليه وسلم لعمر: " لا تعد في صدقتك " متفق عليه (اللؤلؤ والمرجان: الهبات، باب كراهة شراء الإنسان ما تصدّق به ممن تصدّق عليه، ح 1045، 1046).
(2) السابق نفسه.
(3) لا يشوبهم: أي لا يخالطهم.
(4) السابق نفسه.

(18/470)


فصل
قال: " ويشاور ... إلى آخره " (1).
11895 - المشورة مستحبة. وقد أثنى الله تعالى على أقوام يعتادودن ذلك. فقال: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى: 38]، وأمر رسوله عليه السلام بالمشورة، فقال: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران: 159]، قيل: جمع سياقُ الآية مكارمَ الأخلاق.
ثم قال: " قال الحسن البصري: " إن كان صلى الله عليه وسلم من مشاورتهم لغنيّاً " (2)، ولكنه أراد أن يستنَّ به الحكامُ بعده ". والأمر على ما ذكره.
ثم اندفع الشافعي لبيان الاجتهاد، وذكر مجامعَ من طُرقه، حتى انتهى إلى الرد على أصل الاستحسان، وتقسيم الأقيسة وذكر مدارك الأحكام، والفصل بين قياس المعنى، وقياس الشبه (3)، ولو خضنا في هذا المخاض، لكنّا حائدين عن شرط هذا المجموع الذي مبناه على ألا يخرج بالفقه فيه شيء إلا على قدر الحاجة، والذي أشار إليه معظم أصول الفقه، ولو طلبنا حقائقه، لزاد ما نأتي به على الفقه من كتاب أدب القاضي، ولو اقتصرنا على المبادىء، لم ننته إلى الحقائق، وهي المطلوبة من الأصول، فمن أرادها، طلبها من مجموعاتنا في الأصول موفقاً إن شاء الله.
11896 - ثم انتهى مساق كلام الشافعي إلى القول في نقض القضاء. وهذا مقصودٌ من هذا الكتاب، نضطر فيه إلى فضلِ بيان. وقد اضطرب أرباب المذاهب فيها، حتى انتهى الأمر إلى عدّ مسائلَ والطمعِ في حصرها، ولا يصدر هذا إلا عن قلة البصيرة، وعدم الاطلاع على أصل الفصل، ولا حاجة إلى ذكر ما ذُكر؛ فإن الكلام في هذا من محض الأصول، وإذا تولينا معانيها وما فيها، فقد تولّى القوسَ باريها (4).
__________
(1) ر. المختصر: 5/ 241.
(2) هذا أيضاً من كلام الشافعي في المختصر. الموضع نفسه.
(3) ذكر الشافعي ذلك موجزاً في الموضع السابق نفسه من المختصر.
(4) إشارة إلى المثل المشهور.

(18/471)


فنقول: كل مسألة يتعلق القول فيها بالقطع، فمن حاد عن مُدرك الصواب نُقض عليه حكمه، وكل مسألة لا مستند لها من قاطع فإذا جرى حكم الحاكم فيها بمذهبٍ، وهو في محل التحري، ومساق الظن، فلا سبيل إلى نقض الحكم فيه، ثم حقيقة القول في هذا يستدعي الإحاطة بمدارك القطع، ولا طمع في الخوض فيها إلا على قدر الحاجة.
فنقول: إذا خالف الحكمُ نصَّ الكتاب، أو نص السنة المنقولة قطعاً، أو إجماع الأمة، فلا شك في النقض. فإن خالف خبراً صحيحاً نقله الآحاد، أو خالف القياس الجلي، فقد يُفضي الأمر إلى النقض.
والضابط فيه أن كل مسألة مبناها بعد الأصول الثلاثة التي ذكرناها يرجع إلى ترتيب الأدلة -والكلامُ [فيما يُقدَّم] (1) منها- فالمسألة قطعية، وهذا كاشتمال المسألة على خبر لا يُؤَوَّل، وقياسٍ في معارضته، كمسألة خيار المجلس، والمصراة، والعرايا، وإباحة الجنين إذا تذكى بذكاة الأم، وفي المسألة حديث أبي سعيد الخدري، فالقول فيها وفي أمثالها يؤول إلى مراتب الأدلة، فنحن نقدم الخبرَ، والخصمُ يقدم القياس غيرَ متشوّف إلى تأويل، ووجوب تقديم الخبر مقطوع به، وهو من جليّات مسائل الأصول.
ومما نذكره عند هذا المنتهى أن من لا يرى تقديم القياس، ولكن يعتمد تأويلاً عند نفسه -وهو باطل عند الأصوليين- فلا مبالاة بتأويله، والمذهب المبني عليه باطل قطعاً.
والقول في مراتب التأويلات جمعناه في كتاب من كتب الأصول (2)، وكل مسلك يختص به أصحاب الظاهر على القيَّاسين فالحكم بجنسه منقوض، وبحقٍّ قال حبرُ الأصول القاضي أبو بكر: إني لا أعدّهم من علماء الأمة، ولا أبالي بخلافهم ووفاقهم.
__________
(1) في الأصل: " فيها يقدر " والمثبت من (ق).
(2) بسط الإمام قضيةَ التأويل في كتابه البرهان في أصول الفقه، حيث عقد لذلك باباً باسم (باب التأويلات) (ر. البرهان: الفقرات- 424 - 486).

(18/472)


وصرح الشافعي بما [يتضمّن] (1) إبطالَ الحكم المستند إلى الاستحسان، والقولُ فيه: إن أصحاب الاستحسان ربما يُسندون ما يَرَوْنه إلى خبر، كمصيرهم إلى أن الناسي لا يُفطر الأكل؛ لخبر أبي هريرةَ فيه، وكلُّ مذهبٍ مستندٍ إلى خبر، فهو متلقى بالقبول، وعبارة صاحب المقالة عن هذا بالاستحسان على نهاية السخافة والغثاثة؛ فإن قبول الخبر لا محيد عنه، والاستحسانُ يشعر بتردد وميلٍ خفي إلى جانب (2).
ومعظمُ قواعد الاستحسان استصلاح جلي أو خفي لا أصل له في الشريعة، ومعنى قول صاحب المقالة: الاستحسان مقدم على القياس: أن القياس الجاري على وفق قواعد الشريعة مؤخر عن استصلاحٍ لا أصل له في الشريعة.
وقد عبّر الشافعي عن غور هذا الفصل بكلمات وجيزة، إذ قال: " من استحسن فقد شرَّع".
11897 - ومما يتعلق بغرضنا أن المسألة إذا كان مستندها في النفي والإثبات القياس من الجانبين، فإذا اتجه في أحدهما قياس جليّ تقضي قواطعُ الأصول به، وفي الجانب الآخر متعلَّق خفي، فالمسألة من مسائل النقض إذا صادف الحكم المدركَ الخفي، ويجمع هذا النوعَ أن الجانب الجلي يسترسل في أقيسة الشريعة، والجانب الخفي يستمسك بشواذَّ ونوادرَ، يتكلف صاحبه ربطَ الكلام بها، وينتظم له فن من التعقيد سببه شذوذُ متعلقاته، وهذا كحكمنا بأن المأذون له في التجارة يقتصر على النوع المأذون فيه؛ فإنه عبد مملوك يتصرف فيما ليس له بذن مالكِه ومالكِ رأس المال.
وأبو حنيفة رضي الله عنه يبني مذهبه على أنه يتصرف لنفسه، وقد يعتضد بالعهدة، وغاية الكلام فيها تعقيد لا يناسب مسالك الأقيسة الجلية.
ومما يجري النقض [به] (3) إذا تردد مذهبان بين موافقة قاعدة كلية وبين مجانبتها
__________
(1) في الأصل: " يتضم".
(2) كذا، بدون ذكر المضاف إليه، ولعلها: " إلى جانب التشهي أو الاستصلاح ". وجاءت (ق): " إلى جانبه ".
(3) في الأصل: " بينه ".

(18/473)


والتزام [جزئها] (1) كمسألة المثقّل، ومعظم مسائل الحدود والغصوب.
فإن قيل: ما من مسألة مبناها على القياس إلا ويشتمل أحد المذاهب فيها على قياسٍ مقدم في المرتبة، وقد ذكرتم أن ما يتعلق بترتيب الأدلة، فالنقض متسلط عليه.
وتمام البيان في ذلك أنه إن تقاوم المسلكان وعرف الأصولي تقاومَهما، ثم حُكْم الله في تقاوم المآخذ بيّنٌ، فقد يكون تخييراً، وقد يكون تغليباً، إذا ثبت التغليب في الفن، فإذا لم يكن تقاوم، فلا تميّز إلا بالرتبة.
ثم القواطع منها جلي، ومنها خفي يتوصل إليه بمزيد فكر. وعلى ذلك تجري المعقولات.
قلنا: هذا الآن سرف ومُجاوزة حد، ويلزم منه جريان النقض في جميع المسائل، والقول المقرّب إلى الضبط أن الكلام إذا تعلق بالترجيح، فلا يكاد يُفضي إلى القطع، فقد يتعارض قياسان لا يَتَوصَّل الأصولي إلى إيقاعهما في مرتبتين لازدحام مسائل الفقه، وتداني الأقدام في ادعاء الجلاء والخفاء، وهذا يعرفه الفقيه.
ولا ينفصل فيه أمر يقطع به الأصولي. وهذا القسم الذي إليه الانتهاء موضعُ تصويب المجتهدين على رأي، والحكم بأن المصيب واحد لا بعينه في رأي.
ولو قال قائل: كل ما لا يتعين فيه مصيب، أو يصار فيه إلى تصويب المجتهدين، فلا يجري فيه نقض القضاء، لكان كلاماً مستقيماً راجعاً إلى ما اعتبرناه من ثبوت القطع وعدمه.
11898 - وقد ذكر الشافعي مسائل في نقض القضاء، فنذكرها تيمناً؛ قال: من فرّق بأكثر كلمات اللعان، وأقامها مقام الكل نقضتُ قضاءه.
وقال: من حكم بأن امرأة المفقود إذا تربصت أربع سنين، واعتدت عدة الوفاة، نكحت، نقضتُ قضاءه، وإن قال به عمر.
__________
(1) في الأصل: " جرمها ". والمثبت تصرف من المحقق، وفي عبارة الغزالي في (البسيط) ما يؤيده؛ إذ قال: " ما يتقاوم فيه قياس جزئي، وقانون كلي، فالحكم المخالف للقانون الكلي منقوض كحكمهم في مسألة المثقل، ومعظم مسائل الحدود والغصب " (ر. البسيط: الجزء السابع/ورقة 99 شمال).

(18/474)


وروي أن مَخْلدَ بن خُفَات ابتاع غلاماً واستغله زماناً فأراد أن يرده بالعيب، فقضى عليه عمر بن عبد العزيز برد العبد والغَلَّة، فروى عروةُ عن عائشة أنه صلى الله عليه وسلم قضى في مثل ذلك أن الخراج بالضمان، فنقض عمر قضاءه (1).
وقضى شريح في امرأة ماتت وخلفت زوجاً وابني عم أحدهما أخ للأم: بالنصف للزوج، وبالباقي لابن العم الذي هو أخ لأم، فأخبر به عليٌّ رضي الله عنه، فقال عليّ بالعبد الأبظر -أو قال بالعبد الأشط- والأبظر العظيم الشفتين، والأشط (2) معلوم، وكانت له شعرتان ممتدتان إلى سرته، فأُتي به. فقال: ما حملك على هذا؟ فقال: كتاب الله {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} [الأنفال: 75]، فنقض علي قضاءه.
وكتب عمر إلى أبي موسى لا يمنعك قضاء قضيتَه ثم راجعت نفسك، فهُديتَ الرشد أن تنقضه؛ فإن الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل.
وقضى عمر في مسألة المشرّكة بإسقاط الأخ من الأب والأم بعد أن كان شرك، فقيل له: شرّكت في العام الأول، فقال: تلك على ما قضينا، وهذا على ما نقضي (3). فلم ير مسألة المشتركة مما يجري النقض فيها لتعارض الاجتهاد. وهذا حق كما رآه.
ثم روى الشافعي قول رسول الله صلى الله عليه وسلم " من اجتهد فأخطأ فله أجر، ومن اجتهد وأصاب فله أجران " (4).
__________
(1) أثر مخلد بن خُفاف: " أنه ابتاع غلاماً واستغله زماناً ... فقضى عليه عمر بن عبد العزيز برد العبد ... " رواه الشافعي (ترتيب المسند: 2/ 144 ح 482)، وأبو داود الطيالسي: ح 1464، والبيهقي في الكبرى 5/ 321، وفي معرفة السنن: 5/ 359 ح 3482.
(2) الأشط: الجائر يقال: أشط في حكمه: جار. (المعجم).
(3) ما أثبته الإمام هنا يخالف ما قاله في كتاب الفرائض، ويخالف المشهور في قضية المشرّكة، وهو أن عمر أسقط الإخوة للأب والأم، ثم عاد فشرّكهم لما روجع في العام بعده عندما قال له الأخ للأب والأم: هب أن أبانا كان حماراً. أفلا يزيدنا إلا قرباً.
هذا وقد تابع الغزالي شيخه في الوسيط والبسيط، وقد استدرك عليه ابن الصلاح والحموي في تتبعهما لمشكلات الوسيط. (ر. الوسيط: 7/ 304)
(4) حديث " من اجتهد وأصاب فله أجران ... " متفق عليه من حديث عمرو بن العاص، =

(18/475)


وقد أثنى الله تعالى على داود باجتهاده مع خطئه في قوله: {وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ} [الأنبياء: 78] الآية، قال الحسن: لولا هذه الآية، لرأيت أن الحكام قد هلكوا.
ثم قال بعض العلماء: أجر المخطىء على مقابلة قصده في طلب الصواب، وقال آخرون: هو على مقابلة استداده في بعض النظر، والمخطىء في الغالب يستدّ أولاً، ثم يزورّ، والمسلك الأول أقرب؛ فإنه قد يحيد في أول نظره عن سنن الصواب، وهو مأجور بحكم الخبر المأثور، حملاً على قصد الثواب. ولو أخطأ القاضي، وتعيّن له الخطأ، فحق عليه أن يُتْبع خطأه بالنقض، ويستفرغ في استدراكه الجهد.
ولو علم أنه أخطأ في قضيته، لكنها استبهمت عليه واختلطت بالأقضية، فيتعيّن عليه البحث، فإن بذل الجهد ولم يعثر، فلا عليه، وإذا كان [قبله مصروفٌ قضى به] (1). فليس عليه أن يتَّبع أقضيتَه، ولكن ما رفع منها إلى مجلسه وادُّعي فيها شططٌ، قضى فيها بموجَب الشرع، وسيأتي في الصارف والمصروف وصفات القضاة فصولٌ منتظمة في آخر الكتاب، إن شاء الله عز وجل.
فصل
قال: " وإذا تحاكم إليه أعجمي لا يعرف لسانه لم يقبل الترجمة عنه إلا بعدلَين ... إلى آخره " (2).
11899 - القاضي لا يتصور أن يكون أعجمياً؛ فإن الشرط أن يكون مجتهداً على المسلك الأصح، كما سيأتي إن شاء الله.
ومن ضرورة ذلك أن يكون عليماً بلغة العرب، فإن الشريعة عربية. فإن كان أحدُ الخصمين أو كلاهما أعجمياً، والقاضي لا يعرف لسانهما، فلا بد من الرجوع إلى قول المترجم.
__________
= وأبي هريرة (اللؤلؤ والمرجان: الأقضية، باب بيان أجر الحاكم إذا اجتهد: فأصاب أو أخطأ، ح1118 (2/ 195)).
(1) في الأصل: " وإذا كان مثله مصروف به ".
(2) ر. المختصر: 5/ 242.

(18/476)


ثم نَجري على عادتنا في نقل ما ذكره المعتبرون من أئمة المذهب، ثم ننعطف على المنقول بالبحث.
قال الأئمة في الطرق: لا بد من مترجمَيْن؛ فإنهما ينقلان أقوال المتداعِيَيْن إلى القاضي، فكانا بمثابة الشاهدَيْن.
ولو كان بالقاضي وَقْر وطرش، وقد لا يسمع في مجلسه كلام المتداعِيَيْن الجالسَيْن [بدنو] (1) منه، فلا بد من المُسْمِع.
11900 - ثم اختلف الأصحاب في اشتراط العدد فيما ذكره القاضي، فقال بعضهم: لا بد من اثنين كالترجمان، والثاني يُكْتَفى بمُسمع واحد، لأنه لو غيّر المسمع بالزيادة والنقصان، لاعترض عليه الخصمان. فإن كان أحد الخصمين أصم، اكتفى بمسمع واحد على هذا الوجه؛ لأنه لو غيّر والقاضي سميع، لأنكر عليه القاضي، وإن كانوا كلهم -الخصمان والقاضي- صُمّاً، فلا بد من مسمعَين.
وهذا كلام مختلط، فيجب أن نعتقد أن المترجم كالمُسْمِع قطعاً؛ فإن كل واحد منهما ناقلٌ للقاضي: أحدهما ينقل معنى اللفظ، والثاني ينقل اللفظَ بعينه، فلا معنى للقطع باشتراط العدد في الترجمان وترديد الخلاف في المسمع، بل الوجه أن نقول: إن كان الخصمان عارفين بالعربية لا يغيب عنهما مُدْرَكُها، ولكنهما لا يحسنان النظم؛ فهذا بمثابة ما لو كان الخصمان سميعين والقاضي أُطروشٌ (2)، والحكم في الصورتين أن القاضي إذا احتاج إلى التلقي من المتوسط بالترجمة أو الإسماع والخصمان مُدركان؛ فالوجه أنهما إذا أدركا ما جرى، [وقرّرا] (3) المترجِمَ، كفى
مترجم واحد، وحق القاضي أن يعتمد تقريرهما، ولو استظهر بإشارتهما، فحسن.
وأطلق الأصحاب ذكر الوجهين في هذا المقام التفاتاً إلى قاعدة التعبد بالعدد، وهذا لا وجه له.
__________
(1) في الأصل: " بنده ".
(2) الأطروش: الأطرش. (المعجم).
(3) في الأصل: " وقرر ".

(18/477)


ولو كان القاضي والخصمان صماً، أو كان الخصمان أعجميين، وليس بالحضرة غيرُهم ومن يترجم أو يسمع فالوجه القطع باشتراط العدد.
وذكر بعض أصحابنا وجهين في المُسمع، وهذا إن [اتجه] (1)، وجب إجراؤهما في المترجم، وإلا فلا فرق.
ولو كانوا صماً، أو كان الخصمان أعجميين لا خبرة لهما بلسان القاضي، وكان بالحضرة عدول يسمعون، أو يعرفون لسان القاضي، ولغة الخصمين، فإذا ترجم المترجم، أو أسمع المسمع -والحالة هذه- فينقدح في هذه الصورة وجهان؛ من قبل أن الحضور لا تتعلق الخصومة بهم، والأظهر الاكتفاء بمترجم واحد، ومُسمِع واحد؛ فإن الذين شهدوا المجلس لو سمعوا تغييراً لأبدَوْا نكيراً.
وعندي أن هذا الخلاف فيه إذا لم يكن الشهود موصَّين من القاضي بالإصغاء ومراقبة الحال، وهذا هو المسلك الحق.
ولو كان القاضي سميعاً والخصمان أصمان، أو أحدهما، فلا بد من مسمع بينهما، فيكفي المسمع الواحد، والقاضي رقيب عليه. وكذلك القول في المترجم؛ فإن القاضي موصىً شرعاً بالمراقبة ومطالعة حقيقة الحال.
11901 - ثم ينشأ من هذا المنتهى أن الترجمة والإسماع ليسا على حقائق الشهادات، وإنما يجريان واسطتين بين قول الخَصْم ودَرْك القاضي، ولذلك اختلف التفصيل باختلاف الأحوال كما رتبناها. وعدد الشهود لا يختلف.
ومن الدليل على ذلك أنهما في الخصومات المتعلقة بحقوق الآدميين يجريان من غير تقدم دعوى؛ فصار العدد حيث نرعاه استظهاراً أو شهادة؛ ولهذا قال الأئمة: إن اكتفينا بمترجم واحد، أو مُسْمِعٍ واحد، فلا يشترط لفظ الشهادة، فإن شرطنا العدد، ففي اشتراط لفظ الشهادة وجهان، وهذا لطيف؛ فإن النقل من غير قرينة تؤكد الثقة يقتضي الاستظهار بالعدد، والخروج عن رتبة الشهادة وما يُرعى فيها من تقدم
__________
(1) في الأصل: " اتحد ".

(18/478)


الدعوى يوجب ألا يشترط لفظ الشهادة، ولا أعرف له نظيراً في الشريعة، والأوجه اشتراط لفظ الشهادة إذا اشترطنا العدد.
وعلى الوجهين لا بد من اعتبار صفات الشهود بعد العدالة والثقة من الحرية وغيرها، فإذا اكتفينا بواحد، فلا يشترط لفظ الشهادة، وفي اشتراط الحرية خلاف يداني خلافَ الأصحاب في قول المخبر عن هلال رمضان.
والأصح أن نُجريَ المترجمَ والمُسمعَ -إذا لم يُشترط العدد- مجرى الراوي (1).
11902 - فإذا أردنا نظم مجامع الكلام؛ فالمترجم والمسمع على ما قدمنا. وقطع الأصحاب باشتراط العدد في المقوّم إذا اتصل القضاء به؛ فإنه مَناطُ الإلزام، وهو أمس للّزوم وأخص به من الترجمة.
ولا يشترط العدد في القائف تأسّياً بالحديث، وعليه معوّل القيافة.
واختلف الأئمة في القاسم والخارص، فقال قائلون: هذا بمثابة الحاكم، فلا عدد، ومنهم من اشترط العدد، وهو القياس كالمقوّم، وليس يتجه بين المقوم والخارص فرق؛ فإن كل واحد منهما يبني قوله على التخمين والحَدْس مع الاستمساك ببصيرةٍ عنده. ولولا حديث عبدِ الله بن رواحة بالخرص، لقطعنا بإلحاق الخارص بالمقوّم، وفيه فقه خفي المُدرك- وهو أن الخرص لا يخلو من نوع مجازفة، فالحكم به يقع اتباعاً لمورد الشرع، ولو فرضنا خارصين، لبعُدَ اتفاقهما، وفيه تعطيل التعويل على الخرص، فيبقى بعد ذلك النظر إلى القسمة والتقويم.
فنقول: إذا كان القسمة لا تستقل إلا بتقويم؛ فلا بد من اشتراط العدد، وإن كانت القسمة مرجعها إلى درك الأقدار المحسوسة، فهي من وجه كالتقويم، ومن وجه يُكتفى فيها بالواحد الخبير الموثوق به، فإنه ليس يشهد بشيء، وإنما يمهّد أمراً وينشئه، ولو كانت كالشهادة، لما قُبلت شهادة قسّام وإن كثروا؛ فإنهم عن أفعالهم يُخبرون.
هذا تنزيل القول في هذه القواعد.
__________
(1) أي في عدم اشتراط الحرية، والعدد.

(18/479)


فصل
قال: " وإذا شهد الشهود عند القاضي، كتب حِلْيَة كلِّ رجل ... إلى آخره" (1).
11903 - مضمون الفصل من أقطاب القضاء وأركانه، ونحن بعون الله تعالى نأتي بالمقصود منقحاً مصححاً إن شاء الله، فنصدِّر الفصل قائلين: الاستزكاء (2) حق الله تعالى. وحقٌّ على القاضي أن يرعاه، ولا يقفَ وجوبَ رعايته وبذلَ المجهود فيه على طلب الخصم، وإذا أحاط علمُ القاضي بعدالة الشهود، لم يَحْتفل بطلب الخَصم الاستزكاء؛ فإن القضاء بظاهر العدالة من غير بحث عنها لا مساغ له، وعماد الشهادة تحصيل الثقة، وتغليب الظن بالصدق، وهذا لا يحصل إلا بقول العدل الرضا، ثم وراء الثقة تعبدات، مُدْرَكُها [توقيفات] (3) الشرع. وما ذكرناه يطرد في الأموال والعقوبات، وما يقل ويكثر.
ولو قال المشهود عليه: الشهود عدول ولكنهم زلّوا في شهادتهم، فلا يكون التعديل منه إقراراً بالحق المدعى، وهل يقضي عليه القاضي بتعديله شهودَ الخَصم؟ ذكر صاحب التقريب وجهين: أحدهما - أنه لا يقضي عليه بشهادتهم، بل يستزكيهم، لما حققناه [من] (4) أن الاستزكاء حق الله تعالى.
والوجه الثاني - أنه يقضي عليه، وهو مذهب أبي حنيفة (5) رضي الله عنه؛ لأنه اعترف بما إذا ثبت، ثبت الحكم عليه؛ فوجب القضاء بموجَب اعترافه.
ووراء ذلك لطيفة، وهي أن القاضي لو [عرفهم] (6) فَسَقَةً، لم يقض وجهاً
__________
(1) ر. المختصر: 5/ 242.
(2) الاستزكاء: طلب التزكية.
(3) في الأصل: " توليفات " والمثبت من المحقق. وقد أكدته (ق).
(4) في الأصل: " في ".
(5) ر. مختصر الطحاوي: 328.
(6) في الأصل: " عرَّفهم " بتشديد الراء.

(18/480)


واحداً، وإنما محل التردد فيه إذا لم يُحِط القاضي ببواطن أمور الشهود.
11904 - ومما نرى ذكره على الاتصال بهذا أن الشهود لو كانوا عدولاً أو زكّاهم المزكّون -كما سنصف إن شاء الله- فارتاب القاضي لنظرٍ له في الواقعة، وخيالٍ قد يُدركه الفطن. قال الشافعي: في هذه الحالة إذا ارتاب القاضي بحال الشهود، فرّقهم، ويسأل كلَّ واحد منهم على حدته: يسأله عن المكان الذي تحمَّلَ فيه الشهادة؛ والوقتِ الذي تحمَّل فيه الشهادة، وعمن كان معه. وهو في هذا كله يبغي الاستدلال على عورةٍ -إن كانت- وليس ما ذكرناه استظهاراً محبوباً، بل هو حتم.
ثم ليس على الشهود أن يذكروا المكان والزمان، وإنما ينفع ما ذكرناه مع الأغبياء وذوي الغِرّة، فأما الفقهاء إذا روجعوا لم يزيدوا على إعادة الشهادة، ولو قالوا: لا نذكر الزمان والمكان، ولكنا نتحقق ما شهدنا به، فليس للقاضي -والحالة هذه- أن يجبرهم على التعرض لما ذكرناه، ولكن لو بقيت ريبة القاضي وازداد ارتياباً من إصرار الشهود على ترك ما يراجَعون فيه؛ فللقاضي أن يبحث عن جهات أخرى، فعساه يطَّلع على مطعن، فإن لم يكن، تحتم عليه إمضاء القضاء، مع انطوائه على الريبة لقيام البيّنة العادلة.
فإن قيل: لو ابتدر القضاء والإمضاء؟
قلنا: لم ينفذ قضاؤه؛ فإن حقه ألا يقضي إلا بعد بذل المجهود في التبيّن وطلب غلبة الظن.
فإذا وضح ذلك، فالبحث عند الارتياب من حق الله أيضاً، لا يتعلق بطلب الخصم، لما ذكرناه في أصل الاستزكاء.
نعم، قد يكون قول الخصم سبباً في وقوع الريبة، فإذا وقعت، شمّر لإزالتها، طلبَ الخَصْم إزالتها، أو لم يطلب. فهذه مقدمة في أصل التزكية.
11905 - ثم إنا نذكر بعدها مراسمَ الحكم في الاستزكاء بكَتْب الرقاع إلى المزكين، فليأخذها الناظر على وجهها، والفقه وراءها، فمِنْ رَسْم القضاة أن يكتبوا إلى المزكي حِلْيَة الشهود، ويرفعوا في أنسابهم، ويذكروا أسماء آبائهم وأجدادهم،

(18/481)


[وأن] (1) الشاهد مولى فلان -إن كان عليه ولاء- ويذكر صناعتَه وسكنَه ومُصلاه إن كان يعتاد [أداء] (2) الصلاة في مسجد، ويذكر حلية المدعي والمدعَى عليه ونسبَهما، وما يؤدي إلى تفريعهما على النسق المذكور في الشاهد، ويذكر قدر المشهود به وحليتَه ونوعه.
والمقصودُ من ذكر الخصمين والشهود إعلامُ المزكي، حتى إذا عرفهم بدون ما ذكرناه من المبالغات، فالغرض تعريفه ليكون على بصيرة من الواقعة وأصحابها والشهود فيها، ويُخفي عن كل واحد من المزكين ما كتب إلى صاحبه، ويُخفي عن الخصم الاستزكاء.
11906 - قال الشافعي: " المستحب أن يكون أصحاب مسائله جامعين للعفة في النفس والمطعم، وافري العقول، بُرآء من الشحناء ومماطلة الناس " (3).
فمن أصحابنا من قال: أراد بأصحاب المسائل المزكِّين، وقال بعضهم: أراد الرسل الذين يحملون الرقاع إلى المزكين للبحث عن أحوال الشهود.
قال: ينبغي أن يكون المزكون غيرَ مشهورين للناس بهذا المعنى؛ فإنهم لو شُهروا، فربما تتطرق إليهم الخديعة.
ولا ينبغي أن يكونوا من أهل الأهواء، فإنهم ربما يعتقدون ضلالةَ عِصابةِ الحق [فيجرّحُونهم] (4) أو يتوقفون في تعديلهم، فهذه مراتب ذكرها الأصحاب للقضاة.
11907 - ونحن نذكر على الاتصال بها فقهَ الفصل، ثم ننعطف على هذه المراتب، ونذكر ما فيها من مستحب ومستحق، ومختلف فيه ومتفق عليه.
والذي نبتديه الآن التعرض لبيان الاكتفاء بالكِتْبة (5)، أو اشتراط التصريح بالجرح
__________
(1) في الأصل: " فإن ".
(2) في الأصل: " أزمان ".
(3) ر. المختصر: 5/ 242.
(4) في الأصل: " فيخرجونهم ".
(5) الكِتبة: الكتابة مصدر كتب، وتطلق الكِتبة على المكتوب.

(18/482)


والتزكية، ثم إذا نحن ذكرنا بعده اشتراطَ العدد في المزكين، [نذكر] (1) بعدها كيفية التزكية وشرطَها، والجرحَ ومعناه، ونصل به تعارضَ الجرح والتعديل، وبعد ذلك كله نعطِفُ البحثَ على المراسم.
فأما الغرض الأول: فقد ذكر العراقيون طريقين في التزكية وما يقع به تعديل الشهود: إحداهما- لأبي إسحاق، وذلك أنه قال: لا يثبت التعديل ما لم يصرح المزكّيان بالتعديل أو الجرح، ولا تعويل على الرقاع وأجوبتها، ولا على أقوال الرسل المترددين بين القاضي وبينهم. وهذا قياس بيّن لا حاجة إلى إيضاحه.
قالوا: وقال الإصطخري: إذا أخبر الرسلُ عن أقوال المزكّين، كفى. ولا يكلف حضور المزكّين في كل تعديل، ثم قال: لا يقع الاكتفاء بأجوبة الرقاع أصلاً، بل لا بد من تصريح رسولين بما سمعاه من قول المزكين، فيخبران عن كلِّ مُزَكٍّ، والقدرُ الذي احتمله الإصطخري الاكتفاءُ بأقوال الرسل، وإن كانوا في مقام الفروع، مع القدرة على السماع من الأصول، [وإنما] (2) احتُمِل هذا القدرُ حتى لا يشتهرَ المزكّون، ولا يكثر ترددهم، وزعم أن الذي يقتضيه مجلس القضاء هذا. والذي ذكرناه هو القول في اشتراط السماع من الأصول أم الاكتفاء بأقوال الرسل؟
11908 - فأما العدد، فأحسن ترتيب فيه أن المزكِّي لا يخلو إما أن يكون مولّىً من جهة القاضي في البحث عن العدالة والجرح، ويكون حاكماً في هذا النوع، وإما أن يكون مستشهَداً في التزكية والجرح، فإن نصب القاضي حاكماً في التزكية والجرح، جاز ذلك.
ويتفرع على صورة [كونه حاكماً] (3) أن له أن يراجع مَنْ رآه أهلاً للمراجعة في التزكية والجرح ويُصغي إلى الشهادة في هذا المقتضى ويحكم به بعد بذل الوسع في الاحتياط.
__________
(1) في الأصل: " ونذكر ".
(2) في الأصل: " وأما ".
(3) زيادة اقتضاها السياق.

(18/483)


ويبتني على هذه الحالة أن قوله مقبول وحده؛ فإنه حاكم، وقول الحاكم مسموع في استمرار ولايته.
فاما إذا لم يُنَصِّب حاكماً في التزكية، ولكن يراجعُ معيَّنين مراجعةَ الشهود، فعلى هذا يشترط العدد بلا خلاف؛ فإن عماد القضاء الجرحُ والتعديل، فلا بد من الاستظهار الأكمل فيه.
ثم إذا اشترطنا العدد، وضممنا إليه اشتراط السماع من المزكين، فلا بد من لفظ الشهادة، وإن اكتفينا بقول الرسل، فقد ذكر صاحب التقريب على قياس مذهب الإصطخري وجهين في اشتراط لفظ الشهادة. وسببُ التردد ميلُ أقوال الرسل عن القاعدة في أنها مقبولة مع إمكان الوصول إلى الأصول، ولكن العدد لا بد منه وفاقاً، كعدد المترجِم حيث يُقطع باشتراطه، ثم يُتردد في لفظ الشهادة، كما ذكرناه في المترجم.
11909 - فأما الكلام في صفة التزكية والجرح: فالقول فيها يتعلق بمأخذهما، وكيفية العبارة عنهما.
فأما مأخذهما، [فإن] (1) كان المرء يزكي بنفسه، ويشهد بناء على ما ظهر له، فلا يكفي النظرُ إلى ظاهر العدالة والبناءُ على تحسين الظن؛ فإن الشاهد لو اكتفى بظاهر العدالة، لما احتيج إليه، ولاكتفى القاضي بظاهر العدالة، فلا بد إذاً أن يكون الشاهد على العدالة خبيراً بباطن من يزكيه مخالطاً له في الأحوال التي يظهر فيها مكنون الأسرار، وتكون مخالطته في الأحوال التي وصفناها على امتدادٍ في الزمان.
والأصل في ذلك ما روي أن رجلاً شهد عند عمر بن الخطاب، فقال: " أما إني لا أعرفك، ولا يضرك أن لا أعرفك فأتني بمن يعرّفك، فجاء رجل فعدّله، فقال عمر رضي الله عنه: هل كنت جاراً له فتعرف إصباحه وإمساءه؟ فقال: لا، فقال: هل عاملته على الدينار والدرهم؟ وفيهما تعرف أمانات الرجل، فقال: لا. فقال: هل
__________
(1) في الأصل: " بأن ".

(18/484)


صحبته في السفر؟ وفيه تمتحن أخلاق الرجال. قال: لا. قال: فإذاً أنت لا تعرفه، فائتني بمن يعرّفك " (1).
والمعنى -مع الجوامع التي ذكرها عمر- أن الناس يخفون عوراتهم ويغطونها جهدهم، ولا يتحقق الاطلاع على نقاء السريرة، ولكن لا أقل من التوصل إلى ما يُغلِّب على الظن، وذلك يحصل بما ذكرناه من الخبرة الباطنة.
وأما الجرح فمأخذه الاستيقان والعيان، أو ما جرى مجراه. هذا قولنا في مآخذ الجرح والتعديل.
ومما يتصل بهذا أن المزكي إذا عدّل، فحقُّ القاضي أن يبحث عن علمه بباطنه بَحْثَ عمرَ في الأثر المروي. والسبب فيه أنه قد يعتقد جوازَ البناء على الظاهر والأخذَ بتحسين الظن؛ فإذا بحث القاضي أزال الشك ببحثه.
وإن علم أن المزكي خبير بالتزكية عالم بأن التعويل على البواطن، وقد ألف ذلك منه [وراجعه فرآه خبيراً بصيراً] (2) غيرَ مكتفٍ بالظاهر، فإذا أطلق مثلُ هذا المزكي التعديلَ؛ فالأصح أن القاضي لا يحتاج إلى مراجعته في إسناد تزكيته إلى الباطن.
ومن أصحابنا من شرط هذه المراجعة في كل تزكية؛ تمسكاً بأثر عمر؛ وهذا غير سديد، والأثر محمول على علم عمر بأن المعدِّل لم يكن خبيراً بمأخذ التعديل، وقد تحقق ذلك لما [راجعه] (3) كما روينا الأثر.
11910 - فأما لفظ التزكية، فإن قال المزكي: هو عدلٌ رضاً، لم يكفِ ذلك، حتى يقولَ: مقبولُ الشهادة؛ فإن العدل الرضا، قد يكون مغفلاً. نعم، تثبت العدالة بما قال، ثم يُستخبر بعد هذا عن الأسباب المانعة من قبول الشهادة، كما سنصفها إذا انعطفنا، إن شاء الله، على المراسم التي ذكرناها أولاً.
__________
(1) أثر عمر رواه البيهقي في السنن الكبرى، والعقيلي في الضعفاء، والخطيب في الكفاية (ر. البيهقي: 10/ 125، الضعفاء للعقيلي: 3/ 454، تلخيص الحبير: 4/ 360 ح 2629).
(2) في الأصل: " وراجعْتَه فيه خبيراً بصيراً ". (بهذا الضبط والنقط).
(3) في الأصل: " راجع ".

(18/485)


[ومن] (1) عبارات المزكين، وهو من أبلغها وأوقعها: " عدلٌ عليَّ ولِيَ " وهذه العبارة شائعة على ممر الدهور، وقد يقدرها من كان مبتدئاً في سماعها مجملة.
والأصحاب مجمعون على حملها على موجب ما يتفاهمون منها. هذا كيفية التعبير عن العدالة.
فأما الجرح فلا يكفي الإطلاق فيه، ولا بدّ من التنصيص على سبب الجرح؛ فإن الناس مختلفون فيما يقع الجرح به، واتفق أئمة المذاهب لذلك على أنه لا بد من التصريح بسبب الجرح؛ فإن نسَبه إلى الزنا، فلا بد وأن يقول: رأيته يزني، أو سمعته يقر بالزنا، وهكذا القول في كل ما ينسبه إليه، فلا بد من التصريح فيه، والإضافة إلى الرؤية أو سماع الإقرار.
ومن أصحابنا من قال: لا يشترط هذه المبالغة، بل يكفي ما ينبّه على ما يقع به الجرح لا محالة، وهذا خرّجه بعض العراقيين على طريقة الأصطخري؛ فإن مبناها على طرف من المسامحة، ووراء هذا سرٌّ، وهو أن المزكّيَيْن إذا صرحا بالنسبة إلى الزنا، ففي العلماء من يجعل الشاهدين على الزنا إذا لم يساعدهما شاهدان آخران قاذفين، فحقيقة هذا التردد تعود إلى من يجعل الشاهدين والثلاثة على الزنا قَذَفَةً، فهم مترددون في هذا المقام، فمنهم من يستثني مقام الجرح، ولا يجعل نسبة الزنا في هذا المقام قذفاً، والسبب فيه الحاجة، وأن المزكي مُراجَع مستخبَر، والقاذف من يبتدىء من غير مراجعة.
ومن أصحابنا من يجعلهم قذفة لو صرحوا، إذا نقصوا عن عدد شهود الزنا، فعلى هذا لا يكلفون التصريح، ثم يجب احتمال ما يأتون به إذا عرّضوا، وحتى لا يقضى بتعرضهم لاستيجاب التعزير، وهذا تمهيد عذر المراجَع المستخبَر، وعليه يحمل قول الرسول عليه السلام " اذكروا الفاسق بما فيه يحذره الناس " (2).
__________
(1) في الأصل: " من " (بدون واو).
(2) حديث " اذكروا الفاسق بما فيه يحذره الناس " رواه الطبراني في الكبير والأوسط والصغير. قال الهيثمي في المجمع (1/ 149): " وإسناد الأوسط والصغير حسن، ورجاله موثقون واختلف في بعضهم اختلافاً لا يضر " ا. هـ. ورواه البيهقي في الكبرى (21080) وضعفه، ورواه ابن=

(18/486)


فهذا تمهيد القواعد في التزكية والجرح، ونحن نذكر بعدها فروعاً شذّت عن ضبط الأصول.
فرع:
11911 - لا تثبت العدالة إلا باثنين، كما لا يثبت الجرح إلا باثنين. فلو عدّل اثنان وجرح اثنان، فالجرح أغلب؛ فإن الجارح ينص على ثابت، ومستند شهادة المعدلِّ انتفاءُ الجَرْح بظن غالب تلقاه من طول المخالطة والمعدِّلُ لا يكلَّف سبب التعديل؛ فإن أسباب العدالة لا تنضبط.
ولو عدّل رجلان وجرح واحدٌ، فلا مبالاة بالجرح؛ فإن البينة لم تكمل بتعددها في الجرح، [وكمُل] (1) عددُ البينة في التعديل.
قال أبو إسحاق المروزي: إذا عدل اثنان وجرح واحد، قال القاضي للمدعي: " زِدْ في شهودك ". وهذا إن كان استظهاراً منه غيرَ واجب، فهو محتمل، وإن كان حتماً؛ لم يخلُ إما أن يكتفي بشاهدٍ أو يشترط شاهدين. وعلى أي وجهٍ أدار، فلا وجه لما اختار، والظنُّ به أنه أراد الاستظهارَ، ولم يُلزم ما ذكره من الازدياد والاستكثار.
فرع:
11912 - أجمع علماؤنا على أن القاضي يقضي بعلمه في التعديل والجرح، حتى إن علم أحدَهما بالمسلك الذي يعلم الشاهد به [بنى] (2) قضاءه على علمه -قالوا- وهذا متفق عليه. وإن اختلف القول في أن القاضي هل يقضي بعلمه؟
ورأيت لبعض المحققين في هذا كلاماًً لطيفاً، وذلك أنه قال: إن علم القاضي الجرح، قضى بعلمه، ولم يبال بشهادة المعدِّلَيْن على التعديل، وإن ظهر عنده سببُ التعديل ظهوراً يجوز الشهادة به، فهل له أن يكتفي بعلمه أم يستزكي؟ فعلى وجهين، والأظهر ما قدمناه.
__________
= أبي الدنيا في ذم الغيبة، وابن عدي في الكامل (2/ 260)، والعقيلي في الضعفاء (72).
وانظر تخريجه بالتفصيل في سلسلة الضعيفة للألباني (2/ 52 ح 583، وقال: موضوع) وحاشية محقق الطبراني الكبير (19/ 418 ح 1010) وكشف الخفا (1/ 114 ح 305).
(1) في الأصل: " وكمله ".
(2) في الأصل: "مما " والمثبت من (ق).

(18/487)


فرع:
11913 - إذا توقف المزكون في التعديل، [توقف] (1) القاضي إذا لم يكن عنده علم، وليس للمزكي أن يجرح بفعل لم يعاينه، ولا بقولٍ لم يسمعه، والقول والفعل لا تجوز الشهادة عليهما بالتسامع، والجرح شهادة. نعم، يتوقف عن التعديل. وإذا توقف المزكون، توقف القاضي.
ولو تحقق عند القاضي الفسقُ بالتسامع، ولم يشهد عنده شاهدان، فلو شهد معدلون على العدالة، فالرأي الذي يجب القطع به أنه لا يقضي بالشهادة؛ لأن ما تحققه أقلُّ مراتبه أن يقتضي توقفاً. والقاضي قد يتوقف لريبة، كما ذكرناه في صدر الفصل.
فرع:
11914 - إذا قضى القاضي بعدالة شاهد، ثم شهد ذلك الشاهد في واقعة أخرى، فإن طالت المدة، وكان القاضي غيرَ خبير بحاله في المدة المتخللة، فهل للقاضي أن يقضي بشهاته؛ بناء على العدالة التي ثبتت في القضية الأولى؟ فعلى وجهين- ذكرهما العراقيون: أحدهما - أنه يقضي ويستصحب ما ظهر عنده إلى أن يثبت عنده جرح. والثاني - أنه لا يقضي إذا بعُد العهد بالبحث، فلا بد من استزكاء جديد، وهذا ما مال إليه جمهور الأصحاب.
ووجهه أن الأحوال حُوّلٌ، والإنسان عرضةُ التغايير والحَدَثان، ويعز في الناس المقيمُ على الخير، المستقيمُ على طاعة الله تعالى، وهذا القائل يقول: ينبغي ألا يغفل القاضي المسألة عن صفة الشهود الذين ينتابون مجلسه للشهادة. ثم قال العراقيون: إذا راعينا البحث على الإدامة، فلو ترك البحث عمن ثبت عدالته عنده ثلاثة أيام كان ذلك محتملاً، وفحوى كلامهم إيجاب البحث وراء ثلاثة أيام.
ولست أرى أن يتقدر ذلك، ولكن المرجع في قرب الزمان وبعده إلى العرف الغالب، فكل مدة يتوقع في مثلها طريان تغايير، فإذا خلت عن المسألة، فلا بد من تجديد البحث بعد هذه المدة عند إقامة الشهادة، ولا ضبط لذلك، ولا سبيل إلى تقدير، والرجوع إلى ما يغلب على ظن القاضي.
__________
(1) في الأصل: " موقف ".

(18/488)


فرع:
11915 - في قبول تزكية الوالد ولدَه، والولدِ والدَه، وجهان: أحدهما - لا تقبل؛ فإنها شهادة بإثبات فضيلة، والثاني - تقبل؛ لأنه [لم يُثبت له حقّا] (1).
وفي قضاء القاضي بشهادة ابنه للغير أو على الغير وجهان مأخوذان من المأخذ الذي ذكرناه؛ فإن القضاء بالشهادة حُكْمُه (2) بالتعديل.
والأصح عندنا أنه يقضي بشهادة ابنه إذا عدَّله شاهدان، كما يقضي لابنه على خصمه إذا أقام البينة، فأما إذا عوّل في تعديل ابنه وتنفيذ القضاء بشهاته على علم نفسه، فهذا موضع التردد. وهو بمثابة الشاهد بتزكية ابنه.
فرع:
11916 - ظهر اختلاف الأصحاب في أن المزكين إذا رجعوا عن التزكية بعد نفوذ القضاء هل يغرّمون غُرْم الشهود إذا رجعوا؟
وهذا الخلاف قريب من اختلاف القول في رجوع شهود الإحصان في الزنا.
والجامع أن كل واحد من الشاهدين يتعرض لفضيلة، وإن لم يكن منها بد في نفوذ القضاء.
فرع:
11917 - حق على القاضي أن يرتب المزكين والمترجمين، وإن كان بأُذنه وقر، فينبغي أن يرتب المُسمِع.
ثم إن كان لا يترتب هؤلاء إلا بمُؤْنة، فقد ذكر أئمتنا وجهين في مؤَنهم:
أحدهما - أنها على طالب الحق؛ فإن قيام هؤلاء يتعلق بحقه، والمترجِم هو الذي يتمم الدعوى في مجلس القضاء، وكذلك المسمع والمزكي يوضح البينة ويتمّمها.
ومن أصحابنا من قال: ليس على المدعي ذلك، كما ليس عليه أن يبذل للقاضي شيئاً، وإن كان هو الناظر الأكبر وبنظره تتم المقاصد. ولو كان مستقلاً بمعرفة اللغات أو كان حادّ السمع أو مطلعاً على حال الشهود، لما احتاج إلى هؤلاء المزكّين. فإن أوجبنا المؤنة على طالب الحق، فعلى كلٍّ مقدارُ أجر المثل فيما يتعلق بحقه صومته.
__________
(1) في الأصل: "لم يثبت أن حقاً".
(2) حكمه بالتعديل: أي حكم منه بتعديل ابنه.

(18/489)


فرع: (1):
11918 - لا تقبل التزكية إلا من رجلين، وإن كان الشهود شاهدين على مال، وكذلك إذا شرطنا العدد في الترجمة، فلا بد من رجلين، وإن كانا يترجمان شهادةً في مال. وهذا بمثابة الشهادة على الوكالة في المال، فإنها مشروطة بالذكورة؛ نظراً إلى الوكالة في نفسها.
فصل
متصل بما نحن فيه.
قال: " ويسأل عمن جَهِلَ [عدالته] سراً، اذا عُذل سأله تعديله علانية ... إلى آخره " (2).
11919 - إذا جرى التعديل سراً، وكان لا يُبعد القاضي أن يوافق اسمٌ اسماً ونسبٌ نسباً، فينبغي أن يطلب تعديل العلانية، ومعناه أن يكلف المزكي الإشارة إلى من عدّله، حتى يزول الرَّيْب. وما قدّمناه من التعديل سراً، لم نعن به الرقاعَ وأجوبتَها، وإنما عنينا اللفظ، ولو مست الحاجة بعد ذلك إلى الإشارة إلى الشاهد، فهذا هو الإعلان، وإن كان الأمر لا يتمّ إلا بالإعلان، فلا بأس لو اقتصر سراً على أجوبة الرقاع تعويلاً على طلب الإعلان، وهو ابتداء التزكية المعتبرة.
ومن أسرار هذا الفصل أن اللَّبس لو كان لا يزول إلا بالإشارة، فلا بد منها، وإن كان يزول اللَّبس بالتسمية لاشتهار الشاهد باسمه، فليست الإشارة شرطاًً؛ فإن الإشارة إنما تشترط إلى مشهود عليه تعلقت الدعوى به أو إلى مشهود له- وهو الطالب، ولا يتحقق في التزكية هذا؛ فإن الشاهد ليس يدعي شيئاً حتى يَشهد المزكي له به، ولا يُدَّعَى عليه حق حتى يَشهد عليه.
__________
(1) هذا الفرع بجملته كان لحقاً بهامش الأصل، من غير إشارة إلى مكانه من الصلب بين الفروع السابقة؛ فآثرنا إلحاقه بآخر الفصل. ثم جاءتنا (ق) والكتاب ماثل للطبع وقد وضعته قبل الفرع السابق والأمر قريب.
(2) ر. المختصر: 5/ 243، وفي المختصر الذي بأيدينا: " عَدْله " مكان عدالته، واللفظة ساقطة من المخطوطة.

(18/490)


11920 - وإذا وضح هذا، فقد حان من هذا المنتهى أن ننعطف على المراسم التي قدمناها في صدر الفصل. فنقول: أولاً، لا يشك الفقيه في حسن تقديم الرقاع على الترتيب الذي ذكرناه؛ فان المرتَّب للتعديل والجرح [ربما] (1) يحتاج إلى البحث، وإطالة الفكر، وأحسن مسلك يمهِّد إمكان ذلك من غير شَهْر تطرق اللهم إلى المزكين ما ذكرناه.
فقد قال سَوّار بن عبد الله (2): اثنان لم أُسبق إليهما، ولا يتركهما حاكم بعدي: المسألة في السر، ثم المسألة في العلانية، ولا يستريب فقيه أن ترتيب الرقاع ليس أمراً مستحَقاً، ولو اتفق الهجوم على السؤال قطعاً، لما امتنع، ثم إن كان عند المسؤول علم [أعربَ] (3) عما يراه، ولو لم يكن عنده علم، استمهل ونظر، غيرَ أن الأحسن ما قدّمناه.
وقد يقول القائل: هذه المراسم لم تُعرف في زمن الخلفاء المهديّين. قلنا: أجل، ولكن كانت العدالة في الذين يشهدون غالبة. وأهل العصر برآء عن التعرض
__________
(1) في الأصل: " ومما ".
(2) سَوّار بن عبد الله، القاضي سَوّار بن عبد الله بن قدامة العنبري، البصري، قاضي أبي جعفر المنصور، ت 156 هـ.
ولسَوّار هذا حفيدٌ بنفس الاسم، وقاضٍ أيضاً (سوّار بن عبد الله الفاضي المتوفى سنة 245 هـ). مما أدى إلى الخلط بينهما، كما وقع لابن الجوزي إذ نقل حكم سفيان الثوري على الجدّ بالتضعيف، فحكم به على الحفيد، وقد تعقبه الحافظ في تهذيب اللهذيب.
والقول الذي نسبه إمام الحرمين لسَوّار، رأينا الخلات في نسبته إلى غير الجد، ففي الحاوي للماوردي، وشرح أدب القاضي للخصاف أن القائل هو ابنُ شبرمة (ت 144). قاله محيي هلال السرحان محقق أدب القضاء لابن أبي الدم. وقد راجعنا هذين المصدرين، فوجدنا الأمرَ كما قال.
(ر. أخبار القضاة لوكيع: 2/ 55، مشاهير علماء الأمصار: رقم 1246، تاريخ الثقات للعجلي: 210، تهذيب اللهذيب: 4/ 269، أدب القضاء لابن أبي الدم: 2/ 398، أدب القضاء للماوردي: 2/ 15 فقرة 1869، شرح أدب القاضي للخصاف: 3/ 23).
(3) في الأصل: " أعرف ".

(18/491)


للتهم. وما ذكره الأئمة من الترتيب لائق ببني الزمان، والماضون -وإن لم يفعلوا ما ذكرناه- مهّدوا لنا بَذْل الاحتياط على أحسن الإمكان في كل زمان.
هذا قولنا في كَتْب الرقاع.
والتعرضُ للمدعي والمدعَى عليه والشهود لأقصى غايات الإمكان في الإعلان ركنٌ عظيم: أما الشهود، فكيف يبحث المزكي عنهم إذا لم يعلمهم؟ أما المدعي، فلا بد من إعلامه أيضاً، وقد يستبين المزكي بينه وبين الشهود حالة توجب ردَّ شهادتهم له، من أبوة أو شركة في الواقعة، أو ما جرى هذا المجرى، مما سنصفه في كتاب الشهادات، إن شاء الله.
وأما المدعَى عليه، فقد يدرك المزكي بين الشهود وبينه عداوة أو لدداً في خصومة يوجب مثلُها ردَّ الشهادة، فإن لم يقع التعرض لما ذكرناه، فالتعديل في الشهود يَثْبت، ولكن يبقى على القاضي نظرٌ فيما وراء التعديل من المعاني التي ذكرناها.
ومما قدمناه في المراسم ذكر مقدار الحق، وفي هذا فقه، فالذي ذهب إليه معظم الأئمة أن ذلك احتياط وليس باشتراط؛ فإن التعديل عندنا في اليسير والكبير على نسق واحد. وأبعد بعض أصحابنا فقال: لا يمتنع أن يزكي المزكي الشاهد في المقدار النزر، ويتوقف في المقدار الخطير؛ فإن المشهود به إذا عظُم خطره أَحْوَجَ إلى مزيد فكر. وهذا كتخصيصنا تغليظَ الأيمان بالأمور المُخْطرة والعظيمِ من المال، وهذا غير سديد، ولا لائقٍ بمعتبرنا الواضحِ وقياسِنا البيّن في طلب التعديل من الخبير ببواطن الشهود، وإذا كان كذلك؛ فلا معنى لاشتراط ذكر المدعَى. ولا يُنْكر كونُه احتياطاً.
فهذا نجار القول في التزكية. وقد اشتمل ما ذكرناه على المراسم أولاً، وبعدها تمهيد الأصول، وبعدها استدراك ما لم يندرج تحت ضبط الأصول برسم الفروع، وبعدها البحث المميِّز بين الاحتياط وما لا بد منه.

(18/492)


فصل
قال: " ولا ينبغي أن يتخذ كاتباً حتى يجمع أن يكون عدلاً عاقلاً ... إلى آخره " (1).
11921 - إذا اتخذ القاضي كاتباً، فينبغي أن يكون وافرَ العقل، عدلاً، ثقة، بعيداً عن الغباوة، نَزِهاً عن الطمع.
قال الله تعالى مخبراً عن يوسف عليه السلام: {قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف: 55]، وهذا يدل على أن التعرّض لطلب الولاية جائز إذا يوجد الطالب [الصالح] (2) لها. ثم نجري على الترتيب المقدم في طرد المراسم [وفي] (3) الانعطاف عليها بالبحث.
11922 - قال الشافعي: " ويتولى القاضي ضم الشهادات ... إلى آخره " (4).
على القاضي أن يعقد محضراً لما يجري فيه بين الخصمين في مجلسه، ويُثبت فيه الدعوى والإنكارَ والبيّنةَ -إن كانت- ويثبت أسماءَ القوم، وإن احتاج أثبت حُلاهم (5)، ثم يجمع محاضرَ كلِّ يوم في إضبارة (6)، ثم يكتب عليها اليومَ، ويوضحُ التاريخَ، ثم يضم محاضرَ الأسبوع في قِمَطْر، ويكتب عليه ما يوضح التاريخَ، ولو ختم على كل إضبارة وقمطرٍ كان حسناً. ثم إذا اجتمعت محاضرُ شهر، جعلها في قمطرٍ كبير، ثم كذلك يفعل في السنة، ويجعلُها في خَريطة، ويحرص على التمييز.
ويُثْبت في المحاضر نهايةَ التفصيل، وينبغي أن يتولى ذلك بنفسه، أو يُفعلَ بين
__________
(1) ر. المختصر: 5/ 243.
(2) في الأصل: " للصلاح ".
(3) في الأصل: " في " (بدون الواو).
(4) السابق نفسه.
(5) حلاهم: نعتهم وصفتهم، وهي بالكسر أيضاً (القاموس المحيط، واللسان).
(6) يقال: ضبر الكُتُب وغيرَها جمعها وجعلها إضبارة، والإضبارة الحُزمة من الصحف يضم بعضها إلى بعض، جمعها أضابير. (المعجم).

(18/493)


يديه، وحسنٌ أن يدفع نسخة إلى صاحب الحق؛ فإن فاتت نسخته، رجع إلى ما خُلّد في مجلس الحكم، وهان عليه الوصول إلى خريطة السنة، ثم إلى الشهر، ثم إلى الأسبوع، ثم إلى اليوم.
هذا ذكر المراسم، ووجه الاحتياط فيها بيّن.
وإن امتنع القاضي من الكِتْبة، وكان صاحبُ الحق يستدعيه، ويبغي التوثقَ بالسجل المكتوب؛ فهل يتعيّن على القاضي إجابته إلى ملتمسه؟ وهل له أن يمتنع عن الكِتْبة؟ فعلى وجهين- ذكرهما العراقيون: أحدهما - أنه لا يجب عليه الإجابة إلى الكِتْبة؛ فإنه لا تعويل على المكتوب، وإنما المعوّل على التذكُّر عند مسيس الحاجة، والثاني - أنه يجب إسعافُ الخَصم؛ فإن الخطوط وإن كان لا تُعتَمد فهي مذكِّراتٌ، وما كتَبْتَه تقيّد، وما أهملته تشرّد.
ثم إذا أراد القاضي أن يكتب، فالكاغد من طالب الكِتْبة؛ فإنه الذي يبغيها، ولو أراد كَتْب المحضر، فإن كان يعرف الخصمين بأسمائهما وأنسابهما بين المحضرَ عليها، ولا بأس لو ضم إلى الأسماء والأنساب الحِلْيَة تأكيداً، وإن كان لا يعرف نسبهما واسمهما، فيكتب في المحضر حضر المجلس خصمٌ، وذكر أنه فلانُ بنُ فلانٍ، وادعى على من زعم أنه فلانُ بنُ فلانٍ، ويعوِّل على الحلية؛ فإنه ليس يعرف الاسم والنسب، هذا صيغة المحضر.
وحكى العراقيون عن ابن خَيْران أنه لا يعقد المحضر مع الجهل بالأنساب والأسماء؛ فإن التعويل على الحِلْية، والحِلْية تحول، ولا تثبت.
وهذا ليس بشيء، والمذهب ما قدمناه.
ونشّأ الأئمة من فصل الكِتْبة خلافاً شهّروه في أن القاضي لو كان أمياً هل يجوز؟ فذهب الأكثرون إلى جواز ذلك، وكان سيد البشر صلى الله عليه وسلم أمياً، [وهذا] (1) يعتضد بما ذكرناه من ترك التعويل على الخطوط، كما سنوضحه من بعدُ.
ومن أصحابنا من قال: لا يجوز أن يكون القاضي أمياً لكثرة الحاجة إلى الكِتْبة،
__________
(1) في الأصل: " وهو ".

(18/494)


والنظر في المكتوب، وكل ما يظهر أثره ويتضمن نقصاً بيّناً، فيجب ألا يتصف القاضي به. وسنجمع في ذلك قولاً ضابطاً عند ذكرنا شرائطَ الولاة.
فصل
قال: " ولا يقبل من ذلك ولا مما وَجَدَ في ديوانه إلا ما حَفِظ ... إلى آخره" (1).
11923 - غرض الفصل بيان ما أجريناه من أن الخط لا معول عليه، وبيانُه في حق الشاهد أنه لو رأى خطَّ نفسه في تحمُّل الشهادة، ولم يتذكر تحمّله لها، فليس له اعتماد الخط في إقامة الشهادة، وكذلك القاضي إذا رأى خطَّه متضمناً إمضاء القضاء، فإن تذكره، جرى عليه، تعويلاً على الذكر دون الخط، وإن لم يذكره، توقف، وسنذكر في كتاب الدعاوى -إن شاء الله- أنه يجوز للإنسان الاعتماد على الخط في الحلف، وقد يسوغ أن يعتمد خط أبيه إذا كان معتمَداً عنده، ويبني عليه الحلف، على ما سيأتي مشروحاً، إن شاء الله.
وإنما غرضنا الآن بيانُ حكم الشاهد والقاضي، وليس لواحد منهما أن يعتمد الخط، وكنا نراجع شيخَنا فيمن يتحمل الشهادة، ويثبتُها في ديوانٍ عنده، ثم يضعها حيث يقطع بأنه لا وصول إليه من جهة أحد، ويعلم على اضطرار أنه لا يُثبت في ذلك الديوانَ إلا ما تحققه، فإذا اطلع عليه، فكيف السبيل فيه؟ فربما كان يقول بعد تردد: هذا تذكر، وإنما نمنع اعتمادَ الخط إذا لم يجر مثلُ ما ذكرناه، فكأنّا نقول: صورةُ الخط لا تعتمد مع إمكان التزوير وتشبيه الخط بالخط.
فأما إذا تحقق واضطر إلى الدَّرْك، جاز الاكتفاء بذلك.
ورأينا الأصحاب في الطرق لا يسمحون بهذا، ويطردون اشتراط التذكر، وقيامَ الواقعةِ في وجدانِ النفس، وهذا على هذا الحد قد يحسم إقامةَ الشهادة، سيّما إذا
__________
(1) ر. المختصر: 5/ 243.

(18/495)


[كثر] (1) الأشهاد، وازدحمت الخصوم، فهذا ما أردناه.
ومما يليق بهذا المنتهى أن الشاهد لو نسي التحمل، فذكّره عدول، وقطعوا أقوالهم بتحمله، فإن تذكر لما ذُكِّر، عوّل على ذكره، لا على أقوال المذكّرين.
والتذكير منصوص عليه في الكتاب، فقال عز من قائل: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} [البقرة: 282]، وإن ذكِّر فلم يذكر، فلا حكم للتذكير، وهذا متفق عليه من الأصحاب.
11924 - وكذلك قالوا من عند آخرهم: لو قضى القاضي بأمرٍ، فروجع فيه، فلم يتذكّر قضاءه، فلا شك أنه لا يعوِّل على الخط، كما قدمنا ذكره، فلو شهد عنده عدلان على أنك قضيت لفلان بموجب خطك هذا، أو لم يتعرضا للخط، وشهدا على القضاء، فالقاضي لا يعوّل على شهاتهما؛ بل إن تذكّر واستيقن، فذاك، وإلا وقَفَ الأمرُ، وتوقف القاضي.
ولو شهد الشاهدان بعد عزل هذا أو موته عند قاضٍ آخر، وقالا: نشهد أن فلاناً قضى لفلان، فيثبت القضاء على هذا الوجه. والسبب فيه أن الإنسان يطلب من نفسه اليقين، ولا يكتفي بالظاهر. ولا يثبت قوله في حق الغير إلا بطريق الظاهر، فكان كل مسلك مبنيّاً على الممكن فيه.
فإن قيل: أليس الشيخ في الحديث يقول: " حدثني فلانٌ عني " إذا كان روى، ثم نسي ما روى، كما قال سهيل ابن أبي صالح: حدثني ربيعةُ عني أني حدثته عن أبي حديث القضاء بالشاهد واليمين. قلنا: للأصوليين كلام في هذا وتفصيلٌ، وقد شرحناه في مجموعات الأصول.
ثم التعويل في الروايات على الثقة المحضة، ولهذا لا يشترط فيها العدد والحرية، والشهادات والبينات مبنية على أقصى الإمكان في كل باب؛ فلم يقع الاكتفاء فيما نحن فيه بخط ولا بشهادة الشهود.
__________
(1) في الأصل: " كنى".

(18/496)


وقد اشتهر عن أبي يوسف (1) -رحمة الله عليه- التعويل على الخط وعلى شهادة الشهود بالقضاء عند ذلك القاضي.
ثم قال الأئمة: إذا قال شاهدان للقاضي: قد قضيتَ لفلان، فإن تذكّر عوّل على تذكّره، وإن لم يتذكر، لم يتعرض للشهود بالتصديق ولا بنقيضه، فإنه إن صدقهما، كان قاضياً بموجَب قولهما، وإن أبدى مراءً، كان ذلك قادحاً في شهادتهما عند قاضٍ آخر، فلا يسوغ له أن يقدح ويسد بابَ الإثبات.
ومما ذكره الفقهاء أن المحدِّث عن الرسول صلى الله عليه وسلم إذا سمع كتاباً، وضبطه جهده، وكان ذلك الكتاب عنده، بحيث يعلم أنه لم يتسلط عليه أحد بالتغيير، فلما أراد روايته، لم يتذكر سماعه لأعيان تلك الأحاديث؛ فإنه ما كان حفظها ولا استظهرها حديثاً حديثاً، فالذي ذكره معظم الأصحاب أنه يجوز له التعويل على الكتاب، وقطْع الرواية [بما] (2) فيه تعويلاً على الثقة التي هي معتمد باب الرواية.
وقال الصيدلاني: [سبيله سبيل الشهادة] (3)؛ فلا بد أن يتذكر عين ما يرويه على تفصيله، وإلا فلا يروي. وهذا تعمق [منه] (4) يخالف ما اتفق عليه علماء الأمصار.
11925 - ومما ذكره القاضي أن الخصم المحكوم له إذا ادعى على القاضي أنك قضيت لي، فرفعه إلى قاضٍ آخر، وأراد أن يحلّفه، فالذي ذكره الأصحاب أنه لا يملك ذلك.
قال القاضي: يُبنى هذا على أن النكول مع اليمين المردودة يجري مجرى البينة، أو مجرى الإقرار؟ فإن قلنا: يجري مجرى البينة، فلا حكم لها؛ فإن البينة لو قامت، لم يقع بها حكم. وإن قلنا: يجري مجرى الإقرار، فيحلّف، وإذا نكل رُدّ، ثم يمين الرد ينزل منزلة إقراره.
__________
(1) ر. مختصر الطحاوي: 2329، المبسوط: 16/ 93، 94.
(2) في الأصل: "مما".
(3) في الأصل: " سبيله سبيل الرواية الشهادة " والمثبت من (ق).
(4) في الأصل: "فيه".

(18/497)


وهذا الذي ذكره كلام مختلط، والظن أن الخلل من الناقل؛ فإنه ذكر أن قضاءه لا يثبت بالبيّنة، والمراد بذلك أنه لو شهد عنده عدلان بأنك قضيتَ، لم يثبت القضاء ما لم يتذكر، ويتصور إثبات القضاء بقامة البيّنة في مجلس قاضٍ آخر، وطريق البيان فيه أنه إن عُزل، فلا حكم لإقراره بالقضاء، كما سيأتي، ولو قامت بيّنة عند من هو القاضي بأنه قضى في زمن ولايته، نفذ الحكم.
وإن كانت المسألة مفروضة فيه إذا كان قاضياً، فإن شهد شاهدان على قضائه في موضع ليس هو محل ولايته يثبت القضاء (1)، ولو انتهى القاضي إلى ذلك الموضع، لم يقبل إقراره بالقضاء.
فإن صحّحنا قاضيين في بلدة وحُكْمُ كل واحد منهما نافذ فيها، فلو شهد شاهدان على قضاء القاضي عند القاضي الآخر؛ فهذا محل النظر. والظاهر أن البيّنة مسموعة، فلو أراد الخصم أن يحلّف هذا القاضي عند ذلك القاضي أنك قضيت، فالذي أراه أن القاضي (2) تكلّم في هذه الصورة.
[وحكى] (3) عن الأصحاب أنه لا يحلف، وقال من عند نفسه: يجوز أن يحلف في مجلس القاضي الآخر.
ثم التحليف ينبغي أن يقع على التذكر، فإن حلف: لا أذكر أني قضيت له، انقطع الكلام. وإن نكل، وحلف من يدعي القضاء، فقد يتخيّل أن يمين الرد كإقرار القاضي، وهذا بعيد. والوجه ما ذكر الأصحاب من أنه لا يحلّف؛ فإنه لا خصومة معه، وإنما قوله حجة كقول الشهود، فإذا لم تقم الحجة من جهته، فالتحليف لا أصل له. والله أعلم.
...
__________
(1) أي بالبينة. وحكى الرافعي هذه المسألة عن الإمام، وزادها بسطاً. (ر. الشرح الكبير: 12/ 493).
(2) المراد القاضي حسين.
(3) في الأصل: " حكى " (بدون الواو).

(18/498)


باب كتاب القاضي إلى القاضي
11926 - مضمون الباب ومقصودُه بيانُ القضاء على الغائب وسماعِ الشهادة عليه، ثم يتصل بأطراف الكلام قواعدُ في القضاء على الحاضر، ويتعلق الكلام لا محالة بكيفية الدعوى، وأصولُ الدعاوى مستقصاةٌ في كتابها، ولكن القدر الذي يتصل الكلام به لو لم يُوفّر حقه من البيان، لاستبهم غرضُ الباب.
والذي أراه من الترتيب أن أذكر الدعوى على الغائب والقضاءَ عليه وإقامةَ البيّنة، ثم أذكر طرفاً يقتضي البابُ ذكرَه من القضاء على الحاضر.
فأما الكلام في القضاء على الغائب، فالدعوى عليه تنقسم قسمين: أحدهما - في دعوى شيء في الذمة، والأخر - دعوى عين من الأعيان.
فأما إذا تعلقت الدعوى بموصوفٍ في الذمة كالنقدين، وذوات الأمثال، فالدعوى مسموعة، وشرطها أن تكون معلومة. والعبارة الوجيزةُ عن إعلام الدعوة المتعلقة بما في الذمة أن يشتمل على الإعلام المرْعي في السلم.
وقد وضح طرق الإعلام في المسلَم فيه، والدراهمُ المطلقة في العقود محمولة على النقد الغالب، ولا يقع الاكتفاء في الدعوى بإطلاقها؛ كما لا يقع بإطلاقها لو كانت مسلماً فيها، وصححنا السلم في الدراهم، وليس يبعد الاكتفاء بالإطلاق في الدراهم إذا كانت مُسْلماً فيها؛ فإنها تثبت عوضاً، والمعاوضات منزلة على العادات.
وقد رأيت في كلام الأصحاب أن إطلاق الدراهم رأسَ مال (1)، -والدراهم غالبةٌ- جائزٌ، ثم تُعيّن بالتسليم في المجلس. وإطلاق الدراهم، وهي مسلم فيها إن صح ذلك على وجهين، والدعوى لا تنزل على العادة، كما أن الإقرار بالدراهم لا ينزل على العادة؛ فإذاً المعتمد ما ذكرناه.
__________
(1) رأسَ مالٍ: أي رأس مالٍ في السلم. هذا، وقد ضبطت في الأصل بالرفع (رأسُ مالٍ).

(18/499)


ثم قال العراقيون: لو شهد الشاهد بمجهول لا تقبل الشهادة بمثله، فالقاضي لا يرشده إلى الإعلام بالمساءلة والبحث؛ فإن هذا تلقينُ الحجة، ولو شبب المدعَى عليه بما يكاد أن يكون إقراراً لم ينبّهه القاضي، ولم ينهه، بل يتركه يسترسل في كلامه، ثم يقضي بموجَب قوله.
11927 - والمدعي إذا ذكر دعوى مجهولة لا يصح مثلها، فهل للقاضي أن يستفصل الصفات حتى يأتي بدعوى معلومة؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنه لا يعرض له، بل يترك المدعي وشأنَه، فإن استتم الكلام مشتملاً على دعوى صحيحة، بنى عليها حكمها، وإن لم تصح دعواه، لم يقبلها.
ومن أصحابنا من قال: له أن يستفسر، وإن كان الاستفسار يؤدي إلى إرشاده إلى إعلام الدعوى- فإذا ادعى عشرة دنانير على إنسان، وقال يلزمه تسليمها إليّ، فالقاضي يقول: أي الدنانير؟ نَيْسابورية، هَرَوية، عتيقة، مكسرة، صحاح، أم البعض مكسر والبعض صحاح، فلا يزال كذلك حتى يأتي المدعي بتمام الإعلام، أو يقول: لا أدري.
وظاهر النص يميل إلى هذا الوجه، ووجهه أن الدعوى ليس بحجة، فالإرشاد فيها على صيغة الاستعلام غيرُ ضائر، ولا ينبغي أن يقول له القاضي: قل كذا وكذا، وكيف يقول ذلك، ولا علم عنده بصفة الدعوى، فإن انتهى الاستفصال إلى إزالة الإشكال، قرّت الدعوى، وإن وقف المدعي قبل تمام الإعلام، فالدعوى مجهولة مردودة.
هذا قولنا في إعلام الدعوى، فإذا أعلمها المدعي، فلا تُسمع دعواه ما لم يجعلها خصاماً.
وبيانه أنه لو قال: لي على فلان كذا، فهذا خبر، وليس بمخاصمة، وإنما تصير الدعوى مخاصمة، إذا قال: عليه كذا ويلزمه تسليمها إليّ، ثم تبيّن للقاضي أنه يبغي استيداءَها منه، ولو اقتصر على هذا القدر، ففيه نظر للفطن، يوضحه ما نذكره.

(18/500)


فلو قال بعد الإعلام: يلزمه أداؤه، وأنا أبغي أن يؤديه الآن، فهذا تمام الخصام بعد الإعلام، ولو لم يقل: إني طالب مطالِب، وقوله " يلزمه " فيه تردد، وقد اكتفى الأصحاب بقوله: " يلزمه أداؤه "؛ فإن الأداء لا يلزم إلا مع الطلب، وقد يقول الفقيه: من عليه دَين حالٌّ يلزمه أداؤه، وإن لم يطلبه صاحبه، وإنما يسقط وجوبُ الأداء برضا مستحق الحق بتأخيره، فينشأ من مجموع ما نبّهنا عليه ترددٌ بيّن في أنا هل نشترط التصريح بالطلب، وهذا محتمل [جداً] (1).
11928 - فإذا وضح الغرض من الدعوى، وهي متعلقة بالغائب، فإنّا في هذا القسم نتكلم: [فالدعوى] (2) المجردة على الغائب، لا خير فيها إذا لم يكن للمدعي بينة، وإنما تفرض الدعاوى على الغُيّب ممن يبغي إقامةَ البيّنة.
فإذا فهمت الدعوى، فلا استقلال بعدُ، ولا استمكان من إقامة البينة حتى يدعي جحودَ الغائب، أو معنىً يَحِلّ محلّ الجحود، كما سنصفه، إن شاء الله.
فإذا ادعى على الغائب، وزعم أنه جاحد، فلا حاجة به إلى إثبات جحوده، ولكن يكفيه ذكر الجحود متصلاً بالدعوى. هذا ما ذكره الصيدلاني وأئمة المذهب.
ولو قال: لي على فلان الغائب ألفٌ، وهو معترفٌ به، ولكني أبغي أن أقيم بيّنةً استظهاراً بها [وأنتجزُ كتاباً، فعساه ينكر إذا أتيتُه] (3)، قالوا: لا تقبل البينة كذلك، فقد شرطوا دعوى الجحود، واتفقوا على أنه لا يكلف إثبات الجحود بالبيّنة. وكأنهم شرطوه لانتظام الدعوى والبيّنة؛ فإن الدعوى لا ترتبط بالبيّنة إلاّ على تقدير الجحود.
وهذا من مشكلات الباب؛ فإنه إن ادعى جحودَه في الحال، فهذا محال؛ وكيف يدعي جحودَ من لا يعلم حياته، وإن كان يدعي جحوده لمَّا كان حاضراً، وقد مضت سنة، فالبينة في المآل لا ترتبط بجحودٍ ماضٍ، وعن هذا قال قائلون من
__________
(1) في الأصل: " خلافاً " والمثبت من (ق).
(2) في الأصل: " بالدعوى ".
(3) ما بين المعقفين فيه كلمتان مصحفتان في الأصل (انظر صورة الجملة الكاملة). والمثبت تقدير من المحقق. والحمد لله جاءت بصحته (ق).

(18/501)


الأصحاب: لا تشترط دعوى الجحود، ويكفي أن يدعي ويُعلِم ويبغي إقامةَ البيّنة، ولا يتعرض للجحود ولا لنقيضه.
وهذا متجه؛ فإنه إن كان مقراً، فلا مضادة، وإن كان منكراً، فالبينة قائمة في محلها، والقضاء على الغائب هُيّىء شرعاً لإثبات الحقوق على غررٍ، لا على تحقيق.
والذي حكيته عن الأصحاب مبناه على دعوى جحود سابق، والبقاء على إصرار عليه؛ فإنه الظاهر ما لم يثبت نقيضه. وهذا وإن كان كذلك، فهو جحود منقضٍ، والذي عليه دوران المذهب أن المدعى عليه إذا كان حاضراً، فلا يشترط في إقامة البيّنة عليه إنكاره، بل يشترط عدم إقراره؛ فإنه لو سكت أقيمت البيّنة عليه.
وقولنا: شرط قيام البيّنة عدمُ الإقرار [فيه] (1) طرفٌ من التوسع؛ فإن الإقرار يُغني عن البينة، فإذا بان الحقُّ بالإقرار، فلا معنى للتشاغل بالبينة، وحق على القاضي أن يراجع المدعى عليه عند صحة الدعوى، وسببه طلبُ إقراره؛ فإن ذلك إن أمكن، فهو أقرب، وحق على القاضي أن يسلك أقربَ الطرق في إيصال الحق إلى المستحِق، فإذاً البينة تقام عند عدم الإقرار، فإذا غاب الخصم، فعدم الوصول إلى إقراره بمثابة سكوت الخصم في الحضور. هذا قياس المذهب. وإن كان ميل الأصحاب إلى اشتراط دعوى الجحود. هذا معنى ذكر الجحود.
فأما ما يحلّ محله، فهو بمثابة ما لو اشترى الرجل من رجل شيئاً، ووفّى الثمن، وغاب البائع، ثم استُحِقّت (2) العين المبيعة، وأُخذت، فللمشتري أن يقيم البينة على الغائب بقبض الثمن، ولا حاجة به إلى فرض الجحود؛ فإن إقدامه على بيع ما لا يملك كافٍ في معنى الجحود، وهذا الطرف لا مراء فيه، وإنما التردد في الطرف الأول.
فإذا ترتبت الدعوى، ولاح الخصام، وظهر الغرض من التعرض للجحود، فإذا أراد المدعي أن يقيم بينة على الغائب أقامها، ثم يستفرغ القاضي الوسع في
__________
(1) في الأصل: "منه".
(2) استحقت: أي ظهر أنها حق لغير البائع، وأنه باع ما لا يملك.

(18/502)


الاستزكاء، والبحث الأكمل. حتى يغلب على ظنه أنه لم يبق للخصم الغائب مضطرباً، فإذا فعل ذلك، انقسم النظر بعده، فإن طلب المدعي القضاء بالبينة على الغائب، فلا بد من الإسعاف به، والقضاء على الغائب نافذ على شرائط سنصفها الآن، خلافاً لأبي حنيفة (1) رضي الله عنه.
وحكى صاحب التقريب في مواضعَ من كتابه قولاً غريباً للشافعي في منع القضاء على الغائب، قال: رواه حرملة عنه. وهذا حكيناه ولا عَوْدَ إليه.
11929 - فإذا أراد القضاءَ على الغائب بالحق، فلا بد من تحليف المدعي، ثم يستظهر بالاحتياط التام في تحليفه: فيحلّفه: ما أبرأ عن حقه، ولا عن شيء منه، ولا أحد بأمره، ولا [استوفاه] (2) ولا شيئاً منه، ولا أحدٌ بأمره، ولا اعتاض عنه، ولا عن شيء منه، ولا أحدٌ بأمره. ولا أحال به ولا بشيء منه، ولا أحدٌ بأمره، وأنه يلزمه تسليمُ المدعَى إليه وأن شهوده شهدوا بالحق.
فال القاضي رضي الله عنه: اختلف أصحابنا في أن هذه اليمين احتياط أم وجوب، فمنهم من قال: هي احتياط، فليقع القضاء بالوجوب تعويلاً على البينة، ثم إن ادعى الخصم عند الانتهاء إليه شيئاً مما تحالف المدعي عليه، فهو خصومة مستفتحة، وهذا حسن منقاس؛ فإن القضاء، وإن نفذ على الغائب، فليس المراد به أنه إذا بلغ كتاب القاضي إليه يُؤخذ بتلبيبه، ويُستأدى الحق منه من غير أن يُستنطق، بل القاضي المكتوبُ إليه يُحضره ويراجعه ولا يسد عليه بابَ الدعوى، كما سنصف إذا انتهينا إليه، هذا أحد الوجهين.
والثاني - أن الاستحلاف حق، وهو ركن القضاء على الغائب؛ فإن القاضي يتمسك بكل ممكن يقدِّر تمسُّكَ الغائب به لو كان حاضراً. هذا وضع القضاء، وفيه فقه، وهو أن القضاء ينفذ بوجوبٍ ناجز، وكيف [يصح] (3) هذا مع إمكان الإبراء،
__________
(1) ر. المبسوط: 17/ 39، رؤوس المسائل: 524 مسألة 283، مختصر اختلاف العلماء: 3/ 386 مسألة 1531، طريقة الخلاف: 397 مسألة: 163، إيثار الانصاف: 351.
(2) في الأصل: " استوفى ".
(3) في الأصل: " يتضح ".

(18/503)


غير أنا لم نتعرض لهذا [والمدعى عليه] (1) حاضر؛ فإنه منطلق اللسان بالدعوى، فليدّع.
وقد قال الأئمة: من ادعى على صبي أو مجنون، أو ميت، ولا نائب لهم، فإذا أقام البينة، فلا بد من التحليف، كما ذكرناه في القضاء على الغائب.
والذي أراه أن التردد الذي ذكره القاضي في أن اليمين احتياط أم وجوب، لا يجري في هذه المنازل؛ فإنا نتوقع من المدعى عليه إذا انتهى كتاب القاضي إلى موضعه أن يدعي بنفسه، وهذا لا يتحقق في الصبي والمجنون والميت، وحكم نفوذ القضاء إيصال الحق إلى مستحقه.
فإن فرّعنا في الغائب على الأصح -وهو اشتراط اليمين- فالتعرض لتصديق الشهود فيه بُعد عندنا، نعم قد نشترط على المدعي إذا كان يحلف مع شاهد واحدٍ أن يصدّق شاهده -على مذهبٍ- في يمينه (2)؛ وذاك سببه أن الشاهد الواحد ليس ببيّنة. والبيّنة في مسألتنا كاملة.
فقد يعترض في التفريع على هذا الوجه الاكتفاءُ بتحليفه على أنه مستحق الحق الآن من غير بسط في ذكر [الجهات] (3).
11930 - ومما نرى وَصْلَه بهذا المنتهى من أمر التحليف أن مستحق الحق لو وكّل وكيلاً، فأتى موضع الخصم الغائب، وأثبت الوكالة بالخصومة وأقام البينة، فلو قال المدعى عليه: إن موكِّلك برأني، أو استوفى منه، فلا يلزمني تسليمُ ما أقمتَ البينةَ عليه ما لم يحلف موكلُك، والوكيل لا يتصور أن ينوب عن موكله بالحلف.
قال القاضي رضي الله عنه: وقعت هذه الصورة بمرو في كتاب ورد من قاضي بخارى على قاضي مَرْو في إثبات وكالة بالخصومة، ثم انتهى الأمر إلى المسألة التي ذكرناها، فقال المدعى عليه ما وصفناه، وتوقف فقهاء مَرْو من الفريقين، فاستدرك
__________
(1) في الأصل: " المدعى عليه " (بدون واو).
(2) المعنى أن يَشتمل اليمين التي يحلفها المدَّعِي على تصديق شاهده، فيحلف أنه صادق في شهاته.
(3) في الأصل: " الجهاد ".

(18/504)


عليهم الشيخ القفال، وقال: يقضى على المدعى عليه بموجب البينة. ثم إن كانت دعوى فلْيَسْعَ في توجيهها على الموكِّل.
وهذا لا يستدرك بمبادىء النظر؛ فإن صاحب الحق لو كان حاضراً، وقد أقام البينة، وقضى القاضي بها، فلما أراد إلزام المدعى عليه قال: لقد أبرأني عن حقه، فلا يلزمه ما لم يفصل هذه الخصومة؛ فإن نكوله عن اليمين ممكن، فالوجه فصل هذه الخصومة الثانية، ثم النظر بعدها في مقتضى الحال، فإذا كان كذلك، فصِدْقُ المدعى عليه في مسألة الوكيل ممكن.
ولو حضر مستحِق الحق، لَمَا كُلِّف توفيةَ الحق حتى يحلف المدعي أنه ما أبرأ، فكيف سبيل إلزام المدعى عليه توفية الحق في مسألة الوكيل، وهلا توقفنا؟
وسبيل الجواب أنا لو سلكنا هذا المسلك، لانقطعت الوسائل والذرائع إلى استيفاء الحقوق بطريق التوكيل والاستنابة، والوكيل لا يتمكن من الحلف ولا حكم ليمينه، فاستوفينا الحق في الحال، والمدعى عليه على دعواه في الإبراء. هذا منتهى الإمكان في ذلك.
وفيه فضلة للناظر.
11931 - ونعود إلى ترتيب الخصومة بعد الفراغ عما اعترَضَ. فإذا قامت البينة، وحلف المدعي، واستدعى من القاضي الذي أقام البينة عنده أن يقضي له، فلا بد وأن يسعفه، ثم إذا قضى له، فيكتب كتاباً إلى القاضي الذي هو في المكان الذي به الخصم.
والكلام الآن يتعلق بصورة الكتاب، ولا بد فيه من ذكر المراسم، ثم إن اشتمل الكلام على ما يُحْوِج إلى البحث، جرينا على عادتنا في الانعطاف.
فإذا كان القاضي يكتب بقضاء مبرم، فإنه يكتب بعد تصدير الكتاب: " حضرني فلانُ بنُ فلانِ بنِ فلان " فيرفع في نسبه، ويذكر اسمه، واسم أبيه وجده، ويذكر حِلْيتَه، وصفاتِه، ومسكنَه وصنعتَه، وما يشتهر به، واليومَ الذي ادعى فيه من الشهر والسنة، ويقول: " وادعى على فلانِ بنِ فلانِ بنِ فلان " -فيجري في إعلامه على نهاية

(18/505)


الإمكان- كذا. وكذا، فيذكر الجنسَ المدّعَى والقدرَ، فأَصْغيتُ إلى دعواه، وأقام بينةً عادلةً، يجوز القضاء بمثلها، وحلّفته مع بينته، وطلب القضاء، فقضيت له بحقه، وطلب أن أكتب إليك هذا الكتاب؛ لتُحضر خصمه، وتلزمه الخروج عن حقه، فأجبته إلى ملتَمسه على موجَب الشرع، وُيعَنْوِن الكتابَ، ويختم عليه، ويَشهدُ عليه شاهدان، ويقرأ الكتاب على الشاهدين، ويكون قضاؤه بمرأى منهما ومسمع، ويعلمهما مضمونَ الكتاب، ويدفع إليهما نسخة ليطالعاها في الطريق؛ حتى لا يزلّ عن ذكرهما مقصودُ الكتاب.
ثم مذهب كافة أصحابنا أن التعويل على ما شهد به الشاهدان والكتاب رسمٌ أو استظهار، فلو لم يكن عندهما علم بمضمون الكتاب، فالكتاب ضائع لا منفعة فيه.
ولو قال القاضي الكاتب للشاهدين: هذا كتابي، ومضمونه قضائي، والختم ختمي، وقد أشهدتكما على ذلك، ولم يطلعهما على تفصيل القضاء، فالذي ذهب إليه الأصحاب أن ذلك لا يُجدي ولا يفيد، فليقع التعويل على تحمل الشاهدين لتفصيل القضاء.
وقال أبو سعيد الإصطخري: إذا وقع الإشهاد مجملاً كما وصفناه، عمل المكتوب إليه بمضمون الكتاب؛ فإن الثقة تتم بماجمال الشهادة، والتفصيل يُتلقَّى من الكتاب. وهذا متروك عليه غيرُ معدود من المذهب.
وإذا تحمل الشاهدان تفصيل القضاء، ثم ضل الكتاب، أو انمحى فلا تعويل عليه، والمكتوب إليه يعتمد شهادة الشاهدين، حتى قال الأصحاب: لو شهد الشاهدان على تفصيل في القضاء، ففكَّ المكتوبُ إليه الكتابَ، فوجد بين مضمون الكتاب وبين شهادة الشاهدين تفاوتاً واختلافاً، فلا مبالاة بالكتاب، وليقع الحكم بشهادة الشاهدين.
ومما ذكره الأصحاب على هذا النسق، أن المكتوب إليه لا بد وأن تثبت عنده عدالة شاهدي الكتاب، فإن كان يعرفهما عدلين، وإلا استزكاهما.
ولو كان كتب القاضي في الكتاب: إن الشاهدين حاملي كتابي عدلان من أهل الشهادة، فهذا لغو، لا فائدة فيه، فإن التعويل على الكتاب لا سبيل إليه؛ فالمعتمد

(18/506)


قولُ الشاهدين، فإن نقلا عن القاضي تعديلهما، فكأنهما في التحقيق يشهدان على عدالة أنفسهما، أو على تعديل الغير إياهما، وهذا محال غير منتظم.
وقال الققال الشاشي: تثبت عدالة حاملَيْ الكتاب بتعديل القاضي الكاتب في كتابه، وهذا غلط باتفاق الأصحاب؛ فإن الإصطخري وإن عوّل على الكتاب، فمستند الكتاب شهادة عدلين على أن هذا الكتاب للقاضي، فإذا توقفنا في عدالة الشاهدين، فكيف يثبتُ الكتاب حتى يعوَّل على مضمونه؛ فإذاً هذا معدود من هفوات هذا الإمام.
11932 - وليس ما ذكرناه تمامَ الغرض، واستيفاءَ المقصود في بيان حقيقة القضاء المبرم على الغائب، لكن قد اعترضت مراسم وأوفينا على المسائل بعدها، فننعطف بالبحث على ما تقدم، ثم نفتتح المسائل، فأصل الكتاب رسمٌ، ولو ترك، فلا بأس. والتعويل على ما يتحمله الشاهدان، ثم إن اطلع شاهدان على تفصيل القضاء عند الإنشاء، فذاك، وإن جرى القضاء ثم أشهدهما القاضي على اعترافه بالقضاء المفصل، جاز ذلك، وهو واضح.
وأما مذهب الإصطخري ومخالفة الأصحاب إياه، فالكلام فيه ليس بالهيّن، وأنا أقول: إن قال القاضي: هذا كتابي وختمي وقد أشهدتكما على ذلك؛ فإن كان الإصطخري يقول في هذا المقام: يُعوِّل المكتوبُ إليه على الكتاب، فهذا غلط لا شك فيه؛ فإن الكتاب لا يعوَّلُ عليه، والخط لا معتبر به.
ولو قال القاضي: مشيراً إلى خط نفسه في سجلّ: هذا خطّي، وكان مضمونه تسجيلاً، فلا يكون هذا خطيّ اعترافاً منه بالقضاء، وإن كان الإصطخري لا يجيز هذا، بل يشترط أن يقول القاضي للشاهدين: مضمون هذا الكتاب قضائي وحكمي، وقد أشهدتكما على ذلك، ولم يتعرض لتفصيل القضاء، فهذا موضع النظر.
ومذهب الإصطخري يتجه بعضَ الاتجاه إذا كانت الحالة هذه؛ لأن القاضي أقر بالقضاء؛ ولكنه لم يفصّله للشاهدين، وأحال تفصيلَه على الكتاب، والإقرارُ يثبت مع الإجمال، كيف وبيان مجمله محالٌ على كتابٍ أشار إليه القاضي.

(18/507)


ولو كتب كاتب إقراراً، أو كُتب عنه بإذنه، فأشار إلى مجموعه وقال: الإقرار المثبت في هذا الذِّكر (1) إقراري وأنا معترف بجميع ما أُثبت في هذه الأسطر، فالوجه عندنا ثبوت الإقرار وجواز تحمل الشهادة، ثم إذا أشار الشهود إلى الذِّكر، كان المشهود مؤاخذاً بتفصيل المكتوب فيه. فإذا قال القاضي أشهدتكما على قضائي وحكمي المكتوب في هذا الكتاب، فالوجه جواز ذلك. والذي حكاه معظم الأصحاب خلافه.
فهذا مواقع البحث من المراسم التي ذكرناها.
11933 - ونحن بعد ذلك نخوض في المسائل وتفاصيلِ الأمر، بعد تمهيد قاعدةٍ: وهي أن القاضي إذا قضى بالبينة واليمين، وأبرم القضاء، فقد تم الأمر، ولا يتعلق بالمكتوب إليه إذا ثبت القضاء عنده عُلقة من الحكم، وإنما هو مستعان في إيصال حق ثابت إلى مستحقِه؛ وإذا بان أنه ليس إلى المكتوب إليه من الحكم الأول شيء، فيترتب على هذا أمور: منها - أن القاضي الكاتب لا يلزمه أن يفصّل البينةَ القائمةَ في أصل الخصومة، وليس عليه أن يرفع أسماءهم ويتشوَّفَ إلى إعلامهم، بل يكفيه أن يقول: قضيت لفلان بحجة شرعيةٍ تقتضي القضاء.
ولو قال قائل: المكتوب إليه -إذا كانت البينة مبهمة- مقلِّد. قلنا: ليس مقلداً في الحكم؛ إذ ليس إليه من الحكم شيء، ولا بيان بعد الوضوح.
11934 - ومما يتعلق بما ذكرناه أن الكاتب (2) لو مات قبل انتهاء الكتاب، لم يضرّ موته؛ فإن الحكم منفَّذ، وهو مقيَّدٌ مؤزَّرٌ بتحمل شهادة الشهود، فإذاً كتاب القاضي وأقضيته تثبت بعد موته، وكذلك لو عُزل القاضي الكاتبُ، فالقضاء المبرَمُ باقٍ كما كان.
ولو مات المكتوب إليه، فلا أثر لموته، ولكن إذا شهد الشاهد على قضاء القاضي الكاتب عند قاضٍ من قضاة المسلمين، فهذا قضاء ثابت من قاضٍ أُثبت عند قاضٍ
__________
(1) الذِّكْر: الصك، يقال: هذا ذِكر الدَّيْن: أي صكه. (المعجم).
(2) المراد القاضي الكاتب الذي قضى على الغائب.

(18/508)


آخر، فهل يلزمه إمضاؤه على موجَب الشرع، سواء كان إلى القاضي الثاني كتاب أو لم يكن؟ فقد ذكر صاحب التقريب عند ذلك أصلاً مقصوداً في نفسه، وبه يتهذب ما مهدناه، ونحن نذكره على وجهه، فنقول:
11935 - لو كان في جانبي بغداد قاضيان، وقد خُصت ولاية كل [شِقٍّ] (1) بقاضٍ، فهذا جائز لا إشكال فيه. فلو دخل أحدهما الجانبَ الثاني، فأخبره قاضي الجانبِ الثاني المنتقَلِ إليه بأني حكمت على فلان بكذا بحجةٍ قامت، فإذا رجعت إلى جانبك، فاستوفِ منه ما حكمتُ به عليه، فإذا رجع إلى جانبه، فقد قال الأصحاب: له أن يستوفي الحقَّ منه.
وعندنا أن هذا مبني على أن القاضي هل يقضي بعلمه؟ فإن جوزنا له ذلك، استوفى ذلك إذا رجع إلى جانبه، وإذا منعنا القضاء بالعلم، فليس له أن يستوفيَ؛ فإنه وإن تحقق من قول القاضي في ولايته، فهو في نفسه لم يكن في محل الولاية، فكان سماعه من القاضي في محل ولايته مفيداً له علماً.
ولو دخل ذلك القاضي الذي هو المبرِمُ للحكم الجانب الآخر، وأخبر القاضي الذي في هذا الجانب بأني قضيتُ على فلانٍ، فلا يعوِّل قاضي هذا الجانب على ما سمع؛ فإنه قولٌ صدر من قاضٍ في غير محل ولايته، فلم يكن له حكم.
ولو عَبَرَ هذا القاضي إلى الجانب الآخر، فسمع من قاضي الجانب الآخر -وهو في محل ولايته- إني سمعت بينةً على فلان، ووصفها، فإذا رجَعتَ إلى جانبك، فاقض بها عليه، فإنه لم أُبقِّ إلا القضاء؛ فإذا رجع السامع إلى جانب نفسه، لم يقض بتلك البينة؛ وذلك أن تنفيذ القضاء متعلق به، وقد سمع قولَ القاضي في مكانٍ لا ولاية له فيه، فلا حكم لذلك السماع، وهو بمثابة ما لو شهد عنده شهود في ذلك الجانب، ولا ولاية له فيه، فلا حكم لسماعه؛ فإن السماع في البينات إنما يصح من والٍ، وقول القاضي: سمعت على فلان بينة بمثابة بينة تقام.
ومما يتعلق بذلك أن القاضي في الجانب الشرقي لو كتب إلى قاضي الجانب
__________
(1) في الأصل: " بشيء " والمثبت من تقدير المحقق. والحمد لله فقد صدقتنا (ق).

(18/509)


الغربي، وهما قارّان في ولايتيهما بأني سمعت بينة على فلان، ووصفها على شرطها، فاقض بها، فإن كان ذلك بعد ما غاب الشهود أو ماتوا، فيقضي المكتوب إليه إذا شهد شاهدان على موجب الكتاب كما ذكرناه، وإن كانوا حضوراً بعدُ في البلدة -أعني شهود الخصومة- فالمكتوب إليه لا يقضي أصلاً، بالكتاب والشهادةِ على مضمونه؛ فإن استحضار الشهود سهل، وهم الأصل، وقول القاضي في حُكم شهادة الفرع على الأصل، فيستحضرهم القاضي، ويستعيد الشهادةَ، بأن تقام الخصومة في مجلسه من ابتدائها على شرطها، فهذا معنى الاستعادة.
وكذلك لو كان سمع شهادةَ قوم، ولم يخض القضاءَ، وكتب إلى قاضٍ في بلدة أخرى، فاتفق أن الشهود كانوا صحبوا الكتاب، أو سبقوه، أو أتَوْا بعده على القرب قبل أن يُمضي المكتوبُ إليه القضاءَ؛ فإن المكتوب إليه يبتدىء الخصومة، ويستعيد الشهادة؛ لتمكنه من الوصول إلى قول الأصول، وسماعُ القاضي وكتابُه في حكم الفرع.
ولو كان في جانبي بغداد قاضيان، كما صوّرنا، فسمع أحدُهما في جانبه بينة، وغاب الشهود أو ماتوا، ثم وقف كل واحد من القاضيين على طرف ولايته، لم ينفصل عنها، ونادى من سمع البينة الآخر: بأني سمعت شهادة فلان، وفلان، على فلان، وحلّفته على موجَب الشرع، فاقض بالبينة في جانبك، فيقضي ذلك القاضي؛ فإن كل واحد منهما كان في محل ولايته لما تناديا، فصحّ ذلك، ووقع الموقع.
فإن قيل: إذا كان التنادي والإعلامُ في طرفي الولايتين ممكناً -على ما صورتموه- فإذا كتب أحدهما، وأشهد على كتابه، وكان قادراً على أن يشافه القاضي ويناديه، فهلاّ كان هذا ممنوعاً؛ لأن كتاب القاضي وشهادةَ الشهود على سماعه بمثابة الفرع للقاضي؟ وقوله في نفسه أصل، فكيف يقع القضاء بالفرع مع التمكن من الوصول إلى الأصل.
ويخرج من موجَب هذا السؤال أن يتعين أن يُعلم أحدُ القاضيين الآخرَ بسبيل التنادي في طرفي الولايتين. وهذا وجه بيّن في القياس.
ولكن الذي دل عليه كلام الأصحاب أنا لا نشترط ذلك؛ فإن فيه الغض من منصب

(18/510)


القاضي [وتكليفه] (1) ما لو تكلفه، لكان قريباً من خَرْم المروءة وحطها.
وقد نقول: إذا مرض شهود الأصل قبِل القاضي شهادة الفروع، مع قدرته على أن يدور على مساكن الشهود المرضى، ويسمع منهم أصل الشهادة، ولكن لا نكلفه ذلك على تفصيلٍ سيأتي، إن شاء الله عز وجل.
فهذا ما أردنا ذكره من أحكام القاضيين في الجانبين.
11936 - والغرض الأظهر التنبيه على ما جعلناه معتمد الكلام في أن القاضي إذا نفذ قضاؤه، فقد تم الأمر، ولم يبق على المكتوب إليه من القضاء عُلقة، وإنما بقي إعانة الخصم المستحِق على استيفاء الحق.
فإن قيل: إن كان كذلك، فليكتب القاضي بعد إبرام القضاء إلى واحدٍ من عُرض الناس في البلدة التي فيها الخصم، وليأمره باستيفاء حق المستحق.
قلنا: هذا الآن غفلة عن القواعد؛ فإن هذا لا يتأتى إلا بسماع شهادة شهود الكتاب، وهذا لا يصح إلا من قائمٍ بالقضاء، حتى لو [كان] (2) ذا ولاية وليس إليه القضاء، فلا يملك أيضاً استيفاء الحق؛ من حيث إنه لا يتوصل إلى سماع الشهادة، فلو وقف القاضي في شرقيّ بغداد على طرفِ ولايته، ونادى واليَ الغربي -وليس قاضياً - بأني قضيت على فلان ببينة أو إقرار، فاستوف ذلك الحق منه، فالوجه عندنا أن لا يستوفي أيضاً؛ فإنه ليس إليه سماع قول القاضي، كما ليس له سماع شهادة الشهود.
ويتجه أن يستوفيَه؛ من جهة أن القضاة قد يستعينون بالولاة المرتبين باستيفاء الحقوق من الممتنعين. ولا خلاف أن القاضي في محل ولايته لو استعان بالوالي في ذلك المحل، لأعانه الوالي تعويلاً على قوله، وينقدح في ذلك فرقٌ؛ فإن القاضي إذا استعان بالوالي في محل ولايته، فحتم على الوالي أن يطيعه ويتبعه، فحكمه نافذ على الوالي، فإذا كان الوالي في غير ولايته، فلا حكم له عليه، وإنما هو إسماع وإبلاغ،
__________
(1) في الأصل: " وتكليمه ".
(2) في الأصل: كانت ".

(18/511)


وذلك الوالي ليس من أهل السماع، والمسألة على الجملة محتملة.
وقد بان أن القضاء المبرم لم يبق منه إلا القيام بالاستيفاء ممن يتصور منه الوصول إليه كما أوضحناه.
11937 - ومما يتعلق بهذا القسم وهو قسم إبرام القضاء أن الخصم إذا ارتفع إلى مجلس القاضي، وادعى على زيدِ بنِ عمرو بنِ بكر حقاً، وذكر حِلْيَته، وصِفَتَه، وصناعتَه، ومسكنَه من بلد آخر، وأتى باقصى الإمكان في الإعلام والبيان، وأراد أن يقيم عليه بينة ليقضي القاضي بها على موجَب الشرع، وكان القاضي الذي رُفع الأمر إلى مجلسه لا يعرف ذلك الشخصَ مع الإطناب في الجهات التي ذكرناها، فكيف السبيل في هذا؟ ولو قضى القاضي على المسمَّى الموصوفِ، لكان قاضياً على من لم يعرفه.
هذا من أصول الباب؛ فيجب الاهتمام بدرك معانيه، والإحاطة بما فيه، فنقول أولاً: القضاء نافذ على الوجه الذي صورناه، وإن كان القاضي لا يعلم المقضيَّ عليه؛ إذ لو شرطنا أن يكون القاضي عالماً به، لانحسم مسلك القضاء، على معظم الغُيّب، ولاختص بأقوام معدودين يعرفهم القاضي، وربما كان القاضي [لا يعرف] (1) من أهل بلدته إلا أقواماً محصورين.
فإذا حصل التنبه لهذا، فالوجه أن يكتب القاضي ما يحصل الإعلام به في المحل الذي الخصم به، وذلك في أوساط الناس بذكر الاسم والارتفاع في النسب، والاعتماد على الحِلْية، وتعيين المسكن والصناعة، وذلك يُتلقَّى من قول الشهود، فينبغي أن ينتهي الإعلام إلى حدٍّ يغلب على الظن أن من وُصف بهذه الجهات لا يلتبس بغيره، ولو فرض مساوٍ مع ما ذكرناه من المبالغة، لكان من النوادر، فهذا ما يجب رعايته.
ثم فائدة هذا الإبلاع أن يتوصل المكتوب إليه إلى تمييز المقضيّ عليه؛ فإن الحاجة تظهر ثَمَّ، وعدمُ علم القاضي الكاتب لا أثر له، نعم لو قصّر في الإعلام والضبط
__________
(1) زيادة اقتضاها السياق.

(18/512)


بالصفات التي ذكرناها، مثل أن يقول: قضيت على محمدِ بنِ أحمدَ -فهذا لغوٌ؛ فإن التمييز لا يحصل به، وإذا لم يحصل التمييز به، فليس القضاء معتمداً، فكان لغواً مطَّرحاً. وسيكون لنا انعطاف على هذا بعد بيان ما هو الأصل.
فنقول: إذا سمى وارتفع في النسب، وأبلغ في الإعلام وأبرم القضاء، ونقل كتابه مع شهود الكتاب، فإن رُفعَ الخَصمُ صاحبه إلى مجلس القضاء، واعترف بأني أنا المعيّن المسمّى الموصوف، فيقول له القاضي: فما قولك؟ فإن أقر بالحق، كلفه الإيفاء، وإن أنكر سُمِّعَ بيّنة الكتاب والشهودِ عليه، وألزمه الإيفاء. ولو قال: لست مسمّىً بهذا الاسم، ولا معيّناً بالكتاب، وليست الأسماء المذكورة أسماءَ آبائي وأجدادي، فعلى حامل الكتاب أن يثبت أنه مسمّىً بهذه الأسماء ببيّنة يقيمها، فإن فعل، اطرد القضاء عليه، وإن لم يجد بينة يقيمها على ما أنكره من الأسماء، تعطّل الأمر. فلو قال: أحلِّفُكَ على ما أنكرت، فله ذلك، فإن حلف انصرف القضاء عنه، وإن نكل، رُدت اليمين على حامل الكتاب، فإن حلف ثبت غرضُه، واطرد القضاء على المرفوع إلى مجلس القاضي المكتوب إليه.
11938 - ولو أنكر الخصم المرفوعُ الاسمَ، ولم يجد ناقلُ الكتاب بينةً، فطلب اليمين، فقال الخصم المرفوع: لا أحلف على نفي الاسم، ولكن أحلف على أنه لا يلزمني تسليمُ شيء إليك، فقد قال الصيدلاني: تقبل اليمين منه على هذا الوجه، ويُدْفَع القضاء، [ويشهد لهذا] (1) الأصلُ المعروف في ذلك، وهو أن الرجل إذا ادعى جهةً في الاستحقاًق على شخص، فلم يتعرض المدعَى عليه لها، واقتصر على قوله لا يلزمني تسليمُ شيء إليك. فهذا مقبول، واليمين بِحَسَبه مسموعةٌ، وهذا كالرجل يقول: أقرضتك ألفاً، وكان المدعى عليه اقترض الألف ولكن أداه، ولو اعترف بالأصل لا يقبل قوله في دعوى الأداء.
__________
(1) ما بين المعقفين تقدير منا بناء على السياق، واستئناساً بعبارة الغزالي إذ قال: " قال الصيدلاني: له ذلك؛ بناء على الأصل المعروف وهو ... " (ر. البسيط: جزء 6 ورقة: 110 يمين).

(18/513)


[وقد يستحلفه المدعي] (1)، فيحلف، فللمدعى عليه ألا يتعرضَ للجهة، وسيأتي هذا ونظائره في الدعاوي، إن شاء الله، فبنى الصيدلاني على ذلك، وجوّز للخصم المرفوع أن يسلك هذا المسلك، ويحلف على نفي الحق.
وهذا عندي خطأ؛ فإنه إنما يمتنع عن اليمين على نفي الاسم والنسب لثبوتهما، ولو ثبتا، فالحجة قائمة عليه، والقضاء مبرم، وليس كالدعوى المحضة في الإقراض؛ فإن الدعوى ليست حجةً، فأثبت الشرع للمدعَى عليه مسلكاً في الخصومة يوافق الحق عنده، ويضادّ مقصودَ المدعي، والمسألة محتملة مع ما ذكرناه.
11939 - ولو قال الخصم المرفوع: كل مذكور في هذا الكتاب فأنا موصوف به من الاسم والنسب وغيرهما، ولكن لست معنياً بالكتاب. ففي هذه البلدة من تجتمع فيه هذه الصفات- هذا محل الكلام.
فإن كان القاضي الكاتب قد أبلغ في الإعلام إبلاغاً لائقاً بالمقصود -وحدُّه ما ذكرناه من ندور التوافق [فيه] (2) - فنقول للخصم: أثبت ذلك موافقاً، فإن فعل، وُقف القضاء، وقال المكتوب إليه للخصم: ارجع، وميّز خصمك؛ وأزِل اللبس، وإن لم يأت الخصم المرفوع بمن يساويه في جهات الإعلام، نفذ القضاء عليه.
ومن هذا المنتهى ننعطف على ما قدّمناه: فلو كان القاضي أخلّ بما ينبغي أن يُرعى في الإعلام، مثل أن كان قضى على محمدِ بنِ أحمدَ -فقال الخصم المرفوع آخراً: أنا محمدُ بنُ أحمدَ، ولست معنياً بالكتاب، والبلاد مفعمة بمن يساويني في اسمي واسم أبي؛ فيقال للخصم: ارجع وميّز، ولا تُجشِّم الخصمَ المرفوعَ أن يُثبت هذا. ولو قال الخصم المرفوع: أنا المعنيُّ بالكتاب، وقد كذب الشهود عليّ، أو تحيّف القاضي في قضائه، فلم يبحث حق البحث، فالقضاء لا ينفذ على هذا الخصم؛ فإن الدعوى من غير إعلام لا ثَبَت لها، والشهادة من غير إعلام المشهود عليه لا صحة لها، ثم القضاء بعدها هذيان، وهو بمثابة القضاء على رجل تعويلاً على معرفة الخصم، وهذا ظاهر.
__________
(1) في الأصل: " وقد يستحيل المدعي ".
(2) في الأصل: " منه ".

(18/514)


ولكن إنما ذكرته لما صدّرتُ الفصلَ به من أن القاضي لو لم يكن عالماً بالمقضي عليه مع التناهي في الإعلام من الشهود، لجاز، فقد يظن الظان أن الإعلام إذا لم يحصل واعترف الخصم المرفوع بأنه المعني كفى، وليس الأمر كذلك؛ فإن القضاء ليس إنشاءَ أمر، وإنما هو إظهارُ أمرٍ على ترتيب الشرع، فإذا لم يكن على الترتيب المرعيّ، فهو لغو، لا مبالاة به، وقد اتضح هذا الأصل، وهو الإعلام، ووجهه وفائدته.
ولو أقام الخصم المرفوعُ بعد تمام الإعلام بيّنة على مساواة ميت إياه في الصفات التي وصف بها، كفاه ذلك في صرف القضاء عن نفسه.
وقد تم مقصودنا في قسم من قسم في الدعوى على الغائب- وهو ادعاءُ دَيْن على غائب، ووضعُ نفوذ القضاء به.
11940 - فأما إذا سمع القاضي البينة على الغائب، ولم يقض بها، وكتب إلى قاضي الناحية التي بها الخصم المشهود عليه: إني سمعت البينة، ووكلت القضاء إليك، فقد قال الأصحاب: يجوز ذلك، واتفقوا عليه في الطرق، وأبو حنيفة (1) رضي الله عنه وإن منع القضاء على الغائب جوّز هذا.
وفيه إشكال نبيّنه. وهو أن سماع البينة تعلق من القاضي بركنٍ من أركان القضاء وعليه بعده نظرٌ، فإذا لم يقض، وأراد نقلَ البينة، فسبيل الواقعة كسبيل الشهادة على الشهادة، فكان يجب أن يَشْهدَ على شهادة الأصول شهودٌ يكونون فروعاً، على الشرط الذي سيأتي مشروحاً في الشهادة على الشهادة، إن شاء الله. ثم كان القاضي على ذلك شاهداً على شهادة الأصول، ولا تثبت بالشاهد الواحد شهادة الأصول، وهذا بيّن من هذا الوجه.
قال القاضي: هذا الطرف غير منصوص عليه للشافعي، والقياس ألا يثبت بقول القاضي وحد شهادة شاهدين؛ إذ الشهادة على الشهادة لا تثبت بواحد.
وهذا الذي ذكره القاضي ليس مذهباً ولا وجهاً مخرجاً، وإنما هو إبداء الإشكال
__________
(1) ر. بدائع الصنائع: 7/ 7.

(18/515)


وإيضاح وجهٍ في الاحتمال، والذي أجمع عليه الأصحاب ما قدمناه.
ثم ما اعتمده الأصحاب أن قالوا: سماع البينة من القاضي حكم منه بقيام البينة، والحكم على مذهبنا ليس افتتاحَ أمر أو إنشاءَ شأن، وإنما هو إظهار ما تقرر ممن هو مطاع متبع إذا لم [حد] (1) عما أُثبت وشرح- فإذا حكم لزيد على عمرو، فمعناه: [ظهر وجوبُ] (2) حقٌّ لأحدهما على الثاني، والشرع ألزم اتباعه، كذلك إذا ظهرت البينة وأظهرها، كان ذلك حكماً منه في هذا الحكم.
وفي هذا الوجه تمسك الأصحاب على أبي حنيفة (3) رضي الله عنه بسماع الشهادة على الغائب، وردوا عليه قولَه: أن سبيل ذلك سبيل نقل الشهادة، وقالوا: لو كان كذلك، لكان القاضي فرعاً، والشهود أصول، ولا تثبت شهادة الأصول بقول فرع واحد.
ثم فيما أجراه الأصحاب من التفريعات ما يدل على أن سماع القاضي- وكتابُه على موجَب السماع- في حكم النقل، وفي التفريعات ما يدل على أنه حكم مبتوت.
ونحن نفضّ المسائل على هذا التردد، ونستجيز إطلاق القول باختلاف الأصحاب في أن هذا حكم أو نقل؟ فإذا اقتضى هذان الأصلان حكمين، وصادفنا المسائل مختلفة في التفرع، ساغ الإطلاق [الذي] (4) ذكرناه.
وإن أحببنا، قلنا: قضاءٌ مشوب بالنقل، أو نقلٌ فيه شَوْبُ القضاء.
وأسدّ العبارات في ذلك أن نقول: هو قضاء بالنقل، وهذا يضاهي تردُّدَ الأصحاب في أن القاضي إذا زوّج المرأة في غيبة الولي القريب، وحضور البعيد، فهذا التزويج من القاضي نيابة عن القريب، أو هو على حكم الولاية؟ فيه تردد.
والأصح أنه نيابة اقتضتها الولاية.
__________
(1) في الأصل: " يجد ".
(2) في الأصل: " ظهر أن وجوب ".
(3) هذه المسألة سبقت الإشارة إلى مصادرها آنفاً.
(4) في الأصل: " والذي ".

(18/516)


وإذا تمهّد هذا قلنا: الاكتفاء بالقاضي وحده في البيّنة يوضِّح شَوْب الولاية، وهذا متفق عليه.
11941 - وأجمع الأصحاب على أن القاضي إذا لم يقضِ، وضمَّن كتابه سماع الشهادة، فلا بد من ذكر الشهود وتعريفِهم. ولا يكفي أن يقول: سمعت بينة توجب الحكم. ولو كان هذا حكماً باتاً، لأوشك أن يجوز هذا، فلما قلنا: يجب ذكرُ تفصيلِ البينة وأسماءِ الشهودِ، على نهاية الإمكان والإعلام، فالسبب فيه نقل البينة إلى المكتوب إليه ليرى فيها رأيه، فإذاً هذان حكمان متعارضان: اتحاد القاضي، ووجوب نقل تفصيل البيّنة، ولمن يغلّب النقل أن يجيب عن الاتحاد ويقول: أقام الشرع القاضي -وهو شخص واحد- مقام شاهدين لرتبة الولاية، وهذا كإقامة الرجل مقام امرأتين لفضيلة الذكورة. ومن يغلّب الولاية يحمل تفصيل النقل على أمرٍ، وهو أن المكتوب إليه لا يقلِّد في مستند حكمه، وقد لا يرى القضاء ببيّنة يراها الكاتب، فامتنع الإبهام لذلك.
وتردد أئمتنا فيما يخرج على التقديرين - فقالوا: لو كان في بلدة واحدة قاضيان -إن جاز ذلك على ما سنذكره في الفروع على أثر هذا- فلو سمع أحدهما شهادة شاهدين ولم يقض، والتقى بالقاضي الثاني وأخبره، وتمكن القاضي الثاني من استعادة الشهادة فإن قلنا: ما صدر من القاضي [لسامع] (1) حكم، فليس على القاضي الثاني استعادةٌ، وإن قلنا: سبيله سبيلُ النقل، فالقاضي فرعٌ إذاً، فإذا قَدَر القاضي الثاني على السماع من الأصول، لم يكتف من السماع من الفرع- وهذا هو الذي أجريناه مقطوعاً به فيما تقدم، وهو مختلَفٌ فيه كما ذكرناه الآن، وكأن القاضيين على الوجه الآخر يتعاونان على القضية الواحدة، فيسمع أحدهما البيّنة، ويقضي الثاني. فلو كان يجب على الثاني استعادة الشهادة، لبطل ما أشرنا إليه.
ومما يؤكد أصلَ النقل أن القاضي الكاتب لو سمع ولم يعدّل، جاز، وهذا يكاد أن يكون نقلاً محضاً؛ فإنه لم يظهر كون ما سمعه بيّنة؛ ليقال إن هذا حكم، بل رجع
__________
(1) في الأصل: " الثاني ".

(18/517)


ما صدر منه إلى السماع الحِسّي، ولا مزية في هذا للقاضي.
ثم اتفق الأصحاب على أنه إن عدّل الشهودَ، وحكم بعد التهم، فهو سائغ، وإن فوّض النظر في العدالة والجرح إلى المكتوب إليه، فهو سائغ أيضاً، ولكن العادة جارية بأن يعدّل الكاتب؛ لأن الشهود قد يكونون من أهل بلدته، ولا يعرفهم المكتوب إليه، ولا المزكون المرتّبون في مجلسه، فالنقل من غير تعديل قريبٌ من التعطيل، ولكنا مع ذلك نجوّز تفويض التعديل إلى المكتوب إليه، على شرط الإبلاغ في الإعلام، بناء على أن أهلَ بلدة المكتوب إليه ربما يعرفون الشهود، ويتوصلون إلى الغرض بالسؤال والبحث.
ثم الإعلام الذي كررناه مؤكّداً بالاسم، والرفع في النسب، وغيرهما من الأسباب، لم نَعْن بما ذكرناه فيه أن الأسباب مقصودة في أنفسها، بل الغرض الإعلام، فلو حصل الإعلام بالاسم المحض إذا كان الشاهد مذكوراً في البلاد بعيد الصِّيت، كفى ذلك.
فإذا تبين هذا، فصفة الكتاب في نقل البينة تصديراً وسياقاً كصفة الكتاب في القضاء المبرَم، غير أن الكاتب الناقلَ يصف الواقعة موثقة بالإعلام على الوجوه المقدمة، فإذا انتهى إلى سماع البينة، أو تعديلها بعد السماع، قال: " ثم فوّضت القضاء إليك بهذه البينة المنقولة إلى مجلسك فانظر نظرك، [ورَهْ] (1) رأيك موفقاً مسدداً، إن شاء الله ".
11942 - فإن عيّن شخصاً، فمات المعيَّن الذي إليه الكتاب، لم يضر، ولم يؤثر في الواقعة، ورُفع الكتاب إلى غيره، كما ذكرناه في القسم الأول.
فإن قيل: إن استقام في القسم الأول ما ذكرتموه، فقولكم تمّ القضاء، ولم تبق منه عُلقة، فهذا المعنى لا يتحقق إذا فَوَّض القضاء؟
قلنا: ما فعله إن كان حكماً، فيجب على حكام الأرض متابعتُه على وفق الشرع،
__________
(1) في الأصل: ورأ. والمثبت من مختار الصحاح.

(18/518)


وإن كان ذلك نقلاً للشهادة، فالشهادة تنقل إلى كل قاضٍ، ولا معنى للتخصيص إذا كانت الحالة هذه.
وما تشتمل عليه الكتب من التخصيص إقامة الرسوم. فهي غيرُ ضائرة، ولا قادحة، والدليل عليه أن التخصيص إنما يتخيّل من تولية واستنابة، وليس لهذا القاضي أن يولّيَ أحداً في غير مكان ولايته، ولا أن يستنيب بحكم الولاية. وقد غلط أبو حنيفة (1) -رضوان الله عليه وأرضاه- لما قال في نقل البينة إذا عيّن قاضياً، تعيّن، فلا يعرض الكتاب على غيره، ولو عُرض على غيره، لم يعمل به، وقال: إن أراد الخصم في ذلك تعميماً، فليكن في الكتاب " كتابي هذا إلى فلان القاضي، وإلى من يبلغه كتابي من قضاة المسلمين ".
وهذا زلل بيّن، اقتضاه اعتقادُ الكتاب تفويضاً، أو تولية واستنابة، وذلك محال. وإذا انتجز الرجل كتاباً من حاكم مرو إلى حاكم نيسابور، فبدا لشهود الكتاب أن يقيموا بسَرَخْس، أو ينعطفوا إلى مرو (2)، فالمدعي بالخيار: إن شاء أشهد على شهاتهم جماعة يصحبونه في الطريق إلى نيسابور، وإن شاء أوصل الكتاب إلى حاكم سرخس، واستدعى منه القضاء بالبيّنة المنقولة إليه، ثم [ينتجز] (3) كتاباً منه إلى قاضي نيسابور. وهذا بعد تمهيد الأصول واضح.
وقد ذكرنا أن الكتاب لا معول عليه، وإنما التعويل على قول شاهدي الكتاب، فليقع الاعتناء بهما وبشهاتهما وذكرهما.
11943 - ومما يتصل بهذا المنتهى أن المدعي إذا نقل البينة، وقد حكم القاضي الكاتب بالتعديل، فلو قال الخصم عند الانتهاء إليه: شاهدا الأصل مجروحان، قلنا: أَبِنْ جرحَهما بشاهدين، فالقاضي الكاتب عدّل بناء على ظاهر الحال، وسوّغ
__________
(1) ر. مختصر الطحاوي: 330، المبسوط: 16/ 96، مختصر اختلاف العلماء: 3/ 389، مسألة 1435.
(2) كذا ولعلها: إلى بلخ، أو نحوها. وإلا فالكتاب في المسألة من قاضي (مرو).
(3) في الأصل: " يتجه ".

(18/519)


لكل من يطلع على جرح أن يثبته، فافعل، وإن استمهل في ذلك، فقد نمهله ثلاثة أيام. وسنذكر أصلاً لهذا في نظائر هذا.
فإن قال: أتمكن من جرح الشهود إذا وردتُ البلدةَ التي بها القاضي الكاتب، وقد يُبدي في ذلك عذراً مُخيلاً؛ فإن أهل تلك الناحية أخبرُ ببواطن شهودها. فإن قال ذلك، لم يبالَ به؛ فإن الأمر يطول لو فعلنا هذا، والظن بالقاضي أنه لم يألُ جهداً ولم يقصر، ولو أمهلنا الخصم، لبطل أثر القضاء على الغائب. نعم، يقضي عليه المكتوب إليه، ويُلزمه الخروج عن عهدة الدعوى، ثم إن أمكنه إبداء جرحٍ إذا رجع إلى بلده، فليفعل.
11944 - ومن لطيف ما ينبه عليه -وهو ختام هذا الفصل- أن القاضي إذا قضى بشهادة شاهدين على حاضر، ثم تبيّن أن الشاهدين كانا فاسقين حالة القضاء، ففي نقض القضاء قولان، سيأتي شرحهما، إن شاء الله.
وإذا كان القضاء على غائب، فلو تبين كونُ الشاهدين مجروحين حالة القضاء، فلا خلاف في نقض القضاء، فإنا لو لم نقل ذلك، لجرّ هذا حَيْفاً على الغائب المقضي عليه.
وإذا كان المقضي عليه حاضراً، فهو المقصر لما لم يبحث.
ْوقد نجز القول في قسمٍ واحد من الدعوى المتعلقة بالغائب، وهو تفصيل القول في دعوى مالٍ في الذمة.
11945 - فأما إذا ادعى عيناً غائبة على غائب، فتلك العين لا تخلو إما أن تكون عقاراً أو منقولاً، فإن كان المدعى عقاراً، فقد أجمع الأصحاب على تصحيح الدعوى، ثم شرطوا المبالغة في الوصف، وذلك هيّن في العقار، وهو بذكر المَحِلة من البلدة، وذكر السِّكّة منها، فيذكر موقعَ الدار من السِّكة، وأنها الدارُ الأولى، أو غيرها، على يمين الداخل، أو على يساره، أو في صدر السكة، إن لم تكن نافذة، ثم التعرض للحدود، وينتهي الأمر إلى غايةٍ تفيد اليقين في التعيين.
فإن ادعى داراً كذلك في يد غاصب، وزعم أنه اغتصبها منه، وأقام البينة على

(18/520)


ما يليق بموافقة دعواه، كما سيأتي شرح ذلك كلّه في مواضعها، إن شاء الله، فإذا صحت الدعوى كذلك، وقامت البيّنة على الوصف والتحديد، فإن استدعى المدعي القضاء بالبيّنة، أسعفه القاضي إذا صحت البينة، وقضى بالعين الغائبة، وكتب الكتاب على حسب ذلك.
فإن قيل: كيف يقضي ببقعة ليست في محل ولايته؟ قلنا: هذا غفلة عن القضاء، فلئن كان يقضي على رجل ليس في ولايته، فليقض ببقعة ليست في محل ولايته.
وعن هذا قال العلماء بحقائق للقضاء، وقضاء حاكم قريةٍ ينفذ قضاؤه في دائرة الآفاق، ويقضي على أهل الدنيا، ثم إذا ساغ القضاء على غائب، فالقضاء بالدار الغائبة قضاء على الغائب، والدار مقضي بها.
ثم سرّ هذا الفصل أن الكتاب إذا انتهى إلى البلدة التي بها العقار، فالغالب أن الشهود على الدار لا يصحبون الكتابَ وإنما يصحب الكتابَ شهودُ الكتاب. فلو قال الخصم: لا تزيلوا يدي من غير إشارة إلى الدار، قلنا: يقين التعيين كالإشارة، فكأن الشهود على بُعْد الدار أشاروا إلى الدار، وهذا واضح بيّن.
1946 - فأما إذا كان المدعى منقولاً، فلا يخلو: إما أن يكون مملوكاً، أو غيره من العروض، [فإن] (1) كان المدعى عبداً أو أمة، ففي سماع البيّنة بالنعت والصفة والحلية قولان: أحدهما - أنها لا تُسمع؛ فإن الضبط في ذلك عسير، ومعتمد الشهود الإشارة في المنقولات، وليس ذلك كالعقار الذي يدرك فيه يقين التعيين. والقول الثاني - أن الشهادة تسمع بناء على نهاية الإعلام، كما سنصفه، إن شاء الله؛ لأن القضاء على الغائب وبالغائب مستند إلى الحاجة، وإلى إفضاء الامتناع عن القضاء إلى تعطيل الحقوق، وهذا مما يستوي فيه المنقول والعقار.
التفريع:
11947 - إن حكمنا أن البينة مسموعة، فعمادها غاية الوصف؛ فينبغي أن ينتهي الوصف إلى مبلغٍ يحصل التمييز به، ويبعُد التوافق معه، وذلك في الغالب
__________
(1) في الأصل: "وإن".

(18/521)


يحصل بنهاية الوصف، وذكر الشامة والعلامة -إن كانت- عظيمُ الغَناء في ذلك.
ولم نر الاكتفاء بذكر أوصاف السَّلم والمدَّعى عينٌ، وإنما يُكتفى بأوصاف السلم إذا كان المدعى ديناً؛ فإنه لا تمييز في الديون، [ومقصود التمييز] (1) في الأعيان يخالف مقصودَ الإعلام في السلم؛ فإن الإعلام في السلم إذا أَفرط وتناهى، فقد ينتهى إلى عِزّة الوجود، وذلك ممتنعٌ في السلم؛ فإن شرط الموصوف في السلم أن يكون على حدٍّ لا يعجز وجود أمثاله في العادة، ومن ضرورة ذلك تركُ الإطناب؛ فإن الوصف عند أهل المعرفة معناه التخصيص، فإذا قلت " رجل " شاع هذا في جنس الرجال، وإذا قلت " طويل " اقتضى ذلك تخصيصاً، فلا تزال تزيدُ وصفاً ليزداد الموصوف اختصاصاً، وكلما يزيد الوصف قلّ الموصوف. والغرض من وصف العبد المدعى الوصول إلى تعيين شخص من بين جنس، فالعماد إذاً الإعلام الذي أوضحناه.
ثم إذا جوزنا سماعَ البينة بالعبد على الوصف الذي ذكرناه، فهل يجوز القضاء به وهو غائب؟ فعلى قولين:
أحدهما - يجوز القضاء، اعتماداً على الوصف، كما يجوز القضاء على الغائب تعويلاً على الإعلام.
والقول الثاني -وهو الأصح- أنه لا يجوز تنفيذ القضاء به في الغَيْبة؛ فإن التمييز لا يكاد يتحقق، وليس كالمقضِيِّ عليه، فإن عماد تميزه النسبُ والارتفاعُ فيه، وهذا غير متصور في العبد، والوصف لا يبلغ مبلغاً يفيد التعيين.
التفريع:
11948 - إن قلنا: لا يجوز القضاء به، والبينة مسموعة على الوصف والحلية، فكيف الطريق؟ وما وجه الوصول إلى الغرض؟ القول المشهور أن المدعي أو وكيله ينقل الكتاب مع شهود الكتاب، وهو مشتمل على أسماء شهود الأصل، والأوصاف مذكورة على الاستقصاء، فإن صادف القاضي المكتوبُ إليه عبداً على صفات الكتاب في يد المدعى عليه، جاء بذلك العبد، وقال للمدعي: أهذا
__________
(1) في الأصل: "والمقصود التمييز".

(18/522)


العبد الذي تدعيه؟ فإذا قال: نعم، لم يقضِ به، فإنا نفرع على أن القضاء لا يعتمد إبرامُه الوصفَ. ولو جاز إسنادُ الإبرام إلى الوصف، لقضى القاضي الكاتبُ بالوصف والعبدُ غائب، فإذا لم يقض الكاتبُ ولا المكتوبُ إليه، فكيف الطريق؟
ظاهر النص، حيث انتهى التفريع إليه، أن القاضي يختم على رقبة هذا العبد ليكون أمانة من الإبدال، ويسلّمه إلى المدعي، ويأخذ منه كفيلاً ببدنه -يعني بدن المدعي- إذا صححنا كفالة الأبدان. ثم إن المدعي يرفع ذلك العبد إلى البلد الذي به [شهوده] (1)، فيستعيد القاضي شهاتهم على عين ذلك العبد، فإذا شهدوا، افتتح القضاء له بالملك فيه، ثم يبرأ المتكفِّل بالبدن.
وحاصل القول يؤول إلى أن سماع البيّنة على الوصف في ابتداء الأمر لا يسلط القاضيَ الكاتبَ على القضاء ولا المكتوبَ إليه، ولكن يفيد إيجابَ نقلِ العبد وإحضارِه.
ثم يترتب على ذلك كلِّه القضاءُ إن أشار الشهود إلى عين العبد، فلا فائدة في سماع البينة الأولى إلا النقلَ، كما ذكرناه. وما ذكرناه من الختمِ وأخذِ الكفيل احتياطٌ في الواقعة، فلو تركه القاضي المكتوبُ إليه، فترتيب القضاء ونظْمُه لا يختلف.
ولكن اختلف أئمتنا في أن المكتوب إليه هل يكون تاركاً واجباً، أم يكون تاركاً احتياطاًً مؤكداً مأموراً به من غير إيجاب؟ وهذا الاختلاف أجرَوْه في كفالة البدن، وإيجاب كفالة البدن ضعيف. هذا قول.
وفي المسألة قول آخر، وهو أن العبد لا يسلَّم إلى المدعي حتى يبتاعَه بثمنه -على تقدير أن الملك لو لم يثبت فيه، فيكون الثمن في ذمته، وهذا بيع مستند، ووقف (2) عظيمٌ ظاهر، ولكن أجريناه احتياطاً للمدعَى عليه، ثم نأخذ منه كفيلاً بالثمن، وينقل هو العبدَ إلى مكان الشهود على الترتيب المقدَّم، فان أشار الشهود إليه، بان فساد العقد، وظهر أنه ملك المدعي، وبرىء من الثمن، وبرىء الضامن، وإن لم يشر
__________
(1) في الأصل: "شهود" والمثبت من (ق).
(2) ووقف عظيم: أي وقف لعقد البيع. والشافعية لا يقولون بوقف العقود، ولكن احتمل هنا احتياطاً، كما قال الإمام.

(18/523)


الشهود، جرى البيع على اللزوم، وتوجهت الطّلبة عليه وعلى الضامن عنه بالثمن، فحصل في كيفية تسليم العبد إلى المدعي قولان، وقد ذهب إليهما علماء السلف.
وما ذكرناه في العبد.
11949 - وأما إذا ادعى الرجل جارية فلا تسلّم الجارية إلى المدعي وإن رأينا تسليم العبد إليه؛ احتياطاًً للفرج، وهذا محتوم لا شك فيه- ولكن إن رأينا التسليم، فالوجه تسليمها إلى أمين في الرفقة.
وإن قيل: " قد يكون المدعي أميناً "، [قلنا:] (1) لكنه يدعي الملك، وهو خصم، فلا سبيل إلى ائتمانه.
وما ذكرناه من ضمان الثمن على قول البيع واجب المراعاة مذهباًً واحداً، بخلاف كفالة البدن على القول الأول؛ فإن فيها التردد المتقدم.
11950 - وقد حصل مما أجريناه قولان، أولاً - في سماع البينة، فإن لم يسمعها، فالدعوى لاغية؛ فإن الدعوى على الغائب لا حاصل لها إذا عسر إقامة البيّنة. ولنا على هذا انعطاف، نوضح فيه أمراً بِدْعاً هو سرّ الباب.
والقول الثاني - أن البيّنة مسموعة، فعلى هذا قولان في أن القضاء هل يجوز تنفيذه؟ فإن نفذناه، وصادفنا على وصف الكتاب عبداً في يد [المدعى عليه] (2) متميزاً، سلمناه إلى المدعي ملكاً ظاهراً، وإن أرانا المدعى عليه على وصف الكتاب عبدين أو عبيداً، وقف القضاء، وقلنا للمدعي: ارجع وميّز. كما ذكرنا مثل ذلك في المدعى عليه إذا قضى القاضي الكاتبُ عليه.
وإن قلنا: لا ينفذ القضاء عليه، والبيّنة مسموعة، [ففيما] (3) يفعل قولان ذكرناهما يجمعهما التوصل إلى إحضار العبد مكان الشهود، وفي كيفية ذلك القولان
__________
(1) زيادة للإيضاح.
(2) في الأصل: "المكتوب إليه" والمثبت تقدير منا؛ فالمكتوب إليه هو القاضي في بلدة الغائب المدعى عليه. ثم جاءت (ق) موافقة لعبارة الأصل.
(3) في الأصل: "وفيما".

(18/524)


المذكوران، وكل ما ذكرناه في قسم المنقول مخصوص بالعبيد والإماء.
11951 - فأما إذا كان المدعى عَرْضاً من العروض ادعاه بعينه، وبالغ في وصفه، فقد يفرض فيه ما لا يتصور تمييزه بالوصف أبداً، وهو كادعاء أَذْرُع من كِرباس، فلا مطمع في انتهاء الوصف إلى مبلغ إفادة التمييز، ولا يقع القضاء قط بالعين، ولا يتصور تكليف النقل إلى مكان الشهود؛ إذ لا كرباس إلا ويساويه كرباس على شيوع الوجود، فالقضاء بالعين مأيوس منه، إذا كانت الحالة هكذا، فلا يبقى وجه إلا أن يدعيَ الكرباسَ، ويصفَه، ويذكرَ قيمتَه، ويردَّ دعواه إليها، ويقع سماع البينة بحسب ذلك، والشهود يشهدون، ومعوّلهم القيمة، وإن أطنبوا في الوصف [لا يتميز المدعَى] (1)، وإن كان يستحق في علم الله كرباساً معيناً، فهذا ملتبس لا وصول إليه، ولكن لا تعطيل.
فالوجه ربط الخصومة بالمالية، ثم ينفذ القضاء بالثوب المشهود به والغرض ماليته، فإذا أُبرم القضاء ونُقل الكتاب إلى مكان الخَصم، فالمدعي لا يمكنه أن يكلفه بحكم القضاء إحضار كرباسه؛ فإن القضاء يعتمد التعيين ولكنه يُلزم قيمةَ الثوب. وقد قال الأصحاب في هذا المقام: يتعين ذكر القيمة؛ فإنها عماد القضاء كما بيّنا.
فأما إذا ادعى عبداً، وجوزنا القضاءَ بعينه، أو سماعَ البينة، كما تفصّل من قبل، فقد ذكر بعض أصحابنا قيمة العبد في الإعلام، وهذا محتمل.
والأظهر عندنا أنه لا يشترط ذلك إعلاماً؛ فان القيمة لاضبط لها في هذه المنازل، إذا كان المطلوب ربطَ القضاء بعين.
11952 - وهذا أوان الوفاء بالانعطاف على العبد حيث وعدنا، فإذا لم نر للقضاء بعين العبد وجهاً؛ ولم نجوز سماع البينة،. فقد قدمنا أن الدعوى لا معنى لها- وهذا فيه إذا أراد العينَ، فإن أراد أن لا تتعطل ماليته، فليعتمد قيمة العبد، ويربط دعواه بها، وإن وصف، فلا بأس، وتسمع الدعوى والبينة، وينفذ القضاء في المالية، كما ذكرنا في الكرباس.
__________
(1) في الأصل: " لا التمييز والمدعى ".

(18/525)


ثم إذا كان المطلوب الماليةَ كما ذكرناه، فالاعتماد قطعاً على القيمة، والأوصاف إنما [يذكرها] (1) المدعي وشهوده لترتبط الدعوى بالقيمة، فلو قال: غصب مني ثوباًً قيمته عشرة، وليس يبغي الوصول إلى عينه، فالظاهر قبول الدعوى على هذا الوجه، فإن قيل: دعوى مجهولة بمجهول؟ قلنا: لا، بل المدَّعَى القيمة -فهي العماد- وهي معلومة، ويترتب عند ذلك القول في القيمة.
أما العقار، فلا خلاف أنه لا يشترط فيه التعرض للقيمة؛ فإن المطلوب فيه العينُ، والوصول إلى التعيين ودركِ اليقين ممكن، وحيث لا مطمع في التعيين والتمييز، فالمعتمد القيمة، وإذا أثبتنا في العبد وما في معناه إمكانَ التمييز، وعوّلنا على الوصف، طمعاً في الوصول إلى العين، ففي ذكر القيمة وصفاً وإعلاماً خلاف، والأظهر عندنا أنه لا يشترط.
ثم ما ذكرناه في العبد والأمة لا يختص بهما، بل كل ما تعذّر تميّزه بالوصف، فالتفصيل المذكور في العبد جارٍ فيه، كما لو ادعى فرساً، فإن تمييزه بالأوصاف الكلية، ثم بالشِّيات الخفية مما يُطمع فيه، وهو أبعد قليلاً من العبد، لأن التشابه في البهائم أغلب منه في الآدمي.
فإذاً الأعيان الغائبة عقار، ولا خلاف في القضاء به، وعينٌ [لا يطمع] (2) في تميزها، والدعوى فيها ترجع إلى المالية، ومنقولات يطمع في تميزها بالوصف، وفيها الخبط وازدحام الخلاف، ثم إن رأينا التمييز متعذراً في هذا القسم، رددناه إلى المالية المذكورة في القسم الذي لا تميّز فيه.
وقد انتجز الكلام في الدعوى على الغائب.
وكنا ذكرنا في صدر الباب أن الكلام يقع في القضاء على الغائب وسماعِ البيّنة عليه وفي الحاضر. وقد انتجزت مجامع الكلام وأصوله في حق الغائب.
__________
(1) في الأصل: " نذكره ".
(2) ما بين المعقفين ذهبت به آفة البلل من أطراف السطور. وأثبتناه من عندنا على ضوء السياق.
والله أعلم. والحمد لله فقد صدقتنا نسخة (ق).

(18/526)


11953 - ونحن نذكر الآن الدعوى على الحاضر على مقدار غرضنا، ولسنا نلتزم بيان جميعِ أحكام الدعوى على الحاضر؛ فإنا لو التزمنا ذلك، لذكرنا كتاب الدعاوي.
وقد يلزمنا الآن شيئان: أحدهما - الكلام في حاضر في البلد غائبٍ عن مجلس القضاء، والآخر - بيان القول فيه إذا كان المدعى عليه حاضراً مجلس القضاء، ولكن المدعى عينٌ غائبة عن مجلس القضاء.
فأما التفصيل في القضاء على الغائب عن مجلس القضاء مع الحضور في البلدة -فقد قال الأصحاب إن غيّب وجهه وتوارى، أو تعزز وامتنع، وعسُر إحضاره، نفذ القضاء عليه حَسَب نفوذه على الغائب، وهذا يجب أن يكون متفقاً عليه.
فأمّا إذا لم يتعذر إحضاره، فهل يجوز سماع الدعوى عليه قبل حضوره، ثم سماع البينة؟ فعلى وجهين مشهورين ذكرهما الصيدلاني وغيره: أحدهما - أنه لا يجوز، ويتعين إحضاره وإقامةُ الشهادة في وجهه إن أمكن؛ فإنا وإن كنا لا نرى الإنكار عماداً وركناً في سماع البينة، فالغرض من الإحضار توقع الإقرار، وحقٌّ على القاضي أن يسلك أقرب الطرق وأَقْصدَها في فصل القضاء، والسبب فيه أنه لو طوّل، فقد يكون مؤخِّراً حقَّ مستحقٍّ مع القدرة على تعجيله، وهذا لا سبيل إليه.
ثم هذا القائل يرد سماع البينة والدعوى؛ فإن كل ما يتعلق بعكس الترتيب المستحق في الخصومات آنذاك يُخرج البينة عن أن تكون مسموعة.
والوجه الثاني - أن الدعوى مسموعة، والبينة مسموعة؛ فإن المدعى عليه إذا تعين وتميز، كفى، والبينة بيان، والمدعى عليه بيْن أن يقرّ أو ينكر حضر أو غاب.
التفريع:
11954 - إن رددنا الدعوى والبينة، فليس إلا الإعداءُ على الخصم عند [السلطان] (1) وإحضارُه مجلسَ الحكم، ثم الخصومة تقام في وجهه.
وإن حكمنا بسماع البينة مع القدرة على الإحضار، فالمذهب الذي يجب القطع به
__________
(1) مكان كلمة مطموسة في الأصل، والمثبت على ضوء السياق، والاستئناس بعبارة الرافعي في الشرح الكبير: 12/ 513.

(18/527)


أن القضاء عليه لا يجوز؛ فإنه قد يعرف مطعناً في البينة يمنع به نفوذَ القضاء وهو حاضر، فالهجوم على تنفيذ القضاء محال؛ فإن القضاء يقع وراء كل احتياط ممكن، وليس هذا كالقضاء على الغائب؛ فإن حضوره غيرُ حاصل، ومراجعته في مطعن إن كان يعرفه غيرُ ممكنة، والحاجة ماسة، فنفذ القضاء، والمقضي عليه على حقه في التتبع إذا وجد مطعناً. هذا ما قطع به الصيدلاني، وهو الحق عندنا.
ومن أصحابنا من جوّز القضاء على الحاضر الغائب عن مجلس الحكم؛ طرداً لقياس ظاهر في أن من تُسمع البينة عليه يجوز القضاء عليه، وهذا غفلة عن مسالك القضاء.
ولو أحضر المدعي خصمَه مجلسَ الحكم، فهل يجوز سماع البينة عليه من غير مراجعته؟ فيه وجهان مشهوران ذكرهما الصيدلاني وغيره. ثم قال الأئمة: هذه الصورة أولى بامتناع سماع البينة، والفرق لائح.
قال الصيدلاني: في هذه المسألة والتي تقدمت -وهي إذا كان في البلد، [ولم] (1) يحضر مجلس القضاء مع القدرة على إحضاره- ثلاثةُ أوجه:
أحدها - أن البينة لا تسمع ما لم يراجع الخصم؛ فإن أقر، فذاك، وإن أنكر أو سكت، قامت البينة عليه.
والوجه الثاني - أن البينةَ مسموعة من غير مراجعة في المسألتين.
والوجه الثالث - أنا نفصل بين الصورتين، كما أشرنا إليه.
ثم يبعد كل البعد إذا جوّزنا سماع البينة على الحاضر من غير مراجعته، أن يقضي عليه من حيث لا يشعر.
هذا غرضنا في الحضور والغيبة في المدعَى عليه.
11955 - فأما القول في المدعى، فإن كان شيئاً في الذمة، فلا يخفى إعلامه، وإن كان يدعي على خصمه عيناً غصباً، أو وديعة، أو عارية، فهذا ينقسم إلى العقار وغيره، على حسب ما ذكرناه في أقسام الكلام في الغائب.
__________
(1) في الأصل: "وإن".

(18/528)


فإن كان المدعى عقاراً، فالدعوى مسموعة، والاعتماد على الوصف والتحديد، وقد ذكرنا إمكانه، بل انتهاءه إلى اليقين، فإذا قامت بينة على دار معلومة من سكّة معلومة، فلم يبق في الإعلام شيء، ثم ينفذ القضاء بالدار من غير إشارة إليها، إذا استمكن الشهود من البيان التام، الذي لا يبقى معه لَبْس.
وإن قال شهود المدعي: لسنا نستقلّ بحدود الدار، ولكنا نشير إليها، أو إلى الأرض -إن كان المدعى أرضاً- فلا بد -والحالة هذه- من التعيين في الشهادة.
ثم إن حضر القاضي بنفسه، سمع الشهادة مع الإشارة والتعيين، وإن استخلف خليفة ليحضر البقعة، ويسمع الشهادة، جاز.
وسأفصل القول في خلفاء القضاة، ومنازلِهم، وصفاتِهم بعد هذا، إن شاء الله عز وجل.
ثم من تمام البيان في ذلك أن المدعي إن وصف العقار وحدَّه في دعواه، وامتنع الشهود من ذكر الحدود، صحت الدعوى، ثم إذا وافق تعيينُ الشهود المدعى المحدود، حصل الغرض، وإن لم يستتم المدعي ذكر الحدود، وإعلام المدعى، فدعواه مجهولة، والدعوى المجهولة لا تسمع، ولا تعطيل في هذا، فليتعرف الحدود؛ فإنّ تعرُّفَها سهلٌ إذا كان المدعى حاضراً بالقرب. هذا قولنا في العقار.
11956 - فأما ما عداه من الأعيان المنقولة، فهي تنقسم حسب أقسامها في الغائب، فإن ذكر عبداً حاضراً في البلد، وادعاه على الوصف، فالذي نقدمه أنا على القول البعيد في الغائب إذا جوّزنا القضاء بالعبد الغائب -وهو قول ضعيف- أو جوّزنا سماع البينة على الوصف، على قولٍ ظاهر، فإذا كان العبد حاضراً، وأمكن إحضاره، فلا يجوز سماع البينة بالوصف أصلاً، وليس كسماع البينة على الخصم الحاضر في البلد قبل أن يحضر مجلس القضاء؛ لأن سماع البينة على الشخص مرتبط بعلم وتحقق، بخلاف العبد.
وأنا أقول وراء ذلك: إنما يسمع القاضي البينة على الحاضر في البلد إذا كان يعرفه ويتعيّن له، فإن لم يكن كذلك، لم يسمع، بخلاف البينة على الغائب؛ فإن القاضي

(18/529)


يسمع البينة على الغائب، [وإن] (1) كانت نهايات التسمية والتَّحْلية [لا تُعرِّفه] (2) عنده؛ لأن المعتمد الأظهر في الغائب [تمييز] (3) المقضي عليه في مكانه عند إيصال الكتاب، وهذا في الحاضر في البلد لا يتحقق. نعم، لو تعيّن العبد المدعى للقاضي، فيجوز سماعُ البينةِ عليه -وإن لم يكن حاضراً في مجلس القضاء- وجهاً واحداً.
والفقه فيه أن الخصم المتعيَّن إذا لم يحضر لسماع البينة، لم يمتنع لجهالة، وإنما امتنع لترك المسلك الأقرب، وهذا لا يتحقق في العبد المعين الذي يعرفه القاضي والشهود، وليس يبعد اشتراط الحضور فيه أيضاً؛ فإن الإشارة أوجز من الوصف، وأنفى للتهمة، فإذا كنا لا نسمع البينة بالوصف على عبدٍ لم يتعين للقاضي -[وغمرة] (4) الإشكال من هذا الموضع- فإن الدعوى على الوصف [مسموعة] (5) لا محالة؛ إذ لو لم نسمعها، ما قامت الخصومة، ثم ينبغي أن تكون معلومة على الحد الذي يتأتى الإعلام فيه، ثم يقول القاضي للخصم: ماذا تقول؟ فإن زعم أن العبد الذي ادعاه في يدي وهو مِلكي، فالقاضي يلزمه إحضاره حتى يسمع البينة على عينه إشارة إليه، فإن قيل: هذا تكليفه تصرفاً فيما هو ملكه في الظاهر. قلنا: ليكن كذلك، فليس تكليفه إحضارَ العبد بأبعدَ من تكليفه الحضور بنفسه، وقد يكون المدعي مبطلاً.
هذا إذا قال: هذا الموصوف في يدي، ولو قال: هذا الذي وصفه ما ثبتت عليه يدي، فلا يمكننا أن نكلفه إحضاراً، فعند ذلك نقول للمدعي: إن كنت تبغي العبد، فأثبت بالحجة كون هذا الموصوف في يده.
ثم للمدعي مسلكان: أحدهما - أن يقيم بينة على أن هذا العبد الموصوف رأيناه
__________
(1) في الأصل: "فإن".
(2) تقدير من المحقق مكان المطموس في أول السطر. والحمد لله فقد جاءت به نسخة (ق).
(3) في الأصل: "يمين". وقد أفدنا هذه من "ق".
(4) كذا قدرناها على ضوء أطراف الحروف التي بقيت بعد أن ذهب البلل بأطراف الورقة. ثم جاءتنا (ق) فأكدت صحة تقديرنا والحمد لله.
(5) في الأصل: "مسموعاً".

(18/530)


في يده، ثم هذا يحصل على وجهين: أحدهما - أن يشهد شهود المدعي بذلك أيضاً، كما يشهدا بالملك له. والآخر - أن يشهد شاهدان على وجدان ذلك العبد في يده، [ولا] (1) علم عندهما بملك المدعي، فإن كان كما صورناه آخراً، فيثبت كون العبد الموصوف في يد المدعى عليه على الجملة وهذا القدرُ كافٍ في أن يقال له: أحضر هذا الموصوف ليعرف أن شهود الملك هل يشيرون إليه أم لا؟ وإن تعرض شهود الملك لذلك، لم تفد شهاتهم في الحال إثبات ملك المدعي، ولكنها تفيد تكليفَه الإحضارَ.
ثم الشهادة المثبتة للملك تنشأ مقيّدةً بالإشارة. هذا مسلك واحد.
والمسلك الآخر - ألا تكون له بينة على كون عبدٍ على الصفات المذكورة في يده، ففال: أحلّف المدعى عليه أن يده لم تثبت على عبد على هذا الوصف، فإن حلف، فذاك. وإن نكل؛ حلف المدعي وألزمه القاضي أن يحضره، فإن امتنع حبسه ليُحضر العبد الموصوف.
وفي الكلام بقايا، وتمام البيان عند نجاز الفصل.
11957 - هذا إذا كان المدعى مما يمكن تمييزه بالوصف.
فإن لم يكن كأذرع من كرباس- فلو قال المدعي لي في يد هذا عشرة أذرع من الكرباس، وأطنب في الوصف، فلا وصول إلى التمييز، ولا معنى لتكليف الخصم إحضارَ كرباس؛ فإنه لو قال: في يدي ألفُ ذراع من الجنس الذي ذكرتُه، [فليُحضِر] (2) منها أتمها، فهذا قسم لا يتصور فيه الوصول إلى العين، ولا [يكلّفُ] (3) إحضار العين، إلا أن يصادف المدعي عيناً في يد المدعى عليه فيدّعيها. هذا تفصيل بالغ.
1958 - والبيان بعدُ موقوف على معرفة شيئين: أحدهما - أنا حيث نُلزم الخصم
__________
(1) في الأصل: " فلا ".
(2) في الأصل: "فأحضر".
(3) في الأصل: "ولا تكليف".

(18/531)


إحضار العين، ونحبسه لو امتنع، فقد يختلج في نفس الفقيه أن تلك العين ربما كانت تالفة، والجواب عن هذا سهل؛ فإن أمثال هذه الأمور تبنى على استصحاب البقاء، وعليه يتصرف الوكيل على ألف فرسخ من موكله، إلى غير هذا، مما يتسع الكلام فيه، فإن عظم وقع دوام الحبس على المحبوس، فالبينة لا تكذَّب، فإن كانت تلفت العين، فلينجُ بدعوى تلفها؛ فإن قوله مقبول في هذا.
والفصل الثاني - أن المدعي إذا عسر عليه استحضارُ العين؛ بأن لا يجد بيّنة على كونها في يد المدعى عليه، ولما حلّفه، حلف، فسبيله أن يرد الدعوى إلى المالية إذا استشعر ذلك منه؛ فإن المالية ترجع إلى قياس ضمان الذمم، فتبقى مرتَبَطه في الحق على ما ذكرنا.
ولو كان المدعي على تردُّدٍ في أن تلك العين في يد المدعى عليه أم فاتت في يده، فلو قال: أدعي عليه عيناً صفتها كذا أو قيمتها إن فاتت في يده، فقد اختلف الأصحاب في أن الدعوى هل تُسمع كذلك؟ فقال القيّاسون لا تسمع الدعوى على هذا الوجه؛ فإنها مترددة غير مجزومة.
وقال قائلون: الدعوى تسمع كذلك؛ فإن الحالة ربما تكون كذلك. قال القاضي: اصطلح القضاة على سماع هذه الدعوى ورأَوْا في سماعها مصلحة.
ثم إن سمعنا الدعوى على هذا الوجه، فلا كلام، وإن لم نسمعها، فالوجه رد الدعوى إلى المالية، كما وصفناها، ثم البيّنة لا تسمع على الوصف في هذا النوع، فإذا كانت الدعوى مالية سُمعت، فيصف الشهود [ويذكرون] (1) القيمة، وتتوجه الطلبة بمالية المدعى.
وهذا أقصى ما في الوسع من بيان هذا الفصل.
11959 - ومن الأمور البينة التي يجب أن لا يُغفَل عنها، أنا إذا كلفنا المدعى عليه إحضار العين، فالتزم مؤونة إحضارها، فإن ثبت استحقاق المدعي، فالمؤونة على المُحضر، وإن لم يثبت استحقاق المدعي، فقد قال الأصحاب: يُغرّم المدعي مؤونة
__________
(1) تقدير منا مكان بياض بالأصل. والحمد لله جاءت بصحته (ق).

(18/532)


النقل، ومؤونة الرد إلى المكان الذي كان المتاع فيه.
وهذا فيه [أدنى نظر] (1) يَقْدُمُه شيء، وهو أن الخصم المستحضَر قد يناله كدٌّ في الحضور، وربما ينقطع به عملٌ مقابَلٌ بأجر، فهل نقول: إذا بان كونُ المدعي مبطلاً، يلتزم المستحضِر أجره؟ الذي نراه أنه لا يلتزم بهذا؛ فإن الغالب في استحضاره حقُّ القاضي، والدليل عليه أنه يستحضره من غير ثبوت حق عليه، هذا ما يجب القطع به؛ فإن مراتب الولايات لا تستتب إلا باحتمال أمثال هذا.
فإذا بانت هذه المقدمة، فلست أبعد أن يكون إحضارُ المال منها؛ فإنها متعلقة بالإيالة وأسباب الولاية. [وهذا] (2) الاحتمال حسن بالغ، ولا آمن أن يكون التسامح في إحضار الخصم لقرب الزمان الذي لا يكون لمثله حظٌّ من الأجرة، وإن كان، فنزرٌ لا يحتفل به، وأقصى ما عَلَيَّ البينة والآراء السديدة، تشترك في النظر، والله المستعان.
وقد كمل الغرض والبيان بعون الله وتوفيقه، وشذت مسائلُ وفصولٌ عن ضبط الأصول، ونحن نتداركها إن شاء الله، فنرسم المسائل فروعاً، ونعقد فيما يَتَفَصَّل فصولاً.
فصل
11960 - كل حق تقبل فيه الشهادة على الشهادة يُقبل فيه كتاب القاضي إلى القاضي، والأموال بجملتها كذلك.
وما يختلف القول في قبول الشهادة على الشهادة فيه، فكتاب القاضي إلى القاضي يجري فيه على مثل ذلك الاختلاف، ففي القصاص قولان؛ وفي حدود الله قولان مرتبان، وسيأتي شرح ذلك في موضعه من كتاب الشهادات، إن شاء الله.
والأصحاب شبّهوا شيئاً بشيء، وعندي أن كتاب القاضي إلى القاضي ليس مشبهاً
__________
(1) ما بين المعقفين مما أفادتنا به (ق).
(2) هكذا قدرناها على ضوء ما بقي من آثار الحروف. ثم هي مطموسة في (ق).

(18/533)


بالشهادة على الشهادة، بل هو عينها؛ فإن القضاء إذا كان مبرماً، فقول القاضي بمثابة الأصل، وشهود الكتاب فروعه. وإن سمع القاضي بينة، ولم يقض بها، فهذا بعينه نقل البيّنة.
فصل
11961 - قد ذكرنا التفصيل في نصب قاضيين في شِقَّين من البلدة، ولو فرض نصب قاضيين في جميع البلدة بحيث ينفذ قضاء كل واحد منهما في البلدة بكمالها، ففي جواز ذلك وجهان - ذكرهما الشيخ أبو علي والقاضي: أحدهما - أن ذلك يجوز؛ فإن المحذور فيه اجتماع ولايتين وذلك متحقق في كل بلدة بها قاضي. فإن ولاية الإمام نافذة فيها مع ولايته.
والوجه الثاني - أن ذلك ممتنع، لأنه يؤدي إلى تخيُّر الخصوم والتجاذب في الارتفاع إلى المجلسين إذا دُعي خصم من جهة القاضيين، ويغلب اختلافهما في الحُكمين؛ فيجر هذا نزاعاً دائماً، والمقصود من القضاء قطع النزاع. فان جوّزنا ذلك، فإذا سبق داعٍ من أحد المجلسين، فهو المجاب. وإن [توافى] (1) الداعيان، فليس أحدهما بالإجابة أولى من الثاني، فلا وإلا الإقراع، والجريان على موجب خروج القرعة.
والذي أراه أنه إذا كان الإمام قي البلدة، وبها القاضي المرتب، فالمقدم داعي الإمام (2).
وإذا منعنا اجتماع ولايتين -كما قدمنا- فلا يمتنع هذا، لما أشرنا إليه من تقديم الإمام عند تصور [التوافي] (3) من الداعيين، وكذلك القول في القاضي وخليفته، كما سنذكر تفصيلَ الخلفاء ومنازلَهم، إن شاء الله.
__________
(1) في الأصل: " توانى " والمثبت تقديرٌ منا، فهو أقرب صورةً للمرسوم، وأوفق معنى للسياق، فمعنى توافى الداعيان أي جاءا معاًً. وهي بعينها ألفاظ الغزالي والرافعي والنووي في المسألة نفسها. وأخيراً جاءتنا (ق) لتؤكد صحة تقديرنا، فالحمد لله ملهم الصواب.
(2) أي عندما يجىء الداعيان معاً.
(3) في الأصل: "التواني".

(18/534)


وما ذكرناه من الخلاف فيه إذا كان كل واحد من القاضيين نافذَ الحكم على الاستقلال.
فأما إذا نَصب من إليه الأمر قاضيين على ألا ينفرد كل واحد منهما بالقضاء ما لم يوافقه الثاني، فهذا مردود؛ فلا مساغ له؛ فإن اختلاف المجتهدَيْن مطرد غالباً؛ فإذا كان لا ينفرد أحدهما بالقضاء أدّى هذا إلى توقف الخصومات وحيرةِ الخصوم، وأيضاً فإن تكليف المجتهد بعد تمام اجتهاده أن يقف أمره على رأي غيره محال لا وجه له.
قال صاحب التقريب: إذا نصب من إليه الأمر قاضيين، ولم يصرح بأن كل واحد منهما يستقل بالقضاء أو يراجع صاحبه، فمطلق التولية يقتضي انفراد كل واحد منهما بالقضاء.
ولو نصب المريض وصيّين وأطلق نصبهما، فمطلق نصبهما يقتضي ألا ينفرد واحد منهما بأمر دون صاحبه، وفرّقَ بأن قال: نَصْبُ الوصيين كذلك مع التصريح بتوافقهما جائز، فمطلق نصبهما يقتضي ارتباط أمرِ أحدهما بالثاني، ولا يجوز التصريح بنصب قاضيين على اشتراط توافقهما، فالمطلق محمول على ما يجوز، وهو الاستقلال.
ومن أصحابنا من قال: إطلاق توصية رجلين يقتضي انفراد كل واحد منهما بالأمر، وإنما يراجع أحدهما صاحبه إذا تقيدت الوصاية باشتراط ذلك، وهذا لا أصل له، ولا اعتداد به.
ومن أصحابنا من قال: نَصْبُ قاضيين في بلدة يقتضي ارتباط أمر أحدهما بالثاني، والتوليةُ على الفساد، ما لم تُقيَّد بانفراد كل واحد منهما بالأمر.
وهذا الوجه في هذا النسق أمثل مما ذكرناه في الوصاية.
فصل
11962 - إذا استحضر الرجلُ خصماً مجلسَ القضاء، فيجوز له أن يأبى عليه إن لم يعرف له حقاًً، فإن عرف له حقاً، فعليه توْفيتُه، ولا يلزمه حضورُ المجلس. هذا إذا كان المستحضِر [الخصمَ] (1) نفسَه.
__________
(1) في الأصل: "للخصم".

(18/535)


وإذا استدعى الخصمُ من القاضي أن يستحضر الخصمَ له، أجابه القاضي، وأمر صاحبَه بالحضور، وإذا دعاه القاضي، وجبت عليه الإجابة، سواء كان عليه حق أو لم يكن. والقاضي يُعدي عليه [ولا يُشترط] (1) في الإعداء أن يُثبت الخصمُ حقَّه، فإنا قد نقول: إذا كان حاضراً، فلا سبيل إلى إثبات الحق قبل حضوره مجلس القضاء، فلو توقف إحضاره على ثبوت الحق، وتوقف ثبوت الحق على إحضاره، فكان ذلك دائرةً سادّةً بابَ إثبات الحقوق.
ثم إنما يُعدي القاضي على الخصم [إذا كان ذلك على] (2) مسافة العَدْوَى، وهي أن يكون بمكان لو انطلق الرسول إليه بُكْرة، لأمكنه الذهاب والرجوع إلى منزله قبل أن يجنّ الليل، هذه مسافة العَدْوَى.
فإن كانت المسافة أبعدَ من ذلك، [فلا يخلو] (3) إما أن يكون الخصم في موضع به قاضٍ أو لا يكون في الناحية التي هو بها قاضٍ، فإن كان [ثَمَّ] (4) قاضٍ فيكتب إليه بما يقتضيه الحال، على ما فصّلنا القول في كتاب القاضي إلى القاضي، وإن [لم يكن ثَمَّ] (5) قاضٍ، وكان ذلك المكان من ولاية القاضي، فالقاضي لا يُعدي عليه، ولا يستحضره أصلا من غير بيّنةٍ يقيمها الخصم؛ فإن المسافة إذا بعدت، عظم الإحضار من غير ثَبَت، وإذا أقام البينةَ، فإن أراد القضاء، قضى، وإن تعذر استيفاء الحق دون حضور الخصم، استحضره بعد قيام البينة من المسافة الزائدة على مسافة العدوى، وإن بعدت تلك المسافة، وبلغت مسافة [القصر] (6) وكانت من ولاية القاضي؛ فإنه يُحضره ولا يبالي به.
والغرض مما ذكرناه أن القاضي يعدي في مسافة العدوى، من غير حُجة، فإذا
__________
(1) تقدير منا مكان انمحاء بالأصل.
(2) مكان كلمات انمحت من الأصل، والمثبت هنا وفي أمثاله تقدير منا. ونسجد لله شكراً، فقد صدقتنا (ق) في جميع ما قدرناه، فالحمد لله ملهم الصواب.
(3) اختيار منا.
(4) مكان بياض قدر كلمة.
(5) تقدير من المحقق.
(6) اختيار من المحقق مكان ما ذهب من أطراف الحروف.

(18/536)


زادت المسافة، فلا إعداء من غير حُجّة، وما ذكرناه متفق [عليه] (1) ذكره العراقيون وغيرُهم.
ومما يجب التنبه له إذا كان في جانب من ولاية القاضي ناحيةٌ آهلة، فلا يجوز له إخلاؤها عن مُستخلَف، وذلك بأن يقيم بالقرب منها حاكماً بحيث يقع بين المستخلفين أو بين المستخلَف والقاضي مسافةُ العدوى.
فرع:
11963 - إذا أقام الرجل بيّنته على خصمه الغائب، وجرى القضاء بها على الشرط المقدم، ووجد القاضي للغائبِ مالا في بلد القضاء، فإذا استدعى الخصم [تأدية] (2) حقه من ذلك المال، لزمه إسعافُه به. وهل يتعين عليه أن يأخذ منه كفيلاً بذلك المال؟ فيه وجهان ذكرهما صاحب التقريب: أحدهما - فَعَل ذلك لتقدير عود الخصم واستمكانه من مدفع.
والوجه الثاني - أنه يستدعي منه كفيلاً، فإن أبى، لم يلزمه؛ فإن القضاء قد نفذ، وتوقع النقض والاستدراك يتطرق إلى كل قضاء، فلا معنى لإيجاب الكفيل والضمين.
فرع:
11964 - إذا أقيمت بيّنة في مجلس القاضي، فغاب القاضي قبل القضاء بها، وخرج عن مكان ولايته، ثم عاد، فهل يبني القضاءَ على البيّنة التي سمعها، أم يستعيد البينة؟ فعلى وجهين: أصحهما - أنه لا يستعيد؛ فإن الولاية كانت ثابتة له، وخروجه عن مكان ولايته لش بمثابة انعزاله. والوجه الثاني - أنه يستعيد، كما لو عُزل ووُلِّي ثانياً.
ولا خلاف أن الأمر لو كان كذلك، لاستعاد البينة، واستجد سماعاً جديداً، كذلك إذا خرج من مكان ولايته، فقد انتهى إلى حالة لو أراد الحكم فيها لم يتمكن، وفي المسألة احتمال على الجملة.
فرع:
11965 - إذا كان في مكان ولاية القاضي مالٌ ليتيم، وكان ذلك اليتيم غائباً خارجاً عن مكان ولاية هذا القاضي، فلو أراد القاضي أن ينصب قيّماً، وهذا المال
__________
(1) اختيار من المحقق مكان ما ذهب من أطراف الحروف.
(2) في الأصل: "بإذنه".

(18/537)


الموجود في مكان ولايته، فكيف حكمه؟ تردد القاضي في هذه المسألة، وقال: لست أبت فيها جواباً؛ فإنا لو جوّزنا نصب قيّم في هذا المال، فصار اليتيم مَوْليّاً عليه، وليس ذلك اليتيم في مكان ولاية هذا القاضي، فكيف يُدرجه ولايةَ نفسه؟ هذا وجه.
ويجوز أن يقال: يملك هذا؛ فإنه يتصرف في مال الغُيّب المُطْلَقين؛ نظراً لهم، واستصلاحاً لأموالهم، وإن كان الغائب الخارج عن محل ولاية هذا القاضي ليس موليّاً عليه من جهة هذا القاضي.
هكذا قال رضي الله عنه.
والوجه عندنا أن يقال: النوع الذي يملكه القاضي من التصرف في مال الغُيَّب يجب أن يملكه في مال اليتيم؛ فإن خروج اليتيم عن ولايته كخروج الغائب المطلق، وتصرف القاضي في مال الغائب لا يسلّطه على بيعه في طلب الغبطة، وإنما يتصرف فيه إذا أشرف على الهلاك، وقد قدّمت في ذلك كلاماً بالغاً؛ ولعلي أعيد فيه تقريراً من بعدُ، فأما نصب قيّم في مال اليتيم ليتصرفَ فيه تصرف القَوَّام في الاستصلاح وتزكيةِ المال، فهذا زائد على ما ذكرناه من التصرف في مال الغائب، وفي هذا الزائد تردَّدَ القاضي، وهو لعمري محتمل.
فرع:
11966 - لصاحب الأمر أن يولّي القضاء على الخصوص، بأن ينصب قاضياً في الأموال، وقاضياً في تزويج الأيامى، وله أن ينصب قاضياً في الرجال، وقاضياًً آخر في النساء، وإذا اختصم رجل وامرأة لم يفصل واحد منهما الخصومة، ولا بد من ثالث يولّى القضاء بين الرجال والنساء، وهذا مُعْترِضٌ، وموضع الاستقصاء بعد باب القسام، وعنده نذكر هذه القضايا في أحكام القضاة والمستخلَفين، والله المستعان.
***

(18/538)


باب القسام
قال الشافعي رضي الله عنه: " ينبغي أن يُعْطى أجر القسام من بيت المال ... إلى آخره " (1).
11967 - الإمام كما لا يخلي نواحي الإسلام عن حُكام يقومون فيها باستيفاء الحقوق، وقطع الخصومات، فكذلك لا يخليها عن قُسّام؛ فإن الحاجة في الأملاك المشتركة ماسّة إليهم، وينبغي أن يُدرّ عليهم أرزاقاً كما يُدرّها على القضاة، حتى لا يأخذوا من أصحاب الأملاك أجوراً. هذا إذا كان في بيت المال متسع.
فإن لم يكن في بيت المال مال، فأصحاب الأملاك المشتركة يستأجرون من يقسمها لهم، والاستئجار على القَسْم جائز.
وقد ذكرنا في صدر كتاب الصداق ما يجوز الاستئجار فيه وما لا يجوز، وذكرنا في قَسْم الفيء والغنائم أرزاقَ الولاة ومصارفَ أموال بيت المال.
11968 - ثم القول في أن [القاسم] (2) الواحد هل يكفي أم لا بد من قاسمَيْن مما تقدم عند ذكرنا عدد المترجمين والمُسْمعين والمزكّين، [والذي نجدده] (3) الآن أنّا ذكرنا أن القاضي لو نصب حاكماً في التزكية، لجازَ، ثم من آثار ذلك الاكتفاء [بقاسم واحد] (4)، وقد ذكرنا أن القيمة لا تثبت إلا بمقوّمَيْن، وحكينا الخلاف في الخارص والقاسم.
__________
(1) ر. المختصر: 5/ 244.
(2) مكان ما ذهب من أطراف السطور، والمثبت كما ترى ليس فروق نسخ، وإنما هو تقدير مكان الذاهب المخروم. والحمد لله جاءت (ق) مصدقة لنا في كل ما قدرناه.
(3) مكان ما ذهب من أطراف السطور.
(4) تقدير من المحقق مكان الذي ذهب من أطراف الحروف.

(18/539)


فلو قال [قائل: لو] (1) نصب الإمام حاكماً في التقويم، فهل يسوغ، وإن ساغ، فهل يُكْتَفى به على اتحاده على ما مهدناه [في] (1) المزكي؟ قلنا: هذا مشكل.
وكذلك لو فرض مثلُه في القاسم، فإن كان المنصوب [للقسمة] (2) منصوباً ليشهد عنده مُقَوِّمان، فهذا سائغ، وكذلك المزكي إن نُصب ليشهد عنده العدول على الجرح والتعديل [على] (3) الشرائط المعلومة، فهذا جائز.
فأما إن كان المنصوب للتقويم يُعوِّل على علم نفسه، على اجتهاده [وبصيرته] (3)، فما أرى ذلك جائزاً، وأطْرُد هذا في التزكية؛ فإن التزكية لا تستقل بنفسها ما لم تُنْهَ [إلى] (4) القاضي، وهو الذي يقضي بها.
فإثبات اسم الحاكم للمزكي، والاكتفاء ببصيرته لا حاصل له إلا رد مزكيين [إلى] (4) واحد، وهذا غير محتمل فيما يشترط العدد فيه.
وقد ذكرت في التزكية كلاماً فيه طرف من الإبهام وهذا إتمامه، فليجمع الناظر هذا إلى ما تقدم.
ولو بنى القاضي الأمر على بصيرته في التزكية، لجاز ذلك، كما قدمناه، مذهباً واحداً، وإن اختلف القول في أن القاضي هل يقضي بعلمه.
ولو كان القاضي خبيراً بمعرفة القيم، فأراد بناء الأمر على بصيرته في التقويم؛ فالذي تلقيته من كلام الأصحاب شيئان: أحدهما - أن ذلك لا يسوغ؛ فإن التقويم اجتهاد، وليس له في المجتهدات الاكتفاء ببصيرة نفسه، وإنما اختلاف القول في قضائه بالعلم واليقين المستدرك، والقضاء في العدالة مستثنى عن قياس الأبواب؛ لاتساع النظر في التعديل والجرح، وخروجهما عن الضبط، وليس التقويم كذلك؛ فإنه أمر قريبٌ من الضبط، والرجوع فيه إلى معرفة قِيَم الأمثال مع تداني الصفات.
__________
(1) تقدير من المحقق مكان الذي ذهب من أطراف الحروف.
(2) في الأصل: " للقيمة ".
(3) اختيار من المحقق.
(4) تقدير منا على ضوء السياق.

(18/540)


ومن أصحابنا من جعل علم القاضي بما يرجع إليه في القيم خارجاً على القولين في القضاء بالعلم.
فهذا ما رأيت ذكره ملتحقاً بعدد القُسّام.
وزاد صاحب التقريب طريقة أخرى، فقال: إن كان في الشركاء طفل أو مجنون، فلا بد من قاسمَيْن، وإن لم يكونا، فعلى قولين.
وهذا ليس فقهاً متيناً، فإن ما يُرعى من العدد في البينات لا يختلف بأمثال ما ذكره هذا القائل.
وقد انتهى ما أردناه من نصب القسام وإدرار الأرزاق عليهم من بيت المال إن كان فيه مال، وذكرنا ما يتعلق بالعدد.
11969 - ونحن بعد ذلك نذكر استئجار الملاك مَنْ يقسم الملك المشترك بينهم، فنقول: إن تفاوتت الحصص، ووُجد منهم الاستئجار على القسمة مطلقاً، فللأصحاب طريقان: منهم من قال: نقطع بأن أجرة القسّام مفضوضة على الملاك على أقدار الأقسام، فعلى صاحب النصف منها النصف، وعلى صاحب السدس السدس، وهكذا.
ومنهم من قال: في كيفية توزيع الأجرة قولان: أحدهما - ما ذكرناه، والثاني - أنها على رؤوس الشركاء بالسوية وإن تفاوتت حصصهم، فهؤلاء يَرَوْن أن القسمة، وأجرَ القاسم يجريان مجرى الشفعة عند ازدحام الشركاء في طلبها، وفي الشفعة القولان المشهوران في أنها تفضّ على الرؤوس، أو على حصص الأملاك؟
ومن سلك الطريقة الأولى فرّق بين أجرة القاسم وبين الشفعة؛ بأن قال: أجرة القاسم على مقابلة عمله. [وتردُّدُه] (1) في الحصة الكبرى، وعملُه إلى تحصيل الإفراز أكثر من تردده وعملِه في الحصة القليلة، والشفعة لدفع الضرر، ولا يكاد يظهر تفاوت في الضرر على حسب تفاوت الأملاك، وهذا يوجب الفرقَ بين البابين. [ولمن
__________
(1) في الأصل: " ويرد به ".

(18/541)


يُجري] (1) القولين في أجرة القسام أن يقول: ما اعتمده الأصحاب (2) يقع [في] (3) مؤونة القسمة؛ فإذا كنا نفاوت في أجرة القسام، فقد تفاوت الغرض في أول مرتبة.
وهذا يوجب تطبيق القولين على القولين (4). ولهذا قال أبو حنيفة (5) رضي الله عنه بأجرة القسّام على الرؤوس.
وما ذكرناه من التردد فيه إذا استأجر الشركاء قاسماً أو قاسمين استئجاراً مطلقاً، وهذا بعينه يجري إذا كانت القسمة جَبْرية، وكان نصب القاسم من جهة القاضي، فالكلام في إلزام المُلاّك مؤونةَ القسمة على النسق الذي ذكرناه في الاستئجار المطلق.
ولو عقد الملاّك عقوداً مع القاسم، فانفرد كل واحد باستئجار للعمل في نصيبه، فهذا على حكم التراضي، فإن استأجر القليلُ النصيبِ بأكثرَ، واستأجر صاحب الكثير بأقلَّ، فهو صحيح، لا غموض فيه.
ولو تبرع القاسم على بعضهم، لم يَخْفَ دركُ مثل هذا.
11970 - ولكن لا بد من ذكر صورتين بعد هذا، إحداهما - أنهم لو عقدوا عقوداً معاً، وكانوا ثلاثاً، صحت العقود على ما وقع التراضي عليها، ولو عقد واحد من الثلاثة، ثم عقد الثاني، فالعقدان صحيحان، فإذا أراد الثالث أن يعقد إجارة في نصيبه، فهذا فيه إشكال يبرزه سؤال، وهو أنه التزم إفراز نصيبين، وهم ثلاثة، ومن
__________
(1) في الأصل: " ولم يجر ".
(2) أي في الطريقة الأولى.
(3) زيادة اقتضاها السياق.
(4) ولمزيد الإيضاح نثبت هنا عبارةَ الغزالي في البسيط، وهذا نصها: "إذا استؤجر القسام مطلقاً بمالٍ معلوم، ففيه طريقان: منهم من قطع بأن الأجرة على قدر الحصص. ومنهم من قال: قولان. في القول الثاني تقسم على عدد الرؤوس، كما في الشفعة، والأول يفرق بأن تردد القسام وعمله في المساحة على الحصة الكثيرة يكثر. فيجاب عنه بأنه إذا كثرت مؤنته فقد كثرت ضرورة الشفعة لرفع ضرر المقاسمة، فينبغي أن يجريا مجرى واحداً، ولذلك قال أبو حنيفة: تقسم على عدد الرؤوس في المسألتين" (ر. البسيط: جزء 6/ورقة: 114 ش).
(5) ر. مختصر الطحاوي: 331.

(18/542)


ضرورة إفراز نصيبين تميز نصيب الثالث، فكأن الأَوَّلين (1) استحقا عليه ما يؤدي إلى إفراز نصيب الثالث، فإذا أراد الثالث أن يبتدىء استئجاراً، فكأنه يبغي بهذا الاستئجار عملاً هو مستحَق لغيره، أو مستحق على الأجير من جهة غيره، هذا هو الإشكال.
وقد أجاب القاضي عنه كما (2) وجه عليه بأن قال: لا بد في [إفراز] (3) النصيبين من عمل في النصيب الثالث [، كالمساحة] (4)، والتخطي لأجلها، وإثبات الأسماء، والقرعة، فيصح الاستئجار من الثالث على هذه الأعمال.
وهذا الذي ذكره لا يَشفي الغليل ولا يدرأ الإشكال.
وسبيل الجواب أن استئجار الأوّلَيْن لا يتم الغرض منه ما لم يستأجر الثالث؛ فإن هذا مفروض في غير الإجبار. وكيف يتأتى تمييز الحصتين إلا بالتصرف في حصة الثالث، فإن فرضنا التراضي (5)، فالامتناع للتصرف في ملك الغير من غير رضاه.
وإن فرضنا [الإجبار] (6) من جهة السلطان، فهو يُنزل المؤونةَ عليهم على اجتماع.
فالمشكل أنَّ انفراد كل واحد بالاستئجار بعيدٌ عن التصور؛ فإن القسمة من ضرورتها بسط العمل على الحصص، فكما أن المِلك قبل القسمة غير متميز، فعمل القسّام في القسمة غير متميز، فإن كان الشركاء على الاستئجار من غير تسامح، ووجدوا أجيراً يتبرع على أحد، فانفراد بعض الشركاء بالاستئجار محالٌ غير متصور.
ولو قال بعض الشركاء: أنا أستأجر القسام، ورضي شريكه أو شركاؤه، فهو متبرع على شركائه، وقد أذن له شركاؤه أن يُعْمِل قاسماً، وليس هذا ما نريد. نعم، لو استأجروا قاسماً دفعة واحدة، وتفاوتوا في الملتزَم مع التساوي في الحصص، أو تفاوتوا على خلاف نسبة الحصص المتفاوتة، فهذا جائز؛ فإن عمله يستحق دفعة
__________
(1) كذا. وهو صواب، فإذا تقدم المعدود تجوز الموافقة في التذكير والتأنيث.
(2) كما: بمعنى عندما.
(3) في الأصل: " إقرار".
(4) في الأصل: " كالمساجد".
(5) أي قسمة التراضي.
(6) في الأصل: "الإخبار".

(18/543)


واحدة لهم، وكلٌّ قابلَ حظَّه من عمله بما أراد، فهذا سائغ لا منع فيه، وغايته حصول شيوعٍ في العمل المستحَق.
فأما إذا [ترتبت] (1) العقود من غير تراضٍ ولا إجبار، فلا معنى له؛ فإن الأول يكون مستأجِراً على عمل يعم الأملاك، وليس إليه هذا، ولا يتصور أن يستحِق فيه مقدارَ عمله في حصته قبل أن يتمكن القاسم من العمل العام.
ومن فهم هذا لم يعُدّ ما قدمناه إشكالاً، ورد الإشكال على هذا، ثم دفعه في التصوير، ويتحصل منه أن انفراد كل واحد بالاستئجار محال. وإن أذن أصحابه في انفراده نُظر: فإن أراد أن يستأجر ليغرم تمام الأجرة، فهذا متبرع عليهم، [موكَّل] (2) عنهم في الاستئجار، وإن أذن له في الانفراد، لا على هذا التقدير، فهو باطل.
فصل
فال: " وإذا تداعَوْا إلى القسم ... إلى آخره " (3).
11971 - إذا كان بين أقوام ملكٌ يمكن فرضُ القسمة [فيه] (4)، فإن تراضَوْا على القسمة، صحت القسمة، على ما سيأتي هذا في أثناء الباب، إن شاء الله.
وإن طلب بعض الشركاء القسمةَ، وأبى آخرون، فقد يجبر على القسمة، وقد لا يجبر عليها.
فإن كان الكلام مفروضاً في إفراز الحصص من ذوات الأمثال، فلا إشكال، والقسمة ممكنة، والممتنع عنها يُجبر عليها، فإن لم يكن المشترَك من ذوات الأمثال، ولكن كانت القسمة ممكنة، كالأراضي، والدور، وما في معناها، فالذي ذهب إليه جماهير الأصحاب النظر إلى المقصود من الملك المشترك، فإن كان جنس ذلك المقصود يبقى في كل حصة، فهذا ملكٌ قابل للقسمة، والممتنع عنها مُجبر عليها،
__________
(1) في الأصل: " ترتيب".
(2) في الأصل: " فوكل ".
(3) ر. المختصر: 5/ 244.
(4) في الأصل: " فيها ".

(18/544)


وهذا كقَرَاحٍ (1) يزرع، ولو قسم، لأمكنت الزراعة في كل حصة، أو كمسكن مشترك، ولو قسم لتأتى السكون (2) في كل حصة.
ويستبين الغرض بتصوير يقتضي ذلك، فإذا كان المشترك حماماً أو طاحونة، فقسمة الحمام ممكنة حِسّاً، ولو فرضت، لكانت كلُّ حصةٍ منتفعاً بها، بأن تتخذ مخزناً أو مسكناًً، ولكن يختلف جنسُ الانتفاع، فلا إجبار على القسمة، فإن القسمة تُبطل جنسَ المنفعة الكائنة حالةَ الشركة، هذا مذهب الجمهور.
وقال قائلون من الأصحاب: إذا أمكنت منفعةٌ وإن خالفت الجنسَ الأول، فالإجبار على القسمة جارٍ، وهؤلاء يُجبِرون على قسمة الحمام والطاحونة، وهذا ذكره القاضي وغيره، ولم يذكره أحد إلا زيّفه، فلا عَوْد إليه.
وللأصحاب تصرف في الطريقة المشهورة، ففالوا: الحمام الصغير لا يقبل القسمة؛ لأنه لو قسم، فكل حصة لا تكون حماماً، ولا يتأتى اتخاذها حماماً، بأن يفرض لها أسباب مجردة من أتون ومستوقد وغيرهما، فهذا تعطيل منفعة الحمام بالكلية.
وإن كان الحمام كبيراً، وقد هيىّء على أتون واحد ومستوقد واحد، ومِرجل واحد، ولو قسم، أمكن اتخاذ حمام صغير من كل حصة بإحداث أسبابٍ لها، فهل هذا مما يقبل القسمة؟ اختلف أصحابنا فيه: فمنهم من قال: هو غير قابل للقسمة؛ فإن كل حصة لا تكون حماماً، وقد كانت الجملة حماماً، وإمكان اتخاذ حمام استحداث منفعة بعد تعطل الأولى.
11972 - ومن تمام البيان في ذلك أن الدار إذا كانت مشتركة بين شريكين لأحدهما عُشرها، وللثاني تسعة أعشارها، وكان عُشر الدار لا يصلح للمسكن وتسعة الأعشار تصلح -لو ميّزت- للسكون، فلو جاء صاحب العُشر طالباً للقسمة، فالطريقة المشهورة أنه لا يجاب، لأنه متعنِّتٌ في طلبه ساعٍ في إبطال المنفعة من حصة نفسه،
__________
(1) القراح: الأرض التي لا بناء ولا غراس بها.
(2) السكون: المراد السكن، أي اتخاذها مسكناً.

(18/545)


وإنما [يُسْتَعَفُ] (1) الطالب إذا كان لطلبه وجه في تحصيل المنفعة، ثم قد لا يُنْظَر إلى الكثير [والقليل] (2)؛ فإن الإنسان قد يؤثر الانفراد بالقليل على الاشتراك في الكثير، فأما إذا كان الطلب يتعلق بالتعطيل، فلا إجابة.
فأما إذا جاء صاحب الكثير مطالباً، فهل يجبر صاحب العشر؟ فعلى وجهين: أحدهما - يجبر؛ لأن الطالب ينتفع إذا أجيب، وله أن لا يبالي بتعطل منفعة صاحب العشر، فإنه يقول: أُتيتَ من قلة نصيبك، وكان يتهيأ لك الانتفاع بضم نصيبي إلى نصيبك. هذا وجهٌ. والوجه الثاني - أنه لا يُجاب، لأنه يبغي تعطيل منفعة صاحبه، وليس له أن يضر بالغير، كما ليس له أن يطلب قسمة تضرّ به، هذه هي الطريقة المشهورة.
قال العراقيون والقاضي: من أصحابنا من جعل في كل واحد منهما وجهين إذا طلب القسمة. أما إجراء الوجهين في حق صاحب الكثير، فعلى ما ذكرنا، وأما إجراؤهما في حق صاحب القليل، فمن جهة أنه يقول: لي أن أُبطل حق نفسي، وأنت لا تتضرر تضرراً معتبراً فما عليك، فأجبني ولا تشفق عليّ، فإنني مطلق في حصتي.
وهذه الطريقة لا بأس بها. والأشهر الأول.
11973 - ثم بنى الأصحاب على الترديد الذي ذكروه أمرَ الشفعة. ففالوا: إن باع صاحب العشر نصيبه، وقلنا: لا يملك الاستقسام، فليس لصاحب التسعة الأعشار الشفعة؛ فإن المعوّل في إثبات الشفعة على توقع طلب القسمة من الدخيل الجديد، ولهذا لا تثبت الشفعة فيما لا ينقسم على القول الجديد.
ولو باع صاحب الكثير نصيبه، فهل يثبت لصاحب العُشر الشفعة؟ هذا يخرج على الوجهين في أن صاحب الكثير هل يُجبِر على القسمة؟ فإن ملكناه الإجبار، فلصاحب
__________
(1) كذا بالأصل (بزيادة التاء) استعف، ومن معاني هذه الزيادة المبالغة في معنى الفعل، فالمعنى يُسعفُ الطالب ويجاب إذا كان لطلبه وجه.
(2) في الأصل: "والتقليل".

(18/546)


العُشر الشفعة؛ دفعاً لطلب القسمة، وإن لم نملّكه الإجبار، فلا شفعة لصاحب العشر، وكأن انقسام الدار على هذه الصفة يلحقها بما لا ينقسم على هذا الوجه من الجانبين.
وإذا كنا نُتْبع الشفعةَ القسمةَ وطلبَها، وضممنا طريقة في القسمة إلى طريقة، انتظم من المجموع أوجه في الشفعة: أحدها - أنها لا تثبت لواحد من الشريكين، تفريعاً على أن واحدا منهما [لا يطلب] (1) القسمة. والثاني - أنه تثبت الشفعة لهما على البدل، تفريعاً على أن كل واحد منهما يطلب القسمة، فيجاب إليها، والثالث - أن الشفعة تثبت لصاحب القليل، ولا تثبت لصاحب الكثير، ولا يكاد يخفى خروج هذا الوجه على التفاصيل المقدمة في الإجابة إلى القسمة.
11974 - ومما نصوّره من هذا الجنس أن الدار لو كانت بين ستة، لواحد منهم نصفها، ولكل واحد من الباقين عُشرها، وكان العشر لا يصلح للسكون، فلو اجتمعوا -أعني أصحاب الأعشار- وطلبوا من صاحب النصف القسمة، أجيبوا.
وهذا على تقدير رضاهم بالشيوع في النصف الذي يبقى لهم، وكذلك لو أراد صاحب النصف أن يميّز نصفه [من حصص شركائه] (2) على تقدير أن يبقى النصف شائعاً فيهم، فيجب أن يجاب.
فلو بيع النصف، وأراد أصحاب الأعشار أن يأخذوه بالشفعة، والتفريع على أن صاحب كل عشر لو استقسم، لم يُجَب، ولو استقسم صاحب الكثير أجيب، فتخرج الشفعة على هذا المسلك، فنقول: لهم الشفعةُ في النصف طلباً لدرء القسمة من الدخيل، وإن باعوا حصصهم، فصاحب النصف يأخذها بالشفعة.
والغرض أن نبين أن الشفعة لإمكان الاستقسام من الدخيل، فليتَّبع الناظر هذا الأصلَ في النفي والإثبات.
11975 - ثم المذهب الصحيح أن الحكم قد يختلف في تقسيط المؤنة في إجبار
__________
(1) في الأصل: "لا يبطل".
(2) في الأصل: "من حصص من شركائه".

(18/547)


الممتنع عن القسمة عليها بأن يكون واحد من الشركاء طفلاً أو لا يكون.
وذكر صاحب التقريب والقاضي وجهاً ضعيفاً في الفرق: فإن كان الشركاء مطلَقَيْن بالغين، [فالحكم] (1) على ما ذكرناه، وإن كان الملك بين بالغ وطفل، فإن كانت الغبطة في القسمة، فابتداً قيّم الطفل، واستقسم، أجبر البالغ على القسمة، وقسطت المؤنة: إما على التسوية، وإما على قدر الملك بين الطفل والبالغ، ولو لم يكن في القسمة غبطة، فلا شك في أن القيّم لا يطلبها، ولو طلبها ردّ عليه القاضي.
وإن طلب الشريك القسمة، لم يختلف أئمتنا في أنه يجاب، وإن كان في إجابته تنقيص لقيمة نصيب الطفل، ولكن الظاهر أن المؤنة تقسط على القياس الممهّد في الباب.
[وفي ذلك وجه ضعيف] (2)، وهو أنا نقول [للبالغ] (3): المؤنة عليك إن أردت القسمة وحدك، وهذا ضعيف لا أصل له؛ إذ لو كان يستدّ المصير إلى هذا، لوجب أن يقال: لا يجاب طالب القسمة إليها، رعايةً لحق الطفل، حتى لا يتطرق إلى ملكه نقصان، وكان من الممكن أن يقال للبالغ: اصبر حتى يبلغ الطفل ويستقل، ثم اطلب القسمة، فلما لم يصر إليه أحد من الأصحاب، [وقطعوا] (4) بإثبات القسمة، وجب القطع [بفض] (5) مؤنة القسمة على الملكين؛ فإن القسمة إذا كانت جبرية، فالأمر فيها إلى الوالي، فكأنه موقعها عند الاستدعاء، وهو الذي يُنزل المؤنة على الأملاك.
ثم من حكى الوجهَ الضعيفَ، اختلفوا فيه؛ فمنهم من حكاه حيث تنتقص قيمة حصة الصبي، ومنهم من علق الوجه بالطلب، ففال.: إذا ابتداً طلبَ القسمة البالغُ، فالمؤنة عليه. وإن لم يكن في القسمة ضرر على الطفل، وهذا على نهاية الضعف.
ومنهم من حكى هذا الوجه الضعيف فيه إذا كانت القسمة مضرة بالطفل، وإن لم يكن من هذا الوجه بد، فيجب أن يكون محله هذه الحالة. وهو حيث يُحكَى ضعيف.
__________
(1) في الأصل: "والحكم".
(2) في الأصل: "وعند ذلك الوجه الضعيف".
(3) في الأصل: "للبائع".
(4) في الأصل: " وبلغوا " والمثبت من (ق).
(5) في الأصل: "بعض".

(18/548)


فصل
11976 - نجمع في هذا الفصل تفصيلَ القول في أصناف الأموال، وتحقيقَ المذهب في ماهية القسمة إذا وقعت، على وجوهها المختلفة.
فأما القول في أصناف الأموال، فنقول: لا يخفى أن ذوات الأمثال معرضة للقسمة الجبرية، فمن دعا من الشركاء إليها أُجبر صاحبه عليها.
وإن لم يكن المال من ذوات الأمثال، فإن كانت القسمة تتأتى فيها بالتقدير، وكانت السهام تتعدَّل به من غير تقويم، ولا احتياج إلى ردٍّ -على ما سنصف الرد- فالقسمة الجبرية تجري في هذا، كقسمة المزارع والعَرْصات، إذا كانت لا تختلف قيم أطرافها، فسبيلها في مقصود القسمة كسبيل ذوات الأمثال، لإمكان التعديل بالقَدْر المحض.
فلو قال قائل: لو كان غرض الشركاء مختلفاً في الجوانب، فكان يبغي بعضهم الجانب الشرقي لاتصاله بملكٍ له، فما القول فيه؟ قلنا: لا نظر إلى الأغراض، مع ما ذكرناه ولا يختلف بها حكم.
[فلو] (1) مات الرجل، وخلف عبيداً بين الورثة، وأمكن أن تعدّل السهام من غير حاجة [إلى الرد، وذلك مثل] (2) أن يخلف ثلاثة أعبد بين ثلاثة بنين، قيمة كل عبد مائة، فجَعْلُ العبيد ثلاثةَ أسهم ممكن، فإذا دعا داعٍ إلى هذه القسمة، فهل يُجبر عليها من يشاركه؟ اختلف أصحابنا في المسألة، فالذي ذهب إليه الأكثرون الإجبارُ؛ فإنها قسمة معدلة، يترتب عليها [التفاصُل] (3) من غير ردّ، فصار [ذلك] (4) كأطراف الأرض.
ومن أصحابنا من قال: لا إجبار؛ لأن العبيد متعددون، وليسوا في حكم الشيء
__________
(1) في الأصل: "ولو".
(2) في الأصل: " إلى الردة، ذلك مثل ".
(3) في الأصل: "تترتب عليها التفاصيل". والمثبت تصرف من المحقق.
(4) مكان كلمة ذهب بها البلل من أطراف الأسطر.

(18/549)


الواحد المشترك، ونحن وإن كنا لا نعتبر الأغراض في القسمة إذا لم ترجع إلى مقصودٍ مالي، [فإذا تفاحشت] (1)، تعين اعتبارها، وهي في الغالب ظاهرة في أعيان العبيد (2).
هذا إذا أمكن تعديل القسمة مع استواء الرؤوس والعدد.
فإن كان خلف الميّت بين ثلاثة بنين أربعة أعبد، قيمة عبد [مائة] (3) وقيمة عبد مائة، وقيمة عبدين مائة، فإذا أمكنت القسمة على هذا التقدير، ففي الإجبار عليها، في هذه الصورة وجهان مرتّبان على الأولى، وهذه أولى بألا يجبر عليها؛ لظهور التفاوت في العدد، وإذا ضممنا الأولى إلى هذه، [انتظم] (4) فيها ثلاثة أوجه.
11977 - ولو كان بين الشركاء حمّاماتٌ، أو طواحينُ، فكل واحد [منها] (5) لا ينقسم في نفسها، ولكن إذا أمكن التعديل بالقيمة بأن يجعل كل حمام سهماً، فالقول في الحمامات كالقول في العبيد، والخلاف في الإجبار كما مضى.
وقال العراقيون: لا إجبار في الأبنية والبقاع على التصور الذي ذكرناه بخلاف العبيد، فرأوا تفاوتَ الأغراض في البقاع أوضح.
11978 - ومما ينبغي أن يفهمه الناظر في الفصل أن قسمةَ العبيد، وقسمةَ الحمامات على الصورة التي ذكرناها تسمى قسمة النقل والتعديل، فإذا أمكنت قسمة
__________
(1) تقدير منا على ضوء ما بقي من خيالات وظلال لبعض الحروف.
(2) المعنى أن الأغراض لا اعتبار بها إذا تساوت القيمة، ولكن قد تبلغ الأغراض مبلغاً به احتفال، وهذا كما يحدث أحياناً في أعيان العبيد، فقد يكون فيهم الكاتب، والحاسب، وصاحب الحرفة، وهي أغراض بها اعتبار، تجعل العبيد -عند هذا القائل- يلتحقون بما لا يقسم، فلا إجبار، فلا تكون القسمة إلا بالتراضي.
(3) أثبتناها من بسيط الغزالي، فقد عرض الصورة نفسها، وفي الأصل ذهبت فيما ذهب من أطراف الحروف.
(4) في الأصل: "لينتظم".
(5) في الأصل: " منهما ".

(18/550)


شيء واحد سميت القسمة إفرازاً. وهذا اصطلاح لا فقه فيه، ولكن ذكرناه لنستعمله في المسائل.
11979 - ولو خلف الميت طاحوناً، وحماماً، وعبداً، فاختلفت الأجناس، وأمكن التعديل بجعل [كل] (1) صنفٍ سهماً، ففي الإجبار وجهان مرتّبان على ما إذا لم تختلف الأصناف، وهذه الصورة أبعد عن الإجبار.
ومن ضم جميع هذه الصور نظم فيها وجوهاً لا يخفى طردها.
والرابط الفقهي أن من أصحابنا من يعتبر التعديل وإمكانَه، ومنهم من يلتفت على الأغراض بعضَ الالتفات، ثم فيها التفاوت والترتّب والاختلاف [جارٍ] (2) بحسبها.
ولو خلف قِطعاً من الأرض متميزة، وكانت كل قطعة قابلة للقسمة على انفرادها، فإن طلب الشركاء قسمة الإفراز في كل قطعة، تعيّنت الإجابة على الباقين، وإن طلب بعضهم قسمة التعديل، وهو جعل كل قطعة سهماً، فلا إجبار على التعديل، مع إمكان الإفراز، وهذه الصورة متفق عليها بين الأصحاب، ولذلك صوّرنا الطواحين والحمامات في القسم الأول لمّا أردنا الكلام في الأبنية على حسب ما يجري في العبيد.
11980 - ومما يتعلق بما نحن فيه صورة: نذكرها؛ وهي أنه إذا [خلف] (3) حماماً صغيراً وآخر كبيراً، ونحن نحتاج إلى سهمين، وكانا لا يعتدلان إلا بأن يجعل الحمام الصغير مع ثلث الحمام الكبير سهماً، ونجعل ثلثي الحمامِ الكبير سهماً، فالأصح أنه لا إجبار على هذا النوع؛ فإن القسمة كذلك لا تميِّز ولا تفْصل، بل تُبقى اشتراكاً؛ فلا إجبار عليها.
وقال بعض أصحابنا: في الإجبار على هذا النوع خلاف، وهذا بعيد.
__________
(1) في الأصل: " ذلك ". والمثبت تصرف من المحقق على ضوء السياق.
(2) في الأصل: " وجاري ".
(3) في الأصل: " خلفه ".

(18/551)


11981 - ومن أراد [جمع] (1) المسائل، وصورة الخلاف والوفاق قال: إذا أمكنت قسمة الإفراز في كل صنف، [فعليها] (2) الإجبار، ولا إجبار على تعديل الأصناف سهاماً، هذا متفق عليه.
وإن أمكن النقل والتعديل في السهام، [ولم يمكن] (3) الإفراز في كل صنف، فالخلاف يجري على ترتب بحسب تفاوت الأغراض.
وإن كانت القسمة النقلية تُبقي شركةً في صنف كالحمام الصغير والكبير، فهذا أبعد الصور عن الإجبار، مع جريان الخلاف عند بعض الأصحاب، وظاهر النص يميل إلى نفي الإجبار في القسمة المسماة النقل والتعديل.
11982 - هذا أحد مقصودي الفصل، وبعد نجازه شيء، وذلك أن الأصحاب أطلقوا قسمة الدور، وأجْرَوْا فيها قسمةَ الإفراز إجراءهم إياها في العرصات، وهذا فيه نظر؛ فإن الدّور تشتمل على أبنيةِ صُففٍ، وبيوت، وأروقةٍ، وهي ذوات أشكال مختلفة، والأغراض في السكون تتفاوت تفاوتاً بيناً، وهذا زائد على الأغراض النفسية التي تفرض في العبيد، بل هي راجعة إلى تفاوت المنافع، فكيف يُطْلَق الوفاق في الإجبار على قسمة الدور مع ما وصفناه؟
والوجه أن يقال: إن استوت الأبنية، فكان في شرقيّ الدار صُفّة وبيت، وكذلك في غربيّها، ويتأتَّى التعديل بتبعيض العرصة، فتشتمل كل حصة على مثل ما تشتمل عليه الحصة الأخرى من الأبنية، فيجوز أن يقال: يجري الإجبار على مثل هذه القسمة، ولا يختلف الأمر باختلاف الجهة، وليست الأبنية المتساويةُ والدار واحدة بمثابة دارين متقابلتين في سكة متساويتين في وضع الأبنية والأشكال؛ فإن ذلك يخرج على الخلاف، بخلاف أبنية الدار إذا تساوت.
فأما إذا اختلفت أشكال الأبنية، فيتعين عندي قطعاً تخريج الخلاف في إجراء
__________
(1) في الأصل: "جميع".
(2) في الأصل: " فعليهما ".
(3) في الأصل: " ولم يكن ".

(18/552)


القسمة فيها، لما أشرت إليه من تفاوت الأغراض واختلاف المنافع.
11983 - فأما الكلام في ماهية القسمة، فنقول: أولاً: اشتهر القولان في أن القسمة بيع، أو إفراز حق: أحدهما - أنها بيع، وكأن كلَّ واحد من الشريكين باع ما كان له فيما صار إلى صاحبه، بما كان لصاحبه فيما صار إليه، وهذا التقدير لا بدّ منه؛ فإن حق كل واحد كان شائعاً في جميع المال قبل القسمة، ولا محمل لاختصاص كل شريك إلا ما ذكرناه.
والقول الثاني - هو إفراز حق، فكأن حق كل شريك لم يكن متعيناً قبل القسمة، فتعين بالقسمة، وهذا كالمال الثابت في الذمة، يتعين بالقبض، وإذا لم تكن العين المقبوضة ديناً، فلا نجعلها عوضاً عن الدين أيضاً؛ إذ لو قدرنا ذلك، لما صح قبض المسلَم فيه من جهة امتناع الاعتياض عنه، وإذا ثبت القولان مرسلين كذلك، فالمقصود تبيينُ محل القولين وتمييز صورٍ من الوفاق إن كانت.
فنقول: إن كانت القسمة قسمة إفراز، وكانت بحيث يجبر عليها، ومن ضروراتها أن لا [يكون فيها] (1) ردٌّ، كما سنصفها الآن، فالقولان جاريان في مثل هذه القسمة.
وإن أجْبرنا على قسمة النقل في الأعيان المنفصلة كالعبيد، فللأصحاب طريقان: أحدهما - القطع بأنها بيعٌ، لانفصال العين عن العين، وتمييز المشترك عن المشترك، فإذا جرى مع هذا تخصيصٌ يعتبر حمله على البيع. ومن أصحابنا من أجرى القولين واعتمد الإجبار على القسمة؛ فإن التفريع على إجراء الإجبار.
وإن قلنا: لا إجبار على هذا النوع من القسمة، فلا بد وأن يكون صَدَرُها عن التراضي، فالمذهب الذي يجب القطع به أن القسمة إذا جرت، كانت بيعاً قولاً واحداً.
وأبعد بعض الأصحاب، فأجرى القولين في ذلك أيضاً، وقال: نجريهما، ونقول في أحدهما: إفراز مشروط بالتراضي، كما أنا نقول: إن القسمة الجبرية بيعٌ جارٍ جبراً من غير تراضٍ، وإن لم نُبعد الإجبار على البيع، لم نُبعد الإفراز على التراضي.
__________
(1) تقدير من المحقق مكان الذاهب من أطراف الأسطر.

(18/553)


ومن صور الفصل أن العرصة لو كانت مقسومة بين شريكين، وكانت القسمة تختلف بسبب قُرْبِ شقٍّ من الماء، وبُعْدِ الشق الآخر منه، فلا تتأتى القسمة تعويلاً على مجرد التقدير المساحي، بل لا بد من تعديل القيمة مع التفاوت في المقدار، فقد يقع النصف ثلثاً بالمساحة، والنصف الآخر ثلثين، فهل يجري القولان في هذه الصورة، أو لا يجري الإجبار فيها، والاحتياج إلى التفاوت في المقدار مع التعديل في القيمة لا يمنع الإجبار على القسمة، هكذا قال الأصحاب. ثم ترددوا في إجراء القولين، فأجراهما بعضهم، وقال قائلون: نقطع بأن القسمة تكون بيعاً؛ فإن التمييز مع اختلاف [الأقدار] (1) يبعد، فقد تنشّأ (2) تردد الأصحاب في القدر والقولين من أصولٍ منها الإجبار واشتراط الرضا، ومنها تعدد الأصناف والاتحاد، ومنها تفاوت الأقدار لاختلاف القيم.
11984 - وكل ما ذكرناه فيه إذا لم يكن في القسمة رد، ومعنى الرد على الجملة أن لا يتأتى تعديل السهام إلا بأن يرد بعض الشركاء على البعض دراهم، أو ما يتواضعان عليه من عوض، وكانت السهام لا تتعدل دون ذلك، وهذا قد يتفق في الدور، ويتفق في العبيد وغيرها، فإذا كان بين رجلين عبدان قيمة أحدهما ألف وقيمة الثاني ستمائة، وإن أرادا أن يتفاصلا ويقطعا الشركة في العبدين، فلا وجه لهذا إلا أن يأخذ أحدهما العبد الذي يساوي ألفاً ويغرم لصاحبه مائتي درهم؛ حتى يعتدلا.
فإذا كانت القسمة على هذه الصورة، فالكلام في ماهيتها فرعٌ للكلام في الإجبار عليها، قال الأصحاب: لا سبيل إلى الإجبار على بذل العوض أصلاً، وهل يجري الإجبار على القدر الذي لا حاجة فيه إلى ردّ؟ فيه اختلاف قدمناه، وذلك بأن نجعل العبد المساوي ستمائة سهماً، ونجعل ستمائة من العبد المساوي ألفا سهماً، ويبقى الشيوع في مقدار أربعمائة. وقد مضى أن الإجبار على مثل هذا هل يجري أم لا؟
فإذا تمهد هذا، قلنا بعده: أطلق الأصحاب القول بأن القسمة المشتملة على الرد
__________
(1) في الأصل: "الإفراز".
(2) كذا. والإمام استعمل هذا الفعل أكثر من مرة بهذه الصيغة من صيغ الزيادة، ومن معانيها التدريج، كأن التردد نشأ رويداً رويداً، وشيئاً فشيئاً.

(18/554)


بيعٌ، ولم يُفَصِّلوا، والذي نراه تنزيلُ هذا على ما قدمناه من الإجبار ونفيه، فنقول: القدر الذي يقابل العوضَ لا شك أنه مبيع وما يجري فيه بيع، ومن سمّى هذا القدر قسمة، فهو متجوّز أو غافل، فأما ما لا يقابله العوض المردود، فالوجه [بناؤه] (1) على الإجبار والتراضي، فإن قلنا: يجري الإجبار فيه، ففي ذلك المقدار قولان: الإفراز والبيع مذهباً واحداً، وإن قلنا: لا يجري الإجبار فيما وراء ذلك، ففي القسمة [المفتقرة] (2) إلى التراضي طريقان قدمنا ذكرهما، فليجريا هاهنا. وقد بطل إطلاق القول بالقطع بأن القسمة المشتملة على الرد بيع. وبان أن هذا التفصيل الذي ذكرناه لا بد منه، [ولم] (3) نذكره حتى رأينا في كلام الأئمة ما يدل عليه.
11985 - وكل ما ذكرناه بعدُ ليس على البيان الذي نطلبه، ونحن نختتمه بما يوضح الغرض؛ فنقول: إذا كانت القسمة جبرية، فالسهام تعدّل، والقرعة تعمل، كما سيأتي كيفيةُ القسمة وتمييز الحصص، ولا حاجة إلى لفظ، وإن قلنا: إن القسمة الجبرية بيعٌ، [فكان] (4) لا يمتنع أن يجبر كل واحد، على أن يقول: بعت مالي في نصيبك بمالِك في نصيبي، وهذا لم يشترطه أحد من الأصحاب.
فأما القسمة التي لا إجبار عليها؛ فالتعويل فيها بعد التعديل على التراضي، فإن عُدِّلت السهام، وأُجريت القرعة، وقالوا: رضينا بهذه القسمة، وصدر الرضا منهم قبل التفصُّل والتميُّز، فهذا القدر كافٍ، ولا حاجة إلى إجراء لفظ البيع.
ولو تراضَوْا بحكم القرعة قبل إخراجها، وليست القسمةُ جبريةً، ثم بدا لبعضهم، فرجع، بطل الرضا وفاقاً، ولا جبرَ. وإن استمروا على الرضا حتى خرجت القرعة، ولم يُحدثوا بعد خروجها رضاً، ففي المسألة وجهان: أصحهما - وهو الذي قطع به المراوزة أن ذلك الرضا لا حكم له، ولا بد من إحداث رضا بعد خروج القرعة.
وذكر العراقيون هذا ووجهاً آخر، وهو أنهم إذا استمروا على الرضا حتى خرجت
__________
(1) في الأصل: " بناء ".
(2) في الأصل: " المفترقة ".
(3) في الأصل: "ولا".
(4) في الأصل: "وكان".

(18/555)


القرعة، لزمهم حكمها، كما لو أحدثوا رضاً بعد القرعة.
ثم الذي وجدت في الطرق أنهم إذا أنشؤوا الرضا بعد القرعة، فلا حاجة إلى لفظ البيع، واختلفوا في أنا هل نشترط التلفظ بالقسمة؟ قال قائلون: لا بد من ذلك فليقولوا رضينا بهذه القسمة، أو ليذكروا عبارةً عن مقصود القسمة من التمييز والتفاصل وما أشبههما، ثمّ تشعر القسمة بمعنى البيع؛ من حيث تفيد اختصاص كلٍّ بحصة، وانقطاعَ حقه عن حصص الباقين.
وقال قائلون: لا يشترط لفظ القسمة، بل يكفي أن يقولوا رضينا بهذا، ولا بد من لفظ يدل على الرضا، إذا كان صَدَرُ القسمة على التراضي.
11986 - ثم رتّب الأئمة على أن القسمة بيع أو إفراز مسائلَ من الربويات، تقدمت مشروحة في البيع، ويجمعها: [أن] (1) ما جاز بيع البعض منه بالبعض، فالقسمة جارية فيه، وما امتنع بيع البعض بالبعض، ففي إجراء القسمة فيه قولان مبنيان على أن القسمة بيع، أو إفراز حق، ولا حاجة إلى إعادة تلك المسائل.
11987 - ولو كان نصف الدار مملوكاً ونصفها مُحَبَّساً، فالقسمة فيها مبنية على القولين: إن جعلنا القسمة بيعاً، لم نجوّزه؛ لأن في تجويزها تجويز بيع الموقوف وإن قلنا: القسمةُ إفراز، فهي تجري في الموقوف والمملوك.
وإن كانت الدار بجملتها موقوفة على أقوام، فأرادوا اقتسامها، لم تصح القسمة وإن حكمنا أن القسمة إفراز؛ لأن في إجرائها مخالفةَ شرط الواقف، وقد جرى التحبيس منه على الشيوع، والقسمة تغيّر وضعَ الوقف.
فإن قيل: هذا يتحقق في إجراء القسمة بين المالك والموقوف عليه، قلنا: ذاك التغيير بمثابة تغيير الأملاك إذا كانت شائعة، فأُفرزت، فالإفراز تغيير لها، والمحذور تغيير شرط الواقف من الذين عليهم الوقف. وكان شيخي يقول: أبعد بعض الأصحاب، فأجرى القسمة في الموقوف عند مسيس الحاجة والإشرافِ على الخراب،
__________
(1) تقدير من المحقق على ضوء ما بقي من ظلال وخيال (حرف النون).

(18/556)


فإذا ظهر هذا المعنى ولو تُرك الوقفُ فَوْضَى (1) بين الأرباب، لا نمحق، ونحن قد نجري القسمة لأجل الضرورة، وحيث يقتضي القياس منعَها، وعليه خرّجنا مسائلَ في كتاب الزكاة إذا اجتاحت الثمار جوائح واقتضت قطافاً قبل الأوان، ولو جففت، لما كانت منتفعاً بها، وإخراج العشر فيها قسمة، ونحن قد نجيزها، وإن منعنا قسمة الرطب، فالضرورة في الوقف تنزل هذه المنزلة. وهذا بعيد لا أصل له.
فرع:
11988 - إذا كان بين اثنين لَبِنٌ (2) مشتركة، فإن كانت شُكِّلَت بقاِلب واحد، فقد أجراها القاضي مجرى المتماثلات في إجراء القسمة فيها جبراً، وإن تفاوتت الأشكال، لتفاوت القوالب، صارت كالعروض في قسمة التعديل والنقل، وخرجت عن قسمة الإفراز. وقد تمهدت الأصول.
فصل
في كيفية القسمة
11989 - القسمة في ذوات الأمثال بيّنة، والتعويل فيها على الوزن أو الكيل، فإن وقع التراضي على القسمة وزناً، وكان المقسوم من أموال الربا، وقد ورد التعبد بالكيل في بيع البعض منها بالبعض، فإذا أرادوا القسمة وزناً، خرج هذا على القولين في ماهية القسمة، فإن قلنا: القسمة بيع، فهي ممتنعة، لامتناع بيع البر بالبر وزناً بوزن.
وإن قلنا: القسمة إفراز حق، فهي جائزة؛ فإن الوزن أَحْصر، وهو إلى تحصيل تمييز الأقدار أقرب.
وإن كانت القسمة في الأراضي، فلا بد من المساحة، والتكسيرِ، بطريق الضرب، وإذا اختلفت حصص الشركاء، فكان لواحد النصف، ولواحد الثلث،
__________
(1) فوضى: المراد: مشاعاً.
(2) لَبِن: جمع لبنة. بفتح وكسر.

(18/557)


ولواحد السدس، فالساحة تُقَسَّم أسداساً، وتفرز بالتقدير المساحيّ على هذا الوجه؛ فإن النصيب الأقل لا يتميز إلا كذلك، وقد تمس الحاجة إلى التعديل بالقيمة، وترك اعتدال المقدار المساحي، فإذا تميزت الأقدار، وتعدلت بالقيمة، فالذي نص عليه الشافعي أنا نكتب أسامي الملاّك في الرقاع، وهم ثلاثة في الصورة التي ذكرناها، ثم تخرج الرقاع على الأجزاء المعينة كما سنفصله.
ونصَّ في كتاب العتق على أن المريض إذا أعتق عبيداً لا يملك غيرَهم، واحتجنا إلى رد العتق إلى الثلث، فنكتب رقعة الرق ورقعة الحرية، ولم يذكر كِتْبة أسامي العبيد وأسامي الورثة، وقياس ذلك يقتضي في قسمة الساحة بين الشركاء أن يكتب على الرقاع أعيان الأجزاء المعدّلة، ثم تُخرَج إلى الأسماء؛ فاختلف أصحابنا في المسألة: فمنهم من قال: في المسألتين قولان بالنقل والتخريج: أحدهما - أنه يكتب أسماء العبيد في العتق، وأسماء الشركاء في قسمة الملك المشترك. والثاني - أنه يكتب أسماء الأجزاء هاهنا، والرق والحرية ثَمّ.
ومن أصحابنا من قال: ليمست المسألة على قولين، ولكنا نقر النصين قرارهما، ونفرق فنقول: الوجه كِتْبة الحرية والرق إذا كنا نميز الوصية عن حق الورثة، فإن الحرية حق الله تعالى، وليس من حقوق العبيد، فإنهم لو أسقطوه، لم يسقط، فكانت كِتبة الحرية أولى، والعين المقسومة فى هذه المسألة ملك الشركاء حقيقة، فكِتْبة أسمائهم أولى.
وقد اتفق الأصحاب أن هذا التردد في الأَوْلَى، ومن اختار مسلكاً [لم] (1) يمنع صحةَ الآخر إذا أفضى إلى مقصود التمييز، والتردُّدُ فيما هو الأَوْلَى.
11990 - والتفصيل في الكيفية نبتديه الآن: فإذا كتبنا أسماء المالكين فيما نحن فيه، وهم ثلاثة، فقد اختلف الأصحاب على ما ذكره العراقيون، وصاحب التقريب: فمن أصحابنا من قال: يكتب أسماء الثلاثة في ثلاث رقاع، وإن تفاوتت حصصهم، ومنهم من قال: يكتب اسم صاحب السدس في رقعة، ويكتب اسم صاحب الثلث في
__________
(1) في الأصل: " لما ".

(18/558)


رقعتين، ويكتب اسم صاحب النصف في ثلاث رقاع، قال العراقيون: وهذا أصح؛ فإن من كثر نصيبه، فهو أولى بأن تصيبه القرعة لعظم حظه، وقد يكون له غرض في أن يخرج اسمه أولاً على طرف الدار، فإذا كثرت الرقاع باسمه قرب خروج الرقعة له.
وقال صاحب التقريب: الصحيح الاكتفاء برقعة واحدة في حق كل واحد، ولا معنى لرعاية غرضه في طرف الدار؛ إذ ليس هو بالطرف أولى من صاحب السدس، ولو كان أولى بالطرف لكثرة نصيبه، لكان أولى بما يعيّنه من غير قرعة، والفقه ما ذكره صاحب التقريب.
وقد تأملت كلام الأئمة فاستبنت أن منهم من يجعل هذا الخلاف موضوعاً فيما يجب؛ حتى لو ترك، لم يجز. والعراقيون يثبتون الرقاع على أقدار الأملاك، وصاحب التقريب يختار أن ذلك غير جائز، وكلٌّ [يُفسد] (1) القسمة إذا جرت على خلاف ما اختاره. وفي كلام الشيخ أبي علي ما يدل على تنزيلِ الخلاف على المستحب وتجويزِ الأمرين جميعاً.
فإذا كتبنا أسماء المالكين، فيقول القاسم: أخرجوا على هذا الطرف، ويعين باختيار نفسه طرفاً، وليس ذلك تحكماً، والقرعة مَغيبة، فإن خرجت قرعة صاحب النصف، فله ذلك الجزء والثاني على التوالي، ويكفيه قرعةٌ واحدة، ولو لم نفعل ذلك، وأخرجنا له القرعة في كل سدس، فربما تفرقت أجزاؤه في الأسداس، ويتخلل فيها ملك صاحبيه، وهذا ضرر بيّن، لا غرض فيه للشركاء، فإن خرجت قرعة صاحب السدس، فله الجزء الرابع، ثم لا فائدة من إخراج القرعة الثالثة، بل الخامس والسادس لصاحب الثلث، وإن خرجت أولاً قرعة صاحب السدس، فله الجزء الأول من الطرف المعيّن، ثم يُخرج قرعةً أخرى، فإن خرجت قرعة صاحب الثلث، فله
الثاني والثالث، ثم الباقي لصاحب النصف من غير قرعة.
والغرض أن لا يتفرق ملك من له سهام.
ولو كتبتَ الأجزاء وأخرجْتها باسم المالك، فقد يتطرق إليه [تغرير] (2)، ولكنه
__________
(1) تقدير من المحقق بتوفيق من الله. وقد صدقتنا (ق) فلله الحمد والمنة.
(2) في الأصل: " تعذير ". وكنا قدرناها " تحذير " والمثبت من (ق).

(18/559)


سائغ إذا أفاد المقصود، وسيق على وجهه، والمحذور منه أنك لو قلتَ: أخرج رقعةً باسم صاحب النصف، فلو خرجت رقعةُ القطعة الثالثة، [فالاحتساب] (1) من أي طرف -وتصويره ممكن من وجهين- فلو حسبناها في الشرقي، وفيها الطرف الأول، تواصل النصف، ولو حُسبت في الغربي، لخلّفت جزأين في الشرقي وجزءاً في الغربي، فينبغي أن يقطع هذا الخيار، بأن يشترط أن الحَسْب في الجانب الذي لا تتقطع الأجزاء فيه، فإذا وقع التوافق على هذا، فالحَسْب في الشرقي، ولا يخفى درك أمثال ذلك.
11991 - ثم أطنب الشافعي في تسوية الرقاع ثلاثاً، وذكر أنها تدرج في بنادق من طين، أو شمع حتى تبعدَ عن الاطلاع، وقال: تسوَّى البنادق، وتجفف، وتطرح في حِجْر من لم يشهد تفصيلَ الأمر، حتى يرجع الخروج إلى الوفاق المحض، من غير تخيل قصد في الإخراج، والتسويةُ إنما راعاها؛ لأن البندقة الكبيرة تسبق إلى اليد، وإذا فرض ذلك، تطرق إلى تحكيم اتفاق الخروج خلل، وكان شيخي يقول: لا نمنع إيجاب هذا؛ لما نبّهنا عليه.
ويجوز أن يقال: إن أظهرناها، وقلنا [لمن] (2) يخرجها: لا فرق بين الصغار والكبار، فخذ على وفقاف ما عنّ لك -وهي بارزة- فلا أثر للصغر والكبر، وإن كان يطرحها في الحجر أو الكم، ويخرج ما يقع في يده، فيجوز أن يؤثر التفاوت، وحيث نسلّم تخيّل التفاوت، فاشتراط التسوية بعيد، والأولى عدّ هذا من الاحتياط، لا من الاشتراط.
فصل
قال: " وإذا استُحِقَّ بعضُ المقسوم ... إلى آخره " (3).
11992 - إذا جرت القسمةَ في الصورة على حقها، ثم تبين أن البعض من الملك المشترك مستَحقٌّ، فأحسن ترتيبٍ في هذا الفن للعراقيين، وقد فالوا: إذا استُحِق
__________
(1) في الأصل: " بالاحتساب ".
(2) في الأصل: " لم ".
(3) ر. المختصر: 5/ 245.

(18/560)


شيء، فلا يخلو إما أن استحق عينٌ معيّنة في يد واحد من الشركاء بعد التفاصل، وكانت الشركة موضوعةً على التعديل والنقل، كما قدمنا تصويرها. أو استُحِق جزء مشاع مما في أيديهم، وكذلك يقع الاستحقاق في البعض إذا جرت القسمة في صنف واحد، غيرِ مشتمل على أشخاص متميزة.
فإن استحق معين في حصة إنسان، أو استُحِق جميع حصته، فيبين لنا بطلان القسمة في حق الجميع؛ فتعاد القسمة بعد رد المستحَق.
ثم قالوا في هذه الصورة: لو كانت القسمة قد جرت بين شريكين في أعيانٍ، فاستُحِق من يد أحدهما عين، واستُحِق من يد الآخر عين أيضاً، وهما متساويتان في القيمة، فلا تنقص القسمة في بقية ما في أيديهما؛ فإنهما استويا فيما استُحق وبقي، وهذا متجه حسن.
وفي بعض الطرق ما يدل على بطلان القسمة في البقية، ووجهه بيّن أيضاً؛ فإن القسمة لم تنشأ على البقية أولاً، وقد تغير وضعها بالاستحقاق، فلا يمتنع الحكم ببطلانها.
ولو كان الاستحقاقُ في جزءٍ شائع قبل أن يقتسما أرضاً قدّراها نصفين بينهما، ثم بان أن الثلث من الأرض مستَحَق لغيرهما، فلا شك في بطلان القسمة في المستَحَق، وهل تبطل في الباقي ليعاد بين الشركاء، أو يبقى نصيبُ كل واحد من الأَوّلَيْن منفصلاً عن نصيب الثاني، وللمستَحِق في كلِّ نصيبٍ شَركةٌ؟ ذكر العراقيون في ذلك قولين، وخرجوهما على تفريق الصفقة.
ومن هذا التصرف يظهر ما ذكرناه في استحقاق عينين متساويتين من يدي الشريكين.
هذا تفصيل الاستحقاق بعد القسمة.
11993 - ولو قسم الورثةُ التركةَ، ثم ظهر دين على الميت، أو وصيةٌ مطلقةٌ بعينٍ، قال العراقيون: إن قلنا: إن القسمة إفرازُ حقٍّ، فتصحُّ بشرط أن يقضوا الديون أو يُوفّوا الوصيةَ المستحقة. وإن قلنا: إن القسمة بيعٌ، ففي صحة القسمة قولان

(18/561)


مبنيان على أن الورثة لو باعوا التركة، وقد تعلق بها دين، فهل يصح بيعهم؟ فعلى قولين: أحدهما - لا يصح أصلاً، كما لا يصح بيع المرهون. والثاني - يصح إن قَضَوْا الدين من مال آخر. وهذا يبتني على تردد الأصحاب في أن تعلق الدين بالتركة هل يمنع الميراث أم لا؟ إن قلنا: يمنع، فالقسمة مردودة، والبيع باطل، وإن قلنا: لا يمنع الإرثَ فتعلقه كتعلق الدين بالمرهون، أو كتعلق الأرش برقبة الجاني. وفيه قولان: فإن قلنا: هو كتعلق الدين بالرهن، فالقسمة مردودة، والبيع باطل، وإن قلنا: هو كتعلق الأرش، ففي بيع العبد الجاني قولان. هذا [قولنا في] (1) البيع.
وما ذكره العراقيون من تصحيح القسمة على قول الإفراز قولاً واحداً ليسوا مساعَدين عليه؛ فإن الإفراز تصرفٌ في متعلَّق الدين، فيظهر إفساده كالبيع، ولما ذكرناه التفاتٌ [عندي] (2) على أصلٍ، وهو أن المفلس لو تصرف في الأموال التي اطرد الحجر عليها، فنقطع ببطلان تصرفه، [أم نقفه] (2) قائلين: إن سقطت الديون، فقد نفذ التصرف، وإن بقيت، ومست الحاجة إلى تأديتها [من] (3) الأعيان أُدِّيت [منها] (4).
فالوارث كالمحجور عليه المفلس، والمال كمال المحجور، والدين محصور.
وإذا صححنا بيعَ العبد الجاني، فلم يؤدّ السيدُ الأرشَ، نُقض بيعه، فقد انتظم في التركة الفسادُ، [للقسمة] (5)، والصحةُ مع التعرض للنقض لو لم يؤدوا الدين، والوقف، حتى إن أَدَّوْا، تبيّنا الصحةَ، وإن لم يؤدوا، تبيّنا الفسادَ، وعدمَ الانعقاد، ثم إذا فُرضت القسمةُ مع الجهل، ثم بَدَا الدين، فالأمر على ما ذكرناه، ولو أنشأ القسمة على علمٍ، لم يختلف الحكم، وترتبت الأقوال [نازعةً] (6) إلى الأصول التي قدّمناها.
__________
(1) ما بين المعقفين تقدير من المحقق على ضوء السياق.
(2) المثبت من (ق) مكان كلمة لم يبق منها أثر يدلّ عليها.
(3) مكان كلمة ذهبت تماماً وانمحى أثرها. والمثبت من (ق).
(4) في الأصل: " فيها ".
(5) اختيار من المحقق بناء على السياق.
(6) في الأصل: " نازفة ".

(18/562)


فصل
11994 - إذا قُسم ملك مشترك بين الشركاء، ثم ادعى بعضهم أن القاسم غلط في التعديل وتحيّف عليه، فهل يقبل ذلك؟ نُظر: فإن كانت القسمة قسمة إجبار، [واتصلت] (1) بالحاكم، ونَصَبَ القاضي فيها قاسماً، أو قاسمين، ثم ادعى شريكٌ نقصاناً من حقه، [لم يُقْبل] (2) قوله فيه، وهو كما لو ادعى المحكوم عليه على القاضي أنه ظلمني، وقضى عليّ مبطلاً، فلا يقبل قوله، إلا أن يقيم بيّنة عادلة على ما يدعيه من الغلط على القاسم، فيقبل حينئذ.
ولو لم تكن بينة، فدعواه على القاسم مردودة، ولو رام تحليفه لم يبالَ به، ولم يحلّف القاسم، كما لا يحلّف القاضي، والشاهد. هذا إذا كانت القسمة قسمةَ إجبار.
فأما إذا كانت القسمة بحيث لا يجري فيها إجبارٌ، ولكن الشريكين نصبا قاسماً، وقسم عن رضاً منهما، ثم ادعى أحدهما حَيْفاً، قال العراقيون: إذا رضي الشريكان بابتداء القسمة، ثم رضيا بعد خروج القرعة رضاً جديداً، ثم ادعى أحدهما أنه قد نقص من حقه، فلا تُسمع دعواه، ولا تقبل بينتهُ؛ فإن أقصى ما فيه أن يكون منقوص النصيب، فإذا رضي لم ينفعه بعد ذلك شيء، وهو كالذي يشتري شيئاً [بما] (3) يحسبه ثمن المثل، ثم يتبيّن كونَه مغبوناً.
هذا إذا أنشأ الرضا بعد خروج القرعة، فأما إذا رضيا بالقسمة عند إنشائها -وقلنا: يعتبر الرضا بعد خروج القرعة- ولم يجْر رضاً في آخر الأمر، فلا حكم لما جرى، والقسمة لم تثبت بعدُ، ومن أراد الرجوع، فله الرجوع، وإن لم يكن حيف، فما الظن إذا كان حيفٌ.
__________
(1) المثبت مما أفادتنا به (ق).
(2) تقدير من المحقق.
(3) في الأصل: " فيمن ".

(18/563)


وإن قلنا: لا يعتبر الرضا بعد القرعة والتعيين، فإذا رضيا بالقسمة ابتداء، ثم ادعى أحدهم حيفاً بعد القرعة، فالوا: سبيل هذه الدعوى كسبيل دعوة الغلط في قسمة الإجبار. هذا ترتيبهم.
وفيه نظر.
أما قولهم: إذا تراضيا بعد القسمة، فلا رجوع إن كان محتملاً، فلا يجب أن يكون مقطوعاً به؛ فإن الرضا كان على تقدير التعديل والاستواء؛ فإذا بان خلاف ذلك، ظهر الحكم بفساد القسمة، فكأن الرضا مقيدٌ بشرط الاعتدال، وهذا كتقديرنا تقيُّدَ البيع بشرط السلامة. وهذا متجه.
وما ذكروه في آخر الترتيب من أنا إذا لم نشترط إعادة الرضا آخراً، واكتفينا بالرضا الأول، فالقاسم يصير كالحاكم في قسمة الإجبار، فهذا أيضاً فيه نظر؛ فإن قاسم القاضي مولّىً أو شاهداً، والذي ينصبه الشريكان ليس في هذا المعنى، والمسألة محتملة.
ولو لم ينصبا قاسماً أصلاً، ولكنهما اقتسما بينهما من غير قاسم، فلا بد في هذه الصورة من الرضا بعد القسمة؛ إذ لا متوسِّط بينهما، حتى يكون قَسْمه مستنداً لرضاهما. هذا هو الظاهر. وفيه احتمال على تقدير القسمة المنشأة مرضيّاً بها؛ فإنه لو توسطهما قاسم، فالتعويل على قسمته لا على عينه.
11995 - ومما يليق بتمام البيان في ذلك أنهما لو تفاضلا، وعلما تفاوتاً في القسمة، وتراضيا به على علم، فالذي يقتضيه كلام الأصحاب لزوم هذا، وفيه غائلة.
والوجه أن نقول: إن قلنا: إن القسمة إفراز، فلا تصح القسمة إلا مع التعديل، وإن قلنا: القسمة بيع، فإذ ذاك يجوز أن تَلْزمَ بالرضا مع العلم، ثم يتضح عندي اشتراط لفظ البيع هاهنا؛ فإنا إنما نقيم لفظ القسمة مقام لفظ البيع إذا جرت حقيقةُ القسمة، وحقيقتُها التعادل، وهذا لطيفٌ حسن.
11996 - ومما يتعلق بهذا الفصل أن الشريكين إذا تناكرا فادعى أحدهما القسمة،

(18/564)


وأنكرها الثاني، فإن لم يكن متعلَّق بقاسم من جهة القاضي، فالقول قول النافي. وإن تعلقت بقاسم القاضي، فالرجوع إلى قول القاسم؛ فإنه حاكم، أو شاهد.
فإذا ادعى الغلط على القاسم من جهة القاضي، ولم يجد بينة، فقد ذكرنا أن دعواه لا تسمع على القاسم، فلو قال: أحلّف شريكي؛ فإنه عالم بأنى منحوسُ [الحظ] (1)، فله تحليفه، فإن حلف، انقطعت الخصومة، وإن نكل، رد اليمين على المدعي، فإذا حلف يمين الرد، نُقضت القسمة، وأعيدت من الرأس.
وإن ادعى على جمعٍ من الشركاء، فحلف بعضهم، ونكل بعضهم، قال الأئمة: تُرد اليمين بسبب نكول الناكلين، فإذا حلف، انتقضت القسمة في حق الناكلين. قال صاحب التقريب: إذا قلنا: يمين الرد كالبينة، فقد قال بعض الأصحاب: تنتقض القسمة في حق الكلّ: من حلف، ومن نكل، كما لو أقام بينة.
وهذا سخيف، لا أصل له، فإن يمين الرد إنما يكون بينة في حق الناكل فحسب، فأما من حلف، فقد درأ يمينَ الرد عن نفسه، وهذا الوجه نقله صاحب التقريب، وبالغ في تزييفه، ولولا نقلُه لما ذكرناه.
فصل
11997 - إذا كان في أيدي طائفة ملكٌ مشترك، فجاءوا إلى القاضي، والتمسوا منه أن ينصب قاسماً ليقسم الدار بينهم، فهل يجيبهم القاضي؟ إن كان ثبت ملكهم عند القاضي بطريق من الطرق، أجابهم، وإن لم يثبت ملكهم، فهل ينصب قاسماً؟ فعلى قولين: أحدهما - لا ينصبه؛ فإنه لم يتحقق عنده ملكهم، فالإقدام على القَسْم -وقد يكون الملك لغيرهم- تصرّفٌ قبل ثبوت موجِبه، ولو قسم بينهم، فربما يتعلقون به، ويعدُّونه حجةً في ثبوت الملك، وهم مبطلون. ولا حاجة إلى هذا، فإن القاضي يوضح: إني قسمتُ باستدعائهم، ولم يثبت عندي ملكُهم.
والتعويل في توجيه هذا القول على ما قدمناه من أن القَسْم تصرفٌ، لم يثبت موجِبه.
__________
(1) في الأصل: " الحق ". والمثبت من لفظ الغزالي في البسيط. والحظ هنا بمعنى النصيب.

(18/565)


والقول الثاني -وهو الأصح- أنه يجيبهم إلى القسمة، ولا حاجة إلى إثبات الملك فيما هذا سبيله، بدليل من [أدخل] (1) إنساناً داره، أو أضاف القاضي، فكل ذلك جائز، وما زال الأتقياء الأبرار يعتادون مثل هذا، يأخذون الأمر على ظاهر اليد، وإن لم تقم عندهم حجج بالأملاك، ولا نعرف خلافاً أن من باع داراً في يده، وأشهد على البيع القاضيَ، أثبت القاضي إقراره، ولم يطالبه بتثبيت ملكه قبل البيع.
وما ذكرناه من طلب القسمة فيه إذا جاءوا طالبين عن تراض منهم، فإذا جاء واحد مطالباً، وامتنع عليه [أصحابه] (2) ففي المسألة طريقان: أحدهما - أنه يجيب في هذه الحالة لقطع الخصومة، والطريقة الثانية - طَرْدُ القولين، وليس ينقدح عندي للامتناع عن القسمة وجهٌ. نعم، يجب القطع بجواز القسمة، كما استشهدنا به في جواز دخول الدار، فأما وجوب القسمة، ولم يثبت بعدُ عند القاضي ملكٌ، فهذا فيه تردد، من جهة أن لوجوب يجوز أن يستدعي موجِباً، فأما الجواز، فيكتفي بظاهر الحال.
فصل
11998 - إذا تعذّرت القسمةُ في الملك المشترَك، فأقرب مسلك في الانتفاع المهايأة، فإن وقع التراضي عليها، فذاك، ثم هي مياومةٌ، أو مسانهةٌ، أو مشاهرةٌ، أو مسابعة، على ما يقع التوافق عليه، ولا إجبار على المهايأة في ظاهر المذهب.
وذهب ابنُ سريج إلى الإجبار عليها؛ فإن قسمة الرقبة إذا تعذرت، فلو لم تجب المهايأة، لتعطلت المنافع، ومعتمد أهل المذهب أن المهايأة فيها تعجيلُ حق أحد الشريكين، وتأخير حق الثاني، بخلاف قسمة (3) الرقاب، فإن الحصص تنفصل دفعةً
__________
(1) هكذا قدرناها على ضوء ما بقي من حرف اللام في آخر اللفظة. وعبارة الغزالي في البسيط تشهد لنا، حيث قال: " فيجوز القسمة باستدعائهم، كما يجوز للقاضي أن يدخل عليهم ضيفاً، ويأكل من طعامهم بقولهم " ا. هـ (ر. البسيط: جزء 6/ورقة: 116 ش) ثم جاءتنا (ق) موافقة لما قدرناه.
(2) كذا قرأناها على ضوء ما بقي من ظلال الحروف. وأيدتنا (ق).
(3) في الأصل: " قيمة " والمثبت تصرف من المحقق. وقد صدقتنا (وَ).

(18/566)


واحدة، فإن قلنا: لا تلزم المهايأة بالدعاء إليها، فلو جرت، فما مضى من النُّوَب لا تتبُّع لها.
وإن كان الشركاء في ابتداء النوبة، فاستوفى واحد نوبة، فهل يجب إدارة هذه النوبة على الباقين حتى يستووا؟ فعلى وجهين، أقيسهما أنه لا يجب؛ فإن الوجوب لو ثبت، لكان مأخوذاً من تقابل المنافع بمعاوضة، أو طريقة مقرِّبة من المعاوضة، وهذا ممتنع في المنافع، فالوجه أن يغرَمَ هذا المستوفي حصص أصحابه من المنفعة، إذا امتنعوا عن الاستمرار على المهايأة.
والوجه الثاني - أنه يجب إجراءُ نوبةٍ دارّة عليهم، ثم هم على خِيَرتهم بعدها، وهذا اختيار القاضي، ووجهه عندنا أنها لو جرت، فلا تتبع، فلا تخرج على مذهب التقاصّ، بل يرى ما جرى معاملة سديدة، عمل بها من مضى وبقي، فإذا استوفى واحد نوبة، وجب بحكم ذلك طردها إلى الآخِر.
وإذا قلنا: لا إجبار على المهايأة، وقد تمانع الشركاء [نَكَداً] (1)، فأي شيء نفعل والحالة هذه؟ في المسألة وجهان: أحدهما - أنه لا يُتعرض لهم، ونترك الأملاك متعطِّلةً إلى أن يصطلحوا. والثاني - يباع الملك، ويقسم الثمن بينهم، وهذا لا أصل له، فلا أعدّه من المذهب، وإنما هو مذهبُ بعض السلف، ثم هذا إنما يجري إذا أداموا النزاع والمطالب، فإن تركوا، تركناهم.
...
__________
(1) في الأصل: " بكذا ".

(18/567)


باب ما على القاضي في الخصوم والشهود
قال الشافعي: "وينبغي للقاضي أن ينصف بين الخصمين في المدخل عليه للحكم ... إلى آخره" (1).
11999 - قال الأئمة: من تولى القضاء، فينبغي أن ينتجز الكتب (2) من الإمام، أو من والي الإقليم، ثم تثبت ولايته في الناحية التي [رشح لها بالاستفاضة] (3)، وهذا القدر كافٍ عند المحققين، والمشاهَد فيه سِيَرُ الأولين، والدليل الخاص فيه من جهة المعنى أن المُولِّي ذو الأمر، وليس للرَّعايا مطالبةٌ حتى يناط بحُججٍ خاصة، وأيضاً
فاعتبار الحُجج عسر؛ فإنها لو ثبتت، فمن يقيمها، وعند من تقام؟
ثم قال قائلون: مجردُ الكتاب كافٍ، وهو يعتضد عند استمرار الإمرة، وامتداد اليد الباطشة، واشتهار أمور الولاية في مكانها بأن ذلك لا يجترىء عليه ذو عقل، وهو مع هذا معتضد برسل رسول الله صلى الله عليه وسلم وولاته، فما كانوا يستصحبون إلا كتبَ الرسول، حتى اشتهرت قصة ذلك المتخرص الذي أتى قوماً، وزعم أنه [رسول] (4) رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأكرَموه، وبَرّوه، ثم وفدوا على رسول الله عليه السلام، وأخبروه، فلعنه، وقال: " إذا رجعتم إليه، فاقتلوه، وما أراكم تدركونه " (5). فرجعوا وألْفَوْه حُمَمَه، وكانت أدركته صاعقة فاحترق، ووجه التعلق بالقصة أن الرسول عليه السلام لم ينكر عليهم، ولم يأمرهم باستظهارٍ في المستقبل، وعدّ ما جرى من التخرص نادرةً لعن بها صاحبها.
__________
(1) ر. المختصر: 2/ 245.
(2) كذا. والمراد كتاب التولية.
(3) في الأصل: "وشح لها الاستفاضة".
(4) في الأصل: " الرسول ".
(5) حديث الرجل الذي ادعى أنّه رسولُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم سبق تخريجه.

(18/568)


والذي يجب ضبطه في هذا -بعد التأصيل- أن من صدر عن الحضرة العليا لولاية عظيمةٍ في ناحية متسعة الخِطة، فمثل هذا يستفيض الخبرُ عنه، فالاستفاضة كافية، وحكى العراقيون هذا واعتمدوه، ووجهاً آخر أنه لا بد من عدلين يُشيعان في أهل الناحية صَدَرَ [الولاية من الإمام] (1)، ثم ليسا شاهدين، ولكنهما مُسمعان، يُشيعان، عددُهما عددُ الشهود، لتعلق الأمر بما يخصّ الناسَ، ويعمهم، فكان شبيهاً بالشهادة من هذا الوجه، وإن لم يكنها في الاختصاص بمجلسٍ والتزام لفظ الشهادة، وهذا يناظر ما سيأتي في معنى التسامع في الأنساب، وهذا [معنى] (2) الاستفاضة.
فإن جرى مثلُ هذا، ولم يستفض الخبر، والأليق بالحال الاستفاضة، فإذا ورد، ففي هذه الحالة نظر آخر، يجوز أن يقال: لا بد من الاستفاضة بناء على قطبٍ في الأصول، وهو أن الأمور العظيمة إذا جرت، فلا بد أن تشيع، فأقلُّ المراتب أن يُورِّثَ ذلك تردداً وخبلاً.
ومن أصحابنا من اكتفى بكتاب [الوالي] (3) وهو عندي مشروط بظهور مخايل الصدق، وهو بيّن في خطوط الكتاب المشهورين وانشراح [الصدر] (3) به، فإن الخَوّان في مثل هذا على وفازٍ (4) من أمره.
وقال قائلون: لا بد من شاهدين في هذا المقام، وهذا لا بأس به، والمراد بالشاهدين عدلان يُشيعان.
وإذا استخلف القاضي حاكماً في قرية، فقد لا يستفيض مثل هذا، فلا تُشترط الاستفاضة، بل ينقدح فيه الكتاب أو شاهدان.
وينبغي للذي يَقْدَم (5) أن يقدّم [كِتْبته] (6) إلى محل الولاية، ويتعرف عن أحوال
__________
(1) في الأصل: "صدر الوالي". والزيادة والتعديل من المحقق.
(2) في الأصل: " مع ".
(3) مكان كلمة انمحت تماماً في نسخة الأصل.
(4) وفاز: أي عجلة وقلق وعدم اطمئنان.
(5) قدم البلدة يقدَم من باب تعب. (المصباح).
(6) الكتبة والكتاب بمعنىً، ويطلقان على المكتوب. (المصباح). وهي في الأصل: كتبه. والمثبت تصرف من المحقق.

(18/569)


العدول والمزكين، وأركان القضاء، ويكتب إليهم: استعدوا، ويكون هذا من أسباب الاستفاضة، حتى لا يكون مَقدمه فجأة، إذ لو فاجأهم، وتفاوض الناس بالتشبيب بالتكذيب، سمُجَ الأمر، وانكسرت السَّوْرة (1).
12000 - وإذا دخل البلد وتصدى للقضاء، فينبغي أن يبداً بالتعرف عن أحوال المحبوسين، لا يقدّم على ذلك شغلاً، والسبب فيه أن الحبس عذاب، وإدامة العذاب على أقوام من غير تثبتٍ، لا سبيل إليه، وليس هذا من تعقب أحكام القاضي الأول.
وقد ذكرنا أنه لا يتعقبها إلا أن تُرفع إليه، والنظر في حال المحبوسين ليس من ذلك، فإن الحبس كما ذكرناه عذاب ناجز مستمر، وقد يكون المحبوس مظلوماً، وقد يكون في المحبوسين من حبس تأديباً، وفيما مضى من الحبس كفاية، وتقديم ما ذكرناه حتمٌ وليس من الآداب، حتى قال الأصحاب: لا ينبغي أن ينظر في خصومةٍ تُرفع إلى مجلسه ما لم يفرّغ قلبه من هذا الفن.
ثم يُحضر المحبوسين، فمن أقر منهم أنه محبوس بحق، ردّه إلى السجن، ومن ادعى أنه حبُس ظلماً، فالوجه أن يقول: من خصمك؟ فإذا ذكره، أحضره، وسأله، وأمره بأن يبتدىء الدعوى، وإقامة البينة، على ما لا يكاد يخفى ترتيب الخصومة. وإن قال: قد حَبَسه القاضي المصروف، فكان ذلك حكماً منه؛ وحكمه لا ينقض، قيل له (2): أَثْبِتْ حُكمَه بما تَثْبُتُ به أحكام القضاة. أما صورة الحبس ليس (3) حكماً، فإذا عجز الخصم عن إثبات حقٍّ يوجب الحبس، أطلقنا المحبوس، ولا تطويل بجعل هذا ابتداء خصومة.
12001 - قال القاضي رضي الله عنه: من قال من المحبوسين: حبست ظلماً، أطلقناه، وهذا الكلام حق، ولكنه خشن (4)، فالمعني بالإطلاق أن يخرج من
__________
(1) السَّورة: القوّة، والحدّة، والبطشة. (المصباح).
(2) قيل له: أي خصم المحبوس.
(3) جواب أما بدون الفاء.
(4) كذا. ولا أدري لها وجهاً. اللهم إلا إذا كانت على معنى مجازي. وفي (ق): " حسن ". لكن كيف تتفق مع الاستدراك؟ والله أعلم.

(18/570)


الحبس، ولكن لا يخلى سبيله حتى يحضر خصمه، وفي كلام القاضي ما يدل على أنه يخلّى سبيله، ولا يتشبث به، ولست أنكر اتجاه هذا في القياس؛ فإن التشبث به من الحبس، فإن ادعى مدّعٍ استعدى عليه. فإنا لا ندري أن ذلك القاضي حبسه بالحق أم لا، وحبس القضاة منقسم إلى حقٍّ، وظلم، وأدب، وحملٍ على تأدية حق، فيحصل مما بسطناه أن ما صار إليه الجماهير التشبث به إلى التفحص، من غير أن يرد إلى الحبس. والذي ذكره القاضي أنه يطلق، ثم خصمه يتبعه ويستعدي عليه.
فإن فرّعنا على ما عليه الجماهير، قلنا: لو وجدنا محبوساً لا يعرف له خصماً، فكيف السبيل فيه؟ قال الأصحاب: يأمر القاضي من ينادي باسمه، ويقول: فلان بنُ فلانٍ محبوسٌ، فمن خصمه؟ فإن لم يظهر له خصم، أطلقه، إذا كان يقول: حبست بالظلم، أو كان يقول: لا أدري لم حُبست، ولا أعرف على نفسي حقاً يوجب حبسي.
ثم قال الأصحاب: ينادي عليه إلى حد الإشاعة؛ فإن النفوس تتشوف إلى الطلب إن كان طالب، ثم ذكر الأصحاب أياماً. ولا يطاف به، وإنما يذكر اسمه على حد التعريف، وهو في ذلك لا يحبس ولا يخلَّى، بل يُنصب من يراقبه، ثم يطلق. وهل نأخذ منه كفيلاً ببدنه احتياطاً؟ ذكر صاحب التقريب فيه وجهين: أحدهما - أن عليه إعطاء كفيل، فإن امتنع، رددناه إلى الحبس، والثاني - ليس عليه ذلك، وهو الصحيح الذي قطع به الأئمة.
ولو كان خصمه غائباً، وزعم المحبوس أنه مظلوم، ولو انتظرنا مطالبة الغائب، لطالت المدة، والمراقبةُ أخت الحبس، فهل يطلق والحالة هذه؟ ذكر بعض المصنفين في ذلك وجهين: أحدهما - أنه لا يطلق، بل يكتب إلى الموضع الذي به الخصم، حتى يحرص [على] (1) إظهار حجته، فإن قصّر، أطلقناه. والثاني - أنه يطلق على الفور.
وإذا قلنا: لا يطلق، عنينا به أنه يراقب، فأما الرد إلى الحبس، وإدامة العذاب، فلا سبيل إليه.
وقد يرى الإنسان في مجموعات الأصحاب عبارات موهمة، ولكن ليثق بما
__________
(1) في الأصل: " في ".

(18/571)


ذكرناه؛ فإنا لا نورد -إن شاء الله- في هذا المجموع إلا ما نتثبت فيه، ونرتبه على نَخْل كلام الأصحاب، وحذف المجازات.
12002 - فإذا انتجز نظره في ذلك تأمل أحوال الأمناء المنصوبين من جهة القاضي المصروف؛ ونظر فيهم، وفيما في أيديهم، فإن أمكنه في أثناء ذلك أن يفصل خصومة جديدة -من غير أن يتطرق إلى نظره فيما ذكرناه خللٌ- فليفعل، وإلا فالبداية بأحوال المحبوسين، وبعدها بأموال الأطقال في أيدي القُوّام والأوصياء الذين صدَرُهم عن القاضي. وإن استخلف حيث يجوز الاستخلاف في فصل الخصومات الجديدة وتعاطى بنفسه ما ذكرناه من المُهمَّيْن فجائز.
12003 - ثم اندفع الشافعي في بيان كيفية إدخال الخصمين ورعاية الإنصاف بينهما، فنقول: لا يأذن لأحدهما دون الآخر؛ فإن ذلك يكسر قلب المحجوب، ويُغَلِّب على ظنه الميلَ إلى خصمه، وإذا دخلا عليه، وسلّما، ردّ جواب سلاميهما، وإن سلّم أحدهما، فقد أفرط بعض الأصحاب، وقال: لا يردّ جوابه، بل يسكت؛ بناء على أنه وضع السلام في غير موضعه؛ فإن القاضي في شغل شاغل، ولا ينبغي أن يُسلَّم عليه وهو كذلك.
هذا وجه.
وإن أراد قال لخصمه: سلّم، ثم يرد جواب سلاميهما، وهذا عندي سرفٌ، وإن ذكره القاضي، فإنَّ رد جواب السلام محمولٌ على ابتداء أحدهما بالسلام، وهذا مما لا يخفى ولا يُظهر ميلاً.
ثم يسوّي بينهما في المجلس ولا يرفع أحدَهما على الثاني، وإن كانا متفاضلين إذا كانا مسلمين، أو ذميين، فإن كان أحدهما مسلماً والآخر ذمياً، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أن يسوّي بينهما لما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " يا علي سوّ بين الخصمين في مجلسك ولَحْظك " ويروى " آس بين الخصمين " (1). هذا أحد الوجهين.
__________
(1) حديث " يا علي سوَّ بين الخصمين في مجلسك ولحظك " ويروى " آس بين الخصمين ".=

(18/572)


والوجه الثاني - أنه يرفع المسلم على الذمي؛ فإنه لو سوّى بينهما، كان ذلك نوعَ مهانة واستذلال، وروي أن علياً كانت له خصومة مع ذمِّي، فرفعه إلى شريح، فلما دخل عليه، قام له شريح، فقال رضي الله عنه: " هذا أول جَوْرك "، ثم أسند عليٌّ ظهره إلى الجدار، وقال: " أما أن خصمي لو كان مسلماً، لجلست بجنبه " (1).
ويسوّي القاضي بينهما في النظر، فلا يخصص أحدهما بالنظر، بل يُطرق، ولا ينظر، أو ينظر إليهما، ولا يتبسم في وجه واحد، ويتعبّس في وجه الآخر، ويجتنب على الجملة ما يشعر بتخصيصه أحدَ الخصمين بمكرمة، أو إقبال.
12004 - ثم إذا جلسا إليه، فلا بأس أن يقول: من الطالب منكما، أو من المدعي؟ فإذا ادعى المدعي، وصحّت دعواه، على ما سيأتي تصحيحُ الدعوى في كتابها، إن شاء الله، ثم هل يطلب الجواب من الخصم من غير أن يطلبه المدعي؟ فيه وجهان: أصحهما - أنه يطلب؛ فإن قرينة الحال قاطعة بأن المدعي مطالِب بالجواب،
__________
= الحديث بهذا اللفظ في مخاطبة الإمام علي رضي الله عنه لم نصل إليه، وإنما وجدناه في ذلك قوله رضي الله عنه " نهى النبي أن نضيف الخصم إلا وخصمه معه " رواه عبد الرزاق في مصنفه (15291) وإسحاق بن راهويه في مسنده (إتحاف الخيرة المهرة: 6730) والطبراني في الأوسط (3934) والبيهقي في الكبرى (10/ 137). أما اللفظ الذي ذكره الإمام فقد ورد في كتاب عمر إلى أبي موسى الأشعري المشهور، وفيه "وآس بين الناس في وجهك ومجلسك وعدلك" رواه الدارقطني (4/ 206، 207) والبيهقي (10/ 135) وفي المعرفة (7/ 366 رقم 5873). وفي حديث أم سلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من ابتلي بالقضاء بين المسلمين فليسوِّ بينهم في النظر والمجلس والإشارة" وفي رواية " فليعدل في لحظه وإشارته ومقعده " رواه الدارقطني 4/ 205، وأبو يعلى (5867) و (6924) والطبراني في الكبير (23/ 284).
(1) أثر علي من وجه آخر وفيه عمر بن شمر عن جابر الجعفي وهما ضعيفان، وقال ابن الصلاح في مشكل الوسيط: لم أجد له إسناداً يثبت. ا. هـ ملخصاً من التلخيص الحبير (ر. البيهقي: 10/ 136، التلخيص: 4/ 355 ح2610، مشكل الوسيط لابن الصلاح، بهامش الوسيط (7/ 313).ي رضي الله عنه رواه أبو أحمد الحاكم في الكنى في ترجمة أبي سمير عن الأعمش عن إبراهيم التيمي وقال: منكر، وأورده ابن الجوزي في العلل من هذا الوجه وقال: لا يصح، ورواه البيهق

(18/573)


ولا معنى للتطويل ومعاودة المدعي. والثاني - أنه لا يطلب الجواب ما لم يلتمس المدعي؛ فإن هذا حق المدعي، فلا يطلب دونه طلبه، ثم إذا طلب الجواب، فلا يخلو المدعى عليه أن يقرّ أو ينكر، فإن أقر، ثبت الحق إذا كان الإقرار صحيحاً، ولا حاجة بأن يقول القاضي: قضيت بإقراره - على المذهب الأصح.
وقال بعض أصحابنا: الإقرار كالبيّنة المعدَّلة، وهذا ليس بشيء؛ فإن وراء التعديل وقفات، وتوقُّع رَيْب، فلا بد من قطعها بإظهار القضاء.
وإن أنكر المدعى عليه، فالأصح أن القاضي يقول للمدعي ألك بيّنة؟ ومن أصحابنا من قال: لا يقول ذلك، فإنه من باب تلقين الحجة، وهذا ليس بشيء؛ فإن المدعي قد لا يعرف ترتيب الخصومة، ويتحيّر عن دَهَشٍ، ففي السكوت عنه إبطال حقه.
فلو قال المدعي: لا بيّنة لي حاضرة، ثم أقام بعد ذلك بيّنة، سُمعت وفاقاً. فإن قال: لا بيّنة لي، لا غائبة، ولا حاضرة، ثم أقام بينة، فهل تسمع منه؟ فعلى وجهين مشهورين: أحدهما - لا تسمع، تمسكاً بقوله، والثاني - أنها تسمع؛ فإنه قد لا يعلم أن له بينة، ولو قال: لا بيّنة لي، فهو كما لو قال: لا بينة لي حاضرة، ولا غائبة، مع تخيل ترتيب. ولو سكت المدعى عليه- فإن كان عن عيٍّ وحصر، روجع، وإن أصر، كان ذلك كالإنكار، وسيعود هذا في كتاب الدعوى إن شاء الله.
12005 - ثم قال الشافعي: " ولا ينبغي أن يُضيّفَ الخصم ... إلى آخره " (1).
قرىء يُضيف بضم الياء، وقرىء يَضيف بفتحها، ومعناه لا ينزل على الخصم ضيفاً، وقد ذكرنا هذا في الولائم، وبالجملة يجتنب من هذا ما يجر تهمة، أو يظهر ميلاً إلى خصم.
__________
(1) ر. المختصر: 5/ 245.

(18/574)


فصل
قال: " ولا يقبل هدية ... إلى آخره " (1).
12006 - المستحب للقاضي أن يسد باب قبول الهدايا جملة، لما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعمل رجلاً في الصدقات يقال له: ابن اللُّتْبية، فرجع بسواد كثير، فكان يُخرج البعضَ، ويقول: هذا للمسلمين، ويُخرج البعضَ ويقول: هذا لي أُهدي إليّ، فخطب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " ما بال أقوام نستعملهم على بعض ما ولاّنا الله تعالى، فيرجع الراجع بمالٍ، ويقول: هذا لي أهدي إلي، وهذا للمسلمين، هلاّ جلس في خفش أمه، ينظر هل يهدى إليه أم لا " (2) والخفش البيت الصغير.
وقصة عمر في رِجْل الجزور معروفة (3).
ثم قال الأصحاب: ينظر إلى المُهدي، فإن كانت له خصومة، فلا يحلّ قبول الهدية منه، وعلى هذا يحمل قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " هدايا الأمراء سحت " (4) فإن قبل، فالذي ذهب إليه الأكثرون أنه لا يملكه، وهذا معنى التحريم، ومن أصحابنا من قال: يملكه؛ فإن الهبة صدرت من مطلق، وكذلك القبول، والتحريم محمول على التعرض لللهمة بالأمر الظاهر، فالمِلْك بالإضافة إلى التحريم كالصلاة في الدار المغصوبة.
وهذا الخلاف يقرب من تردد الأصحاب في أن من دخل عليه وقت الصلاة في
__________
(1) السابق نفسه.
(2) حديث ابن اللتبية وقول الرسول صلى الله عليه وسلم " ما بال أقوام نستعملهم ... " متفق عليه (البخاري: الأيمان والنذور، باب كيف كانت يمين النبي صلى الله عليه وسلم، ح 6636، مسلم: الإمارة، باب تحريم هدايا العمال، ح1832) هذا، وفي كل ما رأيناه من روايات الحديث "بيت أمه" مكان " خفش أمه ".
(3) قصة عمر مع الرجل الذي أهداه فخذ جزور رواها البيهقي في سننه الكبرى: 10/ 138.
(4) حديث "هدايا العمال سحت" قال الحافظ في التلخيص: رواه الخطيب في تلخيص المتشابه من حديث أنس (ر. التلخيص الحبير: 4/ 349 ح2590).

(18/575)


السفر ومعه من الماء ما يكفيه لوضوئه، فوهبه ممن لا يحتاج إليه لسقيه، فهل يملكه؟ وقد قدمنا ذكر ذلك في كتاب الطهارة.
وإن لم يكن للمهدي خصومة، فلا يخلو: إما أن يكون من بلد ولايته، وإما ألا يكون من ولايته، فإن لم يكن من ولايته نظر: إن كان يهدي إليه قبل أن ولي؟ فقبول الهدية قريب، إذا (1) اجتمع عدم الخصومة، وأنه ليس من ولايته واعتاد الإهداء قديماً، والمستحب الامتناع، وإذا قبل، مَلَك، وإن كان لا يُهدي إليه من قبلُ ولا خصومة، وليس هو من ولايته، فيكره القبول، وإذا قبل، مَلَك. والأَوْلى أن يُثيب، فإن لم يفعل وضع الهدية في بيت المال، وإن كان من بلد ولايته، وكان يهدي قديماً، فلا كراهية، والمستحب الامتناع.
ولا يخفى ما بعده، وإن كان لا يهدي قديماً، وهو من أهل ولايته، ولا خصومة له، اشتدت الكراهية، والذي عليه الجريان أنه لو قبل، مَلَك.
وقال القفال في بعض طرقه: إذا حرمنا قبول الهدية، وهو إذا كانت مع الخصومة، فلا يحصل الملك بالقبول. وإذا لم يكن خصومة- ولكن كان الرجل من أهل ولايته وما كان يعتاد الإهداء، ففي حصول الملك وجهان. هكذا قال، وإذا أجرى الوجهين قال على أحدهما: يحرم قبول الهدية لا محالة.
والطريقة المشهورة للأصحاب أن الهدية إذا لم تكن في حالة الخصومة، فهي متملكة، ولا يطلق إلا الكراهية. وإن كانت في حالة الخصومة، قطعنا بالتحريم.
وفي حصول الملك وجهان.
فصل
قال: " وإذا حضر مسافرون ومقيمون ... إلى آخره " (2)
12007 - إذا ازدحم على مجلسه مسافرون ومقيمون، فإن قلّ المسافرون وهم على
__________
(1) إذا: بمعنى إذ.
(2) ر. المختصر: 5/ 245.

(18/576)


وِفاز، وربما ينقطعون عن الرفاق لو أُخروا، فالأصح أن القاضي لو أراد تقديم المسافرين، ورآه رأياً، فله ذلك.
وكذلك إذا حضرت النساء مع الرجال وخفّ أمرهن، بحيث لا يظهر من تقديمهن أثر وضرر، فللقاضي أن يقدمهن حتى ينقضي انكشافهن، ويتميّزن عن الرجال.
فإن كثر المسافرون والنساء، وكان معظم الضرر على الرجال وأهل الحضر، فلا تقديم، والأمر مردود إلى القرعة إن استَووْا، وإن سبق بعضهم، فالسبق لمن سبق، وليس له بحق السبق أو القرعة أن يدّعي على خصم، ثم بعده على آخر، وإنما يستفيد بهذا خصومة واحدة مع شخص واحد.
ولو أراد أن يدعي على خصم واحد دعويين أو ثلاثة قال القاضي: يحتمل ذلك وجهين، ومنشؤهما من تردد في كلام الشافعي واختلافٍ في كيفية قرائته. قال: " لا يسمع منه في مجلس إلا في حكم واحد " قراً بعضهم إلا في حكمٍ واحد مع التنوين، وموجَب هذا ألا يزيد على خصومة واحدة، وإن اتحد المدعى عليه كما لو تعدد المدعى عليه، وهذا هو القياس، ومنهم من قراً إلا في حكمِ واحدٍ على الإضافة من غير تنوين، ولا يبعد أن يفهم منه فصل خصومات مع شخص واحد. هذا بعيد. ثم لا مزيد على الثلاث.
وهذا فتح باب لا أصل له، فالوجه ألا يزاد على خصومة واحدة بحق السبق والقرعة.
ومن أصحابنا من يقول: لا يقدَّم مسافر ولا امرأة، وليس إلا اتباع السبق أو القرعة.
وإذا استبق طلبة العلم، نُظر: فإن كان ذلك العلم مما لا يجب تعليمه، فالخيار إلى المعلم، وإن كان مما يجب تعليمه الناس فلو خصص به أقواماً فيهم غُنية، فهل يجوز له ذلك؟ فعلى وجهين، والأولى المنع من التخصيص؛ فإنه لا يدري من المفلح ومن المتخرج، فليقصد التعميم وإن كان لا يتأتى الجمع في التعلق، فإن أقدار الطلبة يوجب أن يخصصوا بما يليق بمناصبهم، فعند ذلك يقع السبق أو القرعة.

(18/577)


12008 - ثم قال: " ينبغي للإمام أن يجعل مع رزق القاضي شيئاً لقراطيسه "، والمراد بذلك أن تهيأ للحُجج التي يخلدها في ديوان القضاء قراطيسُ، فإن لم يفعل، فالقاضي لا يخرجها، ولكن يقول للخصم: إن أردت أن يتأكد حقك، فائْت بقرطاس أُثبت ما ثبت عندي لك عليه، وأتذكر إذا رجعتُ إليه، فإن لم تُرد، فلا عليك.
12009 - ثم أعاد الشافعي فصلاً من القضاء على الغائب. وقد مضى مفصلاً على أحسن مساق، والذي نجدده ههنا أنا ذكرنا أن من توارى وامتنع، نفذ القضاء عليه نفوذَه على الغائب، وقد ذكر القاضي هذا وارتضاه. وذكر معه وجهاً آخر أن القضاء لا ينفذ عليه ما لم يحضر مجلس الحكم، ثم قال: وهذا الاختلاف يضاهي اختلافَ الأصحاب في أن الممتنع عن أداء الثمن مع القدرة، هل يكون كالمفلس المحجور عليه حتى يرجعَ البائع في عين المبيع إن وجده، ويفسخَ العقد؟ فيه وجهان. ولذلك نظائر.
ولو كان الخصم مريضاً، فالوجه أن يستخلِف من يحضُره (1) ويقضي عليه.
12010 - فأما المخدّرة، فنتكلم في وصفها، ثم في حكمها، فأما وصفها: قال (2) قائلون من الأصحاب: هي التي لا تعتاد التبذل بالخروج للحوائج، وإن كانت تخرج إلى العزايا والزيارات، فهذا لا ينتهى إلى التبذل، ولا يناقض التخدير.
قال القاضي: الذي عندي أن المخدَّرة هي التي لا تخرج لحوائجها، ولا تخرج للزيارة والعزايا على اعتيادٍ، فلو خرجت على تردُّدٍ، لم يبطل تخديرها.
والمخدَّرة عندنا هي التي لا تخرج إلا لضرورة، هذا وصفها. فأما حكمها؛ فقال قائلون: يحضُرها المستخلَف أو القاضي بنفسه، ولا يكلفُها حضورَ مجلس القضاء. فإن التبرج إذا لم يكن من عادتها يُلحق بها ضرراً عظيماً يزيد على ما يَلحق المريض لو تكلف الحضور.
__________
(1) أي يستخلف القاضىِ نائباً عه يذهب إلى المريض حيث هو، فيسمع منه، ويسأله على حسب ترتيب الدعوى، فيكون حضور نائب القاضي ومستخلَفه عنده كحضوره هو إلى القاضي.
(2) جواب أما بدون الفاء.

(18/578)


وسنذكر في الشهادة على الشهادة التقريبَ المعتبرَ في المرض الذي يتخلف شاهد الأصل بسببه عن مجلس الحكم، إن شاء الله.
وقد ذهب الشيخ الققال إلى أن المخدَّرة تحضر مجلس الحكم كالبَرْزة، فإنها إذا كانت محمولة على هذا المعنى، لم يقدح خروجها في تخدُّرها، وإنما يخالف حالَها اختيارُ البروز في غير حاجة، وهذا متجه في القياس، وإن كان معظم الأصحاب على مخالفته.
12011 - ولو كان المدعى عليه غائباً على مسافة العدوى، استعدى عليه الحاكم إذا طلب خصمُه، كما مضى، ولو كان على مسافة القصر، لم يكلفه الحضور بمجرد دعوى المدعي، ولو كان على مسافة قاصرةٍ عن مسافة القصر زائدةٍ على مسافة العدوى، فظاهر المذهب أنه لا يستحضره بمجرد الدعوى، ما لم يُقم الخصم بينة.
ومن أصحابنا من قال: يُحضره بمجرد الدعوى، وهذا لم أذكره فيما سبق، فأعدته لهذا. والله أعلم.
فرع:
12012 - إذا سبق إلى مجلس الحاكم رجلان، فابتدر أحدهما وادعى، فقال الثاني: بادرتَ بالدعوى، وكنت أنا المدعي، فالقاضي يقول له: اخرج عن عهدة الدعوى، ثم ادّع، ولو أنشآ دعويين معاً؛ فقد ذكر صاحب التقريب في ذلك مذاهب، حكاها عن العلماء، ولم يعزُها إلى الأصحاب فقال: منهم من قال: من كان له بيّنة منهما، فهو المدَّعي، ومنهم من قال: يقدِّم القاضي من شاء منهما، ومنهم من قال: يطردهما، حتى يتوافقا على من يبدأ بالدعوى، أو يسبق أحدهما في مجلس آخر، ومنهم من قال: يُقرع بينهما.
قال العراقيون: مذهبنا أنه يقرع بينهما، والأمر عندنا على ما ذكروه، فلا يستدّ على قياسنا إلا الإقراع، وما سواه من المذاهب متروكةٌ على القائلين بها، غيرُ معدودة من المذهب إلا ما حكاه العراقيون.
***

(18/579)


ثم قال: " وإذا علم من رجل بإقراره أو بيقين أنه شهد بزورٍ ... إلى آخره " (1).
12013 - إذا ظهر للقاضي أن رجلاً شهد بزور، وتبين أنه اعتمد الكذب، ولم يكن ما جاء به عن عثرةٍ، ابتدره وعزّره على ما تقدمت مراتب التعزير، ثم ينبغي أن يبعثه إلى مجتمع الناس، كالمسجد الجامع وغيره، حتى يُنادَى عليه ويشاعَ عنه ما فعل، ويُحذر الناس من تحميله الشهادة.
فصل
قال المزني: " واختلف قوله في الخصم يقر عند القاضي ... إلى آخره " (2).
12014 - مضمون الفصل الكلامُ في أن القاضي هل يقضي بعلمه؟ وفيه قولان للشافعي: أحدهما - أنه يقضي، قال في الرسالة: " وأقضي بعلمي، وهو أقوى من شاهدين، وبشاهدين، أو شاهدٍ وامرأتين، وهو أقوى من شاهد ويمين، وبشاهد ويمين، وهو أقوى من النكول ورد اليمين ".
ووجه [هذا] (3) القول أن القاضي إذا كان يسند قضاءه إلى ظنون يستفيدها من قول الشهود، أو يمين المدعي، فلأن يُسندَه إلى يقين نفسه أولى.
والقول الثاني - أنه لا يقضي بعلمه؛ لأن ذلك فتحُ بابٍ لتطرق التهم إلى القضاة، ولا يليق بقاعدة الإيالة فتحُ ذلك، فإن القاضي إذا قضى بعلمه، ولم يكن ممن يراجِع أو يستفصل، أوْغر ذلك الصدور [وأبهم] (4) الأمور، والتعرض لمثل ذلك محذور.
وقال الربيع: كان الشافعي يرى القضاء بالعلم، وكان لا يبوح به لقضاة السوء.
ثم إذا جوزنا له أن يقضى بعلمه، [فنعني] (5) بذلك ما يستيقنه لا ما يظنه، وإن
__________
(1) ر. المختصر: 5/ 246.
(2) ر. المختصر: 5/ 246.
(3) زيادة اقتضاها السياق. ثم جاءت بها (ق).
(4) في الأصل: "أوهم".
(5) في الأصل: "فتعين".

(18/580)


غلب ظنه؛ فإن للظنون مآخذَ لا تسند إلى غيرها ثم لا فرق بين أن يعلم في مكان ولايته وزمانها، وبين العلم الذي يحصل له في غير مكان الولاية وزمانها، خلافاً لأبي حنيفة (1) رضي الله عنه، فإنه جوّز أن يقضي بعلمٍ يستفيده في مكان الولاية وزمانها دون غيره. والذي ذهب إليه معظم الأصحاب أن القاضي يقضي بعلمه قولاً واحداً في تعديل الشهود، [كما] (2) قدمناه في فصل التزكية.
وأبعد بعض الأصحاب، وقال: لا يفعل ذلك، بل يُسند الأمرَ إلى تزكية المزكين قياساً على غيره، وهذا القائل يقول: تعديله لا يستند إلى علم. فإذا كنا نمنع القضاء بما يستيقنه، كيف يجوزالحكم بما يظنه؟
ولم يختلف علماؤنا في أن القاضي يمتنع عن القضاء بناءً على علمه (3). وبيانه أنه إذا شهد شاهدان على زوجيّةٍ، وعلم القاضي أن بين المدعي بها وبين المرأة محرمية، فلا يبالي بشهادة الشهود. وكذا إذا شهد شهود على موت إنسان بتأريخ ذكروه، وعلم القاضي أنه كان حياً في ذلك الزمان، فلا يقضي بشهادة الشهود؛ فإنه إذا كان يتوقف في القضاء لريبة تلحق الشهود، فكيف يستجيز القضاء بها، وهو يستيقن الكذب عمداً منهم أو خطأ.
ثم قال الأئمة: إذا امتنع، فحسنٌ أن يذكر ما عنده، وذلك أنفى للتهم.
ثم اختلف طرق أئمتنا: فالذي ذهب إليه الأكثرون ترتيبٌ نسوقه. وذلك أنهم قالوا: القولان في القضاء بالعلم فيما يتعلق بالأموال، وألحقوا بذلك الأموالَ الثابتة لله كالزكوات، والقضاءُ بالعلم في العقوبات مرتب على الأموال، والأولى أن لا يقضي فيها بالعلم.
ثم العقوبات تنقسم: فمنها ما هو لله، ومنها ما هو للآدميّ. والقضاء بما هو للآدمي أولى، ولا يخفى وجه الترتيب، فإن العقوبة الثابتة للآدمي بالإقرار لا تسقط بالرجوع، بخلاف العقوبة الواجبة لله تعالى. هذه طريقة.
__________
(1) ر. مختصر الطحاوي: 332، بدائع الصنائع: 7/ 7، حاشية ابن عابدين: 5/ 23.
(2) زيادة من (ق).
(3) الامتناع عن القضاء بناءً على علمه محل اتفاق، وإنما الخلاف هو في الحُكم بناء على علمه.

(18/581)


ومن أصحابنا من لم ير الترتيب، لأن العلم لا ترتب فيه. وإنما تترتب الظنون على حسب ترتب درجات المظنون. وهذا وإن كان متجهاً، فالطريقة المشهورة الترتيب.
12015 - ومن تمام القول في ذلك أن القاضي إذا سمع إقرار إنسان سرّاً، ثم إنه أبدى الإنكار جهراً، فهذا من صور القضاء بالعلم، ولو أقر في مجلس القضاء على رؤوس الأشهاد، فلا شك أنه يقضى بالإقرار، قولاً واحداً؛ فإن الإقرار في مجلس القضاء حجةٌ ظاهرة.
وذكر بعض أصحابنا أن الإقرار الذي سمعه سراً يقضى به قولاً واحداً؛ لأنه حجة، وجملةُ مجالس القاضي بمثابة [مجلسه] (1) الذي يتصدى فيه للقضاء. وهذا بعيد، فالوجه التفصيل، فإنا إذا منعنا من القضاء بالعلم، فسببه توقِّي اللهم، وهذا يتحقق في الإقرار الجاري سراً.
ومن تمام البيان في ذلك أنا إذا منعنا القضاء بالعلم، فهل يصير علم القاضي مع شاهد واحد بمثابة شاهد ينضم إلى شاهد؟ فعلى وجهين ذكرهما القاضي وغيره: أحدهما - أنه لا ينحط علمه عن شاهد.
والثاني - وهو القياس- أنه لا أثر لعلمه، ولا اعتداد بعلمه؛ إذ لو اعتددنا به، لاقتصرنا عليه، وأيضاً؛ فإن اللهمة هي المجتنبة، وهي تظهر عند القضاء بالشاهد الواحد.
فصل
في التحكيم
12016 - إذا حكّم رجلان رجلاً، فهل ينفذ حكمُه بينهما في الأموال؟ فيه قولان، والنكاح مرتب عليه؛ وهو أولى بألا يجوز، والعقوبات مرتبة على النكاح؛ ولا يخفى وجه ترتيبه.
واختلف الأصحاب في محل القولين: فمنهم من قال: إذا كان في البلد قاض، لم
__________
(1) في الأصل: "مجلس".

(18/582)


يجز التحكيم قولاً واحداً، وإن لم يكن، ففي المسألة قولان. وقال آخرون: إن لم يكن في البلد قاض، جاز التحكيم قولاً واحداً، وإن كان في البلد قاض، ففي المسألة قولان. ومن أصحابنا من طرد القولين في الموضعين.
والكلام في حقيقة هذا الفصل قد يتصل طرف منه بما لا يسوغ الخوض فيه، وهو إذا شغر الزمان عن إمام، فكيف الوجه في الأحكام المتعلقة بالولاة؟ ولا يليق ذكر ذلك بفن الفقه. وقد استقصينا ما فيه مَقْنع في الكتاب المترجم (بالغياثي) (1).
12017 - ثم يُشترط أن يكون المحكَّم ممن تقبل فتواه، ويضم إلى ذلك اشتراط حريته وذكورته، والقول الوجيز فيه أنا نشنرط أن يكون [بحيث] (2) يسوغ من صاحب الأمر أن ينصبه قاضياً.
ثم لا بد في تحكيمه من رضا الخصمين، ونزولهما جميعاً على حكمه، فلو تعلّق [الحكم] (3) بثالث لم يصدر منه الرضا والتحكيم، فحكم المحكّم لا ينفذ عليه، ثم إذا رضي الخصماًن بحكمه ابتداء، فأنشأه، فهل نشترط استفتاح رضىً بعد الحكم؟ فعلى وجهين ذكرهما العراقيون: أحدهما - أنه لا بد من ذلك، وبه يحصل الالتزام التام، ولو رضيا، ثم رجع أحدهما قبل أن يتم حكمه، لم ينفذ حكمه وفاقاً، وإنما الخلاف فيه إذا استمرا على الرضا حتى حكم، ولم يجددا رضاً. هذا هو المذهب.
ومن أصحابنا من قال: إذا رضيا أولاً، ثم لما خاض، رجع أحدهما، لم يؤثِّر رجوعُه، ونفذ الحكم، وهذا بعيد. ولو رضيا، ثم رجع أحدهما قبل أن ينشىء الخوضَ، فلا وجه إلا إبطالُ الحكم، وفيه شيء، ولا تخفى المراتب الثلاث التي أشرنا إليها، فليرتب الناظر البعض منها على البعض.
12018 - ولو تحاكم رجلان في دعوى قتل خطأ، فأقام المدعي بينة على دعواه،
__________
(1) راجع كلام الإمام حيث يشير، فإنه كلام نفيس معجب، تجده في الفقرات من 551 إلى 563 من (الغياثي) وكان من فضل الله علينا أن أعاننا على تحقيقه وإخراجه في صورة بهيّة نالت إعجاب شيوخنا وأساتذتنا، فالحمد لله أولاً وآخراً.
(2) زيادة اقتضاها السياق. ثم وجدناها في (ق).
(3) في الأصل: " الحاكم ".

(18/583)


وحكم المحكّم، فقد ذكر صاحب التقريب وجهين في أن الدية هل تضرب على عاقلة المدعى عليه، والوجه عندي ألا تُضربَ عليهم؛ فإنه لم يوجد منهم الرضا بحكم المحكّم. ولو أقر المدعى عليه، لم تتحمل العاقلة ما أقرّ به، ما لم يصدّقوه، ثم المحكّم لا يهيء -على المذهب الظاهر- حَبْساً؛ فإنه إن فعل ذلك، فقد ضاهى القاضي؛ وليس إليه إلا إثبات الحكم فحسب. وأبعد بعض الأصحاب، فجوّز ما منعناه. وكان شيخي يقول: ليس إليه استيفاء العقوبات، وإنما إليه إثباتها؛ فإن إقامتها استقلالٌ عظيم وخرمٌ لأبهة الولاية. والصحيح عندنا ما ذكره، والعلم عند الله تعالى.
فصل
قال: " وأحب للإمام إذا ولّى القضاء رجلاً ... إلى آخره " (1).
12019 - الإمام إذا كان يولّي رجلاً القضاء، فينبغي أن يتخير من يصلح له، ويستجمع الشرائط المرعية، وهي: أن يكون مفتياً حراً ذكراً، ولم نذكر المجتهد؛ فإن الفاسق مجتهد، واجتهاده نافذ عليه فيما عليه وله، ولكن لا تقبل فتواه، والكلام في صفات الاجتهاد يطلب في الأصول، والذي أراه أن يضم إلى ما ذكرناه الكفايةُ اللائقة بالقضاء، وهي عبارة عن التشمير والاستقلال بالأمر، ومواتاةِ النفس على الجد فيما إليه، وهذا يضاهي من صفات الإمام النجدةَ.
وهل يجوز أن يكون القاضي أمياً؟ فيه اختلاف ذكره العراقيون وقد أشرت إليه فيما تقدم.
12020 - ثم قال الشافعي: " إذا ولّى الإمام رجلاً القضاء، فالأولى أن يوليَه الاستخلاف، فإن الحاجة تمَسّ إليه في عوائقَ تطرأ ومرضاةٍ تعرض " (2). فإن نهاه عن الاستخلاف، لم يستخلف، ولم يخالف، ولو أطلق توليته، ولم يتعرض
__________
(1) ر. المختصر: 5/ 246.
(2) هذا معنى كلام الشافعي، وليس لفظه ومنطوقه.

(18/584)


للاستخلاف إذناً فيه، ولا نهياً عنه، ففي المسألة ثلاثة أوجه: أحدها - أنه لا يستخلف؛ فإنه لم يفوض إليه الاستخلاف.
والثاني - أنه يستخلف؛ فإنه والٍ، وليس مستناباً، وهذا متجه لولا الوفاق على أنه إذا نُهي لم يستخلف.
والوجه الثالث -ذكره الإصطخري- وهو أن خِطة الولاية لو اتسعت بحيث لا يتأتى منه الاستقلالُ فيها بنفسه، فله الاستخلاف؛ فإن مطلقَ توليتِه في مثل هذه الخِطة يُشعر بذلك، وإن كان مستقلاً بما [فُوِّض] (1) إليه لم يستخلف، وقد ذكرنا لهذا نظيراً في توكيل الوكيل.
ثم حيث يَستخلِف، إن أقام غيره مقام نفسه من التصدي لأركان القضاء، فيُشترط في خليفته من الاجتهاد [وغيره] (2) ما يُشترط فيه، وإن كان يستخلف في آحاد الأركان، فقد لا يُشترط الاجتهاد، بل يكتفى بالاستقلال بذلك الركن المفوض إليه، وهذا كاستخلافه من يحضر موضعاً [لتعيين الشهود بذلك] (3) الموضع، أو كنصبه حاكماً في التزكية، أو ما جرى هذا المجرى، والاجتهاد إنما يشترط فيمن يستقل بالحكم والإمضاء، وكان شيخي يجوّز قصور حكام النواحي عن الاجتهاد إذا لم يفوض إليهم إمضاءَ الحكم، وإنما فوّض إليهم سماعَ البيّنات، وهذا يُحْوِج إلى حظ صالح من الفقه.
فصل
في العزل وما يوجب الانعزال
12021 - إذا أراد الإمام أن يعزل قاضياً -مع صلاحه للقضاء- فإن رابه منه أمر، نفذ العزل -وإن لم يتحققه- إذا حصل الظن الغالب.
__________
(1) في الأصل: " فرض ".
(2) في الأصل: " وتخيره ".
(3) في الأصل: " لتعين الشهود ". والمثبت من عبارة الغزالي في البسيط، ونصها: " وإن فوّض إليه تعيين الشهود أو التزكية أو شغلاً معيناً من هذا الجنس فلا يشترط إلا هداية ذلك الفن ".

(18/585)


وإن لم يظن به إلا الخير، فقد قال الأصحاب: إن عزله بمن هو فوقه، نفذ العزل، وإن عزله بمن هو دونه في الصلاح للأمر، لم ينفذ العزل في ظاهر المذهب، وإن عزله بمن هو في مستواه، فعلى وجهين، هكذا رتبه القاضي.
وإطلاق هذا الكلام على هذا النسق غفلة عما يُرعى في هذا الباب.
فنقول أولاً: حقٌّ على الإمام ألا يُصدر شيئاً من أمور المسلمين إلا عن رأي ثاقب، ونظر في المصالح، وتأكُّدُ هذا المعنى على قدر الخطر فيما يأتي ويذر، فينبغي أن يوفي كلَّ شيء حظَّه من النظر، وهذا يطَّرد في العزل والتولية، فإن عزل شخصاً [بمن] (1) هو دونه لمصلحةٍ، وهي أن يرى الأصلح أولى لشغلٍ أهمَّ مما هو فيه، فهذا ينفذ، ويجب القطع به، ولا يسوغ تقدير خلافٍ فيه. وإن فُرض منه عزلٌ مطلق، فلا اعتراض عليه، إذا كان يتطرق إليه إمكان النظر، ولا يجوز أن يكون فيه خلاف.
وإن رددنا الكلام إليه في نفسه، وقلنا: يصدر عزلُه والياً عن نظرٍ، فهل ينفذ ذلك؟ فهذا مما تردد فيه بعض الناس المنتمين إلى الأصول. والذي أقطع به أنه ينفذ. ولكن يتعرض صاحب الأمر بترك الأصلح لخطر المأثم، ولو لم نقل هذا، لرددنا حكم من ولاّه ثانياً، وهذا يجر خبلاً عظيماً، ولست ألتزم الخوض فيه؛ فإنه من غمرات أحكام الإمامة.
ولو عزل القاضي نفسه، انعزل، وهذا يتعلق أيضاً بطرفٍ عظيم من الإمامة، وخلعِ الإمام نفسَه، فلا نتعرض له، ونكتفي بالقدر الذي ذكرناه.
12022 - فأما القول فيما ينعزل به القاضي، فأجمعُ كلامٍ فيه أن نقول: كل طارىء عليه يمنع من ابتداء التولية فإنه يوجب انقطاع التصرف بالولاية، كنسيانٍ يطرأ، ويُخل بالاجتهاد، أو الجنون، وهذا لو فرض في الإمام لم نخض فيه أيضاً، وفي فسق الإمام كلام مُخْطِر. فأما فسق القاضي، فيوجب صرفَه، وهل ينعزل بنفسه؟ قطع فقهاؤنا المعتبرون بانعزاله من غير حاجة إلى إنشاء عزل، وقال بعض الأصوليين من علمائنا: لا ينعزل، بل يُعزل، وينفذ من أحكامه ما يوافق الشرع.
__________
(1) في الأصل: " ممن ".

(18/586)


ثم إذا جُنّ القاضي، ثم استبلّ، فهل هو على القضاء؟ فيه اختلاف مشهور بين الفقهاء: منهم من قال: قد انعزل بالجنون، كالوكيل يجن، ومنهم من قال: إذا استبلّ، فهو على ما كان عليه؛ فإنه متصدٍّ للولاية؛ فلا يقاس بالاستنابة الضعيفة.
والوجه الحكم بالانعزال؛ لأن تلك الولاية جائزة من جهة أنه يملك عزل نفسه.
والإمام -على الرأي الظاهر- يعزله أيضاً.
12023 - ولو عزل الإمامُ القاضي؛ ففي انعزاله قبل بلوغ الخبر طريقان للأصحاب: منهم من قال: فيه قولان كالقولين في انعزال الوكيل قبل بلوغه خبر العزل. ومنهم من قال: لا ينعزل القاضي قبل بلوغ الخبر، قولاً واحداً؛ فإن الأمر في ذلك مُخطر، وتتبّع الأحكام التي أمضاها عسر، والأولى بالإمام أن يعلّق انعزاله ببلوغ الخبر، فيقول في كتابه: " إذا وقفتَ على كتابي، فأنت معزول ". ولو قال: " إذا قرأت كتابي، فأنت معزول " فلم يقرأه بنفسه، وقرىء عليه، قال الصيدلاني: ينعزل، وجهاً واحداً.
وقد ذكرنا في مسائل الطلاق تفصيلاً في ذلك، فرامَ الفرق بينهما؛ صائراً إلى أن تفاصيلَ الصفات مرعيةٌ في تعليق الطلاق، فإن ذكرنا خلافاً في صورةٍ، فسببه هذا، وأمر العزل يُرعى فيه الإعلامُ، ولا يردّد على دقائق الصفات، فإنّ قَصْدَ الإمام هذا، والقصد أغلب من صيغة اللفظ. ولو راعى الإمام غير الإعلام في ذلك، لكان في مقام العابث. هذا كلامُه، وهو حسن، ولكن اتفق الأصحاب على التسوية بين هذا وبين الطلاق في الخلاف والوفاق.
12024 - ومما يتصل بهذا الفن أن القاضي إذا عُزل، أو انعزل، أو مات، وله مستخلفون، فكل من كان في أمرٍ جزئي لا يستقل، كمن يُصغي إلى شهادةٍ في خصومة معينة، فإنه ينعزل، ومن كان في أمر مستقل كمستخلَف بحكمٍ، أو قيّم في مال طفل، فحاصل ما ذكره الأصحاب في انعزال هؤلاء ثلاثة أوجه:
أحدها - أنهم ينعزلون؛ فإنهم فروع من ولاّهم.
والثاني - لا ينعزلون، فإنهم ولاة بأنفسهم.

(18/587)


والثالث - أن القاضي لو استخلفهم بالإذن، لم ينعزلوا، وكأنهم منصوبون من جهة الإمام، والقاضي واسطة في توليتهم.
وإن ملّكنا القاضيَ الاستخلافَ من غير إذنٍ صريح فيه، فإذا انعزل، انعزل مستخلَفوه؛ فصلنهم تفرعوا عليه حقاً في هذه الصورة.
وهذا التفصيل تخييل؛ فإنّا إذا ملّكناه الاستخلاف فصَدَرُه عن الإمام أيضاً.
ولو مات الإمام، فالذي ذهب إليه معظم الأصحاب القطع بأنه لا ينعزل ولاتُه، بخلاف خلفاء القاضي، فإنا لو حكمنا بانعزالهم، لتفاقم الأمر وعظُم الخطب (1)، وشغَرَت الخِطة عن أحكام الحكام إلى أن يظهر إمامٌ، وتوليةٌ من جهته.
ومن الفقهاء من طرد الخلاف في ولاة الإمام، وهذا بعيد.
12025 - ومما يليق بهذا المنتهى أن القاضي إذا عُزل، فلو قال: قد كنت قضيت لفلان، لم يُقبل قوله، كالوكيل إذا انعزل، ثم أقر بتصرفٍ قَبْل الانعزال، فقوله مردود، ولو قال القاضي في زمان الولاية: قد قضيت لفلانٍ مُخبراً، فقوله مقبول، كالوكيل يقر في زمان الوكالة، ولا يُحوَج القاضي إلى إثبات ما أخبر عنه ببيّنة -وإن منعنا القضاء بالعلم- وهذا متفق عليه؛ ولو أُحْوج إلى البينة، فعند من يقيمها؟!
ولو شهد عدلان على قضاء القاضي بعد العزل: ثبت قضاؤه بالبينة، ولو شهد شاهد واحد، وانتصب القاضي المعزول شاهداً ثانياً على قضاء نفسه؛ فالذي ذهب إليه الأصحاب أن قوله مردود، وقال الأصطخري- فيما حكاه العراقيون: شهاته على قضاء نفسه مقبولة كشهادة المرضعة، فإنها تشهد على إرضاع نفسها، فتقبل شهاتها.
فإن جرينا على ما هو المذهب، ورددنا شهاته [مع شاهدٍ] (2)، فقال: أشهد أنه قضى لفلان قاضٍ عدل ولم يسمّه، ففي قبول الشهادة على هذا الوجه وجهان- ذكرهما العراقيون: أحدهما - أن ذلك ممتنع؛ فإن الظاهر أنه يعني نفسه ويشبّب بها [والثاني -
__________
(1) بين السطور إشارة إلى أنه في نسخة أخرى: الخطر بدلاً من الخطب.
(2) تقدير من المحقق على ضوء السياق بمساعدة ما بقي من خيالات الحروف. ونحمد الله فقد صدقتنا (ق).

(18/588)


يقبل؛ كما لو] (1) شهد عدلان -لم يقضيا قط- على قضاء قاضٍ، من غيرتسمية وتعيين، فظاهر المذهب قبول ذلك.
فرع:
12026 - إذا ولّى الإمام رجلاً القضاءَ، وعزل من كان قبله، فجاء إلى مجلس القاضي [رجل] (2) وادعى أنه ارتشى منه، فالجديدُ يُعدي على المعزول، ويفصل الخصومةَ بينهما. فأما إذا ادّعى أنه ترك الصواب في خصومة، وقضى بشهادة عبدين، أو مُعْلِنين بالفسق، فهل يقبل القاضي الجديد هذه الدعوى؟ ذكر العراقيون وجهين: أحدهما - أنه لا يقبل، ولا يستحضر المعزول لذلك.
وهذا ليس بشيء، والوجه القطع باستحضاره، والبحثُ عن حقيقة الحال، ثم إذا أحضره، ولم يُقِم المدعي بيّنةً، فقال: حلّف لي هذا القاضي، فهل يحلّفه؟ ذكروا فيه وجهين أيضاً؛ فإن أقصى درجات المعزول أن يكون مؤتمناً، والمؤتمن يحلّف.
والثاني - لا يحلَّف، فإنه ليس يدعي عليه مالاً، وقد ذكر صاحب التقربب هذا الخلاف، وزاد، فقال: من أصحابنا من قال: الدعوى مسموعة على الإطلاق، ثم فرّع المذهب كما مضى. ومنهم من قال: لا تسمع الدعوى حتى يقول: أخذ مني المال ظلماً. والقول في ذلك [تمهد.
ثم قد ذكرنا] (3) الرجوعَ عن الشهادة، وأنهم يُغرّمون إذا رجعوا، والقاضي إذا رجع هل يُغرّم؟ وسيأتي هذا في كتاب الشهادات، إن شاء الله.
فصل
قال: " وكل ما حكم به لنفسه ... إلى آخره " (4).
12027 - سيأتي أن شهادة الإنسان لولده مردودة، فقال الأصحاب: قضاؤه له بمثابة شهاته له.
__________
(1) مكان كلمات انمحت تماماً، وقدرناها على ضوء السياق. وهي مطموسة في (ق).
(2) اختيار من المحقق مكان كلمة ذهبت تماماً. ثم صدقتنا نسخة (ق).
(3) في الأصل: " والقول في ذلك تم بذكرنا الرجوع عن الشهادة " والمثبت من تصرّف المحقق.
ثم جاءت (ق) بمثل عبارة الأصل.
(4) ر. المختصر: 5/ 246.

(18/589)


والأصح تفصيل ذلك، فنقول: قضاؤه له بعلمه مردود -وإن جوّزنا القضاء بالعلم - قياساً على الشهادة، فأما إذا قضى له ببيّنة، ففيه وجهان، وقضاء القاضي على عدوه كشهادته على عدوه، فالوجه عندنا الفصل بين القضاء بالعلم والقضاء بالبيّنة، على الترتيب الذي ذكرناه.
ولو منعنا قضاء القاضي لولده، فلو سمع البيّنة له، وفوّض القضاء إلى غيره، ففي
المسألة وجهان. هكذا رتّبه الأصحاب.
والوجه عندي أن يقال: لا ينفذ تعديلُه البيّنةَ فيما يتعلق بولده، وكذلك إذا كان هو الناقل، فلا مساغ له وإن نقل الشهادة شاهدان عدلان عن الشاهدين الأصليين.
فرع:
12028 - ذكر صاحب التقريب في أثناء كلامه أن القاضي الصارف إذا كان يحاسب الأمناء والأوصياء، فذكر بعضهم أن القاضي [المصروف] (1) فرض له أجراً من المال، فإن أقام على ذلك بيّنة، وكان ذلك قدرَ أجر مثله، وفّاه القاضي الصارف ذلك. وإن صدّقه القاضي المعزول، فلا حكم لتصديقه، كما تقدم ذلك.
ولو ادعى أجراً كما وصفناه، ولم يُقِم بينةً، وكان الذي ادعاه أجر مثله، فهل يقبل قوله في ذلك؟ فعلى وجهين ذكرهما صاحب التقريب: أحدهما - يُقبل، فيحلّفه ويوفّيه، ووجهه أن عمله متقوَّم، فلا ينبغي أن يُبْنَى الأمرُ على تضييعه، وهذا يلتفت على أن من استعمل غيره، ولم يذكر له أجراً، فهل يستحق إذا عمل الأجر؟ فيه خلاف مذكور. والوجه الثاني - أنه لا يقبل قوله حتى يقيم البيّنة.
فرع:
12029 - إذا ادعى قوم حقوقاً على رجل، فذكر كل واحد ديناً، ووكلوا بحقوقهم وكيلاً واحداً ليخاصم عنهم، فإن لم يرضَوْا بأن يحلّفه يميناًً واحدة، فلا بد وأن يحلف في حق كل واحد منهم يميناً، وإن رضُوا بأن يحلّفه القاضي يميناً واحدة في حق جميعهم مشتملاً على نفي دعاويهم، فهل يقتصر القاضي على يمين واحدة؟ فعلى وجهين، ذكرهما العراقيون: أحدهما - أنه يقتصر على يمين واحدة؛ فإن الأيمان حقوقُهم، فإذا رضوا، وجب القضاء على حكمهم.
__________
(1) زيادة للإيضاح.

(18/590)


والوجه الثاني - أن ذلك لا يجوز؛ فإن الخصومات متعددة، واليمين جارية في كل خصومة، فالاكتفاء بيمين واحدة يُغيّر نَظْم الخصومات، وهذا بمثابة الاكتفاء بشاهد واحد، فالمدعَى عليه لو اكتفى (1) ولم يُقر، فليس للقاضي أن يقضي بشهادة الواحد، وكذلك القول في جملة أركان الخصومة واليمين منها، والله أعلم بالصواب.
...
__________
(1) المعنى: لو رضي المدعى عليه أن يحكم عليه بشاهدٍ واحد، فلا يحق للقاضي أن يقضي عليه.

(18/591)


باب اختلاف الحكام والشهادات
قال الشافعي رضي الله عنه: " قال الله تعالى: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} [البقرة: 282] ... إلى آخره " (1).
12030 - الإشهاد في البيوع وغيرها من العقود محثوث عليه، لقَطْع توقّع الجحود، وليس حتماً، فلا يجب الإشهاد إلا على عقد النكاح، وفي الرجعة قولان.
وأوجب داود الإشهاد، واستدل عليه بأن قال: " أثبت الله الإشهادَ، وأثبت الرُّهنَ (2) المقبوضة، إذا تعذر الإشهاد بدلاً في الاحتياط عن الإشهاد " (3) ثم الرَّهنُ لا يجب وإن تعذّر الإشهاد.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لو أعطي الناس بدعاويهم، لادعى بعضٌ دماءَ بعض وأموالَهم، ولكن البيّنة على المدير واليمين على من أنكر " (4)، وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بايع أعرابياً فرساً، فجحد الأعرابي الثمن، بقول بعض المنافقين، وجعل يقول: ائت بشاهدك يا محمد إن كان لك شاهد، فشهد لرسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك خُزيمةُ بن ثابت الأنصاري فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: " لِم تشهد لي، ولم تحضر بيعنا؟ قال: إني أصدقك في أخبار السماء، أفلا
__________
(1) ر. المختصر: 5/ 246.
(2) الرُّهُن: بالضم جمع رهان (المصباح).
(3) ر. المحلّى: 8/ 344.
(4) حديث " لو أعطي الناس بدعاويهم .. " متفق عليه من حديث ابن عباس رضي الله عنه، ولفظه: " لو يُعطى الناس بدعواهم .. " (ر. اللؤلؤ والمرجان: الأقضية، باب اليمين على المدعى عليه، ح 1113).

(18/592)


أصدقك على هذا الأعرابي؟ فقال له: أنت ذو الشهادتين " (1) فكان خزيمةُ بعد ذلك يشهد عند الخلفاء، فيقضون بشهاته وحده.
وأصل الشهادة مُجمع عليه.
...
__________
(1) حديث أنه صلى الله عليه وسلم " بايع أعرابياً فرساً فجحد الأعرابي الثمن ... فشهد له خزيمة ... " رواه أبو داود، والحاكم وصححه ووافقه الذهبي، والبيهقي (ر. أبو داود: الأقضية، باب إذا علم الحاكم صدق الشاهد الواحد يجوز أن يحكم به، ح 3607، المستدرك: 2/ 18، البيهقي: 10/ 146).

(18/593)


باب عدّة الشهود وحيث لا يجوز النساء
قال الشافعي رضي الله عنه: " دلّ الله على أن لا يجوز في الزنا أقلُّ من أربعة ... إلى آخره " (1).
12031 - قال الأئمة: القضايا على خمسة أضرب:
المرتبة العليا منها يشترط فيها البيّنة الكاملة، [وهي] (2) أربعةٌ من الشهود الذكور، وهي الزنا، واللواطُ في معناه؛ إذا أوجبنا الحد فيه، وإن لم نوجب -على قول بعيد- فهل يشترط في ثبوته الأربعة؟ على قولين، قدمنا ذكرهما.
قال الله تعالى: {لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النور: 13] وقال: {فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ} [النور: 13]، وقصة أبي بكرةَ مشهورة. ومقدار حاجتنا منها أن أبا بكرة كان في غرفةٍ له مع جماعةٍ منهم: نافع، ونُفَيع، وزياد، وكان المغيرة بن شعبة في غرفةٍ له بحذاء القوم، وكان أسبل ستراً، فهبّت ريحٌ، ورفعت الستر، فوقع بصر القوم عليه وهو جالس على بطن امرأةٍ [يخالطها] (3)، فجاء أبو بكرة والقوم معه إلى عمر، وشهد أبو بكرة ونافع ونفيع وجزموا شهاداتهم، فبقي زياد، واختلفت الرواية: فروي أن عمر قال له: " أرى وجه رجل أَرْيَحيّ لا يفضح الله على لسانه واحداً من أصحاب نبيّه عليه السلام، وفي بعض الروايات أنه أغلظ له القول، فقال: يا سَلْحَ (4) الغراب بم تشهد؟ فقال: رأيتُ نَفَساً يعلو، واستاً ينبو، ورأيتهما يضطربان في لحاف،
__________
(1) ر. المختصر: 5/ 246.
(2) مكان كلمة انمحت تماماً.
(3) في الأصل: " يخالط لها ".
(4) ضبطت في الأصل: بكسر السين. والسَّلْح معروف.

(18/594)


ورجلاها على عاتقه كأنهما أذنا حمار وما رأيت أكثر من ذلك، فقال: الله أكبر، ودرأ الحد " (1).
وللإمام أن يفعل مثلَ ذلك في حدود الله، فيسعى في الدرء جهده قبل ثبوته، ويشهد لذلك قصة ماعز، وترديد رسول الله صلى الله عليه وسلم إياه، وقال لمن حُمل إلى مجلسه بتهمة السرقة: " ما إخالك سرقت، الحديث " (2).
والإقرار بالزنا لا يشترط فيه العدد، كما تقدم في موضعه، وهل يثبت بشهادة رجلين، أم لا بد من أربعة؟ فعلى قولين مشهورين تقدما.
وليس للإنسان أن يشهد على الزنا بمخايل الأحوال وقرائنها، وإن غلبت على الظن، أو قربت من اليقين، بل يشهد إذا رأى ذلك منه في ذلك منها كالمِرْود في المُكْحُلَة، ثم لا بد من التصريح في لفظ الشهادة. كما سيأتي إن شاء الله هذا الفن في أثناء الكلام. وما ذكرناه كناياتٌ لا يكتفى بها من الشاهد على الزنا.
12032 - وهل يجوز للشهود تعمُّدُ النظر إلى سوءة الرجل والمرأة، ليشهدوا على الزنا، أم يحرم ذلك عليهم؟ وإنما يشهدون إذا وقع بصرهم على ذلك وفاقاً؟ ذكر العراقيون وجهين في ذلك: أحدهما - أنه يجوز تعمد النظر لإقامة الشهادة. والثاني - لا يجوز؛ فإنا مأمورون بالستر جهدنا، منهيون عن التجسس.
وكل ما يقبل فيه شهادة النسوة على التجرد، وهو مما لا يطّلع عليه الرجال منهن غالباً، فهل للرجال تعمد النظر إلى تلك المواضع لتحمل الشهادة إذا مست الحاجة إليها؟ ذكروا في ذلك وجهين، ثم جمعوا تحمل الشهادة على الزنا إلى تحمل الشهادة [على] (3) بواطن النساء، وطردوا فيهما طريقين: قالوا: من أصحابنا من قال: لا يحل تعمد النظر لتحمل شهادة الزنا وجهاً واحداً، وفي جواز تعمد النظر إلى بواطن
__________
(1) أثر عمر لما شهد عنده أبو بكرة ومن معه على المغيرة بن شعبة بالزنا، ورجوع زياد، أخرجه الطحاوي، وابن أبي شيبة، والبيهقي، وصححه الألباني (ر. الطحاوي: 2/ 286 - 287، البيهقي: 8/ 234 - 235، إرواء الغليل: 28/ 28 - 30 ح 2361).
(2) سبق هذا الحديث.
(3) في الأصل: " إلى ".

(18/595)


المرأة للشهادة وجهان؛ فإن الحدود على الدرء. ومنهم من قلب الترتيب.
ثم المعللون سلكوا مسلكين: فقال بعضهم: يجوز تعمد النظر إلى البواطن لتحمل الشهادة على النساء وجهاً واحداً، وفي التحمل لأجل الشهادة على الزنا وجهان. وقال قائلون: لا يجوز التعمد في البواطن لأجل الشهادة في غير الزنا مذهباً واحداً؛ لأن في النساء مَقْنعاً، فلا حاجة إلى الرجال، وفي النظر لأجل تحمل شهادة الزنا وجهان، هذا ما ذكروه.
وقد نجزت مرتبةٌ على قدر الغرض، ولسنا نضمن استقصاءَ كل أصل. وإنما نبغي توطئة الأصول وتمهيدها.
12033 - المرتبة الثانية - لا يشترط فيها العدد الكامل-وهو الأربعة- بل يكفي عدلان، ولكن لا مدخل للنساء فيه.
والقول في هذه المرتبة ينقسم، فمنه متفَق عليه بين العلماء، ومنه مختلف فيه.
أما المتفق عليه، فما يتعلق بالعقوبات، فلا تثبت عقوبةٌ إلا بشهادة رجلين عدلين، كما سنصف الشهود بعد ذلك إن شاء الله، ولا فرق بين ما يثبت حقاً لله كحد الشرب، وقطع السرقة وحد القطّاع، وبين ما يثبت حقا للآدمي كالقصاص في النفس، واليد، وحد القذف.
وأما المختلف فيه، فمذهب الشافعي أن كلَّ ما ليس بمال، وليس المقصود من إثباته المال، وهو مما يطلع عليه الرجال، فلا يَثْبُت إلا بعدلين ذكرين كالنكاح، يثبته الرجل عليها (1)، والرجعة، والطلاق، والظهار، والإيلاء، واللعان، فلا يثبت شيء منها إلا بما ذكرنا عندنا. وألحق الأئمة بذلك الوصاية، نعني نَصْبَ الوصيّ، وألحقوا به الوكالة، وإن كانت في مال، لأنهما ليسا بمال، بل يفيدان حقَّ التصرف، والمالُ لغير المتصرف، والإقرارُ بالاستيلاد من هذا القسم، إذا كانت تُثبت والسيدُ منكر، والإقرار بانقضاء العدة من ذلك.
__________
(1) يثبته الرجل عليها: أي على الزوجة، كما صرح بذلك العز بن عبد السلام في اختصاره للنهاية.

(18/596)


وأبو حنيفة (1) رضي الله عنه يقول: ما سوى العقوبات يثبت بشهادة رجل وامرأتين.
وسلك الشافعي مسلكاً حسناً يليق بمنصبه، فقال: مراتب الشهادات لا يتطرق إليها قياس، والغالب عليها التعبد والاتباع، وبينة الزنا ثابتة في نص القرآن، فاتبعناها، وليس للشهادة على القصاص ذكر في الكتاب والسنة، وإجازة شهادة النسوة ثابتة بالنص في الأموال في آية المداينات، والشهادة على الرجعة في كتاب الله مقيدة بذوي عدل، فكان القصاص عندنا ملتحقاً بالرجعة لا بالأموال.
ثم قال: لا دليل في القصاص إلا اتجاهُ إلحاقه بالرجعة، فكيف يثبت بشهادة رجل وامرأتين، في كلام له رضي الله عنه ذكرناه في (الأساليب).
12034 - المرتبة الثالثة - فيما يثبت برجل وامرأتين، وهو المال، وكل ما يُعنى به المال وحقوقه. أما الأموال، فبيّنة، وما يؤول إلى المال، كالبيع، والشراء، فإن هذه العقود لا تَعْني إلا المالَ، والمعنيّ بها أحكامٌ تنتظم في الأموال، فيثبت بالشاهد والمرأتين البيعُ، والشراء، والإجارة، والعُروض، وإتلاف الأموال، والقتل خطأ، والجوائف، والسِّمْحاق دون المُوضِحة إذا لم يجر القصاص فيها، وفسوخ عقود الأموال، وحقوق الأموال كالخيار واشتراط الرهن، والرهنُ نفسه، والضمان، والإقرار بالمال، والإبراءُ عن الأموال، والحقوقُ وقبضُها.
ومن جمللها قبضُ نجوم الكتابة إلا النجم الأخير؛ فإن المكاتَب إذا أراد إثبات إقباضه برجل وامرأتين، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أنه يثبت، لأنه إقباضُ مال.
والثاني - لا يثبت، لأن قصد العتق ظاهر فيه، ووطء الشبهة يثبت إذا كان المقصود من إثباته مهر المثل، وتثبت طاعة المرأة لتستحق النفقة، ويثبت القتلُ لاستحقاق السَّلَب، وما في معنى ما ذكرنا لا يخفى مُدركه إذا فَهِم الإنسانُ المقاصدَ، والمرأة إذا أثبتت النكاحَ للمهر، ثبت المهر وإن لم يثبت النكاح، والوصية تثبت وإن لم تثبت الوصاية، والبيع يثبت، وإن لم يثبت التوكيل به.
__________
(1) ر. المبسوط: 16/ 114، مختصر اختلاف العلماء: 3/ 345 مسألة: 1476، طريقة الخلاف: 380 مسألة: 159، إيثار الإنصاف: 342.

(18/597)


وخرج شهود المال، وتعديلهم، فلا يثبت إلا بذَكَرين؛ فإن هذا ليس من موجِبات الأموال، بل هي إثبات صفات الشهود، ولا تختص فائدتها بواقعة؛ فإن من ثبتت عدالته في واقعة، تثبت في غيرها.
والأصح أن الأجل من حقوق الأموال؛ فإن مقصوده سقوطُ المطالبة في مدة، وإذا كان الإبراء يثبت بالرجل والمرأتين، فلأن يثبت [سقوط] (1) المطالبة أولى.
وذكر بعض الأصحاب وجهاً بعيداً في إلحاق الأجل بالوكالة، وهذا أشاعه الخلافيون، ورمز إليه أئمة المذهب، ولا يصير إليه إلا ضعيف، لا يهتدي إلى مآخذ المذهب، وستأتي المسائل، والغرض الآن الإيناس بالأصول.
12035 - المرتبة الرابعة - ما يثبت بشهادة النسوة المتجردات، وهو كل ما لا يطلع عليه الرجال من النساء غالباً، إلا عن وفاق، كالولادة وعيوب البدن، ومن جملة ذلك الرضاع، فهذه الأشياء تثبت بشهادة أربع نسوة على شرائط الشهادة.
وقال أبو حنيفة (2) رضي الله عنه: " الولادة -من جملتها- تثبت بشهادة القابلة وحدها -على تفصيلٍ له معروف- وما عداها لا يثبت إلا بشهادة رجل وامرأتين، أو رجلين ".
وما يثبت بشهادة النسوة المتجردات يثبت بشهادة رجل وامرأتين ويثبت بشهادة رجلين.
12036 - المرتبة الخامسة -ما يثبت بشهادة ويمين- وفي هذا باب مقصود سيأتي من بعدُ، إن شاء الله- ولا تثبت الولادة وعيوب النساء بشاهد ويمين.
فنقول: ما يثبت بشاهد وامرأتين يثبت بشاهد ويمين، إلا ما يتعلق ببواطن النساء، والسر فيه أن المتبع في الشاهد واليمين السُّنَّةُ، وإلا فالقضاء بشاهد واحد ويمين الطالب خارج عن القياس، وقد ورد في المال، فخصصناه به، والاكتفاء
__________
(1) في الأصل: " بسقوط ".
(2) ر. رؤوس المسائل: 529 مسألة: 388، المبسوط: 16/ 144، مختصر اختلاف العلماء: 3/ 346 مسألة: 1477، الغرة المنيفة: 195.

(18/598)


بالنسوة فيما يتعلق بالنساء ليس لانحطاط خطر هذا الأمر، وإنما هو لتعذُّر اطلاع الرجال.
ولو شهد على المال امرأتان، وأراد الطالب أن يحلف معهما، لم يَجُز عندنا، خلافاً لمالك (1) رحمة الله عليه. وسيأتي ذلك، إن شاء الله.
وحيث جوزنا شهادة الرجل والمرأتين لم يتوقف ذلك على العجز عن إشهاد رجلين، هذا مما اتفق عليه أصحابنا والمفتون في الأمصار.
وقوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} [البقرة: 282] محمول على أن الأولى ألا يكلفن التبرج إلا عند مسيس الحاجة.
فصل
قال: " ولا يحيل حكمُ الحاكم الأمورَ عما هي عليه ... إلى آخره " (2).
12037 - أراد الرد على أبي حنيفة (3) رضي الله عنه؛ فإنه صار إلى أن القضاء إذا استند إلى شهادة الزور في العقود والحلول التي قد ينشئها القاضي بحكم الولاية، فإنه يتضمن تغيّر حكم الله في الباطن، ولا يخفى مذهبه في ذلك.
ومذهبنا أن أحكام الله لا تحول بقضاء القضاة، فإن وافقتها لشهادة الصدق، فليس ثبوتها بالقضاء، وإنما يتعلق القضاء بالظاهر، وإن جرى القضاء على خلاف حكم الله، لم يزُل حكم الله، وإن كان ظاهرُ القضاء متبَعاً إلى التبيّن؛ قال رسول الله
__________
(1) ر. الإشراف للقاضي عبد الوهاب: 2/ 965 مسألة 1947، عيون المسائل: 4/ 1566، مسألة 1104.
(2) ر. المختصر: 5/ 247.
(3) ر. مختصر الطحاوي: 350، المبسوط: 16/ 180، رؤوس المسائل: 285 مسألة: 387، البدائع: 7/ 15، شرح أدب القاضي للخصاف: 3/ 172، روضة القضاة للسمناني: 1/ 320، طريقة الخلاف للأسمندي: 382 مسألة: 160، إيثار الإنصاف: 344، الغرة المنيفة: 189.
وفيها تجد أن الأمر كما قال إمام الحرمين، فيختصّ أبو حنيفة بهذا القول، ويخالفه محمد، وكذا أبو يوسف في قوله الثاني، بعد أن كان موافقاً له.

(18/599)


صلى الله عليه وسلم: " إنما أقضي بالظاهر والله يتولى السرائر " (1).
وقيل: سئل أبو عاصم عن هذه المسألة وكان محمدياً في الفتوى والنظر، فالتُمس منه نُصْرةُ مذهب أبي حنيفة، فقال: لا أدري، قال محمد: القضاء لا يكوّن ما لم يكن (2).
__________
(1) حديث " إنما أحكم بالظاهر .. " سبق تخريجه والكلام عليه.
(2) هكذا العبارة بكلّ وضوح، رسماً ونقطاً.
وأبو عاصم المراد هنا هو أبو عاصم العبّادي، الهروي، أحد فقهاء أصحابنا أصحاب الوجوه، ولد سنة خمس وسبعين وثلثمائة، وتوفي سنة ثمان وخمسين وأربعمائة.
وقد أشكل علينا الأمر، فما معنى كونه محمدياً في الفتوى والنظر؟ ومن محمد الذي يُنسب إليه؟! فمن المعلوم أنّه إذا أُطلق اسم (محمد) فالمراد به محمد بن الحسن الشيباني، وقد سبق في النهاية بهذا الإطلاق. فكيف يكون أبو عاصم، وهو من أعلام الأصحاب، محمدياً في الفتوى والنظر؟ ثم كيف يُلتمس منه نصرة مذهب أبي حنيفة؟
وقد راجعنا كتب الأحناف، فلم نجد لأبي عاصم ذكراً في هذه المسألة عندهم، وكذلك راجعنا كتب المذهب، وكتب الطبقات والتراجم فلم نر من نسب أبا عاصم إلى محمد في الفتوى والنظر. وكذلك لم نجد هذه الرواية في ترجمة أبي عاصم عند من يرْوون فرائد المسائل وغرائبها عن المترجم لهم، مثل السبكي، وغيره.
ثم ما معنى قول أبي عاصم: " لا أدري، قال محمد: القضاء لا يكوِّن ما لم يكن ". هل يفهم من هذا أنه يقول برأي محمد في المسألة؟ ورأي محمد كما هو معروف يخالف أبا حنيفة، ويتفق معنا. أم أنه متوقف حقيقةً في المسألة؟ وهذا موضع احتمال ثم إننا وجدنا الرافعيَّ والنوويَّ حكيا عن أبي عاصم أنه يقول بقول أبي حنيفة، وذكرا معه البغوي أيضاً، هذا ما نستطيع قوله تعليقاً على هذه العبارة.
انظر ما راجعناه من المصادر، من كتب الأحناف: المصادر المذكورة في الهامش قبل السابق، ومن كتب المذهب: الشرح الكبير: 12/ 484، الروضة: 11/ 152، التهذيب للبغوي: 8/ 221 - 223، البيان للعمراني: 13/ 413، حلية الفقهاء: 8/ 163، وكذا الوسيط، والمهذّب، والحاوي، وشروح المنهاج بحواشيها كالتحفة، والنهاية، والمغني، والمحلّي، وكذا شروح وحواشي المنهج، والرّوض، ومختصر خلافيات البيهقي: 5/ 141 مسألة: 355، والأنوار للأردبيلي: 2/ 634.
ومن كتب الطبقات والتراجم: تهذيب الأسماء واللغات: 2/ 249، طبقات السبكي: 4/ 104، الأسنوي: 2/ 190، ابن قاضي شهبة: 1/ 232، ابن هداية 161، ابن الملقن: 94، وفيات الأعيان: 4/ 214، سير أعلام النبلاء: 18/ 180، الوافي بالوفيات: 2/ 82، الأنساب: 8/ 336، مرآة الجنان: 3/ 82.

(18/600)


ومما يتعلق بأطراف المسألة، أن المسألة إذا كانت مجتهداً فيها، فقضى القاضي بمذهبٍ يسوغ القضاء به ولا يتجه تفريع أحكام الفقه، إلا [على أن المصيب (1)] واحد غير متعين -فالذي ذهب إليه جماهير الفقهاء أن حكم الله باطناً يثبت في المجتهدات على اتحادٍ إذا نفذ القضاء، ويصير المقضي به حكم الله ظاهراً وباطناًً، واستدلوا عليه بامتناع جواز نقض القضاء في المجتهدات.
وذهب الأصوليون من الفقهاء إلى أن القاضي لا يغيّر حكمَ الله في الباطن، والأمر في المُصيب مبهم، كما كان، وهذا اختيار الأستاذ أبي إسحاق (2)، وكان من الغلاة في الرد على من قال بتصويب المجتهدين، ولا يتجه عندنا إلا هذا، واتباعُ القاضي بحق الولاية؛ إذ لولا وجوب الاتباع، لانفرد كلٌّ بمذهبه، ولتقطّعت الآراء على الشتات، بين النفي والإثبات، وعدمُ نقض القضاء محمول على الاستمرار على حكم الولاية ومرتبتها، ولولا ذلك، لما حصلت الثقة بالقضاء في مسألة.
12038 - وتمام البيان في هذا ما نذكره. فنقول: المقضي عليه في المجتَهَد فيه لا يجد محيصاً، وإن خالف القضاء مذهبَه، وهذا كقضاء الحنفي بشفعة الجوار على الشافعي، فأما إذا ادعى الشفعة بالجوار شافعي، أو ادعى التوريث بالرحم، [فإذا فرض القضاء له فمذهب الأستاذ وموافقيه] (3) لا يُحِل للشافعي ما قُضِيَ له به، بل لا يُحل له الإقدامَ على الطلب.
__________
(1) في الأصل: " إلا أن المصير " والمثبت من (ق).
(2) الأستاذ أبو إسحاق: أي الإسفراييني، إبراهيم بن محمد بن إبراهيم بن مهران، ت 418 هـ.
فهذا هو الملقّب في كتب المذهب بالأستاذ، وتد تصحّف في (البيان) إلى أبي إسحاق المروزي: إبراهيم بن أحمد، ت 340 هـ. وهو خلاف ما عند النووي في الروضة، والبغوي في التهذيب، والرافعي في الشرح الكبير.
(3) عبارة الأصل كانت هكذا: " فإذا فرض القضاء وعلى مذهب الأستاذ موافقته " فانظر ما فيها من خلل!! والمثبت هدانا الله إليه بعد أن طال وقوفنا أمام هذه العبارة لنحو يومين، نقلّبُ (البسيط) و (الوسيط) و (الروضة) و (الشرح الكبير) و (البيان) و (التهذيب) ولم يغن عنا ذلك شيئاً إلا ما ألهمنا الله إياه آخراً. والحمد لله رب العالمين. ونسجد لله شكراً، فقد جاءتنا (ق) موافقة لما أثبتناه. فالحمد لله ملهم الصواب.

(18/601)


ومن أصحابنا من قال: يَحِلّ، وهؤلاء هم الذين يزعمون أن حكم الحاكم يغيّر أحكام الباطن في المجتهدات، ويعيِّن المصيبَ، فإن قلنا بمذهب الفقهاء، فالإقدام على الدعوى مشكل استحلالاً؛ فإن الحقَّ إن كان يثبت عند القضاء، فما الذي يسوّغ الإقدام على الدعوى، وهذا فيه تردد غائص: يجوز أن يقال: لا يحل الإقدام على الدعوى، وإن اتفق وأفضى القضاء إلى تحصيل [المقصود] (1)، فيثبت الملك، ويجوز أن يقال: الشافعي إنما ينفي التوريث بالرحم إذا لم يكن قضاء، فإذا علم المدعي علماً ظاهراً أن القاضي يورث بالرحم، فالدعوى تسوغ؛ فإنها تشوفٌ إلى سبب التملك. والأستاذ كما لم يملِّك الشافعيَّ ما لا يعتقده والقاضي على مذهبه، هل يمنع المدعي عن الدعوى إذا كان دعواه تخالف مذهب القاضي، هذا محتمل متردد، والظاهر المأثور من سِيَر القضاة أنهم لا يتعرّضون لمذاهب الخصوم، والعلم عند الله.
ثم عقد الشافعي باباً في شهادة النساء، وغرضه الرد على أبي حنيفة رضي الله عنه في مسألة القابلة. وقد مضى في ذلك ما أردناه.
...
__________
(1) في الأصل: " بالمقصود ".

(18/602)


باب شهادة القاذف
قال الشافعي رضي الله عنه: " أمر الله تعالى أن يُضرَب القاذف ثمانين جلدة ... إلى آخره " (1).
12039 - القذف من موجبات الحدود، وكل ما يوجب الحدَّ كبيرةٌ، وكل كبيرة لا ترجع إلى العقد موجِبةٌ لرد الشهادة، فإذا قذف القاذف رُدت شهاتهُ قبل أن يُحَدَّ خلافاً لأبي حنيفة رضوان الله عليه. وإذا حُدّ، فشهاته مردودة، ولكنه إذا تاب -على ما سنصف توبته واستبراءَ حاله- قبلنا شهاته.
وقال أبو حنيفة (2) رضي الله عنه: المحدود مردودُ الشهادة أبداً، والمسألة مشهورة معه.
ثم الكلام يتعلق وراء هذا بتوبة القاذف:
قال الشافعي: " توبة القاذف بإكذابه نفسَه "، وهذا اللفظ في ظاهره إشكال، وفي بيان المذهب تحصيل الغرض.
فالذي ذهب إليه جماهير الأصحاب أن القاذف لا يكلّف أن يُكْذِبَ نفسه، إذ ربما يكون صادقاً في نسبة المقذوف إلى الزنا، فلو كلفناه أن يُكْذِبَ نفسه، لكان ذلك تكليفاً منا إياه أن يَكذب، وهذا محال. فالوجه أن يقولَ: أسأتُ فيما قلتُ، وما كنتُ محقاً، وقد تُبت عن الرجوع إلى مثله أبداً، ولا يصرح بتكذيب نفسه إلا أن يعلم أنه كان كاذباً. وهذا يَبْعُد علمه.
__________
(1) ر. المختصر: 5/ 248.
(2) ر. مختصر الطحاوي: 266، مختصر اختلاف العلماء: 3/ 328 مسألة رقم 2458، المبسوط: 16/ 125، رؤوس المسائل: 536 مسألة 394، طريقة الخلاف للأسمندي: 374، 375 مسألة 157، الغرة المنيفة: ص 193، إيثار الإنصاف: ص 346.

(18/603)


وهؤلاء حملوا قول الشافعي على ما سنصفه، وقالوا: القاذف في الغالب يقذف ويرى من نفسه أنه قال حقاً، وأظهر ماله إظهارَه، فيرجع ما أطلقه الشافعي من الإكذاب إلى هذا. فيقول: [قد كنت قلتُ، ما قلتُه] (1)، وقد كذبت وأبطلت فيما قدَّمت.
وقال الإصطخري: لا بد وأن يُكذب نفسَه، وإن كان صادقاً. إنه عزّ من قائل قال: {فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} [النور: 13]، فهذا لقب أثبته الشرع، فيُكْذِبُ القاذف على هذا التأويل نفسَه؛ فإن الشرع سماه كاذباً.
وهذا بعيد لا أصل له، وهذه الآية مع آيٍ أُخَر وردت في قصة الإفك وتبرئة عائشة، وكانت مبرأة عما قذفها به المنافقون.
هذا قولنا في توبة القاذف.
12040 - فأما القول في استبراء حاله بعد التوبة، فنقول أولاً: من قارف كبيرةً، وتاب لم نبتدر قبولَ شهاته وإن أظهر التوبة؛ فإنا لا نأمن -وهو فاسق- أن يكون ما أظهره هزءاً وعبثاً، أو إظهارَ توبة لغرض له، وهو مضمرٌ الإصرارَ على الغيّ، فلا بد من اختبار حاله بعد التوبة، وهذا هو الذي يسمى الاستبراء، فنتركه ونلقي إليه الأمر، ونراقبه في السر، حتى تظهر مخايلُ صدقه في التوبة؛ فإذ ذاك نحكم بعدالته.
واختلف أصحابنا في مدة الاستبراء، فقال بعضهم: سنة؛ فإن لتكرار الفصول وجريانها مع الاستمرار على التوبة أثراً بيناً في إظهار نقاء السريرة مع حسن السيرة.
وقال قائلون: يعتبر ستة أشهر، حكاه القاضي.
وذهب المحققون إلى الرد على من يُقدِّر، ولفظ الشافعي: استبرأناه أشهراً، والأصح أن ذلك لا يتقدر بزمن، فكيف المطمع فيه، والتقدير لا يثبت إلا توقيفاً، فالوجه أن نقول: نوكل به من يراقبه في سرِّه وعلنه مدة، حتى تحصل غلبة الظن، وهذا يختلف -فيما أظن- باختلاف الرجال والأشخاص، فالرجل المكاتِم الذي
__________
(1) عبارة الأصل: "قد كنت قلت لي وأنا أقول ما قلته".

(18/604)


لا يعتاد إعلان ضميره، وكان خُبْثه فيما يتعاطاه دفيناً، فالاحتياط في مثل هذا الشخص يطولُ أمده، فإن لم يكن للرجل غائلة، بل كان يعلن ما رآه، فهذا الرجل يسهُل استبراؤه، وتقرب مدته. فهذا ما أردنا بيانه في الاستبراء عن سائر الكبائر.
12041 - فأما إذا قذف وتاب على ما وصفنا توبته، فهل تقبل شهاته في الحال من غير استبراء، أم لا بد من استبراء فيه؟ اختلف نص الشافعي، واختلف أصحابنا على طرق:
فمنهم من قال: في المسألة قولان: أحدهما - أنه يستبرأ قياساً على سائر الكبائر.
والثاني - أنه لا يستبرأ؛ فإنا نجوّز أن يكون صادقاً، ولا محمل لسائر الكبائر، هذه طريقة.
ومن أصحابنا من قال: النصان منزلان على حالين، فحيث قال: لا يستبرأ، أراد إذا جاء مجيءَ الشهود، فلم يوافقه الأصحاب (1) في إتمام الشهادة، وقلنا: إنه محدود، فإذا تاب -وحالته ما وصفناها- فلا استبراء؛ فإنه ما جاء مجيء القَذَفةِ، وإنما جاء شاهداً، وحيث قال: يستبرأ، أراد إذا جاء قاذفاً.
ومن أصحابنا من نزل النصين على حالين من وجه آخر، فقالوا: إن كذّب نفسه صريحاً، فلا بد من استبرائه، فإن الكذب في عظائم الأمور من عظائم الذنوب، وإن لم يصرح بتكذيب نفسه، فلا حاجة إلى الاستبراء، هذا كلام الأصحاب.
والوجه عندنا أن نقول: إذا صرح بتكذيب نفسه، فهذا يخرُج (2) على التفاصيل، وترديد الأقوال، بل يُقطع فيه بالاستبراء، وإذا جاء قاذفاً، ففي الاستبراء قولان، وإن جاء مجيء الشهود، ورأينا أن نُحِدَّه عند نقص العدد، فإذا تاب، ففي الاستبراء قولان مبنيان على ما إذا جاء قاذفاً، وهذه الصورة أولى بأن لا يشترط الاستبراء منها، وقد نجز الغرض في توبة القاذف واستبرائه بعد التوبة.
__________
(1) الأصحاب: المراد هنا باقي الشهود على الزنا.
(2) يخرج على التفاصيل: أي ليس من هذا الباب، ولا مجال فيه للترديد.

(18/605)


فرع:
12042 - إذا قذف وأقام بينة على الزنا، فلا شك أن الحد يندفع عنه، ولكن هل نرد شهاته حتى يتوب، أم نقول: صدّق نفسه بالبينة، فخرج عن كونه قاذفاً؟ فمن أصحابنا من قال: لا نردُّ شهاته، ولا نُحْوِجه إلى التوبة، ومنهم من قال: قذفُه يوجب رد الشهادة، وما كان له أن يقدم عليه، وإن صدّقه الشهود، والمسألة محتملة.
***

(18/606)


باب التحفظ في الشهادة
قال الشافعي: قال الله تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36].
12043 - قاعدة الباب أن الشهادات شرطها أن تُتَحمل عن علم ويقين، لا يعارضه مخامرةُ رَيْب، قال الله تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} وقال: {إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [الزخرف: 86]، قال ابن عباس: " إن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: كيف أشهد، فقال عليه السلام: أرأيت الشمس طالعة فقال نعم، فقال: على مثل هذا فاشهد، أو فاسكت " (2).
ثم حقائق الأشياء والعلومُ بها تتلقى من حاسة السمع والبصر في تحمل الشهادات، والعقل المِلاك.
أما الأفعال، فالأصل في تحمل الشهادة عليها البصر، ولسنا نعيد ذكر العقل؛ فإنه لا شك فيه، وهذا كالعلم بالجنايات، والاستهلاكات، ونحوها من الأفعال، فلا سبيل إلى تحمل الشهادة عليها إلا بالعِيان المتعلّق بها، [وبفاعليها] (3)؛ فإن الشهادة لا تنفع فيها (4) دون أن تُربَطَ بمن صدرت منه، ولا بد من البصر فيهما جميعاً.
وأما إثبات الأقوال في مفاصل القضاء، فلا بد من السمع والبصر، أما السمع، فهو الأصل بالعلم بالمسموع، واختصاصها بالقائلين لا يدرك إلا بالبصر.
__________
(1) ر. المختصر: 5/ 249.
(2) حديث ابن عباس " أنه صلى الله عليه وسلم سئل عن الشهادة، فقال: هل رأيت الشمس ... " رواه العقيلي في الضعفاء (4/ 70) وابن عدي في الكامل (6/ 207) والحاكم (4/ 98) وصححه وردّه الذهبي، ورواه البيهقي (10/ 156) وقال: لم يرو من وجه يعتمد عليه.
(ر. التلخيص: 4/ 363 ح 2636، إرواء الغليل: 8/ 282 ح 2667).
(3) في الأصل: " وبقاء عليها ".
(4) أي في الأفعال.

(18/607)


وأما ما يعتمد السمع المجرد، وعبارة الأئمة فيه أنه يثبت بالتسامع، فقد ذكروا في هذا القسم ما يتفق عليه ويختلف فيه، فقالوا: النسب، والموت، والملك المطلق، تجوز الشهادة عليها بتسامع الأخبار، واختلف الأصحاب في الوقف، والنكاح، والولاء، وألحق العراقيون بالقسم المختلف فيه العتقَ اعتباراً بَالوقف، ففي هذه الأشياء وجهان: أظهرهما - أنه لا تجوز الشهادة عليها بالتسامع، وتظاهر الأخبار؛ لأن مشاهدة أسباب هذه الأشياء ممكنة، بخلاف النسب، والملك المطلق، والموت قد يقع في التقطعات والأسفار كذلك، وهذا غالب غير نادر.
والوجه الثاني - أنه تجوز الشهادة عليها بالتسامع؛ لأنها إذا ثبتت، بقيت ودامت، وشهود المشاهدة قد يزولون، فالوجه أن يقال: سبيل الشهادة عليها بالتسامع، وهذا ينضم إلى أن هذه الأشياء تُشهد غالباً، وليس كالبيع والشراء والهبات، وما في معناها. هذا هو الأصل.
وحكى القاضي أن من أصحابنا من ألحق الموت بالمختلف فيه، فإنه على الجملة مما يمكن فرض العِيان فيه، وهذا وإن كان منقاساً، فلا تعويل عليه؛ فإن موت الإنسان مما يشتهر، ويقع في الأفواه كالنسب، وعماد تحمل الشهادة هذا.
12044 - والمقدار الدي ذكرناه نقلُ مراسم المذهب، ولا بد من وراء ذلك من تمهيد أصل، حتى إذا نجز، خضنا في استقصاء الجوانب، حتى لا نُبقي مشكلاً فيما نظن.
فنقول: عماد تحمل الشهادة: العلمُ، واليقينُ، وثلَجُ الصدر، كما ذكرناه في أول الباب. ولكن اعترض في مجاري الأحوال ما لا سبيل إلى درك اليقين فيه، والنزاع في مثله جائزٌ دائمُ الوقوع، ولا سبيل إلى تركه ناشباً بين الناس؛ فأثبت الشرع فيما لا يتصور فبه دركُ اليقين الشهادةَ [بالتسامع] (1)، وسوّغ بناءها على ظنٍّ غالب، ولولا ذلك، لدامت الخصومات.
ومن جملة ما ذكرناه الملك، وهو مطلوبُ الخلق ومقصودُ الدنيا، ولا مستند له
__________
(1) زيادة من المحقق.

(18/608)


إلى يقين، وإن تناهى المصوّر في التصوير، فلا انتهاء إلى العلم والمعرفة، ووضوح هذا يغني عن كشفه؛ فإن الأسباب التي تُحَسّ وتُعلم عن حسٍّ، كالشراء، والاتهاب لا تفيد العلم بالملك، فإن ملك المشتري مبني على ثبوت ملك البائع، ثم القول فيه كالقول في المشتري منه، وهكذا الكلام فيما يستفاد بالوراثة. ومن اصطاد صيداً، لم يأمن أنه كان مملوكاً، فأفلت من مالكه.
وكما يُفرض هذا في الملك، فالانتساب إلى الآباء بهذه المثابة؛ فإنه لا مطمع في درك عِيانٍ فيه، ولا يتحقق العلم فيما لا يتصور فيه -عند تحمل الشهادة عليه- عيانٌ.
ومما يتصل بذلك الإعسار؛ فإنه لا مُطَّلَع عليه، ولو لم يكن إلى إثباته طريق، لَتَحكَّم الحبسُ على المعسر من غير دَرْك منتهى.
12045 - فإذا وضح هذا، تعيّن تقديم الكلام في الملك المطلق، فننقل قولَ الأصحاب فيه أولاً:
قال القاضي: لا تجوز الشهادة لإنسان بالملك بناء على مجرد يده، وإن دامت له؛ فإن الأيدي تنقسم، وتقع على أنحاءٍ وجهاتٍ مختلفة، فإن انضم إلى اليد تصرفُ ذي اليد، والمعنيُّ به تصرفُ الملاك، كالنقض والبناء، والرهن، والبيع، والفسخ بعده، فهذا هو المعنيُّ بتصرفات الملاك، حتى تردد بعض الأصحاب في أنه لو كان لا يعهد منه إلا الإجارة، فهل يقع الاكتفاء بهذا؟ فمنهم من قال: لا يقع الاكتفاء بها؛ فإن المكتري يُكري، فقد يكون مكترياً، وكذلك القول في الموصَى له بالمنفعة.
وقال قائلون: إذا جرت منه الإجارة مرة واحدة، فالأمر كذلك، وأما إذا تكرر منه، وبان من مخايله تصرفُ الملاك فيه، فهذا كافٍ في الفن الذي [نعنيه] (1)، فإذا انضم تصرفُ الملاك -على ما وصفناه- إلى اليد، فقد قال القاضي: لا تجوز الشهادة على الملك، وإن اجتمعا حتى ينضمَّ إليهما تفاوض الناس بنسبة ذلك الشيء إلى ملك
__________
(1) في الأصل: نعيّنه (بهذا الرسم والضبط).

(18/609)


ذي اليد المتصرف؛ إذ ذاك تسوغ الشهادة على الملك له. هذا كلامه، وقال بحسبه: اعتماد الشهادة في الملك المطلق على التسامع مجازٌ ممن أطلقه، فإنما المعني به أن ينضم إليه اليد، والتصرف، واليدُ والتصرف لا يفيدان تحمل الشهادة، حتى ينضم إليهما التسامع بالملك.
والذي ذهب إليه جماهير الأصحاب أن اليد إذا دامت، وانضم إليها تصرفُ الملاك، فيجوز اعتمادهما في تحمل الشهادة على الملك، وهذا -إلى أن نفصّله، ونذكر غوائلَه- مذهبٌ مشهور لا ينكره محصل.
ووجهه أن الظن يغلِب باليد والتصرفِ، وقد يكون الرجل خاملَ الذكر لا يُشهر ما ينسب إليه، ويكون ما تحت يده مما يقلّ قدره، فيقع الاكتفاء باليد والتصرف، وحقُّ هذا أن يُلحق بقرينهِ ممّا لا يمكن الوصولُ إلى اليقين فيه. وأقرب ما يضاهيه الإعسار، ثم [لمن يحيط] (1) بباطن حال الإنسان أن يشهد بإعساره، وإن لم يستَفِض في الناس ذلك، تعويلاً على مخايلَ وأمورٍ لا يَخفى دَرْكُها، وإن كنا نجوّز مع ظهورها أن يكون الرجل مُكاتماً مُظهراً من نفسه ما يعلم الله منه خلافَه، ولكن تحمل الشهادة يعتمد مع ذلك ما أشرنا إليه.
وكان شيخي يقول: اليد والتصرف يدلان على الملك مذهباً واحداً، واليد الدائمة بمجردها هل تدل على الملك؟ فعلى قولين، وأجرى هذا وغيرُه من الأصحاب في مسائلَ، ولست آمن صَدَرَ هذا من غير تثبت؛ فإني لم أر أحداً من الأصحاب غيرَ الإمام يذكر هذين القولين في اليد المجردة في كتاب الدعاوي والبينات، وإن أطلقوا القولين في اليد المجردة في سائر الكتب، فهو في الكلام المعترض الذي لا يقصد تفصيله، وقد بحثت عن كلام الأئمة وُسْعةَ جهدي، فلم أر أحداً منهم يعوّل على اليد المجردة، وإنما ذكروا اليدَ والتصرفَ معها لما أرادوا تفصيل الكلام في ذلك قصداً إليه. نعم، اليد المجردة تُقَوِّي في المخاصمة، [جَنْبة] (2) صاحب اليد، حتى
__________
(1) في الأصل: " لم يحط ".
(2) في الأصل: " حيث ". وكنا قدرناها (جانب) ثم جاءت (ق) وفيها (جَنْبة)، وكذلك استعملها الإمام فيما يستقبل من الكلام، وهي بمعنى (جانب).

(18/610)


يكون القول قوله مع يمينه إذا خلت الخصومة عن البينة.
وإنما صار إلى دلالة اليد على الملك أبو حنيفة (1)، وبنى على ذلك ردَّ بينة صاحب اليد مصيراً منه إلى أن شهوده يعتمدون في ثبوت الملك له ظاهر يده، وهذا معلوم لنا، فلا تكون الشهادة مثبتة زيادة لا تدل اليد عليها، ونحن نقبل بيّنة صاحب اليد على ما سيأتي ذلك، وهو أصول الدعاوى إن شاء الله.
فقد انتظم مما ذكرناه أن اليد بمجردها لا يجوز اعتمادها -وإن دامت- في الشهادة على الملك لصاحبها، والذي كان يحكيه شيخي مما لا أعتدّ به، ولا أعده من المذهب.
وإذا انضم إلى اليد التصرف، وانضمّ [إليهما] (2) التسامع، فلا خلاف في جواز اعتماد هذه الأشياء للشهادة على الملك.
وإذا وجدت اليد والتصرف من غير تسامع في الملك، فالذي ذهب إليه الجمهور جواز الشهادة على الملك، وذكر القاضي وطائفةٌ من المحققين أنه لا يجوز اعتمادُ ظاهر اليد والتصرف في الشهادة على الملك.
ولو فرض التسامع بنسبة شيء ملكاً إلى شخص من غير يد وتصرف، فالذي قطع به القاضي، وهو قياس المراوزة أنه لا يجوز اعتماده في الشهادة على الملك. وفي كلام العراقيين ما يدل على جواز اعتماد التسامع في الملك المطلق -من غير يدٍ وتصرف - وهذا بعيد. وإن فرض له ثبوت، فهو نيه إذا لم يعارض هذا التسامعَ يدٌ وتصرفٌ من الغير.
وهذا الذي ذكرناه مجامعُ المذهب، مع امتزاج النقل بمسلك البحث.
12046 - وتمام البيان فيه أن ما لا يكون مستيقناً، ومعتمده الظن، فنعلم علماً كلياً أنه لا يجوز الاجتزاء فيه بمبادىء الظنون، بل يجب بناء الأمر على بحثٍ يقرب من
__________
(1) ر. رؤوس المسائل: 534 مسألة: 392، الغرة المنيفة: 191، إيثار الإنصاف: 352، طريقة الخلاف: 402 مسألة: 165.
(2) في الأصل: "إليها".

(18/611)


استفراغ الوسع في مثله، من غير سرفٍ وتكلفِ أمرٍ يعد عسيراً في العُرف. هذا لا بد منه، ومن ضرورته اليد الدائمة، [والتصرفُ] (1) المشعرُ بالاستقلال.
ثم شَرَطَ القاضي التسامعَ بالملك، واكتفى غيره بعدم الاعتراض، ومن يتصرف فيما يعرف [لغيره] (2) يُشهر [عنه] (3) العدوان والاستقلالُ من غير استحقاق؛ فإن النفوس مجبولة على البحث عن أمثال ذلك، والأملاكُ مضنون بها، فإذا اطّرد التصرف [فيها] (4) بغير حق أُشيع ذلك، وشُهِر ونُبّه المستحِق ليثور في طلب حقه، فإذا لم يحصل، غلب على الظن المِلكُ.
ثم من أسرار هذا الفصل أن من يكتفي باليد والتصرف على الحد الذي ذكرناه، فالغالب -في العادة- أن يتفاوض الناس بنسبة الملك إذا كانت الحالة هذه، وإن كان لا يتفوه به أماثل الناس، أشاعه الجيران، ثم أهل المَحِلّة، وهذا العدد كاف في التسامع؛ فإذاً يندر اجتماع اليد والتصرف على الاطراد، مع انتفاء النكير، وعدم ظهور المعترض والطالِب، من غير تسامع بالملك وتفوهٍ به على حد ظهور اليد والتصرف، فكأن الخلاف يؤول إلى أن المعتمد في ذلك اليد والتصرف، أم هما مع التسامع معتبره؟ وإلا فحكم الاعتياد ما ذكرناه.
فمن يعتمد الملكَ والتصرفَ يقول: تفاوض الناس بالملك منها، ومن يقول: التسامع معتبر، قال: إذا شاع التفاوض، فهذا إذا انتشر يثير المستحِق -لو كان- فيؤول اعتباره إلى عدم الإنكار والاعتراض، وبالجملة لا بد من المبالغة حتى تسوغ الشهادةُ على الملك، غير أن الأمارات التي تدل على الإعسار يختص بدركها أهلُ الباطن، والعلامةُ الدالة على الملك لا يختص بدركها من يخالط الرجلَ؛ فإنها على الظهور مبناها، وكل ما نبغي ظهورَه يستوي [فيه] (5) المخالط وغيرُه، والمعتمد في
__________
(1) في الأصل: " فالتصرف ".
(2) في الأصل: " بغيره ".
(3) في الأصل: " عند ".
(4) في الأصل: " منها ".
(5) في الأصل: " منه ".

(18/612)


الإعسار الأمور الخفية التي يختص بدركها المخالطون، كالصبر على المضض سرّاً، والاستمرار على الإضاقة. والغالب أن [القادر] (1) لا يصابرها سرّاً، وإن أبدى على العلن مصابرتها، فيجب تنزيل كل شيء على حسب ما يليق به.
هذا بيان القول في التسامع بالملك المطلق.
12047 - وقد حان أن نتكلم بعد هذا في حقيقة التسامع ومعناه؛ فإن الحاجة ماسة إليه في الأنساب؛ إذ لا مُدركَ لها إلا التسامع: فالذي ذكره القاضي وشيخي وغيرُهما أن التسامع هو الاستفاضة، والتلقي من مُسمِعين لا يتأتى حصرهم. وذكر العراقيون أنه يكفي في التسامع السماع من عدلين، فلو سمع رجل عدلين يقولان: فلان بنُ
فلان، فيجوز التلقي منهما، وبتُّ الشهادة على النسب، ثم قالوا: ليس هذا شهادة على شهادة العدلين، بل هو بناء الشهادة على التسامع، حتى [لو لم يُذكر] (2) لفظ الشهادة، ولم يشهد السامع عنها، فللسامع أن يشهد النسب، وإذا شهد، لم يأت بشهاته على صيغة الشهادة على الشهادة، بل يأتي بها مبتوتة.
وذكر الشيخ أبو علي وجهين: أحدهما - اشتراط الاستفاضة، وقال: معناها أن يقول ذلك قوم لا يجوز منهم التواطؤ على الكذب في العادة، والوجه الثاني - أنه يكفي السماع من عدلين.
وهذا الوجه- وهو الاكتفاء بالسماع من عدلين- وإن كان بعيداً عن قياسنا، فهو متجه عندي؛ من جهة أن التواتر إنما يفيد العلم إذا كان مستنداً إلى معاينة المخبرين، هذا لا بد منه، ويعرِفُ ذلك مَنْ تلقَّى أصول الفقه من مجموعاتنا. وهذا غير ممكن في الأنساب، فإنه لا مستند لها من عِيان.
ثم الذي أراه أن من اشترط الاستفاضة، فربما يكتفي بالإشاعة من غير نكير؛ فإن
__________
(1) في الأصل: " المكاتمة ". والمثبت من لفظ (البسيط).
والمراد بالقادر غير المعسر إذا ادعى الإعسار، فهو لا يصابر الإضاقة والجوع سرّاً، ان كان يعالن بذلك، ولذا قلنا: لا يُعرف الإعسار إلا من المخالط.
(2) في الأصل: " لو يذكر".

(18/613)


التواتر إذا كان لا يوجب العلم الباطن -وهو العلم حقاً- فالعماد (1) أمر يرجع إلى العادة في إثارة غلبات الظنون، وهذا يُكتفى فيه بالإشاعة، وعدم النكير.
ثم إن العراقيين جاوزوا الحدَّ، وقالوا: لسنا نشترط السماعَ من شاهدين أيضاً، بل نكتفي بدون ذلك، فنقول: إذا رأى الرجل رجلاً، وفي يده صبي صغير، وهو يصرح باستلحاقه، فتجوز الشهادة على نسبه بمجرد ذلك، وكذلك لو قال لكبير: هذا ابني، وذلك الشخص ساكت لا يرد عليه، فتجوز الشهادة على النسب بذلك، وكذلك لو قال بالغٌ هذا أبي، وسكت ذلك الشخص، فتجوز الشهادة على النسب بينهما.
وهذا في قياس الفقه خطاً صريح؛ فإن قول الشخص الواحد -من غير إشاعة- في حكم الدعوى، حيث ذكروه، ونحن وإن كنا نثبت نسب المنبوذ بالدِّعوة (2)، فيستحيل أن نجوّز اعتمادها للشهادة على النسب مطلقاً. نعم، يشهد الشاهد على الدِّعوة، ثم يقع الحكم بموجبها. فهذا ما أردنا ذكره في معنى التسامع.
12048 - ومما يتعلق بتمام البيان في ذلك أن من أصحابنا من يُلحق الانتماء إلى الأم بالانتساب إلى الأب في جواز اعتماد التسامع. ومنهم من قال: الانتماء إلى الأم بطريق الولادة لا يثبت بتسامعٍ؛ فإن العِيان في الولادة ممكن، بخلاف الانتساب إلى الأب.
وهذا الخلاف قريب المأخذ من تردد الأئمة في أن المرأة إذا ادعت مولوداً مجهولاً، فهل تثبت الأمومة بالدِّعوة المجردة، كما تثبت الأبوة بها، وسيأتي ذكر هذا في باب [القائف] (3)، إن شاء الله عز وجل.
ثم قال الأئمة: الشهادة اعتماداً على التسامع إنما تفيد إذا كان صَدَرُها من بصير، فيقول: هذا ابن هذا، وقد يطلق المطلِق أن ما يُعتمد السماعُ، فالأعمى فيه كالبصير، وهذا ليس يصدر عن تثبت؛ فإن الأعمى لو قال: زيد هو ابن عمرو،
__________
(1) العماد: أي المعتمد، والمطلوب لبناء الشهادة عليه.
(2) الدِّعوة: بالكسر: ادعاء الولد (المصباح).
(3) في الأصل: "القاذف".

(18/614)


فالزيود فيهم كثرة؛ فلا استقلال لشهادة العميان في ذلك، وإن كان معتمد الشهادة السماع.
وقد ألطف الشيخ أبو علي في تصوير الشهادة من الأعمى فيما يثبت بالتسامع، فقال: لو أراد أن ينسب شخصاً إلى شخص، لم يجد إليه سبيلاً. نعم، لو قال: زيدٌ بنُ بكر بنُ عمرو قرشيٌّ، أو هو من بني فلان، فيثبت بشهادة الأعمى؛ فإنه نسبٌ لا يحتاج فيه إلى الإشارة. والمسألة فيه إذا كان المذكور مشهور النسب بآبائه وأجداده المعيّنين، وإنما المطلوب انتهاؤه إلى قبيلة عظيمة. هذا ما ذكره.
12049 - ثم ذكر الأصحاب مذهب مالك (1) في مصيره إلى أن [للأعمى] (2) أن يعتمد في تحمل الشهادة الصوتَ، إذا حصل له العلم المبتوت فيه، لأنه يميز الصوت تمييزاً لا شك فيه، واحتَجَّ عليه باعتماد الزوج في وطء زوجته، وتمييزها من الأجنبيات.
وقال أصحابنا: وطء الزوجة من باب المعاملات، وهذا شهادة على الغير، وهو في حكم الولاية، وإن لم يكن ولاية، فلا يجوز التصدي لإثبات الأحكام على [البتات] (3) مع التردد، وما يتعلق بالمعاملات قد يُتَسامح فيه لمسيس الحاجات والضرورات، ولا حاجة في الشهادة؛ فإن في البصراء مُتّسعاً، والصوت يشبه الصوت.
واختلف أصحابنا في شهادة الأعمى على المضبوط (4) حيث يَستيقن منه قولاً، وذلك مثل أن يتمسك الأعمى بإنسان فيضع ذلك الإنسان فَلْق فيه على صماخ أذنه ويقرّ، فإذا تعلق الأعمى به، وشهد عليه في مجلس القاضي، ففي سماع شهاته -
__________
(1) ر. الإشراف للقاضي عبد الوهاب: 2/ 971 مسألة: 1960، عيون المجالس: 4/ 1546 مسألة 1087، القوانين الفقهية: 304، تبصرة الحكام: 2/ 87.
(2) في الأصل: " الأعمى ". وهذا التعديل محاولة منا لإقامة العبارة بأدنى تغيير.
(3) في الأصل: " الثاني " وفي (ق): " الناس ".
(4) المضبوط: الإنسان الذي أمسك آخر به، وأحكم قبضته على أطرافه، بحيث لا يستطيع انفكاكاً ولا حراكاً.

(18/615)


والحالة هذه- وجهان مشهوران: قال القاضي: الأصح أنها تقبل، لما ذكرناه في حصول العلم واليقين، وهو المطلوب. ومنهم من قال: لا تقبل، فإن تصوير الضبط على التدقيق الذي ذكرناه عسر؛ فلا يجوز فتح هذا الباب.
وقد تردد أئمتنا في رواية الأعمى، والأظهر منعُها إذا كان السماع في حال العمى، وقال قائلون: يجوز إذا حصلت الثقة الظاهرة، واستدل هؤلاء بأن عائشة كانت تروي وراء الستر، ومعظم الروايات عنها كذلك، والبصراء في هذا المقام كالعميان، وما ذكرناه فيه إذا كان يفرض التحمل في حال العمى.
فأما إذا تحمل الشهادة بصيراً، وأداها ضريراً على نسب مشهور، [مثل] (1) أن يسمع إقراراً، ويرى المقر، ونسبُه مشهور لا نزاع فيه، فإذا عمي قال: أشهد أن فلانَ بنَ فلانٍ أقر، فشهادته مقبولة، خلافاً لأبي حنيفة (2) رضوان الله عليه.
والأعمى لا يجوز أن يكون قاضياً، لأنه لا يميّز بين الشهود، والمدعي والمدعى عليه، فإن سمع الشهادة على واحد، ولم يبق إلا القضاء، فعمي، فقال: قضيت على فلان، فهل ينفذ حكمه في هذه القضية الخاصة؟ اختلف أصحابنا في المسألة، فمنهم من قال: يثبت، وهو الذي صححه القاضي ولم ينقل غيرَه. ومنهم من قال: ينعزل بالعمى، ويمتنع عليه القضاء عموماً.
ومن جملة ما يمتنع عليه تنفيذ تلك القضية.
12050 - ومن تمام الكلام في هذا الفصل أنا ذكرنا اختلاف الأصحاب بأن الشهادة على الوقف هل يجوز أن تعتمد التسامعَ، ثم الذي ذكره الصيدلاني والمحققون في الطرق أن الوجهين يجريان في الوقف على معيّن جريانَهما في الوقف على جهة عامة، كجهة الفقراء والمساكين وغيرهما، وكان شيخي يقول: الوجهان في الوقف على الجهات العامة، فأما الوقف على معيّن، فلا يجوز إسناد الشهادة فيه على التسامع.
وهذا لا أعتدّ به؛ من جهة جريان الخلاف في النكاح، مع اختصاصها بشخصين
__________
(1) زيادة اقتضاها السياق.
(2) ر. مختصر الطحاوي: 332، مختصر اختلاف العلماء: 3/ 336 مسألة 1467.

(18/616)


معينين، فالتعويل إذا على ما وجهنا به الوجهَ من دوام الوقف، وجريان العرف بإشاعته، وكذلك القول في النكاح وما يلتحق بالقسم المختلف فيه.
12051 - وذكر صاحب التقريب وجهين في المترجم الأعمى إذا كان القاضي يكلف أهل المجلس السكوتَ، حتى لا يتكلم إلا المدعي والمدعى عليه: أحدهما - أن ذلك لا يجوز؛ لأن الأعمى ليس من أهل نقل الأقوال، فلا نظر إلى تفاصيل الأحوال، وهذا قريب مما ذكرناه من مضبوط الأعمى، والوجه الثاني - أن ذلك مقبول؛ فإن الغرض نقل القول إلى القاضي بحيث لا يستريب في قصد نقل المترجم، وقد ذكرنا في كتاب النكاح وجهين بانعقاد النكاح بحضور أعميين، وذلك أن قلنا: تحملٌ لا يترتب عليه الأداء، وفي تجويزه خرمُ قاعدة المذهب، وإبطال مُعَوّله في أن الغرض من تحمل الشهادة على النكاح، إقامتُها عند مسيس الحاجة إليها.
فصل
متصل بما ذكرناه، والحاجة ماسة إلى درك
معناه وفيه تبيين تحمل الشهادة من النسوان
12052 - فنقول: إذا تحمل الرجل الشهادة على عين إنسان، واعتمد صورته، ولم يُحِط علمُه بنسبه على حسب الإمكان فيه، فيقيم الشهادة على عينه، كما تحملها على عينه، فلو غاب، لم يُقِم الشهادةَ، وكذلك إذا مات.
وقال الأصحاب: إن مات ومست الحاجة إلى إقامة الشهادة يُحضَر (1) مجلس الحكم، ويقيم الشهود الشهادة على عينه، ولو دفن ومست الحاجة إلى الشهادة، قال القاضي: لا ينبش بعد الدفن، وهذا فيه نظر، إذا اشتدت الحاجة، وقرب العهد، ولم ينته إلى التغير الذي يحيل المنظر، فإنا قد نرى النبش بحقوق الآدميين في كون الكفن غصوباً، كما قدمناه في كتاب الجنائز، والأظهر ما ذكره القاضي.
وإذا تحمل الشهادةَ على عين إنسان، وعرف نسبه، فيشهد على عينه في حضرته،
__________
(1) أي الميت الذي شهد على عينه.

(18/617)


ويعتمد النسبَ في غيبته، وإذا عرفه باسمه أحمد، وربما كان يثبته بذلك، فلا يشهد عليه باسمه واسم أبيه؛ فإنه لا يثبت عنده في انتسابه إلى أبيه، ويخرج منه أنه إذا كان لا يعرفه إلا باسمه، فقد لا تنفع الشهادة في غيبته، وإذا عرفه باسمه واسم أبيه: أحمد بن عبد الله، لم يشهد عليه باسمه واسم أبيه وجده؛ فإنه لا يثبت عنده في اسم
الجد.
قال القاضي: ورد كتاب من القاضي إلى الققال رحمه الله ليزوّج فلانة من خاطبها أحمدَ بنِ عبد الله، فكان ذلك الإنسان من جيران الشيخ، فقال رحمه الله: أنا لا أعرفك بأحمدَ بنِ عبد الله، وإنما أعرفك باسمك: أحمد، ولم يزوّج.
فلو قال قائل: هل يجوز في مثل هذه الواقعة أن يسمع المكتوب إليه بينةً على أنه أحمدُ بنُ عبدِ الله؟ قلنا: لا؛ لأن الحاكم لم يفوّض إليه سماعَ البينة على النسب، ولو فوض إليه سماعَ البينة، فلا يسمع هكذا؛ فإن البينات على الأنساب لا يسمعها القضاة إلا في دعوى تتعلق بالنسب.
12053 - ومما يجب الاهتمام به الإحاطة بتحمل الشهادة على النساء، فلا يحل تحمل الشهادة على متنقِّبة، وقد جرت عادات بني الزمان بما نصفه في ذلك، ثم نوضح بطلانه.
فمن عادة المتحملين أن يعتمدوا تعريف شاهد أو شاهدين يقولان: هذه فلانةُ بنتُ فلان، حتى يقعَ التعريفُ، والمتحملُ يتحمل، ثم يؤدي الشهادة جازمةً أن فلانةَ بنتَ فلان أقرت لفلان بكذا، وهذا لا مساغ له على قاعدة المذهب. فإذا كان المتحمل لا يعرف عينها، فكيف يشير إليها عند إقامة الشهادة، ولقد كانت متنقبة عند التحمل،
وتعذَّرَ اعتمادُ النسب على ما ذكرناه.
قال القاضي: أقرت امرأة بمالٍ في مجلسي، فطلب المقر له أن أسجل على إقرارها، وزعمت المقرة أنها بنتُ فلانِ بنِ فلان، وما كنتُ عرفتها بنسبها، فلم يسغ أن أقبل قولها في نسبها (1)، ولا أن أسمع بينةً على نسبها، من غير سبق الدعوى،
__________
(1) لأن النسب لا يثبت بالإقرار.

(18/618)


فنصبت قيِّماً، فادعى عليها: على أبيها (1) مالاً، فلان بن فلان، فأنكرت أنها ابنته، فأقام الخصم البيّنةَ على أنها بنتُ فلانِ بنِ فلان، فسمعتُ البينة، وسجلت على إقرارها للأول؛ تعويلاً على النسب [الذي] (2) ثبت عندي.
فقال له بعض المحصلين: هل يسوغ للقاضي مثل هذه الحيلة، وهي تلبيسٌ؟ قال: بلى (3)؛ قال صلى الله عليه وسلم لعامل خيبر في القصة المعروفة: " أوه!! عين الربا، لا تفعلوا هكذا، ولكن بيعوا الجَمْع بالدراهم، واشتروا بها الجنيب " (4).
وقال تعالى في قصة أيوب عليه السلام: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ} [ص: 44]، ويمينه مشهورة، فأبرّه الله تعالى بما ذكر.
وهذا كلام ملتبس. والقاضي مصرح بأن له نصب القيّم ابتداء، واحتجاجُه بما ذكره دليل على اعتقاده أن ذلك مما يسوغ من القضاة ابتداؤه توصلاً إلى إثبات الغرض.
ولست أرى الأمر كذلك؛ فإنّ نَصْب القاضي قيماً، وتكليفَه الدعوى عن غائب، أو عن جهة نفسه -وإن لم يفرض قيّماً- تلقينُ دعوى باطلة، والدعوى الباطلة كلا دعوى، فكيف يسوغ بناء الشهادة عليها؟ وأنّى يشبه هذا قصةَ عامل خيبر!! والذي أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم بيعٌ صحيح، والقصود لا تُبطل العقود، وقصةُ أيوب مَحملها أن الضرب بالضِّغث وفاءٌ باليمين، إذا (5) اشتمل على قضبانٍ على العدد المذكور في اليمين.
فالوجه أن يقال: إذا كان وكلاء المجلس (6) يتفطنون لمثل هذا، فلو نصبوا مدعياً
__________
(1) المعنى أنه طالبها بدين على أبيها: فلان بن فلان -وتركتُه عندها- وهذا الاسم الذي ينسبها إليه اسمٌ مفترض، لا علاقة لها به، فتنكر بالضرورة، فيقيم الخصم البينة على نسبها، فيسجل القاضي إقرارها. (2) في (2) الأصل: " التي ".
(3) بلى: بمعنى نعم، مع أنها في جواب الإثبات، وذلك جائز، وعليه شواهد من صحيح البخاري ومسلم، وقد تقدم هذا موضحاً مفصلاً.
(4) سبق هذا الحديث في باب الربا.
(5) إذا: بمعنى (إذ).
(6) لم يسبق ذكر (وكلاء المجلس) ولا بيان لمن يعنيهم الإمام بذلك، بل عُني بتفسير (أصحاب=

(18/619)


في مثل ما ذكره، فليس للقاضي أن يتجسس ويبحث، ولكن عليه أن يصغي إلى الدعوى.
ولو أقرت امرأة في مجلس القاضي، فقال المقَرّ له: هذه فلانة بنت فلان، وغرضي الإشهادُ على نسبها؛ فإن إقامة الشهادة على العين لا [تعتبر] (1) إذا غابت أو ماتت، فإن أقرت المرأة بالنسب فإقرارها يفسد ترتيبَ المقصود؛ فإن البينة إنما تُسمع مع الجحود، أو مع عدم الإقرار، فلو أنكرت النسب، فقد يظهر أن يقال: للمقَر له
أن يثبت نسبها بالبينة، حتى تتأد الحجةُ والإشهاد.
وفيه إشكال؛ فإن القاضي يقول: أقرت هذه التي ادعيتَ عليها، فطالِبْها إن كان الحق ناجزاً حالاً، فلو قال: أبغي تأكيد الحجة في المآل، فالقاضي يقول: ليس لك ذلك بعد ثبوت حقّك عِياناً، وإنما ترتبط الدعوى بالنسب إذا كان ثبوته يوجب طلَبَه، فالأمر كما ذكرناه، فقد يقال: لا حكم لإقرارها إن أثبتنا هذا المسلك؛ فإن نسبها لا يثبت بإقرارها، بل هي مدعية فيما جاءت به، فلو صح إجابة المدعي لغرض التسجيل وتأكيد الحجة، فقد يَسقُط أثر إقرارها.
12054 - وكل ما ذكرته جريان على ترتيبين في ذكر طرق الطلب، وإلا فالذي يجب القطع به أن المقَرَّ له لا يُثبت نسبها بالطريقة التي رددناها، ولكن يلتمس من القاضي أن يسجل على حليتها وصورتها. هذا أقصى الإمكان، ثم الحلية المجردة تنفع عند إعادة الشهادة مع لَبسٍ عظيم ذكرناه في حلية العبد؛ فإن الحلية إذا تجردت عن النسب كانت كحلية العبد الغائب، وقد تقدم القول فيها، فلا طريق إلا ما ذكره القاضي.
__________
=مسائله) وخلاف الأصحاب فيما يقصده الشافعي بهذا اللفظ، ولم نجد هذا اللفظ (وكلاء المجلس) مفسراً عند الغزالي في البسيط، أو الرافعي في الشرح الكبير، أو النووي في الروضة، ولا في أدب القضاء عند ابن أبي الدم، ولا في غير هذه من المصادر التي بين أيدينا. اللهمّ إلا في كتاب روضة القضاة للسمناني، فقد قال: " ينبغي للقاضي أن يتخذ من الوكلاء الشيوخ والكهول " ثم ذكر صفاتهم التي ينبغي أن يتحلَّوا بها، ولكنه لم يبين مهامَّهم، وأعمالهم، والفرق بينهم وبين المستخلفين -إن كانوا- وبين أصحاب مسائله. (ر. روضة القضاة وطريق النجاة: 122).
(1) غير مقروءة بالأصل.

(18/620)


ولكن الاستدراك عليه أن القاضي لا ينشىء ذلك، بل يُفرض صَدَره من الخصم أو وكلاء المجلس، هذا تمام ما أردنا أن نذكره في ذلك.
فخرج من مجموع ما حصّلناه أن من أراد أن يتحمل الشهادة على امرأة، فينبغي أن يكشف وجهها، وينظر إليها، ثم في الإعادة يكشف وجهها ويشير إليها، ولا يلتبس الأمر عليه إذا غابت عند التحمل والإشارة.
وقيل: ادُّعي في مجلس القاضي أبي عاصم على امرأة، وكان للمدعي شهود على عينها، فدعا القاضي بنسوة في قدها وقامتها ولباسها، ثم قال للشهود: ميّزوا التي تشهدون على عينها، فميّزوها، وألزمها الكشف عن وجهها بعد ذلك، فشهدوا على عينها، وكان ما قدمه احتياطاً للإقدام على الكشف، وهو أقصى الإمكان، ولا حرج - وإن كانت المرأة على نهاية الجمال- لمسيس الحاجة، وهذا كتكشفها للطبيب، وكالنظر إلى الفرج لتحمل الشهادة على حاجةٍ، أو على الزنا.
وقيل: أشهد الشيخ القفال على امرأة جاءته مع شاهدين شهدا أنها فلانة، فأثبت الشيخ شهاته في الصك، فمست الحاجة إلى إقامة الشهادة، فلم يُقمها، فاعتُرض عليه، فقال: أَشْهد كما أُثبت، وكان هذا بعد عهد طويل، فأحضر الصكَّ، فإذا فيه أشهدني فلان وفلان على أنها فلانة، وأنها أقرت، ثم قال: كيف أشهد، والشاهدان في السوق وأنا فرعهما.
فهذا الذي ذكرناه وأكّدناه بالصور لاشتداد الاهتمام به تامٌّ في إيضاح المذهب.
ونحن نختتمه بسؤال وجواب:
12055 - فإن قال قائل: قد حكيتم عن العراقيين القطع بالاكتفاء بقول عدلين، وحكيتموه عن الشيخ أبي علي وجهاً، فهلا قلتم: تُتحمل الشهادة على عين امرأة ونسبها، ويعتمد في النسب قولُ عدلين: أنها فلانة بنتُ فلان ابن فلان، فيستتب له أن يشهد -تعويلاً على النسب- في الغَيْبة؟
قلنا: إذا شرطنا الاستفاضة، فهذا لا يتحقق، ولم يحكِ القاضي إلا اشتراط الاستفاضة. وإن صححنا ما ذكره العراقيون، ففي القلب اختلاج وتردد من هذا؛ من جهة أن العين إذا عوينت كرجل يشار إليه، يجوز أن يفرض ارتباط النسب به، فأما إذا

(18/621)


كانت متنقبة، أو وراء ستر، فقول عدلين على النسب في مثل هذه الصورة مشكلٌ، حتى يسوغ أن يبنى عليه إثبات إقرار منتسبة. نعم، لو كشفت عن وجهها وقال عدلان: هذه فلانة بنت فلان، فيثبت النسب، ولكن لا فائدة فيه؛ فإنه عند الإعادة يحتاج إلى رؤيتها، وفي الرؤية مَقْنع عن ذكر النسب.
فإن لم يكن كذلك، فعلى ماذا نحمل معرفة العدلين بأن المتنقبة هي التي نسبوها؟ نعم، إن كانا مَحْرمين، أو كان أحدهما زوجاً والآخر مَحْرماً، فقد ينتظم في ذلك رأي، وبالجملة لا تفريع على الاكتفاء بقول عدلين في إثبات النسب؛ فإن قول العدلين سبيله سبيل الشهادة، وللشهادة شرائط، وإن جعلناه شهادة ووجد شرائطُ الشهادة على الشهادة، فينبغي أن يشهد السامع منهما على شهاته. هذا منتهى المراد.
فصل
قال: " وكذلك يحلف الرجل على ما يعلم بأحد هذه الوجوه ... إلى آخره" (1).
12056 - العلم المسوّغ للشهادة على الغير لا شك أنه يسوّغ للإنسان الحلف في حق نفسه، وقد تجوز اليمين حيث لا تجوز الشهادة، وذلك إذا رأى (روزنامج) (2) أبيه وكان عدلاً عنده، وفيها أنه له على فلانٍ كذا، فله أن يعتمد خطَّ أبيه، ويحلف [عليه] (3) بحيث [يدّعي باليمين] (4) مع الشاهد، والشهادة لا تكتفي بأمثال هذا، وسيأتي هذا في الأيمان مشروحاً من بعدُ، إن شاء الله.
...
__________
(1) ر. المختصر: 5/ 249.
(2) الرزنامج: لفظ دخيل معناه كُتَيِّب يتضمن معرفة الأيام والشهور وطلوع الشمس والقمر على مدار السنة وإدارة صَرْف مرتبات أرباب المعاشات. (المعجم) وهي هنا بمعنى الدفتر والسجل. والعرب عند التعريب يقلبون (الجيم) هاءً مثل: فالوذج= فالوزة. فالرزنامة أصلها: الرزنامج بالفارسية.
(3) في الأصل: " على ".
(4) مكان كلمات انمحت حتى استحالت قراءتها.

(18/622)


باب ما يجب على المرء من القيام بالشهادة
12057 - قال الشافعي رضي الله عنه: " قال الله تعالى: {وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ} [البقرة: 283] ... إلى آخره " (1).
والكلام في الباب يشتمل على مقصودين: أحدهما - أن من تحمل الشهادة على شيء استشهد فيها، فإذا مست الحاجة إلى إقامة الشهادة، نُظر: فإن كان المقصود يتعطل لو لم يشهد، فحق عليه أن يشهد، وإن كان تحملَ الشهادة جمعٌ، والحقُّ يثبت ببعضهم، وهم عشرة مثلاً، فإذا دعا الخصم آحادهم إلى إقامة الشهادة، فامتنعوا، فلا شك أنهم يَحْرَجون، والمأثم يعمهم، وإذا ابتدأ، [فعين] (2) شاهدين، والتمس منهما إقامةَ ما تحملاه، فهل لهما أن يمتنعا؟ فعلى وجهين مشهورين: أحدهما - لهما ذلك؛ فإن الحق يثبت بالباقين.
والثاني - ليس لهما الامتناع؛ فإنا لو سوّغنا لهما ذلك، فقد يمتنع كل اثنين منهم يُدْعَيان إلى إقامة الشهادة، فهذا يؤدي إلى التعطيل. والوجهان مفروضان فيه إذا عيّن والباقون يرغبون، أو لم تبِن رغبتهم، ولا إباؤهم.
ولعل الخلاف في إحدى الصورتين يترتب على الخلاف في الأخرى، ولو امتنعوا، فهو ما ذكرناه من تأثيم الجميع.
ولو أشهد الرجل شاهدين، فلما استدعى منهما إثبات الشهادة وإقامتها، قال أحدهما: أشهد، وقال الثاني: " لست أشهد؛ فأحلِف معه "، فليس له ذلك، لم يختلف أصحابنا فيه، ولا تعويلَ على احتمالٍ يعنّ، مع نقلنا الوفاق على ثبت.
__________
(1) ر. المختصر: 5/ 249.
(2) في الأصل: " معين ".

(18/623)


ولو أشهد المودَع شاهدين على الرد، فلما أراد إثباته بشهاتهما، قالا: لا نشهد، قم فاحلف، فليس لهما ذلك.
وقد قال الأئمة: لم يرد على شيء من الكبائر الوعيدُ الواردُ على كتمان الشهادة؛ فإنه سبحانه قال: {وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} [البقرة: 283]، قيل في التفسير؛ ومن يكتمها مسخ الله قلبه، وانتزع منه حلاوةَ الطاعة، والاستشعار (1) من ملابسة المعصية.
وإن كان الشاهد غائباً، نُظر: إن كان على مسافة يؤويه الليلُ إلى منزله، لزمه أن يحضر ويؤدي الشهادة، قال الأصحاب: له أن يطلب مركوباً، ثم زادوا، فقالوا: له أن يطلب أجرة مركوب، ثم إن لم يركب، فلا عليه.
قال القاضي: لا يحل أخذ الأجرة على إقامة الشهادة؛ فإنه التزمها لمَّا تحملها، فلزمه إيفاؤها، وإنما الأجرة على ما يناله من نَصَبِ المشي، وهذا مشكل عندي؛ فإن المشي إن لم يكن مستحَقاً، فليس عليه أن يمشي، وإن كان مستحَقاً، فأخْذ الأجرة على المستحَق بعيد. نعم، له أن يقول: اكفني المشقة بإحضار مركوب، وفيه أيضاً [مجالٌ للناظر] (2)؛ فإنه ورّط نفسه في ذلك، ولكن رأيت الطرق مشيرة إلى أن له أن يستدعي مركوباً، فهذا تمام التنبيه على الغرض.
12058 - ولو سمع رجلان إقرار رجل، ولم يُشهدْهما، فلهما أن يشهدا على إقراره، وهل يلزمهما ذلك؟ اختلف أصحابنا في المسألة: فمنهم من قال: يلزمهما، كما لو أُشهدا، ومنم من قال: لا يَلزمهما، بخلاف ما لو تحملا؛ فإن التحمل التزام، وكأنه بمثابة ضمان الأموال، أثبته الشرع مُلزماً، ومن يوجب إقامةَ الشهادة، فلا محمل له إلا الحِسبةُ في تدارك ما أشرف على الضياع، وقد اختلف أصحاب أبي حنيفة (3) رضوان الله عليه حَسَب اختلافنا.
__________
(1) المعنى: انتزع منه الأحساس بالخوف من ملابسة المعاصي، فتردّى فيها، والعياذ بالله.
(2) في الأصل: " مجال الناظر ".
(3) ر. مختصر اختلاف العلماء: 3/ 358 مسألة: 1491، مختصر الطحاوي: 336.

(18/624)


12059 - ولو كان الشاهد المتحمل على مسادة القصر، لم يلزمه الحضور، والشهادةُ على الشهادة أثبتت لمثل ذلك. وإن كان على مسافة فوق المعروفة بمسافة العدوى، ودون مسافة القصر، ففي المسألة وجهان أجرينا مثلهما في الاستعداء على الخصم وسنجريهما في قبول شهادة الفروع عند غيبة الأصول.
وقد نجز الغرض في هذا الطرف، ولم يبق إلا أنه لو أشهد شاهدين، فمات أحدُهما، فله أن يكلف الثانيَ إقامةَ الشهادة إذا كان الحلف مع الشاهد ممكناًً، وإن لم يكن ذلك ممكناً، فقد يجب إذا أمكنه إشهادَ شاهدٍ ثانٍ، ثم تكليفه الإقامة، وإن لم يكن في شهاته فائدة، فلا معنى لشهاته.
12060 - فأما القول في التحمل، فنقول: ما لا يصح دون الشهادة عليه، فإذا فرض الدعاء إلى تحمل الشهادة، فالقيام به من فروض الكفايات، حتى إذا امتنع الناس عن التحمل عمّهم الحرج، كما يعمهم في تعطيل كل فرض من فروض الكفايات، وهذا كالنكاح والإشهاد عليه.
ولو عيّن من يريد الإشهاد رجلين، وفي غيرهما مَقْنع، فلا يَحْرَجان بالامتناع، وليس هذا كما لو امتنع من المتحملين شاهدان؛ حيث لا يتعطل الحق بامتناعهما، فإنا ذكرنا وجهين ثَمَّ، والفرق أن التحمل مسلك في الالتزام، كما قدمناه، وهذا لا يتحقق في ابتداء التحمل.
هذا إذا كان الإشهاد على ما لا يصح دون الإشهاد، وفي تعطيله ضِرارٌ عظيم.
12061 - فأما الإشهاد على عقود الأموال، فهل نقول: تحمُّل الشهادة فيها من فروض الكفايات؟ فعلى وجهين مشهورين: أحدهما - أنه ليس من فروض الكفايات؛ فإن أصل الإشهاد ليس يجب. والثاني - أنه من الفروض فإن الحاجات ماسة إلى تأكيد أسباب الملك بالشهادات.
ثم للوجهين مستند من اختلاف المفسرين في قوله تعالى: {وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} [البقرة: 282]، قيل: أراد أن لا يأبى من تحمل الشهادة عن الأداء، وقيل: أراد الإباء عن التحمل، فنَهى عنه.

(18/625)


12062 - وأما كِتْبةُ الوثيقة، هل هي من فروض الكفايات كتحمل الشهادة؟ فعلى وجهين. وتوجيههما يقرب من توجيه الوجهين في التحمل؛ فإن الحاجات ماسَّة إلى تقييد الحُجج بالصكوك، ولا يخفى غَناؤها الظاهر في التذكير، وإن لم يكن عليها معوّل عند فرض النسيان.
وهذا الاختلاف مأخوذ من اختلاف المفسرين في قوله تعالى: {وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ} [البقرة: 282]، قيل: هو محمول على فعل المجهول، وهو الذي يسمى: " فعل ما لم يسمّ فاعله "، فالمعنيُّ به -على هذا- لا يلحق ضرر بالكاتب، فعلى هذا لا يجب الكِتبة. ومنهم من قال: أراد أن الكاتب والشاهد لا يفعلان ما فيه ضرر ملتحق بالناس، فعلى هذا يجب الكِتبة فرضاً على الكفاية.
ثم قال الأئمة: للكاتب طلبُ الأجرة، وإن قلنا: الكِتْبة فرض على الكفاية.
وتحمل الشهادة ليس مما يستغرق به منفعةٌ متقومة، ولكن لو كلف المشي إلى موضع، فقد ألحقه الأصحاب بالكِتْبة، ثم حيث أوجبنا تحمل الشهادة لا نوجب (1) على المتحمل أن يمشي إلى موضع، فيتحملَ الشهادة به إلا أن يكون المُشهِدُ مريضاً لا يقدر على أن يأتي الشاهدَ ويشهده؛ فإذ ذاك يجبُ إذا لم تمس الحاجة إلى قطع مسافة، فإن مست الحاجة إليه فتفصيل القول في المسافات كتفصيل القول في الإقامة (2)، إلا أن التحمل فرض كفاية، والإقامة فرضُ عين، وهذا فيه إذا لم يجد المريض من يتحمل، ومكانه قريب من مكانه.
...
__________
(1) ضبطت في الأصل: يُوجَب.
(2) المراد إقامة الشهادة.

(18/626)


باب شرط الذين تقبل شهادتهم
قال الشافعي: " قال الله تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2].
12063 - مقصود الباب ذكر الشرائط المرعية في الشهود ليكونوا من أهل الشهادة، وما نذكره كالمعاقد والتراجم، والتفاصيل بين أيدينا.
فيشترط أن يكون الشاهد عاقلاً، فلا قول لمجنون، ويشترط أن يكون بالغاً، فشهادة الصبي مردودة عندنا، ويشترط أن يكون حراً، فشهادة العبد مردودة، وقد خالف في ذلك أحمد (2) وبعض السلف (3)، ونحن لا ننكر أن في الشهادة مشابهة بيّنة مع الولاية، والعبد ليس من أهل الولاية، والسبب فيه أن الاستقلال بالتحفظ، وإقامة أركان الشهادة، لا يتأتى ممن هو [مستغرَق] (4) المنفعة، كما لا يتأتى منه القيام بالولاية.
والإسلام شرطٌ في الشاهد، فلا تقبل شهادة كافر بحال، لا على الكافر، ولا على المسلم، خلافاً لأبي حنيفة (5) رضوان الله عليه، واعتماده على أن الكافر يلي ابنته
__________
(1) ر. المختصر: 5/ 249.
(2) ر. رؤوس المسائل للعكبري: 6/ 1005 مسألة 2257، المغني لابن قدامة: 12/ 71، الإنصاف للمرداوي: 12/ 60.
(3) بعض السلف: منهم -كما في المغني لابن قدامة- عروة بن الزبير، وشريح القاضي، وابن سيرين، وأبو ثور، وعثمان البتي (ر. المغنى: 12/ 71).
(4) في الأصل: " يستغرق ".
(5) ما رأيناه عند الأحناف أن الكفار تقبل شهادة بعضهم على بعض، ولكن لم نجد القول بقبول شهادة الكافر على المسلم، فيما رجعنا إليه من مصادر. (ر. مختصر الطحاوي: 335، المبسوط: 16/ 140، رؤوس المسائل: 529، مختصر اختلاف العلماء: 4/ 340 مسألة: 1471، طريقة الخلاف: 373 مسألة 156، إيثار الإنصاف: 341).

(18/627)


الكافرة في نفسها ومالها، فظاهر المذهب ما قال (1). وقد ذكرنا الجواب عن الولاية.
قال الحليمي: لا تثبت الولاية للكافر وتمسك بلفظ الشافعي في المختصر، فإنه قال في الكفار: " لا نزوجهم إلا بوليٍّ وشهود مسلمين " (2)، فصرف قوله " مسلمين " إلى الولي والشهود. واللفظ الذي ذكره لا يعارض قول الشافعي في المختصر: " وولي الكافرة كافر " (3).
ويشترط في الشاهد العدالةُ -وسيأتي وصفها- وحفظُ المروءة، وهو مشروح بين أيدينا، ويشترط الذكورة في بعض الشهادات، وعدّ عادّون انتفاءَ التهمة، وكل ذلك جُملٌ ستفصّل، إن شاء الله.
...
__________
(1) ما قال: المراد الشافعي، فإن الكلام في شرح قوله، وتمسكه بظاهر الآية الكريمة: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ}.
(2) ر. المختصر: 3/ 293.
(3) ر. المختصر: 3/ 265.

(18/628)


باب الأقضية واليمين مع الشاهد
12064 - روى الشافعي بإسناده عن عمرو بن دينار عن ابن عباس: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بالشاهد واليمين، قال عمرو: وذلك في الأموال " (1).
فذهب الشافعي رضي الله عنه أن القاضي يقضي بالشاهد الواحد الذكر، ويمين المدعي في الأموال، وما يُقْصد به المال.
وكل ما لا يثبت إلا بشهادة رجلين لا يثبت بالشاهد واليمين، وقد يثبت بالشاهد والمرأتين ما لا يثبت بالشاهد واليمين، وهو عيوب النساء.
والأصل اختصاص القضاء بالشاهد واليمين بالأموال وما يؤول إليها.
12065 - ثم قال الأصحاب: ينبغي أن تتقدم شهادة الشاهد الواحد واليمينُ تعقُبها، ولو تقدمت اليمين، لم يُعتدّ بها؛ فإن سبب قبولِ اليمين قوةُ جانب المدعي بالشاهد الواحد. ولم يختلف الأصحاب في أن المدعي يتعين عليه تصديق شاهده في يمينه، فيحلف على ثبوت ما يدعيه، وعلى أن شاهده صادق محق، وسبب اشتراط ذلك ارتباط اليمين بالشاهد؛ فإنهما جنسان مختلفان، ويصير ارتباط أحدهما بالثاني بمثابة اتحاد نوع البينة.
__________
(1) ر. المختصر: 5/ 250.
وحديث ابن عباس رواه مسلم، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه، والحاكم، والشافعي في الأم وقال: " وهذا الحديث ثابت عندنا عن رسول اله صلى الله عليه وسلم، الذي لا يرد أحد من أهل العلم مثله لو لم يكن فيها غيره، مع أن معه غيره مما يشُدُّه " (ر. الأم: 7/ 7، مسلم: الأقضية، باب القضاء باليمين مع الشاهد، ح 1712، أبو داود: الأقضية، باب القضاء باليمين والشاهد، ح3608، 3609، النسائي في الكبرى: القضاء، باب الحكم باليمين مع الشاهد الواحد، ح6011، 6012، ابن ماجه: الأحكام، باب القضاء بالشاهد واليمين، ح2370، التلخيص: 4/ 377 ح2670).

(18/629)


وإذا كان يشهد رجل وامرأتان، فلا ترتيب، فلو شهدت المرأتان [أولاً] (1)، جاز؛ فإن النوع متحد، والاختلاف في الذكورة والأنوثة لا يوجب الاختلاف في نوع الشهادة، ويمين المدعي وإن كانت حجة، فهي قوله، فلا بد من اعتضادها بتقدم الشهادة.
12066 - ثم قال العراقيون: ينبغي أن يعدَّل الشاهدُ قبل يمين المدعي، فيثني عليه المزكّي بقبول القول، وجواز الشهادة، ثم يحلف المدعي بعد التعديل، حتى لو جرى التعديل بعد يمينه، فلا يُعتدُّ باليمين، كما لو تقدمت اليمين على الشهادة، وهذا الذي ذكروه ظاهر؛ فإن قوة الجَنْبة (2) إنما تظهر إذا ظهرت عدالة الشاهد، فإذا أنشأ اليمين قبل ذلك، كانت اليمين مصادفةً حالةً لم تظهر فيها قوة الحالف.
وقد يتطرق احتمالٌ؛ من جهة أن التعديل- وإن جرى بعد اليمين، فهو مستند إلى الشهادة المتقدمة، والظاهر ما قالوه.
ولم أر أحداً من الأصحاب تضايق في تقديم تصديق الشاهد في اليمين على إثبات الحق، حتى يقال: الشرط أن يقول أولاً: بالله إن شاهدي هذا محق صادق، ولي على خصمي كذا، فلو عكس، فأثبت الحق أولاً، ثم صدق الشاهدَ، فلست أرى بذلك بأساً، فلينظر الناظر في هذا.
12067 - ثم إذا وقع القضاء، فللأصحاب اختلاف في أنه يحال القضاءُ على ماذا؟ فمنهم من قال: هو محال على الشاهد واليمينُ تأكيد وعَضَدٌ، فعلى هذا لو رجع الشاهد، ورأينا الرجوع عن الشهادة مثبتاً غُرما، اختص بالغرم الشاهد، ومن أصحابنا من قال: القضاء يحال على اليمين، كما يحال ثبوت المقصود على أيمان القسامة، وإن كانت تستدعي لوثاً، ومن أصحابنا من قال: القضاء محال على اليمين والشاهد.
ويمكن أن يعلق تردد الأصحاب في هذا باختلاف ألفاظ الأخبار، ففي بعضها أنه
__________
(1) زيادة من (ق).
(2) الجَنْبة: من الشيء جانبه وناحيته. (المعجم). والمعنى: قوة جانب المدعي التي ترتب عليها قبول يمينه.

(18/630)


قضى باليمين مع الشاهد، وفي بعضها أنه قضى بالشاهد ويمين الطالب، وهذا يدل على إحالة القضاء عليهما.
فإن أحلنا القضاء عليهما، فعلى الشاهد إذا رجع نصف الغرم، وإن أحلنا القضاء على اليمين، فقد قال الأصحاب: لا غرم على الشاهد إذا رجع؛ فإن القضاء لم يقع بشهاته، وهذا محتمل عندنا؛ لأن القضاء وإن وقع باليمين، فمنفِّذُها ومُجريها شهادةُ الشاهد، فيمكن أن يخرَّج في الشاهد الخلاف المذكور في المزكي إذا رجع عن التزكية. والعلم عند الله.
فصل
قال: " ولو أتى قوم بشاهدٍ أن لأبيهم على فلانٍ حقاً ... إلى آخره " (1).
12068 - الورثة إذا ادَّعَوْا ديناً لمورثهم، وأقاموا شاهداًً، إن حلف كل واحد منهم يميناً مع ذلك الشاهد، ثبت الدين، واستحقوه إرثاً، وإن نكلوا، لم يستحقوا، فإن حلف البعض، ونكل البعض، استحق الحالف نصيبه، دون الناكل، وفي ذلك كلام نذكره بعد انتظام الترتيب، إن شاء الله.
ثم من نكل، فلو مات الناكل، فأراد وارثه أن يحلف مع الشاهد الأول [ليستحق] (2) حصةَ الناكل ميراثاً عنه، لم يجد إلى ذلك سبيلاً، فإنه لو حلف، لكان ذلك باستحقاق الخلافةِ والوراثةِ، وقد بطل حقُّ الناكل عن اليمين لنكوله، بدليل أنه لو أراد في حياته أن يعود إلى اليمين، لم يجد إليه سبيلاً، فلا يثبت لوارثه بالخلافة عنه ما أبطله على نفسه في حياته.
ولو أراد وارث الناكل أن يقيم شاهداً آخر، ويحلف معه، أما الحلف، فلا معنى له بعد ما أبطله المورِّث الناكل، ولكن هذا الشاهد هل ينضم إلى الشاهد الذي أقامه الورثة في ابتداء الخصومة، حتى يقال: تمت البيّنة، فتُغني عن اليمين؟ هذا بمثابة
__________
(1) ر. المختصر: 5/ 120.
(2) في الأصل: "يستحق".

(18/631)


ما لو أقام المورِّث شاهداً في خصومةٍ، ومات، فأقام الوارث شاهداًً آخر.
وهذا فيه احتمال من قِبل أن الوارث يحتاج إلى تجديد الدعوى، وما يأتي به في حكم خصومة جديدة، فلو قيل: لا بد من استعادة شهادة الشاهد الأول، لكان ممكناًً. ولو قيل: انتظام الخلافة [يوجب] (1) البناء على ما كان، لم يبعُد، ولذلك لو أقام الموروث الأول شاهداًً، ومات قبل أن يحلف أو ينكل، فأراد الوارث أن يحلف مع ذلك الشاهد، فهذا محتملٌ لما ذكرناه؛ من جهة أنه يحتاج إلى تجديد الدعوى، ويُخَرَّجُ فيه أن الورثة إذا أقاموا شاهداًً، وحلف بعضهم، ومات بعضهم قبل أن يحلف أو ينكُل، فوارثه هل يحلف؟ فيه التردد الذي ذكرته؛ من جهة احتياجه إلى ابتداء الدعوى، وسيأتي لهذا نظير في الفروع، إن شاء الله تعالى.
فإن قيل إذا كنتم تقولون: لا يحلف الوارث، وإن لم ينكُل الموروث، فأي فائدة في فرض الكلام في النكول؟
قلنا: نكوله سدَّ بابَ اليمين على الوارث، وإن ابتدأ الدعوى وجددها، فليثبت الناظر هاهنا.
وإذا لم يحلف ولم ينكُل، فلا يمتنع على الوارث [أن يجدد] (2) الدعوى والحلف.
12069 - فإن انقسم الورثة إلى حضورٍ وغُيّب، أو صغارٍ وكبار، أو مجانينَ وعقلاءَ، فإذا أقام العاقل البالغ شاهداًً وحلف معه، قُضي له بنصيبه، ووُقِف نصيبُ من يمتنع تحليفه، فإذا آب الغائب، وأفاق وبلغ المجنون والصبي، حلفوا، واستحقوا حصصهم، ولا حاجة بهم إلى استعادة الشهادة، وإن لم يقمها من يليهم (3)، والسبب فيه أن الشهادة متعلقة بالميراث وإثبات ملك الموروث، وذلك في حكم الخصلة الواحدة، فإذا ثبتت الشهادة في حق البعض، ثبتت في حق الجميع وإن
__________
(1) في الأصل: " فوجب ".
(2) في الأصل: " أنه يجرّد ".
(3) أي الأوصياء القيّم.

(18/632)


لم يصدر الدعوى من الجميع، ولا [ممن] (1) ينوب عنهم، وليس كاليمين؛ فإن اليمين، وإن تعلقت بتصديق الشاهد وإثبات ملك الموروث، فمبنى اليمين في الشرع على اختصاص أثرها دفعاً ونفعاً [بالحالف] (2)، ولا يتصور أن يحلف الإنسان لغيره، فالشهادة (3) أبداً حكمها التعدّي.
فإذا كان في الورثة مجنون، وكنا ننظر إفاقته ليحلف، فمات، فقد قال الأصحاب: يقوم وارثه مقامه، فيحلف ويستحق، وهذا من قولهم يدل على أن من لم يحلف، ولم ينكُل إذا مات، قام وارثه مقامه من غير استعادة الشهادة، وقد يتخيل فرق، والأصل هذا.
ثم إذا كان في الورثة صبي وبالغ، أو حاضر وغائب، وأقام البالغ الحاضر الشاهدَ، وكان المدعَى عيناً في يد غاصب، وهي ميراث بزعم الورثة، فإذا حلف البالغ الحاضر، فهل نزيل يد المدعى عليه عن حصة الصبي والغائب، ونَقِفَها إلى زوال المانع؟ ذكر القاضي قولين في ذلك، وهذا فيه بُعد، والوجه ألا تزال يده عن حصة من لم يحلف؛ فإن الحجة في تلك الحصة ما تمت، فلا طريق عندنا إلا القطع بتقرير يده.
ولو أوصى لشخصين بشيء، فادعى أحدهما، وأقام شاهداًً، وحلف مع شاهده، استحق نصيبه، ولا تزال يد المدعى عليه عن نصيب الموصى له الثاني، إذا كان غائباً ما لم يراجع، فكذلك القول في سائر الموادع.
والفرق أن الموصى له يدعي الملك لنفسه، والوارث يُثبت الملك لموروثه، ثم الشرع ينقله إليه بالخلافة، وكل واحد من الموصى لهما منفرد بملكه وحقه، وإذا حضر الغائب في الوصية، لم تغنه الشهادة التي أقامها الحاضر، بل عليه افتتاحُ دعوى، وإقامةُ شاهد، فإن شهد له ذلك الأول، فذاك، وإلا طلب شاهداً آخر.
__________
(1) في الأصل: " فيمن ".
(2) في الأصل: " بالحلف ".
(3) كذا: "فالشهادة" (بالفاء) مكان الواو، وهذا معهود في لغة الإمام ومعاصريه.

(18/633)


وهذا [لِما] (1) ذكرناه من انفصال إحدى الوصيتين عن الأخرى. وقد نجز الكلام في هذا الفن على الترتيب الذي ذكرناه.
12070 - وبقي كلامٌ رمزنا إليه في صدر الفصل، وهذا أوان الوفاء به.
فإذا خلف الرجل وارثين، فادعيا ديناً لموروثهما، وشهد شاهد واحد، وحلف أحدهما مع الشاهد، وأثبتنا مقدار نصيبه، فقد قال الشافعي: يختص الحالف بحصته، لا يساهمه [فيه] (2) الناكل، ونصَّ في كتاب الصلح على أن رجلين لو ادعيا عيناً ميراثاً في يد رجل، وزعما أنهما ورثاها، فأقر المدعى عليه لأحدهما بالإرث في مقدار حصته وأنكر الثاني، قال: يثبت نصف العين المدعاة، ثم قال: صاحب المُقَرِّ له يشاركه ويساهمه في الذي يسلم، فإنهما اعترفا ابتداء بأن المال مشترك بينهما إرثاً، وهذا يخالف الصورة التي قدمناها في اليمين مع الشاهد.
قال الإمام (3): في المسألتين طريقان: من أصحابنا من قال: افترقا؛ لأن المدعَى في أحدهما دين، وهي مسألة الشاهد واليمين، فاختص الحالف، فإن الذي قبضه ليس عيناً مستحقة بينهما، ولو كانت مسألة الإقرار في الدين، لكانت هكذا، ولكان المقر له ينفرد بما يسلم، لا يشاركه الآخر، ولو كانت مسألة الشاهد في عينٍ، لاشترك الناكل والحالف.
وهذا بعيد.
والطريقة الصحيحة- أن اختلاف المسألتين بسبب تعلق الاستحقاق في إحداهما باليمين مع الشاهد، فلو أثبتنا الشركة، لاستحق الناكل بيمين غيره، وهذا لا سبيل إليه مع إبطال حق نفسه بالنكول، وفي مسألة الإقرار ثبت ما ثبت بإقرار المدعى عليه، ثم ترتب على إقراره إقرار المقَرّ له بأن ما سلّم إرثٌ.
وفي المسألة احتمال، كما ذكرناه.
__________
(1) في الأصل: " كما ".
(2) في الأصل: " منه " والضمير مذكر على معنى النصيب أو السهم ونحوه.
(3) الإمام: يقصد به والده.

(18/634)


12071 - ولو ادعى الورثة ديناً أو عيناً، وكان منهم غائب وحاضر، فأقام الحاضر شاهدين، فيقضى للحاضر بنصيبه، فإن كان المدعى عيناً، انتُزع نصيبُ الغائب -قولاً واحداً- من يد المدعى عليه؛ فإن البينة تامة لا يمين فيها، وقد أثبتت الميراث، وإن كان المدعى ديناً فهل تستوفَى حصة الغائب- وقد قامت البيّنة؟ فعلى وجهين: أحدهما - تستوفى، كما تزال يد المدعى عليه عن العين. والثاني - لا تُستوفى. وهذا في الغائب.
فإن كان مجنوناً أو صبياً استوفى السلطان حصتَهما بالولاية.
وما ذكرناه في الغائب لا يختص بهذه الصورة، بل من أقر لغائب بعين، واعترف بأنه غصبها، أزال السلطان يدَه، وحفظَها للغائب، وإن أقر بدينٍ لغائب، فهل يستوفيها (1)؟ فعلى الخلاف الذي ذكرناه.
ولو ادعى رجل أن فلاناً أوصى لي ولفلان الغائب بهذه الدار، وأقام شاهدين، فتثبت الوصية في حق هذا المقيم، ولا تثبت في حق الغائب، وإذا عاد استعاد الشهادة، أو أقام بينة أخرى.
وما ذكرناه في الورثة من أصول الكتاب، وهو في ظاهر الأمر كالخارج عن قياس الأصول؛ من حيث إن الحاضر يُثبت ملك الغائب من غير ولاية ولا نيابة، وسبب ذلك أنه يثبت ملك الميت، ولكل واحد من الورثة هذا السلطان، ليتَوَصَّل إلى ملك نفسه، ثم إذا ثبت ملكُ الميت، عم الإرث.
فصل
قال: " وليس للغريم، ولا الموصى له ... إلى آخره " (2).
12072 - الورثة إذا ادّعَوْا ديناً للميت، وأقاموا شاهداًً، ونكلوا عن اليمين، وكان على الميت ديون [لغرماء] (3)، فهل لهم أن يحلفوا إذا نكل الورثة؟ فيه قولان،
__________
(1) كذا يعود ضمير المؤنت على الدين. وهو وارد -بتأويلٍ- في فصيح الكلام الذي يحتج به.
فلتقدّر هنا الدراهم أو الدنانير ونحوها.
(2) ر. المختصر: 5/ 120.
(3) في الأصل: "الغرماء".

(18/635)


وكذلك لو فرض ذلك في الوصية، وقد استقصيتُ هذا في كتاب القسامة في مسألة أم الولد على أبلغ وجه، فلم أر الإعادة.
12073 - ثم قال: " ولو أقام شاهداً أنه سرق له متاعاً ... إلى آخره " (1).
وهذا أيضاًً مما ذكرناه في باب الشهادة على الجناية. والذي لا بد منه أن من قال: سرق فلان نصاباً من حرزه، وأقام على ذلك شاهداً وامرأتين، فالقطعُ لا يَثْبت، والمالُ يَثْبُت.
ثم فرع الشافعي (2) عليه مسألةً، فقال: إذا قال الرجل: " إن كنتُ غصبتُ شيئاً، فأنتِ طالق "، وخاطب زوجتَه، فأقام [المدعي الخَصْمُ] (3) شاهداً وامرأتين، أو شاهداًً، وحلف معه، ثبت الغصب، ولم يُحكم بوقوع الطلاق؛ فإن الطلاق لا يثبت بالشاهد والمرأتين، والشاهد واليمين.
قال ابنُ سُرَيْج: لو قضى القاضي عليه بالغصب بالشاهد واليمين، أو بالشاهد والمرأتين أولاً، فقال المقضي عليه: " إن كنتُ غصبتُ، فامرأتي طالق "، فيُقضَى بوقوع الطلاق، بخلاف ما لو تقدم التعليق على نفوذ القضاء. وهذا أجراه الأصحاب كذلك.
وحكى شيخي أن من أصحابنا من خالف ابنَ سريج، ولم يفرق بين أن يتقدم القضاء، أو يتأخر، فقال: لا يقع الطلاق في الصورتين؛ فإن التعليق وإن سبق، فالقضاء بعده قد أكد الأمر، فكان كالقضاء قبله.
وهذا وإن كان متجهاً، فلم أره إلا لشيخي.
قيل للقاضي: ولو قال لزوجته إن ولدت، فأنت طالق، فأقامت أربعة من القوابل على الولادة، فقال القاضي: لا يقع الطلاق؛ لما تقدم، ويثبت النسب؛ لأن الولادة تثبت، ثم الفراش يُلْحقُ النسب، وكذلك لو علّق طلاقها برؤية الهلال، وشهد واحد
__________
(1) السابق نفسه.
(2) ر. المختصر: 5/ 251. والكلام بلفظ مقارب لهذا، لا بعينه.
(3) في الأصل: " مدعي الخصم ".

(18/636)


على رؤية الهلال، ورأينا الحكم بثبوت الهلال، لم يقع الطلاق بناء على ما مهدناه.
فصل (1)
قال: " ولو أقام شاهداً على جارية أنها له وابنها ولد منه ... إلى آخره " (2).
12074 - إذا كان في يد إنسان جاريةٌ وولدُها، وكان يسترقّهما، فجاء مدعٍ وادعى أن هذه الجارية أمُّ ولدي، وهذا ولدي منها، وأقام على ذلك شاهداًً، وحلف معه، فقد قال الشافعي فيما نقله المزني: تثبت أميةُ الولد، ولا يُقضى بحرية الولد على حكم دعواه، واعتل أن الحرية لا تثبت بالشاهد واليمين.
ونقل المزني قولاً آخر: أنه يُقضى له بالولد منتسباً إليه، ويقع الحكم بالحرية، فقد ثبت قولان في الولد كما حكينا، وثبت القطع بأُمّية الولد، أما أُمّية الولد، فالثابت منها اختصاصه بها، وهذا في التحقيق ملكٌ، وعُلقة الاستيلاد تثبت بإقراره وراء اختصاصه بملك الجارية.
فأما القولان في الولد، فتوجيههما: من قال: لا تثبت حرية الولد، احتج بأنه لم يدّع فيه ملكاً، بل أراد إثبات حريةٍ أصلية بشاهد ويمين، وهذا لا سبيل إليه (3).
ومن قال بالقول الثاني، احتج بأن الولد في دعواه جزء من الجارية، وقد ثبت الاستيلاد، فإذا اختص بالجارية على صفة أمية الولد، تعدى ذلك إلى الولد. وهذا بعيد في القياس؛ لأن الجارية وولدها شخصان ويفرض فيهما دَعْوَيَان.
واختار المزني أقيس القولين، وهو أن حرية الولد لا تثبت، واحتج بمسألة نذكرها، ونبين تفصيل المذهب فيها، وهو أنه قال: لو كان في يد إنسان عبد على
__________
(1) وضع الناسخ البسملة هنا قبل كلمة (فصل) مع أنها في وسط الصفحة، وليست أول كلام جديد.
(2) ر. المختصر: 5/ 251.
(3) لأن الحرية ليست مما يثبت بالشاهد واليمين.

(18/637)


زعمه يسترقّه، فقال مدعٍ: هذا العبد ملكي، قد [أعتقته] (1) بحق الملك، وأقام شاهداً وأراد الحلف معه، نقل المزني أن دعوى المدعي لا تثبت (2)، والعبد مقرٌّ في يد المدعى عليه، واحتج بالمسألة التي أوردها، ورجّح قائلاً: إذا كانت الدعوى [لا تُثبت العتق بقول المدعي] (3)، وإن كان ذلك العتق مترتباً على الملك، وكان العتق مسبوقاً -بزعم المدعي- بالملك الثابت للمدعي، ثم الملك والعتق مزدحمان على شخص واحد، فإذا لم تثبت دعواه لمكان العتق حالة الدعوى، فلأن لا تثبت الحرية الأصلية في الولد أولى (4).
وقد اختلف أصحابنا في مسألة العتق والملك في العبد، فقال بعضهم: في ثبوت العتق قولان؛ من حيث إنه ترتب على الملك الذي ادعاه، كالقولين في حرية الولد؛ فإنها مترتبة على أمية الولد في الأم.
ومن أصحابنا من قال: لا يثبت العتق في مسألة العبد، لأنه متشبَّثٌ بدعوى المدعي في تلك المسألة، ولدعوى من يدعي أمية الولد تعلقٌ بما يقبل فيه الشاهد واليمين ثم ذلك الاختصاص على ذلك الوجه يقتضي ولداً لا محالة.
وهذا تكلف، والقياس القطُع في المسألتين بأن حرية الولد وعتق العبد لا يثبت.
فصل
قال: " ولو أقام شاهداً أن أباه تصدق عليه بهذه الدار ... إلى آخره " (5)
12075 - مضمون هذا الفصل مسألتان، ثم كل مسألة لها شُعب.
__________
(1) في الأصل: " أعتقت".
(2) وجه ذلك أنه اعترف بحريةٍ ناجزة في الحال، فلا عُلْقة له به.
(3) عبارة الأصل: " لا تثبت ثبوت العتق بقول المدعي ".
(4) وجه الأولوية عبر عنه الغزالي بقوله: " قال المزني: فإذا كانت الدعوى لا تثبت بحرية ناجزة مع ترتبها على ملكٍ سابق، فكيف تثبت الحجة في الولد ولم يمسّه ملك ولارق، وهو في الحال حرّ " (البسيط: جزء6/ورقة: 143 وجه).
(5) ر. المختصر: 5/ 251.

(18/638)


الأولى- فيه إذا ادعى ثلاثةٌ معاً -مثلاً- داراً في يد إنسان، فقالوا: هذه الدار وقفها أبونا علينا، وكانت ملكَه إلى أن وقفها، ثم على أولادنا بعد انقراضنا، وذكروا مصرِفاً لا ينقطع من جهة الآخِر، فإذا أقاموا شاهداًً، وحلفوا معه، ثبت الوقف على الرأي الأظهر بالشاهد وأيمانهم.
ومن أصحابنا من قال: إذا قلنا: رقبة الوقف ملك الواقف، أو ملك الموقوف عليه، [فالوقف] (1) يثبت بالشاهد واليمين، والشاهد والمرأتين.
وإذا قلنا: الملك في رقبة الوقف لله، فلا يثبت الوقف إلا بشاهدين عدلين.
وهذه الطريقة مزيفة من وجهين: أحدهما - أن مقصودهم إثبات استحقاق المنفعة ملكاً لأنفسهم، فليقع التعويل على مقصود المدعي، والآخر - أنهم يختصون بالرقبة اختصاص من يدعي استيلاد الجارية، وهذا ليس بذاك؛ فإن المستولدة ملك المستولد، والوقف إنما يضاهي الاستيلاد على قولنا: الملك في الموقوف للموقوف عليه، والتفريع بعد هذا على أن الوقف يثبت بالشاهد واليمين. وقد فرضنا الوقف على الترتب كما صورنا المسألة، ثم نذكر ثلاث صور في هذه المسألة تبيّن [القواعد] (2) والأمهات، ونأتي بعدها بما يستوعب الغرض.
12076 - فإحدى المسائل أن يحلفوا ونقضي بثبوت الوقف، فإذا ماتوا، فهل يحلف البطنُ الثاني، أم يعوِّلون على أيمان الأولين؟ فعلى قولين: أحدهما - أنهم لا يحلفون، ويكتفون بثبوت الوقف بما مضى. والثاني - أنهم يحلفون، ولو أبَوْا، لم يثبت الوقف في حقوقهم.
والقولان مأخوذان من أصلٍ، وهو أن البطن الثاني في الوقف المترتب يستحقون ما ينتهي إليهم من جهة الواقف، أم يتلقَّونه من جهة البطن الأول؟ فعلى قولين، وقد بنينا على ذلك مسائل في الوقف، فإن قلنا: التلقِّي من الواقف، فلا بد للبطن الثاني من الحلف، وكأنهم الأولون، وإن قلنا: إنهم يتلقون من البطن الأول، فلا
__________
(1) في الأصل: " بالوقف ".
(2) في الأصل: " للقواعد ".

(18/639)


يحلَّفون؛ لأن الأولين قد حلفوا، وسبيلهم سبيل الورثة، وما أثبته الموروث باليمين والشاهد، فإذا انتقل إلى الورثة، لم يحتاجوا إلى الحلف. هذه مسألة.
12077 - الثانية - إذا نكل الأولون، ولم يحلفوا مع الشاهد أصلاً، وماتوا، فلا خلاف أن البطن الثاني لا يستحقون شيئاً من غير يمين، ولكن لو أرادوا أن يحلفوا ويستحقوا؛ فهل لهم ذلك؟ فعلى قولين، ومأخذهما ومأخذ القولين الأولين [واحد] (1)، ولكن يختلف الترتيب.
فإن قلنا: التلقِّي من الواقف، فيحلف البطن الثاني، وإن قلنا: من البطن الأول، فلا يحلفون؛ لأن الأولين أبطلوا حقوق الأيمان بالنكول، وما بطل عليهم لا يثبتُ لمن يُتَلَقَّى منهم، كما ذكرناه في الموروث وورثة الملك.
ووجه اتحاد المأخذين أنا إن قدرنا التلقِّي من الواقف، فحلِفُ البطن الأول لا يكفي في حق البطن الثاني، وعلى هذا الأصل لو نكل الأولون، لم يبطل حق البطن الثاني، فليحلفوا وليأخذوا.
وإن قلنا: التلقي من البطن الأول، فإذا لم يحلفوا ونكلوا، بطل حق البطن الثاني، وإذا حلفوا، لم يحتاجوا إلى الحلف.
12078 - الصورة الثالثة - فيه إذا حلف البعض، ونكل البعض، مثل أن يحلف واحد وينكل اثنان، أما حصة الحالف فثابتة له، ولا يثبت حق الناكلَيْن، بناء على الأصل الممهد في أن حلف الإنسان لا يُثبت لغيره حقاً، ثم تُترك حصة الناكلَيْن في يد المدعى عليه؛ فإنه لم تقم عليه حجة في ذلك المقدار، ثم إن مات الحالف، فأولاده معه كأولاد جميع الأولين لو حلفوا. وأولاد الناكلَيْن إذا ماتا كأولاد جميع الأولين إذا نكلوا، وإذا ضممنا الكلام، قلنا: ولد الحالف يستحق إذا حلف، وهل يستحق من غير حلف؟ فعلى القولين. وأولاد الناكلَيْن لا يستحقون من غير حلف، وهل يستحقون مع الحلف؟ [فعلى القولين] (2) المذكورين.
__________
(1) انمحت تماماً من الأصل، وقدرناها على ضوء السياق. والحمد لله وافقتنا (ق).
(2) ما بين المعقفين سقط من الأصل، وزاده المحقق إقامة للعبارة. وهو مطموس في (ق).

(18/640)


فهذا بيان الصور المشتملة على القواعد في هذه المسألة.
12079 - وألحق صاحب التقريب [صورة] (1) بما مهدناه، فقال: إذا حلف جميعهم مع الشاهد، ثم مات واحد منهم (2)، فيصرف نصيبه إلى صاحبيه بحكم شرط الواقف؛ فإن مقتضاه ألا يُصرف إلى البطن الثاني شيء ما بقي من البطن الأول أحد.
ثم إذا كان يُصرف نصيبُ من مات إلى الباقيَيْن، وقد كانوا حلفوا معاً، فإذا أخذ [الباقي] (3) نصيبَ الميت، فهل يحتاج إلى أن يحلف مرة أخرى على نصيبه؟ هذا رَتَّبه على أن البطن الثاني هل يحلفون إذا انتهى الاستحقاق إليهم، وقد حلف البطن الأول.
فإن قلنا: لا يحلفون، ويكتفون بحلف البطن الأول، فالذين بقوا لا يحلفون على ما أخذوه من نصيب من مات منهم، ونفْي الحلف أولى هاهنا.
وإن قلنا: أهل البطن الثاني يحلفون، وإن حلف البطن الأول- فهل يحلف الباقون في مسألتنا، وقد حلفوا من قبل؟ فعلى وجهين: أحدهما - يحلفون، قياساً على البطن الثاني. والثاني - لا يحلفون، ولعله الظاهر؛ لأنهم قد حلفوا، وأقاموا الحجة التامة على الوقف وشرطه، فتجديد الحلف في حقهم في حكم إعادة اليمين، وأهل البطن الثاني ما حلفوا قط، فلو أخذوا من غير حلف، لكانوا آخذين بأيمان غيرهم، وهذا بيّن.
12080 - ونحن نذكر صورة خامسة (4) متعلقة بالمسألة الأولى، وننبّه فيها على تمام الغرض، فنقول: إذا حلف واحد من البطن الأول، ونكل اثنان، ووقع القضاء للحالف بنصيبه، فمات الحالف، وتصدت لأخذ نصيبه البطن الثاني والناكلان، فكيف السبيل؟
الوجه: التنبيه على مثار الإشكال أولاً، فنقول: إن صرفنا نصيب الحالف إلى
__________
(1) زيادة من المحقق، اقتضاها السياق.
(2) هذه هي الصورة الرابعة من صور المسألة الأولى.
(3) في الأصل: "الثاني". والمراد: الباقي من البطن الأول. ثم جاءت (ق) موافقة لما قدرناه.
(4) الرابعة هي التي حكاها عن صاحب التقريب.

(18/641)


الناكلَيْن، كان ذلك موافقاً لشرط الواقف؛ فإن موجبه أن لا يصرف إلى البطن الثاني شيء، ما بقي من البطن الأول أحد، ولكن قد أبطلا حقوقهما بالنكول، ولو صرفنا نصيب الحالف إلى البطن الثاني، لكان ذلك مخالفاً لشرط الواقف مع بقاء الناكلَيْن، فاختلف أصحابنا لما نبهنا عليه على ثلاثة أوجه:
فقال بعضهم: يصرف نصيب الحالف إلى البطن الثاني؛ لأن الناكلَيْن أبطلا حقوقهما بالكلية، فصار ذلك منهما بمثابة موتهما، ولو ماتا، لم يجز الصرف إلى البطن الثاني، وهذا ضعيف؛ فإنه مخالفةٌ لشرط الواقف.
والوجه الثاني - أن نصيب الحالف مصروف إلى الناكلَيْن وفاء بالشرط، وهما إن أبطلا حقهما المتلقَّى من الواقف، فهذا حق متجدد لهما بموت الحالف، فلا سبيل إلى إبطاله عليهما.
ومن أصحابنا من قال: لا يصرف إلى الناكلَيْن، ولا إلى البطن الثاني، وقال: هذا المقدار تعذر مصرفه، لما نبهنا عليه من الإشكال في صدْر المسألة، فيصرف إلى أقرب الناس بالمُحَبِّس، وهذا مسلك لنا معروف: مهما (1) تعذر صرف شيء من الوقف إلى المصرف الذي شرطه الواقف بعد صحة الوقف.
12081 - ووراء ما ذكرناه تنبيهات في استكمال التفريع:
أحدها: إن نصيب الناكلَين في أول الأمر متروك على المدعى عليه؛ فإنه لم تثبت فيه حجة، والاستحقاق تبع الحجة، وأما نصيب الحالف، وقد مات -في صورة الأوجه الثلاثة- فقد ثبتت عليه الحجة؛ فإنه حلف عليه في حياته، فلا سبيل إلى تركه بعد وفاته على المدعى عليه، وقد انتزع من يده بحكم وقفٍ لازم، فوقع التردد بعد ذلك في المصرف.
ومما نذكره أنا إن صرفنا إلى الناكلَيْن، فهذا يخرج على التردد الذي ذكرناه في أنهم إذا حلفوا، ثم مات بعضهم، فهل يأخذ الباقون نصيب من مات من غير يمين؟
__________
(1) مهما: بمعنى: إذا.

(18/642)


إن قلنا: لا بد من يمين، فللناكلَيْن أن يحلفا الآن على نصيب الحالف، وإن نكلا من قَبْل عن نصيب أنفسهماً، وإن قلنا: لا يحلف الباقون إذا مات حالف، فههنا يأخذ الناكلان ولا يحلفان. وقد يخطر للفقيه ترتيبٌ من جهة أنهما ما حلفا قط، فيمكن أن يكونا كأهل البطن الثاني في الترتيب.
التفريع:
إن قلنا يأخذان بلا يمين، فلا كلام، وإن قلنا يأخذان باليمين، فإن حلفا، فذاك، وإن نكلا، فقد تعذر الصرف إليهما، وزال هذا الوجه، وبقي النظر إلى البطن الثاني، وإلى أقرب الناس إلى المحبِّس.
وإن قلنا بالصرف إلى البطن الثاني، فلا نخصص أوّلاً أولاد الحالف، بل لا فرق بين أولاده وأولاد الناكلَيْن، ثم يعود القولان في أنهم هل يُحَلَّفون أم يكتفون بما تقدم من اليمين؟ فإن قلنا: يكتفون، فلا كلام. وإن قلنا: يُحَلَّفون، فإن حلفوا، فلا كلام، وإن نكلوا، انقطع النظر عن الأول والثاني، وبقي وقفٌ تعذر مصرفه، فإن رأينا الصرف إلى أقرب الناس بالمحبّس، صرفنا إليهم، وهل يُحَلَّفون؟ فعلى ما ذكرنا من الخلاف: فإن قلنا: يحلّفون، فلم يَحْلِفوا، فهذا وقفٌ لا ندري له مصرفاً، وحكمة مستقصىً في كتاب الوقف، وقد بأن مقصود المسألة.
وإذا انتهى طرف منها إلى فقدان مصرف الوقف، فلتقع الثقة بكمال البيان منه في كتاب الوقف.
قال العراقيون: لو أقام الأولاد كما صورناه شاهداًً، وحلفوا معه، وكان شرط الواقف أن الوقف بعد انقراضهم على المساكين، فإذا انقرض الأولاد، فإن قلنا في المسائل المتقدمة: إن أهل البطن الثاني لا يُحَلَّفُون ويكتفون بما سبق، فيصرف الوقف إلى المساكين في هذه الصورة.
وإن قلنا: أهل البطن الثاني لا بد وأن يُحَلّفوا، فلا يتصور تحليف المساكين مع خروجهم عن الضبط، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أن الوقف مصروف عنهم.
والثاني - أنه مصروف إليهم. ووجه الوجه الأول قياس اشتراط اليمين، ووجه الثاني الضرورة في تعذر التحليف. فإن قلنا بالوجه الأول، فقد تعذر التحليف، فهذا وقف تعذر مصرفه، فيلتحق بأصله في الوقف، ويخرج وجهٌ في الصرف إلى أقرب الناس

(18/643)


بالمحبِّس، ووجهٌ في بطلان الوقف ورجوعِه ملكاً، ولا خوض في هذا بعد الإحالة على كتابه، وقد تمت مسألة بأطرافها.
12082 - المسألة الثانية - إذا قال الواقف: وقفتُ على أولادي وأولادهم، فذكر البطنَ الثاني جمعاً إلى البطن الأول، ولم يرتبهم، فهذه المسألة تتميز عن الأولى في أن الاستحقاق في الأولى على الترتيب، وهو في الثانية على الجمع، ولكن مقتضى الشرط أن الأولين لو لم يولد لهم، لانفردوا بالاستحقاق، وإذا ولد لواحد منهم أو لهم، أدخل من تجدد في الاستحقاق من وقت الولادة، حتى لو كانوا ثلاثة، فالوقف بينهم أثلاثاًً، فإذا ولد مولود، فله الربع، والوقف بينهم من وقت الولادة أرباعاً، هذا حكم الشرط.
فلو أقام الأولون شاهداً، وحلفوا معه، استحقوا الوقف أثلاثاًً، فلو وجد ولدٌ، وقفنا رُبع الوقف من وقت ولادته، وأبقينا في يد الحالفين ثلاثة أرباع الوقف على الحكم الأول، ولا يصرف إلى الولد الجديد ذلك الربعُ الموقوفُ وجهاً واحداً، اكتفاء بأيمان الأولين.
وليس كالمسائل السابقة في مسألة الترتيب؛ فإن كل صورة ذكرنا فيها خلافاً في اليمين، فهي مشتملة على الترتيب، فإنا نشترط في ثبوت الاستحقاق موتَ ميت، فينشاً منه -إذا حلف من تقدم- كلامٌ في أن من تجدد يأخذ بيمين من قبله بناء على أصلٍ، وهو أن البطن الثاني يتلقَّوْن من البطن الأول، أو من الواقف؟ فإن قلنا: يتلقون من الواقف، فليس إلا الحلف، وإن قلنا: يتلقون من البطن الأول، فلا يحلف كما لا يحلف الوارث، وقد خلف موروثَه في الأملاك.
وهذا المعنى لا يتحقق حيث لا ترتيب، فإن الولد الجديد بمثابة الأولين إذا وجد، فلا ينقدح فيه إلا التلقي من الواقف، فلهذا وقفنا الربع إلى أن يبلغ، فيحلف، فإن حلف، صرفنا إليه ما وقفناه له، وإن نكل عن اليمين، فالمنصوص عليه للشافعي أن ما وقفناه له مردود على الأولين، فتعود القسمة أثلاثاً كما كانت، ويخرج هذا الجديد من البَيْن.

(18/644)


وقال المزني: الربعُ الموقوف لا يصرف إلى الأولين؛ فإنهم ليس يدعون، بل معترفون بأنه يُسْتَحق للولد الجديد بحكم اعترافهم، وقد تعذر الصرف إليه بسبب نكوله عن اليمين، فلا وجه للرد إلى الأولين، وهذا الذي ذكره لا يُنكِر اتجاهَه في القياس منصفٌ، ولا حاجة إلى الإطناب فيه.
والمقدار الذي ذكره الأصحاب لنصرة النص ما حكَوْه عن ابن سريج؛ فإنه قال: كان الأولون مستحقين لجميع الوقف قبل وجود هذا المولود، فإذا وجد دخل استحقاقُه على الأولين دخولَ العَوْل، وكل استحقاق يبقى على استغراق، فهكذا يكون، ثم استحقاق العول موجَبُه الصرفُ إلى المستغرقين إذا تعذرت جهة العول.
وهذا يناظر الديون والتركة [فإذا كانت التركة ألفاً] (1) والدين ألف، فهي مصروفة إلى الدين، فلو ظهر ألف آخر، فالتركة بينهما، فلو أسقط صاحب الدين الظاهر حقَّه، فصاحب الأول يستغرق التركة، وهذا كلام نظمه ابن سريج، ولا يتصور مصادمة معنى مذهب المزني به؛ فإن الاستحقاق ثبت في الربع للولد الجديد، ولا ينفع بعد هذا التقديراتُ والتلقيباتُ، والمزني يقول في مسألة الدّينين: إذا لم يحلف صاحبُ الدين الثاني لا يأخذ صاحب الدين الأول إلا ما يخصه. نعم، إذا أبطل الثاني دينَه بإبرائه، فالتركة تصرف إلى الأول.
ومسألة الدَّينين فيه إذا اعترف الأول بثبوت حق الثاني، وقصّر الثاني في إثبات التركة لتكون متعلقاً لدينه، وأما إبطال الثاني دينه، فلا نظير له من الوقف؛ فإن النكول لا يُبطل الحق من الوقف، بدليل أن الناكل لو وجد بيّنة (2)، أقامها واستحق بها، ولو أقر المنكر [ثبت] (3) بإقراره ما فيه النزاع، والأولون معترفون بثبوت الوقف للرابع، وتقصيره لا يبطل إقرارهم، بل يؤاخذون به.
12083 - والوجه عندنا إلحاق مذهب المزني بالمذهب، واعتقادُه قولاً منقاساً
__________
(1) زيادة من (ق).
(2) أي شاهداًً ثانياً.
(3) زيادة من (ق).

(18/645)


مخرجاً، ثم تفريع المزني أن الربع الذي لم يحلف عليه المولود إذا تعذر [صرفُه] (1) إلى الأولين لأنهم مؤاخذون بالأقرار، ولم يحلف الرابع ليأخذ، فهذا وقفٌ تعذر مصرفه، ثم هو محال على موضعه من كتاب الوقف.
فلو قال قائل: هلا رددتم ذلك الربع إلى المدعى عليه؟ فإن التعذر جاء فيه من عدم الحجة، وكأن حجة الأولين لم تشمل هذا الربع عند وجود هذا المولود، وما تقاعدت الحجة عنه، فحكم الخصومة رده على الخصم.
قلنا: هذا لا سبيل إليه؛ إذ لو قيل به أولاً، لزم منه طرد ذلك في مسألة الترتيب إذا حلف الأولون ونكل البطن الثاني -على قولنا إنهم يحلفون- حتى يُردّ الوقف إلى المدعى عليه عند نكولهم، ولا قائل به.
والسبب فيه أن يد المدعى عليه أزيلت بالحجة القائمة، وانقطع تعلقه، وما يطرأ بعد ذلك من باب تعذر الصرف على الاختصاص بمصارف الوقف، كذلك في المسألة الثانية أزيلت يد المدعى عليه قبل المولود الجديد، فلا يعود استحقاقه باختباطٍ واضطراب في مصارف الوقف.
والقول الجامع فيه أنه إذا نكل البعضُ في أول مرتبة، فلا حجة في نصيبه، وحكم هذا تبقيةُ ذلك المقدار في يد المدعى عليه؛ إذ ما قامت عليه حجةٌ قط، فاستمر تعلقه، ومهما (2) أزيلت يده، فلا عود له إلى الطلب قط، ويؤول النظر إلى وقفٍ تعذر مصرفه. هذا ظاهر. ولست أنكر بقاء خلاجٍ في نفس الفقيه، ولكن ما ذكرتُه من أظهر كلام يجري في المسألة، ولست أعرف فيه خلافاًً.
فرع على التصرف، في المسألة الأخيرة:
12084 - إذا قال: وقفت على أولادي وأولاد أولادي، وكان أولاد الصلب ثلاثة، فادَّعوا وأقاموا شاهداً، وحلفوا معه، وأزلنا يد المدعى عليه، وصرفنا الوقف إليهم أثلاثاً، فتجدد ولد، ووقفنا له الربع وغَلَّتَه، ومضت سنة كذلك، فمات من
__________
(1) في الأصل: "صُرف". (بهذا الضبط).
(2) مهما: بمعنى إذا.

(18/646)


أولاد الصلب واحد فيصير الموقوف للمولود ثلثاً من وقت موت ذلك الولد، فلو مضت سنة أخرى، فمات هذا المولود الجديد، فلا شك أن رقبة الوقف بين ولدي الصلب الآن نصفين.
أما رَيْع السنتين، فنقول: رَيْع السنة الأولى حقُّه أن يصرف إلى أولاد الصلب: أعني الثلاثة، فإذا مات [الولد] (1)، فالرَّيع الموقوف للولَدين الباقيين، ولوارث الولد الثالث الذي مات، وأما رَيْعُ السنة الثانية، فيختص بالولدين الباقيين، فإنه حدث بعد موت الثالث، فلاحظ لورثته فيه. وهذا بيّن لا شك فيه.
فرع:
12085 - إذا كان الوقف على الجمع كما ذكرنا، فولد ولدٌ، وقفنا له الربع، وقد حلف الأولون قبله، فإذا مات هذا المولود الجديد طفلاً، فحكم شرط الواقف رجوعُ ذلك إلى الأولين؛ فإن المزاحِم قد زال، وهل يحتاجون إلى يمين جديدة؟ هذا يخرج على الخلاف المقدم.
إن فرّعنا على مذهب المزني؛ فإنه جعل الرابع أصلاً في الاستحقاق، وبمثابة أحد أولاد الصلب، فكان موته، ورجوع الربع بحكم الشرط إلى الأولين، بمثابة ما ذكرناه في مسألة الترتيب إذا حلف الأولون، ثم مات بعضهم، فهل يُحَلَّف الباقون؟ وإن فرّعنا على النص، لم نحوج أولاد الصلب إلى الحلف؛ فإن حكم النص إخراج الطارىء من البَيْن، وتقديره كأنه لم يكن. وكيف يستراب في هذا، ولو نكل وبقي هذا الرابع، فنصيبه مفضوضٌ على أولاد الصلب ويقدَّر كأن التجدد لم يكن.
ثم عقد الشافعي باباً في ذكر الخلاف مع أبي حنيفة في الشاهد واليمين (2). والله أعلم.
...
__________
(1) في النسختين: " المولود " والمثبت هو ما يَقتضيه السياق، فالمراد إذا مات الولد الصلبي، فالرّيع في السنة الأولى للصلبيين الباقيين ولورثة هذا الثالث.
(2) ر. المختصر: 5/ 252.

(18/647)


باب موضع اليمين
قال: " من ادعى مالاً فأقام عليه شاهداًً ... إلى آخره " (1).
12086 - مقصود الباب القول في تغليظ الأيمان بالمكان والزمان والألفاظ، فكل ما يعظم قدره كالدماء وما يلتحق بها مما لا يثبت بالشاهد واليمين، فالتغليظ في اليمين مشروع فيه، وما يثبت بالشاهد والمرأتين ينقسم إلى المال وحقوقه، وإلى عيوب النساء، فأما الأول، فينقسم إلى المال الكثير وإلى القليل، فأما القليل، فلا تغليظ فيه بالجهات الثلاث. وأما الكثير، فالتغليظ مشروع فيه. والكثير الذي يجري التغليظ فيه، عشرون ديناراً أو مائتا درهم، وما دون ذلك لا تغليظ فيه، والرجوع فيما ذكرناه إلى الآثار.
روي عن عبد الرحمن بن عوف أنه مرّ برجل يحلَّف بين الركن والمقام، فقال: " أعلى دمٍ؟ فقالوا: لا، فقال: أعلى عُظْم من المال؟ قالوا: لا، قال: لقد خشيت أن يتهاون الناس بهذا البيت " (2) وروي- أن يَبْهأ (3) الناس بهذا البيت.
ومعناه: التهاون أيضاًً.
__________
(1) ر. المختصر: 5/ 254.
(2) أثر عبد الرحمن بن عوف رواه البيهقي في السنن الكبرى: 10/ 176، وفي معرفة السنن والآثار: 7/ 414 رقم 5931.
(3) يبهأ: بَهَأ به، يَبْهَأ بَهْأً، أَنِس به (المعجم). ومعنى الأنس به أي الاعتياد، والإلف الذي يُذهب المهابة ويؤدي إلى التهاون.
وقد فسر البيهقي هذا اللفظ (يبهأ) قائلاً: "يبهأ الناس يعنى يأنسوا به، فتذهب هيبته من قلوبهم. قال أبو عبيد: يقال: بهأت بالشيء إذا أنست به"، وقد جاء هذا التفسير في (اللسان) مستشهداً بحديث عبد الرحمن بن عوف هذا.

(18/648)


فروى (1): العظيم من المال عشرون ديناراً، ولا يظن بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تقدير من غير تثبت عندهم.
فأما عيوب النساء، فأمرها خطير يلتحق بالنكاح وما في مرتبته، وإن كان يثبت بالشاهد والمرأتين؛ فإن سبب ذلك الضرورة الداعية إلى قبول شهادة النسوة المتجردات. ثم ترتب عليه إقامة رجل مقام امرأتين.
ومما نذكره أن الوكالة في التصرف في مقدار نزرٍ من المال قياسها تغليظ اليمين فيها، لأنها لا تثبت برجل وامرأتين تعظيماً للولاية، وملك التصرف.
وفي النفس من هذا شيء؛ فإن الوكالة في الدرهم خسيسة، وهي أخس من ملك الدرهم، فإن تصرف المالك أقوى من تصرف الوكلاء، وشرطُنا شاهدين في الوكالة لا يحمل على شرف الوكالة، وإنما يحمل على اتباع التعبدات في مراتب الشهادات، والتغليظ يتلقى من عظم قدر ما فيه الخصومة، فإذا كنا نغلظ ما يتعلق ببواطن النساء مع ثبوته بالشاهد والمرأتين، لم يبعد أن نخفف ما يتعلق بالوكالة، وإن كانت لا تثبت إلا بشاهدين.
هذا قولنا فيما يجري التغليظ فيه.
12087 - ثم كيفية التغليظ بالمكان والزمان مضى ذكرهما في كتاب اللعان، والذي نذكره ههنا أن التغليظ بالمكان هل يُستحَق؟ فيه قولان لا يخفى توجيههما تعلقاً بالوجود من وجه، وحملاً على الاحتياط من وجه، ووجه التعلق بالوجود أنه لو لم يجب، لما جاز لما أشار إليه عبد الرحمن بن عوف من خشية التهاون.
ثم قال الأصحاب: في تغليظ الأيمان على الكفار، نحلّفهم في كنائسهم وبيعهم، ولا نحلّف المجوسي في بيت النيران؛ فإنها ليست محترمة، وهذا وإن صار إليه الأصحاب مشكل، وقد قال صاحب التقريب: نحلفهم في بيوت النيران. ووجه ما قاله الأصحاب أن البيع والكنائس محترمة، فنسخت حرمتها، فلا يبعد الاستمساك بما كان، ولم يثبت احترام بيوت النيران في ملة من الملل.
__________
(1) فروى: أي الشافعي (ر. المختصر: 5/ 254).

(18/649)


فأما التغليظ بالزمان، ففيه طريقان: منهم من لم يوجبه، قولاً واحداً. ومنهم من أجرى القولين فيه.
وأما التغليظ باللفظ، فينقسم إلى تغليظٍ بالعدد كما ذكرنا في أيمان القسامة واللعان، وهذا مستحَق حيث يثبت، وتغليظ لا يرجع إلى العدد، قول الحالف " بالله الذي لا إله إلا هو " وهذا مرتب على الزمان، وهو أبعد الأركان الثلاثة عن الاستحقاق.
وإذا جمعنا المكان والزمان واللفظ، انتظم فيها أقوال:
أحدها - الاستحقاق في الكل.
والثاني - الاحتياط في الكل.
والثالث - الاستحقاق في المكان فحسب.
والرابع - الاستحقاق في الزمان والمكان دون اللفظ.
فرع:
12088 - إذا رأينا التغليظ بالمكان، واقتضى ذلك إحضار المرأة المسجد وتحليفها، فلو كانت مخدرة، قال العراقيون: لا يعصمها التخدير، ويجب عليها حضور المسجد وقطعوا بها، وقد قدمنا في التخدير كلاماً يوجب تطرق الاحتمال إلى ما ذكرناه الآن.
فرع:
12089 - كل تغليظ رآه القاضي مستحَقاً، فيجب اتباع رأيه فيه؛ فإن المسائل مجتَهَد فيها، والامتناع عما رآه غير سائغ، والممتنع مجبَر على الطاعة، فإذا قال القاضي: قل " بالله "، فقال " بالرحمن "، كان هذا نكولاً؛ فإنَّ حَلِفه مربوطٌ بتحليف القاضي، والقاضي لم يحلّفه بالرحمن، فكان مبتدئاً فيه، هكذا وجدت الطرق.
ولو قال: " قل بالله الذي لا إله إلا هو "، فقال: " بالله "، واقتصر، فهل يكون ناكلاً أم لا؟ فعلى وجهين ذكرهما الأصحاب. والوجه عندي أن نقول: إذا رأى القاضي التغليظ باللفظ مستحقاً، فالممتنع عنه ناكل، وإن لم ير القاضي التغليظ مستحقاً، فمخالفة القاضي فيما يراه احتياطاً هل يكون نكولاً؟ فعلى وجهين.

(18/650)


هذا مقصود الباب، وقد تركت مسائل فلم أُعدها، لأني ذكرتها في كتاب اللعان، والغرض الأخص بالباب نجمعه في فصلٍ.
فصل
12090 - الخصومة الدائرة بين شخصين قد تكون مغلظة في أحد الشقين مخففة في الشق الثاني، وتصوير ذلك أن العبد إذا ادعى على مولاه إعتاقه إياه، فانكر المولى، فالقول قوله مع يمينه. فإذا رغب في اليمين نظرنا إلى قيمة العبد، فإن كانت قيمته عشرين ديناراً غُلّظت اليمين عليه. والتفريع على التغليظ.
وإن كانت القيمة أقلَّ من عشرين ديناراً، لم تغلّظ، وإن نكل عن اليمين، رددنا اليمين على العبد، واليمينُ مغلظة عليه، قلّت قيمته أو كثرت، فإنه يبغي إثبات العتق وخطرُه عظيم، وكذلك إذا ادعى على مولاه الكتابة، والمولى ينكرها، فننظر إلى مقدار القيمة في جانب السيد، وإذا [رددنا] (1) اليمين على العبد غلّظناها، لأنه يبغي بإثبات الكتابة الاستقلال المنافي لحجر الرق المُفضي إلى العَتاقة.
وذكر صاحب التقريب في هذا الفن وجهاً بعيداً، أنا إذا غلظنا اليمين من جانب، غلظناها من الجانب الثاني، حتى يتحد القياس في ترتيب الخصومة.
وهذا وجه مزيف لا أصل له؛ إذ ليس المصير إلى هذا أولى من المصير إلى عكسه حتى يقال: إذا خَفَّت الخصومة في شيء كالملك، فالعتق زوال لذلك الملك الخفيف، فيجب تخفيفه، فالوجه الحكم في كل شيء بما يليق به.
فرع:
12091 - قال العراقيون: إذا توجه على رجل يمين بمكة مثلاً، ورأى القاضي تغليظها بأن يحلّف المنكر بين الركن والمقام، فقال المدعى عليه: قد حلفت بالطلاق لا أحلف بين الركن والمقام، فنقول: إن حلف بالطلاق أنه لا يحلف يميناً مغلظة، وقلنا إن التغليظ ليس بواجب، فعلى القاضي أن يترك التغليظ ولا يحنّثه.
__________
(1) في الأصل: "أردنا".

(18/651)


وإن قلنا التغليظ مستحَق، فلا يبالَى بيمينه ويغلّظ عليه ويحنّثه، وإن لم يرد الحنث فلينكُل.
ولو قال: لا أحلف بين الركن والمقام، وقلنا: إن التغليظ مستحب، فلا يحنّثه بالتحليف بين الركن والمقام، وإن قلنا: التغليظ مستحق، وقد حلف لا يحلف بين الركن والمقام، فقد ذكروا في هذه الصورة قولين: أحدهما - أن القاضي يحلّفه بين الركن والمقام، ولا يُبالي بيمينه، والثاني - أن يحلّفه في جانب آخر من جوانب الكعبة؛ فإن جملة جوانبها محترمة، ويحصل التغليظ بها، ولا معنى لتحنيثه، هكذا ذكروه، ولا حاصل عندي لذكر الخلاف حيث انتَهَوْا إليه إلا على تردد في أن ما بين الركن والمقام هل يتعين في التغليظ، إذا كنا نعتبر التغليظ ونراه مستحقاً، فإن عيّنّا ذلك المكان، فالامتناع عنه امتناع عن مستحق، وإن لم نر ذلك متعيناً شرعاً، فلا معنى لتحنيثه، ويعود التفريع إلى قولنا: التغليظ مستحب غير مستحق.
فصل
قال: " ويحلف الرجل في حق نفسه فيما علمه على البتّ ... إلى آخره " (1).
12092 - الإنسان يحلف على فعل نفسه على البتّ، نفياً كان أو إثباتاً؛ فإن اطلاعه على ما ينفيه ويثبته في حق نفسه ممكن، فلتكن اليمين باتّة، وتصوير ذلك [هيّن] (2).
وإذا تضمنت يمينه إثباتَ فعل الغير، فلتكن على البت أيضاًً، فإن وصوله إلى العلم بثبوت فعل الغير ممكن. ولهذا يتصور منه الشهادة عليه، فكانت اليمين على البت.
فأما ما يتضمن نفيَ فعل الغير، فاليمين على [نفي] (3) العلم، مثل أن يدعي مدعٍ على أبيه مالاً، أو استقراضاً، فالوارث يحلف بالله لا يعلم ذلك، وسيعود هذا مرتباً في كتاب الدعاوي، إن شاء الله.
__________
(1) ر. المختصر: 5/ 254.
(2) في الأصل: " بيمين " والمثبت من (ق).
(3) زيادة من المحقق. والحمد لله على توفيقه، فقد وجدناها في نسخة (ق).

(18/652)


ولو ادُّعي على عبده جناية، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أنه يحلف على العلم؛ من جهة أنه يبغي بيمينه نفيَ جناية عبده، وهذا غيب لا يطلع عليه، فلتكن اليمين على العلم. والثاني - أن اليمين على البت؛ فإنّ فعلَ عبده بمثابة فعله، ويغلب اطلاعه على عبده، وقد ينسى فعلَ نفسه، وبنى الأصحاب الوجهين على أن أرش الجناية يتعلق بذمة العبد أو برقبته ورقِّه.
وعلى هذا الأصل ابتنى مقدار ما يفدي به السيد عبدَه، فإن قلنا: الأرش يتعلق بذمة العبد، فهو المستقل بالالتزام، والرقبة مرتهنة، والسيد يحلف على نفي العلم، وإن قلنا: الأرش يتعلق بالرقبة، فعلى هذا العبدُ بمثابة يد السيد وأعضائه.
والذي أراه (1) أنه يقتصر على نفي العلم، وإن لم يثبت للعبد ذمة.
ولو انتشرت بهيمة في زرع إنسان على وجه يقتضي ذلك وجوبَ الضمان على صاحب البهيمة، فإذا أراد أن يحلف، فالقياس الذي مهدناه مأخوذاً من التعلق بالذمة، يقتضي أن يبتّ اليمين في هذه المسألة؛ فإن مالك البهيمة لا يضمن بفعل البهيمة، وإنما يضمن لتقصيره في حفظها، وهذا يتعلق بأحواله والتعلق برقبة العبد ليس محمولاً على تقصير السيد؛ فإن مبنى الانتفاع بالعبيد على إطلاقهم بخلاف البهائم.
فصل
" ولا تقبل منه اليمين إلا بعد أن يستحلفه الحاكم ... إلى آخره " (2).
12093 - إذا ادعى المدعي، وذكر أنه لا بيّنة له، فلو ابتدر المدعى عليه وحلف، لا يعتد بيمينه، ولو طلب المدعي اليمين، فابتدر المدعى عليه وحلف، لم يعتد بيمينه بلا خلاف، ولو طلب المدعي وعرَض القاضي، فهذا أوان الحلف.
__________
(1) قال الرافعي، وأقره النووي: " أصح الوجهين أنه يحلف على البت؛ لأن عبده مالهُ، وفعله كفعل نفسه، ولذلك سمعنا الدعوى عليه ". (ر. الشرح الكبير: 13/ 196، والروضة: 12/ 35).
(2) ر. المختصر: 5/ 255.

(18/653)


واستدل الأئمة على ذلك بما روي: " أن ركانة طلق امرأته ألبتة، وقال في مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم: والله ما أردتُ إلا واحدة، فقال صلى الله عليه وسلم، والله ما أردتَ إلا واحدة؟ فحلف ركانة مرة أخرى " (1) فدلّ ذلك على أن اليمين التي ابتدرها قبل عرض رسول الله لم تكن معتداً بها، ولذلك استعادها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولو قال المدعي: لا بينة لي، ولم يطلب اليمين، فإن كان ممن يجوز أن يجهل ترتيب الخصومة، فحقّ على القاضي أن يبيّن له أن حقَّه في التحليف، وذلك منوط [بخِبْرته] (2).
وإن كان المدعي ممن لا يخفى عليه ذلك، وربما عُهد ممارساً للخصومات، دَرِباً بترتيبها [عليماً] (3) بأن اليمين تعرض إذا لم تكن للمدعي بيّنة، فالقاضي ماذا يصنع؟ أيصبر حتى يطلب المدعي تحليفَ الخصم؟ أو يقول له بعد قوله لا بينة لي: ماذا تريد؟ أو يهجُم على عرض اليمين اكتفاءً بقرينة الحال، وعلماً بأن المدعي لا يحمل خصمَه إلى مجلس الحكم ولا بيّنة له إلا وهو يبغي عرضَ اليمين عليه، فعساه يقر؟
فنقول: أما الاستبداد بالعرض، فلا سبيل إليه، والكلام في أنه يسكت عن المدعي أم يقول له ماذا تريد؟ هذا مما تردد فيه الأئمة. والقول فيه [قريب] (4). وهو من فنّ الأَوْلى في الأوان. وظهر اختلافُ الأصحاب في أن المدعي إذا ادعى هل تتوقف مطالبة المدعى عليه بالجواب على طلب المدعي، وفيه خلافٌ قدمناه. والسبب فيه أن العادات لا تختلف في طلب الجواب، وهي تختلف في عرض اليمين.
ومما ذكره الأصحاب متصلاً بهذا أن قالوا: العبرة في الأيمان بعقيدة القاضي، ولا عبرة بعقيدة- الحالف وهذا فيه فضل نظر.
__________
(1) سبق هذا الحديث في الطلاق.
(2) في الأصل: " بخيرته "، والمثبت تقدير من المحقق. والحمد لله وافقتنا فيه (ق)
(3) في الأصل: " عليها ".
(4) في الأصل: " مرتب ". والمثبت من (ق).

(18/654)


12094 - قد قدمنا أن القاضي متبوع في قضائه، وأوضحنا [تعليله] (1)، وذكرنا أن الولايات لا تستمر (2) إلا بهذا مع اختلاف المذاهب. وقد ذكر صاحب التقريب أمراً بديعاً لم أره لغيره، وذلك أنه قال: القضاء ينفذ ظاهراً على العوام، وإن اختلفت مذاهبهم، فإن كان المقضي عليه مجتهداً، [وقد] (3) خالف مذهبه مذصبَ القاضي، فهل ينفذ قضاء القاضي عليه ظاهراً على خلافِ عقده؟ ذكر في ذلك وجهين: أحدهما - أنه ينفذ. وهو الذي قطع به الأصحاب.
والثاني - أنه لا ينفذ؛ لأن المجتهد مستقل بنفسه في نظره، فليس له أن يتبع غيره، وليس للغير أن يستتبعه.
وهذا عندي في حكم الهفوة التي لا يعتدّ بها، لأن القول به يؤدي إلى خرم منصب القضاة؛ على أنه مراغمة لما مضى عليه الأولون؛ فإن أقضية الخلفاء ومن بعدهم تنفذ على أئمة الدين؛ فلا وجه لهذا. وإنما الخلاف في الباطن كما ذكرناه.
12095 - ونعود بعد ذلك إلى إتمام المراد بما يليق، إذا ادّعى حنفي على شافعي شفعةَ الجوار، وكان القاضي يرى إثباتها، فإذا أنكر الشافعي الشفعة، لم يكن له أن يحلف بناء على اعتقاد نفسه لما مهدناه من أنه يجب اتباع القاضي؛ فلا يكون باراً في يمينه بالله لا يلزمه، بل هو كاذب فيها.
وفي تعليق معتمدٍ عن القاضي أنه لو حلف مؤوِّلاً بانياً على عَقْد نفسه، حنث في الظاهر (4)، وهذا كلام خليٌّ عن التحصيل، والوجه أن نورِّك (5) الذنب فيه على المعلِّق؛ فإن لزوم الكفارة ليس مما يختلف فيه الظاهر والباطن (6). وكذلك إذا حلف
__________
(1) في الأصل: " بعلله ".
(2) كذا، وأكاد أجزم أن صوابها: " لا تستدّ ". أي لا تستقيم، فهذا اللفظ (تستدّ) يدور على لسان الإمام كثيراً.
(3) في الأصل: " فقد ".
(4) أي لا يحنث باطناً، فلا تجب الكفارة عليه، كما سيظهر واضحاً في الأسطر الآتية.
(5) ورّك الذنب عليه أي حمّله إياه، وحمله عليه. (القاموس المحيط).
(6) يريد الإمام -لأدبه العالي، وخلقه الجم- أن يقول: إن هذه الهفوة المنسوبة إلى القاضي=

(18/655)


الرجل يميناً فاجرة، وعقبها بالاستثناء بحيث يُسمع نفسه، فلا حكم للاستثناء أصلاً ظاهراً وباطناًً، وهذا مما اتفق الأصحاب عليه، ولولاه لما انتظم [مقصود] (1) في تحليف؛ فإن أحداً لا يعجز عن هذا.
وقال القاضي: لا ينفعه الاستثناء في الظاهر، وينفعه فيما بينه وبين الله في وجوب الكفارة، وهذا كلام سخيف لما ذكرته، ومحل السؤال منه أنه لو أسمع القاضي الاستثناء، فلا خلاف أنه لا يعتدّ بيمينه، بل تُعاد، وقد يقول الفطن: لو كان الاستثناء في مفصل القضاء لا يُبطل اليمين، لما كان إظهاره مبطلاً، وهذا خيال ووهم؛ فإن القاضي طلب منه يميناًً جازمة، والذي جاء به ليست اليمين المطلوبة؛ فإعادة اليمين لهذا، وأيضاً فإن ما يقوله المرء في نفسه من غير أن يظهره لأهل المجلس، فهو الذي لا يبالَى به، ولا يقضى بأنه يغيّر أمراً في الظاهر والباطن، والعلم عند الله تعالى.
فرع:
12096 - إذا ادعى ديناً مؤجلاً على إنسان، ففي سماع دعواه وجهان: أحدهما - أنها لا تسمع؛ فإن الدعوى إنما تتم وتنتظم إذا اتصلت بمطالبة المدعى عليه، ولا يتصور الطلب في الدين المؤجل قبل محل الأجل. والوجه الثاني - تُسمع الدعوى، لأنه يستفيد بها إثباتَ حقه، فقد يقرّ المدعى عليه، فيسجِّل على إقراره، وإذا ثبت الدين مؤجلاً، كان مالا معتدّاً له، ولو مات من عليه الدين، حل بموته.
ومن أصحابنا من فَصَلَ بين أن يكون للمدعي بيّنة وبين ألا يكون، فقال: إن كانت له بينةٌ، سُمعت دعواه وبيّنته، ويستفيد به ثبوتَ الحق والأمنَ من ضياع البيّنة؛ فإن الشهود ربما لا يبقون إلى حلول الحق، وإذا لم يكن بينة، لم تسمع الدعوى، فحصلت ثلاثة أوجه.
وإذا ادعت الجاريةُ على مولاها الاستيلادَ، فالمذهب القطع بأن دعواها مسموعة، وكذلك إذا ادعى العبد التدبيرَ، أو ادعى تعليقَ العتق بالصِّفة.
__________
=ليست صحيحة في نسبتها، فقدر الرجل عنده أعظم من أن تكون منه هذه الزلّة، وانما الخطأ والزلل جاء من الناقل المعلّق عن القاضي، فلا يعقل عند الإمام إلا هذا.
(1) في الأصل: " مقصوده ".

(18/656)


وذهب بعض أصحابنا إلى تخريج هذه المسائل كلها على وجهين مأخوذين من دعوى الدَّيْن المؤجل؛ فإن غرض المملوك دعوى سبب يُفضي إلى خلاصه من الرق في ثاني الحال (1).
وهذا غير سديد؛ فإن التعليق والتدبير والاستيلاد حقوق ثابتةٌ في الحال، يجوز تعليق الدعوى بها، وهذا يظهر جداً في الاستيلاد؛ فإنه يتنجّز به لو ثبت امتناعُ البيع والرهنِ، وفي دعوى التدبير فضل نظر، فأما إن جوّزنا الرجوع عن التدبير، فإنكار المولى يجوز أن يجعل رجوعاً، كما سيأتي، وإذا كان في تقدير الإنكار إبطال الدعوى، فلا معنى لتصبح الدعوى، وإن قلنا: لا يصح الرجوع عن التدبير، فيتجه حينئذ تصحيح الدعوى.
فرع:
12097 - ذكر صاحب التقريب في تضاعيف كلامه في أثر قضاء القاضي ووجوب اتباعه حكماً متعلقاً بالفتوى، فقال: لو نكح رجل امرأة، ثم استفتيا مفتياً فأفتى لهما بفساد النكاح، والمسألة مجتهدٌ فيها، فهل تبين المرأة عن الرجل بفتوى المفتي؟ ذكر وجهين: أحدهما - أن المرأة لا تبين، وإن وقع الرضا بالفتوى، وإنما ينقطع النكاح بقضاء القاضي. والوجه الثاني - أن النكاح ينقطع؛ فإن اتباع الفتوى حتم على المقلِّد، وذكر وجهاً ثالثاً مفصلاً - فقال: إن صحَّحَ النكاح قاضٍ، لم يرتفع بالفتوى، وإن لم يتصل تصحيحه بقضاء قاض يرتفع بالفتوى، ولست أخوض في تفصيل ذلك، فإنه من أحكام الفتاوي، وهو من فن الأصول، وقد جمعت في الاجتهاد والفتوى كلاماً شافياً كافياً، فليطلبه مريده من مجموعنا فيه (2).
...
__________
(1) في ثاني الحال: أي في المستقبل وليس الآن.
(2) ينظر في هذا كتابي الاجتهاد والفتوى في كتابه البرهان في أصول الفقه: الفقرات: 1455 - 1551.

(18/657)


باب الامتناع من اليمين
قال: " وإذا كانت الدعوى غيرَ دمٍ في مالٍ، أحلف المدعى عليه، فإن حلف برىء ... إلى آخره " (1).
12098 - في اللفظ الذي نقله المزني خللٌ من وجهين: أحدهما - هو أنه قال: " إن كانت الدعوى غيرَ دم "، فأوهم أن الدعوى لو كانت في الدم لا يحلف المدَّعَى عليه، وليس كذلك. وأوهم أن لا مدخل لليمين في غير الأموال، والأمر على خلاف ذلك.
12099 - ومقصود الباب الكلام في شيئين: أحدهما - في النكول ورد اليمين، والثاني - فيما يجري التحليف فيه.
فإذا توجهت اليمين على المدعى عليه، فلا يخلو إما أن يحلف أو لا يحلف، فإن حلف، تخلص عن الخصومة، ولم ينقطع الحق إن كان، ولو وجد المدعي بيّنة، أقامها، وقد صحّ أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال في ذلك: " البيّنة العادلة خيرٌ من اليمين الفاجرة " (2).
وقال ابن أبي ليلى: لا تُسمع بيّنةُ المدعي بعد تحليف المدعَى عليه، والحق عنده يسقط بيمينه.
وقال مالك (3) إن كانت البينة حاضرة في المجلس، لم تقبل بعد اليمين، وتعطلت. وإن كانت غائبة، فحلف المدعى عليه، قُبلت بينته إذا أحضرها.
__________
(1) ر. المختصر: 5/ 255.
(2) خبر " البينة العادلة خير من اليمين الفاجرة " بوّب له البيهقي في سننه وقال: روي ذلك عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وشريح القاضي رحمه الله (السنن الكبرى: 10/ 182).
(3) ر. الإشراف: 2/ 968 مسألة 1953، عيون المجال: 4/ 1580 مسألة 1116.

(18/658)


ولو قال المدعي: ليست لي بيّنة، ثم قال من بعدُ: وجدت بيّنةً عالمةً بحقي، وما كنت أدريها، تسمع البيّنة منه، ولا يمتنع سماعها بقوله: ليست لي بينة.
ولو قال: ليست لي بينة لا حاضرة، ولا غائبة، ثم جاء بشهود، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أنها تقبل.
ولو أقام المدعي شاهدين عدلين عند إنكار خصمه، ثم قال: كذب شاهداي، وشهدا بباطل، فلا شك أن بينته تسقط بما صدر منه من التكذيب، وهل تبطل دعواه في الأصل؟ فعلى وجهين ذكرهما صاحب التقريب: أحدهما - تبطل الدعوى حتى لو أراد أن يقيم بينة أخرى، لم يجد إلى ذلك سبيلاً، وينزل تكذيبُه شهوده منزلةَ تكذيبه نفسه. وهذا الوجه ضعيف.
والوجه الثاني - أنه لا تبطل دعواه؛ إذ من الممكن أن يقول أنا محق في دعواي، ولكنكما لم تحيطا بحقيقة الحال، فشهدتما بما لا تعلمان. وهذا واضح.
ثم فرّع على هذا فقال: لو أن المدعي أقام بينة، كما ذكرنا، وأقام المدعى عليه شاهداً واحداً: أن المدعي قال: كذب شهودي، وشهدوا مبطلين، وأراد أن يحلف مع شاهده، فما حكمه؟ قال: إن قلنا: لو قال المدعي ذلك، سقط دعواه، فيُقبل ذلك من المدعى عليه؛ فإنه يستفيد بالشاهد واليمين إسقاطَ الدعوى، فصار كما لو أقام شاهداً وحلف معه أن [المدعي] (1) أبرأه، فهذا مقبول. وإن قلنا: اللفظةُ التي قدمناها لو صدرت من المدعي حقيقةً، لم تتضمن سقوط دعواه، فإذا أقام المدعى عليه شاهداًً، وأراد أن يحلف معه، والمدعي منكر للّفظ، فلا حكم لما يأتي به المدعى عليه من الشاهد واليمين؛ فإن الدعوى لا تسقط، والبينة لا تسقط أيضاًً، فإنه نقل طعناً من المدعي في البينة، وما يتضمن جرحاً وطعناً في الشهود لا يثبت بشاهد ويمين، وإن كان المشهود عليه مالاً.
وكل ما ذكرناه متعلق بالبينة.
12100 - فلو لم يكن للمدعي بينة، فاليمين معروضة على المدعى عليه، فلا
__________
(1) في الأصل: " المدعى عليه ".

(18/659)


يخلو: إما أن يُنكر، أو يسكت، فإن أجاب، وأنكر، عرض القاضي عليه اليمين باستدعاء المدعي، فإن نكل عن اليمين، لم يُقضَ عليه بنكوله.
ثم قال العلماء: المستحب أن يعرض اليمين عليه ثلاث مرات، فإن اقتصر على مرة واحدة، فله الحكم بالنكول، ولسنا نعني بالحكم بالنكول أنه يثبت على الناكل ما ادعاه المدعي، ولكن فائدة الحكم بالنكول إثباتُه النكول، ليرتب عليه رد اليمين، كما سنصفه إن شاء الله.
وهذه الأمور يعدها معظم الففهاء ظاهرة ويتخطَّوْنها من غير اهتمام بكشفها، ومعظم الغوائل فيها.
12101 - ونحن نقول -مستعينين بالله- النكول لا يثبت ما لم يقض القاضي به إذا لم يصرح المدعى عليه بأني ناكل عن اليمين. ثم ما ذكرناه من ترديد القاضي العرضَ على المدعى عليه أدبٌ مستحب في مراسم القضاء، فإن قضى القاضي بالنكول كما (1) ظهر له في العرضة الأولى، ثبت النكول، ثم لا يجوز له أن يقضي بالنكول ما لم يظهر له ذلك من المدَعى عليه، حتى لو كان يجوّز أن يكون امتناعه عن دهش، أو كان يُقدّر أنه لم يفهم عَرْض اليمين لغباوة وعدم إلفٍ بمراسم الخصومات، فليس له أن يقضي بنكوله، وإذا ظهر له امتناعه، فإن أكد بالتكرير، فحسنٌ، وإن أراد ألا يكرر، فلا عليه.
ومما نستحسنه أن يُعلمه أنه يقضي بنكوله لو تمادى على امتناعه، فلو لم يُعلمه ذلك، وظهر له امتناعه، ولكن كان المدعى عليه لا يدري أن امتناعه مع القضاء [بنكوله] (2) يوجب ردّ اليمين، فهل للقاضي أن يقضي بنكوله ويردَّ، أم شرطُ القضاء بالنكول إعلامُه موجَب نكوله؟ هذا فيه احتمال ظاهر والأرجح أن قضاءه بالنكول ينفذ، [وإن لم يُعلمه] (3) حكمَ النكول.
__________
(1) كما: بمعنى عندما.
(2) زيادة من المحقق.
(3) في الأصل: "وأن يعلمه".

(18/660)


وكل ما ذكرناه فيه إذا لم يصرح بالنكول أو الامتناع عن اليمين.
12102 - فإن قال: نكلت، أو أنا ناكِل، أو لست أحلف، فالذي نراه أنه لا حاجة في هذا المقام إلى قضاء القاضي، وهو بمثابة ما لو أقر المدعى عليه بالحق، فلا يظهر بقضاء القاضي أثر عند الإقرار، وسنبين أثر ما ذكرناه في التفريع.
12103 - ثم قال الأصحاب: إنما يتحقق النكول إذا قال القاضي للمدعى عليه احلف بالله، فإذا امتنع، فإذ ذاك يقضي بالنكول، ولو قال له: أتحلف؟ فامتنع، فقد قال القاضي: لا حكم لهذا الامتناع، لأنه لم يأمره باليمين، بل استشاره فيها مستفهماً، وهذا فيه تدبر من جهة أن قول القاضي للمدعى عليه: " احلف " مشكلٌ؛ فإنه أمر، وتوجيه الأمر عليه بالحلف، فيه غموض، هذا وجه. والآخر أنه إذا قال: أتحلف، فلو ابتدر وحلف، فهل يعتد بيمينه، أم لا؟ هذا وجه التنبيه.
وسبيل الكشف بعده أن قوله: " احلف " ليس أمراً جازماً، ولكنه إبانةُ وقت الحلف واليمين المعتد بها إن أرادها المدعى عليه، فإذا لم يحلف وامتنع، نفذ القضاء بنكوله، فأما قوله: " أتحلف "، فاستخبار، ولو ابتدر وحلف، لم يُعْتَدَّ بيمينه؛ فإن اليمين إنما يُعتدُّ بها إذا استحلف القاضي، والاستفهام ليس استحلافاً، ولكن إن قُدِّم الاستفهامُ، فهو حسن، ليكون الاستحلاف بعده على بصيرة.
ونظمُ الكلام أنه يقول للمدعى عليه أتحلف؟ فإن قال: نعم. قال: قل " بالله "، ثم إذا ثبت نكوله، إما بقوله نكلت، أو بحكم الحاكم بنكوله، فلو قال بعد ذلك: أحلفُ، لا يبالَى به، وهذا أثر إثبات النكول. فإن قال: نكلت، أو قال القاضي: حكمتُ بنكولك، أو أقبل على المدعي، فقال: احلف، فلو أراد المدعى عليه أن يحلف، لم يُقبل منه بعد ما وصفنا. وقوله للمدعي: " احْلِف " قضاءٌ منه بالنكول، فلا يشترط في هذا المقام أكثرُ من ذلك.
ولو أقبل على المدعي هامّاً بتحليفه يمينَ الرد، ولم يقل بعدُ " احلف " فأراد المدعى عليه أن يحلف، ففي المسألة وجهان، ذكرهما القاضي: أحدهما - أنه يحلف، لأنه لم يصرح بالنكول، ولم يأت القاضي بعدُ بما يكون حكماً بالنكول،

(18/661)


فوقت يمينه باقٍ. والوجه الثاني - أنه لا يحلف؛ فإن إقباله على المدعي إقدامٌ منه على تحليفه، ولا يقع هذا إلا بعد إثبات النكول.
ولو جرى القضاء بنكوله أو صرح بكونه ناكلاً، فقد ذكرنا أنه لو أراد أن يحلف لم يمكَّن.
فلو قال المدعي: رضيت بأن يحلف، ففي المسألة وجهان: أظهرهما - أن القاضي يحلِّفُ المدعَى عليه برضا المدعي؛ فإن الحق لا يعدوه، فإذا رضي، جرى القاضي على موجب رضاه. والوجه الثاني - أنه لا يُحلَّف، وإن رضي المدعي؛ فإن هذا تحليفٌ بعد النكول، والنكولُ يُبطل إمكانَ اليمين.
ولكن ما ذكرناه فيه إذا أنكر المدعى عليه، ثم جرى في اليمين ما وصفناه، فأما إذا سكت ولم يُجب المدعي، فقال له القاضي: أجب، فليس بك بُكْم ولا صَمَم، فإن تمادى في سكوته، جُعل ذلك إنكاراً في حكم عرض اليمين، ثم يعرض اليمين، ويجعل التمادي على السكوت نكولاً عن اليمين، وهذا فيه إذا لم يظهر عنده سبب [مُسكت] (1).
فقد انتجز الغرض المتعلق بهذا النوع.
12104 - فإن نكل المدعى عليه عن اليمين، رددنا اليمين على المدعي، فإن حلف، استحق دعواه، وإن نكل، فقد قال الأصحاب: نكول المدعي عن يمين الرد بمثابة يمين المدعى عليه، وهذا طرف من الكلام يجب صرفُ الاهتمام إليه، والوجه أن نسوق كلام الأصحاب على وجهه ثم [نحوِّم] (2) على الإشكال، ونحلّه شيئاً شيئاً بتوفيق الله تعالى.
قال الأصحاب: إن قال المدعي -وقد رُدَّت اليمين عليه-: أمهلوني ريثما أطالع حسابي، أو أستفتي، وأتثبت في أمري، فإنه يُمهَل. ثم قالوا: لا تزيد مدة إمهاله على ثلاثة أيام. ولو قال المدعى عليه -لما عرضت عليه اليمين الأولى-: أمهلوني
__________
(1) في الأصل: " فسكت ".
(2) في الأصل: "نحرّم".

(18/662)


لأتدبر، وأراجع حسابي، كما ذكرناه في جانب المدعي، فلا يمهل أصلاً. وإذا ظهر امتناعه، كان ناكلاً، والفرق بينه وبين المدعي أن المدعى عليه مطالبٌ محمولٌ على الإقرار، أو اليمين، وليس صاحبَ خِيَرة، وأما المدعي، فليس محمولاً من جهة أحد، بل هو صاحب الحق؛ إن أراد قدمه، وإن أراد أخره. هذا قول الأصحاب.
فقد حصل لنا من كلامهم أن نكول المدعي ممكن، وهو نازل منزلة حلف المدعى عليه، وثبت من كلامهم أنه إذا استمهل، أمهل.
12105 - ونحن نقول بعد ذلك: قد اعترض لنا تصوير النكول عن اليمين مع الشاهد، وتصوير النكول عن يمين الرد، فنقول: إذا أقام المدعي شاهداًً، فكيف وجهُ نكوله؟ ومن يعرض عليه اليمين حتى ينكُل؟ وما المأخذ الفقهي الذي يربط النكول به؟
فنقول في إيضاح ذلك: إذا استعدى المدعي على خصمه، وأحضره مجلس الحكم وادعى، وأنكرالخصم، فإن أقام المدعي بيّنة، فذاك، وإن لم يقمها، فحقٌّ على القاضي أن يقول للمدعي: أحلّف خصمك إن أردت، وإلا فاقطع طلبتك عنه، واترك رفعه إلى مجلس الحكم، فإذا أقام شاهداًً واحداً، وتمكن من الحلف معه، فلم يحلف، فينتهي الأمر إلى ما ذكرناه من تحليف الخصم، وإلزام المدعي قطعَ الخصام، وإلا فهذا يؤدي إلى أن يرفع خصمه إلى مجلس القضاء في كل ساعة يتصدى القاضي فيها للقضاء، ولا يحلّفه، ولا يقيم بيّنة، ولا سبيل إلى تسويغ هذا.
فخرج من مجموع ما ذكرناه أنه إذا أقام شاهداً، أبان له القاضي أنه لو حلف معه، ثبت حقه؛ فإن لم يحلف، أبان له أنك لو لم تحلِّف المدعَى عليه، منعتك من إعادته إلى مجلس الحكم، فهذا تصوير النكول عن اليمين مع الشاهد.
ولو قال المدعي: أمهلوني، أمهلناه كما يمهل المدعي في يمين الرد، فإن اليمين ليست محتومة عليه، وليس هو واقفاً موقف المحمولين في الخصومة، وإذا منعناه من إعادة خصمه إلى مجلس الحكم، فلا يُعيده في تلك الخصومة إلا أن يجد بينةً كاملة، فيُعيدُه ويقيمُها، فإنه لو وجد بينة بعد حلف المدعى عليه، فعل ذلك، وقد نجز الغرض في النكول عن اليمين مع الشاهد.

(18/663)


12106 - فأما تصوير النكول عن يمين الرد، ففيه مزيد إشكال؛ فإن المدعي إذا أقام شاهداً، فالمدعى عليه يقول: حلّفني أو احلف وخلصني، وهذا لا يتأتى في يمين الرد؛ فإن المدعى عليه نكل عن اليمين، فإن قال للمدعي: احلف أو انكُل، فالمدّعي يقول له: وأنت احلف أو أَقرّ، [ففي] (1) مسألة اليمين مع الشاهد، فالمدعى عليه متعرض ليمينٍ بحق، وفي مسألة الرد هو ناكل عن اليمين، غيرُ معذور في ترك الإقرار واليمين.
هذا وجه من الإشكال. ولأجله قال بعض أصحابنا: لا يصير المدعي ناكلاً عن يمين الرد قط، إذا لم يصرح بالنكول، ولا ضبط لإمهاله بمدة، وسبيله في يمين الرد كسبيله في البينة يقيمها متى وجدها. وهذا قد يظهر على قولنا: " يمين الرد تنزل منزلة البينة "، وغالب ظني أني أجريت ذكر هذا فيما تقدم من الكتب.
ولكن المذهب المشهور تصوير النكول عن يمين الرد من غير تصريح به، والسبب فيه أنا لو لم نفعل هذا، [لرفع] (2) خصمَه كلَّ يوم، والخصم ناكل، وهو لا يحلف يمين الرد، فلا يتفرغ القاضي من خصومته إلى شُغْلٍ، ولا يجوز أن يُفضي القضاء إلى مثل هذا، فيجب إذاً قطْع الخصومة، ومن ضرورة هذا أن نحكم بنكول المدعي إذا امتنع، ثم إن استمهل أمهلناه ثلاثة أيام بلا مزيد، وهي مدة ثابتة في قواعدَ من الشريعة، ومدة إمهال المرتد إذا رأينا إمهاله ثلاثةُ أيام، وهي مدةُ الخيار، ومقامُ المسافرين. ولو امتنع ولم يستمهِل [لا نمهله] (3) ثلاثةَ أيام ثم نقضي بالنكول، بل نعجل القضاءَ بالنكول إذا لم يُظهر عذراً.
وقد تم ما أردناه من تصوير النكول باليمين مع الشاهد، وتصوير النكول عن يمين الرد على أبلغ وجه في البيان.
ولو نكل المدعي عن يمين الرد، فقال: [إني] (4) نكلت، فحلّفوا خصمي، فلا
__________
(1) في الأصل: " فهي ".
(2) في الأصل: " لرجع ". والمعنى لرفع خصمه كل يومٍ إلى مجلس القضاء.
(3) في الأصل: "لا نطرده" والمثبت من (ق).
(4) في الأصل: " إن ".

(18/664)


نجيبه؛ فإن اليمين، انقطعت عن جانب المدعى عليه بنكوله، فلا عود إلى ما تحقق انقطاعه، ثم هذا لو قيل به، لأفضى إلى الدَّور، والغرض أن تنفصل الخصومة، لا أن تتسلسل.
وقد عقد الشافعي باباً في النكول ورد اليمين، وغرضُه محاجَّة أبي حنيفة في قضائه بالنكول. وليس ذلك من شرطنا.
فصل
قال: " فإن قيل: كيف أحْلَفت في الحدود والطلاق ... إلى آخره " (1).
12107 - كنا ذكرنا إن الباب مشتمل على النكول والرد، وعلى ما يجرى التحليف فيه، وقد تم الغرض في أحد الفصلين، فأما ما يجري التحليف فيه، فكل ما تتعلق الدعوى به، وتقام البينة عليه، فاليمين جاريةٌ فيه، كالطلاق، والعَتاق، والفيئة في الإيلاء، والرجعة، والولاء، والنسب، والنكاح.
وعند أبي حنيفة (2) لا تجري اليمين في هذه الأشياء، وقيل: بناء مذهبه على أن اليمين تُطلب بتقدير النكول، ثم القضاء يقع بالنكول، والنكولُ نازلٌ منزلة البذل والإباحة، ولا مدخل للبذل في هذه الأصول، وهذا كلام مضطربٌ، لا استناد له إلى قاعدة من قواعد الشريعة.
ونحن اعتمدنا الدعوى، وسماعَ البينة، [فالعقوبات] (3) تتمحض حدوداً لله، لا تنتظم فيها الدّعوى، وإن كانت البينة تقوم على موجباتها، فلا جرم لا يجري التحليف فيها، والنكاح، والرجعة، والطلاق والعَتاق، والفيئة في الإيلاء، والولاء، والنسب، تجري الدعوى فيها، وتقوم البينة عليها.
ومما يجب التثبّت فيه أن شهادة الحسبة تجري في الطلاق، والعَتاق، وإذا كان
__________
(1) ر. المختصر: 5/ 255.
(2) ر. مختصر الطحاوي: 333، طريقة الخلاف: 395 مسألة: 162، إيثار الإنصاف: 350.
(3) في الأصل: "بالعقوبات".

(18/665)


كذلك، فلا ارتباط للبينة بالدعوى، ولكنا لسنا نعني دعوىً تقتضي البينة أو تقتضيها البينة، وإنما نعني أن الدعوى تنتظم فيها، وتصح، ثم التحليف يجري متعلقاً بما ذكرناه. إلا أن يؤدي إلى فساد حال.
وبيان ذلك أن المشهود عليه لو ادعى على الشاهد تعمّد الكذب، فالدعوى منتظمة، ولو أقام بينة على إقرار الشاهد بذلك لسُمعت، ولكن لو أراد تحليف الشاهد، لم يجد إليه سبيلاً؛ فإن هذا يُطَرِّقُ إلى الشهود أمراً عظيماً لا يحتمل، وقد يرتدعون عن الشهادة لأجله، وكذلك لو ادعى الخصم على القاضي تحيُّفاً في القضاء، فالدعوى منتظمة، والبينة على شرطها مسموعة عند قاضٍ آخر. ولكن لا سبيل إلى تحليف القاضي في زمان ولايته. وإن عُزل، فقد قدمنا تفصيل المذهب في الدعاوي المسموعة على القاضي المصروف.
ولو قذف رجل رجلاً، ثم ادعى عليه أنك زنيتَ، وأراد أن يحلّفه على ذلك، فقد قال الأصحاب: له أن يحلّفه؛ فإن حلف، استقر حد القذف على القاذف، وإن نكل، رددنا اليمين على القاذف، فإن حلف، لم يثبت الزنا بحلفه، ولكن يندفع حد القذف عن القاذف، فإذاً فائدة عرض اليمين ترجع وتؤول إلى دفع حد القذف، وهو من حقوق الآدميين.
فرع:
12108 - إذا نكل المدعي عن اليمين المردودة، ثم أقام شاهداً، وأراد أن يحلف مع شاهده، ففي المسألة قولان: أحدهما - لا يكون له ذلك؛ لأنه نكل عن اليمين في هذه الواقعة. والثاني - له ذلك؛ لأن هذه اليمين غير تيك التي نكل عنها.
وكذلك إذا أقام شاهداً واحداً، ونكل عن اليمين معه، فعرضنا اليمين على المدعى عليه، فنكل، فأراد المدعي أن يحلف يمين الرد، فقولان كما تقدم، وقد ذكرنا نظائر لذلك في كتاب القسامة، عند فرض النكول عنها، والرغبة في يمين الرد بعدها. وإذا اتضح الغرض، فالإيجاز أولى.
ومما اشتهر في المسائل قولان استنبطهما الأصحاب من كلام الشافعي في أن يمين الرد بمثابة بينة تقام، أم هي بمثابة إقرار المدعى عليه؟ ولهما فوائدُ وآثارٌ

(18/666)


[سبقت] (1) في مواضعها، وسيأتي منها ما لم يأت.
فرع:
12109 - إذا وكل في مجلس الحكم بحضرة القاضي من يخاصم عنه، صح التوكيل، وله أن يخاصمه، وإن وكّله في غير المجلس، فجاء وادَّعى أنه وكيل فلان، وأراد أن يقيمَ البينة، فقد اختلف أصحابنا في المسألة، فذهب ذاهبون إلى أن له أن يثبت الوكالة من غير إحضار الخصم، ثم إذا ثبتت، استعدى على الخصم، وأحضره، وابتدأ المخاصمة.
قال القاضي: الذي عندي أنه لا تُسمع بيّنتُه هكذا، بل يُحضر الخصمَ، ويدعي عليه أني أستحق مخاصمتك بتوكيل فلان إياي، فيربط دعواه به، ويثبت الوكالة بالبينة، ووجه ذلك أن الوكالة حقُّ آدمي، فينبغي أن تُربط بخصم عند محاولة الإثبات.
ثم قال القاضي في أثناء كلام له: الخصم إذا حضر مجلس الحكم، فالغالب أنه يقول لمن يوكله هذا وكيلي بالخصومة، ولا يخصصه؛ وحكم ذلك أنه ينتصب وكيلاً له في كل خصومة، غيرَ أن القضاة يرونه وكيلاً في تلك الخصومة في ذلك المجلس لا غير، وإنما بَنَوْا ذلك على ما علموه من عادات الخصماء على اطراد، ونزلوا اللفظ على المفهوم منه في التعارف.
ثم قال: إذا أنكر الخصم الوكالة، ولم يُقم الوكيل بينة، فقال للقاضي: حلّفه: لا يَعْلَمُني وكيلاً في الخصومة معه، فالقاضي لا يحلّفه؛ لأن أكثر ما في الباب أن يقر بوكالته، ولو أقر بالوكالة، وقال: لا أخاصمه، فإني لا آمن أن ينكر الموكِّل وكالته، فأحتاج أن أستأنف الأمرَ معه، فله أن يقول ذلك، وهذا [كما] (2) لو ادعى أنه وكيل فلان في قبض ماله، فلو أقر من عليه الحق بالوكالة، لم يلزمه الدفع إليه للعلة التي ذكرناها.
وإذا قال المدعَى عليه بعد ثبوت الوكالة: حلّفه أيها القاضي "ما عُزل أو لم يمت موكِّله"، فالقاضي يحلفه على نفي العلم.
__________
(1) في الأصل: " ثبتت ". والمثبت من (ق).
(2) زيادة من (ق).

(18/667)


فصل
قال: " ولو قال: أَحْلفه: ما اشتريتُ هذه الدار ... إلى آخره " (1).
12110 - إذا ادعى على صاحب اليد في الدار، وقال قد بعتَ هذه الدارَ مني، والتمسَ من القاضي أن يحلّفه على نفي البيع منه، فالقاضي لا يجيبه؛ فإنه لم يدّع الملك في الحال، وما لم يدع ذلك، لم يكن مدَّعياً لاستحقاقٍ ناجز، وإنما يطالب القاضي الخصمَ بالجواب إذا توجهت عليه دعوى في استحقاق ناجزٍ، مع طلب الخروج من موجَب الدعوى، ولو قال: بعتَ مني واختصر، فلا يبعد أن يكون صادقاً، ولكن عادت الدار إلى ملك البائع، وهي مقرَّة على ملكه الآن.
وإن قال المدعي: الدار التي في يده ملكي الآن، واشتريتها منه، فالدعوى مسموعة، ثم المدعَى عليه بالخيار: إن شاء، قال: ما بعتها منه، وإن شاء، لم يجبه على وفق الدعوى لفظاً ومعنىً، بل قال: لا يلزمني تسليمُ الدار إليه، والجواب على هذا الوجه مقبول.
وكذلك إذا ادعى عليه أنه مزّق ثوبه، وعليه أرشُه، فلا يلزمه أن يقول: ما مزّقتُ، بل إن شاء قال: لا يلزمني غرامةُ الأرش له.
وإنما يسوّغ الشرعُ مثلَ ذلك، لأنه ربما كان مزّقه، لكن بإذنه، ولو اعترف بالتمزيق وادعى الإذن، فربما يحلف صاحبُه.
وذهب أبو يوسف إلى أنه يجب على المدعى عليه أن يجيب عن عين ما يذكره المدعي.
ولو ادّعى المدّعي مثلَ ما ذكرناه؛ فأنكر المدعى عليه عينَ ما ادعاه، ثم لما عُرضت اليمين عليه أراد أن يحلف، لا يلزمه تسليم الدار، أو أرش التمزيق، ففي قبول اليمين على التأويل مع تقدم الإنكار على التصريح وجهان. وسيكون لنا إلى هذا الأصل عَوْدٌ في كتاب الدعاوى، إن شاء الله عز وجل.
__________
(1) ر. المختصر: 5/ 255.

(18/668)


فرع:
12111 - إذا رهن بدينٍ عليه شيئاً عند صاحب الحق، ثم إن الراهن ادّعى تلك العين على المرتهن؛ فإنه يحلف، لا يلزمه تسليمُ العين إليه؛ فإنه لو أقر بملكه، وادعى الرهن، لم يصدقه القاضي، وانتزعه من يده.
وإذا ادعى المرتهن على الراهن الدَّينَ، فهو مُحق في دعواه، فلو كان الراهن لا [يأمن] (1) جحودَ المرتهن الرهنَ، فقد كان الشيخ القفال يقول: له أن يقول: أتدعي عليّ ألفاً بها رهنٌ عندك حتى أجيبك، أو تدعي ألفاً آخر؟ قال: لأنه لو أقر بالدين المطلق، فربما ينكر صاحبُه الرهنَ، ويستمسك بظاهر اليد، فيتضرر به الراهن.
قال القاضي: لا يُقبل عندي من المدعى عليه ترديد القول والجواب على هذا الوجه؛ فإن القاضي لا يبحث عن جهة الوجوب، ولا يطلب منه أن يذكر سبب الاستحقاق، وللمدعى عليه مع بتّ الجواب حيلةٌ أخرى مستقيمة على قياس الأصول، وهي أن يجحد الحق إذا جحد المرتهنُ الرهنَ؛ وذلك لأن العين المرهونة تدخل في ضمان المرتهن بالجحد، فللراهن الذي عليه الحق أن يجحد ويمتنع من أداء ما عليه، إذا كانت قيمةُ المرهون قدرَ الدين (2).
وكل من غصب عيناً من إنسان، وللغاصب على المغصوب منه دين، فللمغصوب منه أن يجحد حقه ويمنعه، مع اعتبار المساواة في القدر، كما وصفنا.
فرع:
12112 - إذا ادعى على رجل مالاً، فقال المدعى عليه -بعد الإنكار-: قد حلفتني في هذه الدعوة مرةً أخرى، نظرنا: فإن ادعى أنه حلّفه في مجلس هذا القاضي، فالرجوع إليه، فإن تذكر [ما ادّعاه] (3) المدعى عليه مَنَع المدعي من تحليفه مرة أخرى، وإن لم يتذكر ما ادعاه المدعَى عليه من التحليف، فلا مبالاة بقوله، وتتوجه عليه اليمين.
__________
(1) في الأصل: " يأمل "، والمثبت من تصرف المحقق. ثم وافقتنا (ق).
(2) إلى هنا انتهت نسخة (ق)، وسيستمر العمل على نسخة وحيدة إلى أن نلتقي بنسخة (ت5) من أول باب الشهادة على الشهادة.
(3) زيادة لاستقامة العبارة.

(18/669)


وإن ادعى المدعى عليه تحليف الخصم إياه عند قاضٍ آخر، فهل يسمع قول المدعى عليه؟ فعلى وجهين: أحدهما - يسمع هذا منه، لأن المدعي لو أقر به، لانتفع المدعى عليه، وتخلص من الخصومة. والثاني- لا تسمع، لأنه ليس بحقٍّ يدعيه. وقد ذكر الوجهين أبو سعيد الإصطخري، فإن قلنا: يُسمع، فإن كان للمدعى عليه بينة أقامها عليه، وتخلص من هذه الخصومة، وإن لم تكن له بينة، فالقول قول المدعي: يحلف بالله ما حلّفه، فإن حلف، فذاك، وإن نكل، حلف هو، وتخلص عن الخصومة.
ولو قال المدعى عليه -والتفريع على سماع الدعوى في ذلك- أمهلوني لأقيم البينة، قال القاضي: القياس أن يمهل ثلاثةَ أيام، قياساً على الاستمهال في نظائر ذلك، قال: ولكني أقول: لا نمهله أكثر من يوم واحد؛ فإنه يشبه المراوغ المتعنت.
وهذا الذي ذكره غير لائق [بفقهه] (1)، فإن القياس إن صح، فلا يدافع بمثل ذلك. نعم، يتجه أن نقول: لا نمهله أصلاً؛ لأن اليمين متوجهة عليه في أصل الخصومة، وهو يريد أن يدرأها باحتيال واستمهال، وليس كالمدعي إذا ردت عليه اليمين، فاستمهل؛ فإنه صاحب الحق، واليمين حجته، ولا طلبة عليه، وإنما الإشكال في أن المدعي كيف يصح نكوله عن يمين الرد، كما قدمنا ذكر ذلك، والمدعى عليه مطالب باليمين، وهو بما يذكره من إقامة البينة مدافع ليمينٍ توجهت عليه.
فرع:
12113 - إذا ادعى رجل مالاً على رجل، وصحت دعواه فيه، فقال المدعى عليه: قد أبرأني عن هذه الدعوى، قال الإصطخري: هذه الدعوى مسموعة، وقال القفال: لا تسمع، وكان القفال يقول: إنما يستقيم هذا على أصل أبي حنيفة (2)، حيث يجوّز الصلح مع الإنكار، فأما على أصلنا، فلا يصح، لأنه ادعى الإبراء مما لم
__________
(1) في الأصل: " بفقه ".
(2) ر. مختصر الطحاوي: 98، مختصر اختلاف العلماء: 4/ 195 مسألة: 1887، رؤوس المسائل: 315 مسألة 201، طريقة الخلاف للأسمندي: 428 مسألة 774.

(18/670)


يثبت إذا (1) قال: أبرأتني عن الدعوى. والدعوى تنقسم حقاً وباطلاً، فدعوى الإبراء عن الدعوى إنما هي دعوى في شيء غير صحيح.
وعلى مذهب الأصطخري لو سمعنا هذه الدعوى، فنقول: يصح الإبراء عن الدعوى لو صدر من المدعي، فلو أقام المدعى عليه البينة على إبراء المدعي عن الدعوى، بطل حق المدعي، حتى لو أراد المدعي أن يقيم البينة على الحق، لم تقبل منه، وإن نكل المدعي عن اليمين، وحلف المدعى عليه على إبرائه، ثبت مقصوده، وانقطعت الدعوى.
ولو ادعى مالاً وصحت (2) الدعوى، فقال المدعى عليه: قد أبرأني عن هذا المال، فهذا إقرار منه بالمدعَى؛ فإن الإبراء من ضرورته تقدم الحق عليه، فقد اعترف بالحق، وادعى على مستحِقه إسقاطَه، فيطالَب بإقراره، وله الدعوى.
ثم في كلام القاضي ما يدل على أن المدعى عليه إذا ادعى إبراءً عن الحق، أو إيفاءً، فهو مطالب بالحق. يقال له: أدّ ما لزمك، ثم استفتح دعواك.
وهذا لا أعرف له وجهاً. والأصحاب مجمعون على خلافه. وكيف يطالب المدعى عليه بإيفاء الحق، ودعواه مسموعة في الإيفاء، وفصلها ممكن في الحال بتحليف المدعي؟ نعم، لو ادعى الإبراءَ، وقال: لي بينة، فأمهلوني في إقامتها إياها، فلا نمهله الآن، ونقول: أدّ ما ثبت عليك، أو اقنع بتحليف صاحبك على نفي الإبراء، ثم أدّ، وإن كان لك بيّنة، فأقمها من بعدُ. ونحن نُتبع (3) الحكم، وله -إن صدق- أن يصابر الحبس أياماً معدودة ليحضر بيّنته.
وهذه الصورة الآن تناظر مسألة وكيل الغائب في الحكم، فإذا حضر وكيلٌ، وأثبت حقاً لموكله على خصمه، فقال المدعى عليه: قد أبرأني موكلك، فنقول له:
__________
(1) إذا: بمعنى " إذ ".
(2) صحت الدعوى: أي صحت في نظمها وترتيبها، واستوفت شروط قبولها، وليس المراد ثبت المدَّعى به.
(3) أي: نتبع الحكمَ البينة.

(18/671)


أدّ ما عليك، ثم إذا حضر الموكل، فادّع، واستدرك؛ فإنا لو لم نقل هذا، لأدى إلى تعطيل فائدة التوكيل على الغَيْبة.
فصل
12114 - ذكر صاحب التلخيص مسائلَ في نوعين: أحدهما - في امتناع جريان التحليف، والثاني - في امتناع ردّ اليمين بعد النكول.
فأما النوع الأول- فمن مسائله فيه، أن من نصب وصياً في تركته، فجاء إنسان، وادعى أنه قد أوصى له الميت بوصيةٍ؛ فإن أقام البينة، تثبت الوصية، وإن لم يُقم، وأراد أن يحلّف الوصيّ بالله لا يَعلم ذلك، فلا يجد إلى تحليفه سبيلاً، إذا لم يكن الوصي وارثاً.
وهذا ظاهر؛ لأن الوصي لو أقر بالوصية، لم تثبت بقراره؛ فلا معنى لتحليفه، ولو كان الوصي وارثاً، فاليمين تتوجه عليه حينئذ بحق الوراثة.
ومما ذكره مسألة الوكيل: إذا جاء رجل، وادعى أنه وكيل غائبٍ، ولا بينة له، فإن أراد أن يحلّف الخصمَ على نفي العلم بالتوكيل، فقد ذكرنا أنه ليس له ذلك، لأنه لو أقر بالتوكيل ولا بينة، فله أن يمتنع لما يتوقعه من إنكار الموكّل لأصل الوكالة.
وألحق الأئمة بما ذكره تحليفَ الشاهد والقاضي (1)، وقد أوضحنا امتناع ذلك لما فيه من الفساد.
__________
(1) هنا أمر عجب، وهو أن ما نسبه الإمام إلى صاحب التلخيص، وذكر أنه من مسائله ليس موجوداً في التلخيص المطبوع الذي بين أيدينا، وما قال: إن الأئمة ألحقوه بما ذكره صاحب التلخيص- فالأمر بالعكس هو الذي في التلخيص.
وهاك نص كلام صاحب التلخيص، قال:
"ويجب اليمين في كل حق لابن آدم إلا في أربعة مواضع:
أحدها - القاضي، إذا ادعى رجل بعد العزل أنه حكم بباطلٍ أيام قضائه، وادعى عليه قيمة ما أتلف، فإن أقر القاضي، لزمه، وإن أنكر، فلا يمين. قاله نصاً.
[ثانياً]- وكذلك الشاهد: إذا شهد على رجل بطلاق، أو عَتاق، أو غيره، فادعى المحكوم عليه أنه شهد بزور، وأراد قيمة ما أتلفت شهاته، فإن أقر، لزمه، وإن أنكر، فلا=

(18/672)


ومما ذكره أن من ادعى على إنسان شيئاً، فادعى المدعى عليه أنه صبي، وكان ما يقوله محتملاً، فالخصومة تقف، فلو قال المدعي: حلّفوه على الصبا، لم نحلّفه، لأن الصبيَّ لا يحلّف، وتحليفه ينافي قبولَ دعواه.
12115 - فأما المسائل التي ذكرها من النوع الثاني، وهي إذا امتنع رد اليمين بعد نكول الخصم، فمنها: أن الساعي إذا طلب الزكاة، فقال رب المال: قد أديتُها، فالقول قوله، فإن حلَّفناه، فنكل، فلا سبيل إلى رد اليمين على الساعي، ولا على المستحقين -ولا حصر لهم- فماذا نصنع والحالة هذه؟ فيه تفصيل قدمتُه في كتاب الزكاة، وأنا أعيد منه ما أظن أني لم أذكره، فأقول: من أصحابنا من ذهب إلى أن اليمين غيرُ مستحَقة على رب المال، فعلى هذا لا أثر لنكوله. ومنهم من قال: اليمين مستحَقة عليه، فإذا حلفناه، فنكل، ففي المسألة أوجه: أجدها- أنه يُقضى عليه بالنكول؛ فإن اليمين قد تعذَّر ردُّها (1)، والثاني - لا يقضى بالنكول؛ فإنه ممتنعٌ على أصل الشافعي، ولا سبيل إلى الرد، فيُحبَس المدعى عليه حتى يحلف أو يؤدي ما عليه ويُقر.
وهذا بعيد عن قاعدة الشافعي؛ فإن الإجبار على التحليف إنما صار إليه أبو حنيفة في القسامة وغيرها.
والوجه الثالث - أنا نفصل بين أن يكون رَبُّ المال على صورة المدعين، وبين أن
__________
=يمين عليه. قلته تخريجاً على المسألة الأولى.
[ثالثاً]- وكذلك لو ادعى عليه شيئاً في يده، فقال: هو لولدي الصغير، لم يحلَّف. [رابعاً]- وكذلك لو ادعى رجلان في امرأة، فأقرت أنها زُوّجتْ لأحدهما، لم تحلَّف للآخر " (ر. التلخيص: 645).
هذه هي المسائل الأربع التي ذكرها التلخيص نصَّاً، وليس فيها واحدة من الثنتين اللتين نسبهما الإمام إليه. ولكن فيها الثنتين اللتين ذكر الإمام أن الأئمة ألحقوهما بما ذكره صاحب التلخيص.
هذا وقد خالفنا منهجنا، فلم نكتف بالإشارة إلى الموضع من (التلخيص)، وأوردنا النص بكامله -محتملين الإطالة على كُره- تأكيداً للدعوى التي ادعيناها على الإمام.
(1) هذا ما ذكره صاحب التلخيص: 646.

(18/673)


يكون نافياً على صورة المدعى عليه؛ فإن كان مثبتاً، مثل أن يقول: أدّيتُ الزكاة.
12116 - ومما أورده من هذا الجنس أن الذمي إذا ضربنا عليه الجزية، فلما انقضى نصف السنة، غاب عنّا، وعاد بعد انقضاء الحول مسلماً، وقال: قد أسلمت قبل انقضاء الحول، وفرّعنا على قولنا: إن الذمي إذا أسلم قبل انقضاء الحول، لم يلزمه شيء من الجزية لما مضى من الحول في الشرك، فإذا ادعى ذلك قُبل قوله؛ فإن ما يقوله ممكن، والأصل براءة الذمة، فنحلّفه، فإن حلف، فذاك، وإن نكل عن اليمين، فلا سبيل إلى رد اليمين على أهل الفيء.
ففي المسألة ثلاثة أوجه: أحدها - أنه يُقضى عليه بنكوله، فتلزمه الجزية (1).
والثاني - لا يقضى عليه بالنكول، ولا سبيل إلى الرد، فلا يلزمه شيء. وهذا عندي إسقاط اليمين؛ فإنه يَنْكُل، فلا يلتزم شيئاً، ولا سبيل إلى حمله على اليمين. والوجه الثالث - أنه يحبس حتى يحلف أو يعترف [بما عليه] (2).
ثم قيّد صاحب التلخيص هذه المسألة بالغَيْبة (3)، فقال: لو غاب ثم جرى ما جرى، وعاد مسلماً، فظاهر هذا يدل على أنه لو بقي بيننا، ولما انقضت السنة، صادفناه مسلماً، فادعى أنه قد أسلم قبل الحول، ولم يُخْبرنا، وكتمَ إسلامَه عنا، فلا يقبل قوله في هذه الصورة؛ إذ الظاهر أن من يسلم لا يكتم إسلامه في بلاد الإسلام؛ فلم يقبل قوله، والأصل عدم ما يدعيه، فتلزمه الجزية، إلا أن يقيم بيّنة.
والذي أراه أنا لو ألزمناه في مسألة الغَيْبة الجزية إن لم يُقم بينة على إسلامه قبل انقضاء السنة، لم يكن ذلك بعيداً؛ فإن إسلامه في الغيبة وإن كان ممكناًً، فهو ثبوت أمر يناقض موجَبَ عقد ملزم؛ وقد قلنا: لو ادعى الموكّل عزْلَ الوكيل في الغيبة - تفريعاً على نفوذ عزله- فلا يقبل قوله ما لم يُقم البينة، وهذا أمثل من الوجوه الثلاثة التي ذكرناها.
12117 - ومما ذكره صاحب التلخيص في ذلك أنا إذا أسرنا طائفةً من الكفار وأردنا
__________
(1) هذه هي المسألة الثانية من مسائل صاحب التلخيص: 646.
(2) في الأصل: " ما عليه ".
(3) ر. التلخيص: الموضع السابق نفسه.

(18/674)


قتل مقاتلتهم، فقال واحد منهم: لست ببالغ، فالحكم أنا نكشف عن مؤتزره، فإن كان أَنْبت، حكمنا ببلوغه، وقتلناه في القتلى، فلو قال: قد داويتُ واستعجلت الإنبات، فحصل في غير حينه، فإن قلنا: الإنبات عين البلوغ، فلا فائدة لقوله، وقد استعجل سبب حتف نفسه، وإن جعلنا الإنباتَ علامةَ البلوغ، فنحلّفه في دعوى العلاج، فإن حلف، لم نقتله، وكان من الذُّرية (1)، وإن نكل عن اليمين، فقد نُقل نص الشافعي في أنه يقتل. وهذا قضاء بالنكول.
وهذه المسألة فيها وقفات:
منها - أنه قد ادعى الصبا، وتحليفُ من ادعى الصبا متناقض كما سبق ذكره. قال الشيخ (2): لكنا عولنا في تحليفه على ظاهر الإنبات، وإن كان هو يدعي الصبا، ولكن ظاهر الإنبات يكذبه، فحلّفناه. قال الشيخ: هذا مشكل مع هذا.
ثم إذا حلّفناه، فنكل، فالنص ما ذكرناه. وفي المسألة وجه آخر أنه استعجل، وهذا فيه إشكال من وجه آخر، وذلك أنه إذا تحقق بلوغه، فيحتمل أن يقال: لا يقتل، بل يدام الحبس عليه حتى يحلف أو يقر بأني ما كنت استعجلت فيقتل؛ وذلك لأن البلوغ المتحقق لا يخرجه عن الذرية أمس، وهو لا يقتل لبلوغ [حالٍّ] (3)، وإنما يقتل لتبين بلوغه عند الأسر، هذا ما أردنا أن نذكره في ذلك.
12118 - ومما ذكره من هذا الجنس أن غلاماً يافعاً من الأولاد المرتزقة إذا عرض نفسه، وزعم أنه قد بلغ لنُثبت اسمَه في الديوان (4)، ونُجريَ له السهم، وكان صدقه محتملاً، قال: نحلّفه، فإن حلف، فذاك، وإن نكل، لم يثبت له سهمُ المرتزقة.
وقد تكلم الأصحاب في هذه المسألة على وجهين: أحدهما - أن منهم من قال: إذا ادعى البلوغ، صُدِّق، ورُجع إلى قوله، ولم نحلّفه؛ فإن الإمام إن قدره بالغاً، لم
__________
(1) هذا ما اقتصر عليه صاحب التلخيص.
(2) الشيخ: المراد هنا هو القفال، كما يظهر من عبارة الرافعي، والنووي. (ر. الشرح الكبير: 13/ 201، والروضة: 12/ 38).
(3) في الأصل: "حاله".
(4) هذه من مسائل التلخيص: ص 647.

(18/675)


يحتج إلى تحليفه، وإن قدّره صبياً، فلا حكم ليمينه، وقالوا: إن حلّفه، فنكل، فليس هذا من باب القضاء بالنكول -إن رأينا تحليفه- بل هو من باب عدم الحجة، فقد ادعى أمراً لا حجة معه فيه، واليمين في حقه في هذا المقام بمثابة البينة في حق المدعي، فإنه ليس يُدّعى عليه أمرٌ حتى يفرض نكوله ويطلبَ بعد نكوله الرد. هذا منتهى ما أورده صاحب التلخيص (1).
12119 - وألحق الأصحاب بما ذكره أن من مات، ولم يخلّف ورثةً خاصة، وورثه المسلمون، وكان له دين على إنسان، فادعاه منصوب السلطان، فأنكره، ولا بيّنة، فيحلِّفه، فلو نكل، فلا سبيل إلى الرد. وفي الممسألة وجهان ذكرهما العراقيون: أحدهما - أنه يُقضى عليه بالنكول، بخلاف قياس الباب؛ لأنا حيث لا نقضي بالنكول، نجد مَردّاً بتحقيق اليمين، وهو يمين المدعي، فلا نبرم الحكمَ دون عرضها إذا أمكن ذلك، والنكول حيث لا رد منتهى الخصومة، فلا يبعد أن يُنسب صاحبُه إلى العناد، وقصْدِ دفْع (2) الحق والامتناع عنه.
والوجه الثاني - أنه يحبس ليحلف، أو يُقر كما قدمناه، والفرق بين هذه الصورة وبين مسألة الزكاة أنه يجري في مسألة الزكاة وجهٌ أن الاستحلاف ليس مستحقاً، واليمين في الصورة التي ذكرناها الآن مستحقة على قياس الخصومات، فلم يخرّج أصحابنا وجهاً أنه يُترك إذا نكل، ولا يُقضى بالنكول ولا يحبس؛ فإن هذا إن قيل به، فحاصله إسقاط اليمين رأساً، وقد كان شيخي يذكر هذا الوجه في هذه المسألة، وهو أنا نخلّيه، ولا نقضي عليه، غير أنا نُعصِّيه لو عاند، وهذا لا حاصل له.
...
__________
(1) بقيت مسألة أوردها صاحب التلخيص، ولم يذكرها الإمام، وهي بنصّها: " لو قال رب النخل: قد أحصيت مكيل ما أخذت، وهو كذا، وقد أخطأ الخارص، أو قال: أصابته جائحة، أو سرقة، صُدِّق، فإن اتهم حلّف، فإن نكل حكم عليه ". ا. هـ ثم قال: " قلتُه تخريجاً " ثم عقب قائلاً: وفي هذه المسائل قول آخر: أنه يحبس حتى يحلف، أو يعترف. (ر. التلخيص: 646).
(2) دفع الحق: أي ردّه وعدم قبوله. وليس الدفع بمعنى الأداء كما هو متبادر في لساننا الآن.

(18/676)


نسأل الله تعالى حسن الإعانة، وتقييض منصفين ينظرون في مجموعنا هذا، وهو ولي التوفيق.
الإمام
في نهاية المطلب

(19/4)