نهاية المطلب في دراية المذهب

كتاب الدعوي والبينات
12211 - الأصل في الدعاوي (1) قوله صلى الله عليه وسلم: " لو أعطي الناس بدعاويهم، لادَّعى قوم دماء قوم وأموالَهم، لكن البيّنة على المدعي، واليمين على من أنكر " (2). وروي " واليمين على المدعى عليه ". وهذه قاعدة متفق عليها بين الأُمة، فإن وقع نزاع، فهو يؤول إلى نفس المدعي والمدعى عليه، على ما سيأتي شرح ذلك، إن شاء الله.
واختلف العلماء في حد المدعي والمدعى عليه.
فعند أبي حنيفة (3) المدعي من يُثبت الشيءَ لنفسه، والمدعى عليه من ينفيه عن غيره. وذكر أصحابنا جوابين في ذلك: أحدهما - أن المدعي من يدعي أمراً باطناً [خفيّاً] (4) والمدعى عليه من يدعي أمراً ظاهراً جلياً، والثاني أن المدعي من إذا سكت، يترك والسكوت، والمدعى عليه من إذا سكت، لم يترك.
وأثر هذا التردد مأخوذ من قولين، والفرع والأصل متداخلان، كل واحد منهما ملتف بالثاني، فما ذكرناه إذاً أصل مأخوذ من ثمرته وفائدتِه، والقولان فيه إذا أسلم الزوجان قبل الدخول، فإن أسلما معاً، فهما على النكاح، وإن ترتبا في الإسلام، بطل النكاح، فلو اختلفا؛ فقالت المرأة: أسلم أحدنا قبل الآخر؛ وقال الزوج، بل أسلمنا معاً، ففي المسألة قولان: أحدهما - القول قول الرجل؛ فإن المرأة لو سكتت تركت، واستمر النكاح، فهي مدعية، والزوج لو سكت، لم يترك إذا ادعت المرأة.
__________
(1) الدعوى: تجمع على دعاوَى، ودعاوٍ، مثل فتاوى وفتاوٍ (المصباح والمعجم).
(2) حديث " لو أُعطي الناس بدعاويهم .. " سبق تخريجه في باب اختلاف الحكام والشهادات.
(3) ر. بدائع الصنائع: 6/ 224، تحفة الفقهاء: 3/ 181، مختصر الطحاوي، الحاشية رقم (3) ص 351، روضة القضاء: 1/ 165، 166.
(4) زيادة من (ت 5).

(19/89)


فعلى هذا القول " المدعي: من إذا سكت، يترك، والمدعى عليه من إذا سكت، لم يترك ".
والقول الثاني - القول قول المرأة، لأنها تدعي أمراً ظاهراً، وهو ترتب الإسلام؛ فإن إسلامهما معاً يندر، ولا يتفق وقوعه، فعلى هذا؛ المدعي من يدعي أمراً باطناً، والمدعى عليه من يدعي أمراً ظاهراً.
ثم أخذ الإصطخري هذا المسلك في الظهور والخفاء، فردّ دعاوى قبلها كافة الأصحاب، وقال: إذا ادعى رجل من السُّفَّل (1) معاملةَ رجل عظيم القدر في أمر يبعد وقوعه، قال: دعواه مردودة، وهذا كما إذا ادعى الرجل الخسيس أنه أقرض ملكاً مالاً، أو نكح ابنته، أو استأجره لسياسة دوابه، أو ما جرى هذا المجرى، فهذا مردود. والذي ذكره لا تعويل عليه، ولا يسوغ في الدين تشويش القواعد بأمثال هذه الوساوس، ومثل هذا قصد الرسول صلى الله عليه وسلم إذ قال: " لو أعطي الناس بدعاويهم، لادعى قوم دماء قوم وأموالهم ... الحديث ". ووجه التعلق به أن الذي حاذره الرسول صلى الله عليه وسلم ثبوت الدعوى من غير صحة، وأما رد الدعاوي لرعونات الأنفس، فلا سبيل إليه، ثم ما ذكره الإصطخري ردُّ دعوى بظن، وإنما الذي كنا فيه تعيين المدعي والمدعى عليه، وذلك يتعلق بأمارات تغلب على الظنون.
فإن قيل: المودع إذا ادعى رد الوديعة، فليس يدعي أمراً جلياً، فلِمَ جعلتم القول قوله، وأحللتموه محل المدعى عليه مذهباً واحداً. قلنا: إذا ضبطنا المدعى علية بمن لو سكت، لم يترك، لم ينخرم الضبط بمسألة المودَع. وإن قلنا: المدعي من يدعي أمراً خفياً، فسبيل تخريج المودع على ذلك أن الإيداع ائتمان، وحكم الأمانة ثابت شرعاً للمودَع ولا معترض على الشرع، فإذا أنكر المودع الردَّ، فكأنه يُضمِّنه، والأصل أن الأمانة الثابتة لا تزول، وهذا ظاهر الرد، وهو في دعوى التلف أظهر؛ فإن دعوى التلف مسموعة من الغاصب في الرأي الأظهر، وإذا ثبت التلف وحكم الوديعة الائتمان، فلا ضمان.
__________
(1) السُّفَّل: جمع سافل (المعجم).

(19/90)


12212 - ولنا نظر وبحث في المدعي والمدعى عليه نذكره بعد نجاز قاعدةٍ نمهدها.
فنقول: التداعي يفرض على ثلاثة أوجه: أحدها - أن يكون جارياً بين صاحب يد وبين من لا يد له، وصاحب اليد يسمى في اصطلاح الفقهاء الداخل، ومن لا يد له يسمى الخارج بالإضافة إلى الداخل. والوجه الثاني - فرض التداعي بين اثنين في عينٍ تحت أيديهما على الاشتراك. والثالث - فرض دعويين على التناقض من خارجين على صاحب يد، وذلك إذا ادعى رجلان ملكَ دار، كل واحد منهما يدعيها لنفسه.
وإذا نحن مهدنا قواعد الكتاب في هذه الأقسام، كنا مقيمين رسمَنا في تمهيد قاعدة كل كتاب في أوله.
[القسم الأول] (1)
12213 - فنبدأ بالتداعي من الداخل والخارج، فإذا ادعى رجل داراً هي في يد رجل، فأنكر صاحب اليد دعوى المدعي فالخارج في مقام المدعين، وصاحب اليد سماه الفقهاء مدعىً عليه، فالخصومة لا تخلو: إما أن تكون عريةً عن البينة، وإما أن تفرض فيها بيّنة، فإن لم تكن بينة، فالقول قول صاحب اليد مع يمينه. وإنما صدقه الشرع لقوة جانبه، وظهورِ صدقه؛ إذ اليدُ عاضدة فلما رجَّحتْ جَنْبَتَه، قدمه الشرع، ثم لم يكتف باعتضاده باليد، بل ألزمه اليمينَ إن أراد دفعَ الدعوى، وصاحب اليد حيث لا بينة بمثابة المدعى عليه في الدين إذا كان ينكره، فالقول قوله لاستمساكه بأصل براءة الذمة، واليد عند المحصلين أظهر وأقوى، وأولى بالتقوية من الاستمساك ببراءة الذمة؛ فإن اليدَ علامةٌ على الاختصاص، إن لم تكن دالة على الملك بمجردها، وليس للمدعى عليه في الدين دلالة على براءة الذمة، وإنما تعلقه باستصحاب حال - وهو أوهى المتعلقات، إذا سُبرت الأمارات، وخُبرت العلامات.
__________
(1) سمّى الإمام صورَ التداعي أوجهاً، وعاد وسماها أقساماً، فوضعنا هذا العنوان عملاً بما استقرّ عليه تلقيب الإمام.

(19/91)


ولسنا نخوض في صيغة يمين صاحب اليد؛ فإنا سنعقد في كيفية الأيمان فصلاً جامعاً، إن شاء الله.
هذا إذا لم تكن بينة.
12214 - فإن اشتملت الخصومة على البينة، لم تخل إما أن يختص المدعي بالبينة، وإما أن يقيم صاحب اليد بينة أيضاً مع بينة المدعي، وإما أن يجد صاحب اليد بينة دون المدعي الخارج.
فأما إذا أقام المدعي بينة، ولم يعارضه المدعى عليه، فالبينة مقضيّ بها، لا تعارضها يمين صاحب اليد؛ وذلك لأن اليمين وإن كانت حجة؛ فإنها تأتي من قِبل المدعى عليه، وهي قوله، وإن كان مؤكداً بذكر اسم الله تعالى، وبينة المدعي ثابتة من قِبل غيره، ولا حاجة إلى التكلف في تقرير هذا.
ولو وجد (1) المدعى عليه بينة، وأراد إقامتها، نُظر: فإن حاول إقامتها قبل أن يقيم المدعي بينة، فالمذهب الظاهر أنها لا تُسمع منه؛ فإنا في فصل الخصومات نستمسك بأقرب الطرق وأهونِها، والتحليف أقرب من البينة المُحْوِجة إلى رد النظر إلى الجرح والتعديل، والقواعدِ المرعية في الشهادات، فلا حاجة إذاً إلى إقامة البينة.
وخرّج ابن سريج قولاً آخر أن بيّنته مسموعة، فإنه لو لم يُقمها، يحلف، فينبغي أن يسوغ له إقامة البينة، ليستغني عن اليمين، وهذا كالمودَع إذا ادعى التلف أو الرد، فالقول قوله مع يمينه، فلو أراد أن يقيم البينة، جاز له ذلك، ليتسبب إلى إسقاط اليمين عن نفسه، وأيضاً فإن الحالف معرَّضٌ للتهمة. وقد تتطرق إليه المطاعن؛ والبينة العادلة تقطع التهم.
فإن قيل: لم قطعتم بقبول بينة المودَع، وظاهر المذهب أن بينة صاحب اليد لا تُسمع قبل قيام بينة المدعي، فما الفرق؟ قلنا: الذي يقتضيه مقام صاحب اليد في الخصومة الإنكار والنفي، فأما دعوى الملك، فلا حاجة به إليه، وهو صاحب اليد، والمستقل بما تحويه يده، وأما المودَع وإن كان مؤتمناً، فهو في منصب المدعين إذا
__________
(1) ت 5: " وجه ".

(19/92)


ادعى ابتداءَ ردِّ أو تجددَ تلفٍ، فإن الملك في الوديعة ثابت للمودِع، غير أن مقامه في الائتمان صدقه فيما هو مدعٍ فيه، والبينة تليق بحال المدعين، وهذا ظاهر لمن تأمل في الفرق بين القاعدتين.
ولو أقام المدعي البينة العادلة، ولم يبق إلا طلب القضاء بموجبها، فللمدعى عليه الآن أن يقيم البينة على إثبات ملك نفسه فيما في يده.
ولو أقام المدعي البينة، ولم تعدَّل بعدُ، فهل للمدعى عليه أن يقيم البينة قبل تعديل بينة المدعي، فعلى وجهين مرتبين على الخلاف المقدم فيه إذا أراد إقامة البتنة قبل أن يقيم المدعي البينة، ولا يخفى وجه الترتيب والفرق.
12215 - ولو لم تتوجه دعوى على إنسان، فاراد أن يقيم بينة على ما في يده ليسجل القاضي له بالملك، فالمذهب الذي عليه التعويل أن القاضي لا يُصغي إلى بينته على هذا الوجه؛ فإن البيّنة تسمع في خصومة، ولا خصومة في هذه الصورة.
وأبعد بعض أصحابنا، فسوّغ سماع بينته للتسجيل له بالملك؛ فإن اليد المجردة لا تدل على الملك.
12216 - ونحن نذكر من هذا المنتهى ما وعدناه في تحقيق المدعي والمدعى عليه، فنقول: قد ذكر أصحابنا أن المدعى عليه من يدعي أمراً ظاهراً، وهذا الكلام فيه مجازفة وتساهل، فإن المدعي في حكم اللسان، بل في قضية المعقول من يطلب أمراً ويدعيه، والمدعى عليه من ترتبط الدعوى به، وهو ينكرها ويأباها، فيخرج [منه] (1) أن المدعى عليه لا يتصور أن يقيم البينة من وجه كونه مدعىً عليه؛ فإنه منكِر نافٍ، ولا تقوّم البينة على النفي. وهذا يتلقاه الفطن من فحوى الكلام النبوي، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: " البينة على المدعي، واليمين على من أنكر " معناه من نفى الدعوى ورُوي بدل " من أنكر " " واليمين على المدعى عليه "، فالمدعى عليه من أنكر.
__________
(1) في الأصل: " فيه ".

(19/93)


ولكن إذا قامت بينة المدعي، فلصاحب اليد أن ينتصب مدعياً، فيكون مع الخارج متداعيين، ويقيم البينة من وجه ادّعائه للملك، ثم سيأتي الكلام في مقتضى البينتين.
ومن ادُعي عليه دين، فليس له إلا مقام المنكرين؛ إذ لا يتمكن من إثبات، فلما تجرد فيه مقام المدعى عليه، لم تقم البينة.
وأبو حنيفة لم يسمع بينة المدعى عليه بناء على مقامه، ولم يعلم أن الدعوى يتصور صدورها منه؛ فإن اليد لا تنافي نسبة الملك إلى نفسه. فآل حاصل الكلام: أن الشافعي أثبت لصاحب اليد مقام المدعين ليقيم البينة. فهذا القدر هو الذي يليق بهذا الموقف.
وإذا أقام المدعي البينة وعُدلت، فالمدعى عليه إن وجد بينة أقامها، والمذهب الظاهر أنه يكفيه إقامة البينة على الملك المطلق كما أقامها المدعي.
وذهب بعض الضعفة من أصحابنا إلى أن المدعي إذا أقام بيّنة على الملك المطلق، لم تسمع من المدعى عليه البينة على الملك المطلق، بل عليه أن يذكر سبب ملكه، ويجب أن تشتمل بينته عليه، وإنما قال هؤلاء ما قالوه لسؤالٍ ارتاعوا منه، لما قيل: بينة صاحب اليد تعتمد ظاهر يده، فكأنها لا تدل على أكثر مما تدل اليد عليه، فحسبوا الكلام واقعاً، وقالوا: يجب أن يقيم صاحب اليد بينةً، ويسند ملكه إلى سببٍ غير اليد.
وهذا ليس بشيء، والمذهب القطع بأن ذلك ليس بشرط، ولو لم يحكِ القاضي هذا الوجه لما حكيته.
12217 - ثم إذا تعارضت البينتان من الخارج والداخل، فتحقيق القول فيهما يقتضي استعجالَ كلام من القسم الثالث، فإذا ادعى رجلان داراً في يد ثالث، ادعاها كل واحد منهما لنفسه، وأقام على وفق دعواه شاهدين، ففي المسألة قولان في الأصل: أحدهما - أن البينتين تتهاتران وتسقطان، والقول الثاني - إنهما تستعملان.
ثم في كيفية الاستعمال -على قول الاستعمال- ثلاثة أقوال: أحدها - القرعة. والثاني

(19/94)


- القسمة. والثالث - الوقف. وسيأتي تحقيق ذلك في القسم الثالث، إن شاء الله تعالى.
فنقول في الخارج والداخل: إن حكمنا بتهاتر البينتين في حق المدعيين على ثالث، فهاهنا وجهان: أحدهما - سقوط البينتين على قياس التهاتر، فكأن لا بينة، فالقول قول المدعى عليه مع يمينه. والوجه الثاني - أنا لا نحكم بالتهاتر هاهنا، وإن حكمنا به ثَمَّ، فإن بينة صاحب اليد مترجحة بيده، وإنما يتحقق التساقط عند التساوي، فهذا ترجيح بينة على بينة، وهو كتقديمنا رواية كبير معظّم من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم على رواية [عدد] (1) من آحاد الصحابة.
وإذا ادعى رجلان على ثالث، فلا ترجح لأحدهما على الثاني، هذا إذا فرّعنا على قول التهاتر.
وإن فرّعنا في القسم الثالث على قول الاستعمال، فثم ثلاثة أقوال، لا يجري منها قولهٌ في الخارج والداخل، لا الوقف، ولا القرعة، ولا القسمة، وإنما يجري هاهنا هذا الترجيح باليد فحسب.
غير أنا إذا فرعنا على قول القرعة، فمن خرجت له القرعة، فهل يحلف مع القرعة؟ فيه وجهان، سيأتي ذكرهما، إن شاء الله تعالى، فاختصاص الداخل باليد هل يكون كخروج القرعة؟ اختلف أصحابنا على طريقين: فمنهم من قال: نُجري الوجهين في التحليف، كما أجريناهما في قول القرعة. ومنهم من قطع أن لا تحليف هاهنا، فإن هذا اختصاص ثابت، والقرعة وفاق، ولو أديرت لما ميّزت ظالماً من مظلوم؛ فيجب التثبت لأمرٍ الآن. وهو أنا نحلّف الداخل مع البينة في التفاريع على وجهين: قد نحلّفه على قول التهاتر لإسقاط البينتين، واعتقاد أن الخصومة خليّة عن البيّنة، وقد نحلّفه للترجيح. كما ذكرنا في تحليف من خرجت عليه القرعة.
__________
(1) في النسختين " عدل " والمثبت من تصرف المحقق؛ فإن الصحابة كلهم عدول -رضي الله عنهم جميعاً- وللإمام في البرهان (فقرة 1203) كلام في مثل هذا المسلك من الترجيح بين الأدلة حيث قال: " الغالب على الظن أن الصِّدِّيق رضي الله عنه لو روى خبراً، وروى جمع على خلافه خبراً، لكان الصحابة يؤثرون رواية الصديق ".

(19/95)


ثم سرّ هذا الفصل أنه إذا كان يحلف لاعتقاد خلو الواقعة عن البينة، حلف على النفي، وإذا كان يحلف لترجيح بينته حلف على إثبات الملك، كما يحلف من خرجت له القرعة.
ونقول بعد ذلك: بينة المدعى عليه في مسلك بعض الأئمة مُثبتةٌ له ملكاً، وعلى هذا الوجه انتهى التفريع إلى سماع بينته أولاً، وهي عند بعض الأئمة قادحة في بينة المدعي بالمعارضة والمناقضة، وليست [مفيدةً] (1) ملكاً. وقد انتهى هذا الطرف من الكلام، وحان أن نأخذ في طرف آخر من هذا القسم (2)، فنقول:
12218 - إذا أقام المدعي بينة عادلة، ولم يتمكن المدعى عليه من إقامة بينته، فأزال القاضي يده، وسلّم العين المدعاة إلى المدعي، فلو جاء المدعى عليه ببينته، وقال: أحضرت بينتي؛ فهل يسمعها؟ وكيف الطريق فيها؟ فعلى وجهين، ذكرهما القاضي، وقال: أظهرهما - أن البينة لا تُسمع، لأنا نفضنا يده، وأجرينا القضاء به، فلو قبلنا بينته، لكان ذلك نقضاً للقضاء السابق، إلا أن يقيم البينة على تملك من جهة المدعي، الذي هو صاحب اليد الآن. هذا وجه. وعليه بحث سنذكره.
والوجه الثاني - نسمع بينته؛ لأنها تستند إلى يده ونقضي له، كما كان يقضى له لو أقام البينة ويده بعدُ قائمة دائمة؛ فإن يد المدعي ترتبت على يده في ظاهر الأمر.
وهذان الوجهان مبهمان، ونحن نوضحهما بالبحث والتفريع. فأما الوجه الأول - الذي رآه القاضي أظهرَ الوجهين - ففيه شيء، وهو أنه قال: ينبغي أن يقيم بينةً على تلقي الملك من المدعي، وهذا فيه نظر؛ فإنه لو أقام بينة على تلقي الملك من سبب آخر، وجب قبول بينته. وإنما لا نقبل بينته إذا لم يذكر سبباً أصلاً، واقتصر على ادعاء الملك المطلق، فلا معنى لاشتراط التلقي من هذا المدعي، وحاصل هذا الوجه أن البينة المطلقة كانت تسمع من هذا الشخص في حال دوام يده، على المذهب الظاهر، وإذا أزيلت يده، فجاء ببيّنة مطلقة، فقد لا تُسمع، والبحث بعدُ قائم.
__________
(1) في الأصل: " مفسدة ".
(2) يعني القسمَ الأول من أقسام التداعي، وهو أن يجري بين صاحب يد ومن لا يدَ له، وُيعبّر عنه أيضاً بين الداخل والخارج.

(19/96)


فأما إذا فرّعنا على الوجه الثاني - فشرطُ (1) سماع بينة المدعى عليه -إن أراد الفوز بالاسترداد- أن يُسند ببينته الملكَ إلى حال قيام يده، ثم بديمومته له في حالة الدعوى. فلو أقام البينة على الملك المطلق حالة الدعوى، لم تفده هذه البينة تقديماً، وسلطنة في استرداد ما أخرج من يده، فلو لم تتعرض بينته [لإسنادٍ] (2)، وإنما تعرضت للملك بحالة الدعوى، فهذا رجل خارجي ابتدأ الدعوى وأقام بينة.
12219 - وننعطف من هذا المقام إلى إتمام البحث الذي وعدناه، فنقول: إن أقام بينة مستندة إلى حالة اليد، فهذه البينة هي التي ردّها الأولون؛ فإنا لو قبلناها، لنقضنا حكمنا، حتى لو ادعى ملكاً مطلقاً غيرَ مستند، فخارجيٌّ ادعى، والسبيل في فصل الخصومة بيّن، وانتظم من مجموع ذلك أن البينة المطلقة التي ليست مستندة مسموعة، على الوجهين، ولو كانت مستندة، فهي مردودة في الوجه الأول، مقبولة في الثاني مقدمة. هذا تمام الكشف في ذلك.
ولو أقام المدعي بينة على الملك المطلق، وأقام صاحب اليد بينة على أن الدار ملكُه اشتراها من المدعي، فقد قال الصيدلاني: صاحب اليد أولى في هذه الصورة.
وقال القاضي: إذا أقام صاحب اليد البينة على هذا الوجه، قلنا له: أقررت للمدعي بالملك، فسلّم إليه، ثم ادّع البيع ابتداء.
وهذا الخلاف يرجع إلى أصل شبّب به القاضي مراراً، وصزح مراراً في الديون، وأوضح مراده في دعوى العين هاهنا. ونحن نذكر هذا الغرض موضَّحاً في الدين، ثم نقرره في دعوى العين، إن شاء الله.
فأما الكلام في الدين؛ فإذا ادعى رجل ألف درهم على رجل، فقال المدعى عليه: قد أبرأني عن هذا الألف، فدعوى الإبراء منه إقرارٌ بأصل الحق، فلو أراد أن يُحلّف المدعي على نفي البراءة، فلا شك أن له ذلك؛ فإن دعوى الإبراء دعوى منتظمة مسموعة، وترتيب الخصومة إسعاف المدعي بتحليف المدعى عليه، ولكن لو قال
__________
(1) ت 5: " فيشترط ".
(2) في الأصل: " لاستناد "، والمثبت من (ت 5).

(19/97)


المدعى عليه (1)؛ قد اقررتَ بحقي، فأدّه وسلّمه إليّ، ثم ادعّ ما شئت. فقال المدعى عليه: لا تستحق قبض شيء ما لم تحلف على نفي البراءة، فإن استحقاقك موقوف على نفي البراءة.
فالذي ذهب إليه الأصحاب أن المدعي لا يملك المطالبة بتوفية الحق ما لم يخرج عن عهدة دعوى الإبراء؛ بأن يحلف على نفيه. وقال القاضي: له أن يلزمه المال قائلاً: قد انتهت الخصومة الأولى بإقرارك، ولزمك توفية ما ثبت عليك، فوفّني حقي، ثم افتتح خصومة تريدها.
ولا خلاف أن المخاصِم لو كان وكيلاً، وكان الموكِّل غائباً، فادعي خصم الوكيل أن موكّله قبض الحق منه، ولا سبيل إلى تحليف الوكيل، فالخصومة لا تتوقف إلى حضور الموكل من مكانه الشاسع. هذا وجه التردد في الدّين.
فأما الكلام في دعوى العين، فإذا أراد المدعى عليه أن يقيم بينة على أنه اشتراها من المدعي، فللمدعي أن يقول عند القاضي: أزل يدك وردّ الدار إليّ، ثم ادّع الشراء وأثبته، وعلى هذا الأصل خرج جوابه.
وعند الصيدلاني وغيرِه: إذا حضرت البينةُ لم نُزل يدَه، فإن استحقاق المدعي في الحال لا يتحقق مع تقدم شراءٍ منه، فهذا مقام يجب التنبه له.
ولو قال المدعى عليه: اشتريت هذه الدارَ منك، وفرّعنا على ما ذكره الصيدلاني من أن بينة الشراء لو كانت حاضرةً، لسمعناها، ولا نبتدر يدَه بالإزالة. فعلى هذا لو قال: لا تزيلوا يدي وأمهلوني ثلاثة أيام لأقيم بينةً على الشراء، فلا نمهله بلا خلاف، إذا أقام المدعي بينة على الملك المطلق.
12220 - ومن الأصول الجلية التي لا تخفى على الشادين لو ذكرت لهم، وهى تثير في مجاري الكلام إشكالاً، أن من أقر لإنسان بملك مطلق، أو بملك مترتب على سبب، مثل أن يقول: كانت الدار ملكي، فبعتها من فلان بيعاً صحيحاً، فإذا صح الإقرار، فحكمه مستمر على طوال الأمد، ومهما ادعى المقر الملكَ في ذلك المقرّ
__________
(1) المراد (المدّعي الأول) ولكن سمي مدَّعىً عليه، لأنه ادّعى عليه أنه أبرأه، فمن هنا صح قوله: " قال المدعى عليه: أقررتَ بحقي ".

(19/98)


به، قام إقراره حجة عليه، وكان مؤاخذاً به. وإن كان لا يمتنع أن يتجدد له الملك في ذلك المقَر به. ولولا هذا الأصل المتفق عليه، لما كان في الأقارير حجةٌ، ومتعلَّقٌ، على ما رآه الأولون، فإذاً مهما ادعى المقِر ملكاً، فدعواه مردودة، إلا أن يسنده إلى التلقي من المقَر له، أو يسنده إلى التلقي ممن تلقى منه.
ولو ادعى رجل ملكاً في يد إنسان، وأقام بينة على ملك نفسه، ووقع القضاء بموجَب بينتِه له، فلو جاء المدعى عليه -بعد زوال يده، والقضاء بالملك للمدعي- وادعى أن هذه الدار ملكي، فقد تلقيت من كلام الأصحاب في هذا تردداً في أن دعواه المطلقة هل تسمع؟ وليقع الفرض فيه إذا لم تكن له بينة.
فالذي ذهب إليه الأكثرون أن الدعوى على الإطلاق مسموعة هاهنا بتأويل التلقي، وإن لم يذكره. ومنهم من قال: لا بد وأن يذكر في دعواه تلقي الملك ممن قامت له بينة، كما ذْكرناه في الإقرار، ومن سلك المسلك الأول فرّق بأن المقر مؤاخذ بحكم قول نفسه، والبينة لم تشهد إلا على الملك في الحال، فلم ينبسط أثرها على الاستقبال. وهذا الذي ذكرنا، في المدعى عليه.
فأما إذا جاء أجنبي وادعى ملك الدار مطلقاً، فدعواه مسموعة، وإن قامت البينة بالملك للمدعي من قَبْلُ، وتلك البينة موجبها انتفاء الملك عن الناس كافة دون المدعي! فليتأمل الناظر هذا الموضع.
فرع:
12221 - إذا أقام المدعي بينة، وقضى القاضي بها، ولم يُزِل بعدُ يدَ المدعى عليه حسّاً، ولكن قضى باستحقاق إزالتها، فلو أراد صاحب اليد أن يقيم بينة بعد نفوذ القضاء باستحقاق يده؛ فهذا مرتب على ما إذا أزال يده، ثم أراد أن يقيم البينة كما تقدم تفصيله، فإن قلنا: بينته مسموعة بعد إزالة يده حساً، فلأن تسمع حيث لم تزل يده بعدُ أولى. وإن قلنا: إذا أزيلت يده، لم تسمع بينته مستندة إلى يده، فهل تسمع إذا جرى القضاء ولم تزل اليد بعدُ؟ فعلى وجهين، والفرق لائح. وقد نجز مقدار غرضنا في القسم الأول (1).
__________
(1) القسم الأول من أقسام التداعي.

(19/99)


[القسم الثاني] (1)
12222 - فأما إذا تعلق التداعي برجلين في عينِ تحت أيديهما، وذلك إذا تنازعا داراً في يدهما، فقال كل واحد منهما جميع الدار لي، فتنزيل المسألة من طريق التصوير أن كل واحد منهما مدعىً عليه في نصف الدار مدع في نصفها؛ فإن يد كل واحد منهما ثابتة على نصف الدار، فأول ما نذكره بعد التصوير أنه إذا لم يكن لهما بينة، فلا شك أنهما يتحالفان. ونص الشافعي في الكبير أنه يحلف كل واحد منهما على النفي. ولا يجمع في يمينه بين النفي والإثبات في أول الأمر، ونَصَّ في البيع على أن المتبايعين إذا تبايعا، وتنازعا، وتحالفا، يجمع كل واحد منهما بين النفي والإثبات؛ فاختلف أصحابنا: فمنهم من جعل في المسألتين قولين بالنقل والتخريج: أحدهما - أنه يجمع كل واحد في يمينه بين النفي والإثبات. والثاني - يحلف على النفي فيهما.
ومن أصحابنا من أجرى المسألتين على ظاهرهما، وفرّق بأن قال: في البيع مُثبَتُه في ضِمْنِ منفيِّه ضرورةَ؛ لاتفاقهما على أن العقد واحد. وفي مسألة الدار ليس المثبت في ضمن المنفيّ، لأنه إذا نفى ما في يده عن صاحبه، لم يصر به مثبتاً ما في يد صاحبه لنفسه. وإن شئت عبرت عن هذا بعبارة أخرى، وقلت: في البيع ما هو مدعىً فيه غير ممتاز عما هو مدعىً عليه فيه؛ إذ العقد واحد. وفي مسألة الدار ما هو مدعىً فيه يمتاز عما هو مدعىً عليه فيه؛ فإن النصف الذي يدعيه غيرُ النصف الذي يُدّعى عليه.
ومن هذا الموضع نقول: ما يتعلق بتحالف المتبايعين، فلسنا نخوضُ فيه؛ فإنه مستقصىَ في كتاب البيع. وإنما نذكر ما يتعلق بتنازع المتداعيين في الدار، وقد حصل طريقان: أحدهما - القطع بأنهما إذا تداعيا، لم نحلّف واحداً منهما ابتداء إلا على النفي، ثم سنفرع ما يؤدي إليه الكلام. والطريقة الثانية: أن المسألة على قولين: أحدهما - ما ذكرناه. والثاني - إن كل واحد منهما يحلف على النفي والإثبات يجمع بينهما في يمين واحدة. والأصح القطع بالاقتصار على النفي.
__________
(1) العنوان من وضع المحقق اتباعاً لتقسيم الإمام وتلقيبه.

(19/100)


التفريع عليه:
12223 - إذا أخذنا بالتحليف، وبدأنا بأحدهما باختيار القاضي، أو بالقرعة -وفيه اختلاف ذكرته في كتاب البيع- فيحلّفه على النفي فيما هو تحت يده، ينفي عنه دعوى صاحبه، ولا ينبغي أن ينفي ملكه عن جميع الدار؛ فإنه مدعٍ في نصفٍ، والمدعي لا يحلف على النفي، فإن حلف، ونفى دعوى صاحبه في النصف الذي في يده، وحلفناه صاحبه، فحلف على هذا الوجه، فَيُقَرُّ كل واحد على نصف الدار.
وإن حلفنا الأول، فحلف على النفي وحلّفنا الثاني، فنكل، رددنا اليمين على الأول، فيحلف الآن على إثبات الملك في النصف الذي هو في يد صاحبه، وهذا مثار إشكال نوضحه بسؤال، ثم نستعين بالله ونجيب عنه.
فإن قيل: كيف تخصص يمينه بالنصف الذي في يد صاحبه؟ وهذا على الشيوع لا يتصور التعيين فيه؟ فأي اختصاص ليمينه بأحد النصفين؟ وكيف يتميز نصف عن نصف؟ ثم كيف يستحق جميع الدار بيمينٍ على نصفها؟ ولو قلنا: يحلف على جميع الدار، لكان حالفاً على الإثبات فيما هو مدعىً عليه فيه؟
قلنا: يمين الرد تُثبت ما كان ينفيه المستحلَف لو حلف على النفي، فإذا لم يحلف ونكل (1)، جاء المردود عليه بإثبات ما كان ينفيه، ومعلوم أنه كان لا ينفي إلا النصف الذي هو صاحب اليد فيه؛ فيقع الرد في النصف؛ وتثبت الدار في يد المردود عليه على حكمين، نصفها بحكم الملك المتلقى من يمين الرد، وهي كَبيِّنةٍ أو إقرارٍ، ونصفها بحكم اليد المستقرة؛ فإنه حلف فيها نافياً دعوى صاحبه، فانقطع خصامه فيه، إلا أن يجد بينة.
فإن قيل: لو وجد بينة فيما نكل فيه، لكان يقضى له أيضاً؟ قلنا: أولاً، ليس الأمر كذلك، فإنا إذا جعلنا يمين الرد بمثابة الإقرار من المدعى عليه، فقد نقول: لا نسمع بينة المدعى عليه، ثم هذا لا يقدح في غرضنا؛ فإن ما جرى فيه يمين الرد،
__________
(1) ت 5: " إذا لم يحلف، ولكن جاء المردود عليه ... إلخ ".

(19/101)


فقد صار ملكاً، والخصومة بين الشخصين، والمراد به أنه صار ملكاً لهذا في حق ذاك.
فإن قيل: إذا كان يحلف على النصف، فكيف صيغته؟
قلنا: يقول: بالله إن النصف الذي في يدك ملكي. وهذا على هذا الوجه متحقق، وكذلك يشتري الإنسان الجزء الشائع في يد إنسان، فإن الدار المشتركة بين شريكين إذا أراد أحدهما بيع نصيبه، فالمشتري يقول: اشتريت منك نصفك، فكما ينسب النصف إلى ملك الشريك، ينسب النصف إلى يد الشريك، وقد نطيل الكلام إذا أعضل شيء، وأعلمُ أنه لا يتبرم به طالب الحقيقة.
ولو عرضنا اليمين على أحدهما أولاً، فنكل، وقد جرى التداعي بينهما، فنحلّف الثاني على النفي والإثبات جميعاً، وإذا نفى وأثبت وحلف عليهما، فقد أطلق الأصحاب أن الملك يثبت له في جميع الدار، وهذا إنما أطلقة من لم يغُصْ.
والوجه أن نقول: يمين الرد تجري في نصف الدار على الإثبات، ويمين النفي تجري في نصفها، ولا حاجة فيما هو يمين الرد إلى استدعاء الخصم والتماسه، بل يكفي فيها نكوله، فأما يمين النفي في النصف الآخر، فلا سبيل إلى عرضها ما لم يطلبها الخصم؛ فإنها حقه؛ فتبين أن اليمين إن كانت واحدة يجب أن تكون مطلوبة من وجه، ويجوز ألا تطلب من وجه، كما نبهنا عليه.
وإذا حصلت الإحاطة بما ذكرناه، فلو قال المردود عليه: بالله إن هذه الدار لي وليس لصاحبي هذا فيها حق ولا ملك، فلا يضر إضافة النفي والإثبات إلى جميع الدار؛ فإن اللفظ على هذا الوجه أجمع وأحوى للغرض.
ولو أراد أن يقول: بالله إن النصف الذي في يد صاحبي لي، ولا حق له ولا ملك في النصف الذي هو في يدي، لكان جائزاً على الأصل الذي مهدناه.
ثم إذا نكل الأول، وأردنا تحليف الثاني؛ أيكتفى بيمين واحدة، أم لا بد من يمينين؟ فعلى وجهين: أقيسهما - تعدد اليمين لتعدد المقصود وتغايرهما، بل لاختلافهما؛ فإنه في البعض مدعىً عليه، وفي البعض مردود عليه، وهما في التحقيق خصومتان.

(19/102)


ومن أصحابنا من قال: تكفي اليمين الواحدة إذا وقع التداعي بينهما على الجمع، وطلبُ الاختصار قاعدةُ فصل الخصومات. وقد نجز ما أردنا فيه إذا تداعيا داراً قارّة في أيديهما، ولا بينة في الخصومة.
12224 - فأما إذا كان في الواقعة بينة، فلا يخلو: إما أن يكون لأحدهما بينة، وإما أن يكون لكل واحد منهما بينة على وفق دعواه.
فأما إذا كان لأحدهما بينة وأقامها، جرى القضاء بها، ولكن في المسألة شيء يجب التنبه له؛ وهو أن صاحب البينة قد أقامها في النصف الذي في يده ابتداء -قَبل أنْ قامت عليه بينة من المدعي- وقد ذكرنا أن ظاهر المذهب أن بينة ذي اليد لا تسمع ابتداء إذا لم يكن للمدعي بينة.
ثم قال القاضي: الأمر وإن كان كذلك، فقد شهدت له البينة بالنصف الذي يدعيه، وجرت البينة على الترتيب فيه. والنصف الثاني دخل في الشهادة على طريق التبع، فتساهل الأصحاب في قبولها، وهذا الذي ذكره فيه احتمال بيّن، فلا وجه لإتباع النصفِ النصفَ، وكل نصف مقصود في نفسه، [يجب رعاية قياس] (1) الخصومة فيه، ولعل المعنى الذي يسوّغ سماع البينة كما ذكره القاضي أن عبارة الشهود تضطرب لو خصصوا شهاداتهم بأحد النصفين [على] (2) التمييز مع تحقق الشيوع. وفي المسألة احتمال لائح (3).
12225 - وإن كان لكل واحد منهما بينة، فأقام كل بينتَه، لم تؤثر البينتان في تغيير ما كانا عليه قبل الخصام، بل كل واحد على نصف الدار، غير أنهما كانا على ظاهر اليد، وقد ثبت الملك لكل واحد منهما في النصف. قال القاضي: يجب أن يقال: من أقام البينةَ ابتداء منهما يقيم البينة في النصف الذي يدعي عليه مرة أخرى، بعد أن
__________
(1) عبارة الأصل: " وكل نصفٍ مقصود في نفسه، يجوز غاية الخصومة فيه ". والمثبت عبارة (ت 5).
(2) في الأصل: " مع ". والمثبت من (ت 5).
(3) ت 5: " شائع ".

(19/103)


قامت بينة صاحبه عليه ثانياً؛ لأنه أقامها قبل الاحتياج إلى الدّفع، وهذا بناء منه على المذهب الظاهر في أن بينة صاحب اليد لا تسمع قبل مسيس الحاجة، وهو منْقدِح حسن لا بحث فيه، وقد انتجز مقدار الغرض في القسم الثاني. فأما
القسم الثالث (1)
12226 - فمضمونه كلام، فيه إذا ادعى رجلان شيئاً في يد ثالث، ادعى كل واحد منهما لنفسه بكماله، وأقام كل واحد منهما بينة على حسب دعواه، ففي المسألة قولان في الأصل: أحدهما - أن البينتين تتساقطان وتتهاتران، والرجوع بعد سقوطهما إلى يمين المدعى عليه. والقول الثاني - أن البينتين تُستعملان.
ثم إذا قلنا بالاستعمال، ففي كيفية الاستعمال ثلاثة أقوال: أحدها - أنا نقرع بين الخصمين، فمن خرجت له القرعة، قضينا له بما ادعاه، وخاب صاحبه، وعلى هذا القول هل يحلف من خرجت له القرعة ضماً لليمين إلى القرعة؟ فعلى قولين. والقول الثاني -من الأقوال الثلاثة- أن البينتين تستعملان بالوقف إلى أن يصطلحا. والثالث - أن المدعى يقسم بينهما نصفين، إذا كان المدعى قابلاً للقسمة. ولسنا نعني بقبول القسمة في هذا الباب قبول التبعيض ظاهراً؛ فإن المدعى لو كان عبداً أو دُرّةً مثلاً، فليس قابلاً للانقسام من طريق الحسّ والعِيان، ولكن المعنيّ بالانقسام في هذا الباب أن إضافة النصف إلى ملك كل واحد ممكن لا استحالة فيه مع الشيوع، فهذا هو المراد في قولنا: " إذا كان المدعى مما يتصور انقسامه ". ولا يخفى ما ذكرناه على الناظر، إن شاء الله.
12227 - وعلينا بعد هذا أن نتكلم في نوعين: أحدهما - في كلام الأصحاب في
__________
(1) هنا وضع الإمام العنوان بنفسه ثالثاً للأول والثاني اللذين وضعناهما في سياقهما آنفاً. ونذكر أنه يعني -كما هو واضح- الثالث من صور التداعي الثلاث وهي:
1 - بين صاحب اليد (الداخل) ومن لا يد له (الخارج).
2 - بين رجلين في عينٍ تحت أيديهما كلٌّ يدعيها كاملة لنفسه.
3 - أن يدعي رَجُلان شيئاً في يد ثالث كلٌّ يدعيه لنفسه كاملاً.

(19/104)


محل القولين الأولين في التهاتر والاستعمال. وحاصل القول في هذا يستدعي ذكرَ ثلاثِ صور: إحداها - أنه إذا ادعى كل واحد الشيءَ على وجهٍ يمكن تقدير صدق البينتين على ذلك الوجه على الجملة، وإن كانتا على التناقض في المعنى، وذلك بأن يقال: لعل شخصاً مالكاً أوصى لزيد بجميع هذه الدار، وسمع شهودُه ذلك، وأوصى ذلك الشخص بجميع الدار للمدعي الآخر، وسمع شهودُه ذلك، وأقام كل واحد منهما شهودَه. ولم يَشْعر شهودُ زيد بالوصية لعمرو، ولا شهودُ عمرو بالوصية لزيد، فيقرب تأويل الصدق على هذا الوجه. هذه صورة.
والصورة الثانية- أن تقع الشهادتان على وجه يبعد تأويل تصديقها، وهو مثل أن تشهد إحداهما لمقيمها بالشراء من شخص، وتشهد البينة الثانية لمقيمها بالشراء من ذلك الشخص مع اتحاد التاريخين، فتأويل الاجتماع على التصديق بعيد، وكذلك إذا أسند كلُّ بيّنةٍ الملكَ في البهيمة المدّعاة إلى وقوع نتاجها في ملك المدعي، والنتاج مما لا يتكرر (1)، فلا يحتمل صدق البينتين بوجه (2).
والصورة الثالثة - أن تقع البينتان على التكاذب قطعاً من غير خيال. وذلك بأن تشهد إحداهما على قتل شخص في وقت وحزّ رقبته، وتشهد الأخرى على بقائه حياً متصرفاً في ذلك الوقت وبعده، ويقرب من هذا النتاجُ.
والغرض أنهما إن تكاذبتا قطعاً، فمن أصحابنا من قطع بالتهاتر، ومنهم من أجرى القولين، وإن احتمل تأويلاً -كما ذكرناه في الوصية- فالقولان في التهاتر والاستعمال جاريان. فإن قيل: هلاّ قطع قاطعون بالاستعمال؟ قلنا: لم يقطع به أحد؛ لأن البينتين في ظاهرهما متناقضتان ولا تَرجُّح، وتعارضُ الظاهرين إذا لم يترجح أحدهما في الظهور والبعد عن التأويل كتعارض النصّين، والتأويل لا يتطرق إلى واحدة منهما.
هذا وجهٌ في التصرف.
والوجه الثاني - أن الأقوال الثلاثة في كيفية الاستعمال تجري حيث يمكن جريانها، وقد يتعذر جريان بعضها، فليكن إجراؤها على حسب التصور، وقد قال الأئمة: إن
__________
(1) ت 5: " مما لا يتأبد ".
(2) المراد نتاج عامٍ محدّد، فلا يحتمل الصدق أن يكون النتاج في يد كل منهما في الوقت نفسه.

(19/105)


كان المتنازَع نكاحاً في امرأة تنازعها رجلان، فلا شك أن قول القسمة لا يجري به.
قالوا: كذلك لا يجري قول الوقف؛ فإن الاصطلاح في النكاح غيرُ (1) ممكن، ولا معنى لحبس المرأة أبداً، وأما القرعة: فقد تردد فيها الأصحاب: فذهب بعضهم إلى أن قول القرعة جارٍ، وذهب آخرون إلى أنه لا يجري، فإنا نمتنع عن إجراء القرعة في الطلاق إذا استبهم، فيجب الامتناع منها إذا وقع النزاع في استحلال البضع بالنكاح؛ فإذاً ينحسم أدوال الاستعمال بجملتها، فنضطر إلى القطع بالتهاتر.
فلو كان المتنازَع عقدَ بيع، فقول القرعة جارٍ، وامتنع بعض أصحابنا عن إجراء قول الوقف بناء على أن البيع لا يقف، وهذه غفلة ظاهرة؛ فإن الوقف الذي نمنعه في البيع، إنما هو توقف العقد على وجود شرط قد تخلف عنه، فأما التوقف في الخصومات، فلا يمتنع فرضه في البيع.
والغرض مما ذكرناه أن يتبين الناظر أن جريان أقوال القسمة لا يعم كل صورة. فإذا خضنا في المسائل أوضحنا هذا المقصود، إن شاء الله.
12228 - ثم إن المزني اختار لنفسه قولَ التهاتر، وارتضى للشافعي قول القسمة، أما اختياره لنفسه، فلا معترَض عليه فيه، وليس مساعَداً في اختيار قول القسمة للشافعي، وقد أبطله الشافعي في مواضع، وقال: من قال بالقسمة دخلت عليه شناعة (2)؛ فإنه ليس قاضياً بواحدة من البينتين.
12229 - وتوجيه الأقوال بعد ذلك على إيجاز: من قال بالتساقط؛ تعلق بالتضاد، واستشهد بتعارض أدلة الشريعة، ومن قال بالاستعمال تعلق باشتمال الخصومة على البينتين، ولا ننكر أن الأَوْجَهَ التهاترُ، ثم قول القرعة يوجّه بجريان القرعة في مواضع الإشكال، وقولُ القسمة يوجَّه باستواء المتداعيين، وتعلُّق كل واحد منهما بما لو انفرد به لقضي به، فالبينتان بمثابة الاشتراك في يده، وأعدل الأقوال في الاستعمال قول الوقف؛ فإن البينتين متفقتان على كون المدعى عليه مبطلاً، فبعُد
__________
(1) سقطت من (ت 5).
(2) هذا النوع الثاني من الكلام الذي فُهم من الكلام في الفقرة 12227.

(19/106)


إحباطهما، فاستعملنا البينتين في إزالة يد المدعى عليه، وعسُر إمضاؤهما على التفصيل بين المتداعيين، فأورثا إشكالاً بينهما، واقتضى ذلك التوقف إلى الاصطلاح.
وقد انتهى ما أردناه في تمهيد أصول الكتاب، ونعود بعده إلى ترتيب المسائل.
فصل
قال: " وسواء أقام أحدهما شاهداً وامرأتين والآخر عشرة ... إلى آخره " (1).
11230 - إذا أقام أحد الخصمين شاهدين، وأقام الآخر رجلاً وامرأتين، لم تترجح إحدى البينتين على الأخرى باتفاق الأصحاب.
فإن أقام أحدهما شاهدين، أو شاهداً وامرأتين، وأقام الآخر شاهداً وأراد أن يحلف معه؛ ففي المسألة قولان: أحدهما - أنا نرجح البيّنة التامة على الشاهد واليمين. وهذا هو الأصح؛ فإن الشاهدين إذا شهدا، كانت شهادتهما حجة مستقلةً، غيرَ آتية من قبل المدعي، ومن أراد أن يحلف مع شاهده، فحجته تتم بقولٍ من جهته.
والقول الثاني - أن البينتين تتساويان، لأن كل واحدة بينةٌ، لو انفردت، لوقع القضاء بها.
ولو أقام أحد الخصمين شاهدين، وأقام الثاني عشرة من الشهود، أو ثلاثة، فالمنصوص عليه في الجديد أنا لا نرجح بينة على بينة بعدد الشهود، وللشافعي قول في القديم أنا نرجح إحدى البينتين بمزيد العدد على الأخرى، وهذا ليس يبعد توجيهه، أما وجه القول الجديد، فهو أن كل بينة كاملةٍ مستقلة، والزيادة لا حاجة إليها، فوجودها وعدمُها بمنزلة. وهذا منطبق على قواعد الفقه.
ووجه القول القديم أن الأصل الذي عليه التعويل الثقة. كما يعتبر ذلك في الروايات، ثم الترجيح يقع بكثرة الرواة في الرأي الظاهر؛ فليقع الترجيح بها في
__________
(1) ر. المختصر: 5/ 261.

(19/107)


الشهادة، ولتكن الشهادة في ترجيح الثقة كالرواية في أصل الثقة.
والقائل الأول يقول: التعبد في الشهادات أغلب، بدليل أن العدل الواحد قد يعدل في الثقة جمعاً في الرواية لاختصاصه بمزيد التثبت والورع، ولا تقوم الحجة بقول عدل واحد في الشهادات.
وخرّج أصحابنا التفاوت في الورع والتثبت بين البينتين على وجهين، كما ذكرناه في التفاوت في العدد، وهذا قياس سديد كالرواية، فكانا في الجديد لا نلتفت إلى طرق الترجيح الجارية في الرواية، وفي القديم نتمسك بما يرجح الرواية.
ثم إذا كانت كل بينة بحيث لو انفردت، لاستقلت، ولو شهد عدلان من جانب، وهما على المنصب الأعلى في الثقة والتثبت، وشهد في مناقضتهم عشرة مثلاً من أوساط العدول، فيتعادل الورع ومزية التثبت مع زيادة العدد، ويجب على القاضي أن ينظر بينهما نظر المجتهد بين خبرين يُرويان على هذا الوجه، إذا فرعنا على القديم.
وأما إذا فرعنا على الجديد، فلا حاجة إلى هذا.
وقد أطلق الأصحاب أقوالهم بأن الرجلين الشاهدين في معارضة الرجل والمرأتين، وليس يبعد عندي إذا فرّعنا على القديم أن نرجح الرجلين؛ بدليل أن من أقام رجلاً شاهداً وحلف معه في المال أمكنه ذلك، ولو أقام امرأتين وأراد أن يحلف معهما لم يجز.
والذي بقي في الفصل فرضُ بيّنتين من خارج وداخل، مع اختصاص إحداهما بما يقع الترجيح به تفريعاً على القديم، فإذا فرعنا عليه نظرنا؛ فإن كان ما يوجب الترجيح في بينة صاحب اليد، فلا إشكال؛ فإن بينته رجحت باليد وغيرها، وإن كان في جانب الخارج كثرة في الشهود، أو اتصاف بمزية الورع، فقد اختلف أصحابنا -والتفريع على القديم- فمنهم من يحكم باستواء البينتين لاعتضاد إحداهما باليد، واختصاص الأخرى بالمزية التي ذكرناها.
ومن أصحابنا من قدّم اليد على كل ترجيح؛ فإن اليد مشاهدةٌ محسوسة، والأسباب التي يقع الترجيح بها غايتها مزيد تغليب ظن في أمر لا يُحسّ، وذلك مفرع على الترجيح.

(19/108)


فصل
قال: " وإن أراد الذي قامت عليه البينة أن يُحلّف صاحبه ... إلى آخره " (1).
12231 - إذا أقام المدعي بينةً على ثبوت استحقاقه، فأراد المدعى عليه أن يحلف معها، وقد شهدت البينة له، لم يُجَب المدعى عليه إلى ما يطلبه؛ ويقال له: قد بيّنت البينةُ ملكَه، فلا افتقارَ معها إلى يمينه على الملك.
وإن قال المدعى عليه بعد قيام البينة: قد باع هذا مني، قلنا: ثبتت الخصومة الأولى بجهتها، وأنت تريد أن تبتدىء الدعوى، فلك أن تحلّف على نفي البيع صاحبَك.
ولو قال المدعى عليه: أُحلِّف خصمي: " لا يعلم أن شهوده مجروحون "، فهل يجاب إلى ذلك؟ ذكر القاضي وجهين: أحدهما - أنه لا يسمع منه هذا؛ لأنه لم يدّع لنفسه حقاً، وإنما طعن في بينةٍ قد عُدّلت ظاهراً وباطناً، ومطعن الخصم غير مقبول إذا لم تقم حجة.
ومن أصحابنا من قال: دعواه مسموعة، والمدعي مدعو إلى الحلف؛ من جهة أنه لو أقر لخصمه بما قال من جرح الشهود، فالخصم ينتفع بإقراره وتصديقه، وكلّ ما ينتفع به الخصم لو فرض الإقرار به، وجب سماع الدعوى فيه؛ فإن التحليف تلو الإقرار؛ إذ المقصود منه حمل المحلَّف على الإقرار إذا تورعّ عن اليمين.
قال القاضي: يمكن أن يُبنى على هذا التردد أصل ضابط فيما يجري التحليف فيه، فيقال: حد ما يجري التحليف فيه ماذا؟ فعلى وجهين: أحدهما - أن حدّه أن يدعي حقاً، والثاني - يكفي أن يَدّعِي (2) ما لو أقر به الخصم، لنفع إذا كان لا يؤدي إلى فساد -احترازاً عن منع تحليف الشاهد والقاضي- فعلى هذا لو ادعى عيناً على إنسان،
__________
(1) ر. المختصر: 5/ 261.
(2) ضبطت في الأصل: " يُدْعى ".

(19/109)


فقال المدعى عليه: [هو] (1) أقرّ لي بهذه العين، ولم يقل هي ملكي، بل اقتصر على دعوى الإقرار، فهل يقبل قوله؟ وهل يحلّف صاحبه على نفي الإقرار؟ فعلى الوجهين؛ فإن من ادعى إقراراً ليس يدعي لنفسه حقاً، ولكن لو أقر صاحبه بما ادعاه، لنفعه، فيخرج ذلك على الخلاف الذي ذكرناه. وكذلك المدعي في الابتداء، إذا لم يدّع استحقاقاً، ولكنه ادعى أن صاحبه أقر له بمال، فهل تقبل الدعوى ابتداء على هذا الوجه؟ فعلى الوجهين المقدمين.
وكذلك إذا قذف، ثم ادعى على المقذوف أنه زنا، وطلب يمينَه، فهذا خارج على الوجهين.
وكذلك إذا ادعى على إنسان مالاً، فقال المدعى عليه: قد حلّفني في هذه الدعوى مرة، فهل يقبل قوله؟ فعلى ما قدمنا من الوجهين. فانتظمت هذه المسائل على نسق واحد.
فصل
قال: " ولو ادعى أنه نكح امرأة، لم أقبل دعواه، حتى يقول نكحتها بولي وشاهدي عدل ورضاها ... إلى آخره " (2).
12232 - المنصوص عليه أن من ادعى نكاحاً مطلقاً، لم تسمع دعواه، حتى يفصّل أو يفسّر، وعماد التفصيل التعرض لثلاثة أركان: أحدها - الولي، والآخر - الشاهدان، والآخر - الرضا ممن يطلب منه الرضا.
[وظاهر] (3) النص أن من ادعى شراء أو بيعاً، كفاه إطلاق الدعوى، ولم يلزمه تفسيره بالوجوه المرعية في الصحة.
وخرّج بعض أصحابنا في النكاح قولاً من البيع، قالوا: تقبل الدعوى في النكاح مطلقة؛ من غير تعرض للتفسير.
__________
(1) زيادة من (ت 5).
(2) ر. المختصر: 5/ 261.
(3) في الأصل: " فظاهر ".

(19/110)


توجيه القولين: من شرط التفسيرَ وجّه قوله بما اقتضاه الشرع في النكاح من رعاية أسباب التأكيد. ولذلك اشترط فيه الولي والشهود، ومن لم يشترط التفسير، اتجه له القياس علي البيع.
ومن أصحابنا من قال: إن قال: هذه زوجتي، ولم يعلق دعواه بالعقد، سُمع مطلقاً، وإن ادعى الابتداء (1)، فلا بد من البيان، فحصل في النكاح ثلاثة أقوال:
- اشتراط التفسير ابتداء ودواماً.
- والاكتفاء بالإطلاق ابتداء ودواماً.
- والفصل بينهما.
ومن أصحابنا من خرّج في البيع قولاً من النكاح، واشترط فيه التفسير.
12233 - وإذا أردنا ترتيب الدعاوى، فدعوى القصاص على الإطلاق غير مسموعة بلا خلاف، حتى يفسّرها بذكر ما يُرعَى في موجِب القصاص.
وإذا ادعى مالاً مطلقاً -ديناً أو عيناً- فلا يشترط التفسير، بلا خلاف.
وفي النكاح نصٌّ وقولان مخرّجان، والنص في البيع قبول الدعوى المطلقة، وفيه تخريج. ثم إن شرطنا التفسير في النكاح، فمعناه التعرض للأصول الثلاثة: الولي، والشاهدين، والرضا.
ولا يشترط التعرض لانتفاء المفسدات، مثل أن يقول: نكحتها وهي خلية عن الزوج والعدة والإحرام؛ فهذا وما في معناه لا يشترط التعرض له؛ لم يختلف أصحابنا فيه.
وإذا شرطنا التفسير في البيع، ذَكَر أركان البيع، ولم يتعرض لانتفاء المفسدات، فيناظر الولي كون البائع من أهل العقد، ولا شهادة في البيع، والعماد فيه التعرض للرضا في قابل البيع، مع ذكر ثمن صحيح. وهذا قول ضعيف.
وإذا لم يشترط التفسير، هل يشترط التقييد بالصحة؟ فعلى وجهين. والوجه
__________
(1) أي ابتداء النكاح، بخلاف من ادعى دوامه.

(19/111)


عندي اشتراط التقييد بالصحة في النكاح؛ فإنها لفظة جامعة دالة على المقصود، وإذا شرطنا التفسير في الدعوى، فشرطنا على الشهود أن يفسّروا الشهادة. وإن لم نشترط ذلك في الدعوى، لم نشترط في الشهادة؛ فإن الشهادة تبين الدعوى، فكانت على حسبها، وهي مختصة بلفظ الشهادة تعبداً.
ولو أقرت المرأة بالنكاح، فالأصح قبول إقرارها، وقد مضى ذلك مفصلاً في كتاب النكاح، والذي نذكره الآن أنا إذا اشترطنا التفسير في الدعوى، هل نشترط التفسير في الإقرار ليصح؟ المذهبُ أنا لا نشترط. ومن أصحابنا من شرط التفسير في الإقرار، وهذا يضاهي ما ذكرناه في الزنا؛ فإن شهود الزنا يتناهَوْن في التفسير، ولا يرعى في شهود القذف التفصيل. وهل يشترط في الإقرار بالزنا التفصيل؟ فعلى قولين.
ونحن نعقد فصلاً متصلاً بما ذكرناه، ونبين به أصلاً كثير التداور في الدعاوي والبينات، فلنبين الأطراف، ونربطه بالنكاح.
فصل
12234 - ظهر اختلاف الأصحاب في أن يمين الرد يُنرَّل منزلةَ البينة، أو ينزل منزلةَ إقرار المدعى عليه، ثم من الأصحاب من استعمل هذين القولين في غير وجهه.
ونحن نرى أن نرسم ثلاثَ مراتبَ، تحوي كلُّ مرتبة ما يتعلق بها، ثم تنتصب معتبراً في المسائل، فنقول:
إذا (1) ادعى الرجل على امرأة خلية أنها زوجتُه، فإن قلنا: إقرارها مقبول، فالدعوى مسموعة عليها؛ اعتباراً بكل مدّعىَ يصح الإقرار به، وإن قلنا: لو أقرت بالنكاح، لم يُقبل إقرارها، فهل تتوجه الدعوى عليها واليمين؟ فعلى قولين مبنين على أن اليمين المردودة كبيّنة، أم هي بمثابة الإقرار؟ فإن قلنا: هي بمثابة الإقرار، فلا تُحَلَّفُ المرأة؛ فإن غاية توقع الخصم أن تنكُل، ويحلف هو يمين الرد، ولو
__________
(1) هذه هي المرتبة الأولى من المراتب الثلاث.

(19/112)


أفضت الخصومة إلى ذلك، لما ثبت غرض (1) المدعي.
ْوإن قلنا: يمين الرد كالبينة، فتُحَلَّف المرأة، فإن حلفت، فذاك، وإن نكلت، ردت اليمين على المدعي، فيحلف ويثبت النكاح بيمينه، كما يثبت ببينة يقيمها، وهذان القولان جاريان على وجههما؛ فإنا إن رَدَدْنا (2) لرد الإقرار، فهو قياس بيّن، وإن قبلنا لمكان يمين الرد ونزولها منزلةَ البينة، فقد أحللنا يمين الرد محل البينة في حق المدعى عليه على الخصوص، ولم يتعده. وإذا ذكرنا المرتبتين بعد هذا، بأن أثرُ ما ذكرناه الآن.
12235 - ووراء ذلك بحثٌ، وهو أنا إذا رددنا إقرارها، فهلاّ رددنا إنكارها، لتكون مسلوبةَ العبارة: أقرت أو أنكرت، وهذا هو الذي يليق بمذهب الشافعي في سلب عبارة المرأة؟ قلنا: لا ينتهي الكلام إلى هذا الحد، والدليل عليه أن العبارة ليست متأصلة في الإنكار، ولذلك نقيم السكوتَ مقامه، وهذا لا ينحل انحلالاً فاحشاً أيضاً، فإنا نشترط أن تكون المرأة من أهل العبارة، حتى تنكر أو تسكت، فيقام سكوتُها مقامَ إنكارها.
فإن قيل: هلا قلتم: يحلف المدعي وإن لم تحضر المرأة؟ قلنا: لا سبيل إلى ذلك، فلا بد من ارتباط اليمين بإنكارٍ من المرأة، أو من وكيل لها؛ فإن إرسال الدعوى [واليمين لا ينتظم (3) عليها].
والذي يغمض في هذا المقام أنا إذا قلنا: إقرار المرأة مردود، فلو حضرت وأقرت لما ادعى الرجل النكاح، فماذا نقول؟ وما أنكرت ليحلف المدعي (4)؟ وإقرارها لم يُثبت المقصود، ولو قلنا: ينحسم يمين الرد بإقرارها، لكان ذلك حيلة عظيمة في دفع المدعي عن إثبات ما يبغيه بيمين الرد، وهذه الحَيْرة جاءت من التفريع
__________
(1) لأننا قلنا: يمين الردّ تقوم مقام الإقرار، فإذا نكلت، وحلف هو، فكانه أقر بنكاحها، ولا يثبت النكاح بهذا.
(2) رَدَدْنا: أي ردَدْنا الدعوى ولم نسمعها بسبب ردّ إقرار المرأة، فإنها لو أقرت لا يثبت النكاح.
(3) في الأصل: " واليمين عليها لا ينتظم " والمثبت من (ت 5).
(4) ساقطة من (ت 5).

(19/113)


على أصلين ضعيفين: أحدهما - أن إقرار المرأة لا يُقبل، والآخر - أن يمين الرد كالبينة، ثم إذا دُفعنا إلى ذلك، فالوجه أن نجعل إقرارها كسكوتها (1)، ونحلّف المدعي إذا قلنا: يمين الرد بمثابة البينة.
وقد نجز الكلام في هذه المرتبة، وانكشف القول عن خزيٍ عظيم، وهو ألا يثبت النكاح بإقرار المرأة، ويثبت بيمين المدعي ابتداء، والذي يحقق هذا أن المرأة لو أرادت أن تحلف، فلها ذلك. وحلفها [يقطع] (2) الخصومة، وعُرِض اليمين عليها مستقلاً (3)، ولو أقرت، كانت كما لو أنكرت ونكلت عن اليمين.
12236 - المرتبة الثانية - نفرضها في النكاح أيضاً ونفرعها على قبول إقرارها، ونقول: إذا ادعى نكاحَ المرأة رجلان، فأقرت لأحدهما، وقبلنا إقرارها، فلو ادعى الثاني عليها، فهذا قد فصلناه في كتاب النكاح، ونحن نُعيد -مما ذكرناه- ما تمسّ الحاجة إليه في نظم مقصود هذا الفصل، فنقول: ذهب بعض أصحابنا إلى أنها إذا أنكرت دعوى الثاني، ونكلت عن اليمين، وحلف هذا الثاني، ففي ثبوت النكاح في حقه وانبتات النكاح في حق الأول قولان مبنيان على أن يمين الرد بينة أم هي بمثابة إقرار الخصم؛ فإن جعلناها كالبينة، أثبتنا النكاح في حق الثاني.
وهذا سرف عظيم؛ فإن يمين الرد إن جعلت كالبينة في حق المدعى عليه في أمرٍ لا يتعداه، فله وجهٌ على حالٍ، فأما تقديرها بينةً لإبطال حق الغير، فهذا على نهاية البعد.
وهذا المسلك الذي حكيناه عن بعض الأصحاب مشهور في المسائل مُردَّدٌ في أصول: منها أنه إذا ادعى رجل على رجل قَتْلَ خطأ، فأنكر المدعى عليه، ثم نكل عن اليمين، وحلف المدعي يمين الرد، فالدية هل تضرب على العاقلة؟ خرّجوه على ما ذكرناه. وهو بعيد.
__________
(1) وسكوتها كإنكارها.
(2) في الأصل: " القطع ".
(3) ت 5: " مستفاد ".

(19/114)


12237 - والمرتبة الثالثة -وهي أبعدها- ذكرها الشيخ في شرح الفروع، وقال: إذا ادعى رجل على امرأة- يحسبها خلية- نكاحاً، وجرينا على قبول إقرارها، فأنكرت ونكلت، ورددنا اليمين على الخصم، فحلف، فحكمنا بالنكاح، وسلمنا المرأة إلى الحالف فجاء مدعٍ وادعى نكاحها، وأقام على ذلك شاهدين عدلين، قال رضي الله عنه: إن قلنا: يمين الرد بمنزلة إقرار الخصم، فالبينة مقدمة في هذه الصورة، والمرأة مسلّمة إلى الذي أقام البينة، وإن قلنا: إن يمين الرد بمثابة البينة، قال: سبيلهما سبيل بينتين تعارضتا، فإن حكمنا بالتساقط، فهما على مجرد الدعوى منها، ولا يخفى تفصيل ذلك، وإن حكمنا باستعمال البينتين، فلا يجيء هاهنا إلا قول القرعة، والحكم بها.
وهذا الذي ذكره على نهاية البعد؛ فإن من قال: يمين الرد بمثابة البينة، فإنما قدّر تقديراً حاصله أن يثبت بيمين الرد ما لا يثبت بالإقرار إذا ترتبت اليمين على إنكار من تصح عبارته على الجملة، ولا يصح إقراره، فجعل اليمين من الخصم حجة زائدة على الإقرار المجرد مما لا ينفذ إقراره. وإذا انتهى الأمر إلى تقديم قول المدعي ويمينه على شهادة عدلين يقيمها آخر، فقد بلغ مبلغاً لا يحتمل، وآل الأمر إلى تقديم قول الخصم المؤكد باليمين على شهادة العدول، وهذا بعيد لا سبيل إلى القول به.
وإنما أوقَعْنا هذا الكلامَ في المرتبة الثالثة لسببيّة (1) أن هذا أبعد من الحكم بيمين الرد على ثالث لا تتعلق الخصومة به؛ فإن ذلك الثالث لم تصدر منه حجة، فيقال: تعارضت اليمين مع حجة. ونحن -فيما نظن- لا نُخلي تقديماً وتأخيراً وترتيباً في مساق الكلام عن غرض فقهي، لو تأمل الناظر، لاح له إن شاء الله عز وجل.
فرع:
12238 - إذا ادعت المرأة عقدَ النكاح على الرجل، فإن ذكرت في دعواها صداقاً، أو نفقة في النكاح، وقصدت إثبات ما ذكرته من المال، فدعواها مقبولة فيما تقصده من المال.
وإن لم تتعرض لذكر مال، ولكنها ادعت النكاح المجرد، فهل تُسمع دعواها في
__________
(1) ت 5: " ليستبان ".

(19/115)


ذلك أم لا؟ ذكر صاحب التقريب والعراقيون وجهين: أحدهما - لا تسمع الدعوى؛ فإن المسألة مفروضة فيه إذا كان الزوج منكِراً للنكاح؛ فإنه لو أقر، لثبت النكاح بتقارّهما، فإذا أنكر، فأحد الوجهين أنه تلغو دعواها، ولو أرادت إقامةَ البينة على النكاح، لم تسمع منها؛ فإن النكاح حقه عليها، وله الدعوى فيه عليها؛ فيبعد انعكاس الترتيب في الدعوى.
والذي يوضح ذلك أنه إذا أنكر كونَها منكوحة له، فتحرم عليه بذلك القول، فلا معنى لقبول دعواها والحالة هذه، ثم إذا لم نقبل دعواها، لم نسمع بينتها.
والوجه الثاني - أنه تقبل دعواها؛ فإن لها حقوقاً في النكاح، والنكاح مشتمل عليها؛ فدعوى النكاح تتضمّن تلك الحقوق. ثم هذا القائل يقول: إذا أنكر الرجل أئه نكحها أصلاً، أو قال ليست منكوحة لي، وفسّر ذلك الإنكار بنفي أصل النكاح، أقامت المرأة البينة أنه نكحها نكاحاً صحيحاً، فيثبت النكاح.
وذكر صاحب التقريب وجهاً ثالثاً. فقال: إن أنكر الزوج أصل النكاح والعقد، فلا تقام البينة عليه، وإن اعترف بالعقد ولكنه زعم أنه شغر من الولي، أو لم يَجْر بمحضر شاهدين، فأقامت المرأة البينة أن ذلك النكاح كان مستجمعاً لشرائط الصحة، فنقبل منها ونُثبت النكاح ونُثبت حقوقَها، ولها طلب القَسْم إن كان للزوج نسوة سواها.
وهذا نقلٌ منا لما ذكره صاحب التقريب والعراقيون، والبحث وراء ذلك.
12239 - فنقول: أما الوجه الثالث، فلا خير فيه، فإنه إذا أنكر صحةَ النكاح، فلا أثر للاعتراف بصورة العقد، فليحذف هذا من البَيْن، ثم النظر بعد ذلك.
فنقول: الكلام في المسألة يتعلق بثلاث منازل: إحداها - أن تدعي المرأة النكاح، فيسكت الرجل، ولا يبدي إنكاراً، ولا إقراراً، ففي سماع البينة والحالة هذه وجهان: [أحدهما - لا تسمع البينة] (1)؛ من جهة أنها لم تتعرض إلا للنكاح، وهي لا تستحق بالنكاح على زوجها مُستمتَعاً، ولم تتعرض لحقوقٍ مالية، حتى نقدرَها مقصودةً بالدعوى.
__________
(1) زيادة من المحقق حيث سقطت من النسختين.

(19/116)


والوجه الثاني - أن البينة مسموعة؛ لأنها ذاتُ حظ في النكاح نفسه، وهو جامع لحقوق مالية، منها النفقة التي تَدِرُّ شيئاً شيئاً، ولو أفردتها بالدعوى، لاحتاجت كلَّ يوم إلى معاودة الدعوى، فإذا سمعنا دعواها في النكاح [وبَيَّنَتها] (1)، فيثبت أصل النفقة، وتستغني عن معاودة الدعوى.
هذه منزلة.
المنزلة الثانية - إذا أنكر الزوج أصل النكاح -والقول في هذه المرتبة يترتب على القول في الأولى- فإن قلنا: لا تسمع دعواها إذا سكت الزوج، فلا معنى لسماعها في هذه المرتبة، وإن قلنا: دعواها مسموعة في سكوت الزوج، فإذا أنكر هل تبطل الدعوى بعد ما سُمعت؟ فعلى وجهين مبنيين على قاعدة: وهي أن الزوج إذا أنكر النكاح، ثم اعترف به، فهل يقبل اعترافه، أم يمتنع عليه إثبات النكاح بعد تقديم إنكاره؟ وهذا مختلف فيه. وعندنا أن حقيقة الخلاف في قبول دعوى المرأة تتلقى من هذا. فإن حكمنا بأن اعترافه بعد إنكاره مقبول، وله إذا اعترف أن يغشاها، فالدعوى لا تبطل بإنكاره إذا سمعنا الدعوى في سكوته، وتترتب على الدعوى حقوقها المالية.
وإن قلنا: لا يقبل اعترافه، فلا سبيل إلى إثبات النكاح عليه فيما يتعلق به، ولكن هل تثبت حقوقها المالية عليه؟ ففيه احتمال وتردد.
وكل ذلك وراء قولنا: إنكار الزوج للنكاح، أو لشرط من شرائطه بمثابة الطلاق المُبين، كما قدمنا في ذلك نصَّ الشافعي حيث قال: " إذا قال الرجل: نكحت هذه الأمة، وأنا واجد لطَوْل حرة، قال: هذا طلاق مبين " وقد أوضحنا في الخلع خروجَ هذا النص عن قياس الأصول، ومسيس الحاجة إلى تأويله إن أمكن تأويله، ولا تفريع عليه.
وما ذكرناه من التردد في الاعتراف بالنكاح بعد إنكاره لا يختص بالنكاح، بل كل من أنكر ملكاً وحقاً، ثم زعم أنه غلط في إنكاره، وعاد إلى ادعائه، ففيه الخلاف الذي ذكرناه.
__________
(1) في الأصل: " ونثبتها ".

(19/117)


هذا تحقيق هذا الفصل (1).
ومآل الكلام فيه رجع إلى تعلُّقِ دعوى المرأة في حالة السكوت بما ليست مستحقة فيه من وجه، وتعلُّقِ طرف منه في بعض الصور بإنكار الزوج، وتصوّر اعترافه بعده، وهذا يرجع إلى الكلام في بطلان الدعوى بعد سماعها.
وتمام الكلام في هذا أنا إذا أثبتنا دعواها، فلها حقوقها المالية، ولا خلاص منها إلا بالطلاق، وأما طلب القَسْم، فإن لم نصوّر اعترافاً بعد إنكار، ولم نصححه، فطَلَبُ الزوج بالقَسْم محالٌ، وهي محرمة عليه. وإن قلنا: يتصور منه الاعتراف بعد الإنكار، ففي طلب القَسْم منه احتمال، مع إصراره على دعوى التحريم، وإن كنا نثبت الحقوق المالية. وقد انتجز الغرض.
فصل
12240 - إذا ادعى الرجل الملك في عينٍ -هي في يد غيره- مطلقاً، وسمعنا دعواه، فشهدت البينة بالملك، وذكرت سببَ الملك، فقد قال القاضي: البينة مسموعة، وإن انفردت بذكر شيء لم تشتمل الدعوى عليه، وليس هذا كما لو ادعى ألفاً، وشهدت البينة له بألفين، فالألف الزائد لا يثبت. وفي ثبوت الألف المدعى وجهان، فإن لم نثُبته، ورَدَدْنا الشهادة فيه، فقد ظهر اختلاف الأصحاب في جَرْح الشهود حتى تُردَّ شهاداتهم على وجهٍ عموماً، وليس ذكر سبب الملك من هذا القبيل، فأصل الملك يثبت وفاقاً؛ فإن السبب ليس مقصوداً، وإنما هو كالتابع، والمقصود الملك، وقد وافقت البينة فيه الدعوى هكذا، وهو متجه، لم أر خلافاً فيه.
وفي ثبوت السبب -الذي لم يتعرض المدعي له- نظرٌ، والأوجه أنه لا يثبت، حتى لو قال المدعي بعد قيام البينة: صدق (2) شهودي في ذكر السبب، قيل له: إن أردت
__________
(1) انتهى الفصل، ولم يذكر المنزلة الثالثة من المنازل الثلاث التي وعد بها، ولكنه ذكرها في تضاعيف كلامه، وهي إذا اعترف الزوج بأصل العقد، وأنكر استيفاءه للشروط.
(2) في (ت 5): " سقط شهودي ".

(19/118)


ثبوته، فأعِد الشهادة (1)، وهذا فيه تردد. ثم زاد القاضي فقال: لو ذكر المدعي سبباً في الملك، وشهدت البينة بالملك، وذكرت سبباً آخر، ففي المسألة وجهان:
أظهرهما - أن البينة لا تُقبل، ولا يثبت الملك للتناقض البيّن بين الدعوى والشهادة.
والوجه الثاني - أن البينة مقبولة؛ لأنها وافقت في أصل الملك، والسبب غير مقصود فلَغا ذكره.
ولو ذكر المدعي سبباً للملك، وشهدت البينةُ بالملك المطلق، ثبت الملك، قَطَعَ به، وهو كذلك؛ إذ لا تناقض وقد شهدت البينة بالمقصود.
ثم قال: " والأيمان في الدماء مخالفة لغيرها " وهذا من أحكام القسامة وقد تقصيناها في كتابها.
12241 - وقال: " والدعوى في الكفالة بالنفس ... إلى آخره " (2).
قد تقدم الكلام في كفالة الأبدان، فإن أبطلناها، رددنا الدعوى فيها، وإن صححناها، فالدعوى فيها مسموعة، فإن أقام المدعي بينة على أن هذا تكفل ببدن خصمي فلان، ثبتت الكفالة، وإن لم تكن بينة، حلف خصمه، وإن نكل حلف، وألزمنا المدعى عليه حكم كفالة البدن. والغرض أن كفالة البدن إذا صحّحناها، فهي كسائر الحقوق المالية وغيرها مما تجري الدعوى واليمين وردها فيها.
فصل
قال: " ولو أقام بينة أنه أكراه بيتاً ... إلى آخره " (3).
12242 - المتكاريان إذا اختلفا، فقال المكري: أكريتك هذا البيت من هذه الدار بعشرة، وقال المكتري: بل اكتريت الدار كلها بعشرة، فإن كان لأحدهما بينة، حكمنا له بالبينة.
__________
(1) المعنى أنه يعيد دعوى الملك والسبب، ويعيد الشهودُ شهادتهم بالملك والسبب، وذلك أن شهادتهم بالسبب قد جاءت قبل تقدم الدعوى به، ولا تقام الشهادة إلا على دعوى مسموعة.
(2) ر. المختصر: 5/ 262.
(3) ر. المختصر: 5/ 262.

(19/119)


وإن لم تكن بينة تحالفا وترادّا؛ فإنهما متعارضان اختلفا في مقدار المعقود عليه؛ فكانا كالمتبايعين. وإن كانا يقيمان بيّنتين -كلُّ واحد بينةً على موافقته- فإن قضينا بتهاتر البينتين، سقطتا، وكأَنْ لا بينة، فيتحالفان.
وإن قلنا باستعمال البينتين، فقد ذكرنا ثلاثة أقوال في كيفية الاستعمال: أحدها - القرعة، والثاني - القسمة، والثالث - الوقف.
ولا شك أن القسمة لا جريان لها، فإنها إنما تعقد حيث يدعي رجلان شيئاً، وكان كل واحد مدّعياً جميعَه، وذلك الشيء مما يتصور الاشتراك فيه، ففي مثل هذا الموضع تجري القسمة، فأما إذا كان التنازع في النفي والإثبات، كما نحن فيه - فإن المكتري يدعي الكراء في الدار، والمالك ينكر العقدَ فيما يزيد على البيت، فلا تتصور القسمة بين النافي والمثبت.
وقول الوقف لا يجري أيضاً؛ فإن في المصير إليه تعطل المنفعة، وهي المقصودة بالدعوى، فيبقى قول القرعة.
وللأصحاب بعد [التنبيه لما] (1) ذكرناه مسلكان - أحطت بهما من مرامزهم، وتفريعاتهم: منهم من قال: الاختلاف في كيفية الاستعمال في الجميع من باب التردد في الأَوْلى، فإذا اجتمعت جهاتُ إمكان الاستعمال في الجميع، اختار كل فريق مسلكاً، وهؤلاء يقولون: إن امتنع المختار، جوزتُ التمسك في الاستعمال بما بقي.
هذا مسلك، فإذاً نعول عليه وإن رأينا القسمة أو الوقف - فإذا تعذرا، نختار القرعة.
ومن أصحابنا من سلك مسلكاً آخر، فجعل كل ما يختار في كيفية الاستعمال متعيناً، حتى لا يجوز فرض غيره، فلا جرم إذا تعذر ما نختاره، حكم بتعذر الاستعمال، وإن كان ما صار إليه الباقون جارياً من طريق الإمكان، فالرجوع إلى التهاتر؛ فإن الاستعمال إذا عسُر، لم يبق إلا التناقض.
وهذا الذي ذكرناه نوضحه فيما نحن فيه، فإذا عسرت القسمة، وامتنع الوقف، وأمكنت القرعة، فمن جعل الاختلاف عند إمكان جميع الجهات راجعاً إلى الأَوْلى،
__________
(1) في الأصل: " البينة بما " وفي (ت 5): " التنبه لما " والتصرف من المحقق.

(19/120)


تمسك بالقرعة، وإن كان لا يراها عند إمكان غيرها، ولم يحكم بالتهاتر. ومن قدر الاختلاف على الوجه الآخر، فالقرعة عنده فاسدة، وإن لم يَبق غيرها.
12243 - ومما يجب التنبه له أن المتعاقدين إذا اختلفا وتحالفا، فلم يصر أحد من الأصحاب إلى إجراء القرعة بينهما. وهذا يُبطل قولَ القرعة، ويستأصله من أصله؛ فإنَّ تعارض اليمينين كتعارض البينتين، ولا ينقدح فرق بينهما به مبالاة. وبالجملة ما تثبت القرعة إلا في أصلين: أحدهما - في التعيين مع الاستواء في الأغراض المقصودة، وفرض التنافس في الأعيان؛ إذ لا سبيل غيرها أو التحكم، وهذا كالإقراع في تعيين الحصص بعد تميزها على الاعتدال؛ فإن أصحاب الحصص إذا تنافسوا (1) في الأعيان لم ينقدح في تنافسهم إلا تحكم السلطان، أو القرعة، والتحكم يوغر الصدور، ثم صدَرُه عما يقع للسلطان وفاقاً، وهو في معنى القرعة، فكانت القرعة أقطع للشغب، وأحسم لغائلة التحكم؛ وقد تأكدت القرعة في هذا المقام بالأخبار المستفيضة في قَسْم الغنائم.
والتحق بهذا استباق الخصوم، وطلبة العلوم، وتقديم البعض على البعض (2).
هذا أحد المقامين.
والثاني - القرعة في العتق، وهو غير مستدرك بطريق النظر، ولا معتمد فيه إلا الخبر، ثم [استدّ] (3) الشرع على إبطال القرعة في أصولٍ عظيمة، يتحقق الإشكال فيها، وتمس الحاجة إلى التمييز، كالطلاق وغيره، فاضطررنا إلى الاقتصار على مورد الخبر.
فأما إجراء القرعة في حرمان مدّعٍ وتثبيت الحق بكليته للآخر من غير تثبت، فأمر عظيم، سيّما وقد لاح على القرب بطلانه في التحالف، فالوجه إذاً في مسألتنا وفي كل مسألة إبطال قول القرعة، حتى إذا لم يبق غيره، تعين الرجوع إلى التهاتر.
__________
(1) ت 5: " تنازعوا ".
(2) يشير إلى تقديم القاضي للخصوم في الإذن بالدخول والبدء في الخصومة وأنها من مواقع القرعة ملتحقة بمورد الخبر، ومثل ذلك ازدحام طلبة العلوم.
(3) في النسختين: " استمر ". وهو تصحيف تكرر كثيراً لذات اللفظ، واستدّ بمعنى استقام واطرد.

(19/121)


ومن أصحابنا من قال في المسألة التي نحن فيها بيّنة المكتري أولى؛ لأنها تشهد بالزيادة. وهذا كلام سخيف، وأول ما يلزم عليه أن يقال: إذا لم تكن بينة، وتحالفا، يقع القضاء لمن يدّعي الزيادة، ثم البينة إنما ترجح بالزيادة، إذا كانت الزيادة في ظهور الصدق، لا في المشهود به.
12244 - ثم ذكر ابن سريج صورة أخرى في التنازع في الكراء. فقال: إذا قال المكري: أكريتك هذا البيت بعشرين، وقال المكتري: بل اكتريت جملة الدار بعشرة، فإن قلنا بالتهاتر، لم يخف التفريع، ورجعا إلى الاختلاف في مقدار المعقود عليه. وإن قلنا بالاستعمال، فقول القرعة على ضعفه جارٍ.
قال ابن سريج: أجرى بعض الأصحاب قولاً آخر في الاستعمال يضاهي القسمة، وليس بقسمة، فقال: لو ادعى المكري زيادة في الأجرة، ونقصاناً في المستأجَر، وادعى المكتري زيادة في المستأجَر ونقصاناً في الأجرة، فنجمع بين القولين ونثبت الإجارة في الدار أخذاً بقول المكتري، ونلزمه عشرين درهماً أخذاً بقول المكري، ونقول: الدار بعشرين. قال ابن سريج: هذا ليس بشيء؛ فإنه خروج عن مقتضى البينتين جميعاً. والأمر على ما قال. وعزُّ الفقه وشرفُه في الاقتصار على مسالكه مع التزام الجواب عن كل واقعة، فإذا فتح الإنسان أبواب الوساوس، تباعدت مذاهبه تباعداً يضله عن سواء الطريق، فحق مثل هذا ألا يتمارَى في بطلانه.
فصل
[قال]: " ولو ادعى داراً في يدي رجل، فقال له: ليست بملكٍ لي، وهي لفلان ... إلى آخره " (1).
12245 - هذا الفصل غمرة الكتاب، وكم فيه للفقهاء من اضطراب، وجيئةٍ وذهاب، وسبب ذلك أنه أصلٌ بنفسه، يجب أن يصرف إليه الاهتمام على الوجه الذي يصرف إلى الأصول.
__________
(1) ر. المختصر: 5/ 262.

(19/122)


فإذا ادعى رجل داراً في يد رجل، فقال المدعى عليه: ليست الدار لي؛ فأول ما يجب ربط الدَّرَكِ به استدراكُ مقصود الفصل، فنقول: مقصود صاحب اليد بنفي الاستحقاق عن نفسه أن يصرف الخصومة عن نفسه؛ حتى لا يُحلَّف، هذا هو الغرض، ولم يجر لهذا ذكر، فكان أصلاً مستأنفاً.
ونحن نقول: لا يخلو المدعى عليه إما أن يقر بالدار لمعيّن متميز، وإما أن لا يعترف بها لمعيّن. ثم القول في القسم الثاني ينقسم، فقد ينفي عن نفسه ولا يثبت أحداً وقد يذكر مجهولاً.
فليقع البداية بما إذا أقر لمعين، وهذا ينقسم قسمين: أحدهما - أن يقر لحاضر يمكن مراجعته. والثاني - أن يقر لغائب. فإن أقر لحاضر، وقال: هذه الدار لفلان، فهذا إقرار صدر من ذي يد، وحكمه القبول في ظاهر الأمر. فأول ما يبتديه القاضي أن يحضر المقر له ويراجعه، فإن حضر وصدّق المُقِر، فقد استقر الإقرار، وانصرفت الخصومة من الأول إلى هذا المقَرّ له؛ فإنّ الأول ليس يدعي لنفسه حقاً، والخصومة إنما تدور بين متنازعين، فقد خرج الأول عن الخصام في عين الدار.
فلو قال المدعي: حلّفوه لي حتى إن نكل عن اليمين، حلفتُ، وألزمته قيمة الدار، ونزّلته منزلة ما لو أقر لي بعد الإقرار للأول، ولو فعل ذلك، لالتزم القيمة بانتسابه إلى إيقاع الحيلولة بيني وبين حقي بإقراره الأول.
فنقول: هذا يبنى على القولين فيمن قال: غصبت هذه الدار من زيد، لا بل من عمرو، وسلمنا الدار إلى زيد لتقدم الإقرار له، فهل يُغرَّم المقِر للثاني قيمةَ الدار؟ فعلى قولين مشهورين: فإن قلنا: لا يغرم للثاني شيئاً، فلا فائدة في تحليفه؛ فإن العين فاتت، والقيمةُ لا مطمع فيها، والمقصود لا يعدوهما.
وإن قلنا: لو أقر للثاني بعد الأول، لغُرّم القيمة، فنحلّفه رجاء أن يقر (1)، وإن نكل، فيمين الرجل تُثبت ما يثبته الإقرار. فإذا رأينا تحليفه، فإن حلف تخلّص؛ وإن نكل وحلف المدعي غرّمه القيمة.
__________
(1) أي يقرّ للثاني، فيكون كمن قال: هذه الدار لزيد، لا بل هي لعمرو.

(19/123)


قال قائلون من أصحابنا: هذا يخرج على أن يمين الرد تنزل منزلة الإقرار أو منزلة البينة: فإن نزلناها منزلة الإقرار، ففائدتها التزام المدعى عليه القيمة.
وإن قلنا: يمين الرد كالبيّنة، فمن الأصحاب من رأى استرداد الدار من المقرّ له الأول، كما لو أقام المدعى البينة، وهذا يقع في المنزلة الثانية من المنازل التي ذكرناها في يمين الرد، فإنا حكمنا بها على ثالث.
ومن أصحابنا من قال: لا نزيل يد المقر له الأول، ولكن نقتصر على إلزام المدعى عليه القيمة؛ فإن العين فائتة، فالرجوع إلى قيمتها.
ثم فرّع بعض المتكلفين على الوجه الضعيف شيئاً نوضح بطلانه؛ وقال: إذا استرددنا الدار من الأول، فهل يغرم المدعى عليه للأول قيمة الدار، فإنه يقول له: لو حلفتَ يميناً صادقة، لما استُردّت الدار من يدي، فقد صار نكولك سبباً في إزالة يدي، فعلى وجهين: أحدهما - أنه لا يغرِّمه شيئاً، وهو الأصح؛ لأنه يقول: لا يلزمني أن أحلف لك، وعلى أن لا أقر لغيرك إذا رأيتُك مستحِقاً. والثاني - يلزمه أن يغرم له القيمة؛ فإن الدار انتزعت من يده بسببه؛ والسبب يوجب الضمان كمباشرة الإتلاف. هذا كله إذا أحضرنا المُقَر له فصدق المقر.
12246 - فأما إذا أحضرناه، فكذب المقِر؛ فقد ذكر الأصحاب أوجهاً: أضعفها - أن الدار تسلم إلى المدعي؛ فإن صاحب اليد ليس يدعيها لنفسه، وكذلك المقر له، فيجب تسليمها إلى من يدعيها لنفسه، وهذا باطل، فإن تسليم الدار إليه من غير بينة، ولا إقرار، ولا ظاهر يد - محالٌ.
والوجه الثاني - أن الإمام يحفظ الدار إلى أن يتبتن أمرُها، ويزيلُ يدَ المقِر عنها، فإن كان للمدعي بينة، أقامها، واستحق الدار، وإن لم تكن له بينة، حفظها إلى أن يتبين أمرَها.
ولو أراد المدعي تحليفَ المقر ليغرمه القيمةَ، لو نكل، وحلف هو، ففيه الخلاف المقدم.
ومن أصحابنا من قال: ترد الدار إلى المقِر؛ فإنه أقر لمن عيّنه. فرد المقَرّ له إقراره فارتد المُقَرّ به إليه.

(19/124)


فعلى هذا لو أراد المدعي أن يحلِّفه، فكيف السبيل، وما الوجه؟ هذا لا يتبين إلا بإيضاح أصلٍ، وهو أن المُقِرّ لو أراد الرجوع عن إقراره والمقَر له مصدق، لم يجد إلى ذلك سبيلاً. ولو كذّب المقَر له المقِر، ثم بدا له، فصدقه، ففي المسألة وجهان: أحدهما - لا يُقبل ذلك، حتى يجدد المقِر إقراراً آخر، وهو الذي ذكره القاضي؛ فإن الإقرار الأول ارتد، وبطل بالتكذيب، فلا بد من إقرار جديد. والوجه الثاني - أنه مهما (1) صدّقه، زال أثر التكذيب، واستقر الإقرار.
وهذا ينشأ من أصلٍ، وهو أن التوكيل بالتصرف إن لم يشترط فيه القبول، فيشترط عدم الرد، فلو رد، بطل، ولا بد من توكيلٍ جديد إن أراد أن يتصرف، وسبب ذلك أن التوكيل عقد يتطرق إليه الفسخ والاستمرار، والإقرار من وجهٍ يشبه الوكالة، ولا يشبهه من وجه؛ لأنه ليس عقداً، وإنما هو إخبار، ويجوز فرض التصديق فيه بعد التكذيب.
وحاصل القول أن من أقر لغيره، وصح الإقرار، لم يملك الرجوع؛ لأنه برجوعه يُبطل حق غيره، وإذا قال قولاً يتضمن انتفاء ملكه، ثم رجع وقوله الأول لم يُثبت لغيره حقاً، ففي رجوعه عنه التردُّدُ الذي ذكرناه.
ومما نذكره الآن أنا إن أزلنا يد المقر، فقد قطعنا سلطانه بالكلية، حتى لو أراد الرجوع عن إقراره، لم يجد إليه سبيلاً، وإن بقّينا الدار تحت يده، فأراد الرجوع عن إقراره، هل يقبل رجوعه والمقر له مكذّب؛ إن قلنا: لو عاد المقر له إلى التصديق، لم يقبل ذلك منه، فلو كذب هذا المقِر نفسَه، لم يقبل منه؛ فإنه نفى الملك عن نفسه، فلا يقبل منه نقيضُ ذلك [كالمقر له] (2) وإن قلنا: المقَر له لو صدّق المُقِرَّ بعد التكذيب، قُبل منه، فالمقِر لو كذَّب نفسه -والمقر له مصرّ على التكذيب، أو مات عليه، وأيس من تصديقه- ففي رجوع المقِر الترددُ الذي ذكرناه. وإن قبلنا رجوع المقِر، فرجع، فقال المُقَر له: صدقت في إقرارك الأول، وكذبت في رجوعك، فهذا فيه تردد، وظاهر قول القاضي أنه لا مبالاة بقول المقر له.
__________
(1) مهما: بمعنى إذا.
(2) في الأصل: " المقر له ".

(19/125)


فإذا تبين ما ذكرناه، بنينا عليه الغرض قائلين: إن حكمنا بقبول رجوع المقر، فلا شك أنا نقبل منه الإقرار للمدعي إذا كُذِّب في الإقرار الأول، فعلى هذا يحلّفه المدعي رجاء أن ينكُل، فيحلفَ المدعي ويستحق الدار. فإن يمين الرد كبيّنة أو كإقرار.
وإن قلنا: لا يقبل رجوعه عن الإقرار، فالدار ليست بحكمه، وهي بمثابة ما لو انتزعها القاضي من يده. هذا كله فيه إذا أقر لحاضر.
12247 - فإذا أقر لغائب؛ فتعسر مراجعته، ويتعذر وقفُ الخصومة، فلا يخلو المقر إما أن يقيم بينةً أن الدار التي في يدي لفلان -على ما سنوضح وجه إقامتها- أو لا يقيم بيّنة.
فإن لم يُقم على ذلك بينة، ولكنه أقر بها لغائب، فلا يخلو المدعي إما أن يكون معه بينة، على إثبات الملك لنفسه، أو لا يكون معه بيّنة.
فإن لم يكن معه بينة، فالذي قطع به العراقيون أن الخصومة في رقبة الدار موقوفة إلى أن يحضر الغائب. ولو قال المدعي: أحلّف المدعى عليه الذي هو صاحب اليد لا يلزمه تسليمُ الدار إليّ، فإن نكل، حلفت، وأخذت الدار، قال العراقيون: ليس له ذلك ألبتة؛ فإنه أقر للغائب، وإقراره مقبولٌ لظاهر يده، فلا يصير نكوله بعد ذلك مع رد اليمين سبباً في تسليم الدار إلى المدعي، غيرَ أنه لو أراد تحليفه، حتى إذا نكل وحلف المدعي عند نكوله، غرّمه القيمة، فهل [يكون] (1) له ذلك؟ فيه الخلاف المقدم.
وقال شيخي أبو محمد وبعضُ المصنفين: إذا لم يُقم المدعى عليه بينة أن الدار للغائب، ولم يكن للمدعي بينة، فقال المدعي: حلّفوه؛ فإنا نحلّفه: " بالله لا يلزمه تسليمُ الدار إليه "، فإن نكل، رددنا اليمين على المدعي، فإذا حلف، سلمنا الدارَ إليه، فإنا لو لم نقل هذا، لدفع كل من ادُّعي عليه شيء الخصومةَ عن نفسه بأن يقر لغائب لا يرجى وصولُه وإيابُه.
ثم قال هؤلاء: لو رجع الغائب، فهو على حجته. فإن صدّق المقِرَّ، فالدار
__________
(1) زيادة من (ت 5).

(19/126)


مردودة إليه، ثم يستفتح الخصومة بين المدعي وبينه.
وهذا تباينٌ ظاهر في الطرق. والقياس الذي لا يجوز غيره ما ذكره العراقيون.
هذا كله إذا لم يُقم المدعى عليه بينة، ولم يكن للمدعي بينة.
12248 - فأما إذا أقام المدعي بينة، ولم يكن للمدعى عليه بينة أن الملك للغائب، فلا شك أنا نقضي بموجب البينة للمدّعي، وقطع شيخي ومن وافقه بأن هذا قضاء على الحاضر، وهو صاحب اليد، وهذا مستقيم على طريقهم.
وذكر العراقيون في ذلك وجهين: أحدهما - أن ذلك قضاء على الغائب. والثاني - أنه قضاء على الحاضر، وفائدة قولنا أنه قضاء على الغائب أن القضاء لا يتم بالبيّنة، حتى يحلف مُقيمُ البينة، على ما ذكرنا تفصيلَ ذلك [في القضاء] (1) على الغائب.
وهذا الوجه الأخير هو الذي يوافق مذهبَ العراقيين، وليس لقولهم: هذا قضاء على الحاضر وجه.
وما من فريق إلا ولهم خرجات عن القياس في أطراف هذه المسألة، ونحن ننبّه على ما ينقاس، وعلى ما يخرج عن القياس، وكل ما ذكرناه فيه إذا لم يُقم المقِر بينةً على أن ما في يده لفلان الغائب.
12249 - فأما إذا أقر للغائب، كما صورنا، وأقام بينةً على أن ما في يده للمقَرّ له الغائب، فكيف السبيل؟
الوجه أن نفرض الكلام فيه إذا لم يكن للمدعي بينة، ثم نذكر ما إذا كانت له بينة.
فأما إذا لم تكن بينة، فحاصل ما ذكره الأصحاب ثلاثة أوجه: أحدهما - أن بينته لا تسمع إذا لم يُثْبت وكالة نفسه عن ذلك الغائب؛ فإن إقامته البينة لملك غيره من غير استنابة وتوكيل خصومة عنه، والخصومة عنه من غير توكيل كالتصرف في أمواله من غير توكيله، فإن أثبث وكالة عنه، فسنذكر ذلك على أثر هذا، إن شاء الله. فبيّنته إذاً مردودة عند هؤلاء. ويعود التفريع إلى ما قدّمناه، وهو إذا لم تكن بينةٌ أصلاً، وهذا اختيار شيخي.
__________
(1) زيادة من (ت 5).

(19/127)


والوجه الثاني -وهو مختار المحققين، المحيطين بسرّ هذا الفصل وخاصيته- أن البينة مسموعةٌ، وليس المراد بسماعها أنه يقع بها القضاء للغائب، ولكن لا طريق لمن في يده ملك غيره إلى أن يصرف الخصومة عن نفسه إلا هذا، وليس من الممكن أن يقيم بينة على أن الدار ليست له، وإذا أضافت البينةُ الملكَ إلى الغائب، حصل بذلك غرضُ صاحب اليد، وانصرفت الخصومة عنه، فالطريق في دفع الحلف هذا.
ثم سنوضح أن تلك البينة لا تُثبت ملك الغائب على التحقيق، فعلى هذا لو أراد المدعي أن يحلّف صاحب اليد؛ طامعاً في أن ينكُل، ويحلف هو يمينَ الرد، ويستردَّ الدارَ، لم يمكنه. وتمام هذا الفصل موقوف على نجازه.
والوجه الثالث - أنه إن أقام البينة على أن الدار لفلان الغائب، وهي في يده وديعة أو عارية، فالبينة تُسمع، والخصومة تنصرف عنه في رقبة الدار، فأما إذا لم يذكر لنفسه متعلقاً من إيداع أو إعارة، فلا تُسمع البينة. وهذا اختيار القاضي، وليس يليق هذا بمنصبه؛ فإن السرّ المتبع ما ذكرناه من انصراف الخصومة عنه، ولكن لا وصول إليه إلا ببينة تثبت الملك، والمقصودُ من إثبات الملك للغائب النفي وقطع العلائق.
والوديعة لا تُثبت للمودعَ (1) حقَّ المخاصمة، فلا معنى لاشتراط ادعائها، فإن كانت المسألة على ما وصفناها وسمعنا البينة، فهذه بينة تُسمع، وإن لم تكن للمدعي بينة، وبهذا يتضح أنها ليست ببينة، وإنما الغرض صرف الخصومة إلى الغائب. وكل ما ذكرناه فيه إذا لم تكن للمدعي بينة.
12250 - فأما إذا كان للمدعي بينة فأقامها، فبيّنته مقدمة (2)، ويقع القضاء بها، ولكن القضاء على حاضر أم على غائب؟ قال العراقيون: القضاء على الغائب، إذا أقام صاحبُ اليد بينة على أن الملك للغائب، وفائدته تحليف المدعي مع بينته.
ثم لا تعارِضُ بينةُ صاحبُ اليد بينةَ المدعي؛ لأنها ليست بينة على الحقيقة، وإذا قضينا للمدعي، وكتبنا له السجل، أثبتنا في السجل مجرى الحال، وقلنا فيه: إذا
__________
(1) ضبطت خطأ في (ت 5): " المودع "، (بكسر الدال).
(2) ساقطة من (ت 5).

(19/128)


رجع الغائب، فهو على حجته، وهو صاحب اليد، فمهما رجع، رددنا الدار إلى يده، وسمعنا بينته، ثم هو في حضوره يعيد البينة إمّا تيك أو أخرى، ولا يقع الاكتفاء بإقامة صاحب اليد؛ فإنه ما أقامها له وعنه، وإنما أقامها ليصرف الخصومة عن نفسه.
وقد ذكرنا فيما تقدم أن من ادعى داراً في يد رجل، وأقام بينة، وقضي له بالبينة، وأزيلت يد المدعى عليه، ثم وجد المدعى عليه بينة، فهل ترد الدار إلى يده، ونقدره صاحب اليد، على ما تفصّل في تأسيس الكتاب. وهاهنا إذا حضر الغائب، وأعاد البينة، فلا خلاف أنه صاحب اليد، وبينته مقدمة؛ فإنه كان معذوراً بغيبته، إذ جرى القضاء عليه، وحصل بإقامة صاحب اليد الشهودَ عُلقةٌ على حال، وتنبيهٌ على ارتقاب عوده. فخرج من مجموعه ما ذكرناه.
ولو لم يُقم المدعى عليه بينة على أن الملك للغائب، وأقام المدعي بينة، وحلف معها، ووقع القضاء له، فإذا رجع الغائب وأراد إقامةَ البينة، فهو صاحب اليد، كما ذكرناه، لإقرار المدعى عليه له في ابتداء الخصومة، ولكون الغيبة عذراً له.
12251 - ومما يتعلق بتمام البيان في ذلك أن المدعى عليه لو أقام بينة على أن ما في يده لفلان الغائب، وقلنا: البينة مسموعة لصرف الخصومة، فلو لم تكن للمدعي بينة، فقال أحلّف صاحب اليد لينكُل، فأحلف، فأغرمه القيمة، [لم يكن له ذلك، مذهبا واحداً] (1)؛ لأن الخصومة قد انصرفت عنه بسبب إقامة البينة.
ولو لم يُقم بينة على أن ما في يده لفلان، فأراد أن يحلفه، فقد سبق الكلام فيه، وهو موضع اختلاف العراقيين وغيرهم، وذلك الاختلاف في رقبة الدار: ففي الأصحاب من قال: يستفيد المدعي بيمين الرد الدارَ. ومن أبى ذلك من العراقيين ذكروا خلافاً في أنه هل يحلّفه لينكل؛ فيحلف، فيغرِّمه القيمةَ؟ فعلى الخلاف المقدم المذكور فيه إذا أقر لحاضر وصدقه ذلك الحاضر. نعم، لو عاد ذلك الغائب، وأقام البينة على ملك نفسه، أو وقع الإقرار لحاضر، ثم لما دارت الخصومة بين المدعي والمقر له، أقام المقر له بينة على ملكه، فلا يملك المدعي تحليفَ المقِر ليغرِّمه؛
__________
(1) عبارة الأصل: لم يكن ذلك مذهباً، والمثبت من (ت 5).

(19/129)


فإن الملك استقل للمقر له بالبينة، فخرج إقرار المقر عن كونه مقتضياً حيلولة، ولا مبالاة باقتضاء إقراره له ما يرجح بينته، إذا كانت الإحالة على البينة.
ومن تمام الكلام في ذلك أن المدعى عليه لو أقر للغائب، وأثبت وكالة عنه، ثم أقام البينة بأن الملك للغائب، وهو موكلي، قدّمنا هذه البينة، ونُطنا بها القضاء؛ فإنها بينة مقامة في حقها، مقدَّمةٌ على بيّنة المدعي الخارج. وقد انتهى كُثْر المقصود من ذلك. وبقي الكلام في طرفٍ هو التتمة.
فلو قال المدعى عليه: الدار لفلان الغائب، وهي رهن في يدعب، أو مستأجرة، فقد ادعى لنفسه حقاً، لو ثبت، لاستحق به مدافعةَ المدعي ومنْعَه، فمن لا يسمع البينة فيما تقدم من غير وكالة، ففي سماع البينة في هذه الصورة وجهان.
والعراقيون سمعوا البينة من غير وكالة، ولا ادعاءِ حقٍّ، ولكنهم قالوا: لا محالة، بينة المدعي مقدمة، فلما فرضوا دعوى الرهن والإجارة، وبَنَوْا عليه تصوير إقامة البينة على أن الدار لفلان، وقد أجّرها من صاحب اليد أو رهنها، فإذا أقام بينةً كذلك، وأقام المدعي بينة، ذكروا وجهين: أحدهما - تُقدم بينة صاحب اليد؛ فإن لها تعلقاً بحقه، ويثبت الملك للغائب، لتعلق الملك بحق الحاضر، حتي لا يحتاجَ إلى إعادة البينة إذا حضر. حكى العراقيون هذا الوجه عن أبي إسحاق وضعّفوه.
والوجه الثاني - أنه لا يثبت ملكُ الغائب، ويثبت ملك المدعي، ولا يثبت الرهن والإجارة؛ فإنهما يتبعان ثبوتَ الملك للغائب، وثبوتَ الملك له يتبع إذنَه وتوكيله.
وقد انتجز الكلام في الطرف الأعظم. وهو إذا أقر صاحب اليد لمعين، حاضراً كان أو غائباً.
12252 - فأما إذا نفى الملكَ عن نفسه ولم يُضِفْه إلى معروف معين، فهذا يتصَوَّرُ على وجوه:
أحدها - أن يقول: " ليس هذا بملكٍ لي "، فلا تنصرف الخصومة عنه بهذا، ولا تندفع عنه اليمين، فإن أقام المدعي بينة، قُضي له بها على الحاضر، وإن لم تجر بينة، فله أن يحلّف صاحب اليد، فإن حلف تخلص، وإن نكل حلف المدعي واستحق دعواه. هذا هو المذهب الظاهر.

(19/130)


ومن أصحابنا من قال: إذا قال: " ليس هذا لي " ينزع القاضي [العينَ] (1) من يده، ويقول للمدعي: هذا مال ضائع، فإن كانت لك بينة، فأقمها.
والصحيح أن القاضي لا ينتزع من يده إذا لم يضف الملك إلى مُقَرّ له، ولا تنصرف الخصومة عنه. ثم من قال: للقاضي أن ينزع ملكَ العين من يده، يجوّز للمدعي أن يحلّف المدعى عليه ليغرمه القيمة على أحد القولين.
فإن قال المدعى عليه: هذه الدار لرجل، ولا أسميه، فالحكم فيه كما إذا قال: ليس لي، واقتصر عليه.
وإن قال: الدار لرجل لا أعرفه، وقد أُنسيتُ اسمَه وعينَه، فالاختلاف جارٍ في هذه الصورة، غير أن انتزاع القاضي العين من يده على الحكم الذي ذكرناه أَوْجَه في هذه الصورة منه في الصورتين المتقدمتين.
12253 - ومما يتعلق بهذا الفصل أنه لو أقر لمجهول، أو قال: ليس لي، ثم قال: كذبت فيما [قلتُ] (2)، والملك لي، فهل يقبل قوله الثاني؟ فعلى وجهين ذكرهما العراقيون، وهو بعينه الخلاف الذي قدمناه فيه إذا أقر لحاضر، وكذّبه المُقَرّ له، ورجع المقِر عن إقراره، وقد قدمنا ذلك مفصلاً.
12254 - ومما يتصل بهذه الجملة أن المدعى عليه لو أقر لصبي أو مجنون، فإقراره مقبول، والخصومة في رقبة الدار تنصرف عن المدعى عليه، ثم يخاصم المدعي قيم الطفل، وإذا آل الأمر إلى اليمين، وقفت الخصومة إلى بلوغ الطفل، وهل يحلّف صاحب اليد ليغرّمه؟ فيه الخلاف المقدم.
وإن قال المدعى عليه: هذه الدار وقفٌ على ولدي، أو على الفقراء، أجري الحكم بالوقف لإقراره، وفي تحليفه لتغريمه القيمةَ الخلافُ المقدم، وإن أقام المدعي بينة، قُضي له بها على التفصيل الماضي.
وإنما يجري الخلاف في التحليف والتغريم إذا أقر بالوقف على ولده؛ فإن التدارك
__________
(1) زيادة من المحقق.
(2) في الأصل: " نقلت "، والمثبت من (ت 5).

(19/131)


ممكن، وإن أقر بالوقف على المساكين، فالتدارك فيه ممكن أيضاً بقيام البينة، فكيف فرض الأمر فالخلاف جارٍ.
وقد نجز الفصل على أبلغ وجه في البيان. والله المستعان.
فصل
ذكر الشافعي فصلاً يتعلق بالتواريخ في الدعاوي المتعلقة بالأملاك أو بالأيدي، فرأيت تأخيره إلى باب معقود في هذا المقصود (1).
ثم قال: " ولو أقام بينة أنه غصبه إياها ... إلى آخره " (2).
12255 - إذا ادعى رجلان عيناً في يد إنسان، فأقام أحدهما بينة على أنه غصبها منه، وأقام الآخر بينة على أنه أقر بها له، فبينة الغصب مقدمة؛ فإن الغصب إذا ثبت، بطل الإقرار. وهذا بيّن.
ثم إذا رددنا الدار إلى مدعي الغصب، فليس لمدعي الإقرار أن يغرمه شيئاً، فإنه يقول: انتُزِعَت الدارُ من يدي قهراً، وإنما يخرج القولان في الغرم إذا كانت الحيلولة محالة على إقرار سابق، ثم يُفرض بعده إقرارٌ لاحق.
ثم ذكر بعد ذلك فصلاً في تقاسيم الأيمان، وأنها متى تكون على البتّ، ومتى تكون على نفي العلم، وقد ذكرنا هذا فيما سبق (3)، وغالب ظني أنه يعود إن شاء الله في بقية مسائل الكتاب، والحاجة ماسة إليه. والله أعلم.
...
__________
(1) ر. المختصر: 5/ 262.
ونُذَكِّر هنا بمذهب الإمام أنه يسير على ترتيب (المختصر) ملتزماً إياه، فإذا خالفه، نبه على ذلك.
(2) ر. المختصر: 5/ 262.
(3) ينبه هنا إلى أنه لم يلتزم ترتيب المختصر في ذكر هذه المسائل في هذا الموضع، حيث أوردها من قبل.

(19/132)


باب الدعوى في الميراث
قال الشافعي رضي الله عنه: " ولو هلك نصراني، له ابنان مسلم ونصراني ... إلى آخره " (1).
12256 - إذا مات رجل وخلّف ابنا نصرانياً، وابنا مسلماً، فاختلفا، فقال النصراني: مات نصرانياً، فلي ميراثه، وقال الئاني: بل مات مسلماً، فلي ميراثه، فلا يخلو إما أن يكون قد عُرف دين المتوفى من قبل، أو لم يعرف له دين، فإن اشتهر بالتنصر، ثم تداعيا، فإن أقام أحدهما بينة دون الثاني، قُضي له بالبينة.
فإن لم تكن لهما بينة، وقد عُرف المتوفى بالتنصر، فالقول قول النصراني؛ لأن الأصل دوام ما كان عليه، ومن يدعي الإسلام يدّعي أمراً جديداً، والأصل عدمه.
ولو كانت المسألة كذلك، فأقام كل واحد منهما بينة، فبينة الابن المسلم مقدمة؛ فإن بينته ناقلةٌ مختصة بمزيد علم، وبينة التنصر مستندة إلى استصحاب ما كان عليه، وهذا فيه إذا كانت البينتان مطلقتين، فشهدت إحداهما بأنه مات مسلماً، وشهدت الأخرى بأنه مات نصرانياً، وتقديم البينة الناقلة على البينة المستديمة أصل ممهد في البينات.
فلو شهدت بينة بأن فلاناً أصدق امرأته هذه الدار، وشهدت بينة لابنه بأنه ورثها من أبيه، فبينة الإصداق مقدمة؛ لأنها ناقلة، وبينة الإرث لا تصادمها إلا من جهة التعرض لنفي الإصداق، وهذا لا ثباتَ له.
وكذلك إذا شهدت بينة لواحد بالشراء، وشهدت بينة للابن بالميراث من ذلك الشخص الذي شهدت البينة الأولى بالشراء منه، فبينة الشراء مقدمة. هذا إذا كانت البينتان مطلقتين.
__________
(1) ر. المختصر: 5/ 262.

(19/133)


فأما إذا كانتا مقيدتين: مثل أن تشهد بينة الإسلام بأنه نطق بالإسلام، ومات عقيبه، وشهدت بينة التنصر أنه نطق بكلمة التنصر ومات عقيبها، فهما متناقضتان في هذه الصورة، فتخرج المسألة على قولي التهاتر (1).
فإن قلنا: إن البينتين تتهاتران، فيجعل كانهما لم تكونا، ولو لم تكن بينة، لكان الأصل بقاء التنصر، وإن قلنا باستعمال البينتين، ففي الاستعمال الأقوال الثلاثة، وهي بجملتها جارية في هذه الصورة، أما القرعة، والوقف، فلا شك في جريانهما، والقسمة جارية عند المعتبرين من الأصحاب.
وحكى العراقيون عن أبي إسحاق المروزي أنه قال: لا يُخرَّج قول القسمة. فإن النزاع آيل إلى الميراث، ويستحيل انقسام الميراث بين مسلم وكافر، وليس كما لو ادعى رجلان داراً عن شراء على صاحب يد؛ فإن قول القسمة عند قيام البينتين يجري؛ فإن الانقسام في الشراء ممكن، ولا يتصور الانقسام في الميراث بين المسلم والكافر.
وهذا الذي ذكره غيرُ معتد به؛ فإن قول القسمة لا يعتمدُ إلا إمكان الشركة في الجنس المدعى، فأما الجهات، فلا نظر إليها؛ فإن القسمة إنما تجري لاستواء المتداعيين في متعلقيهما، وليس أحدهما أولى من الثاني، والتعطيل عند هذا القائل لا سبيل إليه، وليست القسمة لتخيلنا ثبوت استحقاقهما على الانقسام؛ ولم أذكر هذا الوجه لضعفه عند تمهيد الأصول.
وكل هذا فيه إذا عُرف أصل دينه. ثم جرى الخلاف كما وصفنا.
12257 - فأما إذا لم يعرف أصلُ دينه، ولكن ادعى أحد الابنين -وهو المسلم منهما- أنه كان مسلماً ومات على الإسلام، وادعى النصراني منهما أنه كان نصرانياً، وأقاما بينتين، فهما متناقضتان، والتفصيل فيه كما قدمنا في التهاتر والاستعمال.
ولو لم تكن معهما بينة، ولم يسبق في المتوفى دين يستصحب، فليس أحدهما أولى من الثاني؛ إذ لو أقاما بينتين موافقتين لدعوييهما، لما ترجحت إحدى البينتين على الأخرى، فإذا كانت لا تترجّح بينة على بينة، فلا تترجح دعوى على دعوى،
__________
(1) أي قولي التهاتر والاستعمال.

(19/134)


والنسب ثابت من المتوفى، فسبيلهما في التركة كسبيل متداعيين في دار هي في أيديهما، وقد مضى التفصيل فيه، ويخرج منه أن التركة في أيديهما.
وقد ذكر القاضي أنا ننظر إلى اليد: فإن كانت التركة في يد أحدهما، فالقول قوله مع يمينه، وهذا وهم وزلل من الناقل عنه؛ فمانهما إذا اعترفا بأن المال الذي فيه النزاع تركة، فلا حكم لصورة اليد، وما كان تركة فسبيله مع الإشكال تساوي الاثنين فيه.
ومما يجب التنبه له أن أحد الابنين إذا كان مسلماً وقال: لم يزل أبي مسلماً، ومات على ما كان عليه، فمن ضرورة هذا أن ينسب أخاه إلى الردة، فإن ولد المسلم مسلم، ولكن قوله مردود على أخيه فيما يتعلق بدينه.
وأبعد بعض أصحابنا، فقوّى بينة الإسلام بقوة الدار، وصدق مدعي الإسلام مع يمينه لهذا المعنى، وهذا هوسٌ لا أصل له؛ فإن الدار إنما تؤثر في طفل يُلفَى في دار الإسلام بلا أب.
12258 - ومما نُلحقه بهذا أنه إذا قامت بينتان في الإسلام والكفر ولم تترجح إحداهما، وجرى القضاء بالتهاتر أو الاستعمال، فالشخص المتوفى يغسل ويصلى عليه، نصّ عليه الشافعي، وشبّهه في هذا الحكم بمسلمين اختلطوا بمشركين، وأردنا الصلاة، فإنا نصلي على المسلمين بالنية (1)؛ وهذا الاستشهاد إيناسٌ لا حاجة إليه، والمعتمد في الصلاة استناد الإسلام إلى [بيّنة] (2) وليس في الصلاة نزاع، ولا يموت ميت فيقطع له بالإيمان في الموافاة، ولست أنكر تردداً من طريق الاحتمال، سيّما إذا كان الرجل معروفاً بالتنصر، وقد تعارضت بينتان في الكلمة التي بها الاختتام. ولكن النص هذا، ولم أر في الطرق ما يخالفه.
ومن لطيف ما يجب التنبه له أن المتوفى إذا كان معروفاً بالتنصر، والبينتان مطلقتان، فقد ذكرنا أن بينة الإسلام مقدمة؛ لأنها ناقلة، ولو لم نَفرِض بينتين، فالقول قول المتنصر، فنُرجِّحُ بينةَ من لا نصدقه لو لم تكن بينة، وذلك لفقه واضح،
__________
(1) عبارة الشافعي في المختصر: " وإنما صُلي عليه بالإشكال، كما يصلى عليه لو اختلط بمسلمين موتى ".
(2) في الأصل: " نيته " والمثبت من (ت 5).

(19/135)


وهو أن النقل دعوى، والاستصحابُ مقام المدعى عليه. ثم إذا أقاما بينتين، فبينة الناقل تشتمل على مزيد علم، لا تصادمها بينة المستصحِب إلا بالنفي، والشهادة على النفي مردودة.
فصل
قال: " ولو كانت دار في يد أخوين مسلمين ... إلى آخره " (1).
12259 - صورة المسألة: مسلم له ابنان مسلم ونصراني، فمات، فلا يخفى أن الميراث للمسلم، فإن أسلم النصراني قبل موت الأب، فالميراث بينهما، فلو اختلفا، فقال الابن المسلمُ: أسلمتَ بعد موت الأب؛ فلا حظّ لك في الميراث.
وقال هو: بل أسلمتُ قبل موته، فالاختلاف بينهما على هذا الوجه بمثابة اختلاف الزوجين في الرجعة وانقضاء العدة.
ونحن نسوق الترتيب هاهنا في عرض المسألة، فنقول: لا يخلو إما أن يتفقا على وقت الإسلام، وهما مختلفان في وقت الموت، أو يختلفان في وقت الإسلام، ويتفقان على وقت الموت.
فإن اتفقا على وقت الإسلام، واختلفا في وقت الموت، بأن يحصل الوفاق على أنه أسلم في رمضان، وقال الابن المسلم: مات أبونا في شعبان، فأسلمتَ بعد موته، فلا شيء لك من التركة، وقال الآخر: بل مات أبي في شوال، فإن كان لأحدهما بينة، وقع الحكم ببينته، وإن لم يكن لأحدهما بينة، فالقول قول الابن الذي كان نصرانياً؛ لأنه أنكر الموت في شعبان واستصحب الحياة، والأصل بقاؤها.
فإن أقام كل واحد منهما بينة على وَفْق دعواه، فقد قال القاضي والأصحاب: بينة المسلم أولى؛ لأن معها زيادةَ علم تنقل من دوام الحياة، والميت في شعبان ميت في شوال.
وهذا فيه كلام؛ فإن الذي كان نصرانياً يثبت الحياة في شعبان، والحياة صفة ثابتة
__________
(1) ر. المختصر: 5/ 263.

(19/136)


ترتبط الشهادة بها على استيقان كالممات، فلئن تعرضت بينةٌ لثبوت الموت في وقتٍ ناقضته البينة الأخرى بوصفٍ ثابت لا يرجع إلى نفي إلا من جهة رجوع الأخرى إلى النفي، فبينة الحياة تنفي الموتَ من جهة اعتقاب الضدين واقتضاء ثبوت أحدهما نفي الثاني، وهذا يشمل الجانبين، فلست أدري لترجيح بينة على بينة وجهاً.
وليس كما قدمناه في ابنين أحدهما مستقر على التنصر، والثاني مسلم، وكان أبوهما مشهوراً بالتنصر، فلو أقام النصراني بينة على أنه مات نصرانياً، وأقام المسلم بينة على أنه مات مسلماً، فبينة الإسلام ناقلة؛ من جهة أن بينة التنصر يتجه حملها على استصحابها حكم الدين الذي كان المتوفى مشهوراً به، وأما الشهادة على الحياة، فلا يسوغ حملها على أن الشهود اعتمدوا استصحاب الحال، وشهدوا بالحياة، بل محملها أنهم عاينوه حياً، فشهدوا.
12260 - ولو اتفقا على وقت الموت، واختلفا في وقت الإسلام، بأن اتفقا على أنه مات في رمضان، وقال المسلم منهما لصاحبه: أسلمتَ في شوال، فلا شيء لك، وقال ذلك المخاطَب: بل أسلمت أنا في شعبان، فالميراث بيننا، فإن كان لأحدهما بينة، حكم ببينته، وإن لم يكن لهما بينة، فالقول قول الابن المسلم، إذ الأصل بقاء الكفر. وإن أقام كل واحد منهما بينة على وفق دعواه، فبينة النصراني أولى، لأنها ناقلة، ولها زيادة علم. وهذا متجه؛ فإن بينة المسلم قد تبنى على دوام كفر الآخر، فالبينة الناقلة أولى من المستندة إلى الدوام.
12261 - ولو مات وخلف زوجةً مسلمة، وأخاً مسلماً، وابنين كافرين، فتنازعوا، فإن عُرف أصلُ دين المتوفى، فالقول قول من يبقِّي الأصل، وإن لم يعرف أصل دينه، فإن أقام أحدهما بينةً، حُكم بالبينة. وإن أقام الفريقان بينتين، فهما متعارضتان، وإن لم يكن لهما بينة، فالتركة بين الفريقين.
قال القاضي: إن كانت في أيديهم، فالاشتراك. وإن كان في يد أحد الفريقين، فاليد له.
وهذا عندنا غير صحيح، مع الاعتراف بأنه تركة، كما قدمنا تقريره.

(19/137)


ثم إذا انتهى التفريع إلى القسمة، فالنصف للابنين والنصف للزوجة والأخ؛ فإن الفريقين مختلفان، فإن ورث الابنان لم يرث الفريق الآخر، وإن ورثت الزوجة والأخ لم يرث الابنان، ثم ما يسلم إلى الزوجة والأخ المسلمين، فالربع للزوجة، والباقي للأخ؛ فإن الابن الكافر لا يحجب المسلم كما لا يرث.
12262 - ولو مات وخلف ابنين مسلمين، وأبوين كافرين، فقال الابنان: مات مسلماً، وقال الأبوان: بل كافراً -ولا بينة- فقد ذكر القاضي وجهين، وقرّبهما من تقابل الأصلين: أحدهما - القول قول الابنين لظاهر الدار، والوجه الثاني - القول قول الأبوين؛ لأنهما إذا كانا كافرين، فالأصل أن الابن المتوفى مثلهما؛ فإن الأصل يستتبع الفرع؛ وهذا فيه إذا كان أصل دين المتوفى متنازعاً فيه.
وفي هذا أدنى نظر وتأنّق، فليقع فرض المسألة فيه إذا لم يسلّم الابنان المسلمان كون الأبوين كافرين أصليين، فإن ذلك لو ثبت، فلا شك في كفر الابن أولاً في الأصل، وإنما يثبت إسلامه طارئاً [بنسب] (1) أو إنشاء إسلام، وإذا كان كذلك، فمستصحِب أصل الكفر أولى، إذا لم تكن بينة، وهذا واضح.
فصل
قال: "ولو أقام رجل بينة أن أباه هلك، وترك هذه الدارَ ميراثاً ... إلى آخره" (2).
12263 - مضمون هذا الفصل صرفُ التركة إلى من ثبت كونه وارثاً، مع التثبت في أنه لا وارث للمتوفى غير من أثبت الوراثة، ثم إذا تمهد هذا الأصلُ، ذكرنا ما يليق به من الدعوى.
فإذا أقام رجلٌ بيّنةً أن أباه مات، وخلَّفه وارثاً، وقال الشهود: لم نعلم له وارثاً سواه، نُظر: فإن كانوا من أهل الخبرة الباطنة بحاله، بحيث علموا سفره وحضره،
__________
(1) في النسختين: " بسبب " والمثبت تقديرٌ من المحقق، رعاية للسياق والمعنى.
(2) ر. المختصر: 5/ 263.

(19/138)


ومغيبه، ومشهده، واطّلعوا على بواطن أمره، وشُعبِ نسبه وتزوجه، ففي مثل هذه الحالة يسلِّم القاضي ميراثه أجمع إلى الابن الذي فرضنا كلامنا فيه، ولا يطالبه بكفيل -مع قيام البينة- إجماعاً، ثم اتفق الأصحاب على أنه يكفي في ذلك شاهدان عدلان من أهل الخبرة الباطنة.
وذكر بعض المصنفين (1) أنه لا بد من ثلاثة يشهدون، وذكر هذا الوجهَ أيضاً في إثبات الإعسار، واعتلَّ بأن الشهادة في البابين مستندُها النفيُ، فبعدت الإحاطة بالمقصود. وهذا الذي ذكره لا أصل له، ولم يصر إليه أحد من الأصحاب، لا هاهنا ولا في الإعسار، فإن ذكر هذا اشتراطاً، فخطأٌ صريح، وإن ذكره احتياطاً، فالأمر أقرب.
ثم اشترط الأصحابُ كونَ الشهود من أهل الخبرة الباطنة، وهو صحيح، ولكن إذا ذَكَر عدلان أنهما خبرا باطنَه، اعتمد القاضي شهادتهما في ذكر الخبرة، كما يعتمد شهادتهما في أصل الواقعة، ثم إذا لم يذكرا كونهما خبيرين، نُظر: فإن عرف القاضي أنهما مخالطان للمتوفى سفراً وحضراً، لم يستبْحث، وإن لم يعلم ذلك، راجعهما، وأبان لهما أن الشهادة في الباب تعتمد الخبرة، وتستند إليها لا غير، فإذا ذكرا أنهما خبيران بالباطن، قُبل حينئذ شهادتهما، ثم إذا قالا مع إظهار الخبرة: لا نعرف له وارثاً غير هذا، كفى. وإن قالا: لا وارث له غيره، قُبل ذلك، مع ما فيه من المجازفة، وحُمل على الممكن في الباب من الاحتياط.
12264 - ولو مات الرجل، وخلّف زوجة، وثبتت زوجيتُه عند القاضي، وأشكل هل له زوجة سواها؟ فقد قال الأئمة: يدفع إليها في الحال من غير تربص المقدارَ المستيقن لها، وهو ربع الثُّمن عائلاً بأقصى ما يتصور من العول، وهو بيّن في الفرائض؛ فإنه لا سبيل إلى منع المستيقَن، ولا مزيد عليه في الحال، مع اطراد الإشكال، والمسألة مفروضة فيه (2)، ثم إذا بأن الورثة واحتجنا إلى أن نزيدها، زدناها.
__________
(1) بعض المصنفين: سبق مراراً القول إنه يقصد به (أبا القاسم الفوارني).
(2) فيه: أي في الإشكال.

(19/139)


ولو ثبت للمتوفى ابنٌ وارث، ولكن لم تقم بينة على أنه لا وارث سواه، فلا يصرف القاضي إليه شيئاً من الميراث، حتى يبحث عن حقيقة الحال، ويبعث إلى المواضع التي توهَّم (1) مصيرَه إليها، ويأمر من ينادي في كل قطر انتشر إليه، بأن فلاناً مات، فهل تعرفون له وارثاً؛ فإنا على قسمة ميراثه، [فما لم يَخْبُر ولم يبحث] (2) -والبحث ليس خارجاً عن الإمكان ولكن قد يتمادى فيه زمان- فلا يصرف إلى الابن شيئاً، فإنه ليس له [نصيب] (3) مقدر، وليس للممكن بين عدد المزاحمين ضبط، بخلاف الزوجة وكل صاحب فرض.
ولو خلّف المتوفى أمّا، فيدفع إليها السدس عائلاً على أقصى الإمكان في تصوير الإعالة، وللزوج أيضاً الربع العائل، وهذا مطرد في كل صاحب فرض يتصور ضبط أقل نصيبه، وكان ممن يرث لا محالة، ولا يحجب عن أصل الاستحقاق.
12265 - ولو توقف القاضي في أمر الابن، أو الأخ، أو غيرهما من العصبات، فبحثَ، وخبرَ، وبالغ في الاحتياط، فلم يَبِن وارثٌ سوى من ظهر، فيصرف التركة إلى من ظهر، وهل يأخذ منه كفيلاً بما أخذه؟ في المسألة قولان: أحدهما - يأخذ كفيلاً، تتمةً للاحتياط، وإن كانت هذه الكفالة لمجهولٍ بمجهول، ولكنا قد نحتمل مثلَ ذلك في منازل الاحتياط، كما ذكرناه في ضمان العهدة؛ والذي اختاره [العراقيون] (4) أنه لا يطالب بضمين، والاحتياطُ على ما وصفناه بالبحث كافٍ؛ إذ لا خلاف أنه لو شهد شاهدان من أهل الخبرة، سُلّم المال على مقتضى شهادتهما من غير ضمين، وإنما التردد فيه إذا كان القاضي هو الذي يبحث ويخبُر.
ثم قال الأئمة: لو كانت المسألة مفروضة في الابن، فهو يرث لا محالة، ولا يحجبه شخص حجباً كلياً، وترتيب الكلام فيه ما ذكرناه في الخبرة، والبينة
__________
(1) أي توهّم القاضي وتوقع أنه صار إليه.
(2) في الأصل: " فما لم يخبره لم يبحث ". وفي نسخة ت 5: " فما لم يجر ولم يبحث " والمثبت تصرف بالجمع بين النسختين.
(3) زيادة من المحقق.
(4) في الأصل: " القياسون ".

(19/140)


[الخابرة] (1)، وترتيب القول في الضمان.
فأما إذا كانت المسألة مفروضة في الأخ، وكل من يتصور أن يحجب عن أصل الميراث، فإن قامت بينة ذات خبرة، وقالت: لا نعلم له وارثاً بعد الخبرة الباطنة سوى هذا الأخ، سُلّم الميراث إليه من غير ضمين، فإن لم يكن بينةٌ على هذا الوجه، واحتاج القاضي إلى الخبرة، فإذا خبر، فهل يدفع الميراث إليه؟ فعلى وجهين: أصحهما - أنه يَدْفع؛ فإن الخبرة إذا حصلت، فهي أقصى الإمكان. وشهادة الشاهدين الخبيرين بزعمهما لا تفيد إلا غلبة الظن أيضاً، والوجه الثاني - أنه لا يسلم إليه شيئاً حتى يأتي بشاهدين خبيرين. وهذا الوجه ضعيف، والابن الذي لا يحجب عن أصل الميراث بمثابة الأخ؛ لأنه وإن كان لا يحجب، فمقدار ما يستحقه مجهول، ثم إذا كان التعويل على خبرة القاضي، فَخَبَر، وفرّعنا على الأصح، وهو أنه يسلِّم إلى الأخ بعد الخبرة، فقد قطع القاضي بأنه لا يدفع إليه إلا بضمين مذهباً واحداً بخلاف الابن. والفارقُ أن الأخ يُفرض حجبه عن أصل الميراث. ومن أصحابنا من أجرى القولين في استحقاق الضمين (2) على الأخ، وهذا منقاس متجه.
12266 - وإذا كان في المسألة صاحب فرض، فلا كفيل في القدر المستيقن، إذا كان لا يفرض الحجب عنه؛ فأما تسليم تمام الفرض، فموقوف على الخبرة، فإن قامت بينة خابرة، حكمنا بها، وجرينا على مقتضاها، ولا كفيل، وإن كان الأمر مردوداً إلى خبرة القاضي، والمسألة في الزوجة مثلاً، وهي بين ربع كامل وبين ربع ثُمنٍ عائل، فإذا ظهر بالخبرة أنه لا زوجة سواها، ولا ولد في الفريضة، فقد ذكر العراقيون وصاحب التقريب وجهين في توفير نصيبها عليها بعد البحث، وهذان الوجهان كالوجهين في أن الأخ هل يصرف إليه بعد البحث شيء أم يتوقف إلى أن يقيم بينةً خابرة.
ولو شهدت بينة أن هذا ابن المتوفى ووارثه، وخبرنا، فلم نجد سواه؛ صرفنا
__________
(1) في النسختين: " الجائزة "، والمثبت من المحقق.
(2) ت 5: " القسمين ".

(19/141)


الميراث إليه. ولو شهد شاهدان على البنوة، ولم يذكروا كونه وارثا، وبحثنا، فلم نجد له وارثاً سواه، صرفنا الميراث إليه، إذا لم يكن حاجب وصفي. ولو فرض هذا في الأخ، وسكت الشهود عن كونه وارثاً وبحثنا، ففي الصرف إليه خلافٌ ذكرناه، قال العراقيون: إذا سكت الشهود عن وراثة الأخ، لم نسلّم إليه شيئاً بعد الخبرة وجهاً واحداً؛ فإن سكوتهم عن الوراثة يورث رَيْباً، ويشعر بأنهم يعرفون له حاجباً، وهذا ليس بشيء؛ فإنه حكم بتوهمٍ لا أصل له، والوجه أن يخبر القاضي، ثم يخرج الوجهان كما قدمناه. هذا منتهى المراد في ذلك.
12267 - ومما ذكره الأئمة أن قالوا: لو كان لامرأةٍ زوجٌ، وابن، وأخ، فماتت المرأة، ومات الابن، وتنازع الزوج -أب الابن- والأخ- خال الابن- فقال الأخ: مات الابن أولاً، وعاد شيء من ماله إلى أمه، ثم ماتت، فالميراث بيني وبينك أيها الزوج، وقال الزوج: لا، بل ماتت الأم أولاً، فورثها ابني، وحجبك يا أخ، ثم مات الابن فالميراث كله لي -ولم يكن لواحد منهما بينة- فإن عسُر دَرْك تاريخ الموتين، وأيس من الاطلاع عليه، فهذا من عمى الموت، فلا نورث ميتاً عن ميت، ومال الابن لأبيه وهو الزوج، ومال المرأة بين الزوج والأخ، وإن كان يتوقع الاطلاع على التاريخ، توقفنا لنبحث.
ثم الكلام يتصل بأقوال العلماء في ميراث الغرقى، حيث يتفق اليأس، أو يبقى مطمع، وقد فصلنا ذلك في الفرائض.
12268 - ثم ذكر الشافعي صورة في الدعوى، قال: إذا جاء مدعٍ، وادعى على صاحب يد في الدار، وقال: إن أبي مات، وخلف الدار التي في يدك، وهي لي ولأخي الغائب، وأقام بينة عادلة خابرة، حُكم ببينته، وقضي للحاضر بنصيبه من الدار، وانتزع نصيب الغائب من يد المدعى عليه، ويؤاجر له، فإذا رجع دُفع إليه نصيبه وما حصل من الكراء، ولا حاجة إلى إعادة البينة، ولا إلى دعوى من جهته.
ولو ادعى المدعي أن الدار التي هي في يد المدعى عليه له ولفلان الغائب، وقال: اشتريناها، وأقام بينة عادلة، فيقضى له بنصيبه، ولا ينزع نصيب الغائب من جهته،

(19/142)


وإذا رجع الغائب، احتاج إلى الدعوى وإقامة البينة ليُقضى له بنصيبه، والفرق أنه إذا ادعى الإرث، فحاصل دعواه إثبات الإرث للوارث، وإذا ثبت له الملك، لم ينقسم، ولم يتبعض، وأما إذا كانت الدعوى عن جهة شراء، فقد ادعى لنفسه ولصاحبه سببين، ولم يكن وكيلاً من جهة صاحبه. فكانت دعواه المتعلقة بصاحبه مردودة.
وهذا بيّن.
***

(19/143)


باب الدعوى في وقت قبل وقت
قال الشافعي رضي الله عنه: " وإذا كان العبد في يدي رجل، فأقام رجل بينة أنه له منذ سنتين ... إلى آخره " (1).
12269 - إذا كان في يد رجل عبد، فجاء خارجيان، وأقام كل واحد منهما بينة أن العبد له، نُظر؛ فإن كانت البينتان مطلقتين، أو مؤرختين تاريخاً واحداً، فهما بينتان متعارضتان، وقد سيق الحكم فيهما في إبانة التهاتر والاستعمال.
وإن كانت إحدى البينتين أسبق تاريخاً، وكانت الأخرى أحدث تاريخاً، واستويا في شهادة كل بينة لمقيمها بالملك في الحال، ففي المسألة قولان: أحدهما - هما سواء؛ لأن المقصود التعرض للملك في الحالة الراهنة، وقد استوتا في ذلك، فلا أثر بعد ذلك للتقدم والتأخر.
والقول الثاني - أن البينة المشتملة على تقدم التاريخ ترجح، وهذا مذهب المزني وأبي حنيفة (2)، واحتج المزني بأن اليد إذا كان يرجح بها، فكذلك وجب الترجيح بتقدم التاريخ، واحتج أيضاً بأن قال: إذا كانت البينتان في بهيمة، وشهدت إحداهما لمقيمها بأولية النتاج في الملك، فتلك البينة مقدمة، وسبب تقدمها اختصاصها بتقدم التاريخ، فقال الأصحاب: ليس التاريخ كاليد؛ فإن اليد علامةٌ محسوسة ناجزة تدل لو تفردت، وأما النتاج الذي استشهد به، فقد قال الأصحاب أجمعون: القولان جاريان في البينتين وإن اختصت إحداهما بذكر النتاج، فلا فرق.
ولو فرضت بينتان مؤرختان في نكاح امرأة، فالقولان جاريان في تقدم التي سبقت، كما ذكرناه في الأموال، وإن كانت إحدى البينتين مؤرخة، والبينة الثانية
__________
(1) ر. المختصر: 5/ 264.
(2) ر. مختصر الطحاوي: 352.

(19/144)


مطلقة، إن قلنا: لا ترجيح بسبق التاريخ، فهما سواء، وإن قلنا: ترجح البينة بسبق التاريخ، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أن المؤرخة مقدمة؛ فإن المطلقة ليست تتعرض إلا لملك الحال، بخلاف الأخرى، فإنها تعرضت للحال ولما تقدم، وهذا الوجه متجه. والوجه الثاني - أنهما سواء؛ لأن المطلقة لو استفْسرناها، فربما تؤرخ بأكثر مما أرخت المؤرخة، وكل ما ذكرناه في الخارجيين.
12270 - فأما إذا فرضنا الكلام في بينة الخارجي، وصاحب اليد، نُظر: فإن كانت بينة صاحب اليد أسبق تاريخاً، فقد اجتمع لها ترجيحان، وإن كانت بينة الخارجي أسبق تاريخاً، فإن قلنا: لا يرجّح بسبق التاريخ، فبينة صاحب اليد مرجحة بيده. وإن قلنا ترجح البينة بسبق التاريخ، ففي المسألة أوجه: أحدها - أنا نرجح بينة الخارجي؛ لأنها اشتملت على ما اشتملت عليه اليد مع مزيد في التاريخ. والثاني - بينة صاحب اليد أولى؛ لأن اليد علامةٌ محسوسة. والثالث - أنهما سواء، فيتعارض السبق واليد.
وإن كانت المسألة في الخارج والداخل، وإحدى البينتين مطلقة، فإن كانت بينة صاحب اليد مؤرخة، فهي المرجحة. وإن كانت بينة الخارجي مؤرخة، وبينة صاحب اليد مطلقة، -إن قلنا في الخارجين هما سواء- فبينة صاحب اليد مرجحة بيده، وإن قلنا في المسألة الأولى: المؤرخةُ أَولى من المطلقة إذا كانا خارجين، فتعود الأوجه الثلاثة في هذه الصورة.
12271 - وقد كنا أحلنا فصلاً متعلقاً بالتاريخ إلى هذا الباب، ونحن نذكره الآن، فنقول: دارٌ في يد إنسان، فجاء آخر وادّعى الملك فيها، وأقام بينة على أن هذه الدار كانت ملكاً للمدعي أمس، واقتصرت على ذلك، فالمنصوص عليه في الجديد أن البينة مردودة؛ فإنها لم تتعرض لإثبات الملك في الحال. وقال في القديم: تسمع البينة، ويقضى بالملك للمدعي، إلا أن يُثبت المدعى عليه تلقياً منه، أو يقيم بينة مطلقة على الملك في الحال.
توجيه القولين: وجه القول الجديد أن البينة لم تتعرض لما هو المطلوب، وهو

(19/145)


ملك الحال؛ فلا أثر لها، ولست أعرف خلافاً أن المدعي إذا لم يتعرض لدعوى الملك في الحال، بل اقتصر على إضافة الملك إلى ما مضى، فدعواه مردودة، فإذا كان الخصام يثبت بدعوى الملك في الحال، فلتكن البينة على ما هو المطلوب بالدعوى. ووجه القول القديم أن الملك إذا ثبت فيما سبق، فالأصل بقاؤه ودوامه، إلى أن يقطعه قاطع، أو يعارضه معارض، وهذان القولان يقربان من القولين في اختلاف البينتين في التاريخ، مع تعرضهما لإثبات الملك في الحال.
فإن لم نرجح بسبق التاريخ، فلا أثر للاقتصار على الملك السابق، وإن رجحنا بتقدم التاريخ، فإذ ذاك يجري القولان الجديد والقديم عند فرض الاقتصار على الملك السابق، وما ذكرناه من القولين في الشهادة على الملك السابق من غير تعرض لملك الحال يجريان فيه إذا أقام المدعي بينة على أن الدار كانت في يد هذا المدعي أمس ولا يعرض للحال. وفي الجديد لا حكم للبينة. وفي القديم يحكم بها، وتثبت اليد للمدعي، وندير الخصومة على هذا الموجب.
هذا أصل الفصل.
وفيه غائلةٌ اضطرب فيها المنقول من كلام القاضي، ونحن بعون الله نذكر ما يجب تحصيله.
12272 - فنقول: أولاً، إذا علم الشاهد سبب ملكٍ الإنسان، وكان بحيث يجوز أن يسند الشهادة بالملك إليه، فإذا استُشهد الشاهدُ على الملك بعد ذلك السبب بزمان، وما عَرف الشاهدُ انقطاع ملكه، فقد أطلق الأصحاب أن له أن يشهد له بالملك في الزمان الذي استشهد فيه؛ بناء على استصحاب الملك ودوامه. هذا ما ذكروه.
ولم أر الأصحاب يشترطون في ذلك خبرة باطنة مقترنة باستمرار الزمان يطلع بها الشاهد على ظهور دوام الملك، والسبب فيه أن الخبرة وإن كانت باطنة، فليس المعنيّ بها ألا يفارق الشاهد صاحبه في لحظة وتطريفةٍ، أو في يوم أو أيام؛ فإن هذا لو شرطناه لعسُر الأمر، وإذا كان كذلك، فإذا انقطع الشاهد عن صاحبه يوماً مثلاً، فليس يتعذر زوال ملكه فيه ببيع، أو ما في معناه من جهات الإزالة، وليس ما قدرناه أمراً نادارً بعيداً، فلو اشترطنا للشاهد شيئاً سوى استصحاب الحال، لعسرت الشهادة على

(19/146)


الأملاك الناجزة إذا تطاول الزمن، وهذا هو الذي تلقيناه من كلام الأصحاب.
وليس يبعد -وإن كان المعول على ما ذكرناه- أن يُشترط نوع من البحث عن مجاري الأحوال يفيد غلبة الظن في دوام الملك، إذا أراد الشاهد تنجيز الشهادة على الملك الواقع في الحال، وهذا البحث، وإن كان لا ينتهى إلى الاطلاع على مجاري الأحوال في السرّ، ولكن ترك الممكن فيه لا يليق بمنصب الشهادة. هذا وجهٌ في الاحتمال.
ثم ما ذكره الأصحاب أن من أحاط بسبب الملك على ظاهر الظن -إذ لا يُتصور درك اليقين في إثبات الأملاك- فإذا ثبت الممكن من اليد والتصرف، على ما قدمنا شرح ذلك، ثم دام الأمر بحيث يجوز له أن يبتّ الشهادة على الملك الناجز، كما ذكرناه الآن، فلو ذكر السبب السابق، وذكر في مجلس القضاء من استمرار الأحوال ما يسوّغ له الشهادة على تنجز الملك، ولكنه لم يشهد، قال الأصحاب: لا يثبت الملك في الحال، وإن كان يجوز للشاهد جزمُ الشهادة؛ وشبهوا هذا بما لو قال الشاهد على الرضاع: رأيت الرضيع التقم الثدي، وكان يحرك اللهاة ويمتص، إلى غير ذلك من المخايل، فلا يكون شاهداً على الرضاع، وإن كان يجوز أن يشهد على الرضاع مما عاين.
والسبب فيه أنه إذا لم يشهد على الرضاع، أورث ذلك رَيْباً في الأمر، وظناً غالباً بأن الشاهد غيرُ واثق، ولذلك لم يجزم الشهادة على الرضاع، كذلك إذا ذكر السبب المتقدم، ولم يجزم الشهادة على الملك في الحال، جرّ ذلك تردداً من الشاهد وريباً، هذا ما ذكره شيخي وصاحب التقريب وغيرهما.
وقال القاضي: إذا شهد على السبب المتقدم، وقال: لم أعلم زوال ملكه بعد ذلك، كان هذا بمثابة جزمه الشهادة بالملك، والسبب فيه أن انتفاء الزوال مما لا يطلع عليه، ولا مستند للشهادة على الملك في ذلك إلا عدمُ العلم، وبناء الأمر على الاستمرار، وهذا كقول الشاهد: لا أعلم له مالاً، ولا أعلم للمتوفى وارثاً سوى هذا، وإذا حصلت الشهادة كذلك، كفت وأغنت؛ فإن الاطلاع غير ممكن، وليس كذكر العلامات في الرضاع، فإن وراءها أحوالاً يدركها العِيان، ولا يحيط بها الوصف فالعبارة عنها إنما هي القطع بوصول اللبن إلى الجوف.

(19/147)


ثم القاضي في طريقه ذَكَر تفصيلاً دقيق المُدرك، فقال: إذا قال الشاهد: أشهد على ما كان من السبب، ولست أعلم ما يخالفه، فهذا كافٍ. ولو قال: لستُ أدري أكان أو لم يكن، وأبدى هذا إبداءَ مرتاب متشكك غيرِ معتضدٍ باستصحاب الحال، فهذا [يخرم] (1) الشهادة، والفصلُ بين أن يبدي رَيْباً وبين أن يبدي استمراراً، ويعبر عنه بأني لا أدري زوالاً [مستبينٌ] (2) للفطن، هذا تردد الأصحاب. وهو من الأصول التي يعظم وقعها في العلم والجهل.
ويخرج من كلام القاضي أن البينة لو شهدت على الملك أمس، ولم تتعرض لما يُشعر بالاستمرار والدوام، ولم يقل: " ولا أعلم زوالاً "، ولم يبدِ رَيْباً، فهذا يلتحق بالقولين، ولا يكون شهادة بالملك الناجز.
12273 - ومن أهم ما يجب الاعتناء به أن البينة لو تحملت الشهادة على إقرار مؤرخ بتاريخٍ في ملك أو يدٍ، ثم فرض تنازع بين المقِر والمقَرّ له، فإذا شهدت البينة على الإقرار السابق، فمعلوم أنها ليست متعرضة لاستحقاق المقر له في الحال، وقد ذكرنا قولين فيه إذا شهدت البينة على الملك في الزمان الماضي، وبيّنا أن الأصح أن البينة مردودة غير مفيدة؛ فإن الخصام ناجز، وتاريخ الملك مقدم، وهذا بعينه يجري في تقدم الإقرار؛ فإن المقر بالملك قد يتلقى الملك بسبب من الأسباب.
وقد ذكر صاحب التقريب في الإقرار طريقين، وشفى الغليل بذكرهما، وقال: من أصحابنا من جعل الإقرار المتقدم حجة باتّة على المقر في مستقبل الزمان، وهذا ما إليه مصير معظم الأصحاب وأقضية القضاة. ولولا ذلك لما كانت في الإشهاد على الأقارير فائدة، والحجة تسقط بمضي ساعة. ومن أصحابنا من قال: الإقرار السابق إذا ثبت، فهو بمثابة شهادة الشهود على الملك فيما سبق من الزمان، وهذا وإن كان منقاساً، فالذي أعتقده فيه أنه خرق لما اتفق عليه الأولون. والقول به مسبوق بالإجماع، وإن اختار القاضي هذه الطريقة الأخيرة ونقلتها عن صاحب التقريب عضداً
__________
(1) في الأصل: " يحزم " بالحاء والزاي المحجمة. وت 5: " يجزم " بالجيم والزاي المعجمتين، وكلاهما خطأ واضح. والمثبت من عمل المحقق.
(2) في الأصل: " فبيّن ". وت 5: " متبين ". والمثبت تصرّف من المحقق.

(19/148)


وتأييداً، وهو بمثابة التمسك بقياس جزئي في مصادمة قاعدة كلية.
12274 - ومما يتصل بذلك أن المدعي إذا أقام بينة على أن صاحب اليد باع الدار التي في يده منِّي، وذكر تاريخاً متقدماً على وقت الدعوى، فالذي قطع به الأصحاب أنه يُقْضى له بالملك، وإن كان البيع متقدماً على وقت الدعوى، ولا يتصور إلا كذلك، ومن ذكر طريقةً في إجراء القولين في الإقرار المتقدم؛ فإنه يُجْريها هاهنا؛ فإن البينة إذا تعرضت للشراء، فقد ذكرت سبباً في الملك سابقاً، فكان كما لو ذكرت الملك مضافاً إلى زمانٍ تَقَدَّمَ، وهذا وإن كان منقاساً، فلا سبيل إلى الاجتراء على ذكر خلاف فيه.
12275 - والذي ينتظم بعد تقريرنا طرقَ الأصحاب أن الملك المطلقَ مستندٌ إلى طرفٍ من العماية؛ فإن نُجّز، ثبت، وإن أضيف إلى ما سبق، ففيه التردد جديداً وقديماً، والإقرار ينقل قطعاً، وكذلك الشراء من الخصم، فالوجه دوام اقتضائه إلى أن يتبين انقطاعه؛ فإنا إذا وجدنا أصلاً مستيقناً، ولا مطمع في العلم بالدوام، كفى المستيقَن، ولم يزل أثره حتى ينقطع.
وهذا الذي ذكرناه فيه إذا ثبت الإقرار مطلقاً ممّن يخاصم، أو ثبت الشراء منه.
قال صاحب التقريب: إذا جرينا على ما به الفتوى وعليه العمل، وقلنا: إذا ثبت الإقرار، أو نفس البيع، فهو حجة أبداً على المقر والبائع، فعلى هذا لو ادعى رجل شيئاً في يد رجل، ولم يسبق من المدعى عليه إقرار مطلق، ولا بيع، فقال المدعى عليه في الخصومة للمدعي: " كانت الدار ملكك أمس " فهل يكون هذا كما لو شهدت بينة على أن الدار كانت ملك المدعي أمس، أم يكون هذا الإقرار بمثابة إقرار مطلق تشهد به البينة؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنه كشهادة البينة على الملك المتقدم؛ فإن الإقرار بالملك المتقدم كالبينة على الملك المتقدم. والثاني - أن الإقرار بالملك المتقدم كالشهادة على الإقرار المتقدم، ولا نهاية للطف هذا التفصيل.
ومما أوصي به المنتهي إليه أن يتثبّت في مضمون هذا الفصل؛ فإنه مما يعم به البلوى، وهو جلي في نفسه، خفي على معظم من ينتسب إلى الفقه.

(19/149)


فصل
12276 - البينة إذا شهدت على الملك في الحال، فمن ضرورتها أن يتضمن تقدم الملك على الوقت الذي تقع الشهادة فيه ساعة لطيفة؛ فإنها لا تنشىء إيقاعاً للملك وإنما تُخبر، وإذا حصل الملك مُخبَراً عنه في الحال، فلا بد من ارتباطه بمتقدم، بحيث يتصور انتقال الملك فيه بسبب من الأسباب، ثم هذا التقدم الذي ذكرناه يقع الاكتفاء فيه بلحظة لا تقدّر، ولا تُميّز بالحس، حتى لو ادعى شاة، وأقام على دعواه بينة، وكانت قد نُتجت تلك الشاة قبيل تلك الساعة، فلا يقضى له بالنتاج، فتبين بهذا أن هذا التقدم الذي قدرناه ليس زماناً محققاً محسوساً، ومسألة النتاج شاهدة في ذلك، منبهة على الغرض.
وإن أقام المدعي بينةً، فعلقت الشاة ووضعت الحمل قبل تعديل البينة، ثم عُدِّلت البينة، فالنتاج للمدعي؛ فإن التعديل يستند إلى وقت قيام الشهادة، وهذا بين.
ومما أجراه الأصحاب على الاتصال بذلك أن قالوا: من ادّعى دابّة حاملاً، وأقام البينة على دعواه، ولم يتعرض لذكر الحمل، فيثبت ملكه في الدابة وحَملِها، كما لو اشتراها؛ فإن الملك يثبت في الحمل، وإن لم يجر ذكره حالة التعاقد.
ولو أشار إلى شجرة مثمرة، وثمرتُها باديةٌ، فادعاها باسم الشجرة، وأشار إليها، وشهدت البينة على حسب الدعوى، فالشجرة تصير مستحقة دون الثمرة؛ فإن الثمرة ليست من أجرام الشجرة، ولذلك لا تتبعها في البيع المطلق بخلاف الحَمْل. وهذا الذي ذكره الأصحاب في الثمرة مستقيم بيّن، وما ذكروه في الحمل ظاهرٌ قياساً على البيع.
وقد يتطرق إلى الحمل في الدعوى والبينة احتمالٌ على بعد؛ فإن الملك يُفرض متبعّضاً في البهيمة وحملها بالوصية، فلا يمتنع أن يدعي البهيمة، ويستثني حملها في دعواه، وأما استتباعُ البهيمةِ الحملَ في البيع، فذاك لأمر يتعلق بمقتضى العقد، فلذلك لا يصح بيع البهيمة دون ولدها على المذهب الظاهر، والاستثناء في الدعوى والإقرار جائز.

(19/150)


وهذا الذي ذكرناه كلام معترض.
وغرض الفصل ما ذكرناه أولاً من أن البينة لا تقتضي إسناد الملك إلى ما تقدم من الأزمان انبساطاً عليها، وإنما تقتضي تقدماً من طريق التقدير، كما نبهنا عليه.
12277 - والمراد بعد ذكر ذلك ذكرُ مشكلةٍ عظيمةِ الوقع مجانبةٍ لمسلك القياس، وهي أن من اشترى عيناً من الأعيان -داراً أو غيرَها- وتمادى الزمن، ثم جاء مدّعٍ، وادعى ملكَ تلك العين في يد المشتري، وأقام البينةَ، وانتزع العين من يده، قال الأصحاب: يرجع المشتري بالثمن على البائع.
قال القاضي: هذا في غاية الإشكال؛ من جهة أن البينة القائمة على الملك لا تتضمن استناد الملك إلى زمان يوصف ويشار إليه، ولا تقتضي إلا ملك الحال، وتقديراً في التقدم كما ذكرناه، فكيف يملك المشتري الرجوع على البائع مع إمكان ثبوت الملك للمدعي تلقياً من هذا المشتري؟ ثم قال القاضي: يحتمل أن نقول: لا يرجع المشتري بالثمن على البائع -والحالة كما وصفناها- بناء على ما قررناه من أن البينة لا تقتضي استناد الملك إلى زمان متقدم مشارٍ إليه.
فعلى هذا يختص رجوع المشتري على البائع بما إذا أسندت البينةُ (1) الاستحقاق إلى حالة البيع؛ فإذ ذاك نَتبين أن البيع صادف مستحَقّاً. وجريان هذا ليس بالنادر في البينات التي يثبت بها الاستحقاق. وهذا الذي ذكره القاضي لا دفع له من طريق القياس، لكنه قال: أجمع أصحابنا من عند آخرهم على خلاف ما قلتُه.
ثم الممكن في توجيه ما ذكره الأصحاب أن يقال: إذا لم تتجدد حالة من جهة المشتري، والبينة العادلة مصدَّقةٌ في الشرع، فإذا تحقق أن المشتري لم يزُل ملكُه المستفاد بالشراء إلى هذا المدعي، والبينة لا يظن بها إلا الصدق، ولا محمل لصدقها إلا استناد الاستحقاق إلى ما تقدم، فلهذا ثبت له الرجوع، والذي يُعضِّد ذلك أن الإنسان يطلب دوامَ الملك بالشراء، فإذا لم يدم له، كان ذلك محمولاً على خلل حالة البيع، فلا يبقى بعد هذا، إلا أن البائع يقول للمشتري: لعلك أزلت
__________
(1) ت 5: " المرأة ".

(19/151)


ملكك إلى المدعي، فقامت عليك البينة، فكيف ترجع عليّ، وما ذكرته ممكن.
وهذا إنما يتم بأن يقال: [هل للبائع] (1) أن يدعي ذلك؟ فالوجه أن يقال: لا تمتنع عليه الدعوى فيه. والقول قول المشتري، والإشكال مع هذا قائم؛ فإن البائع يقول: كيف ترجع عليّ بالإمكان؟ وسبيل الجواب [في الإشكال] (2) الذي ذكرناه هو أن المشتري لا يمكنه أن يُثبت عدم تصرف نفسه، والبينة لا تشهد هزلاً، ولو لم يثبت الرجوع، لما حصلت الثقة بالعهدة. فأثبت الشرع الرجوع لذلك، وصحح ضمان العهدة خارجاً عن القياس لتوثيق البيع. هذا غاية الأمر. ومن عرف شيئاً على حقيقته لم يبق عليه مطلب بعده.
ثم زاد الأصحاب فقالوا: لو اشترى شيئاً، ووهبه وسلّمه فاستُحِق الموهوبُ ببينة مطلقة، وانتُزِع من يد الموهوب له، فللمشتري الرجوع بالثمن على البائع، وإن لم يطرأ الاستحقاق على ظاهر ملكه، وهذا لا إشكال فيه -إن ثبت الأصل- المقدم؛ فإن الاستحقاق إذا ثبت، بطلت الهبة. وكأنّ الاستحقاق طارىء على يد الواهب. فليس في هذا التفريع إشكال، وإنما الإشكال في الأصل. ولو باع ما اشترى من إنسان، فثبت الاستحقاق في يد المشتري الثاني. فإنه يرجع على المشتري الأول، ثم المشتري الأول يرجع على البائع الأول.
...
__________
(1) في الأصل: " على البائع ". والمثبت من (ت 5).
(2) في الأصل: " وسبيل الجواب المقدار الذي ذكرنا، وهو أن المشتري ".
وفي (ت 5): " وسبيل الجواب في الإمكان الذي ذكرنا وهو أن المشتري ". والمثبت تصرف من المحقق على ضوء المعنى والأحكام الفقهية. والله أعلم.

(19/152)


باب الدعوى على كتاب أبي حنيفة
قال الشافعي رضي الله عنه: " وإذا أقام أحدهما البينة أنه اشترى هذه الدار ... إلى آخره " (1).
12278 - مضمون الباب مسائل أخذها الشافعي من كتب أصحاب أبي حنيفة، وخرّجها على قياس مذهبه، فأودعها المزني هذا الباب.
والمسألة الأولى منها صورتها: أن يأتي خارجيان، وتداعيا داراً في يد إنسان، وأقام كل واحد منهما بينة أنه اشترى هذه الدار من صاحب اليد، ونقد له الثمن، ووفّاه إياه كَمَلاً، مثل أن يقول أحدهما: اشتريت هذه الدار منك بمائة، فسقتها إليك، وقال الآخر: اشتريتها منك بمائتين، ووفّيتك الثمن، وأقام كل واحد منهما بينةً على وفق دعواه.
قال الأئمة: إن كانت البينتان مؤرّختين، واشتملت إحداهما على تقدمٍ في التاريخ، فالحكمُ بها، لأنه إذا صح الشراء المتقدم، وثبت في الزمان السابق، فالشراء الثاني بعده مردود؛ فإن الشراء الأول يثبت بالبينة على صاحب الدار في زمانٍ لا معارضة فيه لتلك البينة، وقد ذكرنا أن الشراء من الخصم إذا ثبت متقدماً، جرى الحكم به، ولسنا نفرعّ هذه المسائل إلا على هذا الأصل.
وإن كانت البينتان مؤرَّختين بتاريخٍ واحد، مصرِّحتين بالتنصيص على وقتٍ واحد، فهما متعارضتان فتتساقطتان على قول التهاتر، فكأَنْ لا بينة، ويحلف المدعى عليه لكل واحد منهما، كما سنصف ذلك، إن شاء الله. وهما مستعملتان على القول الثاني.
ثم في كيفية الاستعمال الأقوال الثلاثة: أحدها - قول القرعة. ومعناها أن من
__________
(1) ر. المختصر: 5/ 264.

(19/153)


خرجت له القرعة من الخصمين، سُلِّمت الدار إليه، وقد ثبت توفيره الثمن، والثاني يستردّ الثمن؛ فإن بينته شهدت له بالشراء والتوفير، ثم جرت القرعة في محل التنازع، وهو ملك الدار، فلزم استعمال البينة في توفير الثمن.
وأما قول الوقف - فمعناه إخراج الدار من يد المدعى عليه، ووقفها بين المدعيين إلى أن يصطلحا، ومن حُكْم الوقف أن يُسترد منه الثمنان، ويعدّلا على يد إنسان حتى ينفصل الأمر.
وأما قول القسمة - فمعناه أن الدار تقسم بين المدعيين نصفين، ويرجع كل واحد منهما بنصف الثمن الذي شهدت بينته على توفيته وتوفيره، هذا معنى القسمة.
ثم يتفرع عليه أنه يثبت الخيار لكل واحد منهما؛ من جهة أنه لم يسلم له تمام المبيع، وتبعُّضُ المعقود عليه يُثبت الخيارَ.
12279 - هذا كلام على الجملة، وقد فصله القاضي، فقال: إذا صرفنا النصف إلى أحد المشتريين، فرضي به، ولم يفسخ، ورجع بنصف الثمن، ثم لما عرضنا النصف على الثاني أراد الفسخ، فله ذلك، ويطالِب بتمام الثمن.
فلو قال الأول: كنتم لا تسلمون إليّ النصف الثاني لمكان صاحبي، الآن قد فسخ، سلّموا إليّ ذلك النصف أيضاً، وأردّ ما استرددته من الثمن، قال القاضي: لا يُجاب إلى ذلك، فإنه رضي بالنصف، وجرى القضاء به، فلا نُغيِّر ما مضى.
ثم قال: لو عرضنا النصف على أحدهما، فاتفق أن الذي بدأنا به فَسخَ، فقال الثاني: ادفعوا إليّ الدار بتمامها، فهل يُجاب إلى ذلك؟ فعلى وجهين ذكرهما القاضي: أحدهما - أنه يجاب إليه لزوال المنازع في رقبة الدار، وإنما كنا نقسم لاستوائهما في الطلب، والتمسك بالحجة، والآن قد انقطع حق أحدهما، فيجب تسليم الدار إلى الثاني. والوجه الثاني - أنا لا نسلّم إليه إلا النصف؛ فإن مقتضى قول القسمة هذا، فلا مزيد على مقتضى القسمة.
والذي أراه أن الترتيب على عكس هذا، فإن فسخ من فاتحناه، سلمنا الدار إلى الثاني وجهاً واحداً، لأن القسمة ليست معنيّة بعينها، وإنما هي للاستواء في الطلب

(19/154)


والحجة، وقيام النزاع، فإذا زال، وجب التسليم إلى المُطالِب، فإن رضي أول من فاتحناه بالنصف، وفسخ الثاني، ففي رد النصف إلى الأول وجهان؛ فإن الأول رضي بالنصف لتقدير نزاع الثاني، فإذا زال، فطلبه قائم. ثم لا يخفى أن الفاسخ يرجع بتمام الثمن، والذي يسلم له كل الدار، فهو مستوفٍ كمالَ حقه، ومن سُلّم له النصف، فهو راجع إلى نصف الثمن.
وحكى العراقيون قولاً عن الربيع أنا إذا لم نُسقط البينتين، حكمنا بانفساخ العقدين في حق المدَّعِيين؛ إذ ليس أحدهما أولى من الثاني، والدار تبقى في يد المدعى عليه، ونُلزمه رد الثمنين، وهذا أثر استعمال البينتين، ثم قال العراقيون: هذا من تخريجه، وهو مزيف لا أصل له؛ فإنا إذا استعملنا البينتين، فلا معنى لرفع حكمهما فيما هو المقصود بهما.
وكل ما ذكرناه فيه إذا كانت البينتان مؤرختين بتاريخ واحد.
12280 - فأما إذا كانت البينتان مطلقتين في الشراء، والتفريعُ على قول التهاتر إذا تحقق التناقض، فقد اختلف أصحابنا في هذه الصورة: فمنهم من قال: لا نحكم بالتهاتر؛ فإن صدق البينتين ممكن. فلعل أحدهما اشترى، ثم عادت الدار إلى ملك المدعى عليه، فاشتراها الثاني، فعلى هذا يمكن تقدير الصدق في البينتين، والثاني - أنهما تتهاتران لتعذر تقديم إحداهما على الأخرى، فلا ينفع تقدير صدقهما مع تعذر إمضائهما، وصاحب قول التهاتر يرى القرعةَ، والقسمةَ، والوقفَ متعلقةً (1) بموجب البينتين جميعاً، فإن قلنا بالتهاتر، فتسقط البينتان وكأنْ لا بينة.
وإن لم نحكم بالتهاتر، فعلى هذا الوجه وجهان: أحدهما - أنا لا نُجري الأقوال الثلاثة التي يُجريها من يقول باستعمال البينتين. والوجه الثاني - أنا نلزم المدعى عليه رد الثمنين؛ فإن هذا لا تناقض فيه بين البينتين، ونسقط البينتين في رقبة الدار. وهذا على التحقيق تهاتر من وجه، واستعمالٌ من وجه، وهو فقيهٌ، لا ينقدح عند المحصلين غيره.
__________
(1) ت 5: " منعقدة ".

(19/155)


ومما نذكره في هذه الصورة -وهي إذا كانت البينتان مطلقتين- أنا إذا فرعنا على أقولاً (1) الاستعمال، فقد أجرى الأصحاب الأقوالَ الثلاثة على ما فصّلناها.
وكان شيخي يقول: لا أجري قولَ القرعة؛ فإنّ صدق البينتين ممكن، وإنما نُجري قول القرعة لتمييز الكاذبة من الصادقة، فإذا أمكن صدقهما، فلا معنى للقرعة.
وهذا وهمٌ وزلل؛ لأن القرعة لا تميز الصادقة من الكاذبة، بل قد تخرج بفوز الكاذب، وإنما إجراء القرعة لتمييز شخصين مستويين ظاهراً في سبب الاستحقاق.
والله يتولى السرائر.
فصل
قال: " وإذا أقام بينة أنه اشترى هذا الثوب من فلان ... إلى آخره " (2).
12281 - صورة المسألة أن نقول: دارٌ في يد ثالث، فجاء رجلان، وادعى أحدهما أن الدار له، وزعم أنه اشتراها من زيد، وكانت ملكَه إلى أن باع، وادعى الآخر الدار لنفسه، وزعم أنه اشتراها من عمرو [وهي] (3) ملكه، وأقام كلُّ واحد منهما بينة على حسب دعواه، فالبينتان متعارضتان، ولا يخفى التفصيل والتفريع، وغرض هذا الفصل أنهما إذا ربطا دعوى الملك بالشراء من شخصين، فلا بد وأن يُثبتا ملكَ البائع منهما حالة العقد؛ فإن صورة الشراء لا توجب الملك ما لم يكن صَدَرُها من مالك.
ولو ادعى رجل داراً في يد رجل، فقال: بعتَها مني، فلا يشترط أن يقول: بعتَها وأنت تملكها؛ فإن بيعه يقطع سلطانه، وهو مؤاخذ بحكمه وموجبه، فلا حاجة إلى إثبات ملكه، فأما إذا كان المدعي يسند ملكه إلى شخص آخر غير صاحب اليد، فلا بد وأن يثبت ملكه المتقدم على البيع. وهذا مقبول منه. وإن لم يكن مستناباً من جهة البائع في إثبات ملكه؛ لأنه يبغي بهذا تصحيح الشراء، فكان كالذي يريد إثبات ملك نفسه.
__________
(1) زيادة من (ت 5).
(2) ر. المختصر: 5/ 264.
(3) في النسختين: " وهو ".

(19/156)


ولو أقام بينة على الشراء من الشخص الذي عيّنه، ولم يتعرض للملك، ثم أقام بينة أخرى على ملك ذلك البائع، قال القاضي: يجوز ذلك، ولا فرق بين أن تشهد بينة واحدة على الأمرين وبين أن تشهد بينتان عليهما، وهذا صحيح؛ فإن البينة الشاهدة على ملك البائع. وإن لم تتعرض للشراء، فالغرض به تصحيح الشراء، فلا فرق بين أن تتعدد البينة وبين أن تتّحد.
فصل
قال: " ولو كان الثوب في يد رجل، فأقام رجلان كل واحد منهما البينةَ أنه ثوبُه، باعه ... إلى آخره " (1).
12282 - صورة المسألة: ثوب في يد واحد، ادعى رجلان - كل واحد منهما أنه باع منه ذلك الثوب الذي في يده بألف درهم، وعليه ثمنه، وأقام كل واحد بينةً على وفق دعواه.
هذه صورة المسألة، ومقصودها يؤول إلى دعوى الثمن، والعين مسلّمة إلى صاحب اليد، فنقول: إذا كانت البينتان مطلقتين، فقال معظم الأصحاب: لا تتهاتر البينتان، قولاً واحداً، ولكل واحد منهما تمامُ الثمن الذي ادعاه؛ فإنَّ صدق البينتين ممكن؛ بتقدير عقدين يتخللهما انتقال الملك إلى الثاني من المدعيين، ثم يُفرض بعد ذلك البيع منه. هذه طريقة.
ومن أصحابنا من حكم بتهاتر البينتين.
وقد ذكرنا قبل ذلك ادعاء الخارجيين في الشراء، وهذه المسألة مفروضة في البيع، وتقدير التصحيح في العقدين ممكن في الصورتين. ولكن الأصحاب أجرَوْا طريقين في مسألة [ادّعاء] (2) الشراء كما مضى. وميلُهم الأظهر في مسألة البيع -وهي التي نحن فيها- استعمالُ البينتين. وإن كان من الأصحاب من يُجري قول التهاتر.
__________
(1) ر. المختصر: 5/ 264.
(2) في الأصل: " إنشاء ". والمثبت من (ت 5).

(19/157)


وفرّق المحققون بين المسألتين بأن قالوا: المطلوب في هذه المسألة الأخيرة الثمن المتعلق بالذمة، والذمة متسعةٌ للثمنين، وإن أمكن ثبوتهما، ثبتا، والنزاع في مسألة الشراء متعلق بالبيع، وهو عين لا تتسع لتحصيل غرضيهما وتحقيق دعوييهما.
ومن أجرى قول التهاتر في المسألة التي نحن فيها؛ احتج بأنهما ما ادعيا دَيْنين في الذمة مطلقاً، وإنما أسنداه إلى عقدٍ، وذلك العقد مرتبط بعين واحدة.
والتفريع على الأصح، وهو الاستعمال، وهذا فيه دقيقة، وهي أنا إن طرَّقْنا قول التهاتر إلى الواقعة، فموجب التهاتر سقوط البينتين، حتى كأنهما لم تكونا، وإن لم نُجر التهاتر أصلاً، فليس ينقدح إلا إثبات الثمنين، وإن أجرينا التهاتر، وأردنا أن نفرعّ على قول الاستعمال؛ ففي المسألة وجهان: أحدهما - أنا نثبت الثمنين، ولا تخرج الأقوال الثلاثة، فينتظم قولان: أحدهما - سقوط الثمنين، حتى كأنْ لا بينة، والثاني - ثبوت الثمنين.
والوجه الثاني - أنا نُجري الأقوالَ الثلاثة على قول الاستعمال: أحدها - القرعة، فيفوز بالثمن من تخرج قرعته، ويخيب الثاني، والثاني - نقف الخصومة. والثالث - نَقْسم؛ فنصرف إلى كل واحد نصف الثمن الذي يدعيه. وهذه الطريقة -وإن ذكرها الأئمة- ليست بالمرضية، والوجهُ القطع بإثبات الثمنين لا غير، إذا كانت البينتان مطلقتين.
12283 - وتكلف أصحابنا تصوير وقوع البينتين على وجه التناقض، فصوروا وقوع مخبر البينتين متعلقاً بوقت واحد، بحيث نعلم أن ذلك التعيين يضيق عن وقوع واقعين، فإذا تأرخت البينتان بتأريخ واحد -على أقصى ما يمكن فرضه من تحقيق التضييق- فالبينتان متكافئتان، مثل أن تتعرض كل واحدة لتأقيت لفظ الشراء عند بدوّ أول قرصة (1) الشمس، ثم أجروا في هذه الحالة قولي التهاتر والاستعمال، وتفريع الأقوال الثلاثة في كيفية الاستعمال. ثم ذكروا اعتراضَ المزني في البينتين المطلقتين
__________
(1) كذا. ولعل لها وجهاً.

(19/158)


في هذه الصورة، ومصيرَه إلى ثبوت الثمنين. فلم يعتذروا (1) عنه لتوجهه إلا بأن قالوا: صورةُ قولي التهاتر والاستعمال في تأريخ البينتين بتأريخ واحد.
وهذا وإن أمكن ذكره فتصويره واقعة يفتى فيها عسيرٌ عندي؛ فإنّ رد الأمر إلى وقت، لا يتصور [فيه] (2) [ترتب] (3) كلمتين ممّا لا يدخل دَرْكُه تحتَ القوة البشرية.
نعم، يمكن ذكره، كما يقال: فعلٌ واحد، ووقت واحد لا ينقسم، وجوهر فرد لا يتجزأ، كل ذلك لا يمتنع [فيها] (4) الذكر والنفي والإثبات، ولكن لا يُحَسّ في مطّرد العادة قط.
ولو تُصوّر هذا، لتصوّر أن يقال: إذا قامت بينةٌ على رجل بإقرارٍ مضافٍ [إلى وقتٍ] (5) معين على أقصى ما يمكن التصوير فيه، فمِنْ دَفْع هذه البينة أن يقول المشهود عليه: كنتُ أُسبّح في الوقت الذي عيّنته بينةُ (6) الإقرار، ولا يجتمع قولان في وقت، فيقيم البينةَ على ذلك، فيكون قادحاً في بينة الإقرار. نعم، لأصحابنا تردد في شيء نشير إليه، وهو أنهم قالوا: إذا شهدت بينةٌ على قول أو فعل، وعينت للمخبر عنه وقتاً معيناً، وشهدت بينة أخرى في ذلك الوقت بعينه على عدم ذلك الفعل وانتفاء ذلك القول، فهذه شهادة على النفي، ولكنْ هي على وجه يمكن تقدير العلم فيها بالنفي.
وقد اختلف أصحابنا في قبول مثلِ ذلك. فالذي ذهب إليه الأكثرون أن البينة مردودة لتعلقها بالنفي، ومبنى الشهادة على التعرض للإثبات.
ومنهم من سمع مثلَ هذه إذا أمكن إسنادها إلى علم. وقد يعضد هذا القائل ما صار إليه بربط الشهادة بما يناقض القول والفعل، بأن يقول الشاهد: كان ساكناً في
__________
(1) ت 5: " يعترضوا ".
(2) كذا في النسختين: " فيها ". وهي على معنى الصورة، أو اللحظة.
(3) في الأصل: " ترقب ".
(4) في الأصل: " منه ".
(5) زيادة اقتضاها السياق، حيث سقطت من النسختين.
(6) ت 5: " وبينته الإقرار ".

(19/159)


ذلك الوقت عن الفعل، أو ساكتاً عن القول، والسكون والسكوت يضادان الفعل والقول.
12284 - فإذا تبين ما ذكرناه، رجعنا بعده إلى تأرخ البينتين بتأريخ واحد في مسألة الشراء. فنقول: الوقت الواحد لا يتعين، فإن تلقي الأصحاب التناقض من العلم بانتفاء أحد القولين، كما حكينا خلاف الأصحاب فيه، فهذا مما يتصور وقوعه، ثم تربط كلُّ بينة شهادتَها بإثبات ما تذكر ونفي ما عداه في ذلك الوقت؛ فإن القولين يتضادان كما يتضاد السكوت والقول، ومراقبة الإنسان ليعلم أنه ليس قائلاً داخلٌ في الإمكان، سيما إذا كان القول المدعى مُظهَراً متعلقاً بمخاطَب يحضر. ودرك حضوره كدرك غيبته. فهذا وجه تصوير التناقض.
فصل
قال: " ولو أقام رجل بينةً أنه اشترى منه هذا العبد ... إلى آخره " (1).
إذا كان في يد إنسان عبد، فجاء رجل، وادعى أن المولى باع ذلك العبدَ منه، وادعى العبدُ أن مولاه أعتقه، وأقام كل واحد بينة على وفق دعواه، فإن تأرخت البينتان، وتعرضت كل واحدة منهما لذكر تاريخ، نُظر، فإن تقدم أحد التاريخين وتأخر الثاني، نفذ ما تأرخ بالتاريخ المتقدم.
وإن عيّنت البينتان وقتاً واحداً -وإمكان تصويره على ما ذكرناه على القرب- فالبينتان متعارضتان، فإن حكمنا بتساقطهما، فكأنْ لا بينة، والقول قول صاحب اليد في العبد مع يمينه، ولا يخفى حكم الحلف، والنكول، والرد، وإن حكمنا بالاستعمال، جرت الأقوال الثلاثة: القرعة، وقد اممدها صاحب التقريب، لاشتمال الواقعة على العتق -وهو مورد الخبر في القرعة- والوقفُ جارٍ، ولا يخفى تصويره، والقسمة جارية أيضاً، فيحكم لمن يدعي الابتياع بالملك في نصفه، ويحكم بالحرية في نصف العبد.
__________
(1) ر. المختصر: 5/ 265.

(19/160)


ثم الذي ذهب إليه الأصحاب أن المحكوم عليه بالعتق صاحب اليد، فإذا نفذ الحكم عليه بالعتق في نصف العبد، وكان موسراً، لم نقض بسريان العتق إلى النصف الآخر المحكوم به لمدعي الشراء؛ لأن هذا عتق ثابت قهراً، وإنما يسري العتق إذا اقترن باختيار المعتِق.
وذكر العراقيون في ذلك قولين: أحدهما - ما ذكرناه. والثاني - أن العتق يسري إذا كان صاحب اليد موسراً، فيكمل العتق في العبد، ويغرم صاحب اليد لمدعي الشراء قيمةَ النصف. ووجه هذا القول أن البينة كما (1) شهدت بإعتاق هذا العبد، شهدت باختياره في الإعتاق؛ فيجب الحكم عليه بموجب الاختيار، وهذا متجه، والمسألة محتملة.
ثم اعترض المزني وقال يجب تقديم بينة العتق؛ لأن العبد ادعى العتقَ، وهو في يد نفسه، فكان مع من يدعي شراءه بمثابة متداعيين وأحدهما صاحب اليد، فالعبد إذاً كالداخل ومدعي الشراء كالخارج.
وهذا الذي ذكره مزيف؛ فإن العبد في يد مولاه، ولا يد له على نفسه، وإنما تثبت له اليد على نفسه إذا عَتَق، فكأنه في التحقيق يدعي يداً والخصم ينكره.
12285 - وكل ما ذكرناه فيه إذا كانت البينتان مؤرختين على التضييق في التعيين، فأما إذا كانتا مطلقتين، فقد أجراهما الأصحاب على التهاتر والاستعمال؛ فإن العتق ينافي نفوذُه نفوذَ الشراء، والشراء لو ثبت - نافى نفوذَ العتق، ولو صور مصوّرٌ تقدم الشراء وعَوْد الملك، ثم توجيه العتق، فهذا تكلف لا فائدة فيه؛ فإن من يدعي الشراء يدّعي دوام ملكه، وما ذكرناه من التصوير ينافي ذلك، وهذا بيّن.
ومن أصحابنا من قال: إذا أردنا إجراء قول التهاتر، فيجب التعرض لاشتمال البينتين على تاريخ واحد، كما ذكرنا ذلك في النظائر السابقة. وإذا نبهنا على مثل ذلك، كفى، وقد تكرر مثله في نظائره.
__________
(1) كما: بمعنى عندما.

(19/161)


فصل
قال: " ولا أقبل أن هذه الجارية بنت أمته ... إلى آخره " (1).
12286 - هذا الفصل قد تخبط الأصحاب فيه، واشتهر كلامهم في الطرق، وحاد معظمهم عن المسلك الحق حَيْداً يُلحق ما قالوا بالوهم والزلل الذي لا يجوز عدّ مثله من المذهب، ولكن لو تركنا ما اشتهر ذكره نقلاً، لكان ذلك إخلالاً بالنقل، فالوجه أن نأتي بما ذكروه على وجهه، ثم نطرد بعد نجازه الحقّ الذي لا يجوز غيره.
فنقول: إذا كان في يد إنسان جارية، فجاء مدعٍ، وأقام بيّنةً على أن هذه الجارية بنتُ أمته، ولدتْها في ملكه، أو علقت [بها] (2) في ملكه، قالوا: نحكم للمدعي بملك هذه الجارية.
وإن أقام بينةً على أنها بنتُ أمته، واقتصرت البينة على ذلك، لم تسمع البينة في الجديد.
وخرّج الأصحاب فيه قولاً أن البينة مسموعة، والملكُ يثبت للمدعي في الجارية المدّعاة، وهذا خرّجوه من القول القديم فيه إذا أقام المدعي بينة على أن ما يدّعيه كان ملكاً له بالأمس؛ لأن قوله: " هذه بنت أمتي " يتضمن إثبات الملك حالة الولادة، وقد تقدمت؛ فقيل لهؤلاء: الجارية قد تلد ولداً ليس ملكاً لرب الجارية، فلم يزيدوا في الجواب على أن قالوا: الظاهر أن البنت إذا كانت مملوكة، فهو ملك مالك الأم، ونحن نكتفي بالظواهر في الأملاك.
وكل ما ذكرناه تخليط لا حاصل له، ولا اعتماد عليه.
12287 - والمسلك الحق أن نقول: إذا كان في يد رجل وصيف أو وصيفة (3)،
__________
(1) ر. المختصر: 5/ 265.
(2) زيادة من المحقق، حيث سقطت من النسختين.
(3) الوصيف والوصيفة: الغلام والفتاة دون المراهقة.

(19/162)


فجاء مدعٍ، وقال: هذا ولد أمتي. واقتصر على ذلك، فلا نقبل دعواه، ولا نسمع بينة على هذا المقدار؛ فإنه لم يدّع ملكاً وحقاً، إذ قد تلد أمتُه في غير ملكه، وفي غير يده، على معنى أن أمتي ولدته قبل أن ملكتُ أمتي، وقبل أن تثبت يدي عليها.
ولو قال: ولدته أمتي في ملكي، فقوله " في ملكي " محتمل، فإن أراد به ولدته والولد في ملكي؛ فقد ادعى ملكَ الولد، ولكن لم يدّع ملكَ الولد الآن، وإنما ادعى ملكَه حالة الولادة، فإذا أقام على ذلك بينة، ولم تتعرض البينة لملك الحال، فهذا يخرج على القولين في ملك أمس، ولا فرق.
وإن قال: ولدته جاريتي في ملكي، وفسّر ذلك بكون الجارية مملوكة له عند الولادة، فنقول: قد تكون الجارية مملوكة له، والولد لغيره، ويتصور ذلك في الوصية، وقد يكون الولد حراً، فليس فيما ذكره دعوى ملك (1) في الولد، ولكنه ادعى حصول الولد في يده، ثم ادعى يدأ في زمان سابق، فيجري فيه القولان في دعوى اليد السابقة كما جريا في الملك.
وقد يخطُر في هذا المقام أنه إذا ادعى الملك في أمها، أو هو (2) ثابت له بلا نزاع، فينبغي أن يلتحق ذلك بما إذا ادعى جاريةً حاملاً، فإنه يكون مدعياً بحملها أيضاً، وهذا فقيه، ولكن ذكرنا فيه احتمالاَّ، وهذه الصورة تتميز عن تيك من جهة أنه أفرد الولد بالدعوى في هذه المسألة. وفي التي تقدمت وجّه الدعوى على الأم، فتبع الولد. ثم ليس تخلو المسألة عن ادعاء الملك فيما مضى، وإن ادعى الملك في الحال أغنانا عن كل هذا التفصيل، واعتمدنا دعواه في الملك الناجز.
فهذا تحصيل القول في هذه المسألة. ومن اطلع عليه لم يسترب في أن ما عداه وهم.
__________
(1) ت 5: " ملكية ".
(2) ت 5: " وهو ".

(19/163)


فصل
قال: " ولو كان في يديه صبي صغير يقول هو عبدي، فهو كالثوب إذا كان لا يتكلم ... إلى آخره " (1).
12288 - إذا كان في يد الإنسان شخصٌ بالغ، وكان يصرِّفه كما يشاء، ويستصغره استصغار العبيد، على وجهٍ يغلِّب على الظن أن الأحرار لا يُستصغرون كذلك، فإذا قال: هو ملكي، وقال ذلك الشخص: أنا حر أصلي، فالقول قول ذلك الشخص، لم يختلف الأصحاب فيه، وإن تداولته الأيدي، وجرى عليه البيع والشراء؛ لأن ظاهر الدار الحرية، والأصل في الناس الحرية، ومن يدعيها، فهو مستمسك بالأصل والظاهر.
فإن قيل: أليس تصرف المُلاّك مع استمرار ظاهر اليد دلالة على الملك؟ وقد اجتمعا في هذه المسألة.
قلنا: إنما تدلّ اليد والتصرف على تعيين المالك، مع كون الشيء مملوكاً، فيظهر من اختصاص الإنسان باليد والتصرف، وعدمِ النكير عليه تعيّنُه من بين الناس، وليس ْمع من يدّعي الملك فيه أصل يعتضد به. فأما أصل الملك، فلا يثبت بظاهر التصرف، وعند ذلك قال الأصحاب: إذا اجتمع الظاهر والأصل، فالتعويل على الأصل، فلئن قيل: الحر لا يصرّف كذلك، قلنا: قد ينقاد الخادم للمخدوم بما ينقاد بمثله العبيد؛ فلا تعويل على ذلك. فإن قيل: أليس ينفذ تصرفه وإن لم يُبد ذلك الشخص إقراراً بالرق؟ قلنا: ذهب بعض أصحابنا إلى اشتراط الإقرار بالملك، وكان شيخي يميل إليه في الفتوى.
ونحن نذكر في ذلك أصلاً، فنقول: لا يشترط في نفوذ التصرف فيما الأصل فيه الملك المقدارُ الذي يدل على الملك؛ فإن دلالة الملك لا تثبت إلا بدوام اليد وتصرفاتٍ، مع فرض انتشارٍ وعدم إنكار، وقد يشترط مع ذلك شيوعُ تفاوض الناس
__________
(1) ر. المختصر: 5/ 265.

(19/164)


بنسبته إلى ملكه. وهذا لا يشترط في الحكم بنفوذ تصرف المتصرف ظاهراً؛ فإن من فاجأناه يبيع شيئاً من يده، نفذنا بيعه، وكأنّ (1) المكتفى به في تنفيذ البيع يدُ الداخل في الدعاوى، ومن صادفنا شيئاً في يده حالة الدعوى عليه، جعلنا القول قوله مع يمينه.
فإذا تبيّن ذلك عُدنا إلى ما نحن فيه، فنقول: يد الدعوى لا ثبات لها إذا كان الشخص يدعي الحرية الأصلية، فلو تصرف، فلا مستند لتصرفه؛ وعن هذا شرط شارطون إقرار ذلك الشخص بالرق.
ومن أصحابنا من لم يشترط، وإن كان لو أظهر الحرية ودعواها، لكان القول قوله. وكل ذلك في شخص لم نعهده صغيراً في يد إنسان.
12289 - فأما إذا رأينا صغيراً في يد إنسان، [وكان] (2) يدعي رقه ويستعبده، فقوله مقبول إذا لم يكن للصبي نطق (3)، فالحكم بالرق نافذ في الظاهر، واليد ثابتة، وهذا فيه إذا كان لا يعقل عَقْلَ مثله، فإن بلغ مبلغ التمييز، وعقل عَقْلَ مثله، وادعى أنه حر، ذكر أصحابنا وجهين في قبول قوله: أحدهما - أنه لا يقبل؛ إذ لا حكم لقول الصبي، والثاني - يقبل؛ لأنه قال ما قال عن فهم، وهو خير كله ليس فيه توقع ضرار، وأصل الناس على الحرية، وهو ظاهر الدار.
قال القفال: الوجهان مأخوذان من إسلام الصبي؛ من جهة أن الحرية لا ضرر فيها في أصل الوضع، وإن كان يتعلق بها التزامات، فكان ادعاؤه الحرية بمثابة إخباره عن الإسلام، ثم جرى الوجهان مأخوذين من قول الشافعي؛ فإنه قال: " فهو كالثوب إذا كان لا يتكلم " فمن أصحابنا من قال: أراد إذا لم يدّع الحرية. ومنهم من قال: أراد أنه كالثوب من جهة أنه لا كلام له شرعاً، كما أن الثوب لا كلام له حساًَ.
التفريع على الوجهين: إن قلنا: " لا يقبلُ قولُه "، وكان لا يعقل عقل مثله، فبلغ، وادعى أنه حر الأصل، فهل يقبل قوله الآن؟ فعلى وجهين: أحدهما - لا
__________
(1) ت 5: " فكان له المكتفى به ".
(2) في الأصل: " فكان ".
(3) عبارة (ت 5): " إذا لم يكن للصبي نفوذ الحكم فالرق نافذ ".

(19/165)


يقبل؛ لأنا حكمنا بالرق وثبوت الملك، فلا ننقض حكمَنا السابق. والثاني - يقبل، وهو القياس.
وبنى الأصحاب هذا على ما إذا حكمنا بإسلام الصبي تبعاً للسابي، أو الدار، أو الإسلام الطارىء من أحد الأبوين، فإذا بلغ وأعرب عن نفسه بالكفر، فهو مسلم ارتد، أو كافر أصلي؟ فعلى قولين، ذكرناهما على أبلغ وجه في البيان في كتاب اللقيط.
ومما يليق بتمام البيان فيه أنه إذا كان يصرِّف الصغيرَ، ولا يدّعي رقَّه، ولم يتصرف فيه تصرفاً يستدعي الملك: فمن أصحابنا من قال: لا يُحكم برقه، والحالة هذه.
حتى إذا بلغ وادعى الحرية قُبل مذهباً واحداً، وهذا متجه. ومنهم من قال: هذا بمثابة ما لو ادعى الرق، أو تصرف تصرفاً يستدعي الملك.
فصل
قال: " وإذا كانت الدار في يدي رجل لا يدعيها ... إلى آخره " (1).
12290 - إذا كان في يد رجل دار، فجاء إنسان وادعى أن نصف تلك الدار له، وجاء آخر وادعى أن كلّ الدار له، وصاحب اليد ساكت، وأقام كل واحد من المدعيين بينة على وفق دعواه، فبينة صاحب الكل في النصف لا معارِض لها، فقد نُطلق ونقول: يثبت له النصف، والبينتان متعارضتان في النصف الثاني، فإن قلنا: بالتساقط، سقطت بينة صاحب الكل في النصف، وهل تثبت في النصف الثاني، فعلى قولين مبنيين على أن الشهادة إذا رُدّ بعضها، فهل يُردّ باقيها؟ إذا كان الباقي بحيث لو انفرد بالذكر، لقبلت البينة فيه، وفي ذلك قولان أجرينا ذكرهما.
فإن قلنا: لا تتبعض البينة، وإذا بطل بعضها، بطل كلها، فتسقط بينة صاحب الكل في الكل.
وإن قلنا بالتبعيض، سقطت بينته في النصف، وسقطت بينة صاحبه، وخلص لصاحب الكل النصفُ.
وإن قلنا باستعمال البينتين، خرجت الأقوال. فإن قلنا بالقرعة، أقرع بينهما، فإن
__________
(1) ر. المختصر: 5/ 265.

(19/166)


خرجت القرعة لصاحب النصف، قضي له بالنصف وقضي لصاحب الكل بالنصف. وإن خرجت قرعة صاحب الكل، قضي له بجملة الدار.
وإن قلنا بالوقف، سلم النصف لصاحب الكل، ووقف النصف إلى أن يصطلحا.
وإن قلنا بالقسمة، سُلم النصف كما ذكرنا، وقُسم النصف الآخر بينهما، فيحصل لصاحب الكل ثلاثة أرباع الدار، وفي يد صاحب النصف ربع الدار.
فرع:
12291 - إذا ادعى رجلان داراً في يد ثالث، وأقام كل واحد منهما بينة، فأقر المدعى عليه لأحدهما بعد قيام البينتين، فقد اختلف أصحابنا على وجهين: فمنهم من قال: لا حكم لإقراره؛ فإن يده تناهى ضعفها، فلا حكم لإقراره بعد استحقاق إزالتها. ومنهم من قال: تترجح بينة المقر له، وهذا تفريع على استعمال البينتين؛ فإنا إذا قلنا بالتهاتر والتساقط، فلا بينة في الواقعة، واليد قائمة والإقرار صادر عن يد ثابتة، فجرى الحكم بها، فأما إذا قلنا بالاستعمال، فمن أصحابنا من يجعل الإقرار ترجيحاً، فيصير المقَرّ له بمثابة. صاحب يد. ومنهم من يقول: سقط سلطان المدعى عليه بعد قيام البينتين، واستحق انتزاع الدار من يده على حكم الوقف، أو القرعة، أو القسمة، فلا تُغيّر هذه الأحكام بإقراره.
فأما إذا ادعيا، فأقر لأحدهما قبل أن يقيمَ البينة، فقد صار المقر له صاحبَ يد، وانصرفت الخصومة إليه، وهذا بعينه هو الذي تقدم ذكره إذا أقر المدعى عليه لحاضر فصدّقه المقر له.
فصل
قال: "وإذا كانت الدار في يد ثلاثة، وادعى أحدهما النصف ... إلى آخره" (1).
12292 - إذا صادفنا داراً في أيدي ثلاثة، فادعى واحد نصفها، وواحد ثلثها، وواحد سدسها، وأقام كل واحد بينةً على وفق دعواه، أما صاحب الثلث، فيقضى له
__________
(1) ر. المختصر: 5/ 265.

(19/167)


بالثلث، فإنه ادعى المقدار الذي تثبت يده عليه، وأما صاحب السدس، فيثبت له السدس لا شك فيه؛ فإنه أقل مما تثبت يده عليه، وأما صاحب النصف، فيسلم له الثلث لا محالة لاجتماع يده وبينته، ويبقى الكلام في سدس هو (1) يتفرد بدعواه.
فإن أقر الذي يدعي السدس أن السدس الآخر الذي في يده لصاحب النصف، فيخلص له النصف، وإن أنكر صاحب السدس ذلك، وزعم أنه لغائب في يده مثلاً، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أن ذلك السدس يسلّم لمدعي النصف؛ فإنه قد أقام البينة عليه، وما عارضت بينته في ذلك بينة.
والوجه الثاني - أنه يأخذ نصف السدس؛ فإنه ادعى سدساً مشاعاً في الدار، وليس يدعي على صاحب السدس جميع ذلك السدس، وإنما يدعيه على صاحب الثلث والسدس، ودعواه فيما هو في يد صاحب الثلث مردودة، فإن فيه البينة واليد، فيبقى نصف السدس الآخر، وهو في يد صاحب السدس لا يدعيه لنفسه، فيسلِّم للمدعي نصفَ السدس، وهذا حسن. ذكره صاحب التقريب والعراقيون.
فرع:
12293 - إذا ادعى رجلان داراً في يد ثالث وقال كل واحد منهما: غصبتَ هذه الدار مني، فلو أقر المدعى عليه لأحدهما وعيّنه، فقد مضى القول في هذا مستقصىً.
وغرض الفرع أن صاحب اليد إذا قال: الدار لأحدكما، ولا أدري ممن غصبتها منكما، فأول ما نذكره في ذلك أن الدار تخرج من يده، وبمثله لو قال: الدار في يدي لواحد من الناس، غصبتها منه، ولم يعين أحداً، فهل يُخرج القاضي الدارَ من يده أم لا؟ فعلى وجهين: أحدهما - يُخرجها من يده ويحفظها كما يحفظ كلَّ مال ضائع. والثاني - لا يخرج الدار من يده، ولا حكم لإقراره على هذا الوجه.
فعلى هذا؛ لو أقر وأبهم، ثم قال: غلطت! فهل يقبل رجوعه؟ فعلى وجهين -مأخوذين من الخلاف في إزالة يده- فإن لم نر إزالة يده، فلا حكم لإقراره، ولا أثر لرجوعه، وكأنه لم يقر، وإن قلنا: تزال يده، فلا يقبل رجوعه، فالرجوع إذاً بين أن
__________
(1) ت 5: " وهو ".

(19/168)


يلغو من حيث لا حاجة إليه، وبين أن لا يقبل لتأكد الإقرار.
وإذا قال المدعى عليه في مسألتنا: غصبتُ الدار من أحدكما، ثم رام رجوعاً عن أصل الإقرار، لم يقبل منه ذلك، والفرق أن المقر له منحصر، والطلب متوجه منهما، وإذا طالباه، فقد طالبه من أقر له، فلا يتصور والحالة هذه الرجوع.
وقد ذكرنا أن الدار تخرج من يده وجهاً واحداً، ثم تتوجه الدعوى منهما عليه، وكل واحد يخاصمه وحده، ويقول: غصبت مني، ويطالبه باليمين، وهي على البتّ أم على نفي العلم؟ ذكر الشيخ أبو علي في ذلك قولين مبنيين على أنه لو نكل عن اليمين في حقهما، فهل يغرم لكل واحد منهما نصفَ القيمة، وفيه القولان المشهوران. فإن قلنا: إنه يغرَم، فيحلف على البت؛ فإنه يمين ينفي بها فعل نفسه، والنكول عنها يثبت مالاً عليه، فيطالبه كل واحد بأن يحلف: ما غصبت منك قطعاً، فإن نكل، رُدَّت اليمين على خصمه.
وإن قلنا: إنه وإن نكل عن اليمين وحلفا، لا يلتزم شيئاً، فلا يطالب بيمين البتّ، بل يحلف على نفي العلم، كما لو كان في يد الرجل وديعة، فقال: لست أدري أنها وديعة لزيد أو لعمرو، فيحلف على [نفي] (1) العلم، وقد ذكرتُ مسألة الوديعة في كتابها، والجامعُ أن الغاصب ليس يغرَم على وجهٍ كما لا يغرم المودَع، ثم المودَع لا يحلف على البت، فكذلك الغاصب في مسألتنا. هذه طريقة.
ويتجه عندنا أن يطالَب بالقطع في اليمين، ثم لو نكل، لم يلزمه شيء، لأنه يحلف على فعل نفسه، فلتكن يمينه على [البتّ] (2).
وإذا كان النكول لا يُلزمه شيئاً، ولا يثبت عليه مرجعاً، فلا ينبغي أن يترك قياس الأيمان (3) من غير غرض.
__________
(1) زيادة اقتضاها السياق، حيث سقطت من النسختين.
(2) في النسختين: على نفي العلم وهو مخالف للسياق، والمثبت تصرف من المحقق على ضوء المعنى، واستئناساً بما في البسيط للغزالي، وبما في مختصر العز بن عبد السلام.
(3) لأن قياس الأيمان أن من حلف على فعل نفسه، حلف على البت، وعبارة العز بن عبد السلام
توضح ذلك إذ قال: "وقال الإمام: يحلف على البت -وإن قلنا لا يغرم- طرداً لقاعدة =

(19/169)


12294 - ولكن يدخل في هذا شيء سننبه عليه في آخر الفرع.
فلو عُرضت اليمين عليه، فحلف في حقهما جميعاًعلى البت، وقد سبق منه الإقرار لأحدهما مجملاً، فَحَلِفُه على البت في حقهما لا يبطل إقرارَه الأول، وتكون الدار موقوفة للمدعيَيْن. وهذا مشكل؛ فإنه لو حلف على البتّ في حق الأول، يجب أن يكون هذا تعييناً منه للثاني؛ وهذا لا يتجه فيه جواب؛ فإن من أبهم، ثم عيّن، قُبل التعيين منه، وكان تعيينه بعد (1) الإبهام غير منافٍ لما تقدم، والمتردّد إذا تثبت، لم يبعد ذلك، فالوجه القطع بما ذكرناه.
فإن قال قائل: إذا كنا نلزمه الغرم لو لم يحلف على البت، فهو مدفوع إلى الحلف، قلنا: هذا أغمض من الأول، فإنا إذا حملناه على البتّ، فقد أمرناه بأن يحلف كاذباً، وتكليف اليمين الفاجرة لا وجه له.
ثم إذا كان يرى أني أحلف حتى لا أغرم، أو كنا نعرض عليه، ونبين له ذلك، فهذا في حكم التواضع والتواطؤ على صورة اليمين، وليس ذلك على الصيغ المعلومة في الأيمان، فالوجه أن نفرعّ على أنه يحلف على نفي العلم، ثم نقول: إذا حلف كذلك، فالدار موقوفة بين الخصمين.
واختلف أصحابنا في كيفية الوقف؛ فمنهم من قال: موقوفة إلى أن يصطلحا على تراضٍ، ولا تقسم الدار بينهما نصفين، بخلاف ما لو تنازعا داراً -والدار في أيديهما- وتحالفا، فيثبت لكل واحد منهما نصفُ الدار في يده، والفرق أن كل واحد منهما مستمسك بيده في نصف الدار، وهاهنا لم تثبت اليد لواحد منهما.
ومن أصحابنا من قال: الدار بينهما بمثابة الدار في يدي رجلين إذا تداعياها وتحالفا؛ فإن الحق لا يعدوهما، فهو كما لو كانت الدار في أيديهما، ثم لا فرق بين أن يحلف المدعى عليه وبين أن ينكُل ويحلفا أو ينكلا.
__________
= الأيمان، وإن قلنا: يغرم، حلف لكل واحد على البت: أي ما غصبت منك" (ر. الغاية في اختصار النهاية: 5/ 375 مخطوطة مرقمة الصفحات).
(1) ت 5: " قبل الإيهام ". وهو سبق قلم.

(19/170)


ومهما استوت الخصومة، وهما متساويان، فما ذكرناه من التردد قائم في كيفية الوقف، وإذا قامت بينتان متضادتان على عين، إذا رأينا استعمالَهما، ففي كيفية الاستعمال الأقوال: أحدها - القرعة. فلم يُجْر أحد من الأصحاب القرعة في التحالف في الدار، ولا فيما نحن فيه، مع عموم القرعة وجريانها في كل خصومة، والسبب فيه أن القرعة إنما أجراها من رآها عند التمسك بنهاية الحجة، وليس وراء البينة حجة تُرقب، فإذا عسُر فصل الخصومة معها، اتجهت القرعة، واليمين ليست نهاية الحجة، إذ نَرقُب البينةَ بعدها.
وهذا الذي ذكرناه خيالٌ؛ فإن أصل القول بالقرعة باطل، والقول الثاني في الاستعمال القسمةُ، والثالث الوقفُ.
وعندي أن ما ذكرناه من التردد في أن هذا بينهما على حكم القسمة، أو على حكم الوقف إلى الاصطلاح، هو القولان القسمة والوقف، فكأنّ التحالف في المال المتنازع يخرج فيه قولُ القسمة والوقف، ولا يخرج فيه قول القرعة.
وإذا تنازعا والدار في أيديهما، فليس ما ذكرناه قسمة، ولكن قررنا كلَّ واحد على ما في يده. هذا ما أردناه.
فرع:
12295 - إذا ادعى رجل على رجل جاريةً في يده، وأنكر المدعى عليه، فحلفناه، فنكل، فرددنا اليمين على المدعي، فحلف يمينَ الرد، وسلمنا الجارية إليه، فوطئها وأحبلها وأتت منه بولد، ولحقه الولد في ظاهر الأمر، ثم قال بعد ذلك: قد كذبت في دعواي ويميني، والجارية ليست لي!
قال الأصحاب: لا سبيل إلى رد الجارية على المدعى عليه؛ فإنه قد ثبت ظاهراً كونها مستولدة، وثبت أيضاً حرية الولد، فلا يقبل قوله في إبطال الاستيلاد، وإبطال حرية الولد، ولكن يغرم للمدعى عليه قيمةَ الجارية وقيمةَ الولد؛ فإنه فوّت الرد فيهما بسببٍ لا مُستدرك له ويحرم عليه وطء هذه وقِربانها على حكم الاستيلاد، ويلتزم مهر مثلها أيضاً. قال الشيخ: هذا إذا ادعت الجارية ثبوت الاستيلاد، أو لم تدّعه، ولم تنفه.
فأما إذا كذّب المدعي نفسه، كما ذكرناه، ووافقته الجارية، وقالت: إنما أنا

(19/171)


ملك المدعى عليه، ولم يثبت الاستيلاد فيّ، فهل تُردُّ الجاريةُ على المدعَى عليه؟ ذكر الشيخ فيه وجهين: أحدهما - نردها؛ فإن الحق لا يعدو المدعي والجارية وقد أقر، وهذا لا أصل له. والوجه الثاني -وهو الذي يجب القطع به- أن الاستيلاد لا يزول؛ من جهة أنه لزم وتأكدت عُلقة الحرية، فلا سبيل لهما إلى إبطالها، وأما الولد، فالحرية فيه لا ترتد (1) وفاقاً.
فرع:
12296 - قال الشيخ (2): من اشترى داراً، وقبضها، فجاء إنسان وادعاها، وأقام البينةَ عليها، وانتزع الدار من يد المشتري، لما ثبت استحقاقُه، فهل يرجع المشتري بالثمن على البائع؟ نُظر: فإن لم يقل المشتري الدار لي، وكانت لمن باعها مني، ولكنه ردد قولَه، ولم يصرح بذلك، فإذا ثبت الاستحقاقُ، رجع إلى البائع، ولو قال صريحاً: هذه الدار لي، ملكتُها، فهذا إقرار منه للبائع بالملك، فإذا قامت عليه البينة، فهل يرجع بالثمن؟ ذكر (3) وجهين: أحدهما - لا يرجع؛ لأنه يؤاخذ بإقراره، وكان يمكنه أن لا يصرح بادعاء الملك، والثاني - أنه يرجع، فإنه أقر لظاهر الحال، فلما قامت البينة جُعل كأن الإقرار لم يكن.
وكان شيخي يقطع بهذا، وإليه ميل المفتين.
12297 - ثم قال الشيخ: لو اشترى جاريةً بالغة، فادعت في يده أنها حرة الأصل، ولم يثبت عليها الرق بإقرارها، ولا ببينة تشهد، ولم تُعهد مسترقَّة في الصغر، فالقول قولها. وهذا مما مهدناه.
فإذا ادعت الحريةَ وصدقناها مع يمينها، فالمشتري هل يرجع بقيمتها على البائع؟ نظر؛ فإن لم يصرح بكونها مملوكة عند التفاوض في الخصومة، فيرجع بثمنها على البائع، وإن قال في الخصومة: أنت مملوكة، ثم حلفتْ، قال: فلا يرجع على [البائع] (4) لإقراره بالملك، وقطع القول به.
__________
(1) ت 5: " لا تزيل ".
(2) الشيخ: المراد الشيخ أبو علي السنجي، وهو المراد غالباً إذا أطلقه الإمام.
(3) ت 5: " ذكروا "، والذي ذكر هو الشيخ أبو علي.
(4) في الأصل: " المشتري ". وهو سبق قلمٍ واضح.

(19/172)


ولا فرق عندنا بين هذه المسألة وبين مسألة المشتري؛ والفرق إن أمكن، فوجهه أن من اشترى داراً من يد إنسان، فالظاهر الملك، والإقرار بالملك مبني على هذا الظاهر، وصاحبه مقر بالملك بناء على الظاهر، فعُذِر إذا بأن خلاف الظاهر، وقُبل منه قوله: إنما أقررت لأني ظننت أن البائع مالك بحكم يده وتصرفه، فأما في الجارية، فلا ظاهر يعتمد في ثبوت رقها، فإذا قال المشتري: إنها رقيقة حُمل ذلك على تثبت منه، لا على الظاهر.
ولا بأس بهذا الفرق، والأولى إجراء الخلاف في المسألتين.
فصل
12298 - ذكر الشيخ في شرح الفروع مسائل، سبق بعضها في الوصايا، ولكنا نعيدها للزوائد فيها.
فمنها: أن رجلاً لو مات وخفف ابناً لا وارث له سواه، وخلف عبداً قيمته ألف، لم يخلف سواه، فجاء إنسان وادعى أن أباه أوصى له بثلث ماله، وجاء آخر، وادعى أن له على أبيه ألف درهم، فصدّقهما معاً، ولم يقدّم أحدهما في التصديق على الثاني.
قال ابن الحداد ومعظم الأئمة في هذه المسألة: صاحب الدَّيْن يضرب في العبد بألف درهم، وصاحب الوصية يضرب فيه بثُلث الألف، فنزيد على الألف ثُلثَه عولاً، فيصير الثلث ربعاً، ويقسم العبد بين الوصية والدين أرباعاً.
فإن قيل: أليس الدينُ مقدماً على الوصية؟ قلنا: نعم هو كذلك، ولكن الدين ثبت بإقرار الوارث، والوصية ثبتت بإقراره، والمسألة مفروضة فيه إذا كان صاحب الوصية يكذّب مدعي الدين ومستحق الدين يكذّب مدّعي الوصية.
وحكى الشيخ وجهاً غريباً، أنه إذا صدقهما جميعاً، فيصرف تمام العبد إلى الدين وتسقط الوصية. وهذا غريب. والمذهب ما قدمناه؛ إذ لا خلاف أنه لو أقر بالوصية أولاً، ثم أقر بالدين بعد ذلك، وتكاذب صاحب الوصية والدين فالوصية بكمالها

(19/173)


تثبت للمقر له، لما ذكرناه، من أن جهة (1) ثبوت الوصية والدين الإقرارُ، والإقرار السابق يتضمن ثبوت الوصية بكمالها، وصاحب الوصية مكذِّب لصاحب الدين، فقدِّمت الوصية، ثم يصرف الثلثان إلى الدين.
ولو أقر بالدين أولاً، ثم أقر بالوصية، فالوصية مردودة، والدين متقدم؛ لأنه مقدم شرعاً، وقد قدّمه المقر ذكراً، وإنما التردد الذي ذكرناه فيه إذا أقر بهما معاً من غير فرض تقدم وتأخر، هذا ما ذكره الأصحاب.
ثم في المسألة بقيةٌ، وذلك أنا نقول: إذا قدم الإقرارَ بالوصية، ثم أقر بالدين، فقد ذكرنا أن الثلث بكماله يصرف إلى الوصية، فإذا أقر بالدين صرف الثلثان إلى الدين لمكان تأخر الإقرار به عن الإقرار بالوصية. ثم صاحب الدين يقول له: لو أقررت لي بالدين أولاً، لكنت أستحق تمام الألف، وإن أخرت الإقرار لي، وقدّمت عليّ الوصية صرتَ بتأخير إقراري مفوّتاً عليّ ثلث الألف، فاغرم لي ما انتقص من حقِّي.
هذا يخرج -فيما ذكره الشيخ أبو علي- على القولين المكررين في أن الإقرار إذا تضمن إيقاعَ حيلولة بين إنسان وبين حقه، فهل يجب على المقِر المنتسب إلى إيقاع الحيلولة ضمان؟ فيه القولان. ولو أراد التخلص منه، فينبغي أن يقدم ما يجب تقديمه، وهو الدين. وكذلك لو أقر بهما معاً، فيخرج القولان، ويلتزم على أحدهما لصاحب الدين تتمة الألف؛ من جهة أنه لو أقر بالدين أولاً، لوصل مستحِق الدين إلى كمال حقه، وليس لصاحب الوصية أن يطالب الوارث، ويقول: كان من حقك أن تقدم الإقرار بحقي، وإنما قلنا: لا يغرم للوصية شيئاً إذا أخر ذكر الوصية؛ فقد وضعها حيث وضعها الشرع، فلا يلزمه شيء، وإنما التزم لصاحب الدين على أحد الوجهين لتأخيره الإقرار، وكان حقه أن يقدمه، ويسعى في تنزيل الدين منزلته.
12299 - ومما ذكره ابن الحداد من هذا القبيل أنه لو مات وخلف ابناً وارثاً دون غيره، فجاء عبد، وقال: أعتقني أبوك في مرضه، وهو ثلث ماله [فصدّقه] (2)، فجاء
__________
(1) سقطت من (ت 5).
(2) زيادة من المحقق اقتضاها السياق، وقد سقطت من النسختين.

(19/174)


عبد آخر وزعم أنه أعتقه في مرضه أيضاً، وقيمته مقدار الثلث، كما تقدم، فصدقه الوارث.
قال: أما العبد الأول فيعتَق على كل حال، ولكن يقرع بينه وبين العبد الثاني.
فإن خرجت القرعة لمن جاء أولاً، ثبت عتقه ورقَّ الثاني، وإن خرجت القرعة على الثاني، عُتقا جميعاً، فيعتق الأول بحكم الإقرار ويعتق الثاني بحكم القرعة، هكذا قال، وقطع به الشيخ في الشرح.
وحقيقة الجواب أنه لو ثبت العتق في العبدين جميعاً معاً، لكنا نقرع بينهما، فمن خرجت قرعته، عَتَق، إذا كان كل واحد منهما مقدار الثلث، فالقرعة إذاً توجب هذا المعنى، فإذا خرجت القرعة على العبد الثاني، عَتَق بحكم القرعة، ولا مرد لعتق العبد الأول؛ فإن الوارث جرد الإقرار فيه، فلا يقبل منه مسلك يتضمن نفيَ ذلك العتق، هذا تعليل ما ذكره ابن الحداد.
ولو جاء العبدان، فادعى كل واحد منهما إعتاق السيد إياهما فأقر الوارث لهما معاً، وكان كل واحد منهما ثلثاً، فلا يعتِق إلا مقدارُ الثلث، والمذهب أنه يقرع بينهما، فمن خرجت له القرعة عَتَق، ورق الثاني.
ومن أصحابنا من قال: يَعْتِق من كل واحد منهما نصفُه. وهذا بعيد عن مذهب الشافعي رضي الله عنه، فإن من أعتق عبيداً في مرض موته لا مال له غيرهم، وجب الإقراع بينهم، فإقرار الوارث ينبغي أن ينزل منزلة إنشاء العتق.
والوجه الثاني - أنا نعتق من كل عبد نصفه؛ إذ ليس أحدهما أولى من الآخر.
وحكم الإقرار اللزوم. فقد لزم لكل واحد حق العتق؟ فلا معنى لإخراج أحدهما عن الاستحقاق. وهذا يوجب فضَّ العتق عليهما إلى استيعاب الثلث، ولهذا قلنا: إذا قدم الإقرار لأحدهما، ثم أقر للثاني يقدم المقر له بالاستحقاق، ولم يقبل الإقرار للثاني على وجه يوجب التسوية بينه وبين الأول.
12300 - ومما ذكره أنه لو ادعى رجل أن أباه أوصى له بثلث ماله، فصدقه هذا الوارث، فجاء آخر وادعى أنه أوصى له بالثلث، فصدّقه، وكان كل واحد منهما ينكر

(19/175)


وصية صاحبه، فيسلّم الثلث كَمَلاً إلى الأول؛ جرياً على القياس الذي مهدناه؛ لأنه أقر له أولاً. وقد ذكرنا أنه لو قدم الإقرار بالوصية، وأخر الإقرار بالدين، أكملت الوصية لتأخر الإقرار بالدين عن الوصية. وهذا أولى من وصية تقدم على وصية.
12301 - ولو خلَّف المتوفى عبداً قيمته ألف، فقال العبد: أعتقني أبوك في صحته، وقال رجل: لي على أبيك ألف درهم دين، فصدقهما معاً، فالذي صار إليه الأئمة أنه يعتِق نصفُه، ويصرف نصفه إلى الدين إذا وقع الإقرار بهما معاً.
وذكر بعض أصحابنا وجهاً غريباً أنه يعتق كله، ويسقط الدين؛ فإنه إذا ثبت العتق في الصحة، فهو مقدم على الدين، فينفذ العتق، ويسقط الدين.
وهذا ليس بشيء؛ فإن هذه المسألة فيه إذا كان صاحب الدين يكذّب دعوى العتق، فأما إذا اعترف به وبجريانه في حالة الصحة، فلا إشكال في المسألة.
12302 - ولو خلف ابناً وألف درهم، فجاء رجل وادعى دين ألف، فصدّقه الابن، ثم جاء آخر وادعى دين ألف، وأقام على ذلك بينة، وكذّب الأول في دعواه، فالتركة بجملتها تسلّم إلى الثاني وليس للأول منها شيء؛ فإن البينة في حق الثاني مقدمة على الإقرار في حق الأول، والمسألة مفروضة فيه إذا أنكر الثاني دين الأول.
ولو كانت المسألة بحالها، فجاء واحد، وادعى وصية له بالثلث، فصدّقه الوارث، ثم جاء آخر، وادعى الوصية بالثلث، وأقام على ذلك بينة، وأنكر الوصية الأولى، فيسلم إلى الثاني الثلث بكماله، ثم إذا سُلّم الثلث، فالأول يقول للوارث: قد أقررت لي بثلث جميع المال، وهذا الآخر أخذ الثلث بشهادة زور، [وأنت] (1) معترف بكونه مبطلاً، والمسألة مفروضة هاهنا (2)، فاصرف إليّ ثلث الثلثين، وقدِّر ما أخذه من ادعى الوصية تالفاً من التركة، فالوارث يجيبه إلى ما قاله؛ فإنه أقر له بثلث شائع في جميع المال، وقد فات ثلثه من التركة، فله ثلث الباقي.
__________
(1) في الأصل: " وأنه "، والمثبت من (ت 5).
(2) أي مفروضة في تكذيب الوارث للمدعي الثاني.

(19/176)


فرع:
12303 - إذا كان الرجل قيّماً في مال يتيم، أو وصياً بنصب أبيه، ثم هذا القيم نصبه الإمام قاضي البلد، وهو على الوصاية، فظهر مالٌ لأب الطفل، وشهد عند القاضي شاهدان أن لأب الطفل مالاً معلوماً عند فلان، قال ابن الحداد: لا يقضي به القاضي؛ فإنه خصم (1) لليتيم مطالب بماله، فيبعد أن يكون مخاصماً عنه قاضياً له. وهذا كما أنه لما كان خصماً في حق نفسه، فلا يتصور منه أن يقضي لنفسه أصلاً، فإذا لم يمكنه أن يقضي لليتيم، رفع الأمر إلى الإمام، وادعى هو بنفسه لليتيم. وأقام البينة ليقضي بها الإمام.
وإن رفع الأمر إلى بعض من استخلفه من الحكام، ففي جواز ذلك وجهان، وكذلك القول فيما يرفعه من شُغل نفسه إلى من استخلفه. وهذا الخلاف في مستخلف القاضي.
فأما الإمام [لو عنّ له] (2) شُغل، فلا بد من الارتفاع إلى من استخلفه؛ فإنه لا طريق غيره، وقد صح أن علياً ارتفع إلى مجلس شريح في قصص معروفة، قضى في بعضها له، وفي بعضها عليه.
قال الشيخ أبو علي: قال شيخي -يعني القفال- الوصي إذا نُصب قاضياً، فله أن يقضي لليتيم؛ فإن القاضي يلي أموال اليتامى، ثم لا يمنعه ذلك من القضاء لهم، فكذلك في هذه الصورة، وهذا كما أنه يقضي لسائر الأيتام الذين هم في حياطته وولايته، والذي قاله القفال متجه في القياس.
...
__________
(1) الخصم: المخاصم، والمعنى أنه مخاصم عن اليتيم ولمصلحته، وليس المراد خصيمه.
(2) في الأصل: " لو عدّله ".

(19/177)


باب القافة ودعوى الولد
12304 - بيّن الشافعي رضي الله عنه فيما قدمه من الأبواب حكمَ الدعاوى في الأموال، وبين في هذا الباب حكمَ الدعاوى في الأنساب.
فإذا اشترك رجلان في طهر امرأة بوطء شبهة أو بوطء حلال ووطء شبهة، فأتت بولد يحتمل أن يكون لكل واحد منهما وادعياه، أو ادعيا لقيطاً مجهول النسب، فلا سبيل إلى إلحاقه بهما جميعاً، ولا يتصور أن يكون للمولود أبوان، ولكن نُري الولدَ القائفَ، فإن ألحقه بأحدهما، لحقه، على ما سنذكر تفصيل ذلك، إن شاء الله.
[وترتيب الباب] (1) أن نذكر الطرق التي يثبت بها الاشتراك والتساوي في الدِّعوة (2)، ثم نذكر من هو من أهل الدِّعوة، ثم نذكر القائف وما يرعى فيه، وحقيقة القيافة، ثم نختتم الباب بما إذا لم نجد القائف.
12305 - فأما الكلام في الفصل الأول، فقد قال الأئمة: إذا وطىء الرجل [جاريته] (3) واعترف بالوطء، ثم وطئها غيره بشبهة في ذلك الطهر بعينه، فأتت بولد لزمان يمكن أن يكون من كل واحد منهما: السيد والواطىء بالشبهة، فنري الولدَ القائفَ.
12306 - ولو وطىء الجاريةَ مالكُها، أو مالكُ بعضها، أو واطىءٌ بشبهة، ثم حاضت، فلما انقضت الحيضة، وطئها ثانٍ، وجاءت بولد لزمان يمكن أن يكون لكل واحد منهما من حيث الزمان، فالولد ملتحق بالثاني؛ فإنّ وطء الأول استعقب استبراءً
__________
(1) في الأصل: " ومن هذا الباب ". والمثبت من (ت 5).
(2) الدِّعوة: بكسر الدال المشدّدة، وآخرها تاء مربوطة: هي ادعاء النسب خاصة. وقد سبق بيان ذلك أكثر من مرة، وإنما كررناه لطول العهد به.
(3) في النسخين: جارية. والمثبت من تصرّف المحقق.

(19/178)


بحيضة، والولد في ملك اليمين لا يلحق بمجرد الإمكان؛ إذ السيد لو وطىء جارية نفسه، وأقر بوطئها، ثم ادعى أنه استبرأها بعد الوطء، فإذا أتت بولد، لم يلحقه ما لم يستلحقه، فالولد إذاً في المسألة التي نحن فيها ملحق بالثاني منتفٍ عن الأول، سواء ادعاه الأول أو لم يدعه.
وهذا فيه أدنى نظر، إذا كان يدعيه الأول؛ فإن السيد إذا وطىء أمته، ثم حاضت، وأتت بولد، لزمان يحتمل أن يكون العلوق به من الوطء المتقدم على الحيضة -بتقدير جريان الدم في زمن الحمل- فيجب أن يلحق الولدُ السيدَ، وإنما يؤثر طريان الحيضة في أن الولد لا يلحقه من غير استلحاق، فإذا فرضنا تخلل الحيضة بين الوطء الأول وبين الوطء من الثاني، ثم استلحق الأول وادعى، واستلحق الثاني، فلا يبعد أن يقال: نري الولدَ القائفَ، وظاهر كلام الأئمة يختص بالثاني من غير إلحاق قائف، وفي المسألة احتمال.
ولا خلاف أن من أبان امرأته، فنكحت، وأتت بعد النكاح بولد لزمان يحتمل أن يكون من الثاني، ويحتمل أن يكون من الزوج الأول، فهو ملتحق بالزوج الثاني، من غير دِعوةٍ، منتفٍ عن الأول، وإن ادعى؛ فإن الفراش الثاني قاطع لأثر الفراش الأول فيما ذكرناه.
12307 - ولو وطىء رجل امرأةً حرة بشبهة، من غير نكاح صحيح ولا فاسد، ولكن غلط إليها، وهي خلية عن الزوج، فحاضت، ثم وطئها رجل آخر بالشبهة بعد حيضة، فوقع الوطء الثاني في طهرٍ ثانٍ، وأتت بولد لزمانٍ يحتمل أن يكون من كل واحد منهما جميعاً، قال الأصحاب: هو ملتحق بالثاني منتفٍ عن الأول، كما ذكرناه في ملك اليمين سواء؛ فإنّ وطء الغلط من غير نكاح في الحرة بمثابة وطء المملوكة فيما قدمناه في ملك اليمين. هكذا ذكر شيخنا، وادعى الوفاق فيه. وليس ما ذكره خالياً عن احتمال؛ فإن وطء الشبهة في اقتضاء العدة التامة -والموطوءة حرة- بمثابة الوطء الحلال في النكاح، والله أعلم.
12308 - ولو كانت المرأة في حبالة زوجية صحيحة، فوطئها الزوج، وحاضت، ثم وطئها واطىء بشبهة، أو لم يثبت من الزوج حقيقة وطء، بل وجد إمكان وطء،

(19/179)


ففي هذه الصورة إذا أتت بولد -يمكن أن يكون من كل واحد منهما- فنُري الولدَ القائفَ وفاقاً. ولا معتبر بما تخلل من الاستبراء بالحيضة؛ لأنا نعتبر في إلحاق النسب بالزوج في النكاح مجردَ الإمكان، والحيضة لا تقطع الإمكان أصلاً. فلا أثر لها في حق الزوج.
ولو وطىء الزوجة واطىء بشبهة أولاً، وحاضت بعد وطئه إياها، ثم أتت بولد لزمان يحتمل أن يكون منهما، فيكون ملحقاً بالزوج منفياً عن الواطىء بالشبهة، إن صح ما قدمناه من تأثير الحيض في وطء الشبهة، فإنا إن اقتصرنا على الإمكان في حق الزوج، فلسنا نقتصر على الطريقة التي مهدناها في حق الواطىء بالشبهة.
12309 - ولو نكح الرجل امرأةً نكاحاً فاسداً، فوطئها، وحاضت، ووطئها آخر بشبهة غالطاً، والزمان محتمل، ذكر الإمام (1) في هذه المسألة وجهين: أحدهما - أن حكم النكاح الفاسد حكم النكاح الصحيح، والولد ملحق فيه بالإمكان، [كما يلحق في النكاح الصحيح] (2)؛ فعلى هذا لو تخللت حيضة، وأتت بولد، فنريه القائفَ بينهما. ولو لم نتحقق من الناكح وطئاً، فنكتفي بإمكان الوطءِ في جانبه. ولو أنكر الناكح على الفساد الوطءَ، فلا أثر لإنكاره على هذا الوجه.
والوجه الثاني - أن نكاح الشبهة في حق الناكح لا يُثبت نسباً بالإمكان المجرد؛ فعلى هذا سبيل الناكح كسبيل الواطىء بالشبهة غلطاً، ولا بد من تصوير الوطء، والتفصيل في تخلل الحيض كالتفصيل في وطأة الغالط.
12310 - فانتظم من مجموع ما ذكرناه ثلاثُ مراتب: إحداها - وطأة الغالط. وقد ألحقها شيخي وطائفة من الأئمة بالوطء في ملك اليمين، وأثبتوا لتخلل الحيض أثراً، ولا شك أن الاعتراف بالوطء لا بد منه.
وأما المرتبة الثانية - فالنكاح الصحيحُ، والإمكانُ المجرد كافٍ في حق الزوج، ولا أثر في حقه لتخلل الحيضة.
__________
(1) الإمام: يعني والده الشيخ أبا محمد.
(2) في الأصل: " كما لا يلحق في النكاح الصحيح "، والعبارة صحيحة في (ت 5).

(19/180)


وأما إذا جرى نكاح على الفساد (1)، ففيه الخلاف. من أصحابنا من ألحقه في النسب (2) وأمرِه بالنكاح الصحيح، ومنهم من شرط فيه جريان الوطء، ثم رده في الترتيب إلى وطأة الغالط.
وهذه المراتب مسبوقة بما ذكرناه في الوطء في ملك اليمين مع تصور الغلط، ولا خلاف في إلحاق الولد بالزوج الثاني، وقَطْعه عن الأول إذا أمكن أن يكون من الثاني، وإن احتمل أن يكون من الأول، سواء ادعاه الأول، أو لم يدعه، وليت شعري ماذا نقول إذا نفاه الثاني باللعان، واستلحقه الأول؟ فقد انقطع في ظاهر الأمر حكم اللحوق في النكاح الثاني، والاحتمال قائم في حق الأول، فالذي يقتضيه الرأي عندي أنه لا يلتحق بالأول، وإن كان يدعيه؛ لأن الملاعن لو استلحق المنتفي بعد اللعان، لحقه، وفي إلحاقنا إياه بالأول قطعُ هذا المعنى، وهذا فيه إذا كان الأول يستلحقه بحكم الإمكان السابق المستند إلى النكاح الأول.
فأما إذا كان يدعي وطء شبهة، فيظهر من هذا أصل آخر، وهو أن من ادعى وطء شبهة في النكاح، وصاحب النكاح ينكره، وأخذ مدعي الوطء في الدِّعوة وإسنادها إلى وطٍ يدعيه، فكيف السبيل فيه؟ إن قلنا: الرجوع إلى قول صاحب الدِّعوة، فهذا يخرم نسب الفراش، ويجر خبالاً عظيماً على الأنساب، وإن لم نقل ذلك، أَحْوجنا الواطىءَ إلى إثبات الوطء بالبينة؛ فإنّ اعتراف الزوج به لا يؤثر (3) فيما نراه، ولا أثر لاعترافها بالوطء. والمرعيّ حق الولد. وهذا أمر مشتبه. فليتأمله الناظر.
وعندي أن الذي أجراه الأصحاب من غير تعرض لما ذكرناه في وطء ثبت بطريق ثبوته، وشهدت البينة عليه، وإنعام النظر في هذه المسألة موكول إلى الفقيه الموثوق بنظره.
ولو تداعى رجلان نسب لقيطٍ مجهولِ النسب، فهذا من صور القيافة، والغالب الذي لا يُتمارى فيه في تصرف القائف هذا.
__________
(1) هذه هي المرتبة الثالثة.
(2) ت 5: " بالنسب ".
(3) ت 5: " لائق فيما نراه ".

(19/181)


وقد نجز مقدار مرادنا في هذا الفصل، ولا شك أني ذكرت في كتاب اللعان أطرافاً من هذا، ولا مَعاب في الإعادة إذا دعت إليها حاجة.
12311 - فأما القول فيمن هو من أهل الاستلحاق والدِّعوة - وقد مضى ذلك في كتاب اللعان، فالمسلم والكافر سيّان في الاستلحاق، والمتبع في الباب الإمكانُ في المنبوذ المجهول. وإن وقع الفرض في وطء الشبهة، فلا فرق بين الكافر والمسلم.
وأما المعتَق وعليه الولاء إذا استلحق مولوداً، والعبد الرقيق إذا استلحق، فالذي تحصل لنا من قول أئمة المذهب (1) ثلاثةُ أوجه: أحدها - أنه لا دِعوة لواحد منهما؛ لأن في إلحاق النسب قطع الإرث بالولاء، فلا يقبل، والحالة هذه.
والثاني -وهو القياس- أن النسب يلحق (2) بهما إذا استلحقاه.
والوجه الثالث - الفرق بين المعتَق والرقيق، فالمعتَق لا يلحقه؛ لأنه يهجم بالاستلحاق على الولاء الكائن، والولاء موهوم في الرقيق، والأصل اطراد الرق، فكان الرقيق أولى بالاستلحاق -على هذا الترتيب في الوجه الثالث- من المعتَق.
وهذا (3) الذي ذكرناه في الدِّعوة المجردة.
فأما إذا فرض نكاح من معتَق أو رقيق، فالنسب يلحقهما بإجماع الأمة، كما يلحق الحر.
وإذا صح منهما وطء شبهة، فيجب أن يلحقهما النسب على القياس المقدم في وطأة الغالط الحر.
12312 - وإذا ادعت امرأة مولوداً مجهولاً، وهي خلية، ففي الولادة بالدّعوة خلافٌ، قدمته في اللعان. من أصحابنا من لم يثبت لها دِعوة، لأن الولادة مما يمكن إثباتُه بالبينة، وإنما يلحق النسب الرجل بالدِّعوة المجردة لامتناع إقامة البينة على سبب النسب في حقه.
__________
(1) ت 5: " الأئمة المذهبيين ".
(2) ت 5: "يلحقهما".
(3) ت 5: " وهو الذي ".

(19/182)


ومن أصحابنا من أثبت للمرأة الدِّعوة، ولا خلاف أنها إذا كانت ذات زوج، فادعت ولادةَ مولود، وأنكر الزوج ولادتها، وقال: هذا استعرتيه أو لقطتيه، وما ولدتيه (1)، فالقول قول الزوج. وهذا الأصل معروف مذكور في اللعان، ولكن إذا أنكر الزوج الولادة، ولم تُقم المرأة بينة، فهل يلحقها الولد؟ فيه خلاف مرتب على الخلية.
وينتظم من الخلية وذات الزوج ثلاثة أوجه:
أحدها - أن الولد لا يلحقها إذا كانت ذات زوج، ويلحقها إذا كانت خلية (2)، وقد انتهى القول في ذلك.
12313 - فأما الكلام في القائف، فهذا مشهور من بني مدلج وحديث مُجَزِّز (3) المُدْلجي في أسامة وزيد معروف (4).
ثم قال العراقيون: ليست القيافة محكوماً بها على كل من ينتسب إلى هذه القبيلة، بل يجوز أن يخلوَ مُدلجي عن القيافة؛ فإن ذلك إن كان علماً يُتلقف، فيختص به حملتُه، وإن كان أمراً مستفاداً من إلهام، فلا يجب إثباته على العموم، وإذا قال المدلجي: أنا عارف بالقيافة، فلا سبيل إلى تصديقه.
12314 - ولا وجه إلا ما ذكره الشيخ أبو حامد، فإنه قال: لا يقبل قول القائف إلا بعد أن يجرّب ويختبر، وسبيله أن نريَه ولداً بين نسوة، ليست واحدة منهن أمه، فإذا لم يلحق الولد بواحدة أريناه مع نسوة فيهن أم المولود، فإذا ألحقه بأمه، عرفنا به معرفتَه. ثم قال الشيخ أبو حامد: لا نكتفي أن نجرّبه مرة واحدة، بل نجرّب ثلاث
__________
(1) سبق بيان أن إثبات الياء في هذه الصورة صحيحٌ فصيحٌ وعليه شواهد من الحديث النبوي الشريف.
(2) لم يذكر الوجهان الأول والثاني، لأنهما مفهومان من الكلام.
(3) في النسختين محرز بالحاء المهملة مع تأكيد الإهمال بعلامته المعروفة في كليهما.
(4) حديث مجزز المدلجي في القيافة متفق عليه من حديث عائشة (ر. البخاري: المناقب، باب صفة النبي صلى الله عليه وسلم، ح 3555، مسلم: الرضاع، باب العمل بإلحاق القائف الولد، ح 1459).

(19/183)


مرات، ورأى ذلك حتماً، ولم يجعله احتياطاً.
ولو أريناه المولود بين نسوة ليس فيهن أمه، فلم يلحق، فأريناه في نسوة ليس فيهن أمه أيضاً فلم يُلحق، وكررنا هذا النوع عليه، [فاستدّ] (1) في عدم الإلحاق، ثم ألحق بالأم، فلست أدري أن ما تقدم من درك [استداده] (2) هل يكتفى به، أم لا بد من تكرر الإلحاق منه (3)؟
والذي يجب أن يكون عقَد المذهب ومعتبرَه أن يَظهرَ حذقُه وتهدّيه، ويبعد حمل ما صدر منه على وفاق، ويجب أن نتناهى في الاحتياط؛ حتى لا يكون القائف مطّلعاً من قبل بعِيان أو تسامع.
وما ذكرناه من التجربة المحتومة مخصوصة بالنسوة؛ فإن الولاد فيهن مستيقن، ولست أدري هل يقع الاكتفاء بأن نريَه ولداً مشهور النسب بين رجال ليس فيهم أبوه؟ والأظهر تخصيص التجربة بالنساء كما ذكرناه.
ثم إذا تبيّنا معرفته، فلا شك أن نشترط عقله وبلوغه وورعه.
والقائف الواحد كافٍ، والشاهد فيه حديث مجزِّز المدلجي، وفي اشتراط الحرية مذهبان: أصحهما - الاشتراط، وتنزيلُ القائف منزلة الحاكم، وليت شعري هل يُقبل إلحاق المرأة القائفة؟ إن لم نشترط الحرية.
12315 - وقد ظهر اختلاف أصحابنا في أن القيافة هل تختص ببني مدلج أو تتعداهم؟ فمنهم من زعم أنه مختص بهم، وهؤلاء اعتمدوا الاقتصار على مورد الشرع؛ فإن القيافة احتكام على أمرِ مُخطر، ومعوّلها التخمين، وكم من حاذق منهم يغلط، فالوجه ما ذكرناه.
وما زال أهل هذه القبيلة يراجَعون، وعصر الصحابة يطفح بذوي الفطن، فالوجه الاختصار عليهم.
__________
(1) في الأصل: " فاستبد "، وفي ت 5: " فاستدعى ". والمثبت تصرف من المحقق.
(2) في الأصل: " استبداده "، والمثبت من (ت 5).
(3) ت 5: " أم لا بد من تكرر الإلحاق به منه ".

(19/184)


ومن أصحابنا من لم يخصص ذلك بهم، واعتبر هذا المستدرك بكل ما يستدرك فيما يُعلم ويُظن، وعبّر الأئمة عن هذا فقالوا: القيافة خاصَّة فيهم، أم هي علم يتعلم ثم يُحْكَم بطول الدُّربة، كالعلوم التعليمية والتجريبية؟ ثم تصرف العراقيون، فقالوا: لا شك أنهم يعتمدون أشباهاً جلية وخفية: الجليةُ كالخلق والصور، والخفية كالشمائل التي لا تنتظم فيها عبارة، ثم قالوا: إذا كانت القيافة علماً من العلوم مستنداً إلى أعلام، فلو ظهر للذي يُلحق بالشبه تشابه في الخلق الجلية مع شخصٍ، ومشابهة في الشمائل الخفية مع شخص، فيعتمد ظواهر الخلق، أو الشمائل الخفية؟ فعلى وجهين. [فأما] (1) من يعتمد المسلك الجلي، فتوجيهه بين، ومن يعتمد الشمائل فمعتمده أن الخلق لو كان عليها معول، لعم تشبه الولد بالوالد في الصورة، وليس كذلك، فأما الشمائل فلا بد من التشابه فيها في حق من يتفطن لها غالباً. والله أعلم.
ولا ينبغي عندنا أن ينتهي الفقيه إلى أن يتصرف في علم القيافة.
ومما نلحقه بذلك، أنا إذا جرّبنا القائف في مولود، فأصبناه مصيباً فيه، فلا نكرر عليه التجربة في كل مولود، وهذا كحكمنا بكون الكلب معلماً، إذا ثبت، لم نحتج إلى إعادة التجربة كل مرة، بل هو على حكم التعليم إلى أن يتبين خلافه.
هذا منتهى ما أردناه في صفات القائف.
12316 - فإذا وجدنا قائفاً على الشرط، فلا مَعْدل عنه. وإن لم نجد قائفاً، أو وجدناه فتحيرّ، أو جربناه فغلط، أو كان القائف غائباً -على ما سأصف الغيبة- فيقف الأمر، ونتوقف إلى أن يبلغ الطفل ونأمره بالانتساب.
ثم الذي فهمته من كلام الأصحاب أن هذا المولود يعتمد ميلَ نفسه وحنينها، معتقداً أن النفوس مجبولة على الميل إلى الوالدين، وليس له أن يختار واحداً عن وفاق، هذا ما وجدته. حتى قال شيخي: لو امتنع بعد البلوغ عن الاختيار، حبسه القاضي.
__________
(1) في الأصل: " وأما ". والمثبت من (ت 5).

(19/185)


ولست أرى الأمر كذلك (1)، بل هذا مناقضٌ لقولنا: لا يختار تشهياً؛ فإن الإجبار يليق بهذا الفن من الاختيار، وهذا كحبسنا من أسلم على عشر نسوة ليختار أربعاً منهن، ولا يمكن أن نحكم على النفوس بأنها تميل إلى آبائها ميلاً جلياً (2) لا بد منه؛ حتى لا يخلو شخص عن وجدانه ودركه من نفسه، ولست أشك أن هذا لا يعم النفوس مع الجهل والتباس الحال.
فأما إذا ألف الرجل أباه وتربّى في حجره، فذاك إلف وتقليد، وإنّا في التعويل على ما يندر من الميل على تردد، ولا متبع فيه إلا الشرع والتوقيف.
ثم إذا اختار المولود أحدهما، وقع الحكم به، وأرى له محملاً جلياً في قواعد الشريعة، وهو تقارّ المستلحِق والمستلحَق على النسب، ولو استلحق الرجل نسب بالغٍ، فلا يلحقه نسبه ما لم يوافقه، هذا من ذلك الفن، يل هو هو بعينه. وما قدمناه من النزوع إلى نوازع النفس كلام فيما يعتمده المختار، وإلا فالحكم الظاهر المنوط بالاختيار متلقى مما ذكرته.
ولو بلغ الصبي مبلغ التمييز، ولم ينته إلى مظنة التكليف فهل يختار؟ وهل لاختياره حكم؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنه يخيّر ليختار، إذا لم يكن قائف، كما يُخَيَّر المولودُ المميز بين أبويه في الحضانة. والوجه الثاني - أنا نصبر إلى أن يبلغ؛ فإن أمر النسب خطير، وليس كالحضانة؛ فإنها مطلوبة في الصغر، ولو أخر أمرها، فيقع الكلام بعد انقضائها؛ على أنا اعتمدنا فيها الخبر والأثر.
12317 - وقد أجرينا ذكر غيبة القائف، والذي يجمب الرجوع إليه عندنا في هذا أن يقال: الاختيار في حكم البدل عن القيافة، فنعتبر في غيبة القائف ما نعتبره في غيبة شهود الأصل عند استشهاد الفروع.
12318 - ووراء ذلك غائلة ننبه عليها الآن، ونقدم أصلاً مقصوداً، فنقول: الولد
__________
(1) كذلك: الإشارة إلى أن الاختيار عند البلوغ يكلون عن جبلّةٍ وطبيعة، لا يخلو منها إنسان، حتى لا يمكن أن يكون اختياره عن وفاق.
(2) كذا في النسختين، وأراها جبلِّياً، والله أعلم.

(19/186)


الذي ألحقه فراش النكاح لا يؤثر فيه قيافةٌ، ولا انتسابٌ يخالف حكم الفراش، بل لا ينتفي ولد ألحقه الفراش إلا باللعان.
ولو صادفنا صبياً صغيراً في يد إنسان، وكان يستلحقه، ولا نعرف فراشاً نُسند الولدَ إليه، فالنسب يلحق بظاهر اليد مع الانتساب، حتى لو جاء إنسان واستلحقه، فلا حكم لاستلحاقه. ولو دعانا إلى الاحتكام إلى القائف، لم نجبه، وهذا رأيته متفقاً عليه بين الأصحاب.
ولو بلغ الطفل فانتفى ممن كان يستلحقه وهو تحت يده في صباه، فهل يقبل انتفاؤه عنه؟ فعلى وجهين مشهورين بناهما الأصحاب على ما إذا حكمنا لطفل بالإسلام تبعاً، فبلغ وأعرب عن نفسه بالكفر، فهو مرتد أو كافر أصلي؟ فعلى قولين، ووجه البناء لائح.
وذكرنا في ادعاء الحرية بعد البلوغ مثلَ هذا الخلاف.
ثم ذكر الأصحاب في هذا المنتهى مسألة، فنذكرها، ثم نعود إلى ما نبهنا عليه، قالوا: إذا كان في يده صبي، وهو يدعي نسبه، ويزعم أن زوجته أتت به، والزوجة تنكر ولادته، فالنسب يلحق وإن أنكرت، فلو جاء خارجي وادعى نسبه، وزوجة الخارجي تزعم أنها ولدته على فراش الخارجي، أما الأبوة، فثابتةٌ لمن الطفل في يده. واختلف أصحابنا وراء ذلك في الأمّ: فقال قائلون: هو ابن صاحب اليد وابن زوجة الخارجي، فلا منافاة، ولعله وطئها بشبهة، وهذا إذا جعلنا للمرأة دِعْوة.
ومن أصحابنا من قال: هو ملحق بالذي في يده، وبزوجته وإن أنكرته.
ومن أصحابنا من قال: الأبوة تثبت لصاحب اليد، ولا قائف في ذلك، ونُري الولدَ القائفَ بين زوجته وزوجة الخارجي.
12319 - ونحن نعود بعد ذلك إلى ما أردناه، فنقول: إذا وقفنا أمرَ المولود الذي تداعاه رجلان، لما لم نجد القائف، وانتظرنا بلوغ المولود واختيارَه، فلو بلغ، فحضر قائف قبل اختياره، فالرجوع إلى اختياره أم إلى إلحاق القائف؟ أولاً - لا خلاف أنه لو لم يختر، ألحقه القائف، وإذا اختار ووافق اختيارُه إلحاقَ القائف، فلا إشكال.

(19/187)


وإن اختار أحدَهما وألحقه القائف بالثاني، فهذا موضع النظر؛ من جهة أن القيافة تليق بحالة الصغر؛ إذ لو ادعى رجل نسب بالغ، وهو ينكر، فاستشهد المدعي بقائف، فلا يجوز أن يكون قولُ القائف حجةً في هذا المقام، والمستلحَق المدعى بالغ مستقل، وادعاء الرجل نسبه كادعائه مالَه، ولكن إنما ترددنا في المسألة الأولى؛ لأن الولد في حكم النسب كابنٍ في أيديهما، وتثبت عُلقة النسب، بل حقيقة النسب من أحدهما؛ فإن هذا إذا بلغ لا بد وأن يختار أحدهما، إلا على وجه بعيد، في أن الطفل لو بلغ ونفى النسب أنه ينتفي أخذاً من الإسلام والتبعية فيه.
فإذا جرينا على الصحيح، فالنسب ثابت من أحدهما، وقد اختار، وقال القائف خلاف اختياره، وهذا محتمل جداً، وفي أثر عن عمر ما يرشد إلى مسلك في هذه المسألة؛ فإنه أرى الولدَ القائفَ أولاً، فلم يأت القائف بما يرضيه في قصة مشهورة (1)، فأدب القائفَ، ثم قال للمولود: والِ من شئت، وأراد الانتساب.
فيمكن أن يكون ذلك بعد البلوغ. ويظهر أن يكون في الصغر. فإن ابتداء الدّعوة لو كان بعد البلوغ، فلا قائف، كما مهدته فيما تقدم - والعلم عند الله.
وقد تناهى التنبيه (2)، وإنعام النظر موكول إلى نظر الفقيه.
ثم عقد باباً (3) وذكر فيه استلحاق الكافر والعبد وطرفاً من أحكام إسلام الطفل بالتبعية، أما ما يتعلق بالاستلحاق، فقد ذكرناه، وأما أمر التبعية بالإسلام فقد استقصيناه في كتاب اللقيط.
...
__________
(1) أثر عمر في القيافة رواه الشافعي والبيهقي، قال الحافظ: بسندٍ صحيح إلى عروة، وعروة عن عمر منقطع (ر. السنن الكبرى: 10/ 263، ومعرفة السنن والآثار: ح 6000، والتلخيص: 4/ 287 ح 2695).
(2) ت 5: " الشبه ".
(3) يشير إلى أبواب ومسائل في المختصر، وكأنه ينبه إلى مخالفته الترتيب في إيرادها.

(19/188)


باب متاع البيت، يختلف فيه الزوجان
قال: " وإذا اختلف الزوجان في متاع البيت ... إلى آخره " (1).
12320 - إذا كانا يسكنان بيتاً فيه أمتعة، فاختلفا فيها، فاليد في الأمتعة لهما جميعاً، ولا فرق بين أن يكون ذلك المتاع مما يصلح للرجال كالأسلحة والأقبية (2) وملابس الرجال، أو يصلح للنساء كالحلي والمغازل وأوعيتها، فجملتها تحت اليدين، خلافاً لأبي حنيفة (3).
ولا خلاف أنه إذا تنازع دبّاغ وعطار في جلدٍ وفأرة مسك (4)، فاليد فيهما لهما، ولو تنازع رجلان دابةً: أحدهما ركبها، والآخر متعلق بلجامها، أو تنازعا ثوباً: أحدهما لابسه، والآخر متعلق بذيله، فالمذهب الأصح أن اليد للراكب، واللابس، لاختصاصه التام، وإن كان التعلق باللجام لو انفرد ولا راكب، فالدابة في يد المتعلق باللجام، وقال أبو إسحاق -في الراكب والمتعلق واللابس والمتشبث بالذيل- اليد لهما. وهذا بعيد لا تعويل عليه.
...
__________
(1) ر. المختصر: 5/ 266.
(2) جمع قَباء. نوع من لباس الأعاجم.
(3) ر. مختصر الطحاوي: 228، رؤوس المسائل: 549 مسألة 405، مختصر اختلاف العلماء: 2/ 345 مسألة: 838.
(4) يضربُ اختلاف العطار والدباغ مثلاً يؤكد به اختلاف الزوجين في متاع البيت، فكما أن الجلد من شأن الدباغ، وفأرة المسك من اختصاص العطار، إلا أن هذا لم يمنع أن تكون اليد لهما باتفاق، فكذا اختلاف الزوجين.

(19/189)


باب أخذ الرجل حقه ممن يمنعه
12321 - إذا كان للرجل دين على إنسان وكان من عليه الدين مليئاً وفياً، لم يظهر منه امتناعٌ عن أداء ما عليه، فليس لصاحب الحق أن يأخذ ماله، ولو أخذه، لم يملكه، ولا فرق بين أن يكون من جنس حقه، أو من غير جنس حقه.
وإن كان من عليه الحق مُقراً مليئاً، ولكن كان مماطلاً، فليرفعه إلى القاضي، وليس له مع التمكن من ذلك أن يأخذ مالَه.
وإن امتنع عليه رفْعُه، أو غَيّب عنه وجهَه، وتعذر عليه الوصول إلى حقه، فإذا ظفر، نظر: فإن ظفر بجنس حقه؛ فله أن يأخذه، وإذا قصد أخذه عن حقه ملكه.
فأما إذا ظفر بغير جنس حقه، فهل يأخذه؟ فعلى قولين مشهورين: أحدهما - أنه لا يأخذه، وهو مذهب أبي حنيفة (1). والثاني - أنه يأخذه، واستدل الشافعي عليه بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لهند: " خذي ما يكفيك وولدَك بالمعروف " (2).
ولم يفصل بين أن تظفر بجنس النفقة أو بغير جنسها.
ثم أبو حنيفةَ جوّز أخذ الدراهم عن الدنانير والدنانير عن الدراهم، ونحن نجري القولين في ذلك إذا تحقق اختلاف الجنس.
ولو كان حقه دراهمَ صحيحة، فوجد مكسرة؛ فإن رضي بها أخذها قولاً واحداً.
وإن كان حقه دراهم مكسرة، فوجد دراهم صحيحة، فلا يأخذها بحقه، ولا يتصور اعتياض مع التفاضل (3)، ولا مسلك إلا بيع الدراهم بالدنانير مثلاً، وصرف الدنانير إلى نوع حقه من الدراهم، فإذا كانت صورة المسألة هكذا، فالظافر بالدراهم كالظافر
__________
(1) ر. مختصر الطحاوي: 358.
(2) حديث " خذي ما يكفيك " سبق تخريجه.
(3) لأن الاعتياض مع التفاضل ربا، بل يبيع بالدنانير، ويشتري بها الدراهم المكسرة.

(19/190)


بغير جنس حقه على الأصح؛ فإنه لا يتوصل إلى حقه إلا ببيعتين، فهي أبعد عن ثوب يظفر به. ومن أصحابنا من ألحقه بالظفر بجنس حقه.
وفائدة ذلك القطع بجواز الأخذ، ثم لا طريق إلى التملك، ولا وجه إلا ما ذكرناه.
12322 - وإن ظفر بغير جنس حقه وقلنا: له أخذه، فهل يبيعه بنفسه؟ فعلى وجهين: أظهرهما في النقل - أنه لا يبيعه بنفسه، بل يرفعه إلى القاضي ليبيعه، ثم القاضي لا يبيع مُعوِّلاً على قوله، بل يبني الأمر على علمٍ.
ومن أصحابنا من جوّز للظافر أن يبيع بنفسه، على شرط الاحتياط، وهذا لائق بغرض الباب؛ فإنه ربما يعجز عن تقرير الحال في مجلس القضاء؛ فإنه قد لا يجد بينة في إثبات دَيْنه، وإن وجدها، فقد يعجز عن إثبات كون هذه العين ملكاً لمن عليه الدين، وإنما أُثبت التسلُّطُ لصاحب الحق ليصل إلى حقه المتعذر.
ثم إذا قلنا: للظافر أن يبيعه بنفسه، فقد قال الأئمة: يبيعه بنقد البلد -وإن كان حقه بُرّاً أو شعيراً- ثم يصرف نقدَ البلد إلى حقه، ويجري في ذلك مجرى الوكيل بالبيع المطلق. هكذا ذكره القاضي، وفيه إشكال؛ فإن من عليه الحق، إذا تمكن من بيع ثوبه بالبر، فليس له أن يطوّل ببيعه بالدراهم إذا لم يكن له غرض مالي، وأيضاً فإن وجد الدراهم الصحيحة، وحقه المكسرة، يبيع الدراهم الصحيحة بالدنانير، وإن لم تكن الدنانير غالبة. ويمكن أن يجاب عن هذا بأن الضرورة تدعو إليه.
وقد ذهب طائفة من محققينا إلى أنه لو أراد البيع بجنس حقه، جاز، وهذا متجه حسن.
ثم إذا أخذ ثوباً عن حقه، فليس له أن يستعمله، وإنما له حق البيع فحسب، ولو تلف في يده، تلف من ضمانه. هكذا قال الأصحاب. وليس كما لو دفع من عليه الحق إلى مستحق الحق ثوباً ليبيعه، ويصرف ثمنه إلى نفسه، فلو تلف في يده، لم يضمنه. والفرق أن مالك الثوب ائتمنه في ذلك الثوب، والآخذ الظافر مستقل بنفسه.

(19/191)


12323 - فلو أخذ أكثر من حقه مع إمكان ألا يأخذ لم يجُز. والضمان لا شك فيه.
ولو لم يجد إلا ما يزيد على مقدار حقه، مثل أن يظفر بسيف يسوى (1) مائة، وحقه خمسون، فله أن يأخذه، ولكن هل تدخل الزيادة في ضمانه؟ فعلى وجهين: أحدهما - تدخل كالأصل، والثاني - لا تدخل في ضمانه؛ لأنه لم يأخذه لحق نفسه، وله أخذه.
12324 - ولو كان لا يتوصل إلى حقه إلا بنقب جدار، فقد قال القاضي: له النقب وإخراج ما يأخذ منه حقه من الحرز، ولا يضمن أرش النقض الحاصل بالنقب؛ فإن من جاز له أن يأخذ شيئاً، جاز له التوصل بالطريق الممكن، ومن استحق شيئاً، استحق الوصول إليه.
12325 - ولو أخذ ثوباً قيمتُه عشرة وحقه عشرة، فبقي الثوب في يده، حتى بلغت قيمته عشرين، فتلك الزيادة محسوبة عليه، لا شك فيه، وإن انتقصت قيمة الثوب، نُظر: فإن لم يتوان حتى انتقصت القيمة، لم يُحسب عليه النقصان، وإن توانى في البيع حتى انتقصت القيمة، فالنقصان محسوب عليه. هكذا ذكره القاضي.
ولو غصب عيناً من إنسان، وظفر المغصوب منه بعينٍ للغاصب، والامتناعُ قائم، فله أن يأخذها، فيبيعَها، وينتفعَ بقيمتها، كما لو أبق العبد المغصوب؛ فإن الغاصبَ يغرَم القيمةَ للمغصوب منه، وما ذكرناه مأخوذ من هذا الأصل.
ثم إذا رد الغاصبُ العينَ المغصوبة، فيرد الظافر قيمةَ العين.
فإذاً ظاهر المذهب أن الظافر لا يبيع بنفسه، وبيعُه مخرج عند بعض الأصحاب، قال الصيدلاني: لم يحكه القفال.
12326 - ثم من جوّز للظافر أن يبيع، فلو أراد أن يتملك عين ما ظفر به، فالذي ذكره أئمة المذهب أنه لا يتملك، وأبعد بعض الأصحاب فذكر وجهاً أنه يتملك بقدر
__________
(1) يسوَى: أي يساوي: وهي من سوي يسوى من باب تعب، وهي لغة قليلة (المصباح).

(19/192)


الحق، وهذا بعيد غير معتد به. ولهذا أخّرته عن تفصيل الباب.
ولو أخذ العين وحبسها، وقصّر في بيعها، حتى نقصت القيمة، فقد ذكرنا أن النقصان محسوب عليه، وهذا فيه إذا باع واستوفى، فأما إذا ردّ العين، فحقه بجُمامه؛ إذ الغاصب لا يضمن نقصان القيمة عند رد العين، فما الظن بما نحن فيه؟
12327 - ولو كان لإنسان على إنسان دين، وعليه لذلك الشخص دين، فالقول في ذلك يتعلق بالتقاصّ (1)، وكان شيخي يستقصيه في كتاب الكتابة، ونحن نتيمن بالجريان على ترتيبه إن شاء الله، والقدر الذي يليق بهذا الموضع أن من عليه حقه لو جحده، وقلنا: لا تقاصّ إلا بالرضا، فهل له أن يجحد ما عليه؟ فعلى وجهين: على قولنا لو ظفر بغير جنس حقه، لأخذه، ولعل القياس أن له أن يجحده. والعلم عند الله تعالى.
فصل
وجدنا في مجموع القاضي في الدعوى وأدب القضاء مسائلَ تتعلق بالمراسم، وليست عريةً عن الفقه، فرأيتُ إثباتَها مسائلَ.
مسألة 12328 - إذا دفع رجل إلى آخرَ عشرةَ أمناء فَيْلَج (2) ليطبخه، ويضرِب منها الإبريسم، فإذا طُبخ، رجع إلى خمسة أمناء، والإبريسم منه مَنْ، فجحد المدفوع إليه، ولم يدر المدعي أن الفيلج على الهيئة الأولى باقية، فيدعيها عشرةَ أمناء، أم هي مطبوخة، فيدعيها خمسةَ أمناء، أم حصل الإبريسم مناً، أو تلف في يده، فيغرم القيمة، وسببُ الضمان لم يثبت إلا عند الجحود، والتفريع على أن لا ضمان على الأجير المشترك.
__________
(1) ت 5: " بالنقصان ".
(2) أمناء: جمع (مناً) مثل سبب وأسباب. وهو مكيال يكال به السمن وغيره، وقيل: مكيلته أي ملؤه يزن رطلين، والتثنية منوان. وفي لغة تميم (منّ) بالتشديد، والجمع أمنان، والتثنية منان على لفظه.
أما (الفيلج) وزان زينب، فهو ما يتخذ منه القز، وهو معرّب، والأصل (فيلق)، ومنهم من يورده على أصله " المصباح ".

(19/193)


فإن وصف المدعي الحالَ ونوعّ الدعوى، فقال: عليك عشرة من كذا، أو خمسةٌ من كذا، أو منٌّ مِنْ كذا، أو القيمةُ إن أتلفت، فهل تقبل الدعوة مميّلة (1) على هذه الصيغة؟ اختلف أصحابنا في المسألة، فمنهم من قبلها، وحلّف المدعى عليه على جميعها، قال القاضي: اصطلح القضاة على سماع هذه الدعوى. فمن أصحابنا من قال: لا تسمع الدعوى متميلة، ولكن ينبغي أن تفرد (2) هذه الدعاوي ويحلَّف المدعى عليه على آحادها. وهذا جارٍ على القياس، ولكن فيه إشكال، وهو أن المدعى عليه لو نَكل عن اليمين، فلا يتأتى للمدعي الإقدامُ على يمين الرد؛ لأنه إذا ادعى عشرة أمناء فَيْلَج، فكيف يحلف؟ وربما طبخه، أو ضربه إبريسم، والذي يدل عليه كلام القاضي أن للمدعي أن يعتمد نكولَه، فيحلف ويستند إلى نكوله، وهذا حسن. وهو كما لو ادعى المودَع تلفَ الوديعة، وحلَّفناه، فنكل، فللمودِع أن يحلف تعويلاً على نكول المودَع. وهذا أصل ضابط.
فنقول: إن كان المردود عليه عالماً بما يحلف عليه، مثل أن ينكُل المودَع عن اليمين على الرد (3)، وعلم المودِع أنه لم يرد، فيحلف يمين الرد (4)، وإن ادعى التلف ولم يقطع المودع بالتلف، فهل له أن يعتمد نكولَه ويحلف، كما يعتمد الوارث خطَّ أبيه المعتمد في الروزنامج، ويحلف؟ فعلى وجهين - وهذه المسألة خارجة على ذلك. وقد مضى لهذا نظير في دعوى العين على الضامن أو القيمة.
ويلتحق بهذا أنه إذا دفع ثوباً إلى دلال ليبيع الثوبَ بعشرة دراهم؛ وجحد الدلال الثوبَ، فصاحب الثوب يدعي الثوب، أو الثمن، أو القيمة؟ فهو على ما ذكرناه.
مسألة 12329 - إذا ادعى عشرة دنانير على إنسان، فقال المدعى عليه: لا تلزمني العشرة، قال (5)؛ ليس للقاضي أن يقول: لا تلزمك العشرة، ولا شيء منها. ولو
__________
(1) ت 5: "متميلة".
(2) ت 5: " تقرر ".
(3) على الردّ: أي على ردّه الوديعة.
(4) يمين الردّ: أي اليمين المردودة من المدعي.
(5) القائل هو القاضي الحسين، فعن مجموعه ينقل هذه المسائل.

(19/194)


قال ذلك، كان فضولاً؛ فإن إنكاره انطبق على مضادة الدعوى، فإن المدعي أثبت في دعواه عشرة، والمدعى عليه أنكر العشرة، ثم قال القاضي: إذا آل الأمر إلى تحليفه، حلّفه لا تلزمه العشرة ولا شيء منها.
وهذا الذي ذكره في التحليف مستقيم، والذي ذكره أولاً من الاكتفاء بإنكاره عشرة [وهمٌ] (1) عظيم، وما بناه عليه من انطباق الجحود على مضادة الدعوة فزللٌ بيّن؛ فإن (2) من ادعى عشرة، فقد ادعى استحقاق أجزاء العشرة ذرة ذرة، وإذا قال المدعى عليه: لا تلزمني العشرة، فمن الممكن أن العشرة لا تلزمه، وتلزمه العشرة إلا حبة، فنَفْي العدد ليس نفيا لآحادها، وليس ما ذكرناه تأويلاً، بل القول متردد فيما دون العشرة، وليس فيما دون العشرة ذكر في إنكاره، وهي مثبتة في الدعوى، فالإنكار ليس بتامٍّ، فكأنه لم ينكر إلا أقل جزء من العشرة، فإذا لم يتم الإنكار، فلا نأخذ في التحليف؛ فإن امتنع عن المزيد على هذا القدر، فهو في حكم الساكت عما دونه، وقد مضى تفصيلُ السكوت وتقديرُه إنكاراً ثم نكولاً، هذا هو الذي لا يجوز غيره.
والظن بالقاضي أنه لا يخالف فيما ذكرناه. وإنما صوّبى المسألة في اقتصاره على نفي العشرة، وامتناعه عن ذكر ما دونها، فإن حلّفناه لا تلزمه العشرة، ولا شيء منها، فإن نكل، رددنا اليمين على المدعي، فيحلف ويستحق، وإن حلف المدعى عليه، انتهت الخصومة في هذا الفن.
فإن حلف لا تلزمه عشرة، وامتنع عن الحلف على نفي ما دون العشرة، فيحلف المدعي على ما يقل عن العشرة بأقل القليل؛ فإنه نكل عما دون العشرة، والعشرة إلا حبة دون العشرة، وهذا في نهاية اللطف.
فإن قال قائل: من يلزمه دينار، فقوله: لا تلزمني العشرة سديد، ومن تلزمه تسعة، فقوله لا تلزمني العشرة سديد، فلم جعلتموه ناكلاً عن عشرة إلا أقلَّ القليل؟
__________
(1) في الأصل: " دراهم " مكان لفظ " وهم " وهو تصحيف طريف، والتصويب من (ت 5).
(2) ت 5: " فأما ".

(19/195)


قلنا: لأنه امتنع عن الحلف عن كل (1) ما دون العشرة.
مسألة 12330 - إذا ادعى داراً في يد رجل، وقال: إنها ملكي وأنت مبطل في استيلائك، وعليك ردُّها على، فقال المدعَى عليه: لا يلزمني تسليم هذه الدار إليك، فأقام المدعي بيّنة أن الدار ملكُه، ولم تتعرض البينة لأكثر من إثبات الملك للمدعي.
قال القاضي: يثبت الملك ويكفي ثبوته. ويقال للمدعى عليه: إن أثبتّ استحقاقاً من إيجار، أو ارتهان، فادّع، وأثبت. وإلا فحكم الملك استبداد المالك باسترداد الملك من يدك.
وهذا فيه للنظر مجال؛ فإن البينة لم تشهد إلا على الملك، والملك لا ينافي استحقاقَ يد المدعى عليه، فلم تقم البينة على وجه يوجب إزالةَ يده.
وهذا عندي يقرب مأخذه من أن المالك وصاحب اليد إذا تنازعا في الإعارة والإجارة، فالقول قول منْ؟ وهذا قدمته في موضعه مفصلاً، فإن جعلنا القول قولَ المالك، فيكفي ثبوت الملك هاهنا، ثم باب الدعوى مفتوح لصاحب اليد، والقول قول المالك، وإن جعلنا القول قولَ صاحب اليد، فلا تُزال يده ما لم تتعرض البينة لكون صاحب اليد مبطلاً.
مسألة 12331 - أجرى القاضي في أثناء الكلام شيئاً مستفاداً، قد يتوقف الناظر في ابتدائه، ولا تعلق له بالدعاوي والأقضية، قال: إذا غصب رجل أُمَّ ولدٍ، فهي مضمونة باليد عندنا، وهذا سديد، لا إشكالَ فيه على المذهب، فلو أَبِقت من يد الغاصب؛ غَرِم الغاصب القيمةَ.
فإذا غرمها، ثم مات السيد المغصوب منه، عَتَقَت المستولدة، ووجب ردُّ قيمتها من تركة المولى؛ لأن الرق صار مستهلكاً بحكم الموت عليه.
وكذلك إذا غصب عبداً فأبق، وغرم القيمةَ، ثم إن المغصوب منه أعتق العبد في
__________
(1) ت 5: " وعن كل ما دون العشرة ".

(19/196)


[إباقه] (1)، فيلزمه ردُّ القيمة، لأنه بإعتاقه إياه، صار في حكم المسترِدّ له.
وإن قطع جانٍ يدَ أمِّ الولد، وغرم الأرش، ثم مات السيد، وعَتَقَت المستولدة، فلا يُرد الأرش على الجاني، لأنه بدل الطرف الفائت. والعتق لا ينعكس عليه.
مسألة: 12332 - إذا ادعت امرأة على رجل، وقالت: تزوجتني بخمسين ديناراً، فاعترف الزوج بالنكاح، ولكنه قال: ما قبلتُ نكاحَك بخمسين، فإنكاره منطبق على مضادة دعواها.
والوجه أن نذكر غائلة المسألة وإشكالَها، ثم نخوض في الجواب عنها. فنقول: إذا أنكر الزوج، وحلف، فكأنه شبَّبَ بأن المهر أقلُّ من الخمسين، ولكنه لم يذكر المقدار، والمرأة إذا اعتقدت أن الزوج قبل الخمسين لو نزلت عن ذلك، كانت كاذبة، فأين الوقوف، وكيف السبيل، وليس للمهر أقل حتى ننتهي إليه ونثبته على قطع، ونرد الخصام إلى الزائد؟
وليس هذا كما لو ادعى رجل على رجل عشرة، ولم يذكر أنها ثمن عبد، فإذا حلف المدعى عليه على نفي العشرة، ولم ينف ما دونها، فالمدعي يمكنه أن يحلف على ما دونها؛ فإن الدعوى المرسلة تقبل التبعيض، والمرأة في مسألتنا ادعت قبولاً في الخمسين، فلو ذكرت ما دون الخمسين، فيكون هذا منها دعوى عقد آخر، فإن تفطّنت لهذا، وادعت خمسين ديناراً من غير أن تنسبها إلى قبولٍ في عقد، فهذا هو الذي قدمناه في ادعاء العشرة وإنكارها.
وإن ربطت دعواها بالقبول كما ذكرنا، فقد قال القاضي: الوجه أن يفرض القاضي لها مهرَ مثلها، ويقدّر كأنها مفوِّضةٌ؛ فإن الزوج إذا امتنع عن ذكر مسمى، فليس بين النكاح المشتمل على المسمى، وبين التفويض رتبة، ولا يمكننا أن نُلزم الزوجَ ذكرَ مسمّى من غير طلب من المرأة، وتعريةُ النكاح عن المهر لا سبيل إليه، ولا وجه لإثبات الأقل؛ فإنه لا ضبط له، فيفرض القاضي لها مهرَ مثلها، وهذا إذا كان مهرُ مثلها خمسين أو أقلَّ منه، فإن كان كثر، فليس لها إلا الخمسون.
__________
(1) في الأصل: " إيابه ".

(19/197)


وهذا لا يليق مثله بقياس مذهب الشافعي رضي الله عنه، فإنه لا يركب إلا متن جادّة الشريعة ولا يميل مثل هذا الميل.
فإن قيل: ما الوجه؟ قلنا: أولاً، ليس يعظم تعطل حق إذا لم تقم عليه حجة، ومعظم الحقوق المجحودة بهذه المثابة، فطريقها أن تدعي خمسين ديناراً من جهة المهر، إن أرادت أن تذكر الجهةَ من غير أن تضيف الخمسين إلى القبول، ومن غير أن تذكر أنها كلُّ المسمى. فإن حلف الزوج: لا يلزمه الخمسون، ونكل عن الحلف على نفي ما دون الخمسين، حلفت المرأة واستحقت الخمسين إلا أقلَّ القليل.
والمشكل في المسألة أن الزوج لو أراد أن يحلف على نفي الخمسين وكل جزء منه (1)، فلا يتصور هذا إلا بتقدير البراءة أو الأداء، فلا يقبل قوله حينئذٍ، وليس كما لو ادعى رجل ديناً مطلقاً، فقال المدعى عليه: لا يلزمني، فإن هذا كما يحتمل البراءة يحتمل نفي أصل الدين، ونفيُ أصل الدين ممكن، ونفي أصل المهر لا يمكن، إلا على مذهب التفويض. فإذا حلف على نفي المهر، تعيّن التفويض، فيفرض القاضي لها مهر المثل -لا وجه غيره- فيحصل به إثبات المهر، والجريان على موجب يمين الزوج.
هذا منتهى القول. وهو الذي عناه القاضي، ولكن لا بد من إجراء المسألة إلى هذا الحد، ولا يجوز ابتدار الفرض بقوله: ما قبلت بخمسين، ويجوز أن يقال: القول قول الزوج في أن لا مسمى؛ فإن الأصلَ عدمُ التسمية، ثم الشرع يحكم بما يرى في النكاح الخالي عن المهر ذكراً.
مسألة: 12333 - إذا صححنا كفالة البدن، فطلب المدعي من المدعى عليه كفيلاً قبل أن يقيم البينة، وذكر أني أبغي كفيلاً إلى أن أشمِّر لإقامة البينة، وأجمع الشهودَ، فقد جرى رسم القضاة بحمل المدعى عليه على إعطاء الكفيل، وهذا غير واجب باتفاق الأصحاب؛ فإنه لم يَثْبت للمدعي بعدُ حقٌ.
وإن أقام بينة على دين في ذمة المدعى عليه، ولم يُعدَّل شهودُه، فقد قال
__________
(1) منه: على معنى العدد، أو المبلغ.

(19/198)


القاضي: له طلب الكفيل هاهنا؛ فإن حبسه قبل التعديل لأداء الدين محال؛ فإن الحبس عذاب، وتخليته -وقد يغيّب وجهه- لا وجه له، فتكليفه بذلُ كفيلٍ يضاهي إخراجنا العين المدعاة من يده إن كانت الدعوى في عين (1)، فإن أعطى الكفيل، فذاك، وإلا حبسناه لمنع الكفيل، لا لمنع الدين.
فإن قيل: البينة قبل التعديل كما لا توجب الدين، يجب أن لا توجب الكفيل.
قلنا: البينة لا توجب الكفيل، ولكن الحالة توجب الكفيل.
مسألة: 12334 - إذا ادعى قصاصاً على عبد، استحضره، وادعى عليه، ولا تعلق للدعوى بالمولى.
وإن ادعى أرش جناية، قال القاضي: يستحضر المولى؛ فإن الخصومة مالية؛ وحق المال في العبد للمولى.
ولو أراد استحضار (2) العبد على قولنا: له ذمة في الجناية، فله ذلك.
ولو قُبِل الدعوى (3)، تعلّق بالعبد - إن قلنا للعبد في الجناية ذمة.
ثم إن جعلنا يمين الرد إقراراً (4)، لم يتعلق برقبته شيء لو نكل عن اليمين، وحلف المدعي، وإن جعلنا يمين الرد بمثابة البينة، فيثبت الأرش في ذمته، ولا يتعلق
__________
(1) ت 5: " إن كانت الدعوى عين ".
(2) استحضار العبد: أي طلب إحضاره وتوجيه الدعوى إليه، لا إلى السيد، وهذا طبعاً لا يكون إلا على القول بأن العبد له ذمة تتعلق بها الحقوق، كما وضح من عبارة المؤلف.
(3) أي لو قبلت الدعوى على العبد، تعلّق المدعي به، وطلب القاضي الإجابة من العبد، وهي إما إنكار، أو سكوت، أو إقرار، كما هو ترتيب الدعاوى.
(4) فيما إذا أنكر العبد، وطلب القاضي منه اليمين، فنكل عنها العبد، فردّ القاضي اليمين إلى المدعي، فحلف المدعي يمين الردّ، تتردّد منزلتها بين الإقرار من المدعى عليه، وبين البينة يقيمها المدعي، فإن جعلناها إقراراً، لا يتعلق برقبة العبد شيء، لأن العبد ليس من أهل الإقرار، والرقبة حق السيد. وإن جعلنا اليمين المردودة بمنزلة البينة، فيتعلق الأرش بذمة العبد، فإن المسألة كلَّها مفروضة على قولنا. إن للعبد ذمة، ولا ثقبل الدعوى عليه إلا على هذا التقدير.
ثم هو إثبات للأرش في ذمة العبد يُتبع به إذا عَتَق، فليس شيئاً حالاً ناجزاً.

(19/199)


برقبته، على ظاهر المذهب، وفيه الوجه البعيد أنه يتعلق برقبته، وإن [اقتضى] (1) ذلك حكماً على ثالث (2)، فهذا احتمالٌ على بُعْد، ولا تعويلَ عليه؛ فإن توجيه الدعوى على السيد ممكن، وذلك الوجه البعيد إنما يجري إذا عسُر توجيه الدعوى على الثالث (3).
مسألة: 12335 - ذكر في أثناء الكلام أن من أخذ فأساً مسبَّلاً على المسلمين، فتلف في يده من غير تقصير، فلا ضمان عليه، فإنه بمثابة الموصى له بالمنفعة، إذا تلفت العين في يده.
وكذلك لو وضع دِنّاً على باب داره، وسبّل، ورتب كيزاناً، وسبّلها، فتلف كوزٌ في يد شارب من غير تقصير، فالأمر على ما رسمناه في نفي الضمان.
...
__________
(1) في الأصل: " اقتصر "، والمثبت من (ت 5).
(2) صورة الحكم على ثالث: هي أن الدعوى على العبد، فإذا أنكر، ونكل عن اليمين، وردت اليمين على المدعي، فحلف، وجعلناها بمنزلة البينة، فيثبت الأرسْ على العبد متعلقاً بذمته، كما سبق.
وفي وجهٍ بعيد، يتعلّق برقبته، وهنا يكون الحكم على ثالث غيرِ المدعي والمدعى عليه، ونعني به السيد؛ لأن رقبة العبد ملكُ السيد، فإذا علقنا الأرش بها، فقد علقناه بمال السيد، ونكون بهذا قد حكمنا على ثالث (السيد).
(3) راجع هذه المسألة -إن شئت- في الشرح الكبير: 13/ 187، 188، وفي الروضة: 12/ 30، 31.

(19/200)


[كتاب العتق] (1)
باب عتق الشريك في الصحة والمرض والوصايا
قال الشافعي رضي الله عنه: " من أعتق شركاً له في عبد، وكان له مال ... إلى آخره" (2).
12336 - العتق نافذ، وأصول الشرع: الكتابُ، والسنةُ، والإجماعُ شاهدةٌ عليه.
والقول فيه ينقسم إلى ما يتعلق بالتصرف في صيغ الألفاظ، ومسائل العتق في هذا كمسائل الطلاق، وإلى ما يختص العتق به كالسراية إلى ملك الغير، وجريان القرعة فيه وانحصاره في الثلث من المريض (3)، وتعلق أحكام التركة به.
(وكتابُ العتق) (4) معقود لذكر خصائصه، ولما رأى الشافعي سريانه إلى ملك الغير من أظهر خصائصه، صدر الكتاب به.
12337 - فنقول: العتق ينقسم إلى ما يوجه على شَخْصٍ، وإلى ما يوجه على شِقْص، فمن أعتق شَخْصاً، فإن كان مملوكاً له، لا حقّ لأحد فيه، وكان هو
__________
(1) العنوان من وضع المحقق جرياً على ترتيب كتب المذهب التي بُنيت على (نهاية المطلب) مثل بسيط الغزالي ووسيطه ووجيزه، والأكثر من ذلك أن الإمام وضع باقي قضايا العتق تحت عنوان كُتب، فسيأتي (كتاب التدبير) و (كتاب المكاتب) و (كتاب عتق أمهات الأولاد) أولى من كل ذلك أن الإمامَ بعد أسطرٍ سماه (كتاب العتق).
(2) ر. المختصر: 5/ 267.
(3) ت 5: " من المديون ".
(4) تأمَّل! سماه (كتاب العتق).

(19/201)


مطلقاً (1)، نفذ عتقُه، وإن لم يكن مملوكاً له، فلا شك أنه لا يعتِق، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا عتق فيما لا يملكه ابن آدم " (2).
ونقل النقلة عن ابن أبي ليلى أن من أعتق عبد غيره وكان موسراً، نفذ عتقه، وغرم قيمة العبد لمالكه، قياساً على نفوذ العتق في الشقص المملوك للشريك.
ولو قال لعبد الغير: أنت حر، فهذا القول مردود في الحال، ولكن لو ملكه يوماً من الدهر، حُكِم بعتقه، وحُمل قوله السابق " أنت حرٌّ " على الإقرار بحرّيته، ومن أقر بحرّية عبد ثم ملكه، كان مؤاخذاً بموجب إقراره.
وفي هذا لطيفة، وهي أن المالك إذا قال لعبده: أنت حر، فهذا إنشاء عتق منه، وإن كان اللفظ على صيغة الإقرار، وهو كقول الزوج لزوجته: أنت طالق.
فكان قول المالك: " أنت حرٌّ " متضمناً إنشاء تحرير، وهذا مما اعتضد اللفظ فيه بغلبة الاستعمال، وانضم إليه أنه لو كان مقراً، لكان مؤاخذاً بإقراره، فجعل هذا إنشاءً.
فإذا قال لعبد الغير: " أنت حرٌّ "، فلا مساغ لإنشاء التحرير، فنفذ اللفظ إقراراً، وكذلك لو قال لعبد الغير: " قد أعتقتك ". قال القاضي: قد يؤكد معنى المضي إذا انضم إلى الصيغة التي تسمى الفعل الماضي، فكان ذلك إقراراً بالحرية، كما لو قال: أنت حر.
وفحوى كلامه دالة على أنه لو قال: " أعتقتك "، لم يكن ذلك إقراراً، وإن كانت الصيغة في أصل الوضع للإخبار عما مضى، ولا فصل عندي بين قوله: " أعتقتك " وبين قوله: " قد أعتقتك "، فإنه إن ترجح أحدهما على الثاني في تأكيد، لم ينته ذاك
__________
(1) مطلقاً: أي غيرَ محجور.
(2) حديث " لا عتق فيما لا يملكه ابن آدم " رواه أبو داود، والترمذي، وأحمد، والبيهقي من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. قال الترمذي: " حديث حسن صحيح، وهو أحسن شيء روي في هذا الباب ".
وقال الشيخ شاكر: إسناده صحيح. (ر. أبو داود: الطلاق، باب في الطلاق قبل النكاح، ح 2190، الترمذي: الطلاق، باب ما جاء لا طلاق قبل النكاح، ح 1181، المسند: 11/ 48 ح 6780 (طبعة شاكر) البيهقي: 7/ 318، نصب الراية: 3/ 278).

(19/202)


إلى إلحاق أحدهما بالصريح الذي لا يقبل فيه تفسير القائل، فالوجه أن يراجَع، ويقال: ماذا أردتََ؟ أهزلاً قصدتَ في إنشاء العتق، أم أقررت؟ ثم نحكم على موجب قوله، وإن لم يفسر، تركناه، فلا طلبة عليه.
فأما إذا قال: " أنت حر "، فالظاهر حمل هذا على الإقرار؛ فإنه صفة، ولولا قرينة الاستعمال على الشيوع حيث يمكن الإنشاء، لحملناه على الإقرار.
ولو ملك جارية وكانت حاملاً بولد مملوكٍ لغيره، فإذا أعتق الجاريةَ مالكُها، لم يَسْرِ عتقُها إلى الجنين سراية عتق من شقص إلى شقص، فكذلك إذا أعتق مالك الجنين الولدَ نفذ العتق، ووقف عليه.
وقال أبو حنيفة (1): إعتاق الأم يسري إلى الجنين هذا في توجيه العتق على شخص.
12338 - فأما إن أعتق شقصاً، فلا يخلو إما أن يعتق شقصاً من عبده الخالص، أو يعتق شقصاً من عبد مشترك بينه وبين غيره، فإن أعتق شقصاً من عبده الخالص، عَتَق كلُّه، سواء كان له مال غيره، أو لم يكن، وفي كيفية وقوع العتق وجهان: أحدهما - أن العتق يرد على الجزء الذي سماه، ثم يسري إلى الباقي، فيحصل العتق مترتباً، ولا يتخللهما زمان يفرض فيه نقل الملك؛ فإن الملك كائن. والوجه الثاني - يقع العتق دفعةً واحدة، وقوله أعتقت نصفك عبارة عن عتق الكل، فكأنه قال: "أعتقتك".
هذا إذا وجّه العتق على جزء شائع.
فأما إذا وجّهه على جزء معين، فالعتق يحصل في الجميع عند الشافعي؛ وترتيب المذهب في الأجزاء إذا أضيف العتق إليها كترتيب المذهب في إضافة الطلاق.
ثم إذا حكمنا بعتق العبد -وقد وجه المولى العتقَ على جزء معين منه، ففي كيفية نفوذ العتق وجهان مرتّبان على الوجهين في إضافة العتق إلى الجزء الشائع، والصورة الأخيرة أولى بأن يقال فيها: يقع العتق دفعة واحدة، غيرَ نازل على الجزء المعين، مع
__________
(1) ر. الاختيار: 4/ 22.

(19/203)


تقدير السراية منه. والفرق أن الجزء المعين لا يتصور انفراده بالحرية، بخلاف الجزء الشائع. والطلاق إذا أضيف إلى الجزء الشائع- فهو في ترتيب المذهب كالعتق، يضاف إلى الجزء المعين، فإنه كما لا يقف العتق على الجزء المعين لا يقف الطلاق على الجزء الشائع.
12339 - التفريع على الوجهين في الجزء المعين. إذا قال لعبده: إن دخلتَ الدار، فخنصرك حر، فقطعت خنصره، ثم دخل. إن قلنا: ينزل العتق على الجزء، ثم يسري منه، لم يحصل العتق بدخول الدار؛ لفقد المحل الذي يضيف العتق إليه.
وإن قلنا: هو عبارة عن إعتاق الجميع، فلا أثر لانعدام الخنصر، وكأنه قال له: إن دخلت الدار، فأنت حر.
ولو قال لعبده: " يدك حر " -ولا يد له- فقد اختلف أصحابنا على طريقين:
فمنهم من قال: في نفوذ العتق وجهان مبنيان على ما ذكرناه من حلول العتق وسريانه، أو توجهه على الجميع، فإن سلكنا مسلك السريان بعد الحلول على الجزء المسمى، فلا يحصل العتق، وإن حكمنا بأن سبيل ذلك سبيل توجيه العتق على الجميع، حصل العتق، وكأنه قال له: أنت حر.
ومن أصحابنا من قطع بأن العتق لا ينفذ في هذه الصورة؛ فإن العَتاق من طريق اللفظ لم يصادف محلاً نطقاً وذكراً، حتى يقال: إنه عبارة عن الجميع، وهذه الطريقة أَفْقه.
وكل ما ذكرناه في العَتاق فلا شك في جريانه في الطلاق، ولولا إقامة الرسم في تصدير الكتاب بالتقاسيم وترتيبها بذكر [تراجم] (1) الأحكام، لاقتصرنا على الإحالة على مسائل الطلاق في ذلك؛ فإنا استقصينا هذه المسائل.
ثم هذا كله إذا كان العبد خالصاً، فأضيف العتق إلى بعضه.
12340 - فأما إذا كان العبد مشتركاً، فأضاف أحدُ الشريكين العتقَ إلى جزئه، نُظر: فإن سمى نصيب شريكٍ، ووجه العتقَ عليه، لغا لفظه، ولم ينفذ العتق
__________
(1) في الأصل: " تزاحُم " بهذا الضبط والنقط، والمثبت من (ت 5).

(19/204)


[وذلك] (1) إذا قال لشريكه: نصيبك في هذا العبد حر، أو أعتقتُ نصيبك، وليتحفظ الإنسان حتى لا يقع في الإقرار بعتق نصيب صاحبه، وليختر لفظة في الإنشاء لا يُتمارى فيها.
فأما إذا قال: أعتقت نصيبي منك، فيعتِق نصيبُه، وسنذكر حكمَ السراية.
وإن قال لعبده، وهو يملك نصفه: " أعتقت نصفك "، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أن العتق ينصرف إلى نصفه المملوك؛ فإن الإنسان لا يُعتق إلا ملكَ نفسه، فيحمل مطلقُ لفظه على ذلك.
والوجه الثاني - أنه ينصرف إلى نصف العبد شائعاً؛ فإنه لم يخصصه بملك نفسه، فعلى هذا يَعْتِق نصفُ نصيب المعتِق، وهو ربع العبد، ثم يسري لا محالة إلى ما بقي من نصيبه، سواء كان موسراً أو معسراً، وإلى نصيب صاحبه إن كان موسراً.
ولا يكاد يظهر لهذا فائدة، إلا أن يفرض تعليق عَتاقٍ أو طلاق في ذلك، بأن يقول: إن أعتقت نصفي من هذا العبد فامرأته طالق، فماذا قال: نصفك حر، وصرفنا ذلك إلى نصفه المملوك، فيقع الطلاق المعلق بإعتاقه ما يملكه من هذا العبد، وعلى الوجه الثاني لا يقع؛ فإنه لم يعتق منه ما يملكه، بل أعتق بعضه، وسرى العتق إلى باقيه، وهذه التقريرات تهذب مأخذ الفقه، وإن كانت قليلةَ الجدوى في النفي والإثبات.
وإذا باع نصف العبد المشترك، نُظر إلى لفظه، فإن قال: بعت نصفي من هذا العبد، [أو نصيبي] (2)، وكانا عالمين بمقداره، نزل (3) على ما يملكه.
وإن قال: بعت النصف من هذا العبد، ولم يضفه إلى ملكه، جرى الوجهان: أحدهما - أن البيع ينصرف إلى نصفه المملوك، وهو كما لو قال: بعت نصفي من هذا العبد، والثاني - ينصرف إلى نصف العبد شائعاً، فعلى هذا لم يصح البيع في نصف ذلك النصف، لمصادفة ملك الشريك، ويجري في نصف النصف قولا تفريق الصفقة.
__________
(1) في الأصل: " في ذلك "، والمثبت من (ت 5).
(2) في النسختين: " ونصيبي " والمثبت تصرف من المحقق.
(3) في الأصل: " فنزل ". والمثبت من (ت 5).

(19/205)


ولو أقر أحد الشريكين بنصف العبد المشترك لإنسان، قال الأصحاب: يخرج في الإقرار الوجهان المذكوران في البيع، فإن حصرنا لفظه على ملكه؛ فقد أقر بما كنا نعرفه (1) له، وإن [أشعنا] (2) اللفظ، فقد أقر بنصف نصيبه، ونصف نصيب صاحبه.
وقال أبو حنيفة (3): النصف المطلق في البيع مختص بملك البائع، حملاً على أن الإنسان لا يبيع إلا ما يملك، فأما الإقرار، فمحمول على الإشاعة؛ فإن الإقرار إخبار، ولا يمتنع أن يخبر الإنسان بما يتعلق بملك غيره.
ولا بأس بهذا الفرق، ولو استعملناه، فرتبنا الإقرار على البيع، لم يضر.
12341 - فإذا تمهد ما ذكرناه، عُدنا إلى ترتيب العتق. فإذا أعتق الرجل نصيبه من العبد المشترك، نفذ عتقه فيه، ثم ننظر: فإن كان معسراً وقف العتقُ على نصيبه، ولم يقوّم عليه نصيب شريكه، وإن كان موسراً، سرى العتقُ إلى نصيب شريكه.
وفي وقت السراية ثلاثةُ أقوال: أحدها - أنه يسري عاجلاً متصلاً باللفظ. والثاني - أنه لا يسري إلا عند أداء القيمة إلى الشريك، والثالث - أن الأمر موقوف، فإن أدّى القيمة، تبينّا سريان العتق متصلاً باللفظ، وإن لم يؤدِّ، فظاهر الرق في نصيب الشريك مستدام.
توجيه الأقوال: من عجّل السراية، قال: الإعتاق مع ما يترتب عليه من السراية في حكم الإتلاف، والقيمة تجب بسبب التلف، فماذا ألزمنا الشريك المعتِق قيمةَ نصيب صاحبه، أشعر ذلك بتنفيذنا العتق.
ومن قال بأن العتق لا يحصل إلا عند أداء القيمة، احتج بأن قال: لا يعتق نصيب شريكه عليه إلا بتقدير نقل الملك إليه، فهذا إذاً تملُّكٌ قهري على الغير بعوض، فينبغي أن يتوقف على سَوْق العوض كالتملك بالشفعة.
ومن قال بالوقف، نَظَر إلى العتق واستحالةِ استئخار نفوذه إذا كان ينفذ، وإلى حق
__________
(1) ت 5: "نملكه".
(2) في النسختين: " أشبعنا ".
(3) لم نقف على قول أبي حنيفة في هذه المسألة.

(19/206)


الشريك، وامتناع إحباطه نقداً وإحالته على الذمة، فرأى الوقفَ وسطاً بين هذين.
12342 - ثم مذهبنا أن عتق المعسر لا ينفذ في نصيب صاحبه، وإنما يسري عتق المتمكن من أداء قيمة نصيب الشريك.
وليس يمتنع في العبد المشترك عتقُ البعض وبقاءُ الرق في البعض، وإنما يبعد ذلك على اختلافٍ في ضرب الرق ابتداءً على البعض مع بقاء الحرية الأصلية في البعض، ونحن نذكر في ذلك صوراً: منها - أنه إذا كان بين المسلم والذمي عبد مشترك، فأعتقاه، والعبد كافر، فنقض المعتَق (1) العهد، والتحق بدار الحرب، فَسُبي، فلا يُسترق نصيبُ المسلم، وفي استرقاق نصيب الذمي وجهان؛ لأن معتِقَه لا يزيد عليه، ولو التحق هو بدار الحرب، لاسترققناه إذا رأينا ذلك؛ فإذاً هذا الخلاف ليس من أثر التبعيض، بل هو في تردد الأصحاب في أن معتَق الذمي هل يسترق؟
والإمام إذا أسر جماعة من الرجال فأراد أن يَرِقَّ بعضَ واحد منهم، ويترك بعضه على الحرية -إن لم يكن فيه مصلحة- لم يجز، ولو فعل على خلاف المصلحة، فقال: أرققتُ نصفك، فأمره محمول على المصلحة على الظاهر، ولكنا نجري ما نجريه في حقه، وإذا لم نصحح إرقاق البعض، فقد أشار الأصحاب إلى وجهين: فقال بعضهم: إرقاقُ البعض منهم إرقاقٌ للكل، والمسألة مفروضة فيه إذا كان في إرقاق جميعه مصلحة. ومن أصحابنا من قال: يلغو لفظُه، ولا يَرِق منه شيء.
وإن رأى الإمام في إرقاقِ بعضه وجهاً من المصلحة. حتى يجدّ في الاكتساب لنصفه الحر، فهل يجوز له أن يُرق (2) بعضَه؟ فعلى وجهين: أحدهما - يجوز ذلك، كما يتبعض الرق والحرية في العبد المشترك إذا كان المعتق معسراً، فإذا جاز ورود الحرية على بعض الرقيق، جاز ورود الرق على بعض الحرية. والوجه الثاني - لا يجوز؛ فإن أحكام الحرية والرق متناقضة، فينبغي ألا يختار التبعيضَ فيها، وعِتقُ المعسر لا سبيل إلى رده، ولا سبيل إلى تنفيذه في نصيب شريكه، فأما ضرب ابتداء
__________
(1) سقطت من (ت 5).
(2) رَقّ: من باب ضرب، يتعدى بنفسه، وبالهمزة.

(19/207)


الرق على الاختيار، فمن باب اختيار تصرفٍ يجر عُسراً، وهذا يقرب من الاختلاف الذي يأتي مفصلاً في مكاتبة بعض العبد إن شاء الله تعالى.
12343 - ومن صور التبعيض أن الجارية المشتركة بين الشريكين، إذا أولدها الشريك المعسر، فالاستيلاد يقف على نصيبه وقوفَ العتق، أما الولد، ففيه اختلاف قولٍ. أحد القولين - أنه حر كلُّه؛ حتى لا تتبعض الحرية والرق في الابتداء. والثاني - أن النصف منه حر، والنصف رقيق، وهذا الوجه أوجه في هذه الصورة؛ فإن هذا أمر قهري، لا تعلق له بالاختيار، وقد اشتمل ما ذكرناه على ذكر الفرق بين المعسر والموسر في العتق.
12344 - ثم نذكر في اليسار أمرين: أحدهما - أن الاعتبار في يسار المعتق، بكلّ ما يجب إخراجه إلى دَيْن الآدمي، ولا يعتبر في هذا يسارُ الكفارة المترتِّبة، حتى لو كان للمعتِق عبدٌ مستغرَقٌ بخدمته، فهو موسر به في تسرية عتقه، وإن لم نعتبره في اليسار المرعي في الكفارة المترتّبة. هذا أحد ما أردناه.
والثاني - أن الاعتبار بحالة الإعتاق؛ فإن كان المعتق موسراً إذ ذاك، ثبت العتق أو استحقاقه، وإن لم يكن حالةَ الإعتاق موسراً، واستفاد بعد ذلك يساراً، فلا حكم له، وقد استقر تبعُّض الرق والحرية.
ولو ظن ظان أنا إذا فرعنا على تأخير السراية، وحكمنا بأن العتق يحصل مع الأداء، فلو استفاد مالاً وأدّى، عتق نصيب صاحبه، قيل له: لا سبيل إلى ذلك؛ فإنا على هذا القول وإن أخرنا السراية، أثبتنا استحقاقها، كما سيأتي إيضاح ذلك. فإذا لم يثبت الاستحقاق عند الإعتاق، لم يطرأ من بعدُ بطريان اليسار، وإن كنا في قولٍ نعتبر في الكفارة المرتبة حالةَ الأداء، ولكن ذاك تردّدٌ في كيفية ما سبق وجوبه.
12345 - ومما نذكره متصلاً بهذا أن الشريك إذا أعتق نصيبه، وكان يملك ما يفي بقيمة نصيب صاحبه، غيرَ أنه كان عليه من الدين مثلُ ما يملك أو أكثر، فهل يسري العتق؟ فعلى قولين مأخوذين من القولين في أن الدين هل يمنع تعلقَ الزكاة بالعين؟ والجامع أن العتق حق الله، وهو متعلق بحظ الآدمي في الخلاص، فكان في معنى

(19/208)


الزكاة، وهذا ذكرته احتمالاً في بعض المجموعات، ثم ألفيته منصوصا للشيخ أبي علي في منقولات.
ولو كان الشريك موسراً ببعض قيمة النصيب دون البعض، ففي المسألة وجهان - ذكرهما الصيدلاني: أحدهما - أن العتق يسري بمقداره، والثاني - أنه لا يسري من العتق شيء، ويقف على ملك المعتِق، والأوجه الأول؛ فإنا نتبع السرايةَ اليسارَ، ووجه الثاني -على بعده- أن السريان من حيث يقتضي نقلَ الملك إلى المعتِق يشابه استحقاق الشقص المشفوع بالشفعة، ولو أراد الشفيع أن يأخذ البعض من الشقص المبيع. ويترك البعض، لم يجد إليه سبيلاً.
12346 - ومما نرى تمهيده أنا إذا عجلنا السراية، فالذي ذهب إليه الأصحاب أن الملك ينتقل في فصيب الشريك إلى المعتِق، ثم يَعتِق عليه، ويثبت الولاء، ولا يتصور أن يسري العتقُ في ملك الشريك من غير تقدير نقل، ثم ما صار إليه الأصحاب أن نقل الملك والعتق -على قول التعجيل- (1) يقعان في وقتين، وإن كانا لا يدركان بالحس. وحكى العراقيون عن أبي إسحاق المروزي أنه قال: يحصل نقل الملك والعتق معاً من غير ترتب، ولما قيل له: هذا جمعُ النقيضين، قال: لا يبعد هذا في الأحكام، وإنما يمتنع اجتماع المتضادات المحسوسة، وطرد مذهبه في شراء الرجل أباه، ومن يعتِق عليه، وقال: يحصل الملك والعتق معاً.
وهذا كلام سخيف، متروك عليه، وباطل قطعاً.
12347 - فإن قيل: ذكرتم حكم العتق في العبدِ الخالص، والعبدِ المشترك على الجملة، وأغفلتم إعتاقَ المالك جاريتَه الحبلى، والحمل لمالك الجارية، وكذلك إعتاقَه الحمل، والأم مملوكة له.
قلنا: أما إذا أعتق الجاريةَ، فالعتق يسري إلى الجنين مذهبأ واحداً. وإن وجّه العتقَ على الحمل، نفذ العتق فيه، وما ذكره الأصحاب أن العتق يقف عليه،
__________
(1) ت 5: " قول العتق ".

(19/209)


ولا يتعدى من الجنين إلى الأم، فتعتِق الأم، كما يعتق الجنين بعتق الأم، وهذا غريب في الحكاية، وإن أمكن توجيهه.
ثم اختار المزني أصحَّ الأقوال، وهو قول تعجيل السراية، وسلك مسلكين: أحدهما - التعلق بنصوص الشافعي في مواضع من الكتب (1)، والآخر الاستشهاد بالأحكام، ومعظم ما يستشهد به مفرع من الشافعي على قول تعجيل السراية، وأما استشهاده بنصوص الشافعي، وقطعِه القول في مواضع من كتبه، فهذا على مذهبه في أن الشافعي إذا قطع قولاً في موضع، كان ذلك تركاً منه للقولين.
12348 - وفي هذا دقيقة لا بد من التنبه لها، وهي أن الشافعي إذا نص على قولين، فكأنه لم يذكر لنفسه مذهباً، وإنما ردّدَ، ولو انتهى نظره نهايته، لجزم القولَ، ولا مذهب لمتردِّد. نعم، إن كان ينقدح مذهب ثالث، فإعراضه عنه مذهب.
ثم إن قطع قوله بعد القولين، فيجب القطع بأن مذهبه ما قطع به، وما كان يتردد فيه ينتهى إليه ويقف (2).
وإن تقدم قطعُه، ثم قطع بعده بخلافه، فهو رجوع، واستحداث مذهب.
وإن قطع بمذهب، ثم ذكر بعده قولين، فقد ترك المذهب، وعاد إلى التردد.
وإن نُقلت عنه نصوص مختلفة من غير تأريخ، فلا وجه للاستشهاد بالبعض منها.
غير أن المزني يستشهد بكثرة النصوص، وهذا لا متعلق فيه.
12349 - ثم ذكر المزني جملاً من الأحكام المتفرعة على الأقوال، ونقل جواب الشافعي فيها على ما يقتضيه تعجيل السراية، ونحن نتتبع تلك الأحكامَ ونذكر المذهبَ فيها، والجوابُ عن تعلق المزني لا يخرج عن قسمين: أحدهما - اعتذار عما يذكره إن اتجه، والآخر - حملُ كلامه على التفريع على قول تعجيل السراية.
__________
(1) ت 5: " الكتاب ".
(2) عبارة الأصل: " ويقف عليه "، ولفظة: (عليه) ساقطة من (ت 5)، ولعلها: ويقف عنده. أي لا يقطع.

(19/210)


فمما تعلق به أن قال: قال الشافعي: إذا مات المعتِق الموسر، فقيمة نصيب الشريك تؤخذ من تركته بعد موته، وهذا لا خلاف فيه على الأقوال. ووجه الجواب عنه على قول تأخير العتق إلى الأداء، أن العتق صار مستحقاً في نصيب صاحبه، فصار هذا الاستحقاق موجِباً للقيمة، ثم أَخْذ القيمة من تركته، وإن كان يحصل العتق بعد موته ليس بدعاً، وهو محمول على قاعدة تقدم السبب في الحياة، ومن الأصول أن من قدم سبباً في حياته، وترتب عليه تلفٌ بعد موته، فالضمان يتعلق بتركته. هذا إذا مات المعتِق.
وإن [مات] (1) العبد الذي أعتق الشريك نصيبه من قبل أداء القيمة -والتفريع على تأخير السراية إلى وقت الأداء- فعلى هذا القول وجهان: أحدهما - لا تلزم القيمة؛ فإن السراية قد فاتت؛ إذْ عِتْقُ العبد بعد موته محال؛ فتقديم العتق على أداء القيمة يخالف القول الذي نفرع عليه [وبمثل] (2) هذا الحكم فإن المكاتب إذا مات، تنفسخ الكتابة، ويموت رقيقاً. والوجه الثاني - أنه يجب على المعتِق قيمةُ نصيب شريكه، ثم نتبين أن العتق حصل قبيل موته، وهذا يضاهي مذهب أبي حنيفة (3) في مصيره إلى أن المكاتب إذا خلف وفاء أُدّي النجم مما خلّفه، ويتبين أنه عَتَق قُبَيْل موته.
ومما احتج به المزني أن قال: نَصَّ على أن أحد الشريكين إذا وطىء الجارية المشتركة -وهو موسر- سرى الاستيلادُ إلى نصيب الثاني في الحال.
قلنا: هذا جوابٌ على أحد القولين -وهو تعجيل السراية- فالاستيلاد كالإعتاق، فإن عجلنا، فالجواب ما نقله المزني، وإن رأينا تأخير نفوذ العتق إلى أداء القيمة، فالاستيلاد بمثابته، وقولُ الوقف جارٍ فيه. ثم من أصحابنا من يرى الاستيلاد أولى بالتعجيل؛ لأنه مترتب على فعلٍ لا مردّ له، ومنهم من يرى العتق أولى؛ لأنه تحقيق وتنجيز، والاستيلاد فيه عُلْقة العتاقة، ومنهم من سوى بينهما.
__________
(1) في الأصل: " كان ".
(2) في الأصل: " بمثل " (بدون الواو).
(3) ر. مختصر اختلاف العلماء: 4/ 431 مسألة: 2125.

(19/211)


ثم نقول في الاستيلاد: إن كان الشريك المولدُ موسراً، ثبت الاستيلاد في نصيبه، ثم في وقت سريانه إلى نصيب الشريك الأقوالُ؛ فإن أخرنا نفوذ الاستيلاد، فنقول: الولد حر لا محالة، ويجب على المستولد نصفُ قيمته لشريكه، كما يجب عليه نصف قيمة الجارية.
وإن قلنا: تتعجل السراية -تفريعاً على الصّحيح- ففي وقت نفوذ الاستيلاد خلافٌ، ذكرناه في استيلاد الأب جاريةَ الابن: فمن أصحابنا من يقول بنقل الملك إلى المستولد قبيل العلوق، فعلى هذا يصادف الوطءُ ملكَه، فلا يلتزم لشريكه شيئاً (1).
ومنهم من قال: يُنقل الملك في نصيب الشريك بعد العلوق، فيثبت العلوق على مقتضى الشركة.
وقد قدمنا استقصاءَ هذا في استيلاد الأب، وكشفنا ما فيه من إشكال بطريق البحث، ومقدار غرضنا منه الآن التردد في أن الاستيلاد إذا تعجل، وقطعنا بحصول الحرية في الولد، فهل يغرَم المستولد لشريكه في مقابلة الولد شيئاً؟ وإن أخرنا، فلا شك في حصول الحرية في الولد، ولكنا نقطع بتغريم المستولد نصفَ قيمة الولد، وإذا كان المستولد معسراً، ففي انعقاد الولد على التبعض في الحرية وجهان ذكرناهما.
ثم ذكر الأصحاب متصلاً بالاستيلاد أن المستولد لو كان معسراً، ووقف الاستيلاد على نصيبه، ولو استولد الثاني أيضاً، لثبت الاستيلاد في نصيبه أيضاً، فتصير المستولدة مشتركة بينهما على حكم الاستيلاد، فلو فرض يسار بعد ذلك لأحدهما، فأعتق الموسر نصيبه من أم الولد، فقد قال قائلون من أصحابنا: العتق يسري إلى نصيب الشريك الثاني، ويجب غُرْم (2) الثاني.
قال القاضي: هذا خطأ؛ لأن قضية السراية نقل الملك من شخص إلى شخص، وأم الولد غير قابلة لنقل الملك. وإذا امتنع نقل الملك، امتنع تصوير السراية.
__________
(1) أي في الولد.
(2) ويجب غرم الثاني: " غُرم " بمعنى المغروم؛ أي يجب أن يغرم للثاني نصيبه.

(19/212)


12350 - ومما احتج به المزني أن قال: إذا قال أحد الشريكين للثاني: قد أعتقتَ نصيبك وأنت موسر، فنحكم بعتق نصيب المدعي، لأنه أقرّ به وهو مؤاخذٌ بإقراره، فدل أن العتق حصل بنفس اللفظ، ولو كان يعتق بأداء القيمة، لم نحكم بعتق نصيب المقر، لأنه لم يأخذ قيمة نصيبه بعدُ.
قلنا: لا يشك الفقيه في أن هذا تفريع على قول تعجيل السراية، والجواب فيه أنا إن حكمنا بالتعجيل، وقع الحكم بالعتق في نصيب الشريك المدعي، والقول قول المدعى عليه، فإن حلف أنه لم يُعتِق نصيبَ نفسه، تَخَلَّص، وإن نكل، حلف المدعي، واستحق عليه القيمةَ لنصيبه، ثم إذا حلف المدعي يمين الرد وألزمنا المدعى عليه القيمة، فهل يقع الحكم بالعتق في نصيب المدعى عليه؟
قال المحققون: لا نحكم بالعتق في نصيبه؛ فإن الدعوى إنما توجهت عليه بسبب تغريمه القيمة؛ وإلا فالدعوى على الإنسان بإعتاق ملكه مردودة، وهي بمثابة ما لو ادعى رجل على مالك عبد أنه أعتقه، فلا تسمع الدعوى، ولا معنى لها. نعم، لو كان هذا المدعي شاهداً، وانضم إليه آخر، وعُدّلا، حُكم بالعتق لشهادة الحسبة.
وإنما نسمع الدعوى من العبد نفسه لما له في العتق من الحظ واستفادة الخلاص، وإنما تقبل دعوى الشريك لطلب القيمة، وَرَدُّ اليمين لا يثبت غير القيمة.
وأبعد بعض من لا خبرة له وقضى بنفوذ العتق في نصيب الشريك المدعى عليه بيمين الرد؛ تبعاً لارتباط دعوى القيمة به، ولا مساغ للقيمة إلا من جهة تقدير السراية، ولا سراية ما لم يُقَدَّرْ نفوذُ العتق من الشريك في نصيبه.
ثم إذا حكمنا على قول التعجيل بنفوذ العتق في نصيب المدعي، فولاء ذلك النصيب موقوف؛ لأن المدعي يزعم أنه لشريكه، وشريكه ينفيه؛ فبقي الولاء موقوفاً، وسيأتي القول في وقف الولاء في مثل ذلك.
ثم قال المزني: لو ادعى الشريك المدعى عليه على صاحبه مثل ذلك، عَتَقَ العبدُ، وكان الولاء له، وبيان ذلك: أنه إذا ادعى كل واحد من الشريكين على صاحبه أنه أعتق نصيبه -والتفريع على قول التعجيل- فينفذ الحكم بعتق العبد ونقول: كل

(19/213)


واحد من الشريكين يزعم أن [شِرْكه] (1) عتق على صاحبه، وصاحبه ينكره، فصار كلُّ واحد مؤاخذاً بموجب إقراره.
وأما قوله: " وولاؤه له " فهو خطأ؛ فإن الولاء موقوف ليس يدعيه واحد من الشريكين. وإذا كان كذلك، فلا وجه إلا وقف الولاء، وهذا لا شك فيه.
وإن اعترف أحدهما بعتق نصيبه، تغير وضع المسألة، وإذ ذاك يكون الولاء للمعترف. وكل هذا تفريع على تعجيل السراية.
12351 - ومما ذكره المزني، أن أحد الشريكين إذا قال لصاحبه: مهما (2) أعتقتَ نصيبك، فنصيبي حر، والمخاطب المقول له موسر، فإذا أعتق عَتَقَ الكل عليه، ويلزمه قيمةُ نصيب القائل موسراً كان أو معسراً.
قلنا: هذا جواب على التعجيل، كما سنوضحه، إن شاء الله.
فأما إذا قلنا: [تحصُل] (3) السراية عند أداء القيمة، لم يَعْتِق الكلُّ على المعتقِ، بل عَتَقَ نصيبه عليه، وعَتَقَ نصيبُ المعلِّق عليه عند بعض أصحابنا.
وتحصيل القول في ذلك يقتضي تقديمَ أصلٍ، وهو أنا إذا رأينا تأخير السراية إلى حصول الأداء، فنصيب الشريك رقيق قبل أداء القيمة.
فلو أعتق ذلك الشريك نصيبَ نفسه، إنشاءً قبل وصول القيمة إليه من جهة شريكه، ففي نفوذ عتقه وجهان على هذا القول: أحدهما - أنه ينفذ لمصادفة الملك، والثاني - أنه لا ينفذ؛ لكونه محلاً لاستحقاق نفوذ السراية فيه من جهة الشريك، وهذا يصادف (4) نظائر معروفة، منها: إعتاق الراهن المرهون، ثم إن لم ينفذ العتقُ من الشريك إنشاءً، فلا كلام، وإن نفذناه، ففي تنفيذ البيع فيه وجهان ذكرهما القاضي.
وكان شيخي يقطع بأن البيع لا ينفذ فيه، وإن تردد المذهب في نفوذ الإعتاق إنشاء
__________
(1) في النسختين: " شريكه " وهو تصحيف واضح. والمثبت تقدير من المحقق. والشِّرْك أي النصيب.
(2) مهما: بمعنى إذا.
(3) في الأصل: " تحصيل ".
(4) أي يضاهي نظائر معروفة.

(19/214)


كالمرهون وما يناظره، بخلاف العبد الجاني إذا تعلق الأرش برقبته فإن القول مختلف في نفوذ بيع السيد في رقبته قبل إيصال الفداء إلى مستحقه.
وإذا نحن نفذنا بيع الشريك في مسألتنا، نشأ من هذا سرٌّ في المذهب، لا بدّ من التنبه له، وهو أنا إن جرينا على أنه لا ينفذ عتق الشريك، فلا شك أنه لا ينفذ على هذا بيعُه، فقيمة الحصة مستحقة على الشريك المعتِق، لما اقتضاه إعتاقه من الحجر على ملك الشريك، والحيلولة توجب الغرم في مثل هذا المقام. فترتب على ذلك أن الذي لم يُعتق يطالِب الشريكَ بالقيمة، وإذا قلنا: ينفذ عتق الشريك، ولا ينفذ بيعه، فالمطالبة بالقيمة تامة أيضاً؛ لاطراد الحجر في المنع من البيع.
وإن جرينا على أنه ينفذ عتقُ الشريك في نصيبه وبيعُه، فلا حجر عليه إذاً؛ ويجب لا محالة أن يقال: لا يملك مطالبةَ شريكه المعتِق بالقيمة؛ فإن إعتاقه لم يستعقب السراية ولا الحجر، والشريك الذي لم يُعتِق بحكمه في تصرفاته، فيبقى (1) أن المعتِق إن بذل القيمة، حصل السراية، وهو في بذلها مختار، ويكون بِمنزلة الشفيع في بذل العوض: إن بذله مَلَك الشقصَ المشفوع، وإن لم يبذله، فلا طِلبَة عليه من مشتري الشقص.
وهذا يخبّط المذهب، ويقطع نظامه، ومنه يبين أن تنفيذ بيعه لا وجه له، ثم إن قلنا: ينفذ بيعه، فلو باع، وأَلْزَم البيع من جهة نفسه، فأراد الشريك المعتِق أن يتتبّع بيعه بالنقض، ويبذل القيمة، كما يملك الشفيع نقضَ بيع المشتري لو باع الشقص المشترى، فكيف الوجه في ذلك؟ هذا فيه احتمال وتردد؛ لأنا إذا نزلنا الشريك المعتِق منزلة الشفيع، فقد أثبتنا له حقَّ إثبات العتق في نصيب صاحبه، فإذا جرى بيعٌ [لو حُكِم بلزومه] (2)، لامتنع حق الشريك المعتِق، لوجب أن يملك الشريك النقض.
وهذا الآن ينتهي إلى خبال وفساد، فالوجه: القطع بأن بيع الشريك لا ينفذ.
ثم يبتني عليه أنه يملك مطالبة المعتق بقيمة النصيب؛ لمكان الحجر الحاصل في ملكه.
__________
(1) ت 5: "فينبغي".
(2) في الأصل: " أو حكم بلزومه ".

(19/215)


12352 - فإذا ثبت ما ذكرناه من الخلاف في نفوذ عتق الشريك الثاني بعد إعتاق الأول، فنعود بعد هذا إلى غرض المسألة، ونقول: إذا قال أحد الشريكين: إذا (1) أعتقتَ نصيبك، فنصيبي حر، فهذا نفرّعه على قولَي التعجيل والتأخير: أما التفريع على التعجيل، فإذا جرى هذا التعليق من أحد الشريكين، فقال لصاحبه: إذا أعتقت نصيبك، فنصيبي حرٍ، فإذا أعتق المخاطَب نصيبه عَتَق عليه العبد إنشاء وسراية (2)، ولم يعتق نصيب المعلِّق بحكم التعليق، فإن قوله: " فنصيبي حر " يقتضي التعقيب، فإذا أعتق المقول له، فالسراية من حكم لفظه، فتغلِبُ السرايةُ حصولَ عتق المعلِّق في نصيب نفسه بحكم التعليق السابق. وهذا مما اتفق الأصحاب عليه إذا فرعنا على قول التعجيل.
فإن قيل: هلا كان عتق المعلِّق أولى بالنفوذ؛ فإنه يوافق وقت السريان؟ وهذا السؤال يقوَى بما مهدناه من أن الملك ينتقل إلى المعتِق، ثم يترتب عليه السريان، فلا بدّ من وقوع العتق بالسريان مترتباً على النقل، والعتق المعلَّق يلاقي وقت نقل الملك، ولأجل هذا السؤال قال المروزي: يحصل العتق متصلاً بإعتاق الشريك غيرَ مترتب، وهذا لا يُنجْيه من السؤال وغائلته؛ فإن الترتّب [على نقل الملك إن رُفع من البين،] (3) بقي مصادمةُ العتق المعلَّق للعتق بالسراية، وهذا كافٍ في إشكال السؤال.
ثم سبيل الجواب في هذا أن نقول: العتق المعلق مرتب على نفوذ عتق الشريك ترتيباً اختيارياً، وحصول العتق على طريق السراية، يترتب على نفوذ العتق ترتباً
__________
(1) أعاد المسألة بنصها واضعاً (إذا) مكان (مهما) مما يؤكد صحة تقديرنا في استعماله (مهما) بمعنى (إذا).
(2) إنشاءً في نصيبه، وسراية في نصيب شريكه.
(3) عبارة الأصل: " فإن الترتب يحط نقل الملك أو رفع من البين ... إلخ " والمثبت عبارة (ت 5). والمعنى أننا لو قلنا بقول أبي إسحاق المروزي، أي بحصول العتق متصلاً غير مترتب على نقل الملك، فهذا لا ينجي من السؤال، لأننا لو رفعنا من البَيْن تقدير نقل الملك، فسيبقى مصادمةُ العتق المعلِّق للعتق بالسراية. هذا معنى العبارة، والله أعلى وأعلم.

(19/216)


حكمياً، والترتب الحكمي أغلب؛ لأنه لا يقع (1) على وقتين محسوسين، فَيُفْصَل أحدُهما عن الثاني، وإنما هو تقدير لا يدركه الحس، وترتيب العتق بالفاء تصرفٌ مقتضاه تقسيم الوقت تعقيباً وترتيباً.
وهذا لا يشفي الغليل إذا كان لا ينفصل العتق المعلق عن إعتاق الشريك بفاصل زماني، فلا شك في اجتماع وقت السراية والعتق المعلق، وإذا فرضنا لنقل الملك زماناً، ولنفوذ العتق بعده زماناً، اقتضى هذا استئخار عتق السراية عن العتق المعلق من طريق الزمان.
فلا خروج عن السؤال إلا بأن نقول: العتق المعلق يصادف ملكاً [مستحَقَّ] (2) الإزالة، وقد ذكرنا وجهين على قول التأخير في أن الشريك الثاني إذا أعتق نصيبه هل ينفذ عتقه؟ فإذا فرّعنا على أنه لا ينفذ عتقه، لم يبق إشكال في تغليب السراية على قول التعجيل، وإنما السؤال على الوجه الثاني - وهو إذا قلنا: ينفذ عتق الشريك الثاني في نصيبه بعد تقدم عتق الأول، فعلى هذا تغلّب السراية على قول التعجيل أيضاً.
والسبب فيه أن الملك الذي يستحق نقله بالسراية مختطف مستوفًى منتزع عن إمكان التصرف على وجه لا تبقى فيه خِيَرةٌ للمختار، فلما عظم هذا الاستحقاق، اتّحد المذهب في امتناع نفوذ عتق المعلِّق، ونحن إذا نفذنا عتق الراهن، فهو لتغليبنا العتق على حق المرتهن؛ لما يختص الملك [به] (3) من السلطان ولهذا لا ينفذ بيعه، وهاهنا إذا كان الملك مستحقاً للمعتق بسريان العتق، امتنع نفوذ عتق المعلِّق فيه.
فكأنا نتخيل مراتب نقسط عليها أقدار الفقه: فعتق الراهن -إن نفذ- فسببه أن العتق أقوى من حق الاستيثاق، وعتق الشريك الثاني -على تأخير السراية- أولى بألا ينفذ؛ لأن الحق الثابت في ملكه على اللزوم سببه عتقٌ أيضاً.
وإذا فرعنا على قول التعجيل، فالملك مختطفٌ من البين، حتى كأن لا ملك، وعتق المعلِّق محمول على اختياره، وهذا هو الممكن في ذلك.
__________
(1) ت 5: " لأنه يقع ".
(2) في الأصل: " يستحق ". والمثبت من (ت 5).
(3) في الأصل: " فيه ". وعبارة (ت 5): " لما يخصّص به الملك من السلطان ".

(19/217)


12353 - ولو قال أحد الشريكين للثاني: إذا أعتقت نصيبك، فنصيبي حر قبل نصيبك -فهذه المسألة تدور على مذهب الدَّور الذي سبق إليه ابن الحداد. ووجهه أن الشريك المخاطب المقول له إذا أعتق- فلو نفذنا عتقه، لنفذ على صاحب اللفظ عتقُ المعلِّق قبل إعتاقه، وإذا نفذ عتق المعلق قبل إعتاقه سرى، وإذا سرى، لم ينفذ إعتاق الشريك، وإذا لم ينفذ إعتاقه، لم ينفذ العتق المعلَّق؛ ففي تنفيذ إعتاقه ردُّ إعتاقه.
وعلى هذا المذهب إذا قال مالك العبد له: مهما أعتقتك فأنت حر قبله، لم ينفذ عتقه، وقد ذكرنا نظير ذلك في الطلاق، وذكرنا مذهب قطع مذهب الدور، واخترناه، فلا نعيده.
ومن سلك في رد الدور مسلك الاستبعاد، فالدور في هذه المسألة أبعد، لأنه يؤدي إلى الحجر على الغير في ملكه، وهو أبعد من تصرف المرء في حقه.
ونحن إذا قطعنا الدور، لم نلتفت على هذا الاستبعاد، بل نقطعه بأن الشرط في نظم الكلام وضعه أن يتحقق، ثم ننظر في الجزاء، فإن امتنع، منع، فأما تخيل المنع في الشرط، فلا سبيل إليه لا لفظاً ولا شرعاً، ولسنا نطيل بالإعادة.
ويلزم على مذهب الدور امتناعُ التصرف من الجانبين، لو صدر التعليق من كل واحد منهما، ثم يجب طرد هذا في جميع التصرفات حتى إذا قال كل واحد منهما لصاحبه: مهما بعت نصيبك، فنصيبي حر قبل بيعك، فلا ينفذ البيع، [ثم] (1) لا ينفذ العتق، فإنه موقوف على بيع صحيح، وصحة البيع ممتنعة، وبمثل هذا يستبين المنصفُ بطلانَ المصير إلى الدور اللفظي. وكل ما ذكرناه على قول التعجيل.
12354 - فإن فرعنا على التأخير - وقد قال لشريكه: إذا أعتقت نصيبك، فنصيبي حر، فهذا مخرج على الوجهين في أن الشريك الثاني هل ينفذ عتقه؟ وقد مضى.
ولو قال على هذا القول: فنصيبي حر قبل إعتاقك -وفرعنا على أن عتق الثاني لا ينفذ بعد عتق الأول- دارت المسألة أيضاً؛ فإنا إذا قدمنا العتق المعلَّق، صادف إعتاق الثاني ملكاً مستحَقاً، ثم هكذا إلى منتهى الدور.
__________
(1) في الأصل: " فإنا لا ننفذ العتق ".

(19/218)


12355 - وفرع صاحب التقريب على قول التأخير مسألةً في التصرف، فقال: إذا أعتق أحد الشريكين نصيبَه من الجارية المشتركة، وقلنا: لا يسري العتق قبل الأداء، فلو وطىء الشريك الثاني الجارية، فهل يلتزم المهر؟ أما نصف المهر، فيلزمه في مقابلة النصف الحر، وليقع الفرض في وطءٍ محترم (1)، أو في تصوير الضبط والإكراه، فأما النصف الثاني من المهر - فقد ذكر صاحب التقريب فيه وجهين: أحدهما -أنه لا يلزم، لأن وطأه صادف ملكاً في ذلك النصف- وهذا هو الذي لا يجوز غيره. وليس هو من قبيل التصرفات التي يمتنع بها جريان العتق، حتى يجري الاختلاف فيها.
والوجه الثاني - أنه يجب عليه في مقابلة ملكه نصفُ المهر للشريك، وهذا بعيد، ولكن الممكن في تخريجه أن الملك وإن كان ثابتاً للواطىء، فهو مستحقَّ الانقلاب إلى المعتِق، فصار كأنه منقلب إليه. وهذا يناظر وجهاً ضعيفاً في أن البيع إذا كان فيه شرط خيار (2) وقلنا: الملك للبائع، فلو وطئت الجارية بشبهة، ثم أفضى العقد إلى اللزوم، فقد قال بعض أصحابنا: المهر للمشتري؛ نظراً إلى مصير الملك إليه في المآل، كذلك هذا الملك يصير إلى المعتق في المآل.
ثم لو قال قائل: هلا صرفتم هذا النصف من المهر إلى المعتقة أيضاً؛ فإن هذا الملك إلى الزوال.
قلنا: لا ننكر احتمال هذا، أما صاحب التقريب، فقد أثبته للشريك المعتِق، ووجهه أن الملك ينقلب إليه، ثم يترتب العتق، ولا يمكن توجيه هذا إلا بهذا الطريق. فيجوز أن يقال: إذا كان ملك الواطىء لا يدرأ المهر عنه؛ لأنه مستحقَّ الانقلاب، فالملك الذي نقدّره للمعتق أولى بأن يكون مستحقَّ الانقلاب، فإنه في حكم الحاصل الزائل، فيتجه صرف هذا النصف إليها أيضاً.
ويخرج من هذا أنا إن أثبتنا المهر في مقابلة النصف المملوك، فيجب ألا ينجز
__________
(1) ت 5: " محتوم ".
(2) ت 5: " خلاف ".

(19/219)


إلزامه، بل نُثبته عند حصول السراية، حتى لو ماتت الجارية -وفرعنا على أن السريان لا يتصور بعد موتها- فلا مهر على الواطىء في مقابلة النصف الذي كان مملوكاً له، واستمر الملك فيه -وهذا كله تفريع على وجهٍ لا أصل له.
وإذا جرينا على العادة في طلب النهاية- ونحن نفرع على ضعيف، أفضى التفريع إلى أمور بديعة.
12356 - ثم قال المزني: " وسواء كان بين مُسلمَيْن أو كافرَيْن أو مسلم وكافر " وأراد بذلك أن العبد إذا كان مشتركاً بين كافر ومسلم، فأعتق الكافر نصيبه، وقلنا: لا يصح من الكافر شراءُ العبد المسلم -وكان العبد مسلماً- فعلى هذا هل يُقوّم عليه نصيب الشريك؟ في المسألة وجهان، وهو بمثابة شرائه أباه المسلم، وقد قدمنا الخلاف فيه.
والنقل بالسراية -على قول التعجيل- أولى بالصحة من شراء العبد، فإن ذلك عقد اختيار، والنقل يحصل اضطراراً إذا عجلنا السراية، فكان أولى بالنفوذ. نعم، إذا فرعنا على قول التأخير، فبذْلُه القيمة ليعتِق نصيبُ صاحبه يضاهي شراءه من يعتق عليه مع فرق أيضاً، فإن هذا البذل واجب لو قلنا بالسراية، وشراء الأب لا يجب.
ثم فرض المزني عبداً مسلماً بين كافر ومسلم، وما ذكرناه من ترتيب المذهب في السريان ومنعه إنما نشأ من إسلام العبد، وما نشأ فيه من إسلام الشريك، ولكنه صوَّر عبداً مسلماً بين مسلم وكافر ليبني عليه أن المسلم لو أعتق، نفذ عتقه في نصيب الكافر، والكافر إذا أعتق، لم ينفذ عتقه على وجهٍ لبعض الأصحاب، وهذا لم يأت به المزني ليحتج به، وإنما أجراه في عُرض الكلام.
12357 - ومما تعلق به أن قال: إذا أعتق الشريك الموسر وألزمناه قيمة نصيب صاحبه، فالاعتبار في القيمة بيوم الإعتاق، لا بيوم التقويم، فدلّ أن العتق يتنجز باللفظ.
وهذا الذي ذكره فرّعه الأصحاب على القولين في التعجيل والتأخير، فنقول: إن عجلنا السراية، فلا شك أنا نعتبر قيمة يوم الإعتاق؛ فإن إتلاف ملك الشريك يحصل

(19/220)


متصلاً باللفظ، فإن أخرنا تحصيل العتق إلى وقت الأداء، فقد اختلف أصحابنا في المسألة: فمنهم من قال: تعتبر قيمة يوم الأداء. فإن التلف يحصل حينئذ، فيجب اعتبار قيمة يوم التلف. والوجه الثاني - أنا نعتبر قيمة يوم الإعتاق؛ فإن الحجر على الملك حصل في ذلك اليوم.
وفي بعض التصانيف وجه ثالث، هو الصواب - وهو أنا نعتبر أقصى القيم من يوم العتق إلى يوم الأداء؛ فإن الإعتاق سببٌ متصل إلى الإفضاء إلى التلف، فيجب أن يكون بمثابة جراحة العبد، ومن جرح عبداً، ثم مات بعد زمان، اعتبرنا قيمته أقصى ما يكون من يوم الجرح إلى يوم التلف، وكذلك من غصب عبداً، وتلف في يده، ألزمناه أقصى القيم؛ لأننا نُنْزل الغصب منه بمنزلة التسبب إلى التلف. هذا ما ذكره الأصحاب، ولا بد من بحث فيه.
أما إيجاب الأقصى، فمصرِّحٌ بالغرض، لا بحث فيه، وأما من قال: يُعتبر يوم الإعتاق، فمعناه عندي إدخال يوم الإعتاق في الاعتبار، وإلا فلا وجه لإنكار اعتبار القيمة بعده، لما قدمناه.
وقد ينقدح -على بُعْده- أن يقال: صار الملك كالمهلَك يومئذ فلا يعتبر ازدياد بعده. وهذا يلتفت على ما حكيناه في المهر.
وأما من اعتبر يومَ أداء القيمة، فلا اتجاه له إلا على مذهب من لا يمنع العتق والبيع، فيكون بذل القيمة يومَ الأداء كبذل الثمن المسمى من الشفيع، وكأن الاعتياض يجري يوم البذل، والقيمة يومئذ ممثلة بالثمن.
12358 - ثم قال الشافعي: " وإن كان معسراً، عَتَقَ نصيبه، وكان الشريك على ملكه ... إلى آخره " (1).
أراد بذلك أن العتق إذا وقف على نصيب المُعْسر، فالشخص يستقل بموجب الحرية في بعضه، وعليه حكمُ الرق في بعضه.
ولعلي أجمع في آخر العتق ما يحضرني من أحكام مَن بعضه رقيق وبعضه حر.
__________
(1) ر. المختصر: 5/ 268.

(19/221)


فصل
قال: "ولو أعتق شريكان، لأحدهما النصف، وللآخر السدس ... إلى آخره" (1).
12359 - صورة المسألة: عبد بين ثلاثة، لواحد نصفه، ولواحد ثلثه، ولآخر سدسه، فأعتق صاحب النصف والسدس نصيبهما، ووقع العتقان معاً، وتصوير الاجتماع أن يتلفظا معاً أو يوكلا وكيلاً بإعتاق نصيبهما حتى يعبر عنهما بعبارة واحدة، فإذا نفذ العتقان معاً، وكانا موسرين -والتفريع على قول التعجيل- فيسري العتقان إلى الثلث الباقي؛ وفي كيفية التقويم على صاحب النصف والسدس قولان: أحدهما - يُقوَّم عليهما على عدد الرؤوس بالتسوية، ولا نظر إلى اختلاف الملكين. والثاني - أن التقويم يقع عليهما على قدر الأملاك، فيغرم صاحب النصف ثلاثة أرباع قيمة الثلث، ويغرم صاحب السدس ربعَها، ونَقْلُ الملك والولاء يقعان على هذه النسبة. والقولان يبتنيان على أن الشفعة على عدد الرؤوس، أم على قدر الأنصباء. هذا هو المسلك المرضي.
وقال بعض أصحابنا نقطع بالتقويم على عدد الرؤوس هاهنا؛ لأن سبيل التقويم فيما نحن فيه كسبيل تغريم الجناة الأرش إذا سرت الجراحات. ثم اختلاف الجراحات في الصورة لا يوجب تفاوتاً، حتى لو جَرَحَ أحدُ الجارحين مائةَ جراحة، وجرح الثاني جراحةً واحدة، وسرت الجراحات إلى الزهوق، فالدية نصفان بينهما.
وهذا ليس بذاك؛ فإن سراية الجراحات صورةٌ وعِيان. وقد يغمض مبلغ آثار السرايات، وقدرُ وقعها، وصُوَرُ الجراح لم تقتل؛ فإنها لم تكن مذفِّفة (2)، فلما غمض الأمر، وزعنا على الرؤوس، والسراية فيما نحن فيه حكم، والحكم محال على الشرع، فينبغي أن نثبته على موجب القياس في الشرع.
__________
(1) ر. المختصر: 5/ 269.
(2) ت 5: " مذافة ".

(19/222)


فصل
قال: " ولو اختلفا في قيمة العبد، فيها قولان ... إلى آخره " (1).
12360 - إذا اختلف المعتِق وشريكه في قيمة العبد، وتعذر معرفتها بأن مات العبد، وتقادم العهد، وعسر الرجوع إلى اعتبار صورته وصفته؛ فإذا اختلفا في القيمة على الإطلاق، ففي المسألة قولان: أحدهما - القول قول المعتِق؛ لأنه الغارم كما في ضمان الإتلافات، وهذا اختيار المزني. والقول الثاني - القول قول صاحب النصيب؛ فإنه يُستَحَقّ عليه ملكُه بعوض، فيجب أن يخرج ملكه من يده بحكم قوله.
والأَوْلى عندنا بناء القولين على أنه إذا اشترى الرجل عبدين، وتلف أحدهما في يده، وأراد أن يردَّ الثاني بالعيب، وجوزنا تفريق الصفقة في الرد، فلو اختلفا، فقال المشتري: كان قيمةُ العبد التالف خمسمائة، وقيمة الباقي ألفاً، فرُدَّ عليّ ثلثي الثمن، والبائع يقول: بل قيمة التالف ألف، فلا أرد إلا نصف الثمن، فالقول قول من؟ في المسألة قولان.
وهذا البناء ليس كما نؤثره؛ فإن تلك القيمة ليست قيمة مغرومة، والقيمة فيما نحن فيه مغرومة، فالأصل أن يكون القول قولُ الغارم، فلا وجه إلا الاقتصار على توجيه القولين بما يمكن.
12361 - ثم قال: "ولو قال: هو خباز، وقال الغارم ليس كذلك ... إلى آخره" (2).
وهذا من تتمة القول في الاختلاف في القيمة. فإذا مات العبد -والرجوع إليه- فقال المغروم له: كان العبد خبازاً، أو كاتباً، وأنكر الغارم ذلك، فقد ذكر العراقيون فيه طريقين: قالوا: من أصحابنا من قال: في المسألة قولان: أحدهما - أن القول قول الغارم، والثاني - القول قول الطالب، والقولان مبنيان على أنهما إذا اختلفا في
__________
(1) ر. المختصر: 5/ 269.
(2) ر. المختصر: 5/ 269.

(19/223)


مبلغ القيمة اختلافاً مطلقاً، فالقول قول من؟ وذلك لأن من يدعي مزيداً في القيمة، فلا بد وأن يكون مدعياً لزيادة صفة، أو زيادة رغبة، فإن صُدّق ثَمَّ، وجب أن يُصَدَّق فيما نحن فيه.
قالوا: ومن أصحابنا من قال: القول قول الغارم في نفي الصفة الزائدة التي يدعيها الطالب؛ فإن الأصل عدمُها.
ولو ادعى الغارم نقيصةً تنتقص القيمة بسببها، وأنكر الطالب تلك النقيصة، نظر: فإن قال الغارم: كان العبد سليماً في أصل الخلقة، لكن عاب قبل أن أعتق نصيبي منه، فهل يصدَّق هذا الذي يدعي طريان النقصان؟ فعلى قولين: أحدهما - أنه يصدق مع يمينه؛ فإن الأصل براءة ذمته، والقول الثاني - أنه يصدق الطالب مع يمينه؛ لأن الأصل بقاءُ السلامة، قال أئمتنا: هذا من تقابل الأصلين، فإن الأصل من جانبٍ براءةُ الذمة، فبعُد شَغْلُها من غير ثَبَتٍ، والأصل في الجانب الثاني بقاءُ العبد على سلامته، فَبَعُدَ ادعاء النقصان من غير ثَبَت. وهذا أوقع صورة تذكر في تقابل الأصلين.
12362 - ولا ينبغي أن يعتقد الإنسان أن المعنيّ بتقابل الأصلين تعارضهما على وزن (1) واحد في الترجيح؛ فإن هذا كلام متناقض إذا كنا نُفتي لا محالة بأحد القولين، ونُلحق المسألة بالمجتَهَدَات التي يتعين على المجتهد فيها تقديم ظن على ظن، وحسِب بعضُ الناس من شيوع هذا اللقب أن الأصلين متعارضان تحقيقاً، ولو تحقق ذلك، لسقط المذهبان، وهذا يستحيل المصير إليه، ولو سمى مُسمٍّ كل قولين بهذا الاسم، لم يمتنع؛ من جهة أن من يُجري القولين لا يبتّ جواباً، ولا يعيّن مذهباً، بل يقول إني متردد، والأمران متقابلان عندي، وتقابلهما حملني على التردد، ومن أدى اجتهادُه إلى أحدهما، فلا تقابل عنده، وقد ظهر الترجيح لديه، غير أن مسائلَ معدودة جرت على صورة واحدة، وعلى قضية في التشابه، فسماها الفقهاء باسمٍ لتمييز ذلك النوع عما عداها في التبويب والترتيب.
__________
(1) ت 5: " قدر واحد ".

(19/224)


وهذا كقولهم إذا غاب العبد وانقطع الخبر، فهل يجب على المَوْلى إخراجُ فطرته؟ فعلى قولين: أحدهما - لا يجب تغليبا لبراءة الذمة، والثاني - يجب لاعتقاد الحياة، وكذلك إذا أعتقه مالكه عن ظهارٍ، فهل تبرأ ذمته في الحال، فعلى ما ذكرناه: في قولٍ نقول: الأصل اشتغال الذمة، فلا براءة إلا بثت، وفي قولٍ: الأصل بقاء العبد، فلا حكم بالموت والفوت إلا بثبت، فهذا هو المسلك، ولا معنى لإكثار الأمثلة بعد وضوح المقصود. نعم، مِن حكم تقابل الأصلين أن يَدِقّ النظرُ في محاولة ترجيح جانب على جانب.
ولو لم يسلِّم الغارم السلامةَ الخِلْقية، بل قال: خلق أكمه، أو بِفَرْد عينٍ، فالذي ذهب إليه الأكثرون أن الغارم مصدق، فإنه لم يسلم أصلاً حتى يُنسبَ بعد تسليمه إلى زواله، وقال العراقيون: في هذه الصورة قولان مبنيان على القولين فيه إذا اختلفا في مقدار القيمة مطلقاً، فإنا إذا صدقنا من يدعي الزيادة، فليس معه أصل في دعوى الزيادة. ومع هذا أجرينا قولاً في تصديق الطالب، ولا فرق بين أن يدعي مزيداً مطلقاً لا يستند إلى أصل، وبين أن يدعي مزيداً في أصل الخلقة، بل هذا أقرب؛ فإن سلامة الخلقة معتادة؛ والكمه نادر، وادعاءُ الزيادة المطلقة ليس فيها استناد إلى اعتياد.
وليتّخذ الفقيه هذا الفصل معتبره إن كان يبغي أن تتميز له صور تقابل الأصلين عن غيرها، فالقولان في الاختلاف المطلق في مقدار القيمة ليسا من تقابل الأصلين، بل أصح القولين تصديق الغارم. والقول الثاني موجه باعتبار قول من يُزال ملكه بعوض.
وهذا ضعيف؛ لأن هذا الكلام كالمشير إلى تراضي المعاوضات، والملك يزول بسبب القهر، فهو من فن الإتلاف.
وإذا رجع النزاع إلى ادعاء نقص بعد تسليم السلامة، فهذا من صور تقابل الأصلين؛ إذ أصل براءة الذمة يعارض أصلَ السلامة، (1 وإذا لم يسلم الغارم السلامة 1)، فهذا يَخْرُج عن قالب تقابل الأصلين، فإن الغارم لم يسلم أصلَ السلامة، وإن تكلف متكلف، وقال: الأصل في الناس السلامة، كان مبعداً، ومن
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من (ت 5).

(19/225)


أجرى القولين ألحقهما بالاختلاف في أصل القيمة مع ترجيحٍ نبهنا عليه، فكل صورة مما ذكرناه يظهر فيها توجيه، فليس من تقابل الأصلين، وإذا تدانى المأخذان ودق الترجيح، وتمسك كل قائل باستصحاب أصل، فذاك هو الذي يسمى تقابل الأصلين.
فهذا منتهى ما ذكرناه.
فصل
قال: " وإذا أعتق شركاً له في مرضه الذي مات فيه ... إلى آخره " (1).
12363 - ثلث مال المريض في تبرعاته ينزل منزلة مال الصحيح، فإذا أعتق المريض شقصاً له من عبد، إن كان في ثلثه وفاءٌ بالقيمة، سرى العتق إلى الباقي، سواء كان العبد خالصاً له أو كان مشتَركاً. ولو كان في الثلث وفاءٌ ببعض ما بقي، ففيه التفصيل الذي ذكرناه فيما تقدم.
ولو أوصى أن يعتق عنه بعضٌ من عبد، لم يقوّم عليه الباقي، وإن خرج من ثلثه؛ فإنه عِتْقٌ واقع بعد الموت، والموت يزيل الملك، ويُلحق الميت بالمعسرين، والثلث وإن كان محل وصاياه، فذاك لو أوصى بما يستغرق الثلث؛ وإذا لم يفعل، فحق الورثة مقدَّم مغلّب، ولو كان له شقص من عبد فأوصى أن يعتق عنه ذلك الشقص، ويسري العتق في باقيه من ثلثه، وكان الثلث وافياً، فلا خير في هذه الوصية؛ فإن الملك يزول بالموت، كما ذكرناه، وإذا زال الملك، فلا سريان له، والوصية إنما تنفذ بأمر يبتدىء بعد الموت، أو بأمر تُعلق وقوعه بالموت، والسراية لا تنشأ ولا تُعلق، والموت يزيل الملك، فيمتنع السريان، فإن أراد تكميل العتق أوصى بأن يُشتَرى نصيبُ صاحبه ويعتَق.
فرع:
12364 - وذكر الشيخ أبو علي في شرح الفروع في أثناء الكلام، أن أحد الشريكين إذا أعتق نصيبه، وقلنا: إن نصيب شريكه لا يَعْتِق إلا مع أداء القيمة، وقلنا: المعتِق مطالب بالقيمة، ولا ينفذ تصرف شريكه في نصيب نفسه لكونه مستحقاً
__________
(1) ر. المختصر: 5/ 269.

(19/226)


للسراية، فلو تلف مالُ الشريك، وصار معسراً، قال رضي الله عنه: ينطلق الحجر عن الشريك في حصته، ويتصرف فيها بما شاء، لأن شريكه قد أعسر، ولو كان معسراً ابتداء، لما أثر العتق في حصة الشريك، فكذلك إذا طرأ الإعسار، والتفريع على ما ذكرنا.
ثم قال: فلو أيسر الشريك، ووجد ما يفي بنصيب صاحبه، فلا يقوّم عليه نصيب الشريك بعد ذلك؛ فإن الطَّلِبةَ قد انقطعت عنه بتخلل إعساره، وارتفع حق العتق عن نصيب صاحبه، فلا يعود بعود المال. هكذا قال رضي الله عنه.
ويتطرق الاحتمال إلى موضعين من كلامه: أحدهما - أنه قال: انطلق الحجر بطريان الإعسار، والظاهر ما قال؛ فإن هذا القول مبني على رعاية حق الشريك، ولذلك فَصَلْنا بين أن يكون المعتق موسراً وبين أن يكون معسراً. ووجه تطرق الاحتمال مع ظهور ما قال أن عُلقة العتق تثبت، فيجوز أن يظن لزومها، وأما ما ذكر من أنه إذا عاد اليسار، لم يعُد حق العتق، ففيه احتمال. وهو أظهر؛ لأن علقة العَتاقة تثبت أولاً، فلئن طرأ عسر، فقد زال. والعلم عند الله.
***

(19/227)


باب في عتق العبيد، لا يخرجون من الثلث
قال: " ولو أعتق رجل ستة مملوكين ... إلى آخره " (1).
12365 - إنما فرض الشافعي الكلام في ستة مملوكين تيمناً بفرض المسألة في مورد خبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه عِمران بن حُصين في الحديث المشهور.
وغرض الباب أن من أعتق في مرض موته عبيداً لا مال له غيرُهم؛ وردَّ الورثةُ ما يزيد على الثلث، فمذهب الشافعي أنا نُقرع بين العبيد، ونُعْتِق مقدارَ الثلث منهم، مع طلب التكميل جهدَنا، حتى إذا أَعتق ثلاثةَ أعبد لا مال له غيرُهم، وكانت قِيَمُهم متساوية، فنُعِتق بالقرعة واحداً، ونرد اثنين، كما سنذكر كيفيةَ الإقراع.
وهذا مائل عن مقتضى القياس؛ فإن المريض لما أعتق العبيد، فقد أثبت لكل واحد منهم حقاً في العَتاقة نصاً، وإرقاقُ اثنين حرمانٌ لهما، والعتقُ من أعظم حقوق المعتَق، فإنه يملّكه نفسه، ويخلّصه من أسر الرق، والذي يقتضيه القياس أن نُعتق من كل واحد منهم ثُلثَه، ولكن قدم الشافعيُّ النصَّ الصريح على القياس؛ فإن عمران بنَ حصين روى أن رجلاً أعتق ستة أعبد لا مال له غيرهم، فَجرأهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثةَ أجزاء وأقرع بينهم، فأعتق اثنين، وأرق أربعة (2).
فمعتمد المذهب الخبرُ إذاً، وكأنا نفهم من غرض الشرع طلبَ تكميل الحرية.
ولو قال المريض -والعبيد ثلاثة كما وصفناهم في استواء القيم- واحد منكم حر، فَنُعتِق واحداً، على ما سيأتي تفصيل ذلك.
12366 - ولو قال: الثلث من كل واحد منكم حر، فهذا تنصيص على قصد التبعيض، وقد اختلف أصحابنا في هذه الصورة على وجهين، فقال قائلون: إذا
__________
(1) ر. المختصر: 5/ 269.
(2) سبق هذا الحديث.

(19/228)


صرح على هذا الوجه بقصد التبعيض، وجب اتباعه، وتنزيل العتق على حسب لفظه. وقال آخرون: هذا بمثابة ما لو قال: أعتقتكم، فإن العبيد كانوا خُلَّصاً له، ومن ملك عبداً خالصاً، فأعتق جزءاً منه، عَتَقَ كلُّه، ولا تعويل على لفظه في التبعيض، مع تنزيل الشرع ذكرَ الأشقاص في العبيد الخُلَّص منزلةَ ذكر الأشخاص.
ولو قال لعبيده: ثُلثكم حر، فقد أطلق الأصحاب القول بالإقراع في هذه الصورة؛ من حيث لم يصرح بقصد التبعيض.
وقد ينتظم قول من يقول: الواحد ثُلث الثلاثة، وهذا إذا لم يفسِّر هذا اللفظَ بإعتاق الثلث من كل عبد؛ فإن فسّره به، فهو كما لو صرح، وقد مضى الخلاف فيه، وإن بقي اللفظ مبهماً، فالقرعة مقطوع بها، فقد تبين وضع الباب.
وأما أبو حنيفة (1)، فإنه قال: إذا أعتق العبيد الثلاثة، عتق من كل واحد منهم ثلثه، ويستسعى في قيمة ثلثين، ولا قرعة بحال. وقدم القياس الذي نبهنا عليه على الخبر الناص على [رأيه] (2) في المسائل المشتملة على الخبر وطرفٍ من النظر. ثم لم يستمسك بالقياس أيضاً، بل قال: لو قال المريض لعبيدٍ: أحدكم حر، يَعْتِقُ من كل واحد ثلثُه، ويُسْتَسْعى من البقيه، فلا هو تمسك بالخبر، ولا وفّى القياس حقه.
فإذا تمهد ما ذكرناه فكيفية الإقراع ذكره الشافعي في باب مفرد.
...
__________
(1) ر. مختصر الطحاوي: 382، المبسوط: 29/ 71، رؤوس المسائل: 541 مسألة: 399.
(2) في الأصل: " دابر ".

(19/229)


باب كيفية القرعة بين المماليك وغيرهم
قال الشافعي: " أحب القرعة إليّ وأبعدُها من الحَيْف ... إلى آخره " (1).
12367 - أصل القرعة واجب عند الشافعي إذا أعتق المريض عبيداً، ولا يقوم غيرُ القرعة مقامَها، حتى لو فرض مراجعةُ شخصٍ لا غرض له في تعيين عبد لإرقاق أو إعتاق، فأطلق من يعتِق أو يرِق، فلا أثر لهذا، ولو فرض تعليقُ الأمرِ بنوعٍ من أنواع الغرر سوى القرعة، كتوقُّعِ طائرٍ لا يتصور الإحاطة به، أو ما جرى هذا المَجْرَى من أنواع الخطر، فلا حكم لذلك، والمتبع الإقراعُ الذي نص عليه المصطفى صلى الله عليه وسلم.
ثم الغرض تحكيم القرعة، على وجه لا يبقى فيه خيال المواطأة، والتسبب، ولسنا نضبط وجهاً من القرعة، ولهذا قال الشافعي رضي الله عنه في صدر الباب: " أحب القرعة عندي وأبعدها عن الحيف رقاعٌ صغار ... إلى آخره ".
وقد روي: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر في قسمة بعض الغنائم بالإقراع بالنَّوى، وروي: أنه أمر في بعضها بالإقراع بالبعر (2).
12368 - ثم مقصود الباب وإن كان لا يزيد على ما ذكرناه، ففيه أصول منقسمة: بعضها احتياط، وبعضُها واجب، فلا ينبغي أن يستهان بها، ونحن نذكر ما نرى ذِكْرَه، وغرضُنا مقصورٌ على تمييز الاحتياط عما يجب.
فأول ما نذكره أنه إذا تهيأ تجزئةُ العبيد ثلاثةَ أجزاء - ففي الإقراع مسلكان: أحدهما -
__________
(1) ر. المختصر: 5/ 269.
(2) حديث "أنه صلى الله عليه وسلم أمر في قسمة بعض الغنائم بالإقراع بالنّوى، وروي أنه أمر في بعضها بالإقراع بالبعر" قال ابن الصلاح في مشكل الوسيط: " لا أعرف له صحة، والله أعلم " (ر. مشكل الوسيط - بهامش الوسيط: 7/ 477، التلخيص: 4/ 391 ح 2703).

(19/230)


أن تُكتَب أسامي العبيد في الرقاع: سالم، وغانم، ومبشر، ثم يقال: أخرج على الحرية اسماً، فإذا أخرج اسمُ عبد عَتَقَ ورَقَّ الباقيان.
والمسلك الثاني - أن يكتب الرق والحرية على عدد الأجزاء: الحرية في واحدة، والرق في اثنتين، ثم يقال: أخرج على اسم فلان، فإن خرجت الحرية عَتَقَ ورَقَّ الآخران، وإن خرج الرق عليه رَقَّ، وأخرجنا أخرى، فإن خرج الرق أيضاً، تعين الثالث للحرية، ورق الأولان، وإن خرجت الحرية، عَتَقَ هذا، ورَقَّ الأول والثالث.
وكِتبةُ الأسامي هاهنا أصوب؛ لأنها أقرب إلى فصل الأمر وأيسر؛ لأنا إذا كتبنا أسامي العبيد، نتخلص بالقرعة الأولى إذا كانوا ثلاثة، وإذا كتبنا الرق والحرية، فربما نحتاج في بعض الصور إلى الإقراع مرتين، وقد ذكرنا هذا في باب القسام، وذكرنا تردد الأصحاب، ثم أوضحنا الاتفاق على تجويز الأمرين، ورددنا الكلام إلى الأَوْلى، فقد ثبت في هذا المقام أنا لا نوجب أحد المسلكين.
12369 - والذي يتعلق بما يجب أنا إذا كنا نُعتِق عبداً ونُرق عبدين، ورأينا كِتبة الرق والحرية، فقد قال الأصحاب: الرق ضعف العتق، فيجب أن تكون الرقاع على هذه النسبة، فنكتبُ للحرية رقعةَّ وَللرق رقعتين؛ لتكون الرقاع على نسبة المطلوب في الكثرة والقلة؛ فإن ما يكثر، فهو حَرِيٌّ بأن يسبق إلى اليد، وفي كلام الأصحاب ما يدل على استحقاق ذلك.
ومنهم من يقول هذا استصواب، وإلا فتكفي رقعة في الحرية، وأخرى في الرق، ثم يقال: أخرج إحداهما على هذا، فإن خرجت الحرية، انفصل الأمر.
ولكن إن خرج الرق احتجنا إلى إدراج الرقعة في البندقة مرة أخرى، والأَوْجَه أن هذا احتياط، ولا بد في الوجهين -كُتِبَت (1) أسماء العبيد، أو الرق والحرية- من تحكُّمٍ ممن يُرجع إليه، فإنه يقول: أخرج على هذا.
فلو قال الآخرون: ينبغي أن يخرج على أسمائنا، فإن الذي يبدأ به فقد عُرّض
__________
(1) ت 5: " ثبتت ".

(19/231)


للحرية، وكذلك إن كتبت الأسماء، فقال من إليه الرجوع: أخرج اسماً على الحرية، فهذا تحكُّم، فهلا قال: أخرج اسماً على الرق.
فلو نازع فيه الورثة، وطلبوا الإخراج على الرق، وطلب العبد الإخراج على الحرية، فهذا مما لم يتعرض له الأصحاب، وفيه غائلة، فلا يمتنع أن يقال -لقطع الميل، وحَسْم التحكم إن كتب الرق. والحرية- أَقْرع أولاً بين العبيد، حتى يتعين من يُعرض على الرق والحرية، ثم إذا تعين واحد، أخرج على اسمه الرق أو الحرية.
فهذا وجه.
والآخر أن يكتب للرق رقعتان وللحرية رقعة، ثم يلقي إنسان لم يكن في الأمر إلى كل عبد رقعة، فهذا تحكيم القرعة في حقه.
فأما إذا قيل: أخرج باسم هذا، فقد قدّم، والتنافس في التقديم والتأخير تميز في القرعة، فهذا ما أردنا التنبيه عليه.
والأصحاب لم يذكروا هذا لا في وجوبٍ ولا في استصوابٍ.
12370 - ومما يتعلق بما نحن فيه أن العبيد إذا أمكن تجزئتهم ثلاثةَ أجزاء والغرض تمييز الثلث عن الثلثين، فلا معدل عن هذا الضرب من التجزئة.
وإن كانوا على عدد وتفاوت في القيمة، بحيث لا يتأتى تجزئتُهم ثلاثةَ أجزاء، ففي المسألة قولان: أحدهما - أنه يجوز تجزئتهم على غير التثليث، فيجزؤون على ما يسهل ويقرب، كما سنصف، فإن كانوا سبعة، وكان الأيسر أن نجزئهم سبعة أجزاء، فعلنا، وفي الثمانية نفعل الأيسر ونجزّئهم ثمانية أجزاء، ونكتب ثماني رقاع، وإن سهل تجزئتهم أربعة أجزاء، فعلنا وجمعنا في كل جزء اسمَ عبدين. ثم إذا خَرَجَت قرعةُ عبدين للحرية، أُعتقا، وأعدنا القرعة بين الباقين على ما يتيسر حتى نستوظف الثلث.
والقول الثاني - أنه لا يجوز إلا التثليث، أو مقاربةُ التثليث، على أقصى الإمكان؛ لأن القصد إعتاق الثلث، ففي السبعة نجعل اثنين جزءاً، واثنين جزءاً، وثلاثة جزءاً، إذا كان هذا أقرب. وفي الثمانية نجعل ثلاثةً في قرعة، وثلاثةً في قرعة، واثنين في

(19/232)


قرعة، ونعوّل في هذا التقريب تعديلَ القِيَم، فقد يقتضي الحال جعلَ عبدين في قرعة وعبيد في قرعة.
ثم على القول الأول إن جعلنا الثمانية أرباعاً، فعَتِق اثنان، أعدنا القرعة بين الستة، وجعلنا كل اثنين في قرعة، فإذا خرج اسم اثنين، فنعيد القرعة بينهما إذا كانت القيم متساوية، فمن خرجت عليه قرعة الحرية منهما عَتَق منه تكملةُ الثلث، وهو ثلثاه.
ثم ما ذكره القاضي أن هذا الاختلاف في الاستصواب، وما ذكره الصيدلاني أن القولين في استحقاق هذا، ثم التقريب من الثلث مجوّز على القولين.
فأما التجزئة على الأيسر من غير مراعاة التقريب من التثليث ففيه القولان، والوجه عندنا القطع بأن هذا تردُّدٌ في الأصوب، لا فى الاستحقاق.
ولو أعتق عبدين لا مال له غيرُهما، فلا وجه إلا أن نجعلهما سهمين، فمن خرج عليه سهمُ الحرية، عَتَقَ منه مقدار ثلث التركة، وهذا باب يتبرم بالتطويل فيه كل محقق، وغرض الباب ما نبهنا عليه.
12371 - ثم قال: " وإن كان عليه دين يحيط ببعض رقيقه ... إلى آخره " (1).
إذا كان في التركة دينٌ وعِتقٌ، فالمطلوب ثلاثة أشياء: الدينُ، والعتقُ، وحقُّ الورثة، والكلام مفروض فيه إذا لم يكن الدين مستغرقاً، فإنه إذا استغرق، بطل به العتق، وحق الورثة.
ثم قال الأئمة: إذا لم يكن الدَّيْن مستغرقاً، أقرعنا بين الدَّيْن والتركة أولاً، فنميز الدين ما يخرج عليه القرعة، والدين وإن كان مقدماً على حق الورثة، فالقرعة إذا ميّزت شيئاً للتركة -وفيها العتق وحق الورثة- فمن ضرورتها أن تميز الدين، فإن أحد السهمين إذا تعين لجهة، تعين الآخر للجهة الأخرى إذا تعينت جهتان.
فإن قيل: هلا قدمتم الدين تحكماً؟ قلنا: لا غرض في هذا، ولا سبيل إلى إبطال العتق من غير غرض.
__________
(1) ر. المختصر: 5/ 270.

(19/233)


ثم لو كان الدين ثلثاً مثلاً، والعتق مقداراً يخرج من الثلث بعد الدين، فأردنا أن نثُبتَ ثلاثَ رقاع: واحدة للدين، وواحدة للعتق، وواحدة للورثة، ففي جواز ذلك وجهان: أحدهما - أنه يجوز؛ فإنه لا ينتقص بما نفعله حقٌّ. والثاني -وهو الأصح- أنه لا يجوز؛ لأن قرعة العتق ربما تخرج أولاً، فإن لم نحكم بها، فقرعة باطلة، وإن حكمنا بها، فقد نفذنا الوصية، والدينُ بعدُ قائم، وهذا لا وجه له.
ثم الذي نراه في ذلك أنا إذا فرّعنا على الوجه الصحيح بين الدَّين والتركة، فخرجت قرعة الدين على عبدٍ، وكان فيه غُنية، فلا ينبغي أن نُقرع للعتق ما لم نؤدِّ الدين؛ فإن الدين لا يزول بتعين مالٍ له؛ بدليل أن ما يُعيَّن له لو تلف قبل التسليم، انعكس الدين على ما بقي من التركة، فلا وصية ولا ميراث ما بقي من الدين درهم.
ولو قيل: نُخرج القرعةَ على الحرية، ثم لا يقع الحكم على البت إلى تأدية الدين، فهذا فيه نظر؛ فإنها قرعة لا نفاذ لها، ووضع القرعة ألا تنشأ إلا في وقت ينفصل بها الأمر.
وهذا التردد في مضمون هذا الفصل دائر على [الوجوب] (1)، لا على الاستصواب. وهذا سر الباب. وهو تمييز الاحتياط عن الاشتراط.
12372 - ثم قال: " فإن ظهر عليه دين بعد ذلك ... إلى آخره " (2).
إذا أعتقنا واحداً بالقرعة، ولم ندر أن في التركة ديناً، ثم ظهر دين فإن كان مستغرقاً، فالعتق مردود، وإن لم يكن مستغرقاً، وكان تأدية الدين ممكناً مع تنفيذ العتق، فهل تُنْقَضُ القرعة؟ وهل تُردُّ الحرية؟ في المسألة قولان، وهذا بعينه هو الذي مهدناه في باب القسام، إذا (3) قلنا: إذا جرت قسمةٌ ثم ظهر دين، فالقسمة هل يتبين انتقاضها؟ أم يمكن تقريرها؟ وقد سبق تمهيد هذا، وسيأتي في فروع ابن الحداد كلام جامعٌ فيما يَنْفُذ من التصرفات في التركة مع الدين، وفيما يمتنع نفوذه.
__________
(1) في الأصل: " الوجوه "، والمثبت من (ت 5).
(2) ر. المختصر: 5/ 270.
(3) إذا: بمعنى " إذ ".

(19/234)


12373 - ثم قال: " فإن أعتقت ثلثاً وأوقفت ثلثين بالقرعة، ثم ظهر له مال ... إلى آخره " (1).
إذا أعتق عبيداً، وكنا نحسب أنه لا مال له غيرهم، فأعتقنا واحداً وأرققنا اثنين على ما يقتضيه التثليث، وقيمة كل عبد مائة، فلو ظهر له مائة درهم، أعدنا القرعة بين اللذين أرققناهما، وقد مضى العتق فيمن أعتقناه، فمن خرجت عليه القرعة مِن العبدين، حكمنا بعتق ثلثه، وإن ظهر له مائتا درهم، أعتقنا من أحد العبدين ثلثيه، وإن ظهر له ثلاثمائة درهم، أعتقنا كله مع ما أعتقنا أولاً، ولا يخفى هذا.
ثم اندفع الأصحاب في مسائل دورية تتعلق بالكسب، وزيادة القيمة ونقصانها، وقد جمعنا في كتاب الوصايا ما لا يُحْوِجُ إلى الإعادة، وجمعنا ما يتعلق بالحساب من مسائل الفقه في موضع واحد، فليتأملها من يريدها. والله أعلم.
فصل
12374 - إذا أعتق عبداً لا مال له سواه في مرض موته، فمات المعتَق قبل موت المعتِق، فهذا مما ذكرته في أثناء دَوْر الوصايا، ولكني أعيده لمزيدٍ فقهيّ، فأقول: حاصل ما ذكره الأصحاب في ذلك ثلاثةُ أوجه: أحدها - أنا نحكم بأنه مات حراً كله، لأنه ليس يبقى هاهنا شيء، ولو كان على الرق، لما كان موروثاً؛ إذ مات قبل موت المورِّث، لأن حق الوراثة إنما يثبت فيما يخلّفه المتوفى.
والوجه الثاني - أنه مات رقيقاً كله، لأنه إنما يخرج بالوصية مثل نصف ما يبقى للورثة، والعتق في المرض وصية، وإذا كان لا يبقى للورثة شيء لا ينفذ من العتق شيء.
وقال القفال: يموت ثلثه حراً، وثلثاه رقيقاً؛ لأنه لو عاش، عاش على الرق والحرية، فإذا مات مات عليهما.
وإذا أعتق في المرض عبداً، وله مال سواه، فمات المعتَق قبل موت المعتِق، قال
__________
(1) ر. المختصر: 5/ 270.

(19/235)


جماهير الأصحاب: لا يحسب ذلك العتق من الثلث، حتى يزاحم أرباب الوصايا، بل نجعل كأن ذلك العبد لم يكن؛ لأن الوصية إنما تتحقق بالموت، فإذا لم يبق إلى الموت، لم يدخل في حساب، وهذا مذهب من يقول في المسألة الأولى إذا أعتق عبداً لا مال له سواه ومات قبل مولاه، فهو حر كله، أو رقيق كله، فأما على طريقة الشيخ (1) فحكمه بعد ما مات كحكمه لو بقي حياً، فعلى هذا يُحسب من الثلث، ويُزاحِم أرباب الوصايا.
ولو وهب عبداً، وأقبضه، فتلف في يد المتهب قبل موت الواهب، ولم يكن للواهب مال غيره، فتلفه في يده بمثابة ما لو أعتقه ومات قبل موت المولى؛ فإن الهبة تبرع كالعتق، ولو وهبه وسلّمه وله مال غيره، فتلف في يد المتهب، فهو كما لو أعتقه، وله مال غيره، فتلف، فالتلف بعد تمام الهبة في الصورتين، حيث لا مالٌ غيُر الموهوب، وحيث يثبت مالٌ غيرُه بمثابة الإعتاق.
ولو وهب العبدَ وسلمه، فأتلفه الموهوب، فهو كما لو كان باقياً، حتى إن كان سواه مال، حسب الموهوب من الثلث، وإن لم تخرج قيمته من الثلث يجب عليه أن يغرم للورثة ما يزيد على الثلث.
فإن قيل: هلا جعلتم التلف في يده بمثابة إتلافه؟
قلنا: إذا تلف في يده، فقد تلف لا على جهة الضمان، فإن الهبة ليست مضمّنة، والإتلاف مضمِّن على كل حال.
وهذا فيه نظر للمفكر؛ فإنا إذا كنا على وجه نحسب المعتَق الذي مات قبل موت المولى من الثلث، يجب طرد ذلك الموهوب الذي مات في يد الموهوب له قبل موت المَوْلى، ثم إذا حسبنا من الثلث، فمعناه أن الثلث لو ضاق عن احتماله، فالزائد على الثلث يكون باقياً في يده لغيره، وإن كان على حكم الهبة، فهو بمثابة ما لو وهب الغاصب العينَ المغصوبةَ وقبضها الموهوب له على ظن أن الواهب مالك، فإذا تبين
__________
(1) الشيخ: المراد به هنا: القفال.

(19/236)


بخلاف ذلك، فقد نقول -على قول صحيح- يستقر الضمان على الموهوب له، ثم إن قطع تبعة الضمان في التلف، جاز ذلك في الإتلاف.
الدليل عليه أن الواهب في [حياته] (1) لا يطالب الموهوب منه، سواء تلف في يده، أو أتلفه، فقد تبين وجه التردد في المسألة.
12375 - ولو أعتق ثلاثةَ أعبد، قيمةُ كل واحد مائة، فمات واحد منهم قبل موت المعتِق، فالذي أطلقه الفقهاء والدَّوريّون أنا ندرج الميت في القرعة؛ حتى لو خرجت القرعة على الميت، بان أنه مات حراً.
وهذه المسألة تناقض المسألة الأولى؛ فإنا بنينا كلامنا فيما تقدم على أن الميت كالفائت؛ من حيث إنه لا يبقى للورثة لو قُدّر رقيقاً؛ فالذي يقتضيه القياس أن نقول: إذا مات واحد من العبيد الذين أعتقهم، أخرجناه من البَيْن على قياسنا في العبد الواحد، وجعلنا كأنه أعتق عبدين لا مال له سواهما، أو له مال غيرهما، ومن رام فرقاً في ذلك لم يجده. نعم، لو أعتق عبيداً، ثم نقصت قيمة واحد منهم، فلا شك أنا ندرجه في القرعة، فلو خرجت القرعة عليه، فالمقطوع به للأصحاب أن ذلك النقصان غير محتفل به؛ فإن القرعة إذا اقتضت حرية في شخص، فالحر لا تنتقص قيمته، وهذا مما استقصينا القول فيه في قاعدة الدور، والمسألة من غمراته.
ولو أعتق ثلاثة أعبد وجرينا على ما ذكره الأصحاب في إدخال الميت في القرعة، وقد مات منهم عبد قبل موت المولى، فالحكم ما قدمنا.
وإن قتل، فخرجت القرعة على المقتول، فعلى القاتل الدية لورثته، فإنا تبيّنا أن القتل صادف حراً، وإن خرجت قرعة الحرية على أحد الحيين عَتَقَ، وعلى قاتل العبد القيمة، والقيمة تركة.
12376 - ومما ذكره الأصحاب أنه إذا أعتق ثلاثة أعبد كما ذكرناه، لا مال له غيرهم ومات المريض، ثم مات أحد العبيد بعد موته - قال الأصحاب: إن حصل
__________
(1) في الأصل: " في حقوقه ". والمثبت من (ت 5).

(19/237)


الموت ويد الوارث غيرُ واصلة إلى التركة، وكان مَحُولاً (1) دون العبيد، لم يحسب الميت عليه، حتى إذا وقعت القرعة على أحد الحيين عتق ثلثاه؛ فإنه لم يَسْلَم للورثة ما فات، فإن خرجت القرعة على الذي مات، فهو الحر، والعبدان الباقيان الثلثان.
فإن قتل أحد العبيد بعد موت المعتق، فقيمته معتبرة قائمة مقام [العبد] (2)، فإن خرجت القرعة على الميت، حكم بعتقه (3)، وعلى القاتل الدية.
فإن مات واحد منهم كما ذكرناه، والتركة في يد الوارث، فقد ذكر الأصحاب وجهين: أحدهما - أنه غير محسوب على الوارث، كما إذا تلف والتركة خارجة عن يد الوارث، حتى إذا خرجت القرعة على أحد الحيّين، عَتَق ثلثاه فحسب، وذلك لأن الحيلولة الشرعية واقعة من حيث إنه ممنوع من التصرف فيهم قبل تفصيل الأمر وإخراج سهم العتق.
والوجه الثاني - أن الميت محسوب على الورثة، لأنه تلف في أيديهم، وهذه المسألة مما يجب الاعتناء بأطرافها والاستمداد فيها بما ذكرناه في صور الدَّوْر عند فرض النقصان في قيمة العبد. ولم نغادر نحن شيئاً من البيان والتنبيه. ولكن الأمر على ما وصفناه.
فصل
قال: " ولو قال في مرضه: سالم حر، وغانم حر ... إلى آخره " (4).
12377 - التبرعات المنجزة في مرض الموت يقدم الأسبق منها، فالأسبق، حتى إذا أعتق عبيداً على الترتيب، كلُّ واحدٍ ثُلثُ ماله، عَتَقَ الأول منهم، وَرَقَّ الباقيان، ولا قرعة، وإنما تجرى القرعة إذا أعتقهم جمعاً.
__________
(1) أي كانت هناك حيلولة بين الورثة والعبيد، فلم يَفُت العبد الذي مات وهو تحت يده.
(2) في النسختين: " العبيد ".
(3) ت 5: " فلم نعتِقُه "؟ (بهذا الرسم وهذا الضبط).
(4) ر. المختصر: 5/ 271.

(19/238)


ثم ما ذكرناه جارٍ في جميع التبرعات إذا انتهت نهاياتها.
فلو أعتق، ثم حابَى، فالعتق مقدم، ولو حابى، ثم أعتق، فالمحاباة مقدمة، ولو وهب وسلم، ثم أعتق، فالهبة مقدمة؛ طرداً للقياس في جميع التبرعات.
ولو وهب ولم يسلم، ثم حابى، فالمحاباة مقدمة، ولا اعتبار بالهبة من غير إقباض، ولأبي حنيفة تفصيل في المحاباة والعتق، لسنا له بعد ما أوضحنا مذهبنا.
ثم قد أجرينا في مسائل الطلاق (1) وغيرها أموراً متفرعة على هذه القاعدة. فلو قال: سالم حر، وغانم حر، فقد قدم سالماً في إيقاع العتق به، ولا نظر إلى أن الواو لا تُرتّب، وهو كما لو قال لامرأته التي لم يدخل بها: أنت طالق وطالق؛ فإنه لا تلحقها إلا الطلقة الأولى.
ولو أوصى بإعتاق سالم بعد موته، ثم أوصى بعد ذلك بإعتاق غانم، وجرت إحدى الوصيتين بعد الأخرى من طريق الزمان؛ فإذا ضاق الثلث، أدخلنا جميع العبيد في القرعة، ولا حكم للتقدم والتأخر في الوصايا، والسبب فيه أن الموت يجمع الوصايا، وإنما تنفذ عند الموت، فلا حكم لترتيب ذكرها والموت جامعها إلا أن يصرح باعتبار التقديم في بعضها، كما مهدنا ذلك في الوصايا.
واختلف أصحابنا في صورةٍ، وهي أنه لو دبّر عبداً، وأوصى بإنشاء عتق عبد آخر بعد موته، فالتدبير يقتضي وقوعَ العتق في المدبر بالموت من غير إيقاع، والعتق الموصى بإنشائه يستأخر وقوعه عن الموت لا محالة، فهل يقدم عتقُ المدبر على العتق الموصى به؟ ذكر صاحب التقريب في ذلك وجهين: أحدهما - أنا نقدم عتق المدبر فيما نبهنا عليه، ولعل الأصح أن لا تقديمَ؛ فإن العتق الموصَى به يصير مستحقاً بالموت، فليقع التعويل على الاستحقاق، لا على الإنشاء.
وليت شعري ماذا يقول صاحب الوجه الأول فيه إذا قال: أعتقوا يوم موتي عبداً، وأعتقوا بعد موتي بشهر عبداً، والعلم عند الله.
__________
(1) ت 5: " مسائل الرقاب ".

(19/239)


فصل
قال: " ولو قال لعشرة أعبد: أحدكم حر ... إلى آخره " (1).
12378 - إجمال العتق بين عبيد بمثابة إجمال الطلاق بين نسوة، وقد قدمنا مسائل إبهام الطلاق في بابٍ من كتاب الطلاق، وأتينا فيه بما يجب، ولكنا نظن أن ذكر إبهام العتق [لا يضرّ، والتزام الإعادة] (2) لتوقع مزيد إفادةٍ أولى.
فنقول: إذا أعتق عبداً من عبيد، فقال: أحدكم حرْ، لم يخلُ إما أن يُطلق ولا ينوي أحدَهم بالقلب، أو ينوي بالقلب واحداً منهم، فإن نوى واحداً منهم عَتَقَ ما نواه، وكان المعيّن بالنية كالمعين لفظاً، ثم ننظر.
فإن أبهم، ثم عيّن، وزعم أن من عينه ذكراً، هو الذي نواه عقداً، فإن صدقه العبيد، فلا كلام، وإن كذّبوه، فالقول قوله مع يمينه؛ فإن النية عاملةٌ وفاقاً، والرجوع في تفصيل النية إلى الناوي، وهذا أصل ممهد.
وإن نكل عن اليمين، حلف من يدعي أنه عناه، وعَتَق الأول بإقراره، والثاني بنكوله وردِّ اليمين، ولسنا نتعدى هذا الحد، فنقع في المعادات قطعاً.
12379 - ولو أبهم العتقَ، وجب عليه البيان؛ حتى إذا امتنع منه، حُمل عليه بالحبس، وهذا عندي فيه إذا لم يعيِّن بقلبه أحداً، وكان تعيينه موكولاً إلى مشيئته، فإذا امتنع، صار كالذي يسلمُ على نسوة زائدات على العدد الإسلامي؛ فإنه مجبر على أن يعين عددَ الإسلام.
ولو قال: عيَّنت بقلبي واحداً من العبيد، وهو على ذُكري، فهو مجبر أيضاً، وإن قال: عينت بقلبي، ثم أُنسيت من عينته حالةَ اللفظ، فهل يحبس والحالة هذه؟ هذا فيه احتمال. والذي أطلقه الأصحاب الحبس. وعندي أني ذكرت ذلك في مسائل إبهام الطلاق.
__________
(1) ر. المختصر: 5/ 271.
(2) في الأصل: " لا يورد التزام الإعادة ". والمثبت من (ت 5).

(19/240)


ولو أبهم العتق بين جاريتين، ثم وطىء إحداهما، فإن كان عيّن بقلبه واحدة منهما، فلا يكون الوطء بياناً؛ لأن المعتقة معلومة له، فلا أثر للوطء في التعيين، فإن زعم أن الموطوءة هي التي لم أردها بالعتق، صُدّق لقوله لا للوطء، فإن قال: عنيت بالعتق التي وطئتها، فقد وطىء حرة، ولا يخفى الحكم.
وإذا نوى بالقلب كما ذكرناه، فالوارث يقوم مقامه في البيان، كما ذكرنا بناء على سماعه منه، وهذا فيه إذا عين بقلبه، ولو قال الورثة: لا نعلم، وقد سمعناه يقول: عيّنْت بقلبي، فليس إلا الوقف إلى البيان.
ولو لم يعين بقلبه أحداً، بل أطلق إبهام العتق، فإليه التعيين، ثم التعيين إلى إرادته، وليس هذا من البيان في شيء، ولو عين واحداً، لم يكن للباقين منازعته، والدعوى عليه، وهذا واضح.
12380 - ثم إذا عيّن واحداً وكان الإعتاق مطلقاً، لا نية معه، فالعتق يقع يومَ اللفظ أو يوم التعيين؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنه يقع يومَ اللفظ؛ فإن العتق يستدعي لفظاً يقع به؛ بدليل أنه لو أطلق ولم يعين بقلبه، ثم عين من بعدُ بقلبه، لم يؤثر تعيين القلب إذا تأخر عن اللفظ، فدلّ أن اللفظ لا بدّ منه.
والوجه الثاني - يقع العتق [يوم اللفظ ويتبيّن المحلّ يومَ التعيين] (1). وعبر الأئمة عن الوجهين، فقالوا: نقول في وجهٍ، العَتاق واقع في عين (2)، ونقول في وجهٍ، هو ملتزم في الذمة مستحَقُّ الإيقاع في واحد من هؤلاء، فعلى هذا يقع يومَ التعيين.
ولو أبهم العتقَ بين عبدين، ولم يعين بقلبه، فإذا مات أحدهما، فهل له تعيين العتق في الميت؟ فهذا يخرج على الوجهين: إن قلنا: العتق يقع يوم التعيين، فلا سبيل إلى ذلك؛ لأن الميت لا يقبل العتق، فعلى هذا يتعين له من بقي، ولا حاجة إلى لفظه.
__________
(1) عبارة الأصل: " يقع العتق بيوم اللفظ، ويبيّنُ اليومَ يومَ التعيين ". بهذا الرسم وبهذا الضبط، والمثبت عبارة (ت 5).
(2) ت 5: " في غيره ".

(19/241)


وإن قلنا: العتق وقع باللفظ، فتعيين الميت له جائز؛ فإنه مستند إلى ما قبل الموت، والتعيين بيان.
12381 - وإذا أبهم العتقَ بين جاريتين من غير نية بالقلب، ثم وطىء إحداهما، فهل يحصل بالوطء التعيين؟ فعلى وجهين: وهما جاريان في إبهام الطلاق من غير تعيين بالقلب، وأبو حنيفة (1) يفصل بين إبهام العتاق وإبهام الطلاق، فيجعل الوطء [تعييناً] (2) للطلاق، ولا يجعله تعييناً للعَتاق، ولا فصل عندنا في إجراء الوجهين.
ثم إن جعلنا الوطء تعييناً، فلو استمتع فيما دون الفرج، أو قبّل، أو لمس بالشهوة، فهل يقع التعيين بهذه الجهات من الاستمتاعات؟ فعلى وجهين مرتبين على الوطء. ثم إن جعلنا هذه الضروب تعييناً، فهل نجعل الاستخدام تعييناً للملوكة؟ فعلى وجهين مرتبين على الاستمتاع. هكذا ذكره القاضي. وهذا يوجب لا محالة طردَ الخلاف في أن الاستخدام هل يكون فسخاً أو إجازة في زمان الخيار، وكان قَرَعَ مسامعي هذا التردد من الخلافيين، حتى وجدته مصرَّحاً به للقاضي.
12382 - وإذا كان العتق المبهم مطلقاً، لم يقترن به تعيين القلب، فلو مات المبهِم قبل البيان، فالورثة هل يقومون مقامه؟ فعلى قولين: أحدهما - أنهم يخلفونه في البيان والتعيين؛ لأن ذلك كان من حق المبهِم في حياته، وهو متعلق بالأموال، فيخلفه الوارث فيه. والقول الثاني - أن الوارث لا يقوم مقامه؛ فإن التعيين في حكم تكميل اللفظ، فينبغي أن يصدر من المتلفظ بالعتق لا غير، والقولان يقربان مما ذكرناه في أن التعيين إيقاعٌ أو بيان مستبد (3)، فإن جعلناه إيقاعاً، فقد قال القاضي: يقوم الوارث فيه مقام الموروث، فإنه يوقع العتق عن الموروث بأمره أو بتأدية كفارة عنه.
__________
(1) ر. بدائع الصنائع: 4/ 103، 104، تحفة الفقهاء: 3/ 393، طريقة الخلاف: 155 مسألة: 65، إيثار الإنصاف: 2/ 393.
(2) في الأصل: " تبييناً "، والمثبت من (ت 5).
(3) ت 5: "مستند".

(19/242)


وإن قلنا: هو التزام، والتعيين ليس إيقاعاً، فالوارث لا يقوم مقامه.
ْوهذا عندنا بالعكس أولى؛ فإنا إن جعلناه إيقاعاً، فهو تتمة اللفظ، ولا يجوز أن ينقسم لفظ في الإيقاع بين شخصين، ولا حاجة عندي إلى هذا البناء. ولو قيل: يجري القولان على المسلكين، لم يبعد، وهما مستقلان بالتوجيه من غير بناء.
ثم إن أقمنا الورثة مقامه في التعيين، فلا كلام، وإن لم نُقمهم مقامه، فلا طريق إلا الإقراع، فمن خرجت عليه قرعة الحرية نزلت القرعة منزلة التعيين.
***

(19/243)


باب عتق من يعتق بالملك
قال: " من ملك أحداً من آبائه وأمهاته ... إلى آخره " (1).
12383 - من ملك أباه أو ولده أو أمه، عَتَقَ عليه، وهذا لا يتعلق بكل قرابة، بل كل شخصين بينهما بعضية، فهذا المعنى جارٍ بينهما، فالأصل يعتِق على الفرع، والفرع على الأصل، ولا يختص بذلك قريبٌ عن بعيد، ولا وارثٌ عمن لا يرث، والتعويل على البعضية، ورب حكم يتعلق بالوالد والولد، ثم يضطرب الأصحاب في أن غير الوالد هل يقوم مقام الوالد، كالرجوع في الهبة على ما تقدم في موضعه، وليس هذا الذي نحن فيه محل توقع الخلاف أصلاً، بل العتق جارٍ بالبعضية، كما يجري استحقاقُ النفقة متعلقاً بها، ولا يَعْتِق قريبٌ على قريب إذا وقعا حاشية من عمود النسب، فلا يعتِق أخ على أخ؛ طرداً لذلك في جميع القرابات الذين لا بعضية بينهم، وخلاف أبي حنيفة (2) في ذلك مشهور.
فصل
قال: " ومن ملك شقصاً من أحد منهم بغير الميراث ... إلى آخره " (3).
12384 - إذا ملك الرجل شقصاً من عمودي نسبه عَتَقَ عليه، ولا ننظر إلى جهة حصول المِلك.
ومقصود الفصل الكلامُ في أن العتق هل يسري؟ وضبط المذهب في النفي
__________
(1) ر. المختصر: 5/ 271.
(2) ر. رؤوس المسائل: 539 مسألة: 397، طريقة الخلاف: 144 مسألة: 60، إيثار الإنصاف: 182، الغرة المنيفة: 165، حاشية ابن عابدين: 5/ 64.
(3) ر. المختصر: 5/ 271.

(19/244)


والإثبات: أنه إن ملك الشقص مِلْكَ اكتساب واختيار، وكان الملك مقصوداً في تلك الجهة، فإذا حصل العتق فيه، والمتملك موسرٌ، سرى العتق من ذلك الشقص إلى الباقي. فإذا اشترى، أو اتهب، أو أوصي له، فقبل، سرى العتقُ إذا كان موسراً.
وإن حصل الملك في ذلك الشقص لجهةٍ ضرورية كالإرث، عتق ما ملك، ولم يقوّم عليه الباقي، باتفاق الأصحاب.
وإن أُوصي له ببعض أبيه، ومات الموصي، ثم مات الموصى له قبل القبول، فِمن الأصول الممهدة في الوصايا أنا نقيم وارث الموصى له مقام الموصى له في القبول عنه، ومن الألفاظ الجامعة في ذلك أن قبول الوارث ينزل منزلة قبول الموروث الموصى له، والقول في ذلك يليق بقاعدة عظيمة من الوصايا سبقت على أبلغ وجه من البيان في موضعها، ولكنا نذكر مقدار غرضنا الآن من هذا الفصل.
فنقول: إذا مات الموصى له قبل القبول، وقد أُوصي له ببعض أبيه، فإن قبل الوارثُ، فإن كان في ثلث الموصى له وفاء بقيمة الباقي، قوّم عليه، لما ذكرناه من تنزيل قبول الوارث منزلة قبوله، ويصير كأنه تولى القبول بنفسه.
وفي هذا وقفة على المتأمل؛ من جهة أن القبول حصل من غير اختيارٍ إلى (1) الموصى له، وقد ذكرنا أن الملك إذا حصل في شقصٍ، لا على جهة الاختيار، فلا تقويم ولا سراية، ولكن الأصحاب ذكروا ما قدمناه، وقطعوا القول به لما أشرنا إليه.
وإنما يحسن فرض هذه المسألة، حيث يعتق ذلك الشقص على الميت، ولا يعتق على وارثه، مثل أن يوصى له ببعض [ابنه] (2) وأخوه وارثه، فإذا مات، ولم يقبل، وقبل أخوه، فالأمر على ما ذكرناه نقلاً واحتمالاً.
ولو أُوصي للرجل بقسطٍ ممن لا يَعتِق عليه، ولكن كان يَعتِق على وارثه، وذلك بأن يوصى له ببعضٍ من ابن أخيه، وأخوه وارث، فمات ولم يقبل، ثم قبل أخوه وهو
__________
(1) ت 5: " من غير اختيار الموصى له ".
(2) في (ت 5): " ببعض أبيه ".

(19/245)


الوارث، فلا شك أن ذلك القدر يعتق، وفي تقويم الباقي على هذا الوجه وجهان:
أحدهما - يقوّم، لأنه اختار تملكه، وتسبّب إليه. فصار كما لو اشترى أو اتهب، أو قبل وصيةً كانت له.
والوجه الثاني - أنه لا يقوّم عليه؛ لأن قبوله يدخله في ملك موروثه، ثم ينتقل الملك إليه إرثاً، فلا يتجرد القصد.
ولو باع الرجل بعضَ ابن أخيه بثوبٍ، ثم مات، وأخوه وارثه، والثوب في التركة، فلو ردّ مشتري الشقص ما اشتراه بعيب وجده، واسترد الثوبَ، عَتَقَ ذلك القدرُ، ولا يقوّم الباقي عليه، لأن هذا الشقص ارتد إلى ملكه ضرورة.
ولو أن هذا الوارث اطلع على عيبٍ بالثوب، فرده، وعاد إليه الشقص من ابنه، وعتق عليه، ففي تقويم الباقي عليه وجهان: أحدهما - أنه يقوم عليه لتسببه إلى ملك الشقص بطريق الرد. والثاني - أنه لا يعتق عليه، لأن مقصوده ردُّ الثوب، وعين المسترد ليس مقصوداً، بدليل أن الرد في الثوب يجري، والمستَردُّ تالف، ثم الرجوع إلى قيمته. فهذا إذاً من الصنف الذي قدمناه.
وإذا مَلك المكاتب بعض ابن مولاه، أو بعض أبيه، فلو عجّز المكاتَب نفسه، عاد ذلك القدر إلى المولى، وعتق عليه، ولا يقوّم عليه الباقي، وإن عجّزه السيد، ففي تقويم الباقي عليه وجهان: أحدهما - يُقوّم عليه لاختياره، والثاني - لا يقوّم، لأن قصده التعجيز، وعودُ ذلك القدر يحصل ضمناً. فقد تمهد محل الوفاق والخلاف في ذلك.
فصل
قال: " وإن ورث منه شقصاً .... إلى آخره " (1)
12385 - المريض إذا ورث شقصاً ممن يعتق عليه، وهو في مرض موته، فهل نقول: العتق فيما ملكه من ثلثه؟ في المسألة وجهان:
__________
(1) ر. المختصر: 5/ 271.

(19/246)


أحدهما - أنه من ثلثه، لأنه عتقٌ ترتب على حصول الملك في مرض الموت، فأشبه ما لو اتهب المريض عبداً، ثم أعتقه، فالعتق من ثلثه -وإن كان استفاده بتبرع عليه-.
والوجه الثاني - أن العتق في الشقص الموروث لا يكون محسوباً من الثلث لعلتين: إحداهما - أنه ملك حصل بغير اختيار، والعتق فيه ضروري حيث يحصل، فهو خارج عن قبيل التبرعات، بل هو عتق مستحق شرعاً في ملكٍ ثابتٍ شرعاً، هذا أحد المعنيين. والمعنى الثاني - أنه ملك لم يَبْذُل في مقابلته عوضاً.
ولو اتهب من يعتق عليه، أو قَبِله وصيةً، وهو في مرض موته، فالعتق هل يحسب من ثلثه؟ في المسألة وجهان مرَتبان على الوجهين فيما يحصل إرثاً، فإن قلنا: ما حصل إرثاً، فالعتق فيه محسوب من الثلث، فلأن يحسب ما نحن فيه من الثلث أولى.
وإن قلنا في الموروث: إنه لا يحسب من الثلث، فهاهنا وجهان مبنيان على المعنيين. ولا يخفى وجه التلقي منهما.
12386 - ومما ينبني على ذلك أنه لو ورث ابنه في مرضه، ثم مات المريض، فهل يرثه الابن الذي عَتَقَ عليه؟ هذا يخرج على الخلاف الذي قدمناه في أن العتق الحاصل بهذه الجهة هل يكون محسوباً من الثلث أم لا؟
فإن قلنا: لا يحسب من الثلث، ورثه الابن، وإن قلنا: العتق محسوب من الثلث، لم يرث، لأن العتق وقع وصية له، فلو ورّثناه، لاقتضى ذلك ردّ الوصية، وفي ردها إرقاقه وإخراجه عن كونه وارثاً.
وإذا ورث ابنَه أو أباه، كما صورناه، ولا مال له سواه، فكم يعتق منه؟ في المسألة وجهان: إن قلنا: إنه من الثلث، عَتَقَ ثلثُه، ورق ثلثاهْ للورثة، وإن قلنا: هو من رأس المال، عتق كله.
فإن قيل: لم تذكروا خلافاً فيه إذا اتهب عبداً في مرضه وأعتقه؟ قلنا: لأن ذاك تبرع منشأ على الاختيار في ملكٍ حاصل، ولو ورث عبداً وأنشأ إعتاقه في مرضه، فلا

(19/247)


خلاف أيضاً في احتسابه من الثلث، ولا خفاء بذلك.
ولو ورث في مرضه أباه وعليه ديون مستغرِقه، فهل يعتِق عليه؟ إن قلنا: هو محسوب من الثلث، لم ينفذ العتق، وإن قلنا: العتق محسوب من رأس المال، نفذ، ولم ينافه الدين.
ولو اشترى المريض أباه، وعليه ديون مستغرِقة بثمن المثل، فقد اختلف أصحابنا في المسألة: فمنهم من قال: يصح الشراء، ولا يعتِق عليه، بل يباع في دينه؛ فإنه من أهل التملك؛ فصح تملكه، وامتنع العتق لمكان الدين، والوجه الثاني - أنه لا يصح الشراء أصلا؛ فإن شراء الأب عقدُ عَتاقة، فإذا لم يمكن تحصيل العَتاقة، وجب إبطال العقد.
وإذا لم يكن على المريض دين، فاشترى من يعتِق عليه، فالعتق يحصل من ثلثه، ولا يرث الأبُ في هذه الصورة؛ فإن العتق يقعُ وصيةً، وجهاً واحداً، وهذا إذا اشتراه بألف وقيمته ألف، فالأمر على ما ذكرناه، وإن اشتراه بخمسمائة، وقيمته ألف، فالمحاباة ليس في مقابلتها إخراج مال، فذلك القدر من المشترى ينزل منزلة ما لو اتهب من يعتق عليه في مرضه، وقد ذكرنا في أنه هل يحسب من الثلث وجهين، والمقدار الذي يقابل العوض يحسب من الثلث.
فصل
قال: " وإن وُهب لصبي من يعتق عليه ... إلى آخره " (1).
12387 - وإذا وُهب من الصبي أبوه، أو أُوصي له به، هل يقبله القيم؟ نظر: إن كان الصبي معسراً، قبله القيّم، كسوباً كان الأب أو زَمِناً، ثم إذا أيسر، أنفق عليه، وتوقُّع اليسار للطفل لا يمنع القبولَ عليه، وهل يجب عليه أن يقبله عليه حيث يجوز؟ هذا فيه تردد، وسبب تخيل وجوب القبول تحصيل غرض الولد في خلاص الأب، وقد يكون الولاء أيضاً مقصوداً، كما سيأتي التفصيل فيه، إن شاء الله.
__________
(1) ر. المختصر: 5/ 271.

(19/248)


وإن كان الابن موسراً، نظر: فإن كان الأب كسوباً قَبله، وإن كان زمناً، لم يقبله، لأن الطفل يتضرر بالتزام النفقة، والأمر كذلك - وإَن اتسع مال الطفل، فلا ينبغي أن نرتاع من التهاويل العريَّة عن التحصيل.
وإذا وُهب من الطفل بعضُ أبيه، والطفل معسر، قبله القيم كسوباً، كان الأب أو زمناً، ويَعْتِق عليه ذلك القدرُ؛ إذ لا تضرر بوجه، وإن كان الطفل موسراً والأب كسوب، فهل يقبل القيم بعضَه؟ فعلى قولين: أحدهما - لا يقبل؛ إذ لو قبله، لاحتجنا إلى تقويم الباقي عليه؛ فيتضرر، والثاني - يقبله، ويعتق عليه ذلك القدر، ولا يقوّم عليه الباقي، فيصح مالا ضرر فيه، ويُمنع ما يتضرر به.
ولو كان الأب زمناً والطفل موسراً، فلا يصح قبوله له، ولا أحد يصير إلى أنه يصح القبول، ثم لا تجب النفقة، فإن دفع (1) النفقة لا سبيل إليه، وعتق بعض الأب قد ينفك عن التقويم في بعض الصور.

مسائل وفروع
12388 - مسألة: إذا أعتق الحملَ في البطن، وكان ملكاً له، نفذ.
ولو كانت الأمة حائلا، فقال: كل ولد تلدينه، فهو حر، فعلقت بولد وولدته، ففي المسألة وجهان، وهذا يقرب من تعليق العبد الطلقةَ الثالثة في حالة الرق، وقد ذكرنا هذا في كتاب الطلاق.
ولو قال: أول ولد تلدينه حر، والتفريع على تصحيح التعليق فيما يتجرد العلوق به، فإذا ولدت ميتاً، ثم حيّاً، انحلت اليمين بالأول، ولم يعتِق الثاني عندنا، خلافاً لأيي حنيفة (2)، والمسألة مشهورة معه.
12389 - مسألة: إذا قال لعبده - وهو أصغر سناً منه: " أنت ابني " إن كان بالغاً، فصدقه، ثبت النسب، وعَتَقَ، وإن كذبه، عَتَقَ، والقولُ قولُ العبد في نفي النسب.
__________
(1) دفع النفقة: المراد ردّ وجوبها والتزامها، وليس الدفعُ بمعنى الأداء مراداً هنا.
(2) ر. طريقة الخلاف: 150، مسألة: 63، إيثار الإنصاف: 185، الغرة المنيفة: 167.

(19/249)


وإن كان صغيراً مجهول النسب، عَتَق، وثبت النسب.
وإن كان مثلَه في السن أو على حدٍّ لا يُتَصوَّر أن يكون ابنَه، لغا لفظُه، ولم يعتِق، فإنه قال محالاً، خلافا لأبي حنيفة (1)، فإنه حكم بالعتق.
ولو قال لعبده - وهو معروف النسب لغيره: " أنت ابني " فالنسب لا يلحقه، وفي حصول العتق وجهان: أحدهما - لا يحصل؛ فإنه تبعُ النسب، والثاني - يحصل؛ لأن النسب ممكن، وهو مؤاخذ بإقرار نفسه في العتق، وإن رُد قوله في النسب.
ولو قال لزوجته: " أنتِ بنتي " فالقول في حصول الفراق والنسب كالقول في حصول العتق.
فصل
12390 - العتق يجري فيه الصريح والكناية، فصريحه الإعتاق، والتحرير، وفي فك الرقبة وجهان: أحدهما أنه صريح لجريان ذكره في الكتاب، فإنه تعالى قال: {فَكُّ رَقَبَةٍ} [البلد: 13]، وهذا الخلاف يرجع إلى أن ما جرى ذكره مرةً في الكتاب، هل يلتحق بالصريح؟ ونظيره الاختلاف في أن لفظ الإمساك هل هو صريح في الرجعة؟ ولفظ المفاداة هل هو صريح في الخُلع؟ وفيهما وجهان.
وأما الكنايات، فكل لفظ يتضمن إزالةَ الملك، ويشعر بها، فهو كناية، كقوله: لا ملك لي عليك، ولا سلطان، ولا سبيل. وكقوله: أزلت ملكي عنك، أو أزلت يدي، أو حرَّمتُك، أو طلقتك، أو لا سلطان لي عليك، أو لا سبيل، وما شاكل هذا، ولا حصر عندنا لكنايات العَتاق، كما لا حصر لكنايات الطلاق.
ولو قال لعبده: " يا مولايَ "، ونوى العتق عَتَقَ؛ إذا هو لفظ يطلق على المعتَق، فإن المعتَق يسمى المولى الأسفل، واللفظ كناية لا تعمل إلا بالنية؛ فإنه مشترَكٌ بين معان: يراد به ابن العم، والناصر، والمولى الأعلى.
وإذا قال لعبده: " يا سيدي " قال القاضي: لم يَعْتِق -وإن نوى- فإنه من السؤدد،
__________
(1) ر. طريقة الخلاف: 146، مسألة: 61، إيثار الإنصاف: 184، الغرة المنيفة: 165.

(19/250)


وليس فيه ما يقتضي العتقَ، والذي نراه أنه كناية.
فإن السيد يراد به المالك، فسيد الدار مالكها، وإذا كان كذلك فاللفظ صالح لكونه كناية، ولو قال لأمته: " يا كَدْبانو " (1) - فقد قال القاضي: لا تَعتق وإن نوى. وليس الأمر كذلك عندنا؛ فإنه في معنى لفظ السيد.
ولو سميت المرأة حُرّة -قبل جريان الرق عليها- فلما رَقَّتْ قال لها مولاها: يا حرة، وقصد نداءها باسمها قبل أن رَقَّت، فقد قطع القاضي بأن ذلك لا يقبل منه، ويحكم بالعتق؛ فإن اللفظ صريح في الإعتاق، وفيه دقيقة، وهي أنها سميت حرة، إذا كانت حرة، فكانت الحرةُ لها صفةً غالبةً عليها ملتحقة بالألقاب، والرق إذا طرأ يمحق اسمها.
وسمعت شيخي غير مّرة يقول: لا تَعتق الأمةُ إذا ناداها باسمها القديم، وعندي أن هذه المسألة منزلة على مرتبة بين المرتبتين.
وقد ذكرنا مسائل الطلاق وقلنا فيها: منها ما لا يعمل اللفظُ فيه إلا بالنية، ومنها ما يعمل اللفظ فيه من غير نية، ولو نوى ما ينافي الوقوع دُيِّن، ومنها ما لو نوى ما ينافي الوقوع قُبِل ظاهرا، وإن كان مطلقُ اللفظ يعمل، فإذا قال لهذه الأمة: يا حرة، ولم يخطر له تسميتها باسمها القديم، فتعتق لا شك فيه. وإن نوى تسميتها، فالظاهر عندنا أنه يقبل، ومن أحكم ما مهدناه في كتاب الطلاق عَرَفَ قدْر هذا الكلام.
ولو قال لعبده: " يا آزاد مَرْد " (2) عَتَقَ، وإن قصد بذلك أمراً غير الحرية دُيّن، ولو قال لعبد الغير: " يا آزاد مرد "، ثم ملكه يوماً، عَتَق عليه بحكم إقراره.
ولو كان اسم امرأة (طالق)، فقال لها زوجها: يا طالق - قال القاضي: طُلّقت، وهذا على قياس تسمية الأمة باسمها القديم إذا كانت تدعى حرّة، والخلاف فيه على ما تقدم.
ولو قال السيد: أنا أريد أن أسمي أمتي هذه حرة تلقيباً، فإذا قال بعد ذلك: "يا
__________
(1) كلمة فارسية معناها: سيدة البيت.
(2) تعبير فارسي معناه: أيها الرجل الحر.

(19/251)


حرة"، فحصول العتق ينشأ من الأصل الذي ذكرناه الآن، ومن أصل آخر، وهو أن الرجل إذا غيرّ موجب اللغة بمواطأة ومواضعة، فهل يؤاخذ بموجب اللغة؟ فيه كلام استقصيته في مسألة السر والعلانية، وذكرت طرفاً منه في مسائل الطلاق.

فروع لابن الحداد تتعلق بالعتق والوصايا
وقد أجرى الشيخ أبو علي في إثباتها فوائد، فنستعين بالله في جميع ما نأتي ونذر.
فرع:
12391 - عبد مشترك بين شريكين، قيمته عشرون ديناراً، فجاء أجنبي يملك عشرة دنانير لا غير، فقال لأحد الشريكين: أعتق نصيبك عني بعشرة، فأعتقه عنه، وقع العتق عن المستدعي، وهل يسري العتق إلى النصيب الثاني؟ نُظر: فإن التمس العتق بعين الدنانير ووقع العتقُ عنه، لم يسر؛ لأنه ببذل الدنانير صار معسراً.
ولو قال: أعتق نصيبك عني بعشرة، والتزمها في ذمته، ولم يعيّن دنانيره، ففي سراية العتق وجهان مبنيان على أن الدين هل ينافي اليسار المعتبر في سريان العتق؟
وقد قدمت الاختلاف في ذلك، وبنيته على أن الدين هل يمنع تعلق الزكاة بالعين؟ وإذا وضح الغرض، اكتفينا.
فرع:
12392 - ذكر الشيخ في مقدمة مسألةٍ لابن الحداد أصولاً تَمَسُّ الحاجةُ إليها، وإن أنا فرقتها فيما تقدم، فَجَمْعُها الآن مستفاد، فنقول: إذا مات، وخلف عبداً، وورثةً، ودينا مستغرِقاً للتركة، فإذا أعتق الوارث العبد قبل قضاء الدين؛ قال الشيخ: إن قلنا: الدين يمنع الميراث، لم ينفذ العتق، وهذا على ضعفه مشهور، وكأنا نقول: لا يملك الوارث التركة ما بقي من الدين شيء، ثم لا يتجه لنا أن نقول: التركة ملكٌ لا مالك لها، بل نقول على هذا: هي مُقَرَّة على ملك الميت، ولا مطمع في إضافة الملك فيها إلى مستحِق الدين.
وإن فرعنا على أن التركة ملك الوارث وإن استغرقها الدين، فإذا أعتق الوارث عبداً في التركة، قال: إن كان معسراً لا يمكنه أن يؤديَ الدينَ من ماله، فلا ينفذُ عتقُه قولاً واحداً، هكذا قال، واعتلّ بأن فيه إسقاطَ متعلَّق الدين، وكان شيخي يجعل عتق الوارث بمثابة عتق الراهن، وفيه قول أن عتقه ينفذ، وإن كان معسراً، والأوجه

(19/252)


ما ذكره الشيخ؛ فإن حق الوثيقة طرأ على ملكٍ تام للراهن، ثم دام الملك له، والوارث يتلقى الملك بالخلافة، وهي مشروطة بتقديم حق الميت. وعن هذا تخيل بعض الفقهاء أن الدين يمنع الإرث.
ولو كان الوارث المعتق موسراً، فهل ينفذ عتقه؟ فعلى قولين، ذكرهما: أحدهما أنه ينفذ ويلزم. والثاني - أن العتق موقوف، فإن وصل الدين إلى مستحقه، بأن أن العتق نفذ مع لفظ الإعتاق، وإلا فالرق باقٍ، فإن أدى الوارثُ الدينَ، فالأمر على ما ذكرناه، وإلا بِيع العبد في الدين.
12393 - ثم من كلامه أنا إذا نفذنا العتق، نقلنا الدين بالغا ما بلغ إلى ذمة الوارث، إذا كانت التركة ثمن العبد، ولستُ أرى الأمر كذلك، فالدين لا يتحول إلى ذمة الوارث قطّ، بل هو بالإعتاق متلفٌ للعبد، فلا يلتزم إلا أقلَّ الأمرين من الدين وقيمةِ العبد.
12394 - ثم قال: لو باع الوارث التركة، وفيها دين: إن كان البائع معسراً، لم ينفذ بيعه ألبتة، وإن كان موسراً، ففي المسألة ثلاثة أوجه - نسوقها على وجهها: أحدها - أن البيع باطل إلا أن يعقده ابتداءً برضا الغريم، فيصح حينئذ. والوجه الثاني - أن البيع صحيح، ويلزم، ولا سبيل إلى نقضه، وفي التفريع على هذا كلام نذكره.
والوجه الثالث - أن البيع منعقد. ولزومه موقوف، فإن أدى الدين، لزم البيع. وإن لم يؤد الدين، فللغريم فسخ البيع. هذا ما ذكره.
وفيه بحث من أوجه: منها، أن شيخي كان يقول: التركة مع الدين كرقبة العبد الجاني مع الأرش، ثم في بيع السيد العبد الجاني قولان، أحدهما - أنه لا يصح، والثاني - أنه يصح. وهو عرضة الفسخ، كما قررناه في موضعه، ثم لا فصل بين أن يكون البائع موسراً أو معسراً، فيخرج على هذا القياس قول في نفوذ بيع المعسر.
وأنا أقول: تنزيل التركة منزلَة العبد الجاني بعيد؛ لما حققته الآن من الفرق بين المرهون والتركة، ولكن لتنفيذ بيع المعسر خروج حسن إذا قلنا: لا يلزم، وهو كبيع

(19/253)


المفلس المحجور عليه مالَه، وقد أجرينا في بيعه قولاً على الوقف، فلا مانع من خروجه هاهنا.
12395 - ومما نذكره أن الشيخ قال - مفرعاً على أن بيع الوارث ينفذ ويلزم: يجب صرف الثمن إلى الغرماء، ثم قال: إذا سلّم المشتري الثمنَ إلى الوارث، وتلف في يده، فللغرماء أن يطالبوا المشتري بالثمن؛ فإن كان من حقه أن يسلمه إليهم، فإذا لم يفعل، توجهت الطلبة عليه، وفي كلامه ما يدل على أنهم يطالبون الوارث بالثمن، فإن تعذر، رجعوا على المشتري.
والوجه عندي القطع بأنهم لا يطالبون المشتري، فإنا إذا ألزمنا بيع الوارث، فبيعه بمثابة إعتاقه، فإذا أعتق، فلا عوض للعتق، ولا مستدرك له إذا نفذ، فالوجه إن صح لزوم البيع - تنزيلُه منزلة العتق، ولكن جاء الخلل من ضعف قول من قال: " يلزمُ بيعُ الوارث ".
وهذا لا وجه له؛ فإنا لم نُلزم بيعَ المولى في العبد الجاني مع ضعف تعلق الأرش بالرقبة، فكيف نُلزم البيع هاهنا؟
ثم يدخل على الشيخ فقهٌ لطيف، وهو أن الثَّمن إذا كان مستحقاً للغرماء، فما وجه الفرق بين أن يكون الوارث معسراً أو موسراً، فإن صح هذا، اتجه في تنفيذ بيع المعسر احتمال بيّن لا يتوجه مثله، في إعتاقه؛ فإنه لا عوض في الإعتاق.
12396 - عاد بنا الكلام إلى [فروع] (1) ابن الحداد. قال: لو زوّج الرجل أمته من عبدٍ لإنسان، وقبض مهرها، وأتلفه، ومات، والزوج لم يدخل بعدُ بها، فلما مات سيدها، أعتقها الوارث، قال ابن الحداد: نفذ عتقه فيها.
وهل يثبت لها الخيار في فسخ النكاح؟ لا يخلو: إما أن يكون الوارث معسراً أو موسراً، فإن كان معسراً، فلا خيار لها؛ فمانا لو خيّرناها، وفسخت قبل الدخول، لوجب ردّ مهرها، وذلك دَيْن، وإذا تحقق الدين، لم ينفذ عتق الوارث المعسر، وإذا رَقَّت، فلا خيار لها، ففي إثبات الخيار ردُّه.
__________
(1) في النسختين: " فرع ". ولعل ما أثبتناه أوفق للسياق.

(19/254)


وإن كان المعِتق موسراً، قال: إن قلنا: ينفذ عتقه مع الدين، فإذا أعتقها، نفذ، ولها الخيار، وإذا فسخت، رجع مهرها دَيْناً، ثم يطالَب به المعتِق، إن كانت القيمة مثل المهر أو أكثر، فيطالب بالمهر، وإن كان مهرها أكثر، فإنما تتوجه الطَّلِبةُ بقدر قيمة الجارية. وهذا هو الذي لا يجوز غيره؛ لأنه لم [يفوّت] (1) إلا رقبتها.
وإن لم ينفذ العتق، لم يخف الحكم.
فرع:
12397 - إذا مات رجل وخلف ابناً وثلاثة من العبيد، قيمة كل واحد مائة، فقال الابن قد أعتق أبي هذا العبدَ في مرضه، وأشار إلى واحد منهم، ثم أشار إلى الأول وإلى عبد آخر من الثلاثة وقال: أعتق أبي هذين معاً، أو هذا وهذا معاً، ثم أشار إلى الثلاثة وقال: أعتق أبي هؤلاء بكلمة واحدة، أو معاً ولا وارث سواه.
فإن الأول يعتق على بهل حال، فإنه قدّمه ذكراً في الإقرار، وقد سبق أصل ذلك في كتاب الدعوى.
ثم نقرع بين الأول والثاني، فإن خرجت القرعة للأول، فهو الحر بعدُ لا غير، وإن خرجت القرعة على الثاني عَتَق، وعتَقَ العبد الأول معه، فإن موجب إقراره للثاني أن الثاني يستحق أن يُقْرَعَ بينه وبين الأول.
ثم نقرع بين الأول والثاني والثالث، فإن خرجت القرعة على الثالث عَتَق، ولو خرجت القرعة على الثاني، وثانياً على الثالث عَتَقوا كلهم، وإن خرجت القرعتان جميعاً على الأول لم يعتق غيرُه، وإن خرجت قرعة على الثاني وخرجت القرعة الثانية على الأول عتق الأول والثاني، ورَقّ الثالث، وإن خرجت القرعة الأولى على الأول، والثانية على الثالث، عتق الأول والثالث، ورق الثاني.
ولو تَفاوتت قِيَمُ العبيد والمسألة بحالها، فكانت قيمة الذي أقر بعتقه أولاً مائة، وقيمة الثاني مائتان، وقيمة الثالث ثلاثمائة، فأما الأول، فحر بكل حال، وهو أقل من الثلث، ثم يُقْرع بين الأول والثاني، فإن خرجت القرعة على الثاني عَتَق كله؛ لأنه في نفسه لا يزيد على الثلث، وقد أقر بعتق الأول، فعتق للسبق بالإقرار، وإن خرجت
__________
(1) في الأصل: " يفرق ". والمثبت من (ت 5).

(19/255)


القرعة على الأول، عَتَق، وعَتَق من الثاني نصفُه؛ فإن الثلث إنما يكمل بذلك؛ إذ ثلث جميع المال مائتان.
ثم يقرع بينهما وبين الثالث، فإن خرجت القرعة على الثاني، فلا يعتق الثالث، ولا يعتق من الثاني إلا ما عَتَق قبلُ؛ فإنه ليس في موجَب إقراره تغييرُ العتق في الثاني بقرعتين، وسنوضح ذلك في أثناء المسألة.
إن خرجت القرعة على العبد الثالث، عَتَقَ منه ثلثاه، وهذا موجَبُ إقراره مع القرعة، وإن خرجت القرعة على العبد الأول، فنعيد بين الثاني والثالث، فإن الثلث لم يصر مستوعباً بالأول. فإن خرجت القرعة في الكرّة الثانية على الثاني، فيرق العبد الثالث لا محالة، ولا يحدث بهذه القرعة في العبد الثاني شيء، فإنه قد أخذ حظه من القرعة، فإن عتق كلُّه بالقرعة الأولى، فذاك، وإن عتق نصفه مع الأول، وكمل الثلث، فلا مزيد في إعتاقه أصلاً، ولا تُغيَّر قضيةُ تلك القرعة؛ فإن إقراره لا يتضمن تغييرَه لحكم العِتق في الثاني بقرعة أخرى، وإن أعدنا القرعةَ بين الثاني والثالث مرةً أخرى، فخرجت على الثالث، فيعتِق منه الثلث، فإن ثلثه إذا ضُمّ إلى الأول، كَمُلَ به الثلث، فثلث الثالث مثلُ نصف الثاني.
12398 - وفي هذه المسألة بحث من وجهين: أحدهما - أنا قلنا: إذا عتق من الثاني نصفه لمَّا أقرعنا بينه وبين الأول، فذلك عند خروج القرعة على الأول، وتكميلُنا الثلث من الثاني بالقرعة لم يفده شيئاً، وهو بحكم الإقرار يستحق الاندراج تحت قرعتين الأولى مع الأول، والثانية معهم، فلئن خاب في القرعة الأولى، ولم ينله العتق بكماله، وإنما عتق نصفه بحق التكميل، فينبغي ألا يبعد أن يكمل العتق فيه بسبب القرعة الثانية، والدليل عليه شيئان:
أحدهما - لما قال أَعتقكم جميعاً، فقد أقر له إقراراً موجبه أنه لا يبعد عتق الثاني بكماله بحكم القرعة، ثم أثبت له حقَّ القرعة مرتين، فلئن خاب في واحدة، فليدخل في الأخرى.
والثاني: أن قيمة العبيد إذا كانت متساوية، فأقرعنا بين الأول والثاني وخاب

(19/256)


الثاني، فلا يبعد أن يخيب في الأولى ويصيبَ العتقَ في الثانية، فكذلك إذا اختلفت القيم، وهذا متجه لا إشكال فيه.
وفي المسألة بحث لمزيد بيان، فنقول: إذا أقرعنا بين المائة والمائتين، فخرجت القرعة على الأول، فحكمه أن يعتق الأول بالإقرار، ويعتِقَ نصفُ الثاني بالتكميل، فإذا أقرعنا مرة ثانية بين الثلاثة، فخرجت القرعة على الأول أيضاً، فكيف السبيل والثلث لا يكمل بالأول؟
فإن قيل: ما هذا وقد كملتم الثلثَ؟ قلنا: لم نُثبت في حق الثالث شيئاً والقرعة تثبت للثالث حقَّ تكميل الثلث منه إذا خرجت القرعة على الأول، فكيف السبيل؟
الوجه ما قدمناه من إعادة القرعة بين الثالث لنكون وفينا حق الثالث، فإن خرجت القرعة على الثالث، أعتقنا منه ثُلثَه، وإن خرجت القرعة على الثاني، فهذا موضع النظر.
أما ما حكيناه عن الأصحاب، فهو أنه لا يَعتِقُ من الثاني إلا ما عَتَق. وهذا مستقيم لا خلاف فيه؛ لأن الثاني لا يستحق إلا قرعتين، وقد عتق نصفه بحق التكميل في القرعة الأولى، وأدرجناه عند إقراعنا بين الثلاثة، فاستوفى التعرض للخطر بين قرعتين فلا يستحق بحكم الإقرار موجبَ قرعة ثالثة، ولكن القرعة بين الثاني والثالث لرجاء أن يعتق شيء من الثالث، فإن لم يعِتق، فقد نفذ الحكم، وتم، ولا مزيد على الثلث، والموضع الذي أبدينا الخلاف فيه إذا خرجت القرعة الثانية المضروبة بين الثلاثة على الثاني، فالذي ذكروه أنه لا يزاد له شيء، وهذا غير سديد؛ فإنه يستحق بالقرعة الثانية تعرضَ جميعه للعتق بحكم القرعة، إذ قد أقر له الوارث بقرعتين، كما ذكرناه في المسألة الأولى إذا استوت القيم.
12399 - ثم ذكر ابن الحداد صورة أغمضَ مما تقدم، فقال: لو مات وخلّف ثلاثة من البنين وثلاثة من العبيد قِيَمُهم متساوية، فقال واحد من البنين: أعتق أبي هذا العبدَ. وقال الابن الثاني: أعتق العبد الذي عينّه أخي، وأعتق معه هذا الآخر في كلمة واحدة. وقال الابن الثالث: أعتقهما وأعتق الثالث معهما في كلمة واحدة.
فأما الثلث من العبد الأول، فعتيق بكل حال، فإن الابن الأول أقر بعتقه ولم

(19/257)


يشرّكه مع غيره، فإقراره مقبول في ثلث ذلك العبد، فعَتَق ثلثُه من غير إقراع، ثم نقرع بين العبد الأول والثاني، لإقرار الابن الثاني، فإن خرجت القرعة على العبد الأول، عتق منه ثلثٌ آخر؛ فإن هذا الابن يزعم أن جميعه حر بقضية القرعة والإقرار، فقبل قوله في حصته، وإنما حصته الثلث، وإن خرجت القرعة على العبد الثاني، عَتَق ثلثه وهو قدر حصة هذا الابن منه.
ثم نقرع بين العبيد الثلاثة لإقرار الابن الثالث، فمن خرجت عليه القرعة من العبيد يعتق منه ثلث، فإن خرج على الأول عتق ثلثه، وكذلك إن خرج على الثاني، أو على الثالث.
وحاصل القول أنه إن خرجت القرعتان فيها جميعاً على الأول، كمل فيه العتق، ورَقَّ العبدان، وإن خرجتا جميعاً على العبد الثاني، عتَقَ ثلثاه، وثلثُ العبد الأول، ورَقَّ ثلثا الأول، وثلثُ الثاني، وتمام الثالث، وإن خرجت قرعة على الثاني وأخرى على الثالث، عتق من كل عبد ثُلُثه. وهذا إذا كانت قيمهم متساوية.
12400 - فأما إذا تفاوتت والمسألة بحالها في الأقارير، لكن كان قيمة العبد الأول، مائة، وقيمة العبد الثاني مائتان وقيمة الثالث ثلاثمائة، فيعتِق من الأول ثلُثُه، كما قدمناه، ثم نُقرع بين الأول والثاني بسبب إقرار الابن الثاني، فإن خرجت القرعة على الثاني، عتق ثُلثُه؛ فإن قيمته مائتان، وهو ثلث المال، وهذا الابن يزعم أن جميعه حر، فقُبل قوله في حصته، وهو الثلث، وإن خرجت القرعة على العبد الأول، عتق منه ثلث آخر، وعَتَق من الثاني سدسه، وإنما ذاك لأنه يزعم أن الأول بكماله أعتق بهذه القرعة، ونصفٌ من العبد الثاني تكملة الثلث، فعتق من تمام الأول ثلثه، وعتق من نصف الثاني ثلث النصف وهو السدس.
والغرض ينكشف بسؤال وجواب عندنا، فإن قيل: الابن الثاني يُقر بأن العبد الأول بحكم القرعة حر بكماله، والنصف حرٌّ من الثاني، فلينفذ إقراره في مقدار ملكه من الثاني، ويُردّ في الزائد.
وموجب هذا أن يعتق ثلث الثاني. فإن إقرار المرء في مقدار ملكه مقبول.

(19/258)


قلنا: أقر بالعتق في النصف شائعاً في الحصص، فالنصف المقرّ به يستحيل أن يُحصَر ثلثاه في ملكه بل يشاع، وحصته منه ثلثه، وثلث النصف السدس، فإن قيل: هلا خرج هذا على الخلاف فيه إذا أقر أحد الشريكين في الدار بنصفها لإنسان، فإن من الأصحاب من قال: الإقرار ينحصر على ما كان قبل الإقرار؟ فهلا، قلتم على هذا: الابن الثاني مؤاخذ بموجب إقراره فيما هو ملكه؟
قلنا: لم يتعرض الابن الثاني إلاّ لما يوجب القرعة على التركة والميراث، وحقه الشيوع، فيجب الوفاء بالإشاعة، فهذا منتهى البيان.
والرأي بعده مشترك بين الفقهاء.
ثم نقرع بين العبيد الثلاثة بسبب إقرار الابن الثالث، فإن خرجت القرعة على الثالث، عَتَقَ منه تُسعاه، فإنه يزعم أنه عتق منه على الشيوع ثلثاه وهو مائتان. وهذا مقدار الثلث، فقُبل قولُه مع القرعة في حصته، وحصتُه من ثلثه تسعاه، وإن خرجت القرعة على الثاني عَتَق منه ثلثه؛ فإنه يزعم أن جميعه حر، فقُبل قوله في حصته وإن خرجت القرعة على الأول عَتَق منه ثلثه، ثم تُعاد القرعة مرة أخرى بين الثاني والثالث لتعتق حصتُه من تمام الثلث، فإن خرجت على الثاني عتق منه سدسه، وإن خرجت على الثالث عَتَق منه تُسعه؛ فإنه يزعم أن لابد من إعتَاق قدر مائة أخرى مع الأول، فيعتق من مائة ثلثها، وهو حصته منها.
هذا كلام الأصحاب مع البحث الممكن فيه.
فرع:
12401 - قال ابن الحداد: إذا قال أحد الشريكين في العبد: إن دخلتَ الدار، فنصيبي منك حر، وقال الثاني بعد أيام: إن دخلتَ تلك الدار -وعَيَّنَ الدارَ التي عينها الأول- فنصيبي منك حر، فدخل الدارَ - عَتَقَ نصيبُ كل واحد منهما على مالكه، ولا سراية؛ فإن العتق في النصيبين وقعا معاً، ولا معتبر لتباين التعليقين.
ثم قال الشيخ في أثناء كلامه: قال ابن سريج: لو قال لعبده سالم: مهما (1) أعتقتُ غانماً، فأنت حر مع عتقه، ثم أعتق غانماً في مرض موته، وهو ثلث ماله،
__________
(1) مهما: بمعنى: " إذا ".

(19/259)


فيكون عِتقُ غانم مبدّأ (1) على عتق سالم عند ضيق الثلث، وإن كان قد قال لسالم: فأنت حر مع عتقه؛ وذلك لأنه جعل عتق غانم شرطاً في عتق سالم، والمشروط لا يقع إلا بعد الشرط، وقد يقع العتق مرتباً، فيقدم الأول منهما.
وقد ذكر الأصحاب عن صاحب التقريب: أنه إذا أعتق نصيَبه، لم يسر عتقُه، وعَتَقَ نصيبُ الثاني (2) بتعليقه السابق، وقد خالفه الأصحاب في هذا. فقالوا: عِتْقُ الشريك يسري، ولا يقع العتق المعلّق، فانتظم وجهان في مسألة الشريكين: أحدهما - اعتبار قول المعلِّق في الاجتماع، وذلك ينافي السراية. والثاني - أن العتق يترتب في المعنى، فهو كما لو قال: مهما أعتقتَ نصيبَك، فنصيبي حر، وهذا التردد يوجب اختلافاً في مسألة سالم وغانم، حتى يقال: يحتمل أن نحكم بوقوع العتق فيهما ظاهراً معاً، ويكون كما لو أعتقهما في مرضه، فيقرع بينهما.
وفي المسألة غائلة وبكشفها نكشف الغرض، فنقول: إذا أعتق الرجل في مرضه عبيداً لا مال له غيرهم، فعتقه في المرض وصيةٌ محسوبة من الثلث، والوصية الزائدة إذا ردّت، ففيها قولان: أحدهما - أنها ثبتت، ثم ردت، والثاني - أنها إذا خُصرت، تبين أنها (3) لم ينفذ غيرُ ما بان.
ومما يجب التنبه له أن من علّق عتقاً على عتقٍ، فمذهب الشافعي أن العتق الذي هو صفة، لا يقنع فيه باللفظ، بل لابد من عتق صحيح، وكذلك القول في البيع وغيره من العقود، وقد قررنا هذا في كتاب الأيمان.
فإذا تبين هذا، رجعنا إلى الغرض.
فإن اعتقدنا الجمع تمسكاً باللغة (4)، وهو مقتضى الصيغة، فلا نعول على الشرط والمشروط؛ فإن التعليقات تحتمل تقديم المشروط على الشرط؛ فإن الرجل إذا قال لامرأته: إن دخلت الدار، فأنت طالق قبل دخولك بشهر، ثم مضت أشهر،
__________
(1) مبدّأ: أي مُقدّم ومُفَضَّل (المعجم).
(2) في النسختين: " شريك الثاني ".
(3) كذا. وضمير الحال والشأن يعود على الوصية. والله أعلم.
(4) يعني قوله: " مع عتقه ".

(19/260)


ودخلت، وقع الطلاق قبل الدخول بشهر، ولكن النظر فيما نبهنا عليه.
فإن قلنا: " العتق ينفذ في الجميع ثم يرد "، صحت المسألة، ونجعل كأنه أعتق العبدين، فإن خرجت القرعة على سالم، عتق، إذ قد كان عَتَقَ غانم، فتحققت الصفة (1) ثم رُدّ.
وإن قلنا: " ما (2) يرد تبين أنه لم ينفذ "، فتعضل المسألة: بأن القرعة لو خرجت على سالم، وعتقه مشروط بعتق غانم، ونحن تبيّنا أن غانماً لم يعتِق، فكيف يعتق سالم، وعتقه معلّق غير منجّز؟ وهذا يوجب الدور، فيرتد -لو صح هذا القياس- عتقُ غانم؛ لأن القرعة لم تخرج عليه، ويرتد عتق سالم للدور، وهذا يجز خبلاً عظيماً، وهو أن يعتق الرجل عبدين، فتجري حالة في القرعة تقضي ارتداد العتق فيهما.
وفي المسألة خبط آخر، وهو أن القرعة لو خرجت على غانم، نفذ العتق فيه، ولو خرجت على سالم، دارت المسألة، فالظن بالأئمة أنهم ما قدّموا العتق في غانم مع التصريح بالجمع إلا لهذا؛ فإن العتق في سالم يوجب القرعة، والقرعة تدير المسألة، وتُبطل العتقين، والعتق في غانم يصحح العتق في الثلث، فذكروا تعيّن غانم لهذا المعنى.
وقياس الدور مع الوفاء بالجمع أن يقال: لو خرجت القرعة على غانم عتق، ولو خرجت على سالم، لم يعتق غانم ولا سالم. وهذا نهاية النظر في المسألة.
فرع:
12402 - إذا كان بين رجلين عبد مشترك لكل واحد منهما نصفه، فطار طائر، فقال أحدهما: إن كان غراباً، فنصيبي حر، وقال الآخر: إن كان حماماً، فنصيبي حر، ثم أشكل الطير، فلا يعتق نصيب واحد منهما؛ فإن الطائر قد لا يكون غراباً ولا حماماً.
ولو قال أحدهما: إن كان غراباً فنصيبي حر، وقال الآخر: إن لم يكن غراباً،
__________
(1) تحققت الصفة: أي العتق المعلّق عليه، وهو عتق غانم.
(2) (ما) اسم موصول.

(19/261)


فنصيبي حر، فلا يحكم بعتق واحد منهما في ظاهر الحكم إذا كانا معسرين؛ فإن نصيبهما كعبدين، ولا سريان، ولكن نعلم باطناً أنه قد عَتَقَ نصيبُ أحدهما.
ولكن لو اشترى أحدهما نصيب صاحبه فنحكم الآن بأن نصف العبد حر، ولكن لا سريان والفرضُ في المعسر.
ولو جاء ثالث، واشترى النصيبين جميعاً، فيصح الشراء، ولكن إذا اجتمع النصيبان في يده حكم بعتق النصف، وتعليل ذلك بيّن.
ثم قال القفال: لا يرد ما اشتراه عليهما ولا على واحد منهما؛ فإن كل واحد منهما يزعم أن نصيبه مملوك، والمشتري يزعم أن النصف منه حر.
وحكى الشيخ عن بعض الأصحاب أن المشتري إذا لم يعلم ما جرى لهما من التعليق، واشترى نصيبهما، ثم تبين له ذلك، فله الرد عليهما جميعاً، ويجعل الاطلاع على ذلك سبباً مثبتاً للخيار.
وهذا هَوَسٌ. ولا ينبغي أن يعدّ مثله من المذهب؛ لأنا لو جوّزنا له الرد، لعاد كل واحد من الشريكين إلى نصيبه، وزال العتق المحكوم به. هذا كله إذا كانا معسرين.
فأما إذا كانا موسرين والمسألة كما صورناها في النفي والإثبات، فنحكم بعتق جميع العبد؛ تفريعاً على قول تعجيل السراية، فإن كل واحد منهما يُقرّ بأنه قد عتق نصيبُه، إما بإنشائه، وإما بسراية العتق من نصيب صاحبه إلى نصيبه. فإن ادعى كل واحد على صاحبه قيمةَ نصيبه وتحالفا، فلا يستحق في ظاهر الحكم واحد على صاحبه شيئاً.
وإن فرعنا على أن السراية لا تتعجل، لم نحكم بعتق نصيب واحد منهما.
فرع:
12403 - إذا خلف ثلاثة من البنين، وكان في أيديهم جاريةٌ وولدُها، فادعى أحدهم أن هذه الجارية أمُّ ولد أبينا والولد ولدها منه، وهو أخونا، وزعم الثاني أن الجارية أمُّ ولدي، وهذا ولدي منها، وادعى الثالث أن الجارية مملوكةٌ لي وولدها رقيقي وعبدي، وأيديهم ثابتة عليها.

(19/262)


فنقول (1): أما نسب المولود، فيثبت ممن ادعى أنه ولده؛ تفريعاً على أن نسب الرقيق يستلحق إذا كان مجهول الحال والنسب، ومن قال منهم: إنه أخونا، فلا نقبل قوله؛ فإنه يقر بالنسب على أبيه، فلا يلتحق النسب، ما لم يُجْمع الورثةُ عليه، كما مضى في الأقارير.
فإن قيل: من يدعي ملكَ الولد ويقول: هو رقيقي واليد ثابتة له على ثلث الولد، فينبغي أن يثبت ملكُه فيه، فيكون مدعي النسب من نفسه مستلحقاً نسب مملوك.
قلنا: قد نبهنا على هذا، فإن فرعنا على أن المملوك يُستلحق، فأمر النسب على ما ذكرنا، وإن قلنا: نسب المملوك لا يستلحق، ففي هذه الصورة وجهان: أحدهما - أنه لا يلحق لمكان الرق في البعض. والثاني - يلحق لأن الرق لم يعمه، والنسب لا يتبعض. وهو إلى الثبوت أقرب، وهذا القائل يقول: لو كان بعض الشخص رقيقاً وبعضه حراً، واستلحق مستلحقٌ نسبَه، لحقه، وهذا ليس بشيء، والقياس رد الدِّعوة ببعض الرق إذا فرعنا على ردها عند تمام الرق (2).
12404 - ثم نتكلم بعد ذلك في الجارية وحكم الولد، ونذكر حكم التحالف فيه، ثم حكم الغرامة.
أما الولد فحرّ كله، هكذا قالوا، لأن أحدهم زعم أنه أخوهم، وهذا يقتضي حريته، ويده ثابتة على ثلث الولد، فإقراره مقبول فيه، والذي زعم أنه ولده منها، فيقبل إقراره فيما هو تحت يده، ثم قد أقر هذا الشخص بأنه قد استولد هذه الجارية، فيجعل ذلك بمثابة ما لو استولد أحد الشريكين الجارية [المشتركة] (3)، ولو تحقق ذلك، كان الولد حراً، وليقع الفرض فيه إذا كان موسراً، فإذا تُصور منه إنشاء الاستيلاد، ثم يترتب حكم حرية الولد، فيقبل الإقرار [منه] (4) فيما يتصور إنشاؤه،
__________
(1) النظر في هذه المسألة إلى عدة أحكام: 1 - نسب الولد 2 - وحريته 3 - وحرية الأم وثبوت أميهّ الولد 4 - والتحالف، 5 - والغرم. فتقرأ المسألة في ضوء هذه الشُّعب من الأحكام.
(2) انتهى هنا الكلام على نسب المولود، وأنه بين أن يلحق الابن الثاني أو لا يلحق.
(3) في الأصل: " المشتراة "، والمثبت من (ت 5).
(4) زيادة من المحقق حيث سقطت من الأصل، وفي ت 5: (فيه) مكان (منه).

(19/263)


وهذا ليس خالياً عن الاحتمال؛ لأن الإقرار إنما يقبل فيما يجوز إنشاؤه، (1 لا فيما يتصور إنشاؤه 1).
ويجوز تخريج هذه المسألة على خلافٍ في أن المحجور السفيه لو أقر بإتلاف مالٍ هل يقبل إقراره أم لا (2)؟ فيه وجهان، ذكرناهما في موضعهما (3).
ثم يقع الكلام بعد هذا في التحالف، ثم في الغرم، والقول في التحالف ينبني على المقدار الذي تثبت يد كل واحد عليه، وقد اختلف أصحابنا فيه، فذهب أكثرهم إلى أن يد كل واحد من الثلاثة تثبت على ثلث الجارية والولد، ثم يقع الكلام بعد هذا في التحالف والغرم، ووجه هذا بيّن.
ومن أئمتنا من قال: من قال منهم: إن الجارية أمُّ ولد أبي، فلا يد له على شيء من الجارية وولدها؛ فإنه ذكر أن الجارية أم ولد أبي، وقد عَتَقَتْ بزعمه بموت أبيهم، وليس يدعي عتقاً صادراً منه، وقوله مردود في ذلك؛ فإن أمية الولد تابعةٌ لثبوت نسب الولد، ونسب الولد لا يثبت بقوله، ولكنه مؤاخذ بإقرار نفسه؛ فإنه ليس يدعي لنفسه فيها شيئاً، فلم تبق له يدٌ لإعراضه (4)، ولم يُقبل قوله لاستناد أمية الولد إلى النسب الذي لم يثبت.
والأصح الوجه الأول؛ فإن يده ثابتة حسّاً، وقد اعترف بالحرية فيما تثبت يده
__________
(1) ما بين القوسين سقط من (ت 5).
(2) عبر الغزالي في البسيط عن ذلك بعبارة، ربما كانت أكثر وضوحاً، إذ قال: " فأما أمية الولد، فتثبت بإقراره، لأنه شريك، ولو أنشأ الاستيلاد، لنفذ، وسرى، فيقبل إقرار من له أهلية الإنشاء، ويحتمل أن يقال: لا يحل له الإنشاء، ولكن يتصوّر منه، وفي قبول مثله خلاف في السفيه المحجور عليه إذا أقر بإتلاف مال الغير أنه هل يقبل ". (البسيط: جزء (6) ص 379 - مخطوطة مرقمة الصفحات).
(3) إلى هنا انتهى الكلام عن حكم حرية الولد، وهو الحكم الثاني من الأحكام التي في ثنايا هذه المسألة، وقد قطع بحريّة الولد.
(4) وجه هذا الوجه القائل بأن يده لا تثبت على شيء هو إقراره، وإعراضه، وعدم مطالبته، وليس إثبات أمية الولد، فإنها تابعة لثبوت نسب الولد من أبيه، وقد رأينا أنه لم يثبت.
هذا توجيه هذا الوجه، وهو ليس الأصح كما قال الإمام، بل الأصح أن يده ثابتة حساً على الثلث من الولد والجارية.

(19/264)


عليه صورةً، وحقيقةُ هذا الخلاف ترجع إلى أنا إذا رَدَدْنا قولَه في النسب، فهل يقبل قوله في أمية الولد حتى يُحكم بالعتق فيه؛ فإن قبلنا قوله في الحرية، فالثلث حُكم فيه بالحرية ليده، ويبقى في يد كل واحد من الباقيين ثلثٌ، وإن لم نقبل قوله في الحرية، قبلناه في سقوط حقه ويده، فتصير الجارية في يد الباقيَيْن نصفين؛ ولم يبق للذي قال: " إنها أم ولد أبي " يدٌ ولا تعلّق. هذا ما ذكره الأئمة.
وفي القلب منه بقية، فإنا (1) إذا رددنا إقراره، فينبغي أن يبقى الثلث من الجارية على حكم يده وملكه، وإن كان لا يدعيه لنفسه، والدليل عليه أن (2 أحد الابنين إذا أقر بابن ثالث لأبيه، ورددنا إقراره بالنسب، فلا يستحق المقر له شيئاً من ميراث الأب، ولا 2) يقال: على المقِر منهما أن يسلم شيئاً مما في يده إلى المقر له، بل يبقى على حقيقة ملكه. وهذا القياس يقتضي لا مجالة أن يبقى ثلث الجارية في يده، وإن ادعى حريتها، فهذا ما أردنا التنبيه عليه في ذلك.
12405 - ثم نرجع إلى ترتيب الكلام، فنقول: يحلف من يدعي الملك، و [من يدعي] (3) الاستيلاد في حق نفسه، وينفي كل واحد [منهما] (4) ما يدعيه صاحبه (5)، على القياس الذي ذكرناه في الدعاوي. قالوا: ولا يحلف من يدعي أمية الولد لأبيه؛ فإنه ليس يدعي لنفسه شيئاً، وإنما ينفي كلُّ واحدٍ دعوى صاحبه إذا كان يدعي لنفسه شيئاً.
__________
(1) ت 5: " فأما ".
(2) ما بين القوسين سقط من (ت 5).
(3) ما بين المعقفين زيادة من المحقق لإيضاح العبارة، والمعنى أن التحالفَ يكون بين الابن الثاني الذي يدعي أن الجارية مستولدته، وأن الولد ولده منها = والابن الثالث الذي يدعي أنها جاريته والولد رقيقه منها.
أما الابن الأول الذي يقول: إنها مستولدة أبينا، فهو لا يدعي شيئاً، ولذا لا يحلف.
(4) في الأصل: " منهم " والمثبت من (ت 5).
(5) فيحلف من يدعي الاستيلاد نافياً أنها مملوكة لمن يدعي الرق، ويحلف من يدعي الملك نافياً أنها مستولدة من يدعي الاستيلاد، فكل منهما مدَّعٍ فيما في يد صاحبه، مدعىً عليه فيما في يده.

(19/265)


فإذا حلفا -والتفريع على ثبوت الاستيلاد عاجلاً، ونفوذِ إقراره- فيلتزم لصاحبه ثلث قيمة الجارية (1)، فإن يده تثبت على الثلث ملكاً، وتأكدت باليمين، ثم [سرَّينا] (2) فيه استيلاد من يدعي الاستيلاد لنفسه، فيلزمه قيمةُ الثلث لصاحبه (3).
فأما إذا قلنا: لا يدَ لمن ادعى أميةَ الولد لأبيه، والجارية نصفان بين الأخوين، فيغرم من ادعى لنفسه الاستيلاد نصفَ القيمة لصاحبه.
وإن قلنا: يعتِق الثلثُ بإقرار من ادعى أمية الولد، فلا نغرمه شيئاً؛ [فإنه لم يضف الاستيلاد إلى نفسه، وإنما أضاف إلى أبيه، فلا يلتزم هو بسبب استيلاد أبيه شيئاً] (4)، ولا يقبل إقراره على أبيه في إلزام غرم، فهذا منتهى ما ذكره الأئمة.
فرع:
12406 - إذا كان للرجل جاريةٌ حامل بغلام وجارية، فقال: إن ولدت أولاً غلاماً، فهو حر، وإن ولدت أولاً جارية فأنت أيتها الأمة حرة، فإن ولدت أولاً غلاماَّ، [عَتَقَ] (5) الغلام، ورقّت الأمة والجاريةُ في بطنها.
وإن ولدت جارية أولاً، عَتَقَت الأمة، وعَتَقَ الغلام أيضاً؛ فإن الأم إذا عتقت، عتق الجنين في بطنها، أما الجارية التي ولدتها، فلا شك أنها لا تعتِق؛ لأنه لم يوجه
__________
(1) يلزمه الثلث من الجارية والولد لإقراره بأنه فوت عليه نصيبه بالاستيلاد.
(2) في الأصل: (تبرَّينا) بهذا الرسم والضبط، وفي ت 5: غير واضحة، وأقرب ما تكون إلى ما في الأصل، ولكن بدون نقط وضبط.
وأجزم صادقاً -إن شاء الله- أن هذا الخلل في نسخة الأصل جاء من أحد القراء المبتدئين، ودليلي على ذلك أن ناسخ هذه النسخة على درجة من العلم، يستحيل معها أن يقع في هذا الوهم الغليظ، وقد ظهر علمه بأكثر من دليل، أيسرها أنه يُشكل المشكل بصورة تقطع بأنه فاهم لما ينسخ، ثم إن هذه الكلمة الغريبة عن السياق والمعنى (تبرّينا) فيها أثر ريشة غير ريشة الناسخ الأصيل.
(3) علل الأئمة ذلك بإقراره أنه فوت على صاحبه نصيبه بالاستيلاد -كما قلنا- ويلزم من هذا التعليل أنه قد سلّم لمدعي الرق بأن له نصيباً في الجارية من ميراث أو غيره، وإلا، فلا يلزم من قوله: " مستولدتي " كونها مشتركة من قبل، فلا بد من ملاحظة هذا المعنى في تصوير المسألة.
(ر. الشرح الكبير: 13/ 377، والروضة: 12/ 162).
(4) ما بين المعقفين سقط من الأصل. وأثبتناه من (ت 5).
(5) في الأصل: " فأعتق ".

(19/266)


العتق عليها، والأم إنما تعتِق أيضاً بعد انفصالها، فلا يلحق الجاريةَ عتق على وجه التبعية.
فخرج مما ذكرناه أن الجارية لا تعتِق في حسابٍ أصلاً، والغلام يعتق كيف فرض الأمر؛ فإنه إن خرج أولاً عَتَق، وإن خرجت الجارية، عتق تبعاً للأم، والأم قد تعتق وقد لا تعتق.
فلو خرج الولدان على ترتب، وأشكل الأمر، فلم ندر كيف كان الخروج - فأما الغلام فيعتِق لا محالة، والجارية رقيقة قطعاً، وأمر الأم مشكل، فإن خرج الغلام أولاً، فهي رقيقة، وإن خرجت الجارية أولاً، فهي حرة. وقد أشكل الأمر.
قال ابن الحداد: نقرع بين الغلام وبين الأم. فإن خرجت القرعة على الأم، عَتَقَت، والغلام حرّ لا يدرأ حريتَه شيء.
وإن خرجت القرعة على الغلام، رقّت. وسبب القرعة أن الغلام إن خرج أولاً، فهي رقيقة، وإن لم يخرج أولاً، وخرجت الجارية، فالأم حرة، فعِتْق الأم يتعلق بخروج الغلام، فخرجت القرعة على هذا التقدير. وقد وافقه بعض الأصحاب فيما قال.
والذي ذهب الأكثرون إليه أن القرعة لا معنى لها في هذه الصورة؛ فإن القرعة إنما تجري إذا تردد العتق بين شخصين رُدّد العتق بينهما قصداً وأشكل الأمر، وليس الأمر كذلك في هذه المسألة؛ فإن الغلام لم يُجعل في معارضة الجارية، فالوجه أن نقول: الجارية رقيقة والغلام حر. والجارية أشكل أمرها. فالأصل بقاء الرق فيها.
فرع:
12407 - ذكره الشيخ من وقائع نيسابور قديماً، وهو أنه إذا كان بين يدي السيد غلامان سالم وغانم، فقال: أحدكما حر، ثم غاب سالم وبقي غانم بين يديه، فوقف بجنبه غلام اسمه مبشر، فقال لغانم ومبشر: أحدكما حر، ثم مات قبل البيان، فكيف السبيل فيه؟
قال الأستاذ أبو إسحاق في جواب المسألة: نقرع في هذه المسألة بين سالم وغانم، فإن خرجت القرعة على سالم -وهو الذي غاب- فيعتِق، ثم نعيد القرعة مرة أخرى بين غانم ومبشر، فعلى أيهما خرجت القرعة، حكمنا بعتقه، فيعتِق عبدان.

(19/267)


وإن خرجت القرعة الأولى على غانم، رقّ سالم، ولم نعد القرعة مرة أخرى؛ فإن القرعة عينت غانماً للحرية، فلما قال له ولمبشر: أحدكما حر، فغانم هو الحر منهما، وتحقيق ذلك أن خروج القرعة بمثابة بيان المالك. ولو قال السيد: أردت غانما في الدّفعتين، لم يَعِتق غيره.
وقال أبو الحسن الماسَرْجِسِي: إذا خرجت القرعة الأولى على غانم، عتق ورق سالم، ثم نعيد القرعة مرة أخرى بين غانم ومبشر، فإن خرجت على غانم، رق مبشر، وإن خرج على مبشر عتق وغانم حر. كما تقدم ذكره، ففائدة إعادة القرعة توقُّع عتق مبشر.
والذي ذكره الماسَرْجِسِي أفقه وأغوص، وذلك أن غانماً إن عتق، فلا يمتنع أنه أراد بقوله الثاني -لمّا أبهم العتقَ- إعتاق مبشر، فإذا كان ذلك ممكناً، فالقرعة تجري حيث يتصور الإبهام، وكثيراً ما تجري القرعة بين من نستبقي (1) حريته، وبين من يشكل علينا رقه، وهذا واضح من هذا الوجه.
فرع:
12408 - نقدم على مسألة ذكرها ابن الحداد [تذكيراً بأصولٍ] (2): أحدها - أنه لو أبهم العتق بين أمتين ولم يعين بقلبه، ثم وطىء إحداهما، فهل يكون الوطء تعييناً في الموطوءة للرق؟ فعلى وجهين، تقدم ذكرهما.
ومما تقدم أنه لو كان في ملكه أربع من الإماء، فقال: إذا وطئت واحدة منكن، فواحدة منكن حرة، فإذا وطىء واحدة، فتعتِق واحدة، ولكن هل تدخل الموطوءة في إبهام العتق؟ أم لا؟ هذا يبتني على أن الوطء هل يكون تعييناً أم لا؛ فإن قلنا: لا يكون تعييناً، فتدخل الموطوءة في إبهام العتق.
وإن قلنا: يكون الوطء تعييناً للموطوءة في الملك، فأول الوطء لا يتضمن التعيين أصلاً؛ فإنه ذكر الوطء وعلق عليه العتق المبهم، وهذا في التحقيق يُخرج أول الوطء عن كونه تعيينا للملك.
__________
(1) كذا في النسختين، ولعل الأَوْلى: " نستيقن ".
(2) في النسختين: " تذكير أصولٍ "، والمثبت تقدير من المحقق.

(19/268)


وقد يقول الرجل لأمته إذا وطئتك فأنت حرة، وهذا واضح، فلو وطىء وغيّب الحشفة، ثم نزع، فالموطوءة تدخل في الإبهام. ولو وطىء واستدام -والتفريع على أن الوطء يتضمن تعييناً لو تقدم الإبهام عليه، مثل أن يقول لأمتيه إحداكما حرة، ثم وطىء واحدة منهما- فتتعين الأخرى للعتق.
فإذا قال للإماء الأربع: إذا وطئت واحدة منكن، فواحدة حرة، فوطىء واستدام، وقد وضح أن ابتداء الوطء لا ينافي العتق في هذه الصورة. فإذا استدام، فهل يتضمن الاستدامة إخراج الموطوءة عن العتق؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنها تخرج عن إبهام العتق؛ فإن الاستدامة تدل على أنه يبغي استبقاءها، والثاني - أنها لا تخرج عن إبهام العتق بالاستدامة؛ فإن استدامة الوطء حكمها حكم ابتدائه، وقد ذكرنا أن ابتداء الوطء لا يخرجها عن إبهام العتق.
وهذا يقرب من اختلافٍ ذكرناه فيما تقدم، وهو أن الرجل إذا قال لأمته: إذا وطئتك فأنت حرة، فوطئها، فلو وطىء، لم يلتزم مهراً إذا نزع كما (1) غيّب، ولو استدام، فهل يلتزم بالاستدامة مهرها؟ فعلى وجهين. وقد ذكرنا نظير ذلك في كتاب الإيلاء، فيه إذا قال لامرأته: إذا وطئتك، فأنت طالق ثلاثاًً. وهذا الاختلاف في المهر مما تمس الحاجة إليه.
12409 - عدنا إلى مسألة ابن الحداد. قال: إذا كان له أربع من الإماء، فقال: كلما وطئت واحدة منكن، فواحدة منكن حرة، ثم وطىء واحدة، وثانية، وثالثة، فقوله " كلما " يتضمن تكرير العتق، وقد وطىء ثلاثاً منهن، فاقتضى ذلك تكرير العتق ثلاث مرات. فإن فرعنا على أن الوطء يتضمن التعيين للملك -وقلنا: الاستدامة تتضمن التعيين أيضاً، والمسألة مفروضة فيه إذا استدام الوطء في كل واحدة- فالجواب على هذا أنه يتعين للعتق الأولى والثانية والرابعة وترق الثالثة.
وبيانه أنه لما وطىء الأولى، فقد وقع عتق، وخرجت الأولى عن كونها معينة؛ فإنها تعينت للملك بالاستدامة، وخرجت الثانية والثالثة عن ذلك العتق أيضاً، فتعينت
__________
(1) كما: بمعنى عندما.

(19/269)


الرابعة وعَتَقت، ولما وطىء الثانية، وقع عتق آخر، وخرج عنه الثانية لدوام الوطء فيها وتردد العتق بين الأولى والثالثة، ولكن لما وطىء الثالثة، خرجت عن كونها معينة بذلك العتق فتعينت الأولى وعَتَقت، ولما وطىء الثالثة، وقع عتق آخر، ولم يصادف الرابعة والأولى فإنهما قد عَتَقَا من قبل، وخرجت الثالثة عن كونها معينة، فعتقت الثانية. هذا إذا قلنا الوطء تعيين واستدامة تعيين.
فأما إذا قلنا: الوطء بعد العتق تعيين، واستدامته ليست بتعيين -وعليه فَرَّع ابن الحداد- فنقول: لما وطىء الأولى، وقع عتق مبهم بين الأربع، ثم لم يعد إلى وطء الأولى، ولم يطأ الرابعة، فيخرج عن ذلك العتق بين الثانية والثالثة؛ فإنه وطئهما بعد العتق الأول. فإذاً ذلك العتق بين الأولى والرابعة، فيقرع بينهما، فإن خرجت القرعة على الرابعة، عتقت، ثم لما وطىء الثانية، وقع عتق آخر، ولا حظ فيه للرابعة؛ فإنها قد عتقت بالقرعة، ولا حظ فيه [للثالثة] (1) فإنها وطئت بعده، فهو متردد بين الأولى والثانية، فيقرع بينهما، فمن خرجت القرعة عليه منهما، عَتَقَت، ثم لما وطىء الثالثة وقع بوطئها عتق جديد، لا حظ فيه للرابعة، ولمن عَتَقَت من الأولى والثانية، فإن عتقت الأولى، أقرعنا بين الثانية والثالثة. وإن عتقت الثانية، أقرعنا الآن بين الثالثة والأولى، ولا تدخل من عتقت في القرعة؛ ما دمنا نتمكن من الإقراع بين اثنتين لم تتعين واحدة منهما للحرية؛ والسبب فيه أنه لا بد من تحصيل العتق في ثلاث منهن؛ فإن اللفظ يقتضي ذلك صريحاً، ولو أدخلنا عتيقة في [القرعة] (2)، لم يتحصل هذا المعنى.
ولو خرجت القرعة الأولى التي ضربناها بين الأولى والرابعة على الأولى، عتقت، ولما وطىء الثانية، دار العتق بينها وبين الرابعة، والثالثة خارجة من هذا العتق، فإنها موطوءة بعد ذلك، فنقرع بين الثانية والرابعة، فإن خرجت القرعة على الثانية، عتقت، ولما وطىء الثالثة دار العتق بينها وبين الرابعة، فنقرع بينهما، فإن خرجت
__________
(1) في الأصل: " للثانية ".
(2) في الأصل: " الحرية ".

(19/270)


القرعة على الثالثة، عتقت، ورقّت الرابعة، ولا يخفى القياس بعد تمهيد الأصول، إن شاء الله.
وهذا إن قلنا: الاستدامة لا تكون تعييناً، والوطء بعد الإبهام تعيين.
12410 - فأما إذا قلنا: الوطء لا يكون تعييناً أصلاً، فقد وقع بين الإماء الأربع العتق ثلاث مرات، فعَتِق ثلاثٌ منهن، فكيف السبيل في القرعة والتمييز؟ المذهب الصحيح الذي عليه التعويل أن يقرع بينهن على ترتيب في دفعات، فنقول: لما وطىء الأولى، وقع عتق، فيقرع لذلك بين الأربع بسهم عتق وثلاثة أسهم رقّ، والوطء لا يتضمن تعييناً. فإن خرجت القرعة على الرابعة عَتَقَت، ولا مهر، فإنها ليست موطوءة، وإن خرجت القرعة الأولى على الأولى، فقد بأن أنها عَتَقت بابتداء الوطء، فإن قلنا: استدامة الوطء يوجب المهر، فلها مهرها بسبب الاستدامة، وإن قلنا: لا مهر لها بسبب الاستدامة، فلا تستحق شيئاً.
وإن خرجت القرعة الأولى على الثانية، أو على الثالثة، فتستحق المهر؛ فإنا تبينا أنها عتقت قبل أن وطئها السيد بالعتق الواقع بوطء الأولى، والوطء بعد العتق يوجب المهر، ثم إذا عتقت واحدة من الأربعة بالقرعة الأولى، فيقرع مرة ثانية بسهم عتق وسهمي رقّ. فإن كانت الأولى قد عتقت بالقرعة الأولى، فيقرع بين الثانية والثالثة والرابعة، فإن خرجت القرعة على الرابعة، عَتَقَت ولا مهر لها؛ فإنها لم توطأ. وإن خرجت القرعة الثانية على الثالثة، عتقت، وفي استحقاق المهر وجهان مأخوذان من أن استدامة الوطء هل توجب المهر، ثم نقرع مرة أخرى بين الثالثة والرابعة بسهم عتق وسهم رق. فإن خرجت القرعة على الرابعة، فلا مهر، وإن خرجت على الثالثة، فعلى وجهين لما ذكرناه من الاستدامة.
وحقيقة هذا أن المهر يجب بالوطء بعد العتق، وفي الاستدامة وجهان، ثم تبين العتق بالقرعة، وتبين بحسبه أمر المهر على ما يقتضيه القياس. فإن عتقت الثانية بالقرعة الأولى، فقد وُطئت بعد العتق، وإن خرجت القرعة الأولى على الأولى، فيخرج وجهان في أن الاستدامة هل توجب المهر، ولا يبيّن أمرَ المهر إلا ترتيبُ القرعة على هذا الوجه الذي ذكرناه.

(19/271)


12411 - وقال بعض أصحابنا يقرع بين الإماء دفعة واحدة بثلاثة أسهم حرية وسهم رق، فتعتق ثلاث منهن، وتَرِق واحدة، فلو خرج سهم الرق على واحدة أولاً رَقَّت، وعَتَقَت الثلاث الباقيات.
وهذا وإن كان يميز العتق، فالمصير إليه يجر لَبْساً في المهر، فإنه إذا عتقت ثلاث منهن، فكيف ابتداء الوطء واستدامته؟ وبماذا يعلم من تستحق المهر وجهاً واحداً، ومن تخرج المسألة فيه على وجهين من الاستدامة؟ وهذا اللبس يتحقق إذا قلنا: الاستدامة لا توجب المهر، ثم يلتبس عليه الأمر، فإن قلنا: الاستدامة توجب المهر، فتصح القرعة على هذا الوجه، ولكل موطوءة عَتَقت مهرُها، فأما إذا قلنا: الاستدامة لا توجب المهر، فلا تصح القرعة على هذا الوجه قطعاً.
12412 - وإنما يتم الغرض في ذلك بأن نذكر صورة أخرى، فنقول: إذا وطىء الأربع، والمسألة كما صورناها، فلا شك أنهن يعتقن جميعاً، ولا حاجة إلى القرعة لأجل العتق، ولكن أمر المهر مشكل، ولا يتبين أمره إلا بأن يُقرع بينهن بسهم عتق وثلاثة أسهم رق، فإن خرجت الحرية على الأولى، ففي استحقاق المهر وجهان؛ لمكان الاستدامة. وإن خرجت القرعة على الثانية، فلها مهرها، فإنا عرفنا أنها عَتَقَت أولاً ثم وُطئت، وهكذا القياس، والضابط فيه أنا نرتب القرعة على التفصيل المقدم، فمن بان بالقرعة أنها عَتَقت بوطئها، ففيها وجهان مأخوذان من الاستدامة، وإن عتقت، ثم جرى الوطء بعد العتق فيها، فيجب المهر وجهاً واحداً، فإن تقدم وطء واحدة ثم أبانت القرعة العتقَ بعد وطئها، فلا مهر لها وجهاً واحداً.
هذا ترتيب القول في أمر المهر لا ينقدح غيره.
وإن عتقن بجملتهن إذا جرى الوطء مرتبا على ما ذكرناه، فإن قيل: إذا وطىء ثلاثاً منهن كما تقدم تصويره، فهلا أقرعتم بينهن معاً، ثم تقرعون على الترتيب مرة أخرى لمكان المهر، كما فعلتم ذلك فيهن إذا عتقن جميعاً في الصورة الأخيرة؟
قلنا: أنشانا القرعة في المسألة الأخيرة لأجل المهر مرة واحدة. ولو أقرعنا فيه إذا وطىء ثلاثاً منهن دفعة واحدة من غير ترتيب بثلاثة أسهم حُرية وسهم رق، ثم عُدنا

(19/272)


فأقرعنا على الترتيب مرة أخرى، فربما تتناقض القرعتان، فلا ينتظم الأمر أصلاً، فلا وجه إلا الترتيب أول مرة.
فإن قيل: في المسألة الأخيرة أقرعتم للمهر، وهذا لا سبيل إليه؛ فإن القرعة إنما شرعت في العتق، فأما إذا أشكل من تستحق مهراً، فتمييز ذلك بالقرعة بعيد.
قلنا: العتق وإن حصل فيهن فالقرعة تُبيّن الترتيب في وقوع العتق، ثم يترتب عليه أمر المهر، فلم تنشأ القرعة للمهر، وإنما اعتمدنا بها ترتيب العَتاق، وإذا تطرقت القرعة إلى أصله، تطرقت إلى ترتيبه، ثم المهر يَتْبع الترتيبَ.
هذا بيان المسألة على أبلغ وجه في الإمكان.
فرع:
12413 - إذا قال: أعتق عبدك هذا عني، ولك علي مائةُ درهم، فإذا قال: أعتقتُه عنك، نفذ العتق عن المستدعي، ولزمه العوض المسمى، ولا يشترط في ثبوت العوض أن يعيد المعتِقُ ذكرَ العوض؛ فإن الجواب مرتب على السؤال، والسؤال كالمُعاد في الجواب، وهذا قد تمهد في المعاوضات، وغرض الفرع شيء وراء هذا.
فلو قال: أعتق عبدك (1) هذا عني بمائة، فقال: أعتقته، ولم يقل: أعتقته عنك، وقع العتق عن المستدعي، وثبت العوض، وإن لم يضفه إلى المستدعي؛ لما قررنا من حمل الجواب على الخطاب.
ومما يعرض في هذه الصورة أن المجيب لو قال: أعتقتُه، ثم زعم أنه أراد إعتاقه عن نفسه، فالذي أراه أن ذلك مقبول منه؛ فإن لفظه لا ينافي قصده في ذلك، والعبد ملكُه، فخرج من ذلك أنه إن أطلق ولم يقصد شيئاً، فهو محمول على موافقة الخطاب، وإن صرفه إلى نفسه، وجب تصديقه فيه.
ولو قال: أعتق عبدك بمائة، فإذا أعتقه، لم يقع العتقُ عن المستدعي، وفي استحقاق العوض وجهان مشهوران (2) ذكرناهما في كتاب الظهار.
__________
(1) ت 5: " عبدي ". وهو سبق قلم.
(2) أصحهما يلزم العوض.

(19/273)


ولو قال: أعتق أم ولدك عني ولك مائة، فأعتقها، فلا شك أن العتق لا يقع عن المستدعي؛ فإن وقوع العتق يستدعي لا محالة تقديرَ نقل الملك إلى المستدعي، وهذا غير ممكن في أم الولد. ولكن المذهب أن العتق ينفذ في المستولدة، ولا يثبت العوض؛ فإنه قيّد استحقاق العوض بوقوع العتق عنه (1).
وذكر الشيخ وجهاً غريباً أن العتق لا ينفذ؛ فإنه إنما أعتقها على استحقاق العوض، فإذا لم يَسْلم العوض، لم ينفذ العتق، وهذا خطأ غيرُ معتد به؛ فإن من أعتق عبداً عن كفارته، وكان بحيث لا يجزىء عن الكفارة، فالعتق ينفذ، وإن لم تبرأ الذمة عن الكفارة (2).
ولو قال: أعتق أم ولدك، ولك مائة، ولم يقل: أعتقها عني، فالذي قطع به الأئمة أنه يستحق العوض، كما ذكرناه في العبد القن إذا قال: أعتقه، ولم يقل: عني، [وكما ذكرناه أيضاً في اختلاع الأجنبي إذا قال: طلّق زوجتك وعليّ ألف، فإنه يلزم الألف.
ونقل وجهاً آخر -في أم الولد- أنه لا يلزم العوض] (3) وهذا غريب جدّاً (4).
__________
(1) " وقيل يستحق العوض، ويُلْغى قولُه: عنّي، ويجعل باقي الكلام افتداء " قاله النووي في الروضة: 8/ 292.
(2) خالف الغزالي إمامه في ذلك فقال معقباً على هذا بعد أن نقله عن الإمام: " وعندي أن هذا الوجه متجه، ويجري في مسألة الكفارة أيضاً؛ بناء على أن من حاول في تصرفه محالاً، يلغى أصل كلامه، والقدر المحال، كما إذا قال: اشتريته لزيد، وزيد لم يأذن له، لم يقع عن زيد، وهل يقع عن المشتري؟ وجهان. وكذلك إذا قال: أعتقت عن زيد، فلا يبعد أن يؤاخذ ببعض كلامه ويلغى الباقي، بل هو منقاس ". (ر. البسيط: ج 6 صفحة رقم 381 مخطوطة مرقمة الصفحات).
وأقول: لم يحك هذا الوجه القائل بعدم وقوع العتق -فيما رأينا- غير إمام الحرمين والغزالي في البسيط، فلم أره في (البيان) للعمراني، ولا في الروضة للنووي، ولا في الشرح الكبير للرافعي، ولا في التهذيب للبغوي، مع عرضهم للمسألة، وقطعهم بنفوذ العتق، وذكرهم أن المذهب عدم استحقاق العوض، أو الأصح عدم استحقاقه.
(3) ما بين المعقفين زيادة لا يستقيم الكلام بدونها، حيث سقطت من النسختين، وزادها المحقق على ضوء السياق والسباق، مع الاستعانة بألفاظ وعبارات المصادر التي عرضت المسألة.
(4) لم يذكر النووي هذا الوجه، واكتفى بقوله: "وإذا قال: أعتق مستولدتك على ألف، =

(19/274)


ثم أشار إلى الفرق فقال: أم الولد مملوكة تضمن باليد، فلا يتحقق فيها معنى الفداء والتخليص بخلاف الزوجة؛ فإن المالية لا تتحقق فيها، وهذا ليس بشيء (1).
فرع:
12414 - إذا كان بين شريكين جارية مشتركة، وكانت حاملاً بولد رقيق مشترك بينهما، فقال أحد الشريكين: نصفي من الجنين حر، فأتت بولد لزمان يعلم أنه كان موجوداً يوم الإعتاق، نُظر: فإن انفصل حياً، حكمنا بأنه حر: إعتاقاً وسراية، وعلى المعتِق قيمةُ نصفه لشريكه.
وكل ذلك تفريع على تعجيل السراية.
ثم اتفق الأصحاب على أنا نعتبر قيمةَ يوم انفصاله حياً؛ فإن العتق وإن تقدم على هذه الحالة، فلا يمكن اعتبار حالة متقدمة على وقت الانفصال، وهذا أصل ممهد.
ولو انفصل الجنين ميتاً، نُظر: فإن انفصل من غير جناية جانٍ، فلا ضمان على المعتِق، وإن انفصل بجناية جانٍ، فعليه غرةُ عبدٍ أو أمة، كما لا يخفى تفصيل الغرة.
وإنما أوجبنا الغرة؛ لأن الجنين حر مسلم، ثم يجب على المعتِق لشريكه نصف عشر قيمة الأم؛ نظراً إلى قيمة الجنين المملوك، وإنما يلزم المعتِق القيمةُ مع تقدير استمرار الرق والملك. وهذا واضح.
قال القفال فيما حكاه الشيخ: هذا فيه إذا كان عشر قيمة الأم مثلَ الغرة أو أقلَّ، فيلتزم نصف العشر في مقابلة نصيب صاحبه من الجنين، فأما إذا كان عشرُ القيمة أكثر
__________
= فأعتقها، نفذ العتق، وثبت الألف، وكان ذلك افتداءً من المستدعي، كاختلاع الأجنبي" (ر. الروضة: 8/ 292). وكذا البغوي في التهذيب ذكر المسألة عرضاً في كفارة الظهار، ولم يذكر إلا أن العوض يستحق (ر. التهذيب: 6/ 173) وأما الغزالي فذكر هذا الوجه في البسيط ووصفه بأنه غريب -كما وصفه إمام الحرمين- ولم يذكره في الوسيط.
(1) حقاً إن هذا الفرق ليس بشيء، فليس هناك من ناحية الافتداء والتخليص فرق بين الزوجة وأم الولد، وإنما الفرق بين الزوجة وأم الولد من جانب وبين العبد القن من جانب آخر، والمعنى أنه لو قال: أعتق عبدك ولك عليّ ألف، عتق العبدُ، ولزمه الألف، هذا هو المذهب، وفيه وجه أنه ينفذ العتق، ولا يلزم العوض، وهذا الوجه يخرج في العبد والأمة ولا يخرج في أم الولد واختلاع الزوجة، والفرق أنه يمكن شراء العبد أو الأمة وإعتاقهما، فلا تتعين هذه الطريقة لتخليصهما، بخلاف الزوجة والمستولدة، إذا احتيج إلى فدائهما وتخليصهما.

(19/275)


من الغرة، فلا يلتزم لصاحبه إلا نصف الغرة، فإن سبب وجوب الضمان (1) الغرةُ بدليل أنه لو انفصل من غير جناية، لم يجب شيء من الضمان، فينبغي أن يُعتبر مقدارُ الغرة كما اعتبرنا أصلها.
قال الشيخ أبو علي: الوجه ألا ننظر إلى مقدار الغرة ونسبة عُشر قيمة الأم إليه، بل نقول: يلتزم نصفَ عُشر قيمةِ الأم بالغاً ما بلغ؛ فإن انفصاله مضموناً بمثابة انفصاله حياً، والدليل عليه أن الغرة الواجبة يستحقها وارث الجنين، وقد لا يستحق المعتق منه شيئاً، ومع هذا ألزمناه الغرم، وإنما كان يجب مراعاة المناسبة بين الغرمين لو كان الواجب بالجناية للمعتِق، فإذا كان يغرَم بعتقه وليس له من الغرة شيء، فيلتزم نصفَ عشر القيمة من غير التفات إلى المقدار والتساوي والتفاوت.
فرع:
12415 - إذا قال مالك عبدين: أحدكما حر على ألف درهم، فقالا جميعاً: قبلنا، معناه قبل كل واحد منا ألف درهم؛ فإنهما لو قبلا ألفاً على معنى التوزيع، لم يعتق واحد منهما؛ فإنه علّق عتق أحدهما بقبول أحدهما ألف درهم، فإذا قال كل واحد منهما: قبلت الألف، فقد تحقق متعلَّق العتق، فوجب الحكم بنفوذه على الإبهام.
ثم لو مات المولى، وقلنا: لا يقوم الوارث في البيان مقامه، أو لم يكن له وارث معين، فنُقرع بينهما. فمن خرجت عليه القرعة، ألزمناه.
وفيما نُلزمه وجهان: أصحهما - أنه نُلزمه قيمةَ رقبة نفسه، فإن القبول جرى في مقابلة إيجاب مبهم. ولا تصح المعاوضة على هذه الصفة، ولكن نفذ العتق لتحقق الصفة، فالرجوع إلى قيمة الرقبة الفائتة بالعتق.
وحكى الشيخ وجهاً آخر أن من تعيّنه القرعة، فعليه الألف المسمى، ويقبل المسمى الترديد، كما قَبِل العتقُ في نفوذه ذلك اتباعاً لعوض العتق، وهذا بعيد لا اعتداد به.
__________
(1) سبب وجوب الضمان الغرة: المراد ضمان الشريك لشريكه، فلو لم توجد الغرة -كأن انفصل ميتاً بغير جناية- فلا ضمان على الشريك. هذا معنى كون الغرة سبباً في الضمان.

(19/276)


فرع:
12416 - إذا شهد شاهدان على أن فلاناً أوصى بعتق هذا العبد، وعيّنا عبداً، ونفذ القضاء بشهادتهما، وشهد شاهدان على أنه أوصى بعتق عبد آخر، وكل واحد منهما يعدل ثلثَ التركة، ثم رجع الشاهدان الأولان، فالقضاء لا ينقض بعد نفوذه، ويقرع بين العبدين، فإن خرجت القرعة على العبد الأول، التزم الراجعان قيمة [ثلث] (1) التركة لرجوعهما، فإن الذي جرى منهما تفويت لا يتوقع له مستدرك، فيوجب الضمان مذهباً واحداً.
ثم إذا اتفق ما وصفتُه، فالتركة متوفرة على الورثة من غير نقصان، وإن كانت إحدى البينتين مصرة على شهادتهما؛ فإن القرعة عينت العبد الأول واقتضى الشرع تغريم الراجعَيْن.
وإن خرجت القرعة على العبد الثاني، وشهوده مصرون، عتق ذلك العبد، ولم يغرم الراجعان شيئاً؛ فإن القرعة لم تُفض إلى عتق من شهدا عليه، وسلم الرق فيه للورثة.
فرع:
12417 - عبد مشترك بين ثلاثة، فشهد اثنان منهم على الثالث بأنه أعتق نصيبه، [وكان موسراً] (2)، فالمذهب ردُّ شهادتهما، والتفريع على تعجيل السراية، وإنما رددنا شهادتهما، لأن موجبها أن يغرَمَ الشريكُ لهما قيمةَ نصيبهما، وهما مثبتان لأنفسهما استحقاقاً.
وذكر الشيخ وجهاً بعيداً أن عتق الثالث يثبت في نصيبه، ولكنا لا نُلزمه قيمةَ نصيب الشاهدين، فتقبل الشهادة في العتق، ونردُّها في مكان التهمة. وهذا ليس بشيء؛ فإن الشهادة إذا كان وضعها اقتضاء التهمة، فينبغي أن ترد، ثم إن رددنا شهادتهما على ظاهر المذهب، فالعتق نافذ في نصيبهما مؤاخذة بالإقرار؛ فإن الشهادة وإن ردّت على الثالث لمكان التهمة، فهما مؤاخذان بإقرارهما قطعاً.
وإن قلنا: العتق لا يتعجل سرايته قبل غرامة القيمة، فحينئذ لا يعتِق نصيبهما،
__________
(1) زيادة اقتضاها السياق، وسقطت من النسختين.
(2) في النسختين: " وكانا موسرين ".

(19/277)


ولكن المذهب الظاهر أنه يمتنع عليهما التصرفُ في نصيبهما بموجب إقرارهما بناء على ما قدمناه في تفريع سريان العتق.
فرع:
12418 - إذا شهد شاهدان أن هذا الشريك أعتق نصيبه من العبد المشترك، وكان موسراً، ونفذ القضاء بشهادتهما؛ فلو رجعا، فلا مردّ للقضاء، فإن فرّعنا على تعجيل السراية، فلا شك أنهما يغرمان قيمةَ نصيب من شهدا على إنشائه العتق؛ فإن هذا لا مردّ ولا استدراك له، فقطعنا بالغرم.
فأما قيمة نصيب الشريك، فقد وجبت بالشهادة كما ذكرنا. فإذا رجعا، فهل يغرمان تلك القيمة؟ هذا يخرج على القولين. والسبب فيه أن الشريك الذي أثبتنا السراية في نصيبه ربما يقر لشريكه، ويكذب الشاهدين، ويرد القيمة، فالاستدراك (1) موهوم (2)، فخرجت المسألة في الغرم على قولين.
ولو شهد شاهدان على أحد الشريكين بأنه أعتق نصيبه من العبد وشهد شاهدان آخران أن الشريك الثاني أعتق نصيبه من العبد ولم يتعرض واحد لتاريخ، فيحكم الحاكم بنفوذ العتق في جميع العبد لا محالة، ولا يمكننا أن نقضي بسراية؛ إذ لا تاريخ في تقدم أو تأخر، وليس أحدهما بأن نقدره مُنشئاً ابتداء أولى من الثاني، فلو رجع الشهود بأجمعهم عن الشهادة بعد نفوذ القضاء، وهم أربعة، فيغرم كل واحد منهم ربع قيمة العبد لمن شهد عليه، وتعليله بيّن.
وحكى الشيخ وجهاً آخر أنه لا يَغرم واحدٌ منهم شيئاً لجواز أن نقدر تقدماً في أحد العتقين وسرايته إلى الثاني، فتكون بيّنة الإعتاق شاهدة على الإعتاق بعد السريان. ولو وقع كذلك تحقيقاً، لما وجب على شهود الإعتاق بعد السريان شيء.
ثم هذا الاحتمال لا يختص بجانب، بل يجري في الجانبين جميعاً، والأصل براءة الذمة، فيجب أن ينفى الغرم.
وهذا وجه بعيد لا أصل له. فإن الراجع مؤاخذ بموجب قوله، وهو معترف
__________
(1) ت 5: " فالاشتراك فيه موهوم ".
(2) موهوم: بمعنى محتمل.

(19/278)


بالرجوع عن الشهادة على إنشاء العتق، فليلزمه الغرم على موجَب رجوعه، ولا ينبغي أن ندعي له تأويلاً هو لا يدعيه لنفسه، وأيضاً فإن فوات العبد قد تحقق قطعاً بشهاداتهم، وليس البعض أولى من البعض، فالوجه تغريمهم، كما ذهب إليه الأكثرون، لا وجه غيره.
فرع:
12419 - إذا شهد شاهدان أنه أعتق سالماً في مرضه - وهو ثلث ماله، وقال الوارث: قد أعتق غانماً -وهو ثلث ماله- ولم يتعرض لتكذيب الشاهدين، فقد ثبت العتق في سالم وغانم في ظاهر الحال، فنقرع بين العبدين، فإن خرجت القرعة على غانم الذي أقر له الوارث، عتق، وعتق سالم، فإنا لو رَدَدْنا عتق سالم، لكنا قد تسببنا إلى رد العتق المشهود عليه بسبب إقرار الوارث، ولا سبيل إلى هذا، ولو لم يكن إقرار الوارث، لعَتَق سالمٌ قطعاً، ولو خرجت القرعة على سالم، فعتقه محكوم به، ولكن يرق غانم؛ لأن الوارث اعترف بعتقه في المرض وذلك يوجب القرعة، فمقتضى إقراره تعريضُ غانمٍ للقرعة، فأما أن يعتِق لا محالة، فلا.
فرع:
12420 - ذكر الشيخ في مقدمة مسألة في الغرور زوائد، نذكرها ثم نذكر المسألة قال: إذا غُر الرجل بأمة في النكاح، واعتقد حريتها، وولدت على غرور ولداً، فهو حر، ثم يغرم المغرور لسيد الأمة قيمة الولد إذا انفصل حياًً. وهذا مشهور.
وقال الشيخ: القياس ألا يغرم شيئاً، لأن الولد خلق حراً، فلم يثبت فيه رق ثم تسبب إلى إزالة الرق، وإنما يجب الغرم لمالك الرق إذا فرضت جناية فيما ثبت ملكه فيه.
ثم قال: وهذا فلا (1) وقع له. والإجماع بخلافه، فأوضح أن الذي ذكره ليس بتخريج، [وإنما هو إبداء قياس] (2) واحتمالٌ غيرُ مقولٍ به.
__________
(1) كذا في النسختين (فلا) بالفاء. ووضعُ الفاء مكان الواو معهودٌ في لسان الإمام وكل معاصريه من الأئمة والمؤلفين.
(2) في الأصل: قلنا: " هو إيداء قياس ... إلخ " والمثبت من (ت 5).

(19/279)


ثم أجرى في أثناء المسألة أن من قال من أصحابنا: لا يغرم المغرور شيئاً، فتفريعه كذا، وهذا يوهم أن ما ذكره وجه، ولست أثق بهذا، وقد انعقد الإجماع على خلافه، وجرى به قضاء عمر رضي الله عنه (1).
وقد ذكر الشيخ في صدر المسألة أن هذا قياسٌ غير معمول به والإجماع على خلافه.
ومما زاده أن قال: من أصحابنا من ذهب إلى أن الولد يمسّه الرق، ثم يعتِق بسبب الغرور، وهذا غريب جداً، لم أره لغيره، فلا أعدّه من المذهب.
12421 - ثم نرجع إلى صورة المسألة: قال ابن الحداد: إذا غُرّ الرجل بأمة وجاء الولد على الغرور حراً كما ذكرنا، فلو بان أن الجارية كانت لأب المغرور، فالمذهب أنه يغرم قيمةَ الولد جرياً على قياس الغرور.
ولو نكح جارية أبيه على علمٍ، لكان الولد يعتِق على الجد، وإذا جرى الغرور على جهلٍ من المغرور بأن الجارية لأبيه، فالغرم واجب.
وقد حكى الشيخ وجهاً أنه لا يجب الغرم، فإن تقدير الرق في الولد مما لا ينتفع به الأب. فإنه يعتق عليه لا محالة. فإذاً لم يفته بسبب الغرور رقٌّ ينتفع به، وهذا ينبه على أمر آخر، وهو أن الابن إذا نكح جاريةَ أبيه، فقد ذكرنا أن الرق لا يبقى في الولد، وإن كان الابن عالماً، فظاهر كلام الأئمة أنه لو كان كذلك، لقلنا: ينعقد رقيقاً، ثم يعتِق على الجد، وهذا كما لو اشترى أو اتهب من يعتق عليه، فالملك يحصل، ثم يترتب عليه العتق. فوجود الولد من جاريته سبب في تملك الولد، فليحصل الملك فيه ثم يعتق.
وهذا فيه أدنى احتمال؛ فإن انعقاد الولد حراً ليس بدعاً، ويستحيل شراء لا يفيد ملكاً، وكذلك الإرث وغيرهما من أسباب الملك، ولا يستحيل علوقٌ على الحرية.
__________
(1) أثر عمر عزاه الحافظ إلى البيهقي من حديث الشافعي عن مالك (ر. التلخيص: 4/ 391 ح 2706).

(19/280)


فلو قيل: لا ينعقد الولد إلا حراً، لم يبعد. والله أعلم.
فرع:
12422 - إذا كان في ملك المريض ثلاثة آلاف درهم، فاشترى في مرض موته عبداً قيمته ألف درهم، بألفي درهم، فقد حابى بثلث ماله، فلو أعتق ذلك العبد الذي اشتراه، فقد قال ابنُ الحداد: نُظر فيه؛ فإن لم يوفر الثمن حتى يعتق قال: نفذ العتق، وردت المحاباة، ولزم البيع في العبد بثمن المثل.
وإن وفّر الثمن، لزمت المحاباة، ورددنا العتق.
وقد جمع ابن الحداد بين غلطات فاحشة، فنذكر المذهب الحق ثم نذكر وجوه خطئه، فنقول: المحاباة لازمة؛ لأنها على مقدار الثلث والعتقُ مردود؛ فإنه وقع بعدها، ولا فرق بين أن يقع العتق بعد التوفير أو قبله؛ فإن المحاباة لا يتوقف لزومها حيث تلزم على إقباض وتسليم، وقد ثبت فيها التقدم.
وأما غلطاته، فمن وجوه: منها أنه فرق بين أن يوفر الثمن وبين أن لا يوفر، ومنها أنه ألزم البيع بمقدار ثمن المثل، وهذا ليس بشيء؛ فإن البائع لا يرضى بهذا، وهو يقول: إذا لم يسلم لي الثمن المسمى، فسخت العقد، فلا وجه لما قال أصلاً.
قال الشيخ: اتفقت له زلاّت في مسائل الكتاب، ولم تتفق زلة أفحش مما ذكرناه في هذه المسألة، إذ لا إشكال ولا خيال فيها.
فرع:
12423 - جارية مشتركةٌ بين شريكين زوجاها من ابن أحدهما، قال ابن الحداد: إذا ولدت، عتق نصف الولد على الأب، ويبقى نصفه رقيقاًً، ولا يسري العتق؛ فإن السريان إنما يثبت إذا كان التسبّب إلى العتق مختاراً، كما مهدنا ذلك في بابه، ولم يوجد اختيار من الأب، فوقف العتق على النصف ولم يسرِ، فالولد نصفه رقيق ونصفه حر.
قال الشيخ: رأيت لبعض من شرح الفروع شيئاً لا أصل له، وهو أنه قال: إنما لا يسري لأن نصف الولد ينعقد حراً، ولا نقول: ينعقد الكل رقيقاًً، ثم يعتِق نصفه.
والحرية الأصلية لا تسري وإنما يسري العتق الوارد على الرق في بعض الولد. وقد أشرت إلى إظهار ذلك احتمالاً فيما تقدم.

(19/281)


ثم قال الشيخ: هذا خطأ. والمقطوع به أن الولد ينعقد جميعه رقيقاًً، ثم يَعْتِق نصفه على الأب، وتعليل عدم السريان بما ذكرناه من سقوط الاختيار في تحصيل الملك، ولا نظر إلى كون التزويج صادراً عن الرضا؛ فإن وقوع الوطء وجريان العلوق بعده لا يتعلق باختيار المزوّج. والله أعلم.
***

(19/282)


باب الولاء
12424 - من عَتَق في ملكه مملوك فولاء ذلك العتيق لمن حصل العتق في ملكه، ولا فرق بين أن يحصل الملك اختياراً، وبين أن يقع شرعاً ضرورة من غير اختيار.
فإذا أعتق الرجل مملوكه، أو اشترى من يعتِق عليه، فَعَتَقَ، فالولاء يثبت له، وكذلك إذا ورث من يعتق عليه وعَتَق، يثبت الولاء.
والأصل في الولاء السنة والإجماع.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الولاء لحمة كلحمة النسب ". وفي بعض الروايات: " لا يباع، ولا يورث، ولا يوهب " (1).
وقال صلى الله عليه وسلم: " الولاء لمن أعتق " (2).
والولاء أثر نعمة أنعمها المعتِق على المعتَق، فكأنَّ حقيقته ترجع إلى انتساب المنعَم عليه إلى المنعِم، ثم ذلك الانتساب يثبت أحكاماً، كما سيأتي شرحها، إن شاء الله في تفاصيل الباب.
ومما يعهد في الشريعة أن اجتماع أحكام قد يعبر عنها بعبارة تجمعها كالبيع؛ فإنه عبارة عن اجتماع قضايا وأحكام، وليس العقد في التحقيق زائداً عليها. ثم يسمى ثبوتها عقداً، ويسمى رفعها فسخاً، كذلك الولاء في الحقيقة انتسابٌ لازم، سببه نعمةُ العتق، ثم تعلق بذلك الانتساب أحكامٌ، والعبارة عن مجموعها الولاء.
__________
(1) حديث " الولاء لحمة كلحمة النسب " رواه الشافعي، وابن حبان، والبيهقي من حديث ابن عمر (ر. ترتيب مسند الشافعي: 2/ 72، 73، صحيح ابن حبان: 7/ 220، السنن الكبرى: 10/ 292، التلخيص: 4/ 392 ح 2708).
(2) حديث " الولاء لمن أعتق " متفق عليه من حديث عائشة (ر. البخاري: العتق، باب بيع الولاء وهبته، ح 2536، مسلم: العتق، باب إنما الولاء لمن أعتق، ح 1504).

(19/283)


وليس الولاء حقاً مملوكاً؛ إذ لو كان كذلك، لأمكن حطُّه وإسقاطُه كسائر الحقوق الثابتة للآدمي، وإنما هو كالنسب الذي لا يتصور إسقاطه، وقد دل قول الرسول عليه السلام على ما ذكرناه في ذلك؛ إذ قال: " الولاء لحمة كلحمة النسب " معناه أنه انتساب كالنسب. وقال: " مولى القوم منهم " (1). وقال: " سلمان منا أهل البيت " (2).
وقد قال كثير من أئمتنا من أوصى لبني فلان بشيء دخل الموالي فيهم، وقالوا: الصدقة كما تحرم على بني هاشم وبني المطلب، تحرم على مواليهم.
وعلى هذا الأصل امتنع نفي الولاء بالشرط. فمن أعتق عبداً وشرط ألا يكون له ولاء، لم ينتف كما لا تنتفي الأنساب بعد ثبوتها.
12425 - ثم الكلام في الباب يتعلق بأصلين: أحدهما - في الجهات التي يثبت الولاء بها. والثاني - في أحكام الولاء.
فليقع البداية بجهات الولاء، ويجب أن يكون للناظر فضل اعتناء بهذا الباب؛ فإنه مزلة الأقدام، وقد كثر فيه غلطاتُ الكبار، ونحن لا نألوا في الكشف والبيان جهدنا -إن شاء الله عز وجل- وهو ولي التأييد بمنّه ولطفه. فنقول:
الولاء يثبت بمباشرة العتق، وهو أقوى الجهات. ويثبت بغيره أيضاً.
__________
(1) حديث " مولى القوم منهم " رواه أصحاب السنن، وابن حبان من حديث أبي رافع (ر. أبو داود: الزكاة، باب الصدقة على بني هاشم، ح 1650، الترمذي: الزكاة، باب ما جاء في كراهية الصدقة للنبي صلى الله عليه وسلم وأهل بيته ومواليه، ح 657، النسائي: الزكاة، باب مولى القوم منهم، ح 2612، ابن حبان: 5/ 124 ح 3282، التلخيص: 4/ 393 ح 2711).
(2) حديث " سلمان منا آل البيت " رواه ابن سعد في الطبقات (4/ 82، 7/ 318) والطبراني في الكيير (6/ 260) والحاكم (3/ 598) والبيهقي في الدلائل (3/ 418) من حديث عمرو بن عوف مرفوعاً. قال الألباني: ضعيف جداً، وقد صح عن علي رضي الله عنه موقوفاً من طرق، رواه ابن أبي شيبة (12/ 148 ح 1238)، وابن سعد (2/ 346، 4/ 85)، وأبو نعيم في الحلية (1/ 187). (ر. سلسلة الضعيفة للألباني: 8/ 176 - 181 ح 3704، ضعيف الجامع الصغير: 3272).

(19/284)


فأما ولاء المباشرة: فهو الثابت لمن حصل العتق في ملكه.
فأما غيرُه من الجهات، فمن استحق ولاءَ شخص بالإعتاق، أو حصولِ العتق فيه، فلو أعتق ذلك العتيق عبداً، فلا شك أنه أولى بولائه، فإن ولاءه عليه بالمباشرة.
ولكن لو مات المعتِق، فيثبت للمعتِق الأول ولاءُ معتَقِ معتَقه. على ترتيبِ سيأتي وصفه -إن شاء الله عز وجل- عند ذكر أحكام الولاء. فمعتَق المعتَق منتسب إليه بولاء المباشرة. وهو منتسب إلى المعتِق الأول بانتسابه إلى معتِقه. فهذه جهة.
والجهة الأخرى الولادة، فولد المعتَق عليه حكم الولاء لمعتِق الوالد.
فخرج مما ذكرناه أن الولاء يثبت حكمه بجهتين أخريين. إحداهما: معتَق المعتَق، والثانية: ولد المعتَق.
ثم لا يختص بولد صلبه، بل يطّرد ويجري على أحفاده، كما سنوضح ذلك بالتفصيل -ولا يتأتى الهجوم على المشكلات إلا قليلاً قليلاً- ثم كما يثبت الولاء على ولد المعتَق يثبت الولاء على ولد المعتَقة، وثبوته على ولد المعتَقة أقرب إلى درك الفهم من ثبوته على ولد المعتَق؛ فإن ولادة المعتَقة محسوسة، والانتساب إلى المعتَق حكمٌ غير محسوس ولا مستيقن.
12426 - وينشأ (1) من هذا المنتهى الكلامُ في جر الولاء، ونحن بعون الله نوضح ما فيه. فنقول:
إذا نكح معتَقٌ معتقَةً، فأتت بولدٍ، فهو متردد بين أبويه ولادةً وانتساباً، والولاء يثبت على الولد. واتفق العلماء على أن الولاء على الولد بين المعتَق والمعتَقة لموالي المعتَق، ولا يثبت الولاء لموالي الأم، وهذا يؤكد ما ذكرناه في قاعدة الباب من أن الولاء انتساب؛ فإن النسب إلى الآباء، فكان انتساب الولاء إلى الأب أولى، ثم ينتسب إلى معتَق الأب منه، ولم يصر أحد إلى كون الولاء مشتركاً بين مولى الأب ومولى الأم.
__________
(1) في هامش نسخة الأصل كلمة: (وتبينا) مع علامة لحق بعد كلمة: (وينشأ) ولم أعرف لها موضعاً.

(19/285)


ثم نخوض من هذا الموضع في تفصيل جر الولاء، فنقول: إذا نكح مملوكٌ معتَقةً، فأتت بولد، فهو حر بمثابة الأم، ويثبت عليه الولاء لموالي الأم، ولا يثبت الولاء لمالك الأب؛ فإنه لا ولاء له عليه، فكيف يثبت له الولاء على ولده؟ وإنما قلنا كذلك، لأن الولاء انتساب إلى المنعِم بالعتق، ولم يتحقق ذلك في جانب الأب، ثم لو أعتق السيد العبدَ، ثبت له ولاءُ المباشرة عليه، وانجرّ الولاء على ولده إلى معتِق الأب من معتِق الأم، وهذا أصدق في تقوية جانب الأب في انتساب الولاء؛ فإن الولاء الثابت المحكوم بثبوته لمولى الأم ينقطع عنه، ويثبت لمعتِق الأب.
ومما يجب الإحاطة به في هذا المقام أن الولد لو مات والأب رقيق بعدُ، فورثه مولى الأم، ثم عَتَقَ الأبُ، فذلك الميراث المحكوم به لا ينتقض، بل هو مقر على ما جرى الحكم، والسرّ فيه أن الولاء إذا انجرّ، فليس المعنيّ بانجراره أنا نتبين من طريق الاستناد أن الولاء لم يزل في جانب الأب؛ ولكن المراد به أنه ينقطع من وقت عتق الأب عن مولى الأم، وينجز إلى مولى الأب.
ولو نكح معتَق معتَقة، فأتت بولد، فنفاه المعتَق باللعان، فإن انتفى نسبه، فلا ولاء عليه لمولى الزوج؛ فإن [الولاء] (1) يتبع النسب، فلو مات ذلك الولد، صرفنا ميراثه إلى مولى الأم.
ولو كذب الزوج نفسه، واستلحق النسبَ الذي كان نفاه باللعان، لحقه النسب، ثم ينقطع الميراث عن مولى الأم؛ فإن هذا بابه الإسناد والتبيّن، وهذا واضح لا خفاء به، فوضح أن سبب (2) الجر يقطع ولاء الولد عن موالي الأم، ولا يستند ذلك إلى متقدم سابق.
ومما نذكره في أصل الجر أن المعتَق لو نكح أمة، فأولاده منها أرقاء، فلو أعتقهم مالكهم، ثبت له الولاء بمباشرة العتق، وولاء المباشرة لا يثبت لغير المعتِق، ولا ينجر إلى جانب الأم أصلاً، وإنما ينجر ولاءٌ ثبت عن تعدي الولاء من الأم إلى الولد. وهذا متفق عليه.
__________
(1) في الأصل: " انتسابه "، وفي ت 5 غير مقروءة، والمثبت من المحقق.
(2) ت 5: " نسب الحر " مكان " سبب الجز ".

(19/286)


ولو نكح معتَقٌ حرة أصلية، لا ولاء عليها، فأتت بولد، فالمذهب الذي يجب القطع به أن الولاء يثبت عليه لموالي الأب نظراً إلى الأب، وهو معتَق. والدليل عليه أن الأب لو كان رقيقاً، والأم معتَقة، ثبت الولاء بسبب كون الأم معتقة، وإن لم يكن في جانب الأب الرقيق ولاء، فكذلك إذا كان على الأب ولاء، ثبت الولاء على الأب. وإن كانت الأم حرة، لا ولاء عليها، نظراً إلى الانتساب.
والذي يوضح ذلك أن ولد المعتَق من معتَقة يثبت الولاء عليه، وإن لم يمسّه رق قط؛ نظراً إلى الولاء على الأب.
ولو نكح حر لا ولاء عليه معتقةً، وأتت منه بولد، ففي المسألة ثلاثة أوجه: أحدها - أن الولاء لا يثبت؛ فإن جانب الأب لا ولاء فيه، وهو حر مستقل، والنسب إليه؛ فينبغي أن يكون بمثابة أبيه في انتفاء الولاء عنه، وليس كما لو كان رقيقاًً؛ فإنه يتصور الولاء عليه إذا أعتق. والوجه الثاني أن الولاء يثبت على الولد لمولى الأم؛ فإنها معتقة، وقد امتنع إثبات الولاء في جانب الأب. والوجه الثالث - أنه ينظر إلى الزوج، فإن كان حراً ظاهراً وباطناً -وهو الذي لا يتمارى في حريته- فلا ولاء على الولد، وإن كان ظاهر الحرية لا اطلاع على باطن أمره، كالذي يحكم له بالحرية لظاهر الدار، أو للبناء على أن الأصل في الناس الحرية، فالولاء يثبت على الولد لمولى الأم لضعف الحرية في الأب.
وقد ذكر شيخي أبو محمد في المعتَق إذا نكح حرة لا ولاء عليها أن الولد لا ولاء عليه عند بعض أصحابنا. وهذا ليس بشيء ولست أعتد به، ولذلك ذكرته آخراً وأخرته عن ترتيب المذهب.
12427 - ومما يتعلق بقاعدة الكلام في الجرّ أن العبد إذا نكح معتقة، وولدت منه ولداً، فهو حر، يثبت عليه الولاء لموالي الأم، ولو اشترى هذا الولدُ -لما استقل- أباه المملوك، وعتق عليه، فالذي يقتضيه قياس الجرّ أن ينجر ولاؤه إلى جانب الأب؛ فإنه قد عَتَق. ولكن ما ذهب إليه الأكثرون أنه لا ينجرّ الولاء في هذه الصورة عن مولى الأم؛ فإنه لو انجر، لثبت لمعتِق الأب. ومعتِق الأب هو الابن. فيلزم منه

(19/287)


أن ينجر إليه ولاؤه، فيصير مولى نفسه، أو ينجر ويزول وكلاهما بعيد، فإن الولاء لا يزال بعد ثبوته أصلاً.
وقال ابن سريج ينجرّ الولاء عن موالي الأم، فينقطع ويصير الولد بمثابة من لا ولاء عليه أصلاً. وهذا بعيد (1) لا تفريع عليه.
12428 - ومن الأسرار التي بالغفلة عنها يستبهم الباب على طالبه أنا إذا كنا نجرّ الولاء إلى جانب الأب، فلسنا نعني بذلك أن الولاء يثبت للأب، ثم يثبت منه لمولاه ومعتِقه، ولكن لا يثبت الولاء على الولد إلا للأب، ولا نقول: المعتَق إذا كان له ولد، فله ولاؤه، وليس كالمعتِق إذا أعتق عبداً؛ فإن ولاءه لمعتِقه، ثم بعده لمعتِق المعتَق، والدليل على ذلك أن الابن من المعتَقة إذا اشترى أباه المملوك، فالولاء لا ينجر عن مولى الأم على الظاهر، ولا نقول ينجر إلى الوالد ولا ينجر منه إلى [الولد] (2). ولا يستغني الناظر في مسائل هذه عن تفكر وردٍّ إلى النظر والتدبر.
12429 - ومما ذكره الأئمة في أصول الجر أن المملوك لو نكح معتقة، وولدت، وقلنا: الولاء لمولى الأم لا محالة، والزوج عبد، فلو كان أبوه الذي هو جد المولود عبداً أيضاً، فلو اشترى إنسان جده وأعتقه، فهل ينجرّ الولاء إلى معتِق الجد؟ فعلى وجهين مشهورين: أحدهما - ينجر إليه؛ فإن الجد أصل المولود من قبل أبيه، وقد حصل العتق فيه. والثاني - أنه لا ينجر الولاء بإعتاق الجد؛ فإن الأب باق رقيق، والعتق فيه ممكن، فلو قلنا: لو أُعتق الأب، انجر من معتق الجد إلى معتق الأب، فهذا ولاء مجرور غير مستقر، وهو بعيد، وإن قلنا: لا ينجر من معتق الجد إلى معتق الأب، فهو بعيد، فالوجه أن نقول: لا ينجر إلى معتِق الجد أصلاً. والأصح [الوجه] (3) الأول. وهو أنه ينجر إلى معتق الجد، ثم ينجر منه إلى معتق الأب.
__________
(1) خالف الغزالي إمامه في ذلك، إذ قال: " واستبعاد هذا من ابن سريج؛ يبعد عندي، فإنه صار أولى بنفسه من غيره، فيستفيد قطع ولاء موالي الأم عن نفسه " (ر. البسيط: الجزء السادس، صفحة رقم 384 - مخطوطة مرقمة الصفحات).
(2) في الأصل: " المولى ". والمثبت من (ت 5).
(3) زيادة من (ت 5).

(19/288)


والذي تحققتُه من مذهب الأئمة أن الأب لو مات رقيقاًً، فأعتق معتق الجدَّ أبَ الأب، فينجر الولاء من مولى الأم إلى معتِق الجد وجهاً واحداً؛ فإنه يستقر، ولا يتوقع فيه بعد ذلك انجرار.
12430 - فهذه قاعدة المذهب في جر الولاء، ومنشؤها من قولنا: جانب الأب أولى من جانب الأم، وقد تقرر بمجموع ما ذكرناه أن الولاء يثبت لمعتِق المعتَق، ويثبت على ولد المعتَق والمعتَقة، ثم تفصيل الجر على ما تمهد.
ومما يليق بتمام القول فيه أن ولد المعتَق إذا صرفنا ولاءه إلى مولى الأب، فلو أعتق هذا الولدُ عبداً، فله ولاء المباشرة عليه، فلو مات هذا الولد، ولم يخلف عصبة سوى معتِق أبيه، ثم مات معتَقه، فميراثه لمعتِق الأب.
وفائدة ذلك أن معتَق المعتَق قد ينتهي انتسابه إلى المعتِق الأول، كذلك معتَق ولد المعتَق ينتهي إلى معتِق الأب الذي أثبتنا له ولد الولد، فيلتف النسب بالولاء في جهة الانتماء والولاء بالنسب [إذا] (1) افتتحنا الكلام في الأحكام. وإنما غرضنا الآن إيضاح جهات الولاء وإحكام قواعدها [ثم إنها تتهذب] (2) بالفروع وإكثار الصور المعقَّدة.
والله ولي الإعانة بمنّه ولطفه.
فرع في جر الولاء:
12431 - إذا تزوج عبد بأمة، فما يحصل من الأولاد رقيق، فلو وُلد ولا رقيق، فاعتقه مالكه، وهو مالك الأم، فيثبت له عليه ولاء المباشرة، وهذا لا يتصور انجراره، كما قدمنا ذكره وتمهيدَه، ولا يثبت عليه ولاء السراية، والمراد به أنه لا يثبت مع ولاء المباشرة ولاء بسبب ولاء الأم أو بسبب ولاء الأب عند جريان العتق عليهما أو على أحدهما، بل لا يتصور فيه -وقد مسّه الرق والعتق- أن يثبت عليه ولاء من غير جهة المباشرة، ولا يتصور أن نبين غوامض الباب إلا عند نجازه بجميع مسائله.
__________
(1) في النسختين: " وإذا ".
(2) عبارة الأصل: " ثم أتمها في أنها تتهذب ... إلخ ".

(19/289)


فإذا أُعتق الأم والأب، فأتت بولد لأقل من ستة أشهر من وقت عتقهما، فالولاء لمعتق الأم، لأنا نتيقن أنه علق رقيقاً، ثم عَتَق بإعتاق الأم، فولاؤه ولاء المباشرة، لا ينجرّ أصلاً، فإن من ثبت عليه ولاء المباشرة، لم يلحقه ولاء السراية.
وإن أتت به لأكثر من ستة أشهر من عتقها، نُظر: فإن كان الزوج يفترشها، فالولاء عليه لمولى الأب، والأمر محمول على أن العلوق حصل بعد عتق الأم، فقد خلق حراً، وما مسه الرق، فثبت عليه ولاء السراية على الترتيب المقدم.
فإن أتت به لأكثر من ستة أشهر من يوم عتق الأم، ولأقل من أربع سنين، وكان الزوج لا يفترشها، ففي المسألة قولان، بناء على أنه لو أوصى لحمل عَمْرةَ من زيد بشيءٍ، فإن أتت بولد لأقلَّ من ستة أشهر، استحق الوصية؛ فإنا تحققنا كونه موجوداً يوم الوصية، وإن أتت به لأكثر من ستة أشهر، وكان الزوج يفترشها بعد الوصية، فيستحق أيضاً؛ فإنه ولد عمرةَ من زيد، ولا يضر أن يوجد بعد الوصية، وإن كان لا يفترشها، وقد زادت المدة على ستة أشهر، فالصحيح أنه يستحق؛ لأن النسب ملتحق، فهو ولد عمرة من زيد.
وذكر الربيع قولاً أنه لا يستحق، لأنا لم نتحقق كونه من زيد، والنسب لا يبنى [إلا] (1) على التحقق (2).
والمسألة تصور على وجه آخر.
وهو أنه لو أوصى للحمل الموجود، فإن أتت به لأقلَّ من ستة أشهر، صحت الوصية له، وإن أتت به لأكثر من ستة أشهر وكان الزوج يفترشها بعد الوصية، فلا تثبت الوصية، لأنا نحيل العلوق على الافتراش الواقع بعد الوصية، ولو كان الزوج لا يفترشها، فأتت بولد، ففي استحقاق الوصية قولان. وقد ذكرنا ذلك مستقصىً في كتاب الوصايا، عند ذكرنا الوصية للحمل، والوصية بالحمل.
__________
(1) زيادة من (ت 5).
(2) جملة " والنسب لا يبنى على التحقيق " في موضع الردّ على قول الربيع، وعبارة الغزالي هنا: " لكن النسب يثبت بالاحتمال، والولاء لا ينتفي بالاحتمال " (ر. البسيط: الموضع السابق).

(19/290)


وقدر غرضنا الآن بناء الصورة التي ذكرناها في الجر على هذه القاعدة، وإن كان في نفس الفقيه بقية مما ذكرنا، فليصبر إلى نجاز الباب؛ فإن انحل الإشكال الذي يخطر له، فذاك، وإلا فالأغلب أنه من تساهله في تأمل ما نرسمه في الباب، فليرجع وليتأمل. والله وليّ توفيق الطالبين بمنه وكرمه.
وقد حان الآن أن نذكر أحكام الولاء في فصل.
فصل
12432 - يتعلق بالولاء ثلاثة أحكام: الميراث، والولاية في التزويج، وضرْب العقل، وإذا نحن أوضحنا الميراث، كفى وظهر منه غيره.
فنقول: إذا مات المعتَق، نُظر: فإن خلف عصبة نسيباً، فلا يخلص الميراث إلى الولاء أصلاً، وإن لم يكن له عصبةٌ نسيبٌ، وكان في ورثته أصحاب فرائض تستغرق الميراث، فلا ينتهي الميراث إلى عصبة النسب، فما الظن بالولاء؟
وإن لم يكن له عصبةٌ نسيبٌ، ولا فرائض، أو أفضلت الفرائض شيئاً، فهو للمعتِق المباشر للعتق كما قدمنا، فإن كان المعتِق قد مات قبل موت المعتَق، فالميراث مصروف إلى عصبات المعتِق، وقد مضى ترتيب القول في عصبات المعتِق في الفرائض، ولكنا نعيده لنتمكن من الكشف في الأطراف التي لم ينته إليها الشرح في الفرائض.
ونصدِّر ما نريد الخوضَ فيه بتمهيد أصلٍ، وهو أن عصبة المعتِق لا يرثون الولاء كما يرثون الأملاكَ وحقوقها، وإنما يرثون بالولاء بانتسابهم إلى المعتِق بجهةٍ تقتضي العصوبة المحضة، توجب توريثهم.
والدليل على أنهم لا يرثون الولاء، أن الولاء لو كان موروثاً، لاقتضى القياس أن يستوي في استحقاقه بالإرث الرجال والنساء كسائر الحقوق، ومن الدليل عليه أن المعتِق لو مات مسلماً، وخلف ابنا مسلماً، وابنا نصرانياً، ثم أسلم النصراني ومات المعتَق، فالابنان يستويان في ميراث المعتَق؛ لأنهما حالة موته من أهل استحقاق

(19/291)


الميراث، ولو كان الولاء موروثاً، لوجب أن يقال: لما مات المعتِق المسلم، وخلف ابنين أحدهما كافر = إنه يختص بإرث الولاء المسلمُ منهما، ثم كان يجب أن يقال: إسلام الكافر بعد الموت لا يرد استحقاقه؛ فإن من لم يكن وارثاً حالة الموت لكفره، لم (1) يصر وارثاً بعد إسلامه.
ومن الدليل على ذلك أن المعتِق لو مات، وخلف ابنين، ثم مات أحد الابنين عن ابن، ثم مات المعتَق بعد ذلك، فالميراث لابن المعتِق، وليس لابن الابن منه شيء، ولو كان الولاء موروثاً، لوجب أن يُرَدَّ نصيب أحد الابنين لما مات إلى ابنه، وهذا يوجب توريثه من المعتَق مع عمه. وليس الأمر كذلك؛ فإنه يختص بالإرث العمُّ.
وهو المعنيّ بقول الرسول صلى الله عليه وسلم " الولاء للكُبْر " (2).
وسيزداد هذا الفصل وضوحاً بالتفصيل.
1433 - فإذا ثبت ذلك، خضنا في ترتيب عصبات المعتِق.
فإذا مات المعتَق، ولا عصبةَ له من جهة النسب، ولا صاحبَ فرض، وكان المعتِق قد مات قبله، فلا نصرف إلى الذين هم أصحاب فرائض المعتِق شيئاً، وكذلك لا نصرف إلى الذين لا تتمحض العصوبة فيهم شيئاً. وهم الذين يصيرون عصبة بغيرهم.
فإذا وجدنا [ابنَ المعتِق وبنتَه] (3)، فميراث المعتَق بجملته لابن المعتِق، وليس لبنت المعتِق شيء، وإن كانت البنت عصبة مع الابن في التوريث بالنسب، وهذا متفق عليه.
وإذا كان في المسألة ابنُ المعتِق وأبوه، اختص بالميراث الابن؛ فإن الأب صاحب
__________
(1) عبارة (ت 5): " ثم لم يصرف وارثاً بعد إسلامه ".
(2) حديث " الولاء للكبر " رواه البيهقي عن عمر وعثمان من طريق سعيد بن المسيب، ورواه عبد الرزاق عن الثوري عن منصور عن إبراهيم " أن عمر، وعليّاً، وزيد بن ثابت كانوا يجعلون الولاء للكبر " (ر. السنن الكبرى: 10/ 303، مصنف عبد الرزاق 9/ 30 ح 16238، التلخيص: 4/ 395 ح 2720).
(3) في النسختين: ابن ابن المعتق وبنته.

(19/292)


فرض مع الابن، وكذلك ابنُ الابن مع الأب: الميراث لابن الابن دون الأب.
وإن لم يكن ابن ولا ابن ابن، فالميراث لأب المعتِق، ثم تترتب العصبات حسب ترتبهم في الميراث بالنسب.
ويخالف ترتيبُ العصبات في الولاء ترتيبَهم في النسب في أمور: منها: أن الجدّ يقاسم الإخوة في النسب؛ وفي الجد مع الإخوة في التوريث بالولاء قولان ذكرناهما، فلا نعيدهما.
ومنها أن الأخ من الأب والأم مع الأخ من الأب إذا اجتمعا مع الجدّ، فمذهب زيد في النسب المعادّة، ولا تجري المعادّة في الولاء أصلاً، بل يسقط الأخ من الأب؛ وذلك لأنا في المعادّة قد نعتبر فرضاً، ولا يتصور اعتباره في الولاء بحال.
فإن لم نجد عصبةً نسيباً للمعتِق، فالميراث لمعتِق المعتِق، فإن لم يكن، فلعصبات معتِق المعتِق، فإن لم نجدهم، فلمعتِق معتِق المعتِق، ثم هكذا إلى حيث ينتهى.
12434 - فإن قيل: هلا تورثون معتِق عصبةَ المعتِق؟ قلنا: لا ميراث لمعتق عصبات المعتِق، إلا أن تكون العصبة أباً، فمعتِقه يرث المعتَقَ؛ وهذا بعينه هو الذي مهدناه عند ذكرنا سراية الولاية.
ونوضح هذا بالمثال، فنقول: زيد أعتق سالماً، فوُلد لسالمٍ ولد اسمه عبد الله، فأعتق عبدُ الله عبداً، ثم مات المعتِق عبد الله، ومات أبوه سالم، وبقي معتِق أبيه زيد، ثم مات المعتَق، ورثه زيد؛ لأنه لما ثبتت له النعمة على سالم: أبِ المعتِق، ورث بولائه، وقد ذكرنا أن الولاء يسري إلى ولد المعتَق، وعبّر الأئمة بعبارة جامعة عمن يرث من عصبات المعتِق، وأجرَوْا عليه (1) المسائل، فقالوا: " يرث المعتَق بولاء المعتِق ذكرٌ يكون عصبة للمعتِق، لو مات المعتِق يوم موت المعتَق على البدل "، وعلى هذا تخرج المسائل التي لا يبتدرها فهم المبتدىء.
__________
(1) كذا في النسختين (عليه) بضمير المذكر، على معنى " الأصل " وسيأتي بعد قليل تسميته هذه العبارة (أصلاً).

(19/293)


فلو مات المعتِق، وخلف أباً وابناً، ثم مات المعتَق، ورثه الابن دون الأب؛ لأن المعتَق لو كان هو الميت الآن، لكان العصبة ابنه دون الأب.
وكذلك يخرّج الابن والبنت؛ فإن البنت ليست عصبة ذكراً، وليست عصوبتها بنفسها. ولو مات المعتِق عن ابنين مسلم وكافر، فأسلم الكافر، ثم مات المعتَق، ورثاه، أعني المسلم والذي أسلم بعد موت الأب؛ لأن الأب المعتِق لو مات يوم موت المعتَق، لكان الابنان جميعاً يرثانه بالعصوبة المحضة.
ولو اشترى أخ وأخت أباهما، وعَتَقَ عليهما، ثم الأب اشترى عبداً وأعتقه، فمات الأب، ثم مات المعتَق، ورثه الأخ دون الأخت، وليس يرثه الأخ بالولاء، وإنما يرثه بعصوبة المعتِق بالنسب، وهو يخرج على العبارة الضابطة، لأن المعتِق لو مات في هذه الحالة، لكان عصبته الابن دون البنت.
فإن قيل: أليس الابن والبنت اشتركا في شراء الأب، وثبت لهما الولاء عليه معاً؟ قلنا: نعم، ولكن الابن عصبة بالنسب، وقد ذكرنا أن عصوبة النسب مقدمة على عصوبة الولاء، وما دمنا نجد للمعتَق عصبة نسيباً، لا نصرف إلى معتِقه شيئاً، قيل: هذه المسألة غلط فيها أربعمائة قاضٍ، فضلاً عن غيرهم، وهي واضحة.
ومن غلط، قال: الميراث بين الأخ والأخت، لأنهما مشتركان في ولاء الأب.
وإذا ماتت امرأة عن ابنٍ، وأخٍ، وزوج، ولها معتَق، فمات المعتَق، ورثه الابن لا غير؛ لأنها لو ماتت الآن، كان هو العصبة.
ولو مات رجل عن ثلاثة بنين، وله معتَق، فمات أحدهم عن ابنٍ، والثاني عن أربعة بنين، والثالث عن خمسة بنين، ثم مات المعتَق ورثوه كلهم اعتباراً بالتسوية؛ فإن المعتِق لو مات الآن، لكانوا جميعاً عصبة له يقسمون ماله أعشاراً.
12435 - ومما يخرّج على هذا الأصل أنه إذا كان لرجل ثلاثة من البنين، اثنان من امرأة وواحدٌ من أخرى، فمات، ثم اشترى أحد الأخوين من أب وأم -وأولاد الأب والأم يسمّون الأعيان، وأولاد الأب يسمَّوْن العلات- فإذا اشترى أحد العينين عبداً

(19/294)


وأعتقه، فمات، ورثه أخوه العَيْن، وصار قائماً بالولاء، فلو مات عن أخيه العَلّة، وعن ابن، فماله لابنه، والولاء لأخيه العَلّة.
فإن قال الابن: أنا قد أحرزت مال أبي، فأُحرز الولاءَ أيضاً، قلنا: لا، فإن الولاء لا يورث، بل يورث به، فالعَلَّة يتقدم على ابن العين (1).
ولو مات المعتِق -أحد العينين- وخلف ابن عَيْن وعَلَّة - وهو أخوه من أب، فهو العصبة دون ابن العين.
وهذه المسألة بعينها وقعت في زمن عثمان رضي الله عنه: كان لهشام بن أبي العاص ثلاثة من البنين: اثنان من امرأة، وواحدة من أخرى، فاشترى أحد العينين عبداً، وأعتقه، ومات، وأخذ مالهَ أخوه العين، ثم مات عن ابن، فتنازع هو وأخ العلة في الولاء، فقضى به عثمان للعلَّة. وقيل هذا هو المعني بما ورد: "أن الولاء للكُبْر"، وليس المراد كبر السن وإنما هو كبر الدرجة، ومن هو أقرب وأولى بالعصوبة.
12436 - ومما ذكره أبو حامد المروزي في عصبات الولاء أنه إذا كان للمعتَق ابنا عم أحدهما أخ لأم، فإن سبيل التوريث في النسب أن نقول: للذي هو أخ لأم سدس المال. والباقي بينهما. قال أبو حامد: إذا وقعا في الولاء، فابن العم الذي هو أخ لأم يأخذ جميع المال.
وهذا لم يُر إلا له، وهو غلط عند المحققين؛ فإن أخوة الأم لا توجب قوةً في عصوبة النسب، فكيف توجب قوةً في الولاء، والوجه الذي لا يجوز غيره استواء ابني العم، وسقوط أثر أخوة الأم.
والمذهب الصحيح أن الأخ من الأب والأم في الولاء مقدم على الأخ من الأب، كما أنه مقدم عليه في التوريث بالنسب. وقال بعض الأصحاب: هما سواء؛ فإن أخوة الأم لو انفردت، لم يعلق بها استحقاق بالولاء، فينبغي ألا تكون مؤثرة في تقوية العصوبة. وهذا وإن كان منقاساً، فهو بعيد في الحكاية، والأصح تقديم الأخ من
__________
(1) لأن المعروف في ترتيب العصبات أن (الأخ لأب) يتقدم على (ابن الأخ الشقيق).

(19/295)


الأب والأم على الأخ من الأب في عصوبة الولاء، وإنما اشتهر القولان في اجتماع الأخ من الأب والأم والأخ من الأب في ولاية التزويج.
هذا ترتيب المذهب في عصبات الولاء، أعدنا منه ما رأينا إعادته.
12437 - ووراء ذلك أمر يجب الاعتناء به، وهو أن المعتَق لو مات، وخلف معتِق أب مُعتِقه (1) -وهو الذي صورناه في أثناء المسألة- فلو انفرد هذا، لاستحق ميراث المعتَق؛ فإنه لما أعتق أبَ المعتِق، ثبت له الولاء على المعتِق بالسراية، لا بالمباشرة، فلما أعتق ذلك الابن عبداً، انتسب المعتَق إليه، وانتسب هو إلى أبيه، والأب معتَق المعتِق الأول، وقد ذكرنا أن الولاء انتساب، فقد ينتظم الانتساب من الولاء المحض، كمعتِق المعتَق ومعتِق معتِق المعتَق.
وإن نظمنا الكلام من الطرف الآخر، قلنا: معتِق معتِق المعتَق ابن المعتِق، وقد ينتظم من الولاء والنسب مثل معتِق أب المعتِق وإن عكست، قلت: معتَق ابن المعتَق. والولاء ينتظم مع من هو ابن المعتِق كما ينتظم مع المعتِق. وكل هذا مما مهدناه من قبل.
وبالجملة للولاء حكم السراية في جهتين، في جهة الأولاد وفي جهة معتِق المعتِق ثم يتركب مُعتِق ابن وابنُ معتِق، وإذا فُهم ذلك، لم يبق وراءه إلا النظر في التقديم والتأخير. فلو مات المعتَق وله معتِق أب المعتِق ومعتِق المعتِق، فلا شك أن معتق معتقه أولى به؛ فإنه يستحق ولاء معتَقه بالمباشرة ومعتِق أبيه يستحق حكم ولاية السراية التي تقدم شرحها، ومن انتهى إلى هذا الموضع لم يخف عليه قوة ولاء المباشرة واستئخار ولاية السراية عنه؛ ولهذا لم ينجرّ ولاء المباشرة وانجر ولاء السراية.
12438 - فلو كان في المسألة معتِق أب المعتِق ومعتِق معتِق المعتِق، فهذا موضع التأمل؛ فإن المعتق البعيد العالي ليس له على المعتِق الأخير ولاء مباشرة. وإنما انتظم الأمر بينهما بجهات من الولاء، لم يصدر العتق فيها عن المعتق العالي، فقد يقول ذو الفطنة: معتِق أب المعتِق أقرب، وهو يتوصل إليه بالسراية الوِلادية، ومعتق معتق
__________
(1) سقطت من (ت 5).

(19/296)


المعتق يتوصل إلى المعتق الأخير بالسراية المستفادة من جهة تعاقب جهات الولاء.
فيجب أن ينظر إلى الأقرب، ومعتق أب المعتق أقرب من المعتق العالي البعيد.
وهذا غلط ذكرناه تنبيهاً، ووجهه أن المعتِق الأخير شخص واحد، فرضنا اتصال معتقين به، أحدهما - معتِق أبيه. والثاني - معتق معتِق معتِقه، وإذا كان كذلك فقد مسّ المعتِق الأخير رق، ثم عتق، وثبت عليه ولاء مباشرة، وإذا كان عليه ولاء مباشرة، فلا يتصور أن ينجرّ ولاؤه إلى معتق أبيه، فلا نظر -والحالة هذه- إلى البعد والقرب.
ومعظم مسائل الولاء تعقيدات يحلّها الفكر القويمُ وإحكامُ الأصول، وهي شبيهة بمعاياة الفرائض، وقد يستهين المحقق بمعاياة الفرائض لوضوح أصولها، وتكثير مسائل الولاء حتمٌ، فبها التدرّب، وبتكريرها طرداً من الأعلى إلى الأسفل، وعكساً من الأسفل إلى الأعلى يحصل الإلف بوضع ألباب؛ وإلا فلم يبق من الباب قولٌ في جهة الولاء، ولا في حكمه، ولا فيمن يقدم ويؤخر.
نعم، بقي طرف يسمى سهمَ الدور، وأنا أرى أن نذكر من هذا المنتهى إلى افتتاح القول في الدور مسائلَ متوسطة، ثم بعدها سهمَ الدور، وينتجز الباب عليه.
مسألة:
قال: " ولا ترث النساء الولاء، ولا يرثن بالولاء إلا من أعتقن ... إلى آخره " (1).
12439 - قوله: " لا ترث النساء الولاءَ " يوهم أن الرجال يرثونه، وليس كذلك، فالولاء لا يورث، بل يورث به، وغرض المسألة أن المرأة لا تكون عصبةً للمعتَق عن نسب بينها وبينه عصوبة يستحق به الإرث بالولاء؛ فإنها إن كانت عصبةً، فبغيرها، والعصوبة إذا كانت مستفادة من الغير، لم يتعلق بها توريث بالولاء.
فأما إذا أعتقت المرأةُ عبداً، أو أمة، كانت بمثابة الرجل إذا أعتق، فترث عتيقها حيث يرثه الرجل المعتِق، وكذلك معتَق معتَقها كمعتَق معتَق الرجل، وكذلك ولدُ
__________
(1) ر. المختصر: 5/ 272.

(19/297)


معتَقها منها كولد معتَق الرجل منه؛ فقد ساوت المرأة الرجلَ في ولاء المباشرة، وفي جهتي ولاء السراية.
ولو أعتقت امرأةٌ عبداً، وأعتق رجل أمة، ونكح المعتَق المعتَقة، فأتت بولد، فولاؤه لمعتِقَةِ الزوج لا لمعتِق الزوجة.
ثم ينعقد من هذا مسألة فيها تثبت، وهي أن ابن المعتَق عليه ولاء السراية، وكذلك ابن ابنه وإن تسفّل إذا كان الإدلاء بمحض الذكور.
ولو كان للمعتَق أحفاد إناث، فلا يبتدرنّ الفقيهُ الجوابَ؛ فإن البنت الأولى منتسبة إلى المعتَق، فلا فرق بينها وبين الابن، إذ الذكر والأنثى أبوهما المعتَق، وأما بنت البنت، فإنها تنتسب إلى البنت العالية بالولادة ونسبها الحقيقي إلى أبيها، فانظر مَنْ أبوها وأخرجه من الأصول، فإن كان أبوها معتَقاً لشخص، فهي بين معتَقة ومعتَق، فولاؤها لموالي أبيها، وإن كان أبوها مملوكاً، فولاؤها ينتظم إلى المعتَق الذي هو جدها، وإن كان أبوها حرّ الأصل، فوجهان: أحدهما - لا ولاء عليها، والثاني - أن الولاء عليها لموالي الأم كما قدمنا.
وليس في هذه المسألة زيادة، ولكن لا بد منها؛ إذ بها الدربة وتهذيب الأصول.
مسألة: 12440 - إذا اشترت المرأة أباها، عَتَقَ الأب عليها، وثبت لها الولاء على أبيها، على وجه المباشرة، فلو أن الأب بعد ما عَتَقَ اشترى عبداً وأعتقه، فقد ثبت له ولاء المباشرة على معتَقه، وللبنت حقُّ سراية الولاء على معتَقه، ولكن صاحب المباشرة مقدمٌ ما بقي، فلو مات الأب، وخلف مالاً وترك البنت وابن عم أو غيره من عصبات النسب، فللبنت نصف ميراث أبيها والباقي للعصبة؛ فإن عصوبة النسب مقدمة على جهة الولاء، [ولو لم] (1) يخلف الأب سوى البنت، أخذت نصف المال بالنسب ونصفه بالولاء.
ولو مات أبوها وخلّف عمّاً والبنت، فقد بان ميراثه.
__________
(1) في الأصل: " ولم يخلف ". والمثبت من (ت 5).

(19/298)


فلو مات معتَقه، ولم يخلف من خواص ورثته أحداً، وإنما خلف عمَّ معتِقه وابنتَه التي أعتقته، فالميراث كله لعم المعتِق، فإن عصبة المعتِق أولى من معتِق المعتَق.
ومما يتعلق بهذه المسألة أن ابناً وبنتاً لو اشتركا، فاشتريا أباهما نصفين، عتق عليهما، وثبت لكل واحد عليه نصف الولاء، فلو اشترى الأب عبداً وأعتقه، ثم مات الأب، فميراثه بيّن، فلو مات معتَقُه ولم يخلف سوى ابن المعتِق وابنته، فهما مشتركان في الولاء، ولكن الميراث لابن المعتِق، لا لأجل الولاء، ولكن لأنه عصبةُ المعتِق من جهة النسب.
فإذا أخذ الابنُ ميراثه كما ذكرناه، فلو مات الابن وخلف أخته، فلها نصف ميراثه بالأخوة، ولها من الباقي نصفه؛ فإنها لما اشترت نصف أبيها، عتق عليها نصفه، وثبت لها ولاء السراية على نصف ابنه، وكذلك الابن ثبت له ولاء السراية على نصف أخته. فلما مات الابن في مسألتنا، أخذت نصف ميراثه بالأخوة، وأخذت من النصف الباقي نصفه. فيخلص لها ثلاثة أرباع الميراث، ويصرف الباقي إلى بيت المال.
ولو مات الأب، ثم مات الابن، ثم مات معتَق الأب ولم يخلف سوى بنت المعتق، فلها نصف ميراثه بثبوت الولاء على نصف الأب، ولها من النصف الآخر نصفه لثبوت ولاء السراية على نصف الأخ؛ وكان يستحق لو كان باقياً، فيسلّم لها ثلاثة الأرباع (1). وهذا هيّن.
مسألة: 12441 - إذا اشترى الرجل جاريتين كانتا أجنبيتين من المشتري، ولكنهما كانتا أختين لأب وأم، فلما اشتراهما أعتقهما، فقد ثبت له الولاء عليهما لمباشرة الإعتاق فيهما، فلو اشترتا أباهما، وعتق عليهما، فلكل واحدة الولاء على نصف أبيها، ولا يثبت لواحدة منهما الولاء على صاحبتها بسبب ثبوت الولاء على الأب؛ لأن الولاء قد ثبت عليهما للأجنبي بمباشرة الإعتاق، والولاء الثابت بهذه
__________
(1) لأنها في النصف الذي ملكته عن الأب معتِق المعتِق (أي نصف المعتق) وفي النصف الآخر معتق أب المعتق. (بولاء السراية على نصف الأخ).

(19/299)


الجهة لا يتحوّل، فإذا مات أبوهما، فلهما ثلثا ميراثه بالنسب، والباقي بالولاء الثابت لهما عليه؛ إذ لا عصبة للأب غيرهما.
فلو ماتت إحداهما بعد ذلك، فللأخت نصف ميراثها بالأخوة، والنصف الباقي لمعتِقها، إذا لم يكن لها عصبةٌ بنسب.
ولو كانتا ولدي معتقه من أب رقيق، ثم اشترتا أباهما، فيثبت لهما الولاء على الأب، ويثبت لكل واحدة الولاءُ على نصف أختها؛ فإن الولاء إذا ثبت على الأب، ثبت على أولاده، وانجر من جانب الأم إذا لم يكن الولاء على الأولاد بمباشرة الإعتاق. ثم لا يخفى بيان التوريث بعد ذلك.
مسألة: 12442 - أختان حرتان لم تعتقا مباشرة، كان أبواهما رقيقين -وتصوير ذلك هيّن بغرور- إذا اشترت إحداهما أباهما، واشترت الأخرى أمهما، فقد ثبت لكل واحدة منهما ولاء المباشرة على من اشترت، ويثبت الجرّ من أحد الجانبين، فولاء التي اشترت أمها ينجر إلى التي اشترت أباها؛ فإن من ثبت له الولاء على الأب، انجر إليه ولاء أولاده من موالي الأم. فأما التي اشترت الأم، فالمنصوص أن ولاء صاحبتها، وهي التي اشترت الأب للتي اشترت الأم؛ لأن التي اشترت الأب جرّت ولاء أختها بسبب إعتاقها الأب. فلو جرت ولاء نفسها على القياس، لكانت مولاة نفسها، أو لانقطع الولاء، وكلاهما محال؛ فتعذّر الجر. وإذا تعذر، بقي ولاؤها لموالي الأم، وأختها مولاة الأم؛ فصارت كل واحدة من الأختين مولاة الأخرى.
وقد يتصور شخصان كل واحد منهما مولى صاحبه من أعلى ومن أسفل، وسنذكر لذلك أمثلة.
وقال ابن سريج في مسألة الأختين: ولاء مشترية الأب لا يكون لمشترية الأم، بل تجر ولاء نفسها، ويرتفع الولاء عنها، وتصير بمثابة مَنْ لا ولاء عليه لأحد. وقد قدمنا هذا بعينه في تمهيد أصول الولاء.
فإذا وضح أمر الولاء، هان ترتيب الإرث، فنقول: إذا مات الأب، فميراثه مقسوم بينهما، فلهما الثلثان - أعني البنتين، وباقي ميراثه للتي اشترته بالولاء، وإذا ماتت الأم فثلثا الميراث لهما. وباقي ميراثها للتي اشترتها.

(19/300)


ثم إذا ماتت إحداهما بعد ذلك، نُظر: فإن ماتت التي اشترت الأم، فنصف ميراثها للأخت بالأخوة، وباقي الميراث مصروف إليها بالولاء؛ فإنها جرت ولاءها بإعتاق الأب.
وإن ماتت التي اشترت الأب، فنصف ميراثها لأختها بالأخوة، والنص أن الباقي يصرف إليها بالولاء لتعذر الجر. هذا هو النص. وابن سريج يزعم أنه لا يصرف إليها الباقي؛ فإنه لا ولاء على التي اشترت أباها، فيصرف الباقي إلى بيت المال.
مسألة: 12443 - رجل حر، وأبواه حران ما مسّ أحداً منهم الرق، وأَبَوَا أبيه مملوكان، وأبو أمه مملوك، وأم أمه معتقَة، فالولاء ثابت لمولى أم الأم، وهذا بيّن من مقتضى الأصول؛ فإن جدته معتقة عليها ولاء مباشرة، وبنتها عليها ولاء السراية، والرجل الذي فيه الكلام ابنها. وهذا يجري إذا قلنا: إذا تزوج حر بمعتقة، ثبت الولاء على الأولاد لموالي الأم، فليقع التفريع على هذا الوجه.
فإذا أُعتق أبو الأم -فإنا صورناه مملوكاً- انجر الولاء إلى مواليه، فإذا [أُعتقت] (1) أم الأب، انجر الولاء إلى مولاها، فإذا أعتق أبو الأب، انجر الولاء إلى مولاه، ويستقر حينئذ.
فأما الجر الأول فبين؛ فإن الولاء كان ثبت لمولى الأم على ابنتها، فإذا أُعتق أبو البنت، انجر الولاء إلى جانب الأب، وكل ذلك تردّدٌ في [ولاء] (2) أم الرجل الذي نتكلم فيه: كان لموالي أمها، ثم صار لموالي أبي الأم، فإذا أُعتقت أم أبي الرجل - وقد كان ولاء الرجل لموالي أمه، ثم انجر إلى موالي أبي أمه، فإذا أُعتقت أم أبي الرجل- ثبت الولاء على أبي الرجل بالسراية، فكان ولاء الرجل الذي فيه الكلام بجانب أبيه أولى، فإذا أُعتق أبو أبي الرجل، كان الولاء بجانب أبي الرجل أولى، فتردد الولاء كذلك، وهذا واضح أخذاً من الأصول.
__________
(1) في النسختين: " أُعتق " (بدون تأنيث الفعل). وسيتكرر الفعل مرتين في الأسطر الباقية من المسألة.
(2) زيادة اقتضاها السياق، حيث سقطت من النسختين.

(19/301)


مسألة: 12444 - أب وابن اشتريا عبداً وأعتقاه، فمات المعتَق، فالميراث بينهما نصفان، فلو مات الأب عن ابن آخر سوى الابن المشتري، ثم مات المعتَق، كان نصف المال للابن المشتري بولاء المباشرة، والنصف الباقي بينهما لأنهما عصبات الأب وهو مستحق نصف الولاء.
فلو مات الابن المشتري عن ابنٍ، وكان الأب مات عن ابنٍ، ثم مات المعتَق، كان للابن الذي هو ابن المشتري نصف المال بولاء أبيه، ولغيره النصف الثاني بولاء أبيه. ولا شيء لهذا الحافد بولاء جده؛ لأن الابن يتقدم على ابن الابن، وعلى هذا فقِس.
مسألة: 12445 - ابنة اشترت أباها، فمات الأب، ورثت نصف المال بالنسب، والباقي بالولاء.
(1 ولو اشترت بنتان أباهما، وعَتَقَ عليهما، ثم مات، فلهما الثلثان، والباقي بالولاء 1). فإذا اشترى الأب عبداً، وأعتقه، ومات الأب، ثم مات المعتَق ورثتاه، لأنه عتيق عتيقهما.
ولو اشترت إحدى البنتين مع أبيها أخاها من الأب، والأب معسر عَتَق عليه النصف، فلو أعتقت هي النصف الآخر، ثم مات الأب، كان المال بين الأولاد وهم بنتان وابن، للذكر مثل حظ الأنثيين، ولو مات الأخ بعد ذلك، أخذتا الثلثين بالنسب، وللمعتقة نصف الباقي بولاء ثبت لها، والباقي لبيت المال، إلا أن يصادف عصبة.
مسألة: 12446 - وهي غمرة (2) الولاء، وفيها الدَّوْرُ. وصورتها: أختان اشترتا
__________
(1) ما بين القوسين سقط من (ت 5).
(2) في الأصل: " عمرة " بالعين المهملة بدون ضبط، وفي ت 5: عُمرَة: بالعين المهملة، مع ضم العين وفتح الراء. والنسختان خاليتان -تقريباً- من علامات الإهمال بالرموز والحروف، اعتماداً على النقط. وهي -بالعين المهملة المفتوحة- كل ما يوضع على الرأس من عمامة ونحوها، فيكون المعنى هي تمام الكتاب وزينتُه وكماله. والمثبت تقدير من المحقق، وهي -بالغين المعجمة- بمعنى الشدة، وجمعها غمرات. (ر. المعجم. والمصباح).

(19/302)


أمّهما، وعتقت الأم عليهما، ثم إن الأم بعد ما عتقت، شاركت أجنبياً، واشتريا أبا الأختين، وأعتقاه، فيثبت الولاء لهما نصفين على الأب، ثم يثبت لهما ولاء الأختين نصفين؛ فإن من ثبت له الولاء على شخص، ثبت له الولاء على أولاده. وولاء الأب، يجر ولاء الأولاد من الأم، فيثبت للأجنبي نصف ولاء كل واحدة من الأختين، وكذلك يثبت للأم نصف الولاء على كل واحدة منهما.
هذا قاعدة التصوير.
12447 - ثم شعّب ابن الحداد في التقديم والتأخير في تصوير الموت مما ذكرناه أربع صور:
إحداها: أن تموت الأم، ثم الأب، ثم إحدى الأختين. فنقول: أما الأم لما ماتت، فلبنتيها الثلثان، من مالها بالنسب، ولهما بقية مالها بالولاء؛ فإنهما اشترتاها، وعتقت عليهما.
ثم لما مات الأب، فترثان الثلثين من مال الأب بالنسب، وما بقي فنصفه للأجنبي الذي شارك الأم في شراء الأب، لأن له نصف ولائه، والنصف من الباقي (1) للبنتين؛ فإن نصف الولاء لأمهما، وهما استحقتا ولاء أمهما، فإذا لم تكن حية ورثتا ولاء معتَقها، إذالم يكن لها عصبة نسب.
فخرج منه أن الأب لما مات، فالثلثان للبنتين، والباقي بين الأجنبي وبينهما، نصفه للأجنبي ونصفه لهما.
ثم لما ماتت إحداهما بعد موت الأب، فللأخت من ميراثها النصف بالأخوة، فبقي النصف. فنقول: نصفه الباقي للأجنبي؛ لأنه لما ثبت له الولاء على نصف الأب، ثبت له الولاء على نصف ولده، فله نصف ما بقي إذاً، وأما الباقي - وهو الربع فلو كانت الأم باقية، لأخذته؛ فإن لها نصف ولاء كل بنت، كما للأجنبي ذلك، فإذا كانت ماتت، فيأخذ ذلك في القياس من يستحق ولاء الأم، وولاء الأم ثابت للأخت الحية والميتة نصفين، فنقول: نصف الربع الباقي للأخت الحية بالولاء، والباقي -
__________
(1) أي الباقي بعد الثلثين.

(19/303)


وهو الثمن - للميتة لو كانت حية، فإذا كانت ميتة، فالقياس أن يكون ذلك لمن يرجع ولاء الميتة إليه، وولاء الميتة يرجع إلى الأجنبي والأم، ثم قدر ولاء الأم يرجع إلى الحية والميتة، ثم قدر ولاء الميتة من الأم يرجع إلى الأجنبي والأم، فيدور سهم لا ينقطع، ولا ينفصل أثره.
فاختلف أصحابنا في هذا السهم، فالذي اختاره ابن الحداد بأنه يوضع في بيت المال، ويكون ميراثاً للمسلمين. فإنه عَسُر صرفه إلى جهة الولاء بسبب الدور، فكأنْ لا ولاء له في ذلك القدر.
وهذا مزيّف؛ فإن الولاء ثابت، ونسبة الدور معلومة، فيجب تنزيل الدائر على تلك النسبة.
ثم الكلام يقع بعد ذلك في سهم الدور ثم في النسبة التي يقسّم سهم الدور عليها.
فإن قيل: ما قدر سهم الدور في كل مسألة يتفق فيها الدور؟ قلنا: ما أمكن صرفه إلى الأحياء، فلا دَوْرَ فيه، وما يرجع استحقاقه إلى ميت، ثم يدور منه إلى حي، وذلك الميت، فإذا انتهى الأمر إلى سهم ذلك الميت الذي لو قسم، لرجع سهمٌ إليه، فهو سهم [الدّور] (1) فإن قيل: كم سهم الدور في المسألة التي نحن فيها؟ قلنا: هو ثُمن جميع المال مع إدخال نصف الأخت في الحساب. هذا سهم الدور.
فإن قيل: فما النسبة التي يقسمون سهم الدور عليها؟ قال الشيخ أبو علي: يقسم كل الميراث بين الأخت الحية، وبين الأجنبي على سبعة أسهم. للأخت منها خمسة، وللأجنبي سهمان.
قال: وطريقة معرفة ذلك أنه لما وقع في المسألة ثُمن، قدرنا المسألة ابتداء من ثمانية، وصرفنا إلى الأخت أربعة بحق النصف. ثم صرفنا من الباقي سهمين إلى الأجنبي، وسهما إلى الأخت الحية، فحصل للأخت خمسة، وللأجنبي سهمان.
وبقي سهم هو سهم الدور، فنفضُّه على السهام السبعة.
وهذا خطأ صريح؛ فإن ضَم ما تستحقه الأخت بالنسب إلى حساب الولاء،
__________
(1) زيادة من المحقق حيث سقطت من النسختين.

(19/304)


لا وجه له، [وفضّ] (1) ما يؤخذ بالولاء على ما يؤخذ بالنسب غير مستقيم. وليس هذا مما يخفى بأوائل الفكر، فالوجه أن نفرد النصف، فلا ندخله في حساب الولاء، ولا نعطف عليه شيئاً من حساب الولاء، وننظر في الباقي، فنجد نصف الباقي مصروفاًً إلى الأجنبي، والنصف الآخر من الباقي مصروفاً إلى الأم، ثم منها إلى البنتين، ثم سهم واحدة -وهو مبتدأ الدور- يرجع نصفه إلى الأجنبي ونصفه إلى الأم.
فنستبين من هذه الإدارة أن المال بين الأجنبي وبين الأخت الحية أثلاثاً، هكذا تجري نسبة القسمة. فنحتاج إلى عدد له نصف، ولنصفه ثلث، وهو ستة، فنصرف إلى الأخت ثلاثة بالأخوة، وسهماً مما بقي، ونصرف سهمين إلى الأجنبي، فيحصل للأخت أربعة من ستة، وللأجنبي سهمان.
12448 - الصورة الثانية: أن تموت -في المسألة التي صورناها- إحدى الأختين، والأبوان حيّان، [ثم] (2) تموت الأم. فنقول: البنت لما ماتت، صرف ميراثها إلى أبويها، للأم الثلث والباقي للأب؛ والأخت (3) محجوبة. ثم لما ماتت الأم، فنصف ميراثها للبنت بالنسب، والنصف من الباقي لها أيضاً، فإن ولاء الأم ثبت للبنتين، لكل واحدة نصفه. فأما الباقي فللأب؛ فإن نصف الولاء للبنت الميتة، والأب عصبة للميتة، ولا دور في هذه المسألة، ولا نصوّر فيها زوجية بين الأب والأم.
12449 - الصورة الثالثة - أن يموت الأب أولاً، ثم إحدى البنتين، ثم الأم، فنقول: لما مات الأب، فالثلثان للبنتين، والباقي للأجنبي والأم؛ فإن ولاء الأب لها.
ولما توفيت إحدى الأختين فقد خلفت أختا وأما، فللأم الثلث، وللأخت النصف، والباقي بين الأجنبي والأم؛ فإن ولاء الأخت الميتة ثبت لها بثبوت الولاء على أبيها.
__________
(1) في الأصل: " في فض ". والمثبت من (ت 5).
(2) زيادة من المحقق، لا يستقيم الكلام بدونها.
(3) المراد بالأخت البنت الثانية، فهي أخت البنت التي ماتت.

(19/305)


فلما ماتت الأم وخلفت بنتاً، فلها النصف بالميراث، ولها أيضاً نصف ما بقي؛ فإن نصف ولاء الأم لها. والنصف الثاني من الولاء حق البنت الأخرى لو كانت حية، فإذا كانت ميتة، فيرجع إلى من ولاء الميتة له، وولاء الميتة للأجنبي والأم الميتة، فأما الأجنبي فيأخذ مما بقي نصفَه، فيبقى الثُمن من الجملة إذا حُسب، وهذا في التقدير حق الأم الميتة، وهو سهم الدور، فتخرج المسألة فيه على الترتيب الذي ذكرناه.
وقد ذكر ابن الحداد في هذه الصورة شيئاً غلط [فيه،] (1) فقال: للبنت الحية إذا ماتت الأم النصف، ولها نصف ما بقي. وللأجنبي نصف ما بقي -وهو الثُمن. ثم قال: وللبنت الحية النصف من هذا الثُمن الباقي مرة أخرى، ثم يوضع الباقي في بيت المال. قال القفال: هذا غلط؛ فإن سهم الدور [هو] (2) الثمن الذي آل إلى استحقاق الأم الميتة- فلو جاز أن تعطى البنت للحية [منهما] (3) نصف الثمن، فينبغي أن يدفع إلى الأجنبي مرة أخرى، وليست مرة أخرى أَولى من مرتين، ثم هذا على فساده خلاف ما ذكر في المسألة الأولى؛ فإنه لم يقطع في تلك المسألة إلا سهم الدور.
12450 - والصورة الرابعة - -والمسألة كما وصفناها- تموت البنتان وأبواهما حيان، فميراثهما مصروف إليهما كما ذكرنا، فلو مات الأب بعدهما، فميراثه مصروف إلى الأجنبي والأم نصفين؛ إذ قد ثبت لهما الولاء عليه كذلك؛ فلما ماتت الأم، فنصف ميراثها للأجنبي؛ فإنه قد ثبت للأجنبي نصف ولاء بنتيها. وقد ثبت لبنتيها عليها الولاء، ويوضع الباقي في بيت المال.
وقد نجز الكلام في الولاء تأصيلاً وحكماً وتفصيلاً وضبطاً وتدريباً بالمسائل. والله المشكور.
...
__________
(1) في النسختين: " فيها ".
(2) في الأصل: " وهو ". والمثبت من (ت 5).
(3) في النسختين: " منها ".

(19/306)