نهاية المطلب في دراية المذهب

كتاب الشهادات وما دخله من الرسالة
قال الشافعي رضي الله عنه: " ليس من الناس أحد نعلمه إلا قليلاً يمحِّض الطاعةَ والمروءة، حتى لا يخلطهما بمعصيته، أو يمحِّض المعصية حتى لا يخلطها بشيء من الطاعة ... إلى آخره " (1).
12120 - المقصود من هذا الكتاب الكلامُ في عفة الشاهد ومروءته، واشتراط [توقّيه] (2) عن التهمة. وقد ذكرنا في باب مجامعَ الشرائط المرعية في الشهود، والغرضُ الآن مقصور على الأصول الثلاثة التي ذكرناها.
ثم ذكر الشافعي في عقد الباب كلاماً، نقلنا بعضه، وبالجملة إذا كان اشتراط العصمة محالاً في قبول الشهادة، فيُفضي الكلامُ إلى انتشارٍ لا يستقل لضبطه إلا موفَّق في ذكر ما يقدح في الشهادة من الذنوب وفي ذكر ما لا يقدح.
ولو (3) لم يكن فيه إلا التعرض للكبائر والصغائر، وقد تقطع علماء الأصول فيها، فلا يتأتى الخوض فيها، وفي أئمتنا من قال: لا صغيرة في الذنوب، وهو اختيار الأستاذ أبي إسحاق، واستمسك فيه بما لا يُدَافَع، فقال: الذنب يعظم بعظم قدر من خولف فيه، فعلى هذا كل ذنب - وإن استصغره مقارفه كبيرة؛ من جهة أنه مخالفةٌ لأمر الله تعالى.
والمروءة ونقيضها كيف تنضبط مع اختلاف الحالات والدرجات.
والتهمة خارجة أيضاً عن الضبط.
__________
(1) ر. المختصر: 5/ 256.
(2) في الأصل: " وقيه ".
(3) جواب (لو) مفهوم من السياق.

(19/5)


ونحن نستفرغ الوسع في هذه الفصول ونبرأ من الحول والقوة، فنذكر أولاً ما قاله الأصحاب.
قالوا: العفيف من لا يرتكب كبيرة، ولا يُصرّ على صغيرة، وصاحب المروءة هو الذي يصون نفسه عن الأدناس، ولا يَشينها عند الناس.
وقيل: هو الذي يسير سيرة أشكاله من أهل عصره في زمانه ومكانه.
وقيل: هو من يحفظ نفسه من فعلٍ يُسخر به لأجله، فالفقيه إذا لبس السلاح وزيّ السلطان، كان تاركاً للمروءة. والحمالون إذا تطلّسوا (1) كانوا تاركين للمروءة.
فهذا ما ذكره الأصحاب، وما لم نذكره (2)، فهو من جنس ما ذكرناه.
12121 - والضبط عندنا في مقصود هذا الباب أهونُ من كل ضبط في محل انتشار، فنستعين بالله، ونقول: أما الذنوب فالمعتبر عندنا فيها أن يقال: كل ما يدلّ صَدرُه عن الشخص على استهانته بالدين، ولست أعني الاستهانة التي توجب التكفير، بل أعني استهانة تُنتجها غلبةُ النفس الأمّارة بالسوء؛ فإن من شأنها إذا [استغلبت] (3) على سُنَّةِ التقوى أن تهوّن الأمر، وقد تعتضد بعده [بالتوبة] (4) وبإظهار المطمع في الرحمة (5)، وبالجملة تتدرب وتتمرن على العصيان على استبشار من غير استشعارٍ وانكسار، فكل ما يُشعر بذلك - يوجب ردَّ الشهادة، وهو الكبيرة عندي في قاعدة الأصول.
وما يحمل على فلتات النفس، وفترات (6) مراقبة التقوى، [وشأنُ] (7) مثله أن
__________
(1) تطلَّس: لبس الطيلسان. وهو كالوشاح، يوضع على الكتف تجملاً، وهو غير مخيط، ويشبه ما تسميه العامة (الشال) (المعجم الوسيط).
(2) أي: ما لم نذكره مما قاله الأصحاب، ففيما ذكرناه كفاية، وغَناء، وعوض عنه، فهو من جنسه.
(3) في الأصل: " استغلب ".
(4) في الأصل: " التوبة ".
(5) المعنى أن النفس الأمارة بالسوء تهؤن المعصية، مستعينة بأن باب التوبة مفتوح ما لم يغرغر، وبأن رحمة الله واسعة. وهذا من مكر النفس بصاحبها.
(6) فترات: من الفتور والضعف.
(7) في الأصل: " وسار ".

(19/6)


يقترن بالتندم، [ولا يهنأ] (1) صاحبه بلذة في المعصية، بل يُنَغص عليه كلَّ لذة تنال نفسه في المعصية، ومن هذا يلتحق الإصرار -على ما يسمى صغائر- بالكبيرة، ويُخرَّج على ما مهدناه أن الموبقات لا تكون نوادر؛ فإنه لا يستجزىء عليها إلا جسور، سبقت طمأنينة نفسه إلى أمثالها، وإلى المعنى الذي ذكرناه أشار المصطفى صلى الله عليه وسلم إذ قال: " أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم " (2).
وقد ذكر بعض الأتقياء في هذا كلاماً واقعاً، فقال: معصية التقيّ كعثرة الجواد ونبوة الصارم، فإن دام العِثار، فعن ظَلْعٍ (3) وكلال، وإن دامت النَبوة فعن انفلال.
12122 - ونحن نتمم غرضنا في الشهادة، فنقول: إن كنا نطلب عدالةً ابتداءً، وظهر لنا ما يغلب على الظن استهانةً، فالجَرْحُ، [وإن] (4) ترددنا فالوقْف، وإن ظهر لنا تحرج وتعظيم للدين، فالتّعْديل.
وإن تقدمت عدالة، فظهر نقيضها، فالجرح، وإن لم يظهر نقيضها، وطرأ تردد، فهذا موضع وقف القضاة، إذا رابهم أمر فيتحرجون، فإن لم يستبينوا واضطروا، قَضَوْا.
فإن قيل: هلا توقفوا حتماً؟ قلنا: لأن العدالة الماضية تنفي استواء الظن؛ فإنه لا يليق بالعدل الرضا ما نحسبه، وهذا يرجع إلى أنه إذا قضى، فهو باقٍ على غلبة الظن في استصحاب العدالة. هذا قولنا في تقريب الضبط فيما يتعلق بالمخالفات.
12123 - فأما المروءة، فحقها أولاً أن تُفْصَلَ عن مقارفة الذنوب، وتُحصَرَ فيما لا يَحْرُم في نفسه، ولو أقدم عليه المقدِم، لم يأثم ولم يُعصَّ -وإن أطلقنا في بعض الأحوال الكراهية- على ما ستأتي المسائل، إن شاء الله.
فالضابط في هذا الفصل يقرب من الضابط فيما تقدم، فكل انحلال عن عصام
__________
(1) في الأصل: " ولا ينهى ".
(2) سبق هذا الحديث في الحدود.
(3) ظلْع: ظَلَع يظلَع ظلْعاً: عرج وغمز في مشيه، ثم صار الظلعْ علماً على الضعف والكلال.
يقال: اربَع على ظلعك: أي ارفق بنفسك، وضعفك (المعجم).
(4) في الأصل: " إن " (بدون الواو).

(19/7)


المروءة يُشعر بترك المبالاةِ والخروجِ عن التماسك، فهو يُسيء الظنون بالتحفظ في الشهادة.
وفي هذا سرّ خفي، وهو أن من انحلّ كذلك، غلب على الظن انحلاله في المعاصي، وشهادةُ الزور منها، فرجع الرد في ترك المروءة إلى ظنٍّ غالب في ارتكاب المعصية، ومنه ما يغلّب على الظن خبلاً في العقل، فهذا هو المحذور ممن لا مروءة له.
ومما يجب مراعاته في الباب أمور العادات، وهي من أعظم الأقطاب، وذلك جارٍ في الذنوب وترك المروءات.
وبيانه أن اللعب بالنرد إن ثبت أنه ليس من الموبقات والكبائر، فإذا استعظمه أهل قُطر، فلا يُقدم عليه إلا جسور. وقد لا يستعظمه أهل ناحية، فيُعتبر في حق أهلها الإصرارُ.
وأمور العادات غالبة في المروءات، حتى لو قيل: جملتها مرتبطة بالعادات، لم يكن بعيداً. فمن لبس من الفقهاء القَباء في هذه الديار يعد خارماً للمروءة، وقد يعتاد الفقهاء ذلك في بعض بلاد الشرق، فلا يُنسبون إلى خرم المروءة. وقد يعتاد السوقة ببغداد التحنك (1) والتطلّس، وذلك من عوامّ الناس خرق للمروءة في بلادنا.
وألحق الأئمة بفصل المروءات الكلامَ في أصحاب الحرف الدنيّة كالدباغ، والكنّاس، والحجام، والمدلّك، فذكروا وجهين في قبول شهادتهم، وسبب ذلك أنهم على عادةٍ مستمرة فيما هم فيه، فلم يكونوا خارمين لعادةٍ من وجه، واختيارهم تلك الحرف يورث خرماً ودلالة على خسّة الجوهر، فكان هذا التردد مثاراً للخلاف.
وذكر بعض الأصحاب [الحاكة] (2) وعدوهم من أهل الحرف الدنية، قال القفال:
ليسوا عندي كذلك، فهم ينسجون غزلاً كما يخيط الخياط ثوباً منسوجاً، وهذا الذي ذكره حسن في فنه، ولكن يتطرق إلى الحاكة أمر نبهنا على تمهيده، وهو أن الناس
__________
(1) التحنّك: طريقة في لبس العمامة، حيث يديرها من تحت حنكه، ولا يكتفي بأن يجعلها حول رأسه (القاموس).
(2) في الأصل: " الحالة ".

(19/8)


متفقون على الإزراء بهؤلاء، وقد يجرون -في التعريض بالمساب والكلم المؤذية- النسبة إلى الحياكة، فإذا اطرد هذا في الناس، فاختيارها مع ظهور الذم بها يشعر بالخسّة التي يُشعر بها جملةُ الحرف الدنية، فهذا مما يجب التنبه له.
ومما نذكره أن الرجل المعدودَ من المعتبرين والأماثل إذا كان تبذّل في نقل الماء والأطعمة إلى منزله، فإن كان ذلك عن ضِنّةٍ وشُح، فهو خسة خارمة للمروءة، وإن كان ذلك عن استكانة وتذلل، وإظهارِ خضوعٍ وتأسٍّ بالأولين، وتشوفٍ إلى شيم الأتقياء البُرآء من التكلف، فهذا لا يخرم المروءة، ولا يخفى مُدرك الفصل بين الحالتين. ويستبان ذلك في الرجلين، فليقع النظر في أمثال هذا ثم الحكم بحسبه.
وألحق الأئمة بما ذكرناه اشتغالَ المرء عن مهماته بما هو مباح في قبيله، حتى يعدّ معطلاً لما يُهم، مشتغلاً بما لا يعنيه، فصاحب هذه الحالة ملتحق بتارك المروءة، وإن لم يكنه؛ لأنه في معناه؛ من حيث ينتسب إلى ترك المبالاة والانسلال عن العادات، وهو يتهدف لتغليب الظن بالجرأة على الزور والكذب، أو للخبل في العقل، كما قدمناه.
ومن هذا وقع لأبي حنيفة (1) أن شهادة الفاسق بالغصب. والظلم إذا كان كبير النفس، آنفاً من الكذب -مقبولة؛ فإن فسقه لا يغلّب على القلب جرأته على الكذب، مع ما ظهر فيه من الأنفة، والاستنكاف عن كذبةٍ، وإن قَبِل دونها.
والشافعي لم يثق بفاسق، وجعل عصامَ الأمر الدينَ، وقد [يعرض] (2) للظلمة في حميّات النفوس والعصبية إذا لم يَزَعْهُم دينٌ- الكذبُ.
12124 - ومما نلحقه بهذه الأصول ردَّ شهادة المغفل، فالعدل الرضا إذا غلبت غفلاته، واعترته في حالاته الفترات، فالشافعي يرد شهادته مجملةً، ويقبلها مفصلة إذا وصف المكان والزمان، وتأنق في ذكر الأوصاف. وهذا خارج على القاعدة؛ لأنه إذا أجمل الشهادة، فقد يظن به غفلة، وإذا فضلها -وهو عدل لا يظن به اعتماد
__________
(1) ر. المبسوط: 16/ 131.
(2) في الأصل: يفرض.

(19/9)


الكذب- فيبعد أن تنتظم له الدقائق في التفاصيل من غير تثبت وتحصيل.
فيخرج مما ذكرناه أن الرد بالفسق، وترك المروءة، والغفلة، يؤول إلى أصلٍ واحد في غلبة الظن، فهذا نجاز تمهيد أصول الباب.
وقد جرى بالغاً في البيان والانتظام. ونحن نعود بعده إلى مسائل الكتاب، ونقتصر على ذكرِ صورها، والمرامزِ إلى [تفاصيلها] (1) المُلْحقةِ لها بالأصول التي مهدناها، والله وليّ التوفيق، وهو بإسعاف راجيه حقيق.
فصل
قال: " ولا يقبل الشاهدَ حتى يثبت عنده أنه حر ... إلى آخره " (2).
12125 - هذا معترِض في الباب خارج عن المقاصد الثلاثة التي ذكرناها، ولكنه مقصود في نفسه، فالحرية لا بد من مراعاتها في الشاهد، ثم يجب طلبُ الباطن فيها، ولا يمكن ضبط اشتراط الحرية بالمروءة، مصيراً إلى أن العبيد [لا تستدّ] (3) لهم رعاية المروءة؛ فإن المعول في المروءة على العادات، والتبذل عادةٌ مطردة في المماليك لا تَشينُهم، وليسوا فيما بُلوا فيه كأصحاب الحرف الدنية؛ فإنهم مضطرون إلى تصريف السادة إياهم في جهات التبذّل.
والدليل عليه أن تاركَ المروءة مردودُ الرواية، كما أنه مردودُ الشهادة، ورواية العبد مقبولة. فلا يستدّ من (4) ردّ شهادة العبيد إلا أمران: أحدهما - إجماع الخلفاء والقضاة على ترك طلب الشهادات من العبيد، مع كثرتهم، واشتهرت الروايات من المماليك.
__________
(1) في الأصل: " تعاليها " (انظر صورتها).
(2) ر. المختصر: 5/ 256.
(3) في الأصل: " لا تستمرّ ". وهذا التصحيف تكرر مراراً، لأن العبارة تصح معه على نحوٍ ما، ولكن المعهود في لفظ الإمام (تستدّ) أي ثستقيم، وتثبت، والعبارة مع هذا اللفظ أصح وأقوم.
(4) من: بمعنى (عن).

(19/10)


والآخر - أن الشهادة تقتضي قياماً بتحفُّظٍ عظيمٍ، واستبدادٍ بالنفس في طلب الاطلاع، وهذا لا يتأتى من العبد؛ فإن فرض فارض إذناً من السادة، فهو بمثابة ما لو فرض مثل ذلك في الولايات.
ثم لا اكتفاء بالظاهر، فلتَثْبت حريةُ الشاهد ببينة أو بتسامع على استفاضة، أو بانتساب الرجل إلى أحرار فلو أراد القاضي أن يكتفي بالظاهر في ذلك، كان كما لو اكتفى بظاهر العدالة.
فصل
قال: " ولا تجوز شهادة جارّ إلى نفسه ... إلى آخره " (1).
12126 - هذا هو القطب الثالث، وهو. ردّ الشهادة بالتهمة، ولا يُدْرَكُ مقصدُ الفصل بالهوينا. وقد قال الشافعي في مواضع: " أقبل الشهادة، ولا أجعل للتهمة موضعاً ". ولا يمكن إنكار رد الشهادة بالتهمة في أصول الشريعة، فكيف الضبط، والطرفان منتشران؟
الوجه أن نذكر ما ذكره الأصحاب نقلاً، ثم نشمر للبحث. قالوا: لا تقبل شهادة جارٍّ إلى نفسه ولا دافعٍ عنها.
ثم صوّروا الجرَّ، فقالوا: إذا شهد الرجل بأن فلاناً جرح موروثه، لا تقبل شهادته في حياة المجروح (2).
__________
(1) ر. المختصر: 5/ 256.
(2) قوله: " لا تقبل شهادته (أي الوارث) في حياة المجروح (أي الموروث) " قلت: في هذه العبارة إيجاز شديد، يحتاج إلى تفصيل؛ وذلك لأن الإمام فصلها في باب الشهادة على الجناية.
وتفصيل المسألة أن الجرح إذا اندمل، فتجوز شهادة الوارث بعد الاندمال -إذا لم يكن بينهما بَعْضية- فإنه ليس جارّاً لنفسه نفعاً، فإن المورّث يستحق الأرش بنفسه. ولكن إذا لم يندمل الجرح، فلا تقبل شهادة الوارث؛ لأن الموروث لو مات من سراية الجرح، لوجبت الدية للوارث، فهو إذاً جارّ لنفسه نفعاً.
وكذا لو شهد بعد موت المجروح رجل أنه قتل مورّثه، فلا تقبل شهادته. (التهذيب =

(19/11)


وصوروا الدافع، فقالوا: إذا شهد شاهدان على أن فلاناً قتل فلاناً خطاً، فشهد عدلان من العاقلة على جرح (1) شهود القتل، فشهادة العاقلة مردودة، لأنهم يدفعون عن أنفسهم غُرم التحمل. هذا ما ذكره الأصحاب في الجرّ والدفع.
ولست أتعرض بعدُ لضبط المذهب حتى استتم نقل المسائل المتعلقة بالتهمة.
12127 - قال رضي الله عنه: " ولا على الخصم، لأن الخصومة موضع عداوة ... إلى آخره " (2).
قال أئمتنا: شهادة العدو على العدو مردودة؛ لمكان التهمة، وشهادته له مصلحة (3)، وعلى هذا بنى الأصحاب ردَّ شهادة الزوج مع ثلاثة من العدول على زنا زوجته، فإنها بزناها أوغرت صدر زوجها. والوجه في ذلك أنه ربما يرى منها مراودات وأمور تدل على الفجور، فيحمله ذلك على ما ذكرناه.
وأهم ما نذكره في هذا الفصل معنى العداوة، فلا ينبغي أن تُفرضَ عداوة مترتبة على فسق لا يُظهر تأثير العداوة في الرد (4)، والعداوة التي نعنيها ونحكم بأنها توجب رد الشهادة من غير فسق هي العداوة الجبلّية أو المترتبة على سبب (قُدْرَتي) (5)،
__________
= للبغوي: 7/ 259، والمنهاج: 13/ 308، 309، والبسيط للغزالي: جزء 7 ورقة: 124 ظهر، والشرح الكبير: 13/ 24).
(1) واضح أن الجرح المشهود عليه هنا هو نقيض العدالة، وليس جرح السنان.
(2) ر. المختصر: السابق نفسه.
(3) كذا. ولعلها: " مقبولة " كما عبر بذلك في الفقرات الآتية.
(4) المعنى أن العداوة التي تترتب على فسق أي بسبب الفسق، أو التي يرتكب بسببها ما يفسق به ليست هي المرادة هنا، فإن هذا الفسق يردّ الشهادة عموماً، وإنما المقصود هنا العداوة الجبليّة أو المترتبة على سبب طبعي.
وعبارة الغزالي في البسيط توضح ذلك، إذ قال: " فإن كانت العداوة مترتبة على فسق، أوجب ردّ الشهادة عموماً " (الموضع السابق نفسه) وأما صاحب التهذيب، فقد عبّر عن ذلك قائلاً: " هذا إذا كانت العداوةِ ظاهرة بينهما، ولا يرتكب كل واحد منهما في عداوته ما يُفَسَّق به، فإن فعل في عداوته ما يُفسَّق به، فيكون مردود الشهادة له وعليه في حق كافة الناس " (ر. التهذيب: 8/ 277).
(5) قُدْرَتي: كذا تماماً في الأصل، وفي إحدى مخطوطتي البسيط، وهذه اللفظة مستعملة في =

(19/12)


لا انتساب فيه إلى معصية؛ فإن كان الإنسان مع آخر بحيث يتمنى له كلَّ سوء [ويريد] (1) له كلَّ شر، ويحزن بمسرته، ويشمت بمصائبه، ولا فسق، فهذه العداوة توجب رد شهادته على عدوه. وقد لا يكون ذلك الإنسان عدواً، فالنظر إلى معاداة الشاهد إياه، وإن كانت العداوة مترتبة على فسق، فالشهادة مردودة عموما للناس وعليهم.
ولم يختلف أصحابنا في أن الصداقة لا توجب رد الشهادة، ولو طرد الطارد القياس الذي يبتدره الوهم بجعل الصداقة ضد العداوة، وقال: شهادة الصديق للصديق مردودة. وهي عليه مقبولة، كما أن شهادة العدو مردودة، وهي له مقبولة، ولكن الفرق أن الصديق الصدوق إذا كان عدلاً لا يحب لصديقه إلا ما يحب لنفسه، والعدل الرضا لا يؤثر لنفسه إلا الخير، فالصداقة تحمل على طلب الخير [للصديق] (2)، والعداوة تحمل على طلب الشر للعدو.
ولم يختلف العلماء في أن شهادة المخاصِم مردودة على المخاصَم، وشهادة المخاصَم ليست مردودة على المخاصِم، وسبب ذلك أن شهادة المخاصَم لو كانت مردودة على من يخاصمه، لصار ذلك ذريعة في إبطال كل شهادة، حتى يقال: كل من يهم بإقامة شهادة على شخص، فينشىء ذلك الشخص خصومة مع الذي يشهد، فيرد شهادته، فحسمنا هذا الباب.
12128 - ثم قال: " ولا لولد بنيه وولد بناته ... إلى آخره " (3).
__________
= الفارسية بمعنى: طبعي جبلّي. وفي المخطوطة الأخرى للبسيط: (قديم) والله أعلم بالصواب، وإن كنت أرجح أنها (قُدْرَتي) وأن ما في المخطوطة الأخرى من البسيط تصرف من الناسخ، ولكن يبقى في النفس شيء من استخدام هذه الكلمة (العربية الأصل) من الإمام بهذه الطريقة، فإن ساغ استعمال ألفاظ غير عربية في أسماء الآلات والأشياء والحرف، وتصوير بعض المسائل على ألسنة الناس - فكيف يسوغ في هذه الجملة، والله سبحانه أعلم باللفظ الذي وضعه الإمام فعلاً.
(1) في الأصل: " ويردّ ".
(2) في الأصل: " بالصديق ".
(3) ر. المختصر: السابق نفسه.

(19/13)


كل شخصين بينهما قرابة توجب النفقة عند فرض الإعسار في جانب واليسار في جانب، فشهادة أحدهما مردودة للثاني مقبولة عليه، هذا هو المذهب.
وللشافعي رضي الله عنه قول في القديم أن شهادة كل واحد منهما مقبولة للثاني وعليه.
وقال مالك (1) شهادة الوالد للولد لا تقبل. وشهادة الولد للوالد تقبل. ومذهب الشافعي في القديم قبول الشهادة من الجانبين.
وكل قرابة لا توجب النفقة، لا تتضمن رد الشهادة.
وأبو حنيفة (2) أوجب النفقة بالأخوة، وما في معناها، ولم يردّ الشهادة بها.
أما شهادة الزوج لزوجته، وشهادة الزوجة لزوجها، فقد أجراها الأصحاب مجرى القول في القطع عند السرقة.
ففي المسألة إذاً ثلاثة أقوال:
أحدها - قبول الشهادة من الجانبين.
__________
(1) بالبحث شبه المستقصي لكتب المالكية لم نجد من يقول بهذا الذي نسبه إمام الحرمين لمالك، ففي المدونة (4/ 80): " قال مالك: لا تجوز شهادة الأب لابنه، ولا شهادة الابن لأبيه " ا. هـ ومثل هذا في الكافي: 461، الإشراف للقاضي عبد الوهاب: 2/ 972 مسألة: 1963، الشرح الصغير: 4/ 244، شرح الحطاب: 6/ 154، حاشية الدسوقي: 4/ 168، شرح زروق: 2/ 284، البهجة شرح التحفة: 1/ 96، شرح الخرشي: 7/ 179، منح الجليل لعليش: 8/ 398.
بل أبعد من هذا، وجدنا من المالكية من يستنكر نسبة هذا القول إليهم ويعدّه وهماً من ناقله، ففي شرح الحطاب نقلاً عن المازري: " وذكر بعض متأخري الشافعية عن مالك قبول شهادة الولد لأبيه دون الأب لابنه، وهو حكاية مستنكرة عند المالكية وربما كانت وهماً من ناقلها " ا. هـ ومثله عند زروق.
ولكن، يبدو أن ذلك كان معروفاً فعلاً منسوباً إلى الإمام مالك، فليس الشافعية وحدهم الذين نسبوا هذا القول إلى مالك، فقد وجدنا السرخسي في المبسوط يقول: " ويخالفنا في الولد والوالد مالك رحمه الله، فهو يجوز شهادة كل واحد منهما لصاحبه، بالقياس على شهادة كل واحد منهما على صاحبه " ا. هـ (المبسوط: 16/ 121). فلعله كان قولاً معروفاً عند المالكية، ثم هُجر واستنكروه، واستنكروا نسبته إليهم. والله أعلم.
(2) ر. مختصر اختلاف العلماء: 3/ 372 مسألة 1511، المبسوط: 16/ 122.

(19/14)


والثاني - ردها من الجانبين.
والثالث - قبول شهادة الزوج لزوجته ورد شهادتها لزوجها، والفاصل أنها تستحق النفقة عليه، وهو لا يستحقها عليها، ولا شك أن هذا التردد في شهادة أحدهما للثاني، فأما شهادته عليه، فمقبولة إذا لم تكن عداوة، وكذلك شهادة الولد والوالد مقبولة من كل واحد منهما على صاحبه.
وذكر العراقيون وصاحب التقريب اختلافاً في مسألةٍ وهي إذا شهد الابن على أبيه بما يوجب عليه عقوبة، فالذي ذهب إليه الأكثرون القبول، وهو جارٍ على القياس ولا تهمة.
ويُحكَى عن بعض الأصحاب ردُّ شهادة الابن على أبيه فيما يوجب عقوبة، فإنها لو قبلت، لكان الابن سبباً في وجوب العقوبة على الأب، وهذا ممتنع، لأن الأب لا يستوجب القصاصَ وحدَّ القذف بالجناية على ابنه وقذفه، وهذا كلام ركيك، لا أصل له؛ فإن العقوبة التي تجب بشهادة الابن ليست واجبة له، وهذا هو الممتنع.
هذه مسائل ذكرها الأصحاب في رد الشهادة بالتهمة.
12129 - وقد حان الآن أن نذكر في ذلك ضبطاً معنوياً، فنقول: ما يقتضيه قياس أصول الشريعة ألا ترد الشهادة من عدل لتخيّل تهمة؛ فإنه لا يُظَنُّ بمن ظهرت عدالته الميلُ إلى مظانّ التهم، ومن لا يُعدّلُه دينُه في مزالّ القدم ومواطن التهم فليس عدلاً، والاعتدال افتعال من العدالة، ومن يُزيغه طلبُ حظه، فحقه أن ترد شهادته على العموم، ولكن الذي [تمهّد] (1) في أصل الشرع أن الإنسان لا يثبت حق نفسه بقولٍ يصدر منه، وإن كان أعدل العدول، وليس رد ذلك للتهمة أيضاً؛ فإن الذي هو أعدل البرية ويهون في حقه بذلُ الآلاف في اقتناء المكرمات، وجلب الخيرات، إذا ادّعى درهماً، فيغلب على القلب صدقه، وتنتفي التهمة، ولكنَّ وضْعَ الشرع على أن الإنسان لا يُثبت بنفسه لنفسه حقاً، فإذا تضمَّنت شهادته جرّاً في مسألة جرح الموروث، فهي مردودة لا للتهمة، ولكن لأنه يشهد بجُرح هو مستحق أرشه.
__________
(1) في الأصل: " نُمهّد " (بهذا الضبط).

(19/15)


وقد ذكرنا أنه لو شهد لموروثه في مرض موته بمالٍ، ولم يكن بينهما بعضية، فشهادته مقبولة؛ فإن الملك يثبت منبتّا لحيٍّ، بخلاف أرش الجرح؛ فإنه لا يثبت إلا حين يستحقه الشاهد.
وأما صورة الدفع، فهي خارجة على ما مهدناه؛ فإن العاقلة يدفعون عن أنفسهم، فكان هذا في معنى شهادتهم لأنفسهم.
ويخرّج على ذلك رد الشهادة بين قريبين بينهما عُلقة النفقة، فكأن كل واحد منهما يثبت لنفسه مالاً إليه مرجعه إذا احتاج، ولا غرض في أعيان الأموال إلا الرجوع إليها عند الحاجات.
ولو رُددنا إلى الأصل الممهد، لما رَدَدْنا شهادةَ العدو على صاحبه، ولكن اعتمد الشافعي في هذا خبراً صحيحاً، فإنه صلى الله عليه وسلم قال: " لا تقبل شهادة خصم على خصم " (1)، فقال: إذا نظرنا، وجدنا العدو في معنى المخاصم، فإن الخصومة تتضمن عداوة في وضع الجبلة، وإن كان الخصم على الحق يدور.
واعترف أبو حنيفة (2) برد شهادة الخصم، وأنكر اعتبار (3) العدوّ به.
فهذا هو الذي يجب اعتماده في قاعدة التهمة، ومن ضمّ ما مهدناه في التهمة إلى ما ذكرناه في قاعدتي المعصية والمروءة، لم يخف عليه مُدرك الكلام في مسألة تتعلق بهذه الأصول.
فصل
قال: " ومن لا يُعرف بكثرة الغلط والغفلة ... إلى آخره " (4).
12130 - العدل المغفل ليس مردودَ الشهادة على الإطلاق، وليس مقبولها على
__________
(1) خبر " لا تقبل شهادة خصم على خصم " قال الحافظ، بعد أن نقل كلام الإمام: ليس له إسناد صحيح، لكن له طرق يقوى بعضها ببعض. (ر. التلخيص: 4/ 374 ح 2662).
(2) ر. المبسوط: 16/ 133.
(3) اعتبار: بمعنى قياس.
(4) ر. المختصر: 5/ 256.

(19/16)


الإطلاق، ولكن كل ما يَغْلِب على القلب غفلتُه فيه، فشهادته مردودة فيه، وذلك الشهادة المرسلة، فأما الشهادة المفصّلة إذا امتحناها، -والرجل عدل- فلم تضطرب، فهي مقبولة؛ إذ ليست الغفلة معنىً يقتضي الرد عموماً بخلاف الفسق.
وهذا يناظر قول أئمة الحديث في إسماعيل بن عياش، فإنهم يقبلون ما يرويه عن الشاميين، ويتوقفون فيما يرويه عن غيرهم، لأنهم رأوا حفظه ثابتاً في رواياته عن الشاميين، ولعله كان أثبتها في عنفوان شبابه، فثبت حفظه.
وكل ما يتعلق بتحقيق الثقة، فتستوي فيه الرواية والشهادة، ويترتب على هذا الأصل أمر ذكرناه قبلُ مرسلاً، ونحن نفصله الآن.
12131 - قال الشافعي: " القاضي إذا رابه أمر من الشهود فرّق مجالسهم، وسألهم عن الزمان والمكان ... إلى آخره ".
ونحن نقول: إذا استشعر القاضي منهم غفلة، ورابه لذلك أمر، فإنه يطلب التفصيل لما أشرنا إليه في شهادة المغفل، فلو أَبَوْا أن (1) يذكروا التفصيل، وكان لقنهم ملقن الامتناع عن التفصيل، فالقاضي إن دامت ريبته، لم يقض بشهادتهم؛ بناء على ما ذكرناه.
وإن لم يكن بالشهود غفلة، فشهدوا، وظن القاضي بهم غفلة؛ فإذا استفصلهم، ولم يفصّلوا، فعلى القاضي أن يبحث عن حالهم، فإذا تبين أنهم ليسوا مغفلين، قضى بشهادتهم المطلقة؛ ومعظم شهادات العوام يشوبها جهل وغرّة، وإن كانوا عدولاً، فيتعين الاستفصال، كما ذكرنا. وليس الاستفصال مقصوداً في نفسه، وإنما الغرض تبين [تثبتهم] (2) في الشهادة التي أقاموها، وهذا كشف سرٍّ يغتبط الفقيه به.
__________
(1) هنا سقطت ورقة كاملة من الأصل، ووضع مكانها ورقة أخرى مقحمة لا علاقة لها بالسياق، بل وضعت مقلوبة، وبالبحث وجدناها أقحمت في مكان لاحق، لتحمل رقم 176 شمال، 177 يمين، وهى مقلوبة أيضاً.
(2) كذا قرأنا بصعوبة بالغة على ضوء ما بقي من ظلال الحروف.

(19/17)


فصل
قال: " ولا أرد شهادة الرجل من أهل الأهواء، إذا كان لا يرى أن يشهد لموافقه بتصديقه وقبول يمينه ... إلى آخره " (1).
12132 - قال الفقهاء الذين [شَدَوْا] (2) طرفاً من الأصول: إذا كفّرنا المعتزلة، ومن شابههم من أهل الأهواء، رددنا شهادتهم، وإن ضلّلناهم، لم نرد شهادتهم، والقول في التكفير، والتبرؤ (3) ليس بالهين، وما ذكره الأصحاب من أن من يكفو تردّ شهادته صحيح، ونقل العراقيون أن الشافعي كفّر من قال بخلق القرآن، وهذا أهونُ بدعة ابتدعها المعتزلة.
وكان شيخي ردّ شهادة الوقّاعين في أعراض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويجعل المتعرضين [لعائشة] (4) قذفَةً مردودين، فإن منزلتها لا تنحط عن منزلة محصنةٍ من حرائر المسلمين، وقد سماها الله تعالى محصنة، فقال: {الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ ... } [النور: 23].
وأنا أقول: لا سبيل إلى تكفير المعتزلة ومن في معناهم من أهل الأهواء، وقد نص الشافعي في مجموعاته على قبول شهادتهم، وما نقل عنه من تكفيرهم، فهو محرّف، وظني الغالب أنه ناظر بعضهم، فألزمه الكفرَ عن حجاج، ولم يحكم بكفره، وإذا كان كذلك، فسبيلهم في الشهادة كسبيل غيرهم، فينظر إلى العدالة والثقة والمروءة، كما سبق تقريره. وقد قال الشافعي: النفسُ بقَوْلِ من يقول: " الكذب يوجب الخلود في النار " أوثق (5).
__________
(1) ر. المختصر: 5/ 256.
(2) في الأصل: " شهدوا ".
(3) في الأصل: " والتبرّي "، من تبرى، بالقصر. وهو مصدر قياسي.
(4) تقدير منا مكان كلمة مطموسة تماماً.
(5) المعنى أن من أهل الأهواء والبدع من يقول بأن الكذب شرك بالله يوجب الخلود في النار، فمثل هذا إذا شهد تكون النفس أوثق بشهادته، فبدعته أكبر رادعٍ له عن الكذب.

(19/18)


فهذا هو المذهب لا غير، وما حكيناه ليس خلافَ مذهبٍ، وإنما هو بناء على زللٍ في التكفير، ومثل هذا لا يعد مذهباً في الفقه.
وما ذكره شيخي من ردّ شهادة القذفة يصح على قانون الفقه، وكان محمد بن إسماعيل البخاري يؤلف مخرّجه الصحيح في الروضة: بين المنبر والقبر، قال: " رويتُ عن ابن مُحَيْرِيز، فغلبتني عيناي، فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام، فقال: تروي عن ابن مُحَيْريز وهو يطعن في أصحابي، -وكان خارجياً- قال محمد بن إسماعيل: قلت له: يا رسول الله، لكنه ثقة، فقال صلى الله عليه وسلم: صدقت إنه ثقة، فارْوِ عنه، فكنت أروي عنه بعد ذلك بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم " (1).
فصل
قال: " واللاعب بالشِّطْرَنْج والحمام ... إلى آخره " (2).
12133 - أطلق كثير من أصحابنا الإباحة في اللعب بالشِّطْرَنجْ، وقال المحققون:
إنه مكروه، وهذا هو الصحيح، ولا آمن أن الذين أطلقوا الإباحة أرادوا انتفاء التحريم؛ فإن التعرض للفصل بين المكروه والمباح مما أحدثه المتأخرون.
ثم قال الأصحاب: لا يحرم ما لم تنضم إليه مُسابّةٌ أو تركُ صلاةٍ، وهذا كلام
__________
(1) قصة البخاري وروايته عن ابن محيريز لم نصل إليها، كما لم نر من عدّ ابن محيريز من الخوارج رغم طول بحثنا، ومراجعتنا للمصادر الآتية: مقدمة الحافظ للفتح (هدي الساري)، الجرح والتعديل لابن أبي حاتم (5/ 168) طبقات ابن سعد (7/ 447) حلية الأولياء (5/ 138 - 149) تهذيب الأسماء واللغات (1/ 287) سير أعلام النبلاء (4/ 494) تذكرة الحفاظ (1/ 64) تهذيب التهذيب (6/ 32).
وابن مُحيريز هو عبد الله بن محيريز بن جُنادة، من سادة التابعين، روى عن أبي سعيد الخدري، ومعاوية، وأبي مَحْذورة وغيرِهم من الصحابة، وروى عنه أبو قلابة والزهري وعبدُ الملك بن أبي محذورة، ومحمد بن يحيى بن حبان ومكحول الشامي وغيرهم. توفي في خلافة الوليد بن عبد الملك، وقيل في خلافة عمر بن عبد العزيز.
(2) ر. المختصر: 5/ 257.

(19/19)


غث؛ فإن المحرّم هو الترك والمسابّة، وقالوا: يحرم إذا قصد به القمار، وهذا أيضاً ليس بشيء؛ فإن القمار لا يلزم، والمحرم قصده وإلزامُه، والشطرنج في نفسه لا يتغير اللعب به. وقيل: كان سعيد بن جبير يلعب بالشِّطْرَنج استدباراً (1)، وما روي أن علياً رضي الله عنه مرّ بقومٍ يلعبون بالشطرنج، فقال: " ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون " (2) فهذا محمول على أنه رأى الشطرنج على صورة الفرس والفيل؛ فقال ما قال.
وأما اللعب بالنرد من غير قمارٍ، فحرام على ظاهر المذهب. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اللاعب بالنرد كعابد الوثن " (3)، وقال: " من لعب بالنرد، فقد عصى أبا القاسم " (4) وقد روي " ملعون من لعب بالنردشير ". وحكى صاحب التقريب عن ابن خَيْران أن النرد كالشطرنج، وحكاه العراقيون عن أبي إسحاق المروزي. فإن لم يثبت في النرد الأخبار التي ذكرناها، فلا فرق. وقد أطلق الشافعي
__________
(1) أثر سعيد بن جبير رواه الشافعي. قال المزني: سمعت الشافعي يقول: كان سعيد بن جبير يلعب بالشطرنج استدباراً، فقلت له: كيف يلعب بها استدباراً، قال: يوليها ظهره، ثم يقول: بأي شيء وقع، فيقول: بكذا، فيقول: أوقع عليه بكذا. (ر. المختصر: 5/ 257) وانظر: السنن الكبرى للبيهقي: 10/ 211، ومعرفة السنن والآثار: 7/ 431 ح 5956.
(2) أثر علي بن أبي طالب رواه ابن أبي الدنيا في ذم الملاهي، ورواه البيهقي في الكبرى، وفي معرفة السنن والآثار (ر. السنن الكبرى: 10/ 212، معرفة السنن والآثار: 7/ 231، التلخيص: 4/ 379 ح 2673، إرواء الغليل للألباني: 8/ 288 ح 2672، وقال: هذا الأثر لا يثبت عن علي).
(3) حديث " اللاعب بالنرد كعابد الوثن " لم نقف عليه.
(4) حديث " من لعب بالنرد فقد عصى أبا القاسم " رواه أبو داود، وابن ماجه، ومالك، وأحمد، والحاكم وصححه ووافقه الذهبي، والبيهقي، كلهم من حديث أبي موسى الأشعري ولفظه " من لعب النردشير فقد عصى الله ورسوله ". والحديث حسنه الألباني في الإرواء (ر. أبو داود: الأدب، باب في النهي عن اللعب بالنرد، ح 4938، ابن ماجه: الأدب، باب اللعب بالنرد، ح 3762، الموطأ: 2/ 958، أحمد: 4/ 394، 397، 400، الحاكم: 1/ 50، البيهقي: 10/ 214، 215، التلخيص: 4/ 365 ح 2642، إرواء الغليل: 8/ 285 ح 2670).

(19/20)


لفظ الكراهية في النرد، ولا اعتداد بذلك؛ فإنه كثيراً ما يُطلق الكراهية، ويريد التحريم كما قال: " وأكره استعمال أواني الذهب والفضة " وأراد التحريم.
وكان شيخي يجعل اللعب بالنرد من غير قمار صغيرة، ولا يرى الردّ بالمرّة حتى يفرض فيها إدمان وإصرار. وقال قائلون: الكرّة منه تفسّق.
12134 - وسأخرج هذا على الأصول التي سبق تمهيدها. فأقول: اللعب بالشطرنج بين أن يكون مباحاً أو مكروهاً، وعلى أي الوجهين قُدِّر لا يوجب ردَّ الشهادة لعينه، ثم يتطرق إليه وجهان: أحدهما - أن إظهاره قد يكون ترك مروءة من بعض الناس. والآخر - أن إدامة الاشتغال به تعطّل المهمات. وقد بيّنت ما يتلقى من كل أصلٍ من هذين الأصلين من الرد ونقيضه.
والنرد إن ألحقناه بالشطرنج؛ فقد مضى حكمه، وإن حرّمناه، فمن أصحابنا من يراه كبيرة، ومنهم من يراه صغيرة، ولا يخفى أثرهما، وتفصيل القول فيهما، ويتصل بذلك كله ملاحظةُ الاعتياد، وقدرُ استقباح الناس في كل قطرٍ، على ما تمهّد.
واللعب بالحمام لا يحرم، وذكر العراقيون وجهين في أنه هل يكره، وليس لأمثال هذا الخلاف وَقْعٌ عندي، ثم الكلام في ردّ الشهادة يضاهي الكلامَ في اللعب بالشطرنج.
فصل
قال: " ومن شرب عصير العنب ... إلى آخره " (1).
12135 - شرب الخمر المحرمة إجماعاً من الكبائر، ثم كل مسكرٍ حرام عند الشافعي، وخلاف أبي حنيفة في المثلّث، ونقيع الزبيب، وغيرهما لا يخفى، فمن تعاطى من أصحابنا (2) شيئاً منها رُدَّت شهادته.
وقال الشافعي: " لو شرب الحنفي النبيذ، حددتُه، وقبلت شهادته " وقد ذكرنا
__________
(1) ر. المختصر: 5/ 257.
(2) عودة التسلسل الصحيح للترتيب بعد سدّ الخلل الذي كان.

(19/21)


خلافاً للأصحاب في الحد. وقال المزنى: كيف تحد من شرب قليلاً من نبيذ شديد، وتجوّز شهادته؟ فمن أصحابنا من قال: المزني يختار أنه لا يُحدّ كما لا يفسّق، ومنهم من قال: بل يَختار أنه يُفسّق كما يُحدّ، ومن أصحابنا من ذكر وجهاً في التفسيق أيضاً، فَخَرَجَ في الحد والفسق أوجه:
أحدها - أنه لا يحدّ الحنفي ولا يفسّق.
والثاني - أنه يحدّ ويفسّق.
والثالث - أنه يحدّ ولا يفسّق. وهو النص. والشافعي يفسّقُ بشرب ما يعتقد تحريمه.
فإن قلنا: يحد الحنفي، فالشفعوي أولى، ومن قال: لا يحدّ المحلِّل، فهل يحدّ المحرِّم؟ فعلى وجهين:
أحدهما - لا يحد لشبهة مذهب المحللين، كما لا نوجب الحد على الواطىء في نكاح المتعة في ظاهر المذهب، وأما النكاح بغير ولي، فالصحيح أنه لا حدّ فيه، وأجرى بعض أصحابنا ذلك مجرى شرب النبيذ، وكل ذلك مما قرّرته في موضعه، وحظ كتاب الشهادة منه ما نبهت عليه، ولم أبسط القول في تمهيد أصول الباب إلا لأعطف عليها المسائل على إيجاز.
فصل
قال: " ولو كان يديم الغناء، ويغشاه المغنون ... إلى آخره " (1).
12136 - الفصل يشتمل على ما يتعلق السماع به من ضروب الغناء. والبداية في هذا الفن بتحريم المعازف والأوتار، وكلها حرام، وهي ذرائع إلى كبائر الذنوب.
وفي اليراع وجهان. ولا يَحْرم ضربُ الدف إذا لم تكن عليه جلاجل، فإن كان، فوجهان. وكان شيخي يقطع بتحريم (الكوبة) (2)، ويقول: فيها أخبار مغلظة على
__________
(1) ر. المختصر: 5/ 257.
(2) الكوبة: الطبل الصغير المخصّر. (المصباح).

(19/22)


ضاربها، والمستمع إلى صوتها. وقد نص الشافعي أن من أوصى بطبل اللهو، فالوصية باطلة، ولا يعرف طبل لهو يلتحق بالمعازف -حتى تبطل الوصية بها- إلا (الكوبة)، ولست أرى الطبول الصغار التي تُهيأ لملاعب الصبيان محرَّمة؛ فإنها إن لم تلتحق بالطبول الكبار، فهي في معنى الدّف.
ولم يتعرض القاضي (للكوبة)، ولو رددنا إلى مسلك المعنى، فهي في معنى الدف، ولست أرى فيها ما يقتضي تحريماً، إلا أن المُفْلِكِين (1) يعتادون ضربها، ويتولعون بها.
والذي يقتضيه الرأي أن ما يصدر منه ألحان مستلذة تَهِيجُ الإنسان، وتستحثه على الشرب، ومجالسة إخوانه، فهو المحرّم، والمعازف والمزامير كذلك، وما ليس له صوت مستلذ، وإنما تنتحب (2) في [إيقاعات] (3) قد تطرب، فإن كانت لا تُلذ، فجميعها في معنى الدف، والكوبةُ في هذا المسلك كالدف، فإن صح فيها تحريم، حرّمناها، وإلا توقفنا فيها.
والضرب بالصَّفَّاقَتَيْن (4) كان يحرمه، وهو مما يعتاده المخنثون، وفيه نظر عندي بيّنٌ؛ فإنه لم يرد فيه خبر، إن فرض ورود أخبار في الكوبة.
واليراعُ الذي حكينا فيه الخلاف ليس هو المزمار الذي يسمى العراقي، ويضرب مع الأوتار، بل لا نشك في تحريمه. وقد روى الرواة: " أن ابن الزبير كانت له جوارٍ عَوَّادات، فدخل عليه ابن عمر وبالقرب منه عود، فقال له ابن الزبير: يا صاحب رسول الله ما هذا؟ فأخذه وتأمله، فقال: ميزانٌ شامي وأنا ابن عمر (5) " (6).
__________
(1) المفلكين: بمعنى المدمنين المسرفين، يقال: أفلك الرجل في الأمر إذا لجّ فيه. (المعجم).
(2) كذا.
(3) في الأصل: " يقاعات ".
(4) كذا. والمراد التصفيق باليدين؛ فلم نجد في كتاب أسماء الملاهي آلة تسمى (الصفاقتين).
(5) أثر ابن الزبير مع ابن عمر (رضي الله عنهم) لم نقف عليه.
(6) المعنى أن ابن الزبير يُشهد ابنَ عمر أن هذا العود ليس هو المزمار العراقي الذي لا يُشك في تحريمه، كما قال الإمام.

(19/23)


وكان شيخي يقول: الاستماع إلى الأوتار في رتبة الصغائر، [والإدمان] (1) فيه مفسّق، وما يندر منه لا يفسق.
وقطع العراقيون ومعظم الأصحاب بأنه من الكبائر، وهذا يوضحه ما قدّمناه من اعتبار العادات؛ فإن كان ما نحن فيه مستقبحاً معدوداً من الفواحش في بعض البلدان، فالهجوم عليه خرمٌ بيّن، واستجراءٌ على ترك المروءة. وإن كان لا يعدّ من الفواحش في بعض البلاد؛ فإذ ذاك يقع النظر في أنه من الصغائر أم من الكبائر؟ فهذا قولنا في الألحان والأوتار.
12137 - وأما الغناء قولاً وسماعاً، فأجمعُ كلامٍ فيه وأحواه للمقصود قول الشافعي، إذ قال: الشعر كلامٌ، حسنه حسن، وقبيحه قبيح، والأمر على ما ذَكر، فلا فرق بين أن يكون الكلام منظوماً أو منثوراً، فكل ما يحرم منثوره يحرم منظومه.
ثم في الشعر وغرضِنا منه ما يُحوِجُ إلى مزيد فكر. ومسلكُ الأصحاب مضطرب فيه: فأما الأشعار التي ليس فيها من المنكر والخنا وفُحش المنطق، والخروجِ إلى حد الكذب، وإنما هي في وصف دِمنٍ وأطلال، وما في معانيها، فهي دواوين العرب، والمُكِبُّ على تحصيلها متوسل إلى حفظ اللغة، وبيان مناظم الكلام، وهو من أشرف العلوم، وكيف لا، وهي الذريعة إلى دَرْك الكتاب والسنة.
ولو فرض ترنمُ مترنِّم بها في إنشادٍ، أو في صنع الحداء، فلا بأس، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصغي إليها، ويطلب إنشادَها، وربما كان يستزيد ويستعيد، حتى رُوي أنه قال لشَرِيد: " أمعك من شعر أمية " (2)؛ فقال: نعم، فقال: هيهِ، فأنشدته بيتاً، فلم يزل يستزيد حتى بلغت مائة. وقال لابن رواحة:
__________
(1) في الأصل: " فالإدمان ".
(2) المراد أمية ابن أبي الصلت الشاعر الجاهلي، والشَّريد هو الشريد بن سويد الثقفي والقصة في الإصابة ساقها ابن حجر عند ترجمة الشريد، وذكر أنها من رواية مسلم وغيره (ر. مسلم: الشعر، باب في إنشاد الأشعار وبيان أشعر الكلم وذم الشعر، ح 2255، ابن ماجه: الأدب، باب الشعر، ح 3758، أحمد: 4/ 388، 389، 390، البيهقي: 10/ 226، المعجم الكبير للطبراني: 7/ 315 ح 7237، الأدب المفرد للبخاري: ح 799).

(19/24)


" حرّك بالقوم " (1) فاندفع يرتجز ويقول:
اللهُمّ لولا أنت ما اهتدينا ... ولا تصدَّقنا ولا صلَّينا
إلى آخر القطعة. ولا حاجة إلى الإطناب فيها على بيانه.
وإنما النظر في خروج الشاعر إلى حد الكذب في وصفٍ، أو مدح وإطراء، فالذي ذهب إليه معظم الأصحاب أن منشىء هذا الفن كاذب، فهو كما لو كان يكذب على ندور أو اعتياد، [و] (2) قال الصيدلاني: هذا لا يلتحق بالكذب؛ فإن الكذب من يُخبر ويُري الكذبَ صدقاً، والشعر صناعة، وليس غرض الشاعر أن يُصدَّق في شعره، فليس إذاً من الكذابين.
فمن سلك المسلك الأول، قال: النادر من هذا الفن محتمل غير مؤثر في رد الشهادة، والكثير منه يوجب ردَّها، وقياس ما ذكره الصيدلاني أنه لا فرق بين القليل والكثير منه؛ فإنه ليس خبراً محقَّقاً عن مُخبرٍ، وليس خارماً للمروءة إذا لم يتخذه الشاعر مكسباً، فإذاً لا كذبَ ولا خسّة، بل هو من الفضائل، ثم من الوسائل إلى تعلّم الشريعة.
ولما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لأَنْ يمتلىء جوفُ أحدكم قيحاً حتى يَرِيَه خيرٌ من أن يمتلىء شعراً " (3) قال أصحاب المعاني: هذا فيمن لا يحسن إلا الشعر، فأما إذا كان يحسن غيره، فليس يندرج تحت الخبر. وما ذكرناه مشروط بألا يهجو،
__________
(1) حديث أنه صلى الله عليه وسلم قال لابن رواحة: حرّك بالقوم، رواه النسائي في سننه الكبرى من حديث قيس بن أبي حازم عن عمر، ومن حديث قيس عن ابن رواحة مرسلاً (المناقب، باب عبد الله بن رواحة، ح 8193، 8194) ورواه البيهقي في الكبرى (10/ 227) وفي المعرفة: 7/ 438 ح 5965 وانظر: التلخيص: 4/ 368 ح 2649.
(2) زيادة من المحقق.
(3) حديث: " لأن يمتلىء جوف أحدكم قيحاً ... " بهذا اللفظ رواه البخاري من حديث ابن عمر: الأدب، باب ما يكون الغالب على الإنسان الشعر حتى يصده عن ذكر الله والعلم والقرآن، ح 6154، وهو متفق عليه من حديث أبي هريرة بلفظ: " لأن يمتلىء جوف رجلٍ قيحاً يَرِيه خيرٌ من أن يمتلىء شعراً " (اللؤلؤ والمرجان: 3/ 78 ح 1455).

(19/25)


ولا يتعرض لعرضٍ، ولا يشبب بامرأة معيّنة، فإن [في] (1) ذلك هتكاً للستر.
ولا يتطرق إلى العلم بالشعر ومنشئه ومنشده بعد التحرز مما ذكرناه إلا ترك المهمات من الأمور، فإن استوعب الأوقات بها، وترك ما يُهِمه، فقد يكون ذلك بمثابة خرق حجاب المروءة، وإن لم يكن مُضرباً عن مهماته، فلا ترد شهادته.
فتنخّل من مجموع ما ذكرناه خلافُ الأصحاب في جوهر الشعر وأنه كذب إن اشتمل على ما ينتهي إلى الكذب، أم هو صناعة؟ فإن جعلناه بمثابة الكذب، فيجب أن نفصل بين ما يحكيه (2) وبين ما ينشئه، [فلا] (3) يُسْقِطُ الثقةَ بصدق لهجته.
والكذب الذي يجري إذا قلّ وندر، لم يوجب ردَّ الشهادة، وإذا [كثر] (4) أشعر باعتياد الكذب، فإذ ذاك يتضمن ردَّ الشهادة. هذا قولنا في الكذب المقصود، فما الظن بما ليس مقصوداً كذباً، فيجب أن يُفْصَل بين القليل منه والكثير (5).
وإن جرينا على أنه ليس من الكذب، فإذا لم يكن فيه إيذاء فيبعد تحريمه، وقد يتطرق إليه ما ذكرناه [من] (6) تَرك المهمات.
وإن اكتسب الشاعر بشعره، التحق ذلك بما يخرم المروءة، وقد انتجز القول فيه.
12138 - وبقي بعده الغناء: فما يحرُم قوله، يحرُم سماعه، وما لا فلا. وإدمان الغناء قولاً وسَمْعاً يخرم مروءة الدين، ويُلحق الرجل بالهازلين.
والرَّقْص ليس محرَم العين، وإنما هو حركات على استقامة أو اعوجاج، ولكن كثيره يَخْرِم المروءة، كسائر أصناف اللّعب إذا كان على اختيار.
__________
(1) زيادة من المحقق ليصحّ نصبُ " هتكاً ".
(2) بين ما يحكيه: أي من الشعر، أي ترديده لشعر غيره، أي يكون منشداً لا منشئاً، فالحكم لا شك يختلف فيهما، فلا تسقط العدالة بالإنشاد.
(3) في الأصل: " ولا ".
(4) في الأصل: " كثرت ".
(5) خلاصة المسألة: أنا إن اعتبرنا الشعر الذي ينتهي إلى الكذب كذباً -وليس صناعة- فيجب أن نفرق أولاً بين منشئه ومنشده، ثم نفرق ثانياً في منشئه بين القليل والكثير.
(6) في الأصل: " ممن ".

(19/26)


فصل
قال: " وإذا كان هكذا، كان تحسينُ الصوت بذكر الله والقرآن أولى ... إلى آخره " (1).
12139 - أراد بذلك أنه لما جاز الاستماع إلى الحُداء مع الترنم به، فلأن يجاز ذلك في ذكر الله وقراءة القرآن أولى، على شرط ألا ينتهي إلى التمطيط المغيِّر لنظم الكلام.
وكان أبو موسى الأشعري حسنَ الترنم بالقرآن، وفيه قال المصطفى عليه السلام: " أُوتي هذا مزماراً من مزامير آل داود " (2) وقال عليه السلام: " ما أذن الله لشيء إذنَه لنبي حسن الترنم بالقرآن " (3). أراد بالقراءة، فلا منع إذاً.
وفي بعض الأخبار " من لم يتغن بالقرآن فليس منا " (4) وتفسير الحديث معروف مع اختلاف فيه، وأصح الوجوه في تأويل الحديث من لم يُغنه القرآن، ولم يقنعه في إيمانه، ولم يصدق بما فيه من وعدٍ ووعيد، فليس منا، وقيل من لم يرتح من قراءته وسماعه.
__________
(1) ر. المختصر: 5/ 257.
(2) حديث أنه صلى الله عليه وسلم قال عن أبي موسى " أوتي مزماراً من مزامير آل داود " متفق عليه (اللؤلؤ والمرجان: صلاة المسافرين وقصرها، باب استحباب تحسين الصوت بالقرآن، 1/ 152 ح 456).
(3) حديث " ما أذن الله لشيء إذنه لنبي حسن الترنم بالقرآن " متفق عليه (اللؤلؤ والمرجان: صلاة المسافرين وقصرها باب استحباب تحسين الصوت بالقرآن 1/ 152 ح 455).
(4) حديث " من لم يتغن بالقرآن فليس منا " رواه البخاري، وأحمد من حديث أبي هريرة، ورواه أبو داود، وأحمد، وابن ماجه، والحاكم، وابن حبان من حديث سعد بن أبي وقاص (ر. البخاري: التوحيد، باب قول الله تعالى: {وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ ... }، ح 7527، أحمد: 1/ 172، 175، 179، أبو داود: الصلاة، باب استحباب الترتيل في القراءة، ح 1470، ابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها، باب في حسن الصوت بالقرآن، ح 1337، الحاكم: 1/ 569، 570، ابن حبان: ح 120، التلخيص: 4/ 369 ح 2652).

(19/27)


12140 - ثم قال: " ليس من العصبية أن يحب الرجل قومه ... إلى آخره " (1).
وردت أخبار في النهي عن العصبية، وليس منها أن يحبّ الرجل قومَه، وإنما العصبية أن يبغض الرجل من ليس من قومه من غير سبب، وهي (2) توجب البغض.
قال الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10]، وقال عليه السلام: " لا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخواناً " (3).
12141 - ثم قال: " ويجوز شهادة ولد الزنا ... إلى آخره " (4).
والأمر كما قال؛ فإن ذلك لا يسقط الثقة، والأوصاف المرعية موجودة. وقصد بهذا الرد على مالك (5)، فإنه رد شهادة ولد الزنا.
12142 - ثم قال: " والقروي على البدوي " (6).
وأراد أن شهادة القروي مقبولة على البدوي، وكذلك شهادة البدوي على القروي، وقصد بذلك الرد على مالك (7) أيضاً.
فصل
12143 - إذا شهد الصبي والمملوك والكافر ورُدّت شهاداتهم لما بهم، فلو صاروا إلى الكمال، فبلغ الصبي، وأسلم الكافر، وعَتَق العبد، فأعادوا تلك الشهادات، فهي مقبولة منهم وفاقاً.
__________
(1) ر. المختصر: 5/ 257.
(2) وهي: أي العصبية.
(3) حديث: " لا تحاسدوا ولا تباغضوا .. " متفق عليه من حديث أنس رضي الله عنه (اللؤلؤ والمرجان: 3/ 189 ح 1658).
(4) ر. المختصر: 5/ 258.
(5) ر. الإشراف: 2/ 975 مسألة 1969، عيون المسائل: 4/ 1560 مسألة: 1098.
(6) ر. المختصر: الموضع السابق.
(7) ر. الإشراف: 2/ 975 مسألة 1968، عيون المجالس: 4/ 1560، مسألة 1099، الشرح الصغير: 4/ 250.

(19/28)


12144 - وإن شهد الرجل، فردت شهادته لفسقه، ثم ظهرت عدالته وحسنت حالته وكان مقبول الشهادة في القضايا، فلو أعاد تلك الشهادة التي رُدّت بسبب الفسق، نُظر: فإن كان مستسرّاً بالفسق أولاً متعيّراً به لو نسب إليه، وقُذف به، فلا تقبل الشهادة المعادة باتفاق الأصحاب (1)، ووافق فيه أبو حنيفة (2)، ومتبعوه.
ولو كان معلناً بالفسق لمّا شَهد، غير متعَيّرٍ بأن ينسب إليه، فردت شهادته، ثم ظهرت عدالته، فأعاد بعد العدالة تلك الشهادة، ففي قبولها وجهان: أحدهما - أنها مردودة، كما لو كان متعيراً بالفسق أول مرة. والثاني - أنها تقبل، كالشهادة المعادة بعد العتق، وتغير العتق من التغايير التي وصفناها.
وأصحاب أبي حنيفة يزعمون أن سبب رد الشهادة المعادة أنها ردت، وجرى القضاء بردها أولاً، وشهادة الفاسق شهادة، بخلاف شهادة الصبي والمملوك والكافر؛ فإنها ألفاظ على صيغ الشهادة، وليست شهادة، ومعنى ردها إبانة أن ما جاؤوا به ليست شهادة، وليس كذلك الفاسق؛ فإنه شاهد، فإذا اتصل القضاء برد شهادته في قضية، لم تُعَد؛ إذ لو أعيدت، وقبلت، لكان قبولها نقضاً للقضاء السابق بالرد. وقد ذكرنا كلامهم هذا في مسائل الخلاف ونقضناه.
والذي يدور في الخَلَد من هذه المسألة؛ أن رد الشهادة المعادة بعد ظهور العدالة ليس ينتظم فيه معنى صحيح عندي؛ فإني أوضحت أن رد الشهادة بالتهمة من العدل لا معنى له في مسلك القياس، فقد استثنى الخبر رد شهادة الخصم، وألحق الشافعي
__________
(1) اتفق الأصحاب على ردّ شهادة الفاسق في هذه الحالة، حالة ما إذا كان مستسرّاً بالفسق، يخشى أن يعيّر به، فإذا ردّت شهادته، كان الردّ كاشفاً لفسقه، مظهراً لما يتعير به، فإذا تاب، وصلحت حاله، وصار مقبول الشهادة، فلو أراد إعادة الشهادة المردودة، لم تقبل، لأنه بمحل التهمة، تهمة من يريد أن يدفع عن نفسه عار الكذب، وينفي عنها التعيّر بالفسق السابق الذي ردّت به شهادته.
وقد بسط النووي ذلك في الروضة، حين جعل من شروط قبول الشهادة " الانفكاك عن التهمة " ثم قال: " وللتهمة أصباب ... السبب السادس - أن يدفع عن نفسه عار الكذب " ثم ضرب الفاسق الذي ردّت شهادته مثلاً لذلك. (ر. الروضة: 11/ 234 - 241).
(2) ر. مختصر الطحاوي: 333، المبسوط: 16/ 128.

(19/29)


شهادة العدو بشهادة الخصم، واستثنى الإجماعُ ردّ [الشهادة] (1) المعادة، وليس عند من يشتغل بمعاني الفقه معنى يترتب عليه ردُّ الشهادة المعادة.
12145 - ومما ينبغي أن يحاط به أن العبد المملوك إذا تصدى للشهادة، والقاضي علم برقِّه، فإنه يمنعه من إقامة الشهادة، وكذلك القول في الكافر والصبي، فأما الفاسق، فإن كان في أمره نظر، فلا شك أنه يصغي إلى شهادته، ثم يبحث عن حالته، فإن كان الشاهد معلناً بالفسق، فالذي كان يقطع به شيخي أن القاضي لا يصغي إلى شهادته؛ إذ يَقْبُح أن يُصغي القاضي إلى ثملٍ بيده قدح.
وذهب بعض أئمتنا إلى أنه يصغي إلى شهادة المعلن، ثم يرد شهادته، وهذا بعيد عن قياسنا.
ولو شهد السيد لمكاتَبه، فلا شك في رد الشهادة، فلو عَتَق المكاتَب، فأعاد السيد تلك الشهادة، ففي بعض التصانيف وجهان في قبول الشهادة المعادة: أحدهما - أنها مردودة كالشهادة المردودة بالفسق، إذا أعيدت بعد ظهور العدالة. والثاني - أنها مقبولة. والرد مخصوص بمسألة الفسق، وكأن القائل الأول ينظر إلى التعيّر بالرد الأول، ونسبة الشاهد إلى ترويج شهادته المعادة لما يُداخله من الغضاضة. وهذا قد يتحقق في رد شهادة السيد للمكاتب، ولما فيه من النظر، اختلف الأصحاب.
ولو ردت شهادته للعداوة، ثم زالت العداوة الظاهرة، وصار يوالف من كان يعاديه، فإذا أعاد تلك الشهادة، ففي المسألة وجهان، وهذا قريبٌ مما تقدم؛ من جهة أن البحث يتسلط على العداوة، وليس في رد شهادة العدو ما يَسْينه.
12146 - فكأن المعتبر في الوفاق والخلاف أن الرد إذا كان بسببٍ ظاهر، وكان لا يعيِّر الردُّ المردودين، فإذا زالت الموانع، وأعيدت الشهادة، فالقطع بالقبول.
وإن كان السبب الذي به الرد مجتَهَداً فيه، وكان مع ذلك معيِّراً، فالقطع بردّ الشهادة المعادة، وإن تطرق الاجتهاد ولا تعيُّرَ في الرد، ففي رد الشهادة المعادة وجهان، والفصل تقليدي، لا انتهاض لمعاني الفقه فيه.
__________
(1) في الأصل: " شهادة المعادة ".

(19/30)


فصل
12147 - من تحمل الشهادة ظاهراً أداها كما تحملها، ومن سمع لفظاً، أو رأى فعلاً، وكان مختفياً عن القائل المشهود عليه، فالمذهب أن له إقامة الشهادة، بل عليه، ذلك إذا كان يتحمل الشهادة. وقال مالك (1): ليس له أن يقيم تلك الشهادة؛ فإن هذا التحمل من قبيل التدليس، واللائق بمحاسن الشريعة إبطالُه. وقيل: هذا قولٌ للشافعي، وهو مزيف غير معتد به.
فرع:
12148 - ذكر بعض أصحابنا أن جلوس الرجال على فرش الحرير يوجب تفسيقهم، حتى قالوا: لو جلس شهود النكاح حالة العقد على فرش الديباج، لم ينعقد النكاح، بناء على أن النكاح لا ينعقد بشهادة الفسقة.
وهذا لا أصل له، والذي صار إليه المحصلون أن هذا من الصغائر، وما يندر منه لا يوجب التفسيق.
فصل
قال: " ولو ترك ميت ابنين، فشهد أحدهما ... إلى آخره " (2).
إذا مات رجل عن ابنين وتركة، [فاقتسماها] (3)، ثم أقر أحدهما بعينٍ في التركة
__________
(1) ما نقله إمام الحرمين عن مالك، هو الذي كان شائعاً عند الخراسانيين ينقلونه عن مالك، قال صاحب البيان: " وقال مالك: إن كان المشهود عليه جلداً باطشاً لا يُمكن أن يخدع ليُقرَّ، صح تحمّل الشهادة عليه بذلك، وإن كان ضعيفاً يمكن أن يخدع بالإقرار، لم يصح تحمل الشهادة عليه ". هذا نَقْلُ أصحابنا العراقيين. وقال الخراسانيون: مذهب مالك أنه لا تقبل شهادة المختفي بكل حال. وهو قول الشافعي رحمه الله في القديم " انتهى بنصّه كلام العِمْراني في البيان.
وما نسبه صاحب البيان للعراقيين هو الذي وجدناه في مصادر المالكية (ر. البيان للعمراني: 13/ 357، المدونة: 4/ 88، البهجة شرح التحفة: 1/ 99، حاشية الدسوقي: 4/ 175، الشرح الصغير: 4/ 249).
(2) ر. المختصر: 5/ 2.
(3) في الأصل: " فما يقسماها ".

(19/31)


لإنسان، وهي واقعة في حصته، وأنكر الابن الآخر استحقاقَ ذلك المقَر له، فلا خلاف أنه يجب على المقِر تسليمَ تلك العين إلى المقر له.
وإن أقر أحدهما بدين، وأنكر الثاني، ففي المسألة قولان: أحدهما - أنه يلزمه جميعُ المقر به في حقه بإقراره متعلقاً بما في يده من التركة، وهذا مذهب أبي حنيفة (1).
والثاني - يلزمه نصفُ المقَرِّ به بإقراره متعلقاً بما في يده من التركة. فلو أقر أحدهما بألف درهم، وفي يده ألف درهم، فعلى القول الأول يلزمه جميعُ المقَرِّ به وتسليمُ الألف، أو مقداره من سائر ماله، وعلى القول الثاني يلزمه خمسمائة متعلقاً بما في يده. وتوجيه القولين مذكور في (الأساليب)، وقد أوضحنا فيها إشكالَ القول المنصور على أبي حنيفة.
12149 - ولو أقر أحدهما بوصية، نُظر: فإن أقر بعين للموصى له من جهة الوصية، وكانت تلك العين واقعةً في يده وحصتِه، فيلزمه تسليمُها إذا كان ثلث المال وافياً بها، لأنه معترف بكونها مستحقة على اللزوم للموصى له.
ولو أقر له بثلث التركة شائعاً، فيلزمُه تسليم ثلث ما في يده لا غير.
وإن أقر بوصيةٍ مرسلةٍ، ففي المسألة قولان: أحدهما - يلزمه جميعُ المقرّ به في حقه بإقراره متعلقاً بثلث ما في يده. والثاني - يلزمه نصف المقر به في حقه، متعلقاً بثلث ما في يده. فلو كان في يده ألف، وأقر بخمسمائة وصيةً، فعلى القول الأول يلزمه ثلث الألف، وهو ثلاثمائة وثلاثة وثلاثون وثُلث. وعلى القول الثاني يلزمه مائتان وخمسون، وهو نصف الوصية، ولكن ثلث ما في يده وافٍ به.
وإذا كان في يده ألف، وأقر بألف درهم وصية، استوى القولان؛ فإن الوصية إن قدّرناها ألفاً، فهو مردود إلى الثلث مما في يد المقر، وإن قدرناها خمسمائة فالجواب كذلك، فيخرج ثلث الألف، وهو ثلاثمائة وثلاثة وثلاثون وثلث. ولسنا نخوض في
__________
(1) ر. مختصر اختلاف العلماء 4/ 208 مسألة 1903، المبسوط: 18/ 48، 19/ 39.

(19/32)


توجيه القولين، لأنا أحلناها على ما ذكرنا في (الأساليب) (والغُنية) (1)
12150 - ومما يتعلق بتفصيل المذهب في المسألة أن أحد الابنين إذا شهد للمُقَر له بالدين، وأراد المقَر له أن يحلف مع شاهده، أو أراد أن يضم إليه شاهداً آخر، فالذي ذكره المحققون من أصحابنا أن قبول شهادته يتفرع على القولين في إفراره لو أقر فإن قلنا: لو أقر، لم يلزمه في حصته إلا نصف المقر به، فإذا شهد، كانت شهادته مقبولة على الميت، وحكمها أنه يلزمه نصفُ المشهود به في حصته، ويلزم [صاحبَه] (2) النصفُ.
فإن حكمنا بأنه لو أقر، لكان يلزمه التمام، فإذا شهد، فشهادته مردودة على صاحبه المنكر، وهي بمثابة ما لو أقر، وسبب ذلك أنا لو قبلنا شهادته، لكانت متضمنة دفعاً عن النفس (3)؛ فإن الإقرار بالجميع مع إنكار الثاني يُلزمه حكم [الجميع] (4) في حصته، فكأنه يطلب بشهادته أن يُلزم صاحبَه النصفَ.
وعن أبي حنيفة (5) أنه قال: إن أقر أحدهما بالدين أولاً، ثم إنه شهد بعد إقراره، فشهادته مردودة؛ لأن الحق ثبت بالإقرار عليه، ثم رام دفعه بالشهادة.
وإن شهد أولاً، قال: فشهادته مقبولة. ونحن خرّجنا شهادته من غير تقدم الإقرار على القولين كما تقدم الشرح [فيه] (6).
فلو أقر أحدهما أولاً، ثم شهد، والتفريع على أن الإقرار لا يُلزم المُقر إلا
__________
(1) (الأساليب) و (الغنية): اسمان لكتابين من كتب الإمام في الخلاف، ولما يظهر لأي منهما أثر في المكتبات والخزائن للآن.
(2) في الأصل: " صاحب ".
(3) المعنى أنه بإقراره حكمنا بأن عليه الجميعَ في حصته، فإذا قبلنا شهادته، ثبت الجميعُ على الميت الموروث، وبهذا يلزم صاحبَه نصفُ الدين المقر به -ونحن نفرع على أننا ألزمناه الدين المقر به كاملاً في حصته- فيكون بشهادته قد دفع عن نفسه نصف الواجب، فتردّ شهادته لذلك.
(4) في الأصل: " المبيع ". وهو تصحيف.
(5) لم نقف على قول أبي حنيفة كما نقله الإمام، وانظر المبسوط: 18/ 48.
(6) في الأصل: " بنيه ". (كذا).

(19/33)


النصف، فالشهادة في النصف الثاني مقبولة على الابن المنكر، وإن فرّعنا على القول الثاني - وهو أن الإقرار يُلزم المقر التمامَ، فعلى هذا القول شهادته مردودة على أخيه المنكر، ولا فرق إذاً عندنا بين أن يبتدىء فيشهد وبين أن يقدم الإقرار ثم يشهد، فقبولُ الشهادة على المنكر وردُّها خارج على القولين.
فإن قال قائل: إذا قذف رجلاً، ثم شهد عليه ثلاثةٌ، فشهادته بعد القذف مردودة (1)، ولو شهد ابتداء مع ثلاثةٍ على زناه، فشهادته على الزنا مقبولة، فهلا جعلتم الشهادة ردّاً منه عن نفسه فيما كان يلزمه لو قذف ولم يشهد، وما الفرق بين تقدم القذف وبين تقدم الإقرار؟
قلنا: هذا لا حاصل له، فإنه إذا قدم القذفَ، فقد التزم الحدَّ بالقذف، فإذا رام دفع العقوبة عن نفسه، كان دافعاً بشهادته على التحقيق، فرُدَّت، وإذا شهد ابتداء، فليس هو بشهادته دافعاً عن نفسه أمراً لا محيص له عنه؛ فإنه كان لا يجب عليه أن يشهد، والإخبارُ عن الدَّين لا بد منه في التركة، وهو بشهادته يؤدي واجباً عليه، فافترق الأمران افتراقاً ظاهراً.
وقد ذكر صاحب التقريب في الإقرار بالوصية المرسلة طريقين: إحداهما - إجراء القولين على التفصيل المقدم، وقد ذكرناه. والثاني - القطعُ بأنه لا يلزم المقِرَّ إلا مقدارُ حصته قولاً وحداً. وأبو حنيفة (2) سلّم الوصية، وإن صار إلى أن المقِر بالدين يلتزم جميعَه في حصته.
فما ذكره صاحب التقريب يوافق مذهب أبي حنيفة. وهذا ليس بشيء، ولا فرق بين الوصية والدين إلا أن الوصية وضعُها الحَسْبُ من الثلث، كما فصّلنا. والدين الثابت وضعُه إخراجُه من رأس المال، وأما الفرق، فلا اتجاه له.
...
__________
(1) أي شهادته مع الثلاثة، ليكمل عِدّة شهود الزنا، فيبرأ من حد القذف.
(2) ر. المبسوط: 19/ 39، 40.

(19/34)


باب (1) الشهادة على الشهادة
12151 - الكلام في الباب يتعلق بفصول:
أحدها - فيما تجري فيه الشهادة على الشهادة.
والثاني - في كيفية تحمل الشهادة على الشهادة.
والثالث - في الطوارىء التي تطرأ على الأصول بعد تحمل الشهادة.
والرابع - في عدد الفروع.
والخامس - في [الأعذار] (2) التي يُكتفى عندها بشهادة الفروع. فأما
الفصل الأول
12152 - فكل حق مالي لله وللآدميين، فإنه يثبت بالشهادة على الشهادة، وأما ما يتعلق بالعقوبات، فحاصل المذهب ثلاثة أقوال:
أحدها - أنه لا يثبت شيء من العقوبات بالشهادة على الشهادة؛ فإن مبناها على الدراء، وتضييق جهات [الإثبات] (3)، باشتراط احتياطٍ فيها قد يعسر مراعاتُه، فيترتب على عُسْره اندفاعُها، وعلى هذا القول يمتنع التوكيلُ باستيفاء القصاص في غيبة مستحقه؛ لأن الاستنابة في حكم البدل عن التعاطي، كما أن شهادة الفرع في حكم البدل عن شهادة الأصل.
__________
(1) من هنا إلى آخر الكتاب صار عندنا نسخة مساعدة وهي (ت 5) نسأل ملهمَ الصواب أن يكون معنا دائماً، وإليه نلجأ ونبرأ من حولنا وقوّتنا، سبحانه لا حول ولا قوة إلا به.
(2) في الأصل: " الأعداد ".
(3) في الأصل: " الإتيان ".

(19/35)


والقول الثاني - إن العقوبات بجملتها تثبت بالشهادة على الشهادة، وهذا قول منقاس.
والقول الثالث - إن القصاص يثبت بالشهادة على الشهادة، دون العقوبات التي تثبت لله. وهذا الفرقُ بين الحقّين في اختصاص حق الله المتعرض للسقوط، ولذلك يقبل فيها الرجوع عن الإقرار، بخلاف القصاص. والمنصوص عليه للشافعي في القصاص أنه يثبت بالشهادة على الشهادة. ومن أجرى فيه قولاً كما ذكرناه، فهو مُخَرّج. وحد القذف في مقصود الفصل جارٍ مجرى القصاص.
ثم كتاب القاضي إلى القاضي في معنى الشهادة على الشهادة، سواء فرض تحمل الشهادة وإحالة القضاء على المكتوب إليه، أو فُرض القضاء من الكاتب وإحالة الاستيفاء إلى المكتوب إليه، فالأقوال خارجة، ولكن وجه خروجها أنا إن منعنا الشهادة على الشهادة، فلا معنى لسماع القاضي الشهادة على غائب، وإن فرضنا في القضاء. فلا شك أنه لا يفرض نفوذه؛ فإنه فرع سماع الشهادة، وإذا امتنع سماع الشهادة على الغائب، لم يتصور فصل القضاء.
هذا قولنا فيما يجري فيه الشهادة على الشهادة. فأما
الفصل الثاني
12153 - فقد قال الشاقعي رضي الله عنه: " وإذا سمع الرجلان الرجل يقول: أشهد أن لفلان على فلان ألفَ درهم ... إلى آخره " (1).
فنقول: إذا سمع الشاهد رجلاً يقول في غير مجلس القضاء: أشهد أن لفلان على فلان كذا، لم يصر هذا السامع شاهداً على شهادته بهذا المقدار؛ فإن الإنسان قد يقول: أشهد على أن لفلان على فلان كذا، وهو يشير إلى عِدَةِ في منحةٍ يتعلق الوفاء بها بمكارم الأخلاق، وليس قوله هذا في مَفْصل القضاء، حتى يُحمل على تأدية
__________
(1) ر. المختصر: 5/ 258.

(19/36)


الشهادة، وصرفِ القول إليها، ولا يُحمل إلا بثَبَتٍ، وهذا مما اتفق الأصحاب عليه.
فإن قيل: إذا سمع الشاهد رجلاً يقول في غير مجلس القضاء: لفلان عليّ ألفُ درهم، فله أن يتحمل الشهادة على إقراره بالمبلغ المذكور، ومن الممكن أن يقال: أراد المقِر بقوله إشارة إلى عِدَةٍ (1) سبقت منه في عطية، وهو على مقتضى الوفاء بالمكارم ملتَزِم بتوفيتها وتصديقها، كما ذكرنا مثله في لفظ الشهادة، وهذا السؤال فيه إشكال، وفي الفرق بين الإقرار ولفظ الشهادة عُسْرٌ.
وقد حكى العراقيون عن أبي إسحاق المروزي أنه قال: لا يجوز التحمل في الإقرار لاحتمال العِدَة، كما لا يجوز التحمل في الشهادة، فلا فرق عنده بينهما، ولا بد من قرينة تنضمّ إلى الإقرار، وتتضمن صرفَه نصّاً إلى الإخبار عن الاستحقاق، مثل أن يقول: " لفلان عليّ ألفٌ عن ضمانٍ أو ثمنٍ أو قيمةِ مُتْلَف "، كما لا بد من قرينة مع لفظ الشهادة حتى يصحَّ تحملُها.
وهذا الذي ذكره المروزي في الإقرار بعيد جداً، وإن كان في التسوية بينه وبين الشهادة اتجاه في القياس. وما زال الناس يتحملون الشهادات على الأقارير المطلقة في الديون والأعيان (2)، فالوجه الفرق، وهو أن نقول: إذا قال القائل: أشهد أن لفلان على فلان كذا، فقد يُطِلق هذا وليس هو على حد التثبت التام والتحقيق الجازم.
وإذا آل الأمر إلى إقامة الشهادة في مفصل القضاء، فإذ ذاك قد يتثبت، ولا يطلق ما كان يذكره في غير مفصل القضاء. فأما الإقرار الجازم، فلا يطلقه المرء إلا وهو على بصيرة فيه. هذا حكم العادة.
فالوجه إذا أردنا الفرق، أن نُضرب عن التعرض للعِدَة، وتقدير الوفاء بها؛ فإن ذلك بعيد (3)، لا يحمل على مثله كلامٌ مطلق. ونردّ الفرق إلى ما ذكرناه من إمكان
__________
(1) في الأصل: " عدّة ". بتشديد الدال، وهو خطأ، فهي من الوَعْد، وليس من العدد.
(2) هنا خلل في ترتيب أوراق الأصل حيث وضعت ورقة في غير موضعها، بل وضعت مقلوبة، ولذا عدنا إلى ورقة 172 ي.
(3) في ت 2: " تعبد ".

(19/37)


التوسع في قول الشاهد، وإحالة التثبت إلى مَفْصل القضاء، والإقرارُ لا يخرجه المرء على نفسه إلا وهو على نهاية التثبت فيه.
هذا وجه الفرق.
12154 - ونعود فنقول: لو قال الشاهد: أشهد أن لفلان على فلان ألفَ درهم، وأنا أشهدك على شهادتي هذه، أو أنت يا سامع، فاشهد على شهادتي هذه، فالشاهد يتحمل الشهادة على الشهادة.
وإذا وقع التقييد الذي وصفناه، فهذا يسمى الاسترعاء، وهذا الذي أطلق الفقهاء أقوالهم بأن الاسترعاء لا بد منه في تحمل الشهادة على الشهادة، والاسترعاء استفعال من الرعاية، كأنه يقول للمتحمل: أقبل على رعاية شهادتي وتحمّلْها، وهذا المعنى يتأدى بألفاظ لا نحصرها، منها أن يقول: " أشهدك على شهادتي " ومنها أن يقول: " اشهد على شهادتي "، أو يقول: " إذا استُشْهدت على شهادتي، فقد أذنت لك في أن تشهد عليها ".
ثم أجمع أصحابنا على أن الاسترعاء في عينه ليس شرطاً، بل إذا جرى لفظ الشهادة من شاهد الأصل على وجهٍ لا يحتمل إلا الشهادة، فيصير السامع فرعاً له، وإن لم يصدر من جهته أمر أو إذنٌ في تحمل الشهادة.
وبيان ذلك أن من شهد عند القاضي، وكان بالحضرة سامعٌ لشهادته، ولم يتفق من القاضي القضاء بشهادته، فلمن سمعها أن يشهد على شهادته؛ فإنه أقامها فى مكان يُجرَّد فيها (1) قصدُ الشهادة، ولا يُفرَضُ فيها تردد، وهذا هو المطلوب.
ولو أشهد شاهدُ الأصل زيداً على شهادته، وأجرى الاسترعاءَ على حسب ما قدمناه، وكان عمرو بالحضرة، فلعمرو أن يتحمل الشهادة، كما لزيد المسترعى أن يتحملها؛ فإنه لما استرعى زيداً، فقد تبين تجريدَه القصدَ في الشهادة، وهو المطلوب، فيتحملها عمرو وإن لم يتعلق الاسترعاءُ به؛ فإن الإشهاد على الشهادة ليس استنابةً من شاهد الأصل ولا توكيلاً، وإنما الغرض منه الحصول على الشهادة في حقها
__________
(1) كذا في النسختين بضمير المؤنث، على قصد وتقدير القضية والدعوى، ونحوها.

(19/38)


مقصودة مجردة مرقّاة عن احتمال الكلام الذي قد يجريه الإنسان من غير تثبت.
حتى قال الأصحاب: لو جرى تحكيم، وكان شاهد الأصل شهد في مجلس الحكم، فسمع شهادتَه من حضر، فله أن يشهد على شهادته، وللمحكَّم نفسِه أن يشهد على شهادته.
فخرج من مجموع ما ذكرناه أن المطلوب تجريدُ الشهادة، وإيرادُها خارجةً عن توهّم التوسّع والتجوز، ثم هي متحمَّلة كسائر الأقوال والأفعال (1) التي يتحملها الشهود إذا رأوا أو سمعوا.
12155 - ولو قال شاهد الأصل " أشهد أن لفلان على فلان ألفَ درهم من ثمن شراء أو أجرة إجارة أو جهةٍ أخرى من جهات اللزوم "، فهل للسامع أن يشهد على شهادته؟ من غير استرعاءٍ من جهته، ولا إقامةٍ منه لشهادته في مجلس قاضٍ أو محكّم. اختلف أصحابنا في المسألة: فذهب الأكثرون إلى أنه لا يجوز تحمل الشهادة على شهادته لمجرد ما وصفناه، ومنهم من قال: يجوز تحمل الشهادة.
توجيه الوجهين: من جوّز التحمل، احتج بأن شاهد الأصل لما نص على جهة اللزوم، فقد صرح، وأخرج كلامَه عن احتمال العِدَة. فينبغي أن يجوز التحملُ.
ومن منع -وهو الأظهر- قال: إن زال احتمال الوفاء بالعِدَة بقي إمكان التجوز والتوسع، فإن الإنسان إنما يتثبت في مجلس القضاء أو في مجلس الاسترعاء.
ومما ذكره الأصحاب أنه لو قال: أشهد أن لفلان على فلان كذا، وهذه شهادة أبتّها ولا أتمارى فيها، فهل يجوز التحمل بهذا المقدار؟ فيه وجهان قريبان مما قدمنا الآن، لأنه وإن قال: هذه شهادة مبتوتة عندي، فقد يتثبت في إقامتها عند مسيس الحاجة إليها.
12156 - ولم يختلف أصحابنا في أنه لا بد وأن يذكر لفظ الشهادة، حتى لو قال: أستيقن أن لفلان على فلان كذا، فاشهدوا على قولي، لم تجز الشهادة على شهادته، وهذا، كما أنا نشترط لفظ الشهادة في مفصل القضاء ولا نقيم غيرَه من الألفاظ
__________
(1) هذا هو الوجه الثاني من الورقة المقلوبة وهو يحتل رقم 171 ش.

(19/39)


مقامه. حتى لو قال الشاهد في مجلس القضاء: أتيقن، أو أقطع، أو أعلم أن لفلان على فلان كذا، فلا يقبل القاضي شيئاً من ذلك حتى يأتي بلفظ الشهادة، ولا محمل لهذا إلا التعبد، وهو كالعدد، فإنه مرعي تعبداً.
وأبعد بعض أصحابنا؛ فأقام اللفظ الصريح الذي لا تردد فيه مقام لفظ الشهادة، وهذا بعيد غيرُ معتد به. والمعنى الكلي في تعيين لفظٍ أنه إذا تبيّن تعيّنُه، لاح للناس أنه لا يؤتى به إلا إذا أريد غايةُ التثبت، فكأنه مخصوص بتحصيل هذا المقصود، ولو قام غيرُه مقامَه، لرجع الأمر إلى التلقّي من صيغ الألفاظ، وهي متعرضة للاحتمالات، وهذا وإن كان " يستدّ " (1)، فليس فيه إشعار بما يقتضي تعيينَ لفظ الشهادة، فلا محمل لتعيين ذلك اللفظ دون غيره إلا التعبد.
12157 - ثم لما ذكر الأصحاب وجه تحمل الشهادة على الشهادة، ذكروا كيفية إقامة الفرع الشهادةَ، وقالوا: الوجه أن يقول: " أشهد أن فلاناً شهد عندي أن لفلان على فلان كذا، وأشهدني على شهادته، وأذن لي أن أشهد إذا استشهدت، وأنا الآن أشهد على شهادته " فيحكي ما جرى على هذا الوجه.
ولو كان تَحمَّلَ الشهادةَ لجريانها في مجلس القضاء، فالأولى أن يذكر ما جرى له على وجهه، وإنما رأينا حكايةَ الحال لما يتطرق (2) إلى ذلك من الإشكال، فقد يتحمل الإنسانُ الشهادة على شهادة الأصل، حيث لا يجوز له تحملها، كما سبق التفصيل في كيفية التحمل، وإذا تطرق رَيْبٌ، لم يدفعه إلا التفصيل الذي مهدناه.
وإن قال الفرع: أشهد على شهادة فلان، ووصف شهادة فلان، [وكان] (3) عالماً بكيفية تحمل الشهادة، ووثق القاضي به، ورآه مستقلاً في مثل ذلك، فلو أراد أن يكتفي، جاز له ذلك، والغالب على الناس الجهلُ بتفاصيلِ التحملِ، وبحسب ذلك يتطرق الريبُ ويتحتم طلب التفصيل في معظم الناس. نعم، فيما ذكرناه طرف من
__________
(1) في الأصل: " يستند ". والمثبت من (ت 5).
(2) نعود من هنا إلى الموضع الذي تركناه من صفحات الأصل بعد أن استوعبنا الورقة المنقولة من مكانها.
(3) في الأصل: " كان " (بدون الواو).

(19/40)


الإطناب يحصل الاستقلال دونه؛ فإنه إذا قال: " أشهدني فلان على شهادته "، أو قال لي: " اشهد على شهادتي " كفى هذا مع تفصيل شهادة الأصل، فإنها المقصودة.
وقد نجز الغرض في الاسترعاء. فأما
الفصل الثالث
12158 - فمضمونه الكلامُ فيما يطرأ على الأصول من موانع الشهادة بعد تحمل الفروع.
فنقول أولاً: إذا تحمل الفروع الشهادة في حقها، ثم مات الأصول، قام الفروع بإقامة الشهادة، وإنما أثبت الشرع الشهادة على الشهادة؛ حتى تستمر (1) الحجة، وإن غاب شاهد الأصل، وغابت الحجة من جهته.
وإن فسق الأصل قبل أن يقيم الفرع الشهادة، لم يُقمها الفرعُ، ولو أقامها، لم تُقبل منه؛ فإن الغرض من شهادة الفرع نقلُ شهادة الأصل، والتقدير كأن شاهد الأصل هو القائل، ولو أراد الأصل أن يقيم الشهادة على (2) فسقه، لم يقبل منه.
وهذا يُحْوِجُ إلى مزيد معنىً، وهو أن الفسق إذا ظهر، أورث رَيْباً ظاهراً منعطِفاً على ما تقدم، ثم لا ضبط له في جهة التقدم، فيُحدِث (3) رَيْباً منعطفاً على تحمل الشهادة، هذا هو المعتمد فيما ذكرناه.
ويلتحق بالفسق طريان العداوة على شاهد الأصل، فلو أظهر عداوة مع المشهود عليه، لم تقبل شهادة الفرع عليه، لما ذكرناه، فظهور العداوة يدلّ على غوائلَ سابقة، وضمائر مستكنَّة، وتقرير هذا في العداوة كما ذكرنا في الفسق.
12159 - وألحق أئمتنا الردةَ إذا طرأت على شاهد الأصل بالفسق والعداوةِ، ووجه
__________
(1) ت 5: "تسمى".
(2) على: بمعنى مع.
(3) ت 5: " فيورث ".

(19/41)


التحاقها بهما يقرب مما ذكرناه؛ فإن الردة إذا هي ظهرت، دلت على خُبثٍ في العقد متقدم.
وفي هذا المقام سؤال: وهو أن المقذوف إذا زنى بعد ما كان ظاهرُه الإحصانَ والعفةَ عن الزنا، فالنص أن الحد يسقط عن القاذف، إذا لم يتفق إقامته حتى جرى ما جرى، ولو ارتد المقذوف قبل إقامة الحد على القاذف، فالحد مقام عليه، وقد ذكرنا ترتيب المذهب واختلافَ الأصحاب في موضعه.
ومقتضى النص الفرق بين طريان ما يناقض العفة وبين طريان الردة، وقد سوّينا بين الفسق وطريان الردة على شاهد الأصل، فما الوجه؟
قلنا: لا ننكر أن طلب الفرق بين الردة وطريان الزنا [في المقذوف] (1) عسر.
ولكن الأصل ثَمَّ أنا لا نعتبر في تبرئة المقذوف طلبَ باطنه، ولا نقول: يتوقف إقامة الحد على القاذف على تزكية المزكّين للمقذوف عن الزنا، ووصفهِ بالعفةِ عنها، وأمورُ الشهادات على طلب البواطن، والتوقفُ فيها بالريب؛ فالأصل ممتاز عن الأصل، وطريان الردة في إيراث رَيْب منعطفٍ كطريان الفسق، وإذا استويا في هذا، فما ذكرناه [مستدٌّ] (2) على قاعدة الشهادة، فإن كان من إشكال، ففي مسألة القذف، ولسنا ننكر أنها تزداد إشكالاً، وما نحن فيه الآن من حكم الشهادة [مستدٌّ] (3) لا غموض فيه، والقياس ثَم أن طريان الزنا لا يؤثر، كما صار إليه المزني وطوائفُ من أصحابنا، لما حققناه من امتياز الأصل عن الأصل.
12160 - ولو جُنّ شاهد الأصل، فقد خرج بجنونه عن الشهادة، فهل يشهد الفرع تعويلاً على التحمل السابق؟ وكذلك لو عمي، وعسُر منه إقامة الشهادة، لافتقارها إلى الإشارة إلى المشهود عليه، فالذي يجب التنبه قبل الخوض في التفصيل، أن الجنون لا ينعطف على ما تقدم، وطريانه لا يورث ريباً في العقل مستنداً إلى حالة
__________
(1) في الأصل: " والمقذوف ".
(2) في النسختين: " مستمر ".
(3) في الأصل، وفي (ت 5): " مستمر ". والمثبت من تصرف المحقق، والمعنى: مستقيم لا غموض فيه.

(19/42)


تحمل الشهادة كالموت، والعمى بهذه المثابة.
فالذي حصّلته من كلام شيخي وكلام الصيدلاني ثلاثة أوجه:
أحدها - أن الفرع لا يشهد إذا طرأ الجنون أو العمى فإنهما مانعان يتوقع زوالهما، بخلاف الموت.
والثاني -وهو المذهب- أن الفرع يشهد، كما لو مات الأصل، وإنما المحذور من الطوارىء اقتضاؤها رَيْباً منعطِفاً على حالة التحمل، وأما توقع الزوال في الطوارىء فلا خير فيه؛ فإن الفرع يشهد لغيبة الأصل ومرضه وإن كانا يزولان.
والوجه الثالث - أن الفرع لا يشهد إذا جُنّ الأصل؛ لأن شهادته سقطت بالكلية، وليس سقوطها بالجنون كانتهائها بالموت، فكأن الفرع يخلف الميت، كما يخلف الوارث الموروث، وفَرْقٌ في قاعدة الفقه بين الانتهاء وبين الانقطاع.
فأما إذا عمي الأصل، فيشهد الفرع؛ فإن العمى لم يخرجه عن كونه من أهل الشهادة على الجملة وإن لم يكن من أهل إقامة هذه الشهادة. وقد ذكر الصيدلاني هذا المعنى، ودلّ ذكره له على الفرق بين العمى والجنون. وتعلقه بهذا المعنى عُمْدَتي في إجراء هذه الوجوه.
والأصح الذي يجب القطع به، ولا يحتمل قانون المذهب غيرَه، أن طريان العمى والجنون لا يقطعان شهادة الفرع كطريان الموت، وما عدا ذلك يُخبّط المذهب ويشوّش الأصل.
فأما إذا أغمي على الأصل - وهو حاضر، فالفرع لا يشهد؛ فإن الإغماء إلى الزوال، فينتظر زواله. وإن كان غائباً، فأُخْبرنا بأنه أغمي عليه، فلا أثر له بحال، وهو بمثابة مرض يعرض ويزول.
التفريع:
12161 - إن حكمنا بأن شهادة الفرع تنقطع بطريان الجنون والعمى، فلو أبصر الأصلُ بعد العمى، وأفاق عن الجنون، فالمذهب على هذا الوجه أنه لا بد من إعادة تحمل الشهادة، وكأن التحملَ الأولَ لم يكن؛ فإنا قضينا بالانقطاع، فصار هذا كما لو جُنَّ الموكِّل، وجرى الحكم بانعزال الوكيل، فإذا أفاق، لم تعد الوكالة.

(19/43)


ومن أصحابنا من قال: لا تنقطع شهادة الفرع بل يمتنع، فإذا زال الجنون والعمى، فشهادة الفرع مستمرة، وهذا ليس بشيء. والوجه الذي قبله - وإن كان قياساً، فلست أعتد به لضعف أصله.
ولو فسق الأصل، وثبت أن الفرع لا يؤدي الشهادة قطعاً، فلو عاد الأصل إلى العدالة، واستبرأنا حاله، فهو على الشهادة الأصلية، والفرع لا يشهد تعويلاً على التحمل الأول؛ لأن الرَّيْبَ قد انعطف عليه؛ وذلك الريب لا يزول بزوال فسق الأصل؛ فإن العدالة إن كانت تقطع الفسق الطارىء، فلا تقطع الرَّيب المتقدم على الفسق؛ فالوجه أن يجدد تحملاً. وهذا هو الذي لا يجوز غيره.
وأبعد بعض الأصحاب، فاكتفى بالتحمل الأول. ولا يعتد بمثل هذا؛ فإنه غفلة عن الأصل المعتبر، وغباوةٌ عن الدَّرْك.
12162 - ومما يتعلق بما نحن فيه أن الفرع لو أقام الشهادة في مجلس القضاء، ونفذ القضاء بشهادته، ثم طرأت التغايير على الأصل، فلا نظر إلى ما يطرأ بعد نفوذ القضاء.
ولو أقام الفرع الشهادة، ففسق الأصل قبل نفوذ القضاء بشهادة الفرع، فلا يقضي القاضي بشهادة الفرع، كما لو فسق الشاهد نفسُه قبل القضاء بشهادته، وتعليل ذلك بيّن، لا إشكال فيه.
ولو شهد الفرع، فكذّبه الأصل قبل القضاء، لم يقْضِ القاضي بشهادة الفرع، وإن كان عدلاً رِضاً.
ولو حضر الأصلُ قبل القضاء بشهادة الفرع، فلا خلاف أن القاضي لا يقضي بشهادة الفرع، ولكن يستحضر الأصلَ ليشهد، ولا يكتفي بأن يصدِّق الأصلُ الفرعَ، بل لا بد من إنشاء الشهادة من الأصل.
ولو حضر شاهد الأصل بعد نفوذ القضاء بشهادة الفرع، فلا أثر لحضوره، ولو حضر بعد القضاء، وكذب الشاهدَ على شهادته، فلا يُلتفت إلى تكذيبه بعد إبرام القضاء.

(19/44)


ولو قامت بيّنه على أن الأصل كذّب الفرع قبل نفوذ القضاء؛ فالقضاء منقوض؛ فإن ما أثبتته البيّنة من تقدم تكذيب الأصل للفرع بمثابة ما يسمعه القاضي من تكذيبه إياه قبل القضاء، وليس القضاء عقداً [يبرم] (1) ويحلّ، والمعنيّ بالنقض تبيّن الأمر، وسقوط ما كان استناداً (2). وسيأتي إن شاء الله قولان في أن القاضي إذا قضى بشهادة شاهدين، ثم قامت بينة على فسقهما حالة القضاء، فهل يُحكمُ بنقض القضاء أم لا؟
فإذا قامت بيّنة على أن الأصل كذّب الفرع قبل القضاء، فالقضاء منتقض، قولاً واحداً.
وقد يعسر الفرق في ذلك، ونحن نعيد هذا الحكم من هذا الباب عند ذكرنا ثبوت الفسق مستنداً إلى القضاء، إن شاء الله عز وجل.
وقد نجز الكلام فيما يطرأ على شهود الأصل من الطوارىء. فأما
الفصل الرابع
الكلام في العدد. ونذكر فيه الكلام في صفة الفروع.
12163 - فأما العدد: فقد قال الشافعي رضي الله عنه: " ولو شهد رجلان على شهادة رجلين، فقد رأيت كثيراً من الحكام والمفتين يجيزه ... إلى آخره " (3).
فنقول: إذا كان شاهدُ الأصل اثنين، فشهد شاهدان على شهادة أحدهما، وتحملاها، فلو تحملا شهادة الشاهد الثاني؛ فهل يثبت الشقان بشهادتهما؟ فعلى قولين: أحدهما -وهو الأقيس واختيار أبي حنيفة (4) - أنه يثبت. وهو اختيار المزني أيضاً. ووجهه أن العدلين شهادتهم بيّنة، فنقلهما شهادتين من شاهدين في
__________
(1) في الأصل: " يرام "، وفي (ت 5): " يدام ". والمثبت من تصرف المحقق.
(2) أي يسقط مستنداً إلى أصل كان موجوداً قبله يمنع صحته، فالاستناد واحد من طرق إثبات الأحكام، وقد بيناه من قبل، وأشرنا إليه مراراً.
(3) ر. المختصر: 5/ 258.
(4) ر. مختصر الطحاوي: 333، مختصر اختلاف العلماء: 3/ 361 مسألة: 1496، المبسوط: 16/ 115.

(19/45)


خصومة واحدة، كنقلهما شهادات في خصومات.
والقول الثاني - أنهما إذا تحملا شهادة أحد الشاهدين، لم يُنشئا غيرها، ولا بد من شاهدين آخرين على شهادة الشاهد الثاني؛ فإنهما قاما مقام أحد الشاهدين، فلا ينبغي أن يتعرضا للشق الآخر، فإن من احتيج إلى شهادته في إثبات شق شهادة، لم يثبت بشهادته الشق الآخر، كما لو شهد واحد على طريق الأصل، ثم أراد أن يشهد مع شاهد آخر على طريق الفرع على شهادة الثاني، فإن ذلك ممتنع.
فإن قيل: لو شهد على شهادة أحد الشاهدين أربعة من الذكور العدول، ثم هم بأعيانهم شهدوا على شهادة الشاهد الثاني؛ فما ترون في ذلك؟
قلنا: إن فرّعنا على القول المختار للمزني، فلا إشكال في ثبوت شهادة الأصل؛ فإنا إذا أثبتنا ذلك بشاهدين، فلا امتناع في إثباته بأربعة، وإن فرّعنا على القول الآخر، وهو: أن من استقل بأحد الشقين لم ينتهض في الثاني - ففي هذه الصورة وجهان: أحدهما - لا تثبت شهادتهما بشهادة الأربعة على كل واحد منهما، فإنهم وإن كثروا، قائمون مقام شاهد واحد، فينبغي ألا يقوموا مقام الشاهد الآخر.
والوجه الثاني - تثبت شهادتهما، كما لو شهد اثنان على أحدهما وشهد اثنان على الآخر، وهذا هو الذي لا يجوز غيره؛ فإنه إذا شهد أربعة على الشهادتين، فقد شهد على كل شهادة شاهدان.
ولا خلاف أنه لو شهد شاهدان على إحدى الشهادتين، وشاهدان على الشهادة الأخرى، تثبت الشهادتان؛ فلا ضرر في تعرض الكل للشهادتين.
فأما من شهد أصلاً، وشهد مع شاهد آخر على شهادة أصل آخر، فلا تثبت شهادة ذلك الأصل بهذه الطريقة؛ فإن ذلك الأصل الشاهدَ بنفسه، والشاهدَ على شهادة صاحبه، يريد أن يقوم بثلاثة أرباع الشهادة في محل النزاع. وهذا ممتنع لا سبيل إليه.
12164 - ومما يتفرع على هذه القاعدة، أنا إذا قلنا: الشهادة على الشهادة مسموعة في الزنا، فكيف السبيل إلى إثبات شهادات الشهود الأربعة على الزنا؟

(19/46)


هذا يبتني على أصلين: أحدهما - أن من يثبت به شق شهادة، هل يثبت به الشق الآخر؟
والثاني - أن الإقرار بالزنا، هل يثبت بشاهدين، أم لا بد من أربعة؟ وفيه قولان تقدم ذكرهما.
فإن قلنا: الإقرار بالزنا يثبت باثنين، فنقول: كل شاهد بمثابة إقرار بالزنا؛ فإنه قول يتضمن الخبر عن الزنا، فإذاً، إن اكتفينا باثنين، وقلنا: من ثبت به شق شهادة، ثبت به الشق الآخر، فتثبت شهادة الأصول الأربعة بشاهدين عدلين ينقلان شهادة كل واحد من الأربعة الأصول.
وإن قلنا: من يثبت به شق شهادة، فلا يثبت به الشق الآخر، والإقرار يثبت باثنين، فلا بد من ثمانية، كل اثنين منهم ينقل شهادة واحد من الأصول.
وإن قلنا: الإقرار بالزنا لا يثبت إلا بأربعة. ومن ثبت به شق يجوز أن يثبت به شق آخر، فلا بد من أربعة ينقلون شهادة الأصول.
وإن قلنا: الإقرار لا يثبت إلا بأربعة، ومن ثبت به شق لا يثبت به شق آخر، فلا بد من ستةَ عشرَ، كل أربعة منهم ينقلون شهادة واحد من الشهود الأربعة، فينتظم إذاً أربعة أقاويل:
أحدها - تثبت باثنين.
والثاني - بأربعة.
والثالث - بثمانية.
والرابع - بستة عشر.
فتجري الأقاويل على التضعيف الطبيعي من الأصلين المقدمين.
ولو شهد على المال رجل وامرأتان، وأردنا إثباتَ شهادةِ الأصول بالفروع؛ فعلى قولٍ: يكفي اثنان ينقلان شهادةَ كل واحد من الرجل والمرأتين، وعلى قول: لا بد من ستة من العدول، ينقل كل اثنين منهم شهادة واحد من الرجل والمرأتين، ولا أحد في التفريغ على هذا القول يصير إلى الاكتفاء بأربعة؛ ذهاباً إلى أن المرأتين بمثابة

(19/47)


رجل، ثم يكفي في رجل عدلان. هذا ما لا مصير إليه.
والنظر إلى عدد الأقوال والشهادات، وهي ثلاثة، فلينقل كلَّ قولٍ عدلان. هذا منتهى الغرض في عدد الفروع.
12165 - فأما الكلام في صفة الفروع؛ فلم يختلف أصحابنا في أن الفروع يجب أن يكونوا ذكوراً وإن كان المطلوب بالشهادة إثباتَ مال؛ لأن الفروع لا يتعرضون للمال.
وإنما يتعرضون لنقل أقوال شهود الأصل، فتعين اعتبار الذكورة فيهم من كل وجه، من غير نظر إلى المطلوب بشهادة الأصول. وشهادة الأصول -فيما ذكرناه- تضاهي الوكالة على المال، فإنها لا تثبت إلا بعدلين، وإن كانت الوكالة متعلقة بالمال. فأما
الفصل الخامس
12166 - فمضمونه ذكر الأعذار التي يتعذر بها الوصول إلى شهادة الأصول.
فمنها: الغَيْبة. وهي مفصلة، فإن كان الأصول على مسافة العدوى، فلا تسمع شهادة الفروع، كما لو كان الأصول حضوراً، فإن كان الأصول على مسافة القصر، سمعنا شهادة الفروع وفاقاً.
وإن كانوا فوق مسافة العدوى ودون مسافة القصر، ففي المسألة وجهان، وقد أدرنا هذا الترتيب في أحكامٍ.
12167 - وأما مرض الأصول، مع كونهم في البلدة، فقد أطلق الأصحاب القول بأن للفروع أن يشهدوا.
فنقول: أولاً - للأصل أن يتخلف عن مجلس القضاء بالمرض، ولسنا نشترط أن يكون بحيث لا يتأتى منه الحضور أصلاً، بل إذا كان يناله مشقة ظاهرة، لم يحضر.
وكيف تقريب القول فيها؟
قال قائلون من أئمتنا: المرض الذي يَسوغ التخلف عن الجمعة لأجله يجوز تخلف شاهد الأصل بسببه، ولعلنا ذكرنا في ذلك تقريباً في كتاب الجمعة، ولا ينتهي الأمر إلى اعتبار خوفٍ على النفس، أو ازدياد في المرض يُرْقَبُ إفضاؤه إلى الخوف، وهذا

(19/48)


بمثابة قولنا في المرض الذي يجوز الإفطار به في نهار رمضان، وقد ذكرنا أنا لا نرعى فيما يجوز الإفطار به الخوفَ؛ لأنه قرينة السفر، كذلك لشاهد الأصل أن يمتنع لعذر السفر.
فالذي يجب تحصيله أن ينال المريض مشقةٌ ظاهرة، وألمٌ مُقلق يعسر الاستقلال بحمله. هذا قولنا في المرض.
وكل ما يجوز ترك الجمعة به من خوفٍ من غريم أو ما في معناه، فيجوز الامتناع عن الحضور بمثله.
فإذا تمهّد ما ذكرناه، فقد أطلق الأصحاب أن الفروع يشهدون، وكان من الممكن أن يحضر القاضي مكان شاهد الأصل، ويُصغي إلى شهادته؛ ولكن لم أر أحداً من أصحابنا يُلزم ذلك، أو يُشبّب بذكر خلافٍ فيه، وكذلك لم يوجبوا أن يستخلف (1) من يحضر شاهدَ الأصل.
وإذا وقفت القضية (2) على الإشارة إلى عينٍ، فعلى القاضي أن يَحْضُرَها (3 لتمييز الشهود، أو يستخلف من يحضرها 3) لذلك، والسبب فيه أن القضاء غير ممكن من غير تعيين، وفي ترك الحضور تعطيل الحكم. وامتناعُه عن سماع شهادة الفروع مع حضور الأصول من باب الاحتياط، وإلا إذا كان الفروع عدولاً، فتحصل الثقة بنقلهم، فلا نكلف القاضيَ الترددَ على الدورِ والمساكن، مع ما فيه من التبذل وحطّ منصب الولاية لمكان الاحتياط. ولا خلاف أن رواية الراوي مقبولةٌ، وشيخُه في البلد، وكل ما لم يثبت فيه توقيفٌ شرعي تعبدي يميّز الشهادة فيه عن الرواية، فلا يبعد في وجه الرأي التسويةُ بينهما.
والقدر الثابت أن شهادة الفروع مقيدة بحال عذرٍ يطرأ على الأصل، فهذا منتهى الغرض في ذلك، لم يتعدّه حفظي ونظري.
__________
(1) يستخلف: أي لا يجب على القاضي أن يستخلف نائباً عنه يحضر شاهدَ المريض ليسمع شهادته.
(2) في (ت 5): " الفقيه ".
(3) ما بين القوسين ساقط من (ت 5).

(19/49)


فرع:
12168 - شهود الفرع إذا عدّلوا الأصول؛ وكانوا من أهل التعديل، تثبت عدالة الأصول بتعديلهم، وتثبت الشهادة بنقلهم، وإن لم يشهد الفروع على تعديل الأصول، جاز، فتثبت عدالة الأصول بعلم القاضي أو بشهادة شهودٍ آخرين.
وقال أبو حنيفة (1): لا تصح شهادة الفروع ما لم يعدّلوا أصولَهم، وهذا لا حاصل له؛ فإن عدالة الأصول ونقلَ شهادتهم أمران متغايران، لا يشترط اجتماعهما في حجة. وقد ذكرنا أن المدعي إذا كان يحلف مع شاهد، فحق عليه أن يصدق شاهده، وذاك لانتظام الشاهد واليمين، ولا يشترط ثَمَّ أيضاً أن يحلف على عدالته، بل يكفي أن يحلف على صدقه، وعدالة ذلك الشاهد تُتَلقى من تزكية المزكين، كما ذكرنا في شهادة الأصول مع شهادة الفروع، فلا فرق إذاً بين البابين فيما يتغلق بالتعديل، وإنما افتراقهما في إلزام المدعي تصديقَ شاهده، لأنه عارفٌ فيما زعم بصدقه، ويستحيل أن يُكلفَ الفروعُ تصديقَ شهود الأصل.
...
__________
(1) ر. مختصر الطحاوي: 336، فتح القدير: 6/ 529.

(19/50)


باب الشهادة على الحدود
قال: " وإذا شهدوا على رجلٍ بالزنا ... إلى آخره " (1).
12169 - مقصود الفصل أن شهود الزنا لا بد وأن يتوخَّوْا بحقيقة الحال، ويذكروا إيلاجَْ الحشفة في الفرج، ولا تكفي المكاني (2)، وقد ذكرنا هذا في الحدود.
وهل يشترط ذلك في الإقرار بالزنا؟ فيه خلاف مذكور في الحدود، ونفس ذكر الزنا من القاذف، قذفٌ صريح. فإذاً هذه ثلاث مراتب.
وإنما لم نشترط التصريح في القذف؛ لأن الجناية على العرض تحصل بالنسبة إلى الزنا، ثم سيأتي في الدعاوى فصل فيما يُبيّن ويشترطُ فيه نهاية الكشف، وفيما يكتفى فيه بإطلاق الاسم، وثَمَّ نُعيد في التقاسيم ما ذكرناه الآن.
قال: " ولو شهد أربعة، اثنان منهم ... إلى آخره (3) ". وهذا مما تكرر في الحدود، فإذا شهد اثنان على أنه زنى بفلانة في بيت عيّناه، وشهد آخران أنه زنى بها في بيت آخر، فلا يثبت الزنا، والكلام في أن الشهود قذفة أم لا؟ وكل ذلك مما مضى.
ولو اختلفت الشهادات في تعيين زوايا بيت واحد، فلا يثبت الزنا عندنا خلافاً لأبي حنيفة (4).
__________
(1) ر. المختصر: 5/ 259.
(2) المكاني: أي الكنايات.
(3) ر. المختصر: الموضع السابق نفسه.
(4) ر. فتح القدير: 5/ 63. روضة القضاة للسمناني: 2/ 1298.

(19/51)


فصل
قال: " ولو ادعى على رجل من أهل الجهالة ... إلى آخره " (1).
12170 - مقصود الفصل الكلامُ في تسبيب القاضي إلى درء الحد، قال صاحب التقريب: إذا رُفع إلى الإمام من يتهم بالسرقة أو غيرها من موجبات الحد، فللقاضي أن يعرّض بما يتضمن حملَ المرفوع إلى مجلسه على إنكار السرقة، حتى لا تثبت الحدود، وذلك ثابت في الحديث، فإنه عليه السلام قال للمرفوع إليه بتهمة السرقة: " ما إخالك سرقت " وفي بعض الألفاظ " أسرقت؟ قل لا! " (2) قال ذلك سراً.
ثم قال صاحب التقريب: ينبغي أن يكون التعريض بما يُسقط الحد، ولا يجوز أن يكون التعريض بما يدرأ الغرم؛ فإن التعريض فيما يتعلق بالأموال غير سائغ.
وهذا إذا لم يبتدر إلى الإقرار.
فإن أقر صريحاً، فهل يعرّض بالرجوع عن الإقرار؟ الذي ذهب إليه الأكثرون أنه لا يعرّض؛ فإن الاحتيال (3) ينبغي أن يكون في منع الثبوت، فأما في السقوط بعد الثبوت فلا.
ومن أصحابنا من قال: يجوز التعرض للرجوع عن الإقرار وتمسك بترديد رسول الله صلى الله عليه وسلم ماعزاً بعد إقراره بالزنا في القصة المشهورة، وهذا غير صحيح؛ لأن الرسول عليه السلام كان يستريب في عقله؛ إذ رآه أشعث أغبر فردّده لذلك، وليس في قصته تشبيبٌ بتلقينه الرجوع عن الإقرار.
ثم ظاهر ما ذكره الأصحاب أن المسوَّغ -قبل الثبوت وبعده على أحد الوجهين- التعريضُ، فأما التصريح فلا وجه له، وهو رفع لحجاب الهيبة، وتصريح بتعليم الكذب. فإذا كنا نُحرم التصريح بالخِطبة ونبيح التعريض بها، فليكن الأمر كذلك فيما نحن فيه.
__________
(1) ر. المختصر: 5/ 259.
(2) سبق هذا الحديث في السرقة.
(3) ت 5: " الاختيار ".

(19/52)


وإن صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للمرفوع إلى مجلسه: (قل: لا!) فهذا يدل على جواز التصريح بالتلقين، وغالب ظني أن هذه الزيادة لم ينقلها الأثبات.
قال صاحب التقريب: التعريض المتفق عليه قبل الثبوت، كما بيّنّا، وفي التعريض بعد الإقرار الوجهان، فلو قامت بيّنة بالزنا أو السرقة، فالتعريض المتعلق بما يُسقط الحد بعد قيام البيّنة -كدعوى الشركة أو الملك- فيه وجهان مرتّبان على التعريض، وقد ثبت الحد بالإقرار، وصورة البيّنة أولى بالمنع، والفرق لائح.
والأصح -من كل ما ذكرناه- اختصاص التعريض بما قبل الثبوت.
ثم ذلك التعريض جائز أو مستحب؟ فيه تردد مأخوذ من كلام الأئمة.
فصل
قال: " ولو شهد أنه سرق من هذا البيت كبْشاً ... إلى آخره " (1).
12171 - ذكر وجوهاً في اختلاف شهادة الشاهدين، وقد تقدم جميعها. منها: أنه لو شهد شاهد أنه سرق غدوة، وشهد الثاني أنه سرق بالعشي، فالشهادتان مختلفتان، كذلك إذا اختُلف في المكان، أو صفة المسروق، فقال أحدهما: سرق [كبشاً] (2) أسود، وقال الثاني: سرق [كبشاً] (2) أبيض، فلا تثبت السرقة.
ولأبي حنيفة (3) خبط في الألوان، ونظر دقيق في السواد والبياض، والصفرة والحمرة، ولسنا للخوض فيها.
__________
(1) ر. المختصر: 5/ 259.
(2) في نسخة الأصل " كِيِساً " بالياء والسين المهملة، ويبدو أنه تصحيف قديم، قال العمراني: " ومن أصحابنا من صحّف وقال: أراد الشافعي كيساً، وهذا خطأ، بل أراد كبشاً بالشين المعجمة، لأنه قال في الأم: " كبشاً أقرن " والحكم لا يختلف بالكبش والكيس، إلا أن الغالب من قيمة الكيس أنه لا يبلغ نصاباً " (ر. البيان: 13/ 81).
(3) ر. المبسوط: 9/ 162، فتح القدير: 6/ 509.

(19/53)


12172 - ثم قال: " ولو شهد اثنان أنه سرق ثوب كذا ... إلى آخره " (1).
صورة المسألة: أن يشهد اثنان أنه سرق ثوباً وصفاه، وقيمته ربع دينار، وشهد آخران أنه سرق ذلك الئوبَ بعينه، وأن قيمته أقل من ربع دينار؛ أما القطع؛ فلا يجب؛ فإن ما جرى من اختلاف البيّنتين في أن قيمة المسروق هل بلغت نصاباً؛ من أقوى ما تُدرأ به الحدود. وأما الغُرم، فلا يثبت عندنا إلا أقل القيمتين.
وقال أبو حنيفة (2): يثبت أكثر القيمتين. واعتل بأن المكثر عرف زيادة خصلة، غفل عنها المقلل.
قلنا: ربما عرف المقلل عيباً يوجب نقصان القيمة، غفل عنه المكثر، وهذا أولى؛ فإن الظاهر السلامة فربما بنى المكثر على ظاهر السلامة، واستدرك المقلل صفة خافية منقصة.
ولو اتفقا على الصفات، وصرحا بأنه لم يستقل واحد منا بمعرفة صفة لم يدركها آخر، وردوا النزاع إلى القيمةِ نفسِها، فلا يجب عندنا إلا الأقل أيضاً، حملاً على براءة الذمة.
فرع:
12173 - ذكره صاحب التلخيص (3): إذا ادعى الرجل ألفَ درهم على رجل، وأقام شاهداً أن له عليه ألفاً، وشهد شاهد آخر أن عليه ألفَ درهم قد قضاه، فلا يثبت في هذه الصورة الألف أصلاً؛ فإن الشاهد الثاني لما قال: عليه ألف ثم قضاه، فقد تناقض قوله، وكيف يكون عليه ألف وقد قضاه، ولكن الشاهد الذي جزم شهادته بالألف ولم يُناقِضْ [قولَه] (4) شهادتُه ثابتة، فلو أراد أن يحلف مع ذلك الشاهد، ويُثبت المال، جاز.
وبمثله لو شهد أحدهما أنه أقر بألف، وقال الثاني: أقر بألف، لكنه قضاه، ففي هذه المسألة وجهان ذكرهما الصيدلاني وغيره:
__________
(1) ر. المختصر: 5/ 259.
(2) لم نصل إلى هذه المسألة، بهذا التصوير، في كتب الأحناف التي راجعناها.
(3) ر. التلخيص: 652.
(4) زيادة من (ت 5).

(19/54)


أحدهما - أنه يثبت الألف بشهادتهما، وقد يشهد شاهد واحد بالقضاء، فإن أراد الخصم أن يحلف معه ليُثبت القضاء بشاهد ويمين، جاز. هذا أحد الوجهين.
والوجه الثاني - أنه لا يثبت بشهادتهما شيء، فإنهما لم يجتمعا على ثبوت الألف، وليس الغرض إثبات لفظ الإقرار، وإنما المقصود إثبات معناه.
ولو شهد شاهدان أن عليه ألفاً، ثم قال أحدهما بعد يوم مثلاً، قبل أن يقضي القاضي بالبينة: قد كان المشهود عليه قضى الدين؛ فهذا رجوع منه عن شهادته، فلا يحكم الحاكم بالشهادة.
ولو شهدا أن له عليه ألف درهم، ثم قال أحدهما قبل القضاء: قد قضى الألف بعد شهادتي؛ فهل يقضي القاضي بالدين؟ فعلى وجهين: أحدهما - يقضي به، ولا حكم لقوله المجرد: قد قضى، إلا أن يحلف الخصم المشهود عليه معه.
والصورة التي تقدمت على هذه فيه إذا قال أحد الشاهدين: قد كان قضى الألف قبل لشهادتي، وتبيّنت ذلك، فيكون هذا رجوعاً كما قدمناه.
ولو قال ابتداء: أقر فلان بألف، ثم قال أحدهما بعد ذلك، وقبل القضاء: قد قضى ما أقر به بعد لشهادتنا، فهل يقضي القاضي بثبوت الدين؟ في المسألة وجهان مرتّبان على الوجهين فيه إذا شهدا على الإقرار، وقال أحدهما: قد قضى، وهذه الصورة أولى بثبوت الدين فيها من صورة الاقتران، والفرق ظاهر. والله أعلم.
***

(19/55)


باب الرجوع عن الشهادة
قال: " الرجوع عن الشهادة ضربان ... إلى آخره " (1).
12174 - الكلام في الرجوع يتعلق بثلاثة فصول:
أحدها - في الشهادة على موجبات العقوبات إذا فُرض الرجوع عنها.
والثاني - في الرجوع عن الشهادة على ما لا مستدرك له، كالعَتاق والطلاق.
والثالث - في الرجوع عن الشهادة على الأموال. فأما
الفصل الأول
12175 - فهو مثل الشهادة على قتلى يوجب القصاص، أو زنىً يوجب الرجم، أو الجلد، ثم يفرض موت المجلود المحدود، ومن الفصل الشهادة على السرقة الموجبة للقطع.
والذي يقتضيه الترتيب أن نذكر الرجوع قبل القضاء، ثم نذكر الرجوع بعد القضاء وقبل الاستيفاء، ثم نذكر الرجوع بعد الاستيفاء.
فأما الرجوع قبل القضاء، فمبطلٌ للشهادة. والذي نذكر في هذا القسم، أنهم إذا شهدوا على الزنا، ثم رجعوا، فهم قذفة يحدون، فسقة يردون، ثم الكلام في [الاختبار] (2)، والاستبراء على ما نفصل.
ولو قالوا كما (3) رجعوا عن شهاداتهم في الزنا وغيرِه: ما تعمدنا، ولكن
__________
(1) ر. المختصر: 5/ 259.
(2) في النسختين: " الاختيار ".
(3) كما: بمعنى عندما. وهي في (ت 5): (لِمَا).

(19/56)


أخطأنا، فالذي صدر منهم لا يوجب جرحَهم في غير الشهادة على الزنا. فأما إذا رجع شهود الزنا، وقالوا: أخطأنا؛ فهل يكونون قذفة؟ قد ذكرنا أنه إذا نقص العدد، ففي كونهم قذفة قولان، فإذا كمل العدد في مسألتنا، وقالوا: أخطأنا، احتَمَل خلافاً، ولكنه مرتب على نقصان العدد؛ فإنه يتطرق إليهم الملام في ترك التحفظ والمبالغة فيه، وإن كان المتحفظ قد يغلط، وأما نقصان العدد، فلا يتجه فيه نسبة الشاهدين إلى ما يوجب لوماً، والامتناع من غيرهم، فإن قلنا: إنهم قذفة، فترد شهادتهم، وإن قلنا: لا حدّ عليهما، فلا تردّ شهادتهم.
فرع:
12176 - لو شهد عند القاضي شاهدان، فيما نحن فيه أو في غيره من القضايا، ثم قالا للقاضي - قبل القضاء: توقف! حتى نتثبت في شهادتنا، فلا شك أنه يتوقف، فلو عادا، وقالا: تحققنا ونحن مصران على الشهادة، فهل يحكم؟ فعلى وجهين:
أحدهما - يحكم؛ لأنهما لم يرجعا بل توقفا، ثم استمرا.
والثاني - لا يحكم؛ لأن ما قالاه أورث ريبة في الشهادة.
ولا خلاف أنهما لو رجعا، ثم عادا، فقالا: غلطنا في الرجوع، فلا يقبل منهما، فإن قلنا: إذا استمرا بعد التوقف، فللقاضي أن يقضي، فهل يكلفهما إنشاء الشهادة؟ فعلى وجهين لا يخفى توجيههما. هذا في الرجوع قبل القضاء.
12177 - فأما إذا فرض رجوع الشهود بعد القضاء، وقبل الاستيفاء، فرجوع شهود المال في هذا الوقت لا يوجب نقض القضاء، بل يتمادى القاضي، ويُلزم المشهود عليه إيفاء ما ثبت عليه من المال.
ولو كانت الشهادة فيما يوجب عقوبة، فإذا قضى القاضي بوجوب العقوبة، فرجع الشهود قبل استيفائها، ففي المسألة ثلاثة أوجه، ذكرها الشيخ أبو علي وغيره: أحد الوجوه - أن القاضي لا يستوفي العقوبة؛ فإنها حَرِيَّةٌ بالدرء، ويبعد أن يُريق القاضي دماً، ولا حجة على الاقتران بإراقته.
والوجه الثاني - أنه يستوفي العقوبات؛ فإن الشهود رجعوا بعد القضاء، وما استحق استيفاؤه كالمستوفَى.

(19/57)


والثالث - أن ما يجب حقاً للآدمي لا يسقط كالقصاص وحدِّ القذف، وما يجب حقاً لله من العقوبات يسقط؛ فإن رجوع الشهود لا ينحط عن رجوع المقر، ومن أقر بموجب حدٍّ لله، ثم رجع، سقط الحد عنه، وهذا حسن متجه؛ إذ لا خلاف في الإقرار.
ولو فسق الشهود قبل القضاء، أو بعد القضاء وقبل الاستيفاء، ففسقهم كرجوعهم في كل ما ذكرناه.
12178 - فأما إذا رجع الشهود بعد استيفاء العقوبات: [كأنْ] (1) شهدوا بالقصاص، فاقتُصَّ من المشهود عليه، أو شهدوا بالزنا على محصن، فرجم، أو على شخص بالسرقة، فقُطع، أو على بِكْر بالزنا فجُلِد ومات، فإذا رجعوا بعد وقوع العقوبات، فلهم أحوال في الرجوع: إحداها - أن يقولوا: تعمّدنا، وعلمنا أنه يقتل بشهادتنا، فيجب عليهم القَوَدُ، وعَقْد الباب أنهم بمثابة المباشرين للقتل، وكل ما لو باشره وحصل التلف به، وجب عليه القود، فإذا وقع التلف بموجَب شهادته، وجب عليه القود، خلافاً لأبي حنيفة (2).
ولو قالوا أخطانأ (3)، وذكروا وجهاً، أو أطلقوا وصف الرجوع بالخطأ، فلا قصاص، وقد يرى القاضي تعزيرهم؛ من جهة ترك التحفظ، والغُرم يجب في مالهم؛ فإنه ثبت بإقرارهم، إلا أن تصدّقهم العاقلة، ففيه شيء سأنبه عليه، إن شاء الله.
ولو قال بعضهم (4): تعمدت، وقال الباقون: أخطأنا، لم يجب القود على المعترف بالعمد؛ فإن القتل على حكم الأقارير وقع بعمدٍ وخطأ، ولا قصاص على العامد إذا كان شريكه مخطئاً، ولو قال كل واحد منهم: تعمدت وأخطأ أصحابي،
__________
(1) زيادة من المحقق، اقتضاها السياق، حيث سقطت من النسختين.
(2) ر. مختصر اختلاف العلماء: 3/ 63 مسألة 1499، المبسوط: 16/ 178.
(3) هذه هي الثانية من الحالات الثلاث.
(4) هذه هي الحالة الثالثة.

(19/58)


ففي وجوب القصاص وجهان: أحدهما - لا يجب، لأن كل واحد أقر بقتلٍ على شركة خاطىء، ولم يقر بالعمد المحض.
والثاني - يجب؛ لأن كل واحد منهم مقر بالعمد في حق نفسه، وإنما يدعي خطأ من شركائه، وقوله مقبول في حق نفسه مردود في حق شركائه.
وإن قال القاضي: علمت كذبهم وتعمدت، فعليه القَوَدُ، قطع الأئمة به؛ فإن مقامه لا ينحط عن مقام شاهد.
ولو رجع المزكّي عن تزكية الشهود، فقد ذكر أصحابنا في وجوب الغرم عليه وجهين، ثم ذكروا على أحد الوجهين في القصاص وجهين، وحاصل الكلام ثلاثة أوجه في الغرم. والقصاص، وهذا عندي مُحوِجٌ إلى فضل نظر.
فإن قال المزكي: زكيتهم مع العلم بفسقهم وكذبهم، فهذا موضع خلاف للأصحاب. وإن قال: زكيتهم مع العلم بفسقهم، ولم أعلم كذبَهم، فقد قال الأصحاب: هذا كما لو زعم أني علمت كذبهم، وما ذكروه ظاهر، ولكن قد يتجه في القصاص ترتيبٌ لحالة على حالة، والأمر فيه قريب.
12179 - ومن أهم ما يجب الاعتناء به، أن الذي ادعى القصاص لو رجع عن دعواه، وأصرّ الشهود، فعليه الغُرم (1) والقود. وإن رجعوا كلهم (2) [والوليُّ] (3) هو الذي اقتص، فلا شك في وجوب القود عليه، وهل يجب القود على الشهود؟ فعلى وجهين - ذكرهما القاضي: أحدهما - لا قصاص على الشهود؛ فإن الولي قتل مختاراً، وليس في حكم المكره، والشهادات سبب، فهي بالإضافة إلى قتل الولي كالإمساك مع القتل. وهذا هو الذي بنينا عليه (الأساليب).
والوجه الثاني - أن القصاص يجب على الشهود مع الولي؛ فإنهم من جملتهم تعاونوا على القتل، وكانوا كالمشتركين فيه. وليسوا كالقاتل والممسك؛ فإن الشهود
__________
(1) ت 5: " الغرامة ".
(2) كلّهم: أي الشهود والولي.
(3) في الأصل: " أو الولي ".

(19/59)


هم الذين أكسبوا الوليَّ صفةَ المحق، ولولاهم، لما تصدى لذلك، وهذا ضعيف، والقياس الحق مع الوجه الأول (1).
ثم إذا لم نوجب القصاص على الشهود، لم نلزمهم غرماً أيضاً، إذا آل الأمر إلى المال؛ تشبيهاً لهم بالممسكين، ومصيراً إلى أن مباشرة الولي على الاختيار تقطع أثر تسببهم.
12180 - ولو قال الشهود: تعمدنا الشهادة كاذبين، ولكن لم نعلم أنه يقتل بشهادتنا، فقد قال الأكثرون: لا قود عليهم.
وهذا فيه نظر؛ فإن من ضرب شخصاً فمات، وكان ذلك الشخص مريضاً يُقصد قتلُه بمثل ذلك الضرب، فقال الضارب: لم أحسبه مريضاً، ولو كان صحيحاً، لكان الأغلب ألا يموت، فهل يجب القصاص والحالة هذه؟ فيه تردد مأخوذ من كلام الأصحاب. فإن قلنا بوجوب القصاص على الشهود في هذه الصورة، فلا كلام، وإن قلنا: لا قصاص عليهم؛ فقد قال الشافعي: عليهم الدية حالّةٌ في أموالهم في الصورة التي ذكرناها. قال صاحب التقريب: الوجه أن تكون الدية مؤجلة عليهم، لأنه بمثابة من يصدر منه القتلُ شبهَ عمد. وهذه المسألة تقرب مما لو قتل مسلماً في دار الحرب على توهم أنه مشرك، ففي وجوب الدية قولان. فإن أوجبناها، ففي ماله أو عاقلته؟ فعلى قولين، وقد مهدت هذا الفصل في كتاب الديات.
12181 - ومما يليق بتفريع هذا الفصل الكلامُ في شهود الزنا، وشهودِ الإحصان إذا فرض الرجوع منهم أو من بعضهم، ونحن نذكر في مبتدأ ذلك أصلين - ونفرعّ المسائل عليهما؛ أحدهما - أن شهود الإحصان إذا رجعوا، فهل يغرّمون؟ فعلى قولين: أحدهما - لا يغرمون؛ فإنهم ما شهدوا على موجِب الحد؛ إذ موجِبه الزنا، والإحصان صفات كمال، وعلى نحو هذا اختلف الأصحاب في أنه لو شهد على تعليق
__________
(1) هذا هو الأصح، قال النووي في زياداته: " قلت: لم يرجح الرافعي واحداً من الوجهين، بل حكى اختلاف الإمام والبغوي في الصحيح، والأصحُّ ما صححه الإمام، فهو الأصح نقلاً ودليلاً، والله أعلم " ا. هـ (ر. الروضة: 11/ 298، و (الشرح الكبير): 13/ 125) و (التهذيب: 7/ 347).

(19/60)


العتق بدخول الدار شاهدان، وشهد على الدخول آخران، ثم رجعوا بعد نفوذ القضاء، فهل يجب على اللذين شهدوا على وجود (1) الصفة غرمٌ؟ فعلى وجهين. فإن قلنا: شهود الإحصان لا يغرمون إذا رجعوا، فلا كلام. وإن غرّمناهم، أوجبنا القصاص عليهم حيث يجب القصاص، ثم كم يغرّمون إذا رجعوا ورجع شهود الزنا؟ فعلى وجهين: أحدهما - يغرمون نصف الدية، لأن لحدّ الزنا ركنين: الزنا، والإحصان.
والثاني - عليهم ثلث الغرم، لأن الإحصان يثبت بشاهدين والزنا لا يثبت إلا بأربعة، فهم يقعون في مراتب الشهادات ثُلُثَ الشهود، هذا أحد الأصلين.
والأصل الآخر - أنه إذا شهد على شيء عددٌ أكثر من العدد المشروط فيه، ثم رجع من زاد على العدد؛ فنقول أولاً: إن رجع كلهم، فالغرم مفضوض على جميعهم، ولا فرق بين أن يرجعوا بأجمعهم معاً، وبين أن يرجعوا واحداً واحداً، فإذا تكامل الرجوع، فالغرم على الجميع.
فأما إذا رجع من الشهود من لا ينخرم به العدد المشروط، مثل أن يشهد خمسة على الزنا، أو ثلاثة على غيره، ثم رجع الزائد، وبقي العدد الذي به الاستقلال؛ فهل يجب على الراجع شيء في هذه الصورة؟ فعلى قولين: أحدهما - رواه البويطي، واختاره المزني أنه يُغَرَّم.
والثاني - وهو [المشهور] (2) أنه لا يغرّم، وبه قال أبو حنيفة (3)، والتوجيه هيّن.
وإذا ثبت الأصلان، خضنا بعدهما في تفريع المسائل.
12182 - فلو شهد أربعة على الزنا، واثنان سواهم على الإحصان، فلو رجع أحد شاهدي الإحصان، فإن قلنا: لا غرم، فلا كلام. وإن قلنا: يجب الضمان على شهود الإحصان إذا رجعوا بفرع النصف والثلث، فعلى الراجع على قول النصف ربع الغرم، وعلى قول الثلث سدس الغرم.
__________
(1) ت 5: " وجوب ".
(2) في الأصل: " المشروط "، والمثبت من (ت 5).
(3) ر. مختصر اختلاف العلماء: 3/ 365 مسألة 1500، المبسوط: 16/ 187.

(19/61)


وإن رجع أحد شهود الزنا، فإن قلنا: يتعلق بهم ثلثا الغرم، فعلى الراجع سدس، وعلى القول الثاني عليه ثمن الغرم.
ولو شهد أربعة على الزنا والإحصان جميعاً، ثم رجع أحدهم عن الإحصان والزنا جميعاً، فلا غرامة لأجل الإحصان على أحد القولين، لأنه قد بقي من يتعلق به ثبوت الإحصان، فأما لأجل الزنا، فيغرّم، وفي مقداره الخلاف الذي قدّمناه، فيغرّم سدساً أو ثمناً.
فإن رجع ثلاثة وثبت واحد، فقد بطلت الشهادتان؛ فيغرمون على أحد الوجهين لأجل الإحصان ولأجل الزنا، ويخرج المقدار على ما تقدم: السدس -في حسابٍ- على كل واحد لأجل الزنا، و -في حسابٍ- الثمن. ولأجل الإحصان -إن غرّمنا به- ثلث الربع أو ثلث السدس؛ (1 لأنه لما رجع واحد من شهود الإحصان أوجبنا عليه في قولٍ الربعَ، وهو نصف النصف، فيُفَضُّ ذلك في هذه الصورة على ثلاثة: على كل واحد ثلثُ الربع، وأوجبنا في قولٍ نصفَ الثلث، وهو السدس، فيفض على ثلاثة: على كل واحد ثلثُ السدس 1).
ولو شهد أربعة على الزنا، وشهد اثنان من هؤلاء الأربعة على الإحصان، ثم رجع أحد هذين اللذين شهدا على الأمرين، وقلنا بالضمان على شهود الإحصان، فعلى الراجع لأجل الإحصان ربع الغرم في وجه، وسدس الغرم في وجه، وأما لأجل الزنا، فثمن الغرم في وجه، فإن شهود الزنا أربعة، وسدس الغرم في وجه.
ولو شهد ثمانية على الأمرين، ثم رجع أحدهم، فلا غرم عليه، على أشهر القولين، وكذلك لو رجع الثاني، والثالث، والرابع، وإن رجع الخامس - حينئذ، لا غرامة لأجل الإحصان على الوجه المشهور، ويغرم لأجل الزنا السدس في وجه، والثمن في وجه، وهذا المقدار على الخمسة بأجمعهم.
وإن رجع [ستة] (2) وشهود (3) الإحصان ما انخرموا بعدُ، فعلى قولٍ عليهم ثلث
__________
(1) ما بين القوسين سقط من (ت 5).
(2) في الأصل: " منه ".
(3) ت 5: " فشهود الإحصان ".

(19/62)


الغرم يُفضّ على ستة، وعلى قولٍ رُبع الغرم. وإن رجع سبعة، فقد بطلت الشهادتان، ولا يخفى التفريع، وقد نجز الكلام في فصل واحد من الفصول الثلاثة.
فأما
الفصل الثاني
12183 - فمضمونه الشهادة على ما إذا نفذ القضاء به، لم يُستَدْرك، كالعتق والطلاق، فإذا رجع الشهود بعد نفوذ القضاء، غَرِموا القيمة في العتق، وقد مضى التفصيل فيما يغرمه شهود الطلاق في كتاب الرضاع، على أحسن وجه، وأبلغه في البيان.
والذي لم نذكره ثَمَّ فَرْعٌ فرّعه ابنُ الحداد، وهو: إذا شهد رجلٌ وعشرُ نسوة على أن بين فلان والتي تحته بحكم الزوجية رضاعاً محرِّماً، وقضى القاضي بشهادتهم، وفرّق بينهما، فلو رجعوا عن الشهادة، فالقول في أنهم يغرّمون، وماذا يغرّمون، كالقول في شهود الطلاق، لا فرق بينهما في المغروم.
وإنما غرضنا من هذا الفرع الكلام في كيفية فض المغروم على الرجال والنساء في شهادة الرضاع -وشهادة النسوة لا تتصور في الطلاق- فلهذا فرضنا في الشهادة على الرضاع -فنقدم على ذلك شهادة في المال، ونقول: إذا شهد رجل وأربع نسوة على مال، وقضى به القاضي، ورجعوا، وقلنا: إنهم يغرمون- كما سيأتي في الفصل الثالث - فالمذهب أنه يجب نصف الغرم على الرجل، ونصف الغرم على [النسوة] (1) كم كن وأيَّ عددٍ بلغن، فعلى الاثنتين النصف وعلى العشر فصاعداً النصفُ؛ فإن النسوة -وإن كثر عددهن- في محل رجل واحد، وذهب أبو حنيفة (2) إلى أن كل امرأتين بمثابة رجل. فاذا كانوا رجلاً وأربع نسوة، فعلى النسوة ثلثا الغرامة، وعلى الرجل الثلث، كأنهم ثلاثة من الرجال شهدوا ورجعوا.
__________
(1) في الأصل: " النصف "، والمثبت من (ت 5).
(2) ر. مختصر الطحاوي: 347، بدائع الصنائع: 6/ 287، 288، فتح القدير: 6/ 542.

(19/63)


قال الشيخ أبو علي: قد ذهب إلى هذا بعضُ أصحابنا، وهو بعيد فإذا ثبت ذلك، رجعنا إلى مسألتنا.
فإذا شهد رجل وعشر نسوة على الرضاع، ثم رجعوا بعد نفوذ القضاء، قال الشيخ - نعدّ الرجل بامرأتين في حساب الغرم، فإذا كن عشراً معهن رجل، فنقدّرهم اثني عشر، ونقسم الغرم اثني عشر سهماً، على الرجل سهمان وعلى كل امرأة سهم.
وقد ذكرنا في الشهادة على المال أن المذهب أن نوجب نصف الغرم على النساء كَمْ كن، وفي الرضاع لا نقول ذلك. بل نعدّ الرجل بامرأتين، وامرأتين برجل، والفرق أن النساء أصلٌ في شهادة الرضاع، بدليل أن الرضاع يثبت بشهادتهن وحدهن، ولا يثبت المال بشهادة النسوة وحدهن، فالرجل في المال شطر البيّنة أبداً، وهو معدود في الرضاع بامرأتين على حسب عددهن، فهذا كلام فيه إذا رجع كلهم.
فإما إذا رجع الرجل وست نسوة، فقد بقيت أربع من النسوة مُصرّات على الشهادة، فالمذهب الصحيح أنه لا يجب على الراجعين شيء؛ فإن الشهادة ما انخرمت.
ومنهم من قال: يجب على الراجعين بقدر ما يخصهم لو رجع كلهم، فإذا رجع رجل وست نسوة، فيخصهم ثلثا الغرامة، فيلزمهم ذلك على الحساب الذي قدمناه.
ولو رجع عن الشهادة رجل وسبع نسوة، فإن فرّعنا على القول الضعيف، فيجب على الراجعين من الغرم ما يخصهم لو رجع كلهم، وذلك تسعة أسهم من اثني عشر سهما من جميع المغروم، على الرجل سهمان من التسعة، وعلى كل واحدة سهم منها، وهذا ضعيف.
والصحيح أنه يجب ربع الغرامة؛ فإن الشهادة قد انخرم ربعها، إذ بقيت ثلاث نسوة، فيقسم ربع الغرم على الرجل والسبع نسوة: على تسعة أسهم كما ذكرناه، فهذا هو الذي أردنا ذكره هاهنا.
وتمهيد الأصول في المقدار المغروم المتوجه على الراجعين عن شهادة الطلاق قبل المسيس وبعده مذكور في كتاب الرضاع. فأما

(19/64)


الفصل الثالث
12184 - فمضمونه الكلامُ في الرجوع عن الشهادة بعد نفوذ القضاء فيما يفرض فيه مستدرك، وهو كالشهادة على الأموال. فإذا شهد شاهدان على أن الدار التي في يد زيد لعمرو، ونفذ القضاء بموجَب الشهادة، فإذا رجعا، فلا سبيل إلى نقض القضاء، وهل يغرمان للمشهود عليه قيمةَ الدار؟ فعلى قولين: أحدهما - أنهما يغرمان. وهذا أقيس القولين؛ لأن الشهادة مسلكٌ لو فات بها شيء، وفرض الرجوع، ثبت الغرم، وكل جهة تثبت الغرم عند تحقق الفوات؛ فإنها تُثبت الغرم عند إثبات الحيلولة، والشهادة قد أَثبتت حيلولةً، فلتقتض غرماً.
والقول الثاني - إن الغرم لا يجب؛ فإن التفويت لم يتحقق؛ إذ يتصور من المشهود عليه أن يعترف ويقرّ، ويرد الدار إلى المشهود عليه، وهذا لا يتحقق في الطلاق والعتاق؛ فإنهما بعد نفوذ القضاء بهما لا يتصور فيهما مستدرك، فكانا في معنى الإتلاف المحقق، وهذا القول يعسر توجيهه، ولكنه القول الجديد، ومأخذ القولين قريب من أصل القولين فيه إذا قال الرجل: غصبت هذه الدار من فلان، لا بل من فلان، فالدار مسلّمة إلى الأول، وهل يغرم للثاني قيمة الدار، من حيث تسبب بتقديم الإقرار للأول إلى إيقاع الحيلولة بين الثاني الذي قَرّ عليه إقراره وبين الدار؟ فعلى قولين.
فرع:
12185 - إذا شهد شاهدان، ثم رجعا عن شهادتهما قبل نفوذ القضاء، فلا شك أن القاضي لا يقضي بشهادتهما بعد الرجوع، فإن قالا: تعمدنا الكذب، رُدت شهادتهما عموماً؛ فإن الشهادة ترد بما يورث رَيْباً في شهادة الزور، فإذا اعترفا بتعمد الكذب، فقد تعرضا لهدم منصبهما فيما هو عين المقصود بالشهادة، فإن تابا واستبرأنا أحوالهما، قبلنا شهادتهما في غير (1) تلك القضية، فإن قالا: ما كنا كذبنا، وإنما
__________
(1) ت 5: " عين ".

(19/65)


أظهرنا دعوى الكذب لغرضٍ، قلنا: لا سبيل إلى قبول تلك الشهادة؛ فإنا إذا كنا لا نقبل الشهادة المعادة إذا كانت ردّت بسبب الفسق، فإذا ردّت بالاعتراف بتعمد الكذب، فلأن لا تُقبل أولى، فإن المؤاخذة بالقول الأول قائمة، لا سبيل إلى إزالتها.
***

(19/66)


باب علم الحاكم بحال من قضى بشهادته
قال: " وإذا علم الحاكم أنه قضى بشهادة عبدين أو مشركين ... إلى آخره " (1).
12186 - إذا قضى القاضي بشهادة شاهدين في ظاهر الحال، ثم تبيّن له أنهما مشركان أو عبدان أو صبيان، فالحكم منقوض، وقد أوضحنا أن المعنيّ بالنقض التبيّن، وإلا فليس القضاء أمراً يعقد ويحل.
وذكر القاضي في صدر هذا الفصل أن القاضي لا يجوز له أن يصغي إلى قول المشركين، والعبيد، والصبيان إذا أحاط بحقيقة حالهم، وكذلك إذا كانوا فسقة -وقد تحقق القاضي ذلك- لم يُصغ إلى شهادتهم، وقد قدمت من قبل تردداً في ذلك.
وقد تحصل لنا ما يجب الاستقرار عليه في الإصغاء إلى شهادة الفسقة. أما المعلنون بالفسق، فلا ينبغي أن يصغي القاضي إلى شهادتهم - إلا أن يصح مذهبٌ في قبول شهادة المعلنين، ويرى القاضي أن يصغي، فلا معترض عليه في مجتَهد.
ولو أصغى إلى شهادة العبيد، ليقبلها على رأي أحمدَ (2)، وطوائفَ من أئمة السلف، فلا معتَرَضَ. وإن كان لا يقبل قطعاً -وسبب الرد ظاهر- فالوجه ألا يصغي كما لا يصغي إلى شهادة المشركين، والعبيد، والصبيان.
وإن كان الفاسق مكاتماً، وكان القاضي عالماً بفسقه، فهذا موضع التردد؛ فإنه لو منعه من إقامة الشهادة، لكان ذلك هتكاً للستر، فالوجه أن يصغي ثم لا يَقْضي، والقياس ألا يصغي إلى من يعلم أنه مردود. والوجه أن يقدم النُّذُر إلى من يريد الإقدامَ على الشهادة من هؤلاء؛ حتى لا يتعرضوا، فإن فعلوا، فهم الذين هتكوا أستار أنفسهم.
__________
(1) ر. المختصر: 5/ 260.
(2) ر. رؤوس المسائل الخلافية للعكبري: 6/ 1005، مسألة رقم: 2257، الإنصاف: 12/ 60، كشاف القناع: 6/ 426، شرح منتهى الإرادات: 3/ 550.

(19/67)


ولو قضى القاضي بشهادة رجلين، وبانا فاسقين، وتبين اقتران فسقهما بوقت القضاء، ففي المسألة قولان: أقيسهما - أن الحكم منقوض؛ لأنه بأن من الشهود ما لو عُلم حالةَ القضاء، لامتنع القضاء بشهادتهم، فاشبه الرق والكفر.
12187 - قال الشافعي: " شهادة العبد أقرب (1) من شهادة الفاسق؛ لأن ردّ شهادة الفاسق بالنص. قال تعالى: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6]، وقال: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2]، وقال: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282].
وردُّ شهادة العبد بالتأويل (2)، ثم قال: " من العلماء من قبل شهادة العبد، وهو أحمد وغيره. ورد شهادة الفاسق متفق عليه " (3).
فأما وجه القول الثاني، فعسرٌ، ولا يتجه فيه كلام، إلا أن نحوّم على ما ذكره أصحاب أبي حنيفة (4) من أن الفاسق من أهل الشهادة، بدليل مسألة الرد والشهادة المعادة، وهذا على بُعده عن مذهبنا لا متمسك فيه.
ومن أصحابنا من قطع بأن الحكم يتبين انتقاضه إذا [استند] (5) الفسق، وحمل قول الشافعي حيث قال: " لا ينتقض " على فسق يظهر بعد القضاء على قرب العهد، ولكن لا يتبين استناده، فالحكم لا ينتقض؛ وإن كنا نظن أن ذلك الفسق مستند، وعليه تبيّنا فسق الأصول في باب الشهادة على الشهادة.
__________
(1) عبارة الشافعي في الأم والمختصر نصّها: " بل القاضي بشهادة الفاسق أبين خطأ منه بشهادة العبد " (ر. الأم: 7/ 50، والمختصر: 5/ 260).
(2) ر. المختصر: 5/ 260، وفي هذا تصرّف يسير، فليس هو بنص المختصر.
(3) لم نصل إلى هذه العبارة في المختصر في هذا الموضع.
(4) ر. بدائع الصنائع: 6/ 266، فتح القدير: 5/ 65، 6/ 456، تحفة الفقهاء: 3/ 363.
في الأصل: " اشتبه "، والمثبت من (ت 5).
والمعنى أن من أصحابنا من جعل في المسألة طريقة أخرى، وهي القطع يتبين نقض الحكم إذا كان الفسق مستنداً، بمعنى أنه ثبت وظهر معتمداً على أسباب توجب التفسيق كانت سابقة أو مقترنة بالقضاء.
وجعل قول الشافعي: " لا ينتقض الحكم " محمولاً على الفسق الذي يظهر بعد القضاء، ولا يتبين استناده.

(19/68)


12188 - وقال الشافعي: " ولو أنفذ القاضي بشهادتهما ... إلى آخره " (1).
إذا بان الشهود عبيداً، أو مشركين، أو فسقة على القول الصحيح، وحكمنا بانتقاض القضاء على معنى التبين، فإن كان المشهود به عينَ مالٍ، وأمكن استردادها، استردها، وردّها على المشهود عليه، فإن كانت فائتة، غرم المشهود له بدلَها إذا فاتت في يده، وسلّم القيمة إلى المشهود عليه، وإن لم نتمكن من المشهود له، فالقاضي يغرم للمشهود عليه، وفي محل الغرم قولان: أحدهما - يجب في ماله، والثاني - يجب في مال بيت المال، وهذا مما استقصيناه في بابه ضما إلى أحكام خطأ الولاة.
ثم إذا غرم القاضي من ماله مثلاً، فهل يرجع على الشهود بما غرم؟ قال الأصحاب: إن بانوا فسقة، لم يرجع عليهما. وإن بانوا عبيداً أو مشركين، ففي الرجوع قولان: أحدهما - لا يرجع، كما لو بانوا فسقة. والثاني - يرجع.
والفرق أن الفاسق مأمور بكتمان الفسق، مندوب إلى حفظ الستر على نفسه، إلى أن يوفقه الله للتوبة، والمشرك لا يُخفي الشرك، والعبد لا يُخفي الرق، وهما مأموران بإظهار الرق والكفر.
فإن قلنا: يثبت الرجوع - فإن كان المرجوع عليه مشركاً ملتزماً للحكم بذمة أو عهد، فيرجع عليه بما غرِم في الحال. وإن بأن الشاهد عبداً، فحق الرجوع يتعلق بذمته أو برقبته؟ فعلى قولين: أحدهما - أنه يتعلق برقبته؛ فإن ما صدر منه في حكم الجناية. وأروشُ الجنايات تتعلق برقبة العبيد. والثاني - لا يتعلق برقبته؛ لأن العبد يبعد أن يعلق حقاً برقبة نفسه بقول يصدر منه، ولو أقر بجناية موجَبُها مال، لم يتعلق الضمان برقبته.
وقطع الأصحاب في الطرق أن الشاهد لو بان صبياً، فلا رجوع عليه في ماله؛ فإن التقصير من القاضي، والصبا لا يخفى.
وإن فَرَض متكلِّف صبياً مناهزاً شاطّ (2) القدّ قد طُرّ شاربه، فما ذكرناه لا يندفع
__________
(1) ر. المختصر: 5/ 260.
(2) شاطَّ القدّ: من ضط يشط شططاً وشطوطاً، من بابي ضرب وقتل، إذا بعد، وتجاوز، =

(19/69)


بهذه الصورة، وكان القاضي مؤاخذاً بالبحث عن هذا.
وذكر شيخي في الصبي في مثل الصورة التي ذكرناها خلافاً، وهذا لا أعتدّ به، وكان لا يبعد عن القياس إثبات الرجوع على من بأن فاسقاً؛ فإنه إذا ساوى الفسقُ الكفرَ والرقَّ في انتقاض الحكم بسبب ظهوره، لا يبعد في القياس أن يثبت الرجوع عليه أيضاً.
وهذا الذي ذكرناه بيان احتمال، وليس بمذهب. والذي اتفق عليه الأصحاب أنه لا رجوع على الفاسق.
ومما يجب التنبّه له أن المشهود عليه إذا ثبت له تغريمُ القاضي، فليس يبعد عن القياس أن يغرِّم الشاهدَ، حتى يقال: هو بالخيار، إن أحب طالب الشاهد، وإن أحب طالب القاضي. وهذا أيضاً غير منقول من أئمة المذهب، ولكن في كلام الأصحاب ما يدل على هذا، والظاهر المنقول ما ذكرته، من توجيه الطلب على القاضي، ثم هو يرجع، كما فصّلنا.
...
__________
= وأفرط، والمعنى المقصود هنا: أنه متجاوز القامة أو القوام المعتاد من مثل عمره (المصباح. والمعجم).

(19/70)


باب الشهادة على الوصية
قال الشافعي رضي الله عنه: " ولو شهد أجنبيان أن فلاناً المتوفى أعتقه، وهو الثلث في وصيته، وشهد وارثان لعبدٍ غيره أنه أعتقه، وهو الثلث في وصيته، فسواء، ويعتق من كل واحد منهما نصفه " (1).
12189 - هذا ما نقلوه من لفظ الشافعي. والرأي عندنا أن نقدم أصولاً على قدر مسيس الحاجة، ثم نعود إلى بيان مراد الشافعي، فنقول: إذا أعتق المريض عبيداً، وكان الثلث لا يفي بجميعهم، وقد أعتقهم معاً تنجيزاً، فمذهب الشافعي أنا نقرع بينهم، ولا نعتق من كل واحد منهم جزءاً؛ فضّاً للثلث على أقدار قيمهم، وسيأتي هذا مشروحاً، إن شاء الله.
والقياس أن نعتق من كل عبدٍ مقداراً، ولكن ترك الشافعي القياسَ لحديث عمران بن حصين، كما سيأتي إيضاح ذلك، إن شاء الله.
ولو أعتق في المرض عبداً، هو قدر الثلث، ثم أعتق بعده عبداً آخر، هو مقدار الثلث أيضاً، فنقدّم من قدّمه. ولا قرعةَ، وقد تعين السابق والمسبوق. وهذا في التبرع المنجّز في الحياة.
ولو أوصى بعتق عبيد، وكان الثلث لا يفي بهم، ولم يوص بتقديم بعضهم، فلأصحابنا طريقان: منهم من قال: يقرع بينهم، كما لو أعتق عبيداً في مرض موته.
وهذا هو المذهب المعتمد، وقد قطع به الصيدلاني، فقال: لا خلاف في المذهب في ذلك.
وذكر بعض الأصحاب قولين - وأشار إليهما القاضي: أحدهما - القرعة قياساً على العبيد المجموعين في تنجيز الإعتاق في مرض الموت. والقول الثاني - أنا نوزعّ العتقَ
__________
(1) ر. المختصر: 5/ 260.

(19/71)


ولا نقرع في الوصايا، وإنما الإقراع في المعتَقين في الحياة. وهذا القائل احتج بأن القياس التسويةُ بين العبيد في الحياة والممات جميعاً، وتخصيص البعض القرعة، وحرمان البعض خارج عن قصد المتبرع، وعن قياس الاستحقاق؛ فإن المعتق أثبت لكل واحد من العبيد حقاً في العَتاقة. غير أن الخبر مقدم على القياس، وإنما ورد الخبر في تنجيز العتق في الحياة؛ فبقّينا الوصية على القياس في اقتضاء التشريك، ورأينا بين العتق في الحياة وبين الوصية بالعتق فرقاً يقطع أحدَهما عن الثاني، ويُخرج الوصية عن كونها في معنى العتق المنجز، والفرق الذي نبديه ناشىء من عين المقصود.
وبيانه أن القرعة تقتضي تكميل العتق لعبدٍ وتكميل الرق في عبد، وكأن للشرع غرضاً في رفع تبعّض الرق والحرية، وهذا لائق بحالة الحياة؛ فإن المريض لو أعتق بعضاً من عبد، وكان العبد بكماله خارجاً من الثلث، فعتقه الموجه على بعض العبد يسري إلى كماله؛ فلم يبعد التكميل في الحياة، والقرعة تنبني عليه، والتكميل بعد الموت ممتنع؛ فإنه لو أوصى بإعتاق بعضٍ من عبد، وكان الثلث وافياً بتمام العبد، فالعتق لا يسري من بعض العبد إلى كماله، فإذا جرت الوصية على القياس، وانقطعت عن مورد الخبر، [تعين] (1) قياس الاشتراك في الوصية حتى لا يحرم البعض.
ثم من سلك هذا المسلك، لم يفصل بين أن يقع الإيصاء بعتق العبيد دفعة واحدة، وبين أن تترتب الوصايا، فالمترتب منها كالمجموع، والخلاف الذي ذكرناه جارٍ في صور الوصية.
12190 - فإذا تمهد ما ذكرناه، عُدنا بعده إلى شرح كلام الشافعي، وبيان اختلاف الناس فيه.
ظاهر ما نقله المزني أنه إذا أعتق عبيداً، فيعتق من كل واحد بعضُه ولا يُقْرع، وهذا في ظاهره يخالف القانونَ وقاعدةَ المذهب، ولكن اختلف أصحابنا في أن كلام
__________
(1) في النسختين: وتعين.

(19/72)


الشافعي مفروض في العتق المنخز أو في العتق الموصى به، ونحن نذكر التنجيز وحكمه، ونخرّج عليه التعرض لقسمة العتق وفضّه، ثم نذكر الوصية، ونختتم الكلام بتعلق الأصحاب في تنزيل كلام الشافعي على التنجيز والوصية، وما يُظهر كل فريق من فحوى كلامه ومنطوقه.
فأما التنجيز، فإذا أعتق المريضُ عبدين، قيمةُ كل واحد منهما مقدار الثلث، نُظر؛ فإن أعتقهما معاً، لم يختلف الأصحاب في الإقراع. وهذا مورد نص الحديث الذي رواه عمران بن حصين.
فأما إذا أعتق سالماً أولاً، ثم أعتق غانماً، وكان كل واحد منهما ثلثاً، فالمقدم عتق سالم، ولا مجال للإقراع، وإن أشكل الأمر، ولم ندر أيَّ العتقين وقع أولاً، وجوّزنا أن يكون وقوعُهما معاً، والتبس علينا التقدم والترتب والوقوعُ معاً؛ فإنا نقرع بينهما كما لو وقعا معاً.
وإن علمنا تقدم أحدهما على الثاني، وأشكل علينا المتقدم والمتأخر، فالغرض من هذا الموضع يتبين بتجديد العهد بمثال من أصلٍ، وهو إذا عقدت جمعتان في بلدة لا يجوز عقد الجمعتين فيها، فلو وقعتا معاً، لم تصح واحدة منها، ولو تقدمت إحداهما، وتعينت، فهي الصحيحة، وعلى الذين أقاموا الثانية صلاةُ الظهر. وإن لم ندرِ أوقعتا معاً، أم تقدمت إحداهما، فهو كما لو وقعتا معاً.
وأثر حكمنا بفساد الجمعتين أن نقول لهم - إن كان الوقت باقياً: اعقدوا الآن جمعة، فالذي مضى فاسد غيرُ منعقد (1) وإن سبقت إحداهما وأشكلت السابقة، فقولان: أحدهما - أنا نحكم بفسادهما، والثاني - أنا نحكم بصحة جمعة لا بعينها، وأثر ذلك أنا نأمر الجميع بأن يصلى الظهر، ولو أرادوا جمعة في الوقت، لم تقع الموقع.
ولو تقدمت إحدى الجمعتين وتعينت، ثم التبست بعد التعيين، ففي المسألة
__________
(1) عبارة (ت 5): " فاسد غير منعقد، وإن ترددنا، فلم ندر أوقعتا معاً، أو ترتبت إحداهما على الأخرى، فهو كما لو وقعتا معاً، وإن سبقت إحداهما ... إلخ " وهو تكرار واضح.

(19/73)


طريقتان: إحداهما - القطع بأنه انعقدت جمعة، والأخرى - جعل المسألة على قولين، وقد أجرينا مثلَ هذا الترتيب في نكاحين، عقدهما وليان على امرأة واحدة مع خاطبين، والمثال الواحد كافٍ.
12191 - فنعود إلى العتق، ونقول: إذا وقع العتقان في العبدين على صورة لو وقعت الجمعتان عليها، لحكمنا بفسادهما؛ أخذاً باجتماعهما، فنحكم في مثل هذه الصورة من العتق بالقرعة؛ أخذاً بوقوع العتقين معاً، ولو وقعا معاً، لحكمنا بالقرعة لا محالة.
وحيث يختلف القول في صحة جمعة وفسادها، فنطرد القولين في العتقين إذا تُصوّرا بتلك الصورة، وذلك إذا استيقنا الترتيب، ولم ندرك اليقين (1)، ففي قولٍ نقرع إذا حكمنا بفساد الجمعتين، وإذا حكمنا بصحة جمعة لا بعينها، فنحكم بنفوذ عتق في عبد لا بعينه، ثم ليس أحدهما أولى به من الثاني، ولا جمعَ؛ فنُقرع، فنجعل (2) كأنهما يتداعيان عتقاً بينهما، كل واحد يدعيه بكماله، فنحكم بفض العتق عليهما، ونعتق من كل واحد منهما نصفه إذا كان كل واحد موازيا ثلثاً، هذا بيان هذه الصورة. والقيمتان [في] (3) جميعهما متساويتان، كلُّ قيمةٍ ثلث.
12192 - فأما إذا أعتق عبداً قيمته ثلث، وأعتق عبداً آخر قيمته سدس، ثم وقع الكلام في الجمع والترتيب، فإن وقعا معاً فليس إلا القرعة، فإن خرجت القرعة على الكثير القيمة، عتق، ورق القليل القيمة، وإن خرجت القرعة على القليل القيمة، عَتَق كله، وعَتَق من الكثير القيمة نصفُه، ورَقّ نصفُه.
وإن صورنا صورة القولين؛ فإن أقرعنا، فالجواب ما ذكرنا، وإن أردنا التقسيط، فقد اختلف أصحابنا في كيفيته؛ فمنهم من قسط على الدعوى، وقال: الكثير القيمة يقول للقليل القيمة؛ نصفي يعتق في كل حساب، لا نزاع فيه، وإنما النزاع في نصفي
__________
(1) ت 5: " التعين ".
(2) سقطت من (ت 5).
(3) زيدة من (ت 5).

(19/74)


الآخر؛ فأنا والقليل القيمة نزدحم وراء ذلك؛ فيقسم العتق بين نصفي الثاني وبين جميع القليل القيمة نصفين، فيعتق من القليل نصفه، ويعتق من الكثير ربع آخر، فيعتق ثلاثة أرباع الكثير القيمة ونصف القليل القيمة، وهذا وجه.
ومن أصحابنا من سلك مسلكاً في قسمة العتق بينهما، فقال: الكثير القيمة ضِعف القليل القيمة، والقليل القيمة نصف الكثير القيمة؛ ويعتق منهما مقدار ثلث المال، فالكثير القيمة يقع مع القليل القيمة ثلثين، والقليل القيمة يقع مع الكثير القيمة ثلثاً، فيضرِبُ الكثيرُ بالثلث كلِّه، ويضرب القليلُ بنصف الثلث، فنوزِّع الثلث عليهما أثلاثاً، نصرف ثلثيه إلى الكثير القيمة ونصرف ثلثه إلى القليل القيمة، فيجب من ذلك أن يعتق الثلثان من الكثير، والثلث من القليل، وفي ذلك استكمال الثلث.
وقد قال الأصحاب: لو تداعى رجلان وصيتين، فأقام أحدهما البينة أن الموصي أوصى له بكل ماله، وأقام الآخر البينة أنه أوصى له بثلث ماله، وأجاز الورثة الوصية في كل المال؛ فإنهما يقسمان المال بينهما على حساب العول، فإن أحدهما يضرب بثلاثة أثلاث المال، والثاني يضرب بثلثه، وحساب العول يقتضي أن يكون المال أرباعاً بينهما: ثلاثة أرباعه للموصى له بالكل، وربعه للموصى له بالثلث.
ومذهب أبي حنيفة (1) أن المال يقسم بينهما على الدعوى، فيقول صاحب الجميع: الثلثان لا نزاع فيهما، فلْيُسلّما إليّ. ويبقى الثلث بيننا، أنا أدعيه وأنت تدعيه، فنُقَسِّم هذا الثلث بيننا نصفين، فيخلص لصاحب الجميع خمسةُ أسداس المال، ولصاحب الثلث سدسه، والأصحاب لم يذكروا هاهنا إلا مذهب العول، ورأوا مذهب التداعي لأبي حنيفة، وقد ذكرنا مذهب التداعي وجهاً لأصحابنا في مسألة عتق العبدين، وأحدهما ثلث والثاني سدس، ولا فرق قطعاً بين المسألتين. فيلزم من ذكر قسمة التداعي وجهاً ومذهباً لنا أن نطرد ذلك الوجهَ في الصورة التي ذكرناها آخراً في الوصية وأمثالها، حتى نجري التداعي مهما (2) اتجه إجراؤه.
__________
(1) ر. مختصر اختلاف العلماء: 5/ 9 المسألة: 2153، المبسوط: 27/ 148، بدائع الصنائع: 7/ 375، الفقه النافع للسمرقندي: 3/ 1412.
(2) مهما: بمعنى إذا، وفي (ت 5): " ومهما ".

(19/75)


12193 - وكل ما ذكرناه طريقة واحدة للأصحاب؛ فإنهم قالوا: نصُّ الشافعي محمول على العتق في العبدين إذا نُجِّز في حالة الحياة والْتبس المتقدمُ والمتأخر. وقال هؤلاء: لو فرضنا الوصية بعتق عبدين بعد الموت، فليس فيهما إلا الإقراع، سواء جمع الموصي الوصيتين أو قدم إحداهما ذكرا على الأخرى من غير أن يوصي بمراعاة ترتيبه في تقديمه وتأخيره، وذلك لأن التفاوت في الذكر لا أثر له في الوصايا؛ إذ وقوع جميعها بعد الموت -وإن ترتبت في الذكر- فصارت الوصيتان بالعتق في العبدين بمثابة تنجيز العتق فيهما معاً في مرض الموت. هذه الطريقةُ المثلى.
واستتمامه أنه لو أوصى بعتق عبدين وأوصى بتقديم أحدهما عند ضيق الثلث، فلا شك أنا نمتثل أمره، فإن أشكل الأمر، فلم ندرِ أنه أوصى بتقديم سالم أو بتقديم غانم، فيعود في هذه الصورة صورة الوفاق، والقولين في أنا نقرع أو نوزع، كما ذكرناه في العبدين المعتقين في الحياة إذا سبق أحدهما، وأشكل عين السابق.
12194 - ومن أصحابنا من قال: مسألة (السواد) (1) مفروضة في الوصية بعتق العبدين، ثم هؤلاء رأوا الشافعي وزع العتق على العبدين، فالتزموا التوزيع في الوصايا، وخصصوا القرعة بالعتق المنجز في الحياة، وقد قدمنا ذكر ذلك، ثم لم ينظروا إلى التقدم والتأخر، بل قالوا: [لو] (2) أوصى بعتق العبدين جمعاً في الذكر، وزعنا مقدار الثلث عليهما. وهذا مسلك ضعيف رمز إليه بعض الأصحاب، وصرح به القاضي نقلاً ثم زيّفه.
12195 - وقد انتجز حكم المسألة، وبقي تعلق كل فريق بلفظ الشافعي، ونحن ننقل لفظه على وجهه، ونذكر متعلَّق الأصحاب فيه (3)، قال: " لو شهد أجنبيان أن فلاناً المتوفى أعتقه، وهو الثلث في وصيته، وشهد وارثان لعبد كيره أنه أعتقه، وهو الثلث في وصيته، عتق من كل واحد منهما نصفه ".
__________
(1) السواد: هو مختصر المزني، كما ذكرنا ذلك مراراً، والمر اد المسألة التي ذكرها الإمام في أول الفصل.
(2) زيادة من المحقق اقتضاها السياق.
(3) ت 5: " منه ".

(19/76)


فمن قال من الأصحاب المسألة في تنجيز العتق رأى صريح اللفظ موافقاً له؛ فإن الشافعي قال: "أن فلاناً المتوفى أعتقه" وهذا صريح في التنجيز، ومن رأى حَمْلَ كلام الشافعي على الوصية حمل قولَه " أعتقه " على الوصية بالعتق، وقال: معناه أوصى بعتقه. واستدل على ذلك بأنه ذكر على الاتصال بهذه المسألة لفظَ الإعتاق، وصوّر الرجوع عنه، والرجوعُ عن الإعتاق المنجز غير ممكن من المعتِق، وقد قال: " لو شهد وارثان أنه رجع عن عتق الأول، وأعتق الآخر، [أجزتُ] (1) شهادتهما " فدل أن الحمل على الوصية أوجَه.
هذا منتهى كلام الأصحاب في ذلك، مذهباً، وتصرفاً على اللفظ، وتنزيلاً لكلام الشافعي على التنجيز أو الوصية.
فصل
قال: " ولو شهد الوارثان أنه رجع عن عتق الأول ... إلى آخره " (2).
12196 - إذا شهد أجنبيان بأنه أوصى بعتق عبده غانم، وهو ثلث ماله، وشهد وارثان بأنه وصى بعتق عبده سالم، وكل واحد من العبدين ثلث، وشهد الوارثان أنه رجع عن الوصية لغانم - قال الشافعي والأصحاب معه: جازت شهادة الوارثين في الرجوع، ونفذ العتق في العبد الذي عيّناه.
وتعليل ذلك أنهما ليسا يجران بهذه الشهادة نفعاً إلى أنفسهما في مالية، وإنما ينقلان الوصية من عين إلى عين؛ فإنه لو ثبتت الوصيتان، ولم يثبت رجوع، لكان للورثة ردهما إلى الثلث بمسلك يقتضيه الشرع، فلا تهمة إذاً، والوجه قبولُ شهادة الوارثَيْن في الرجوع عن إحدى الوصيتين. قال الشافعي: لا أنظر إلى الولاء، كأنه عرف من مذهب بعض الناس أنه لا يقبل شهادة الوارثين، إذ قد يكون لهما غرض في عين أحد العبدين، وقد يكون لهما غرض في ولاء أحدهما بأن كان كسوباً جمّاعاً، فيطمع الوارثان في حيازة ما يكتسبه إذا مات.
__________
(1) في الأصل: " أجيزت "، والتصويب من نص المختصر.
(2) ر. المختصر: 5/ 260.

(19/77)


ثم قال الشافعي: هذه أمور موهومة، لا يجوز رد الشهادة بأمثالها، إذا لم تكن تهمة في الحال ناجزة في مقدارٍ من المال.
هذا بيان صورة. وهي إذا كان قيمة كل واحد من العبدين ثلثاً.
12197 - فأما إذا شهد أجنبيّان بأنه أوصى بعتق عبده سالم، وهو ثلث ماله، وشهد الوارثان بأنه أوصى بعتق عبده غانم، وهو سدس المال، وشهدا على رجوعه عن الوصية بعتق سالم، فلا شك أنهما جارّان في هذه الحالة؛ من قِبل أن الرجوع لو ثبت عن الوصية الأولى بشهادة أجنبيين مثلاً، لعادت الوصية إلى السدس، فإذا شهد الوارثان على ما يقتضي ذلك، فقد حطّا نصفَ الوصية من الثلث.
12198 - فإذا تبين هذا، فنذكر نص الشافعي أولاً، ثم نذكر تصرف الأصحاب.
قال الشافعي: " يَعتِق العبدان جميعاً، أما القليل القيمة؛ فلإقرارهما بأنه المستحق للعتاقة، وأما الكثير القيمة؛ فلِردّ شهادتهما في الرجوع عن الوصية بعتقه؛ فيعتقان، وإن زاد العتقان على الثلث " (1).
وهذا مشكل جداً؛ فإن غاية الأمر أن تثبت الوصيتان، ويبطل الرجوع عن الوصية الأولى. ولو اعترف الورثة بثبوت الوصيتين جميعاً، ولم يدعيا رجوعاً، لكُنا لا نزيد على الثلث، بل نقرع على الرأي الظاهر، ونقول إن خرجت القرعة على الكثير القيمة عتق، ورَقّ القليلُ القيمة. وإن خرجت القرعة على القليل القيمة عَتَقَ، وعَتق النصف من الكثير القيمة. فإذا رَدَدْنا شهادةَ الورثة على الرجوع، فكأن لا رجوع، هذا وجه الإشكال.
وقد خرّج أصحابنا قولاً في المسألة مخالفاً للنص، وقالوا: نُقرع بين العبدين -كما وصفناه- إذا جرينا على الأصح، وهو الإقراع، وهذا قياسه بيّن، ولكنا نسوق كلام الأصحاب على وجهه، ثم نتعرض لمواقع البحث.
قالوا: القولان -المنصوص منهما والمخرّج- مبنيان على أصلٍ، وهو أن من جمع
__________
(1) ر. المختصر: 5/ 260، والكلام بألفاظ الشافعي ومعناه، وإن لم يكن بنظمه.

(19/78)


في شهادته بين ما يرد شهادته فيه، وبين ما يقبل شهادته فيه، فإذا ردّت شهادته فيما لو أفرده، لردت الشهادة فيه، هل ترد شهادته في المضموم إليه؟ فعلى قولين. وهذا أصل في الشهادات.
ومن صوره أنه إذا شهد بمال مشترك بينه وبين شريكه، فشهادته فيما يدعيه لنفسه مردودة، وهل تقبل شهادته في حصة شريكه؟ فعلى قولين.
فإذا تمهد هذا، وقد نعيده في مسائل الدعوى، إن شاء الله، قال الأصحاب بعده: الوارثان شهدا على الرجوع عن الوصية الأولى، وأثبتا الوصية بالسدس، وتطرقت التهمة في نصف العبد الكثير [القيمة] (1)؛ لأنهما أرادا إبطال الوصية في نصفٍ من غير تعويضٍ ونقلٍ، فكانا جارّين. فأما النصف الآخر من العبد فقد [عَوّضا] (2) عنه العبدَ القليل القيمة، فكان ذلك نقلاً؛ وقد ذكرنا أن تهمة النقل لا توجب رد الشهادة، لكنهما جمعا بين ما يرد لو أفرد، وبين ما يقبل، فإن رأينا رد الشهادة في الجميع، فالجواب ما ذكره الشافعي من الحكم بإعتاق الجبدين جميعاً، وإن رددنا الشهادة في البعض، وقبلنا في (3) البعض، فالجواب هو القول المخرج.
وهذا التصرف مضطرِب من الأصحاب، لما ذكرناه في مقدمة المسألة من أن الشهادة، وإن ردت، فكأن الرجوع لم يثبت، وحصول (4) الوصيتين من غير رجوع عن إحداهما لا يوجب عتق العبدين، هذا وجه الإشكال، ولا يؤثر في هذا ردُّ الشهادة في الجميع أو تبعيض الرد، وتمام البيان وراء ذلك.
12199 - فالوجه عندنا أن يقال: يقرع بين العبدين، فإن خرجت القرعة على الكثير القيمة، عَتَق العبدان، كما قال الشافعي؛ لأنا نبطل الرجوع، والقرعة اقتضت عتق الكثير القيمة، والوارثان يُقران للقليل بأنه العتيق، والعتق مستحق له، فالوجه حمل نص الشافعي على هذه الصورة.
__________
(1) زيادة من المحقق.
(2) في النسختين: " عوضنا ".
(3) ت 5: " من ".
(4) ت 5: " وفضول ".

(19/79)


فلو خرجت القرعة على القليل القيمة؛ فإنه يَعتِق. ويجب أن يقال: لا يَعتِق من الكثير إلا نصفه؛ حملاً على أن لا رجوع، وقد حصل العتق في القليل القيمة على موجَب إقرار الورثة. فإذا حصل ما أقروا به، وبنينا الأمر على إبطال الرجوع، فهذا أقصى اللازم.
فخرج منه أن ظاهر النص مشكلٌ والقول المخرَّجُ على الإطلاق باطل، والحق الذي لا يُدفع، ما ذكرناه.
12200 - فإن قال قائل: لو فرعت هذه المسألة على أن لا إقراع في الوصايا، وأن المتبع فيها القسمة.
قلنا: نفرض هاتين الوصيتين (1) ولا رجوع، ولو كان كذلك يخرج وجهان في كيفية القسمة: أحدهما - القسمة على الدعوى، والثاني - القسمة على حساب العول، كما ذكرنا المسلكين في إعتاق العبدين - الكثير القيمة والقليل القيمة تنجيزاً.
ثم إذا أجرينا مذهباً نرتضيه، فالوجه أن نقول بعده: يَعْتِق من الكثير ما يقتضيه الحساب، ويعتق تمام القليل القيمة أخذاً بالإقرار. وقد انكشف إشكال المسألة.
12201 - ونحن نستتم الكلام بذكر صورة، فنقول:
لو شهد أجنبيان بأنه أعتق سالماً تنجيزاً وهو ثلث ماله، فكذبهما الورثة في الشهادة، وقالوا ما أعتق سالماً، وإنما أعتق غانماً، وهو ثلث ماله، فيعتق العبدان لا محالة؛ لأن تكذيب الورثة للشاهدين لا وجه له؛ فإنهما عدلان، والورثة [مؤاخذون] (2) بإقرارهم في غانم، فيعتق غانم لا محالة، ولا دفع لذلك، ويبقى سالم، والشاهدان مصدقان في إعتاقه.
فلو قال قائل: هلا أقرعتم بينهما، حتى إن خرجت القرعة على غانم، ارتد عتق سالم، وينزل هذا منزلة ما لو قال الورثة: صدق الشاهدان، ولكنه أعتق مع سالم غانماً، ولو كان كذلك، لأقرعنا.
__________
(1) ت 5: " الصورتين ".
(2) في الأصل: " مجاحدون ".

(19/80)


قلنا: هذا السؤال يُحمل على تفصيل. فإن قال الورثة أعتق غانماً، وليس في إقرارهم وشهادة الشاهدين تاريخ، وأمكن وقوع العتقين في علم الله معاً، فقد يتجه الإقراع، وقد لا يتجه، كما سنصف.
ولو اشتملت الواقعة على تاريخ، فشهد الأجنبيان على أنه أعتق سالماً يوم السبت، وقال الورثة: كذبا، لم يعتق سالماً، وإنما أعتق غانماً يوم الأحد، فإذا تصورت المسألة بهذه الصورة، فلا إقراع، ويعتق العبدان، وحيث لا يقع التعرض لتأريخ، فالإقراع ممكن على ما خيّله السائل، ثم الجواب أن القرعة لو خرجت على عبد الورثة وهو غانم، لم يَعْتِق سالم، وإن خرجت على سالم، عَتَقَ العبدان بالقرعة والإقرار. هذا مسلك.
وقد يقال: القرعة إنما تجري بين مشكلَيْن، فإذا كان غانم متعيَّناً للعتق لا محالة، فإدراجه في القرعة محال، وسيأتي لذلك نظائر في كتاب العتق، إن شاء الله.
فيلزم منه إذا لم يقرع أن يعتِق العبدان جميعاً، غانم بحكم الإقرار، وسالم باستحالة التكذيب، فهذا منتهى الكلام ونجازه.
فصل
قال: " وقال في الشهادات في العتق والحدود إملاءً ... إلى آخره " (1).
12202 - العبد إذا ادعى على مولاه أنه أعتقه، وأقام شاهدين، واحتاج القاضي إلى مراجعة المزكين في تعديلهما، فلو سأل العبد أن يحال بينه وبين المولى حتى يتفق التعديل أو نقيضه؛ فقد قال الشافعي والأصحاب: يُجاب العبد إلى ذلك، وينفَق عليه من كسبه إن كان له كسب، ويُحفظ ما يفضُل من النفقة، فإن عُدّلت البينة، دُفع فاضل الكسب إلى العتيق، وإن جُرّحت البينة، رُد الفضل على المولى، وإن لم يكن له كسب أُنفق عليه من بيت المال، ثم إن [بان] (2) عتيقاً، [فهو] (3) فقير أنفقنا عليه،
__________
(1) ر. المختصر: 5/ 261.
(2) في النسختين: " كان ".
(3) في الأصل: " وفقيراًَ أنفقنا عليه "، و (ت 5): (فقيرٌ أنفقنا عليه) فالمثبت تصرف من =

(19/81)


وإن [بان] (1) رقيقاً، رجعنا على السيد بما أخرجناه.
ولو لم يسأل العبد الوقفَ، ورأى القاضي ذلك من غير سؤاله، فله أن يفعله على الترتيب الذي ذكرناه.
وإن كان الأمر متعلقاً بأَمةٍ، فحتمٌ على القاضي أن يفعل ذلك.
ولو أقام شاهداً واحداً، وكان يأمل أن يشهد شاهد آخر، فقال للقاضي: حُلْ بيني وبينه حتى أقيم الشاهد الثاني، فهل يجاب إلى ذلك؟ فعلى قولين: أحدهما - أنه يجاب إليه، كما لو أتمّ العدد، وتخلفت التزكية؛ فإن التزكية لا بد منها، كما لا بد من العدد، والقول الثاني - أنه لا يُجاب؛ فإن الشاهد الواحد ليس بحجة، فلا مبالاة به، ولا يغيَّر الحكمُ به، وليس كما لو تخلفت التزكية؛ فإن التزكية إذا ثبتت، تبيّنا أن البينة كانت تمت، ونحن جاهلون بها، وليس كذلك الشاهد الواحد.
12203 - ومما يتعلق بهذا أن البينة لو قامت على استحقاق عينٍ، وتخلفت التزكية، فطلب مقيمُها أن تُزال يدُ المدعى عليه حتى لا يُضيِّع ولا يُغيِّب، فإن أمكن (2) الضياع والتغييب، أجيب المدعي، ووقفت العين؛ ولو شهد شاهد واحد، فقولان، كما ذكرناه في العتق. وإن كانت تلك العين عقاراً لا يتأتى تغييبه ولا يضيع، وقد قامت بينة وتخلفت التزكية، فللأصحاب طريقان: أحدهما - أنه يجاب، فيحال، والثاني - لا يُجاب؛ إذ لا غرض في إيقاع الحيلولة، ثم لا يخفى تخريج الشاهد الواحد على الترتيب الذي ذكرناه.
وإذا أقام شاهدين على الدَّين، وتخلفت التزكية، وطلب أن يحجُر القاضي على المشهود عليه مخافة أن يضيّع ماله أو يحتال، فيُقِرَّ به لإنسان، فهل يُجاب المدعي والحالةُ هذه؟ اختلف أصحابنا: فقال الأكثرون: لا يُجاب، فإن الحجر ضرر عظيم في غير المشهود به، فلا سبيل إلى الإجابة إليه، ولا يتّجه عندنا إلا هذا. وقال
__________
= المحقق على ضوء عبارة الغزالي في البسيط، حيث قال: " فهو فقير أنفقنا عليه من بيت مال المسلمين ".
(1) في الأصل: " كان ".
(2) ت 5: " أوجب ".

(19/82)


القاضي: إن كان يتوسم القاضي هذا في المشهود عليه بأن كان عرفه محتالاً خَصِيماً، فله أن يجيب، وإن لم يتوسم ذلك منه، لم يجب إليه، وهذا الذي ذكره من الحِكم التي لا نبني على أمثالها مسائلنا.
وإذا ادعى على امرأة أنه تزوجها، وأقام شاهدين وتخلفت التزكية، [عزلنا] (1) المرأة ومنعناها من الانتشار، وفي الشاهد الواحد الخلاف. وذكر بعض أصحابنا وجها أنا [لا نعزلها] (2) إذا تخلفت التزكية بخلاف العبد؛ فإن الأصل في المرأة الحرية وتخلية السَّرْب (3). وهذا وجه ضعيف، والتمسك بالاحتياط للبُضع أولى.
قال الصيدلاني: إذا رأينا تخليتها، فهل نأخذ منها كفيلاً ببدنها؟ فعلى وجهين، ذكرهما صاحب التقريب. هكذا حكاه الصيدلاني.
فصل
قال: " وإذا قال لعبده: إن قُتلتُ، فأنت حرٌّ ... إلى آخره " (4).
12204 - إذا قال السيد لعبده: إن قُتلت فأنت حر، ثم قضى السيد نحبه، فشهد شاهدان أنه قُتل، وشهد شاهدان أنه مات حتف أنفه، فقد قال الشافعي: من جعل شاهدي القتل أولى، لأنها أثبتت زيادةَ علم -وهو قول أكثر المفتين- قال: عَتق العبد. ومن لم يجعل إحداهما أولى من الأخرى، قال: سقطت البينتان ولا عتق.
فذكر قولين: أحدهما - ترجيح بينة القتل؛ من جهة اشتمالها على زيادة العلم؛ إذ
__________
(1) في النسختين: عدّلنا، وهو تصحيف واضح، كما تصحفت في البسيط إلى: " عدلنا إلى المرأة "، والمثبت تقدير من المحقق، والحمد لله صدقتنا عبارة الرافعي، إذ قال: " وفى دعوى النكاح تعزل المرأة عند امرأة ثقة، وتمنع من الانتشار والخروج " (ر. الشرح الكبير: 13/ 54).
(2) في النسختين: " لا نعدّلها ".
(3) السَّرْب بفتح السين المشدّدة الطريق، ومنه يقال: خلِّ سَربه أي طريقه (المصباح والقاموس وفي المعجم الوسيط بكسر السين).
(4) لم نصل إلى هذه العبارة في المختصر.

(19/83)


كل قتيل ميت، وليس كل ميت قتيلاً، فعلى هذا يَعتِق العبد. والقول الثاني - أن البيّنتين تتعارضان وتسقطان، ولا عتق، إذا حكمنا بالتهاتُر، وإن حكمنا باستعمال البينتين، فإحداهما تقتضي العتق. والأخرى تقتضي دوام الرق، فسيأتي أقوال استعمال البينتين.
ويخرج [فيها] (1) قول القرعة بين البينتين، فإن خرجت عن بينة الموت رَقَّ العبد، وإن تكن الأخرى عَتق.
ومن أقوال الاستعمال الوقفُ، وهذا لا يخرج هاهنا؛ فإنه لا منتهى له، وهو في التحقيق ضبط العبد، وتعطيل منفعته. وأما قول القسمة، فموجبه إن سبق إليه ذو مذهب أن يعتق النصف ويرق النصف. وفي مثل هذا كلام سيأتي مشروحاً في كتاب الدعاوي إن شاء الله تعالى.
ومما ذكره الشافعي أنه لو قال لعبده سالم: " إن متُّ في شهر رمضان، فأنت حرّ " وقال لغانم: " إن مت في شوال، فأنت حرّ " ومات. وشهد لكل واحد شاهدان، فقد ذكر قولين: أحدهما - شاهدا الموت في رمضان أولى؛ لأن عندهما زيادة علم، وهو إثبات الموت في رمضان. والثاني - هما سواء. قال ابن سريج: بينة شوال أولى؛ لأنه قد يغمى عليه في رمضان، فيظن ظان أنه قد مات. فإن أمكن حمل الأمر على هذا، اقتضى ذلك ترجيحَ بينة شوال، ثم إن رجّحنا بينةً، قضينا بموجبها، ورددنا الأخرى، وإن حكمنا بتعارض البينتين وتساقطهما، فقد عتق أحد العبدين، وأشكل الأمر. ولو اتفق مثل ذلك، لم يخفَ الحكم في أن الرجوع إلى الورثة [أم] (2) كيف السبيل فيه؟ وهو بمثابة ما لو قال: إن كان الطائر غراباً، فسالم حرّ، وإن لم يكن غراباً، فغانم حرّ، ومر الطائر وأشكل الأمر، ومات المولى، وهذا مما تمهد في الطلاق. وغالب الظن أنه سيعود طرف منه في كتاب العتق إن شاء الله.
__________
(1) في الأصل: " منها ".
(2) زيادة من (ت 5).

(19/84)


فصل
12205 - شهادة الحسبة مقبولة في حدود الله. إذ لا مدّعي لها من الآدميين، وليست متعلقة بحظوظهم الخاصة.
والمعني بشهادة الحسبة شهادةٌ من غير تقدم دعوى، والطلاق، والعتاق، وتحريم الرضاع يثبت بشهادة الحسبة، والوقف إن كان على جهة عامة يثبت بشهادة الحسبة، وإن كان على معيّنين، فإن قلنا: الملك في الرقبة لله تعالى - فالذي قطع به الصيدلاني أن شهادة الحسبة تقبل فيه من غير دعوى من الموقوف عليه، والذي ذهب إليه معظم الأصحاب خلاف ذلك؛ فإن الغالب على هذا الوقف حظوظٌ خاصة، متعلقة بأشخاص، فيبعد قبول شهادة الحسبة فيها.
وتقبل شهادة الحسبة في الخلع ليثبت الفراق، لا ليثبت المال، ولا نقول: يثبت المال تبعاً إذا لم يفرض فيه دعوى، ولا يثبت [شراء] (1) الأب من غير دعوى، وإن كان عقَد عَتاقه، لأن المقصود منه التملك (2)، ثم العتق يترتب عليه، هكذا ذكره القاضي، وفي القلب منه شيء، وليس يبعد أن نقول: يثبت بشهادة الحسبة.
والأوجه ما ذكره القاضي؛ فإن العوض رُكنٌ في المبيع، فلو أثبتناه، لأثبتنا العوض من غير دعوى، ولو أثبتنا العتق من غير مال، لكان إجحافاً، وليس كالخلع، فإن العوض غيرُ مقصود فيه، ولست أُبعد في الخلع ثبوتَ المال تبعاً، حتى لا يبطل حق الزوج بالكلية، ولا أبعد أن يثبت الطلاق ولا تثبت البينونة، كما لو خالع الرجل المحجورةَ بالسفه.
ولو تقدم عبدان إلى القاضي، وقالا: أعتق السيد أحدنا، وأقاما البينة، قبلت البينة، وذلك لأن الدعوى وإن فسدت بالتردد، فالبينة مسموعة حِسْبةً مستغنية عن الدعوى.
__________
(1) ت 5: " بشراء ".
(2) المعنى أن عقد شراء الرجل لأبيه هل يثبت، بشهادة الحسبة؛ لأنه في حقيقته عقد عتاقة، فإن من اشترى أباه يعتق عليه، لا محالة.

(19/85)


وإذا شهد شاهدان أن المرأة ولدت الولد على فراش زوجها لستة أشهر فصاعداً، والزوج يقول: أتت به لأقل من ستة أشهر، قال الصيدلاني: تقبل البينة -وإن لم تدّع المرأة شيئاً- حسبةً.
وذكر القاضي أن شهادة الحسبة لا تسمع في الأنساب، فإنها متعلقة بالحظوظ، وهذا يخالف ما ذكره الصيدلاني، والمسألة محتملة.
ويخرج من مجموع ما ذكرناه أن ما يضاف إلى حق الله، فشهادة الحسبة فيها سائغة. وأعلى الدرجات في الحسبة ألا يفرض فيها دعوى.
ومما يلتحق بها ماله تعلق بالحظوظ، ولكن حق الله غالب حتى لا يُدْرأ بالتراضي، كالعتق، وجهات التحريم، وهذه الأقسام من حيث ارتبطت بالحظوظ، اتجهت فيها الدعوى، والأنساب من حيث لا يتصور قطعها، وتأكَّد في الشرع تعظيمُها، ولكن عظمت الحظوظ فيها، فتردد الرأي كما ذكرنا.
فرع:
12206 - إذا شهد للمدعي شاهدٌ على المدعى عليه أنه أخذ منه ثوباً قيمته دينار، وشهد شاهد آخر على أخذ ذلك الثوب، وقال قيمته نصف دينار، فإذا أراد المدعي أن يحلف مع شاهد الدينار، فهل يثبت الدينار؟ فعلى وجهين ذكرهما صاحب التقريب: أحدهما - أنه يجوز له ذلك، كما لو شهد أحدهما أنه أخذ منه ديناراً، وشهد الثاني أنه أخذ منه نصف دينار، فله أن يحلف مع شاهد الدينار، ويطلبَه كاملاً.
وكذلك إذا اختلفا في القيمة، والثاني ليس له إلا نصف دينار؛ فإن الشاهدين قد اختلفا في القيمة واجتمعا على ثوب واحد، وتناقض قولاهما فضعفت شهادة شاهد الدينار، ولم تصلح لتقوية جنبة المدعي، وليس كذلك إذا شهد أحدهما على أخذ دينار وشهد الثاني على أخذ نصف دينار، فإنه لا تناقض بين القولين.
فرع:
12207 - إذا شهد شاهدان في عتق أو مال، ولم يعدّلا بعدُ، فللقاضي أن يوقع حيلولة إلى اتفاق التعديل، هذا هو المذهب الظاهر. وفيه شيء بعيد، لم أورده في القانونَ.
ولو شهد شاهد واحد عَدْلٌ، ففي الوقف خلاف مشهور ذكرته؛ ولو كان ذلك

(19/86)


الشاهد مستوراً، ففي الوقف خلاف مرتب، وغرض الفرع أنا إذا وقفنا، والشاهد واحد، فلا نطيل الوقف، ولكن إن أتى بشاهد في مدة ثلاثة أيام، فذاك، وإن لم يأت بالشاهد الثاني في هذه المدة، رفعنا الحيلولة، ودفعنا المشهودَ به إلى المدعى عليه.
فأما إذا شهد مستوران، وأوقعنا الحيلولة، فإنا نطيل الوقف، ولا نرفع الحيلولة، حتى تتحقق العدالة أو الجرح؛ فإن المدعي أتى بما عليه. والبحث على القاضي؛ فليس من الخصم تفريط؛ نعم على القاضي أن يجدّ ويستحث المزكي.
فرع:
12208 - قال صاحب التقريب: لو اجتمع طائفة، فشهد اثنان منهم لاثنين منهم بوصية في تركة، ثم شهد المشهود لهما للشاهدين بوصية في تلك التركة بعينها، قال الشافعي: لا تقبل شهادتهما، فإنهم متهمون.
قال صاحب التقريب: كذلك لو كان لرجل ديون على طائفة من الغرماء، ولقوم عليهم ديون أيضاً، فتناوبوا في الشهادة على الصورة التي ذكرناها، فالشهادة مردودة.
وعندي أن ما ذكره مشكل، والقياس القطع بقبول الشهادة، ومن أحكم الأصولَ، لم يخف عليه درك ما ذكرناه، ولم أر ما حكاه صاحب التقريب في شيء من الكتب.
فرع:
12209 - قال صاحب التقريب: لا تقبل شهادة القسّام على القسمة، فإنه إنما يذكرها إذا انقضت. والقاسم بعد القسمة كالوكيل بعد العزل، وأيضاً فإن شهادته تتعلق بعين [فعله] (1)، وليس كشهادة المرضعة؛ فإن المقصود منها وصول اللبن إلى الجوف، لا صدر فعل من جهة المرضعة.
فرع:
12210 - الأب هل يحبس في دين ولده؟
ما صار إليه معظم أئمتنا أنه لا يحبس، وكذلك القول في الجد والجدة والأم؛ فإنه لا يتوجه للابن عقوبة على أبيه، والحبس عقوبة، وهذا مذهب أبي حنيفة (2).
وقال أبو زيد المروزي: من أصحابنا من قال إنه يحبس في دين ولده، قال: وهو
__________
(1) في النسختين: فعل، والمثبت من تصرف المحقق.
(2) ر. مختصر اختلاف العلماء: 4/ 282 مسألة: 4/ 200.

(19/87)


القياس عندي؛ فإن الحبس ليس عقوبة مقصودة في نفسها، وإنما هو توسل إلى استيفاء حقٍّ.
وذكر بعض أصحابنا وجهاً ثالثاً - وهو اختيار صاحب التلخيص (1)، فقال: الأب يحبس في نفقة ولده إذا امتنع من الإنفاق عليه، ولا يحبس في غيره من الديون.
ثم إذا قلنا: لا يحبس الأب، فلا سبيل إلى إبطال حق الولد، فمهما (2) أثبت الابن لأبيه مالاً، أخذه القاضي قهراً، وصرفه إلى دين الابن.
ومما يداني ما نحن فيه، الاختلاف الذي قدمناه في أن العقوبة هل تثبت على الأب بشهادة الابن؟ واضطرب الأصحاب في أن الابن الجلاّد هل يقتل أباه حداً؟ والأصح أنه يقتله. والحبس من جملة ما ذكرناه أولى بالنفي. والله أعلم.
...
__________
(1) ر. التلخيص: 655، 656.
(2) فمهما: بمعنى: فإذا.

(19/88)