الفتاوى الكبرى الفقهية على مذهب الإمام الشافعي

ج / 1 ص -283-        كتاب صلاة الجماعة.
"وسئل" رضي الله عنه عن الصف الأول هل هو الذي يلي الإمام سواء أكان به خلل من نحو سارية, وسواء كان متصلا بالصفوف أم لا فإن بعض مشايخ اليمن يقول: المراد بالصف الأول هو السالم من الخلل, وأن يكون متصلا, ولو كان الصف الأخير ولا التفات إلى الصف الأول إذا كان بالأوصاف المذكورة. "فأجاب" بقوله: المنقول المعتمد أن الصف الأول هو الذي يلي الإمام وإن تخلله منبر أو مقصورة أو أعمدة أو غيرها سواء جاء صاحبه متقدما أم متأخرا وقيل الأول ما لم يتخلله شيء وإن تأخر وقيل هو من جاء أولا, وإن صلى في صف متأخر قال في شرح مسلم. وهذان غلط صريح, وبه يعلم أن ما في السؤال عن بعض اليمنيين غلط فلا ينبغي لأحد أن يغتر به, والله - سبحانه وتعالى - أعلم بالصواب.
"وسئل" رضي الله عنه أنه قد كثر في هذه الأزمنة خروج النساء إلى الأسواق والمساجد لسماع الوعظ وللطواف ونحوه في مسجد مكة على هيئات غريبة تجلب إلى الافتتان بهن قطعا, وذلك أنهن يتزين في خروجهن لشيء من ذلك بأقصى ما يمكنهن من أنواع الزينة والحلي والحلل كالخلاخيل والأسورة والذهب التي ترى في أيديهن ومزيد البخور والطيب ومع ذلك يكشفن كثيرا من بدنهن كوجوههن وأيديهن وغير ذلك ويتبخترن في مشيتهن بما لا يخفى على من ينظر إليهن قصدا أو لا عن قصد. فهل يجب على الإمام منعهن وكذا على غيره من ذوي الولايات والقدرة حتى من المساجد وحتى من مسجد مكة, وإن لم يمكنهن الإتيان بالطواف خارجه بخلاف الصلاة أو يفرق بينهما بذلك وما الذي يتلخص في ذلك من مذاهب العلماء الموافقين والمخالفين أوضحوا الجواب عن ذلك فإن المفسدة بهن قد عمت, وطرق الخير على المتعبدين والمتدينين قد انسدت أثابكم الله على ذلك جزيل المنة ورقاكم إلى أعلى غرف الجنة آمين. "فأجاب" بأن الكلام على ذلك يستدعي طولا وبسطا لا يليق لا بتصنيف مستقل. في المسألة, وحاصل مذهبنا أن إمام الحرمين نقل الإجماع على جواز خروج المرأة سافرة الوجه وعلى الرجال غض البصر واعترض بنقل القاضي عياض إجماع العلماء على منعها من ذلك. وأجاب المحققون عن ذلك بأنه لا تعارض بين الإجماعين لأن الأول في جواز ذلك لها بالنسبة إلى ذاتها مع قطع النظر عن الغير والثاني بالنسبة إلى أنه يجوز للإمام ونحوه أو يجب عليه منع النساء من ذلك خشية افتتان الناس

 

ج / 1 ص -284-        بهن وبذلك تعلم أنه يجب على من ذكر منع النساء من الخروج مطلقا إذا فعلن شيئا مما ذكر في السؤال مما يجر إلى الافتتان بهن انجرارا قويا. على أن ما ذكره الإمام يتعين حمله على ما إذا لم تقصد كشفه ليرى أو لم تعلم أن أحدا يراه أما إذا كشفته ليرى فيحرم عليها ذلك لأنها قصدت التسبب في وقوع المعصية وكذا لو علمت أن أحدا يراه ممن لا يحل له فيجب عليها ستره, وإلا كانت معينة له على المعصية بدوام كشفه الذي هي قادرة عليه من غير كلفة وقد صرح جمع بأنه يحرم على المسلمة أن تكشف للذمية ما لا يحل لها نظره منها هذا مع أنها امرأة مثلها فكيف بالأجنبي, وتخيل فرق بينهما باطل وبأنه يجب عليهن الستر عن المراهق مع جواز نظره فكيف بالبالغ الذي يحرم نظره فنتج من ذلك ومن غيره المعلوم لمن تدبر كلامهم أن الصواب حمل كلام الإمام على ما قدمته فإن قلت كيف يجب منعهن إذا فعلن ما يخشى منه الفتنة حتى من مسجد مكة إذا قصدت الطواف الذي لا يتأتى لهن في بيوتهن وقد يكون فرضا عليهن قلت: لأن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح. ولأنهن يتمكن من المجيء إليه في ثياب رثة بحيث لا يخشى منهن افتتان ولأن المرأة إذا وجب عليها الطواف فإما أن تكون عجوزا أو شابة فإن كانت عجوزا مكنت من الإتيان لفعله إذا كانت في ثياب رثة وكذا من فعل غيره من العبادات في المساجد لأنه لا خشية فتنة حينئذ, وإن كانت شابة فإما أن تكون عزبة أو متزوجة فإن كانت عزبة فلا ضرورة عليها في تأخيره إلى وقت خلو المطاف وقت القيلولة فتفعله وإن كانت متزوجة وأمرها الزوج به وخشيت الفتنة بخروجها ولو في ثياب رثة لم يجب عليها الخروج وحدها. بل تقول له: إما أن تخرج معي إلى أن أؤديه هو والسعي, وإما أن لا تأمرني به فحينئذ استوى الطواف وغيره وقد ذكروا لخروجها للجماعة وغيرها شروطا تأتي في خروجها للأسواق, وغيرها بالأولى فلا بأس بذكر ذلك ونقله مبسوطا ليعلم منه ما أشار السائل إليه ثم نذكر شيئا من كلام الأئمة من غير مذهبنا ليعلم موافقتهم لنا أو عدمها فنقول قال النووي رحمه الله ورضي عنه في شرح مسلم في باب خروج النساء إلى المساجد إذا لم يترتب عليه فتنة وأنها لا تخرج متطيبة وانظر إلى قوله إذا لم يترتب عليه فتنة ما أحسنه فيما قدمته من وجوب المنع حيث ترتبت الفتنة على خروجهن فإن قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تمنعوا إماء الله مساجد الله" هذا وشبهه من أحاديث الباب ظاهر في أنها لا تمنع من المسجد لكن بشروط ذكرها العلماء مأخوذة من الأحاديث وهي أن لا تكون متطيبة ولا متزينة ذات خلاخل يسمع صوتها ولا ثيابا فاخرة ولا مختلطة بالرجال ولا شابة ونحوها ممن يفتتن بها وأن لا يكون بالطريق ما يخاف به مفسدة ونحوها وهذا النهي عن منعهن من الخروج محمول على كراهة التنزيه إذا كانت المرأة ذات زوج أو سيد ووجدت الشروط المذكورة. فإن لم يكن لها زوج ولا سيد حرم المنع إذا وجدت الشروط ا هـ فافهم قوله لكن بشروط..إلخ إن هذه شروط لعدم المنع, وأنه حيث فقد واحد منها منعت لكن كلامه يقتضي جواز المنع أو وجوبه, والأولى

 

ج / 1 ص -285-        أن يقال ساكت عن التعرض لأحد القسمين وقد صرح غيره بالوجوب كما يأتي عن الغزالي وغيره ويدل عليه قوله السابق إذا لم يترتب عليه فتنة فإنه شرط للخروج أي لجوازه كما هو ظاهر وحيث حرم الخروج وجب المنع وليكن على ذكر منك جعله من الشروط أن لا يكون في الطريق ما يخاف به مفسدة, وأن لا تختلط بالرجال. ويؤيد المنع أيضا قول عائشة رضي الله عنها لو رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أحدث النساء بعده لمنعهن المساجد كما منعت نساء بني إسرائيل لكن كلامها محتمل أيضا لوجوب المنع ولجوازه, واحتماله لوجوبه أقرب ويدل عليها الملازمة المذكورة المستنبطة من القواعد الدينية المقتضية لحسم مواد الفساد ويؤيد ما استنبطته قول مالك رضي الله عنه يحدث للناس فتاوى بقدر ما أحدثوا من الفجور وإنما نسب لمالك لأنه أول من قاله وإلا فغيره من الأئمة بعده يقولون بذلك كما لا يخفى من مذاهبهم ومن تخيل أن هذا من التمسك بالمصالح المرسلة التي يقول بها مالك وهي مباينة للشريعة فقد وهم وإنما مراده ما أرادته عائشة رضي الله عنها من أن من أحدث أمرا يقتضي أصول الشريعة فيه غير ما اقتضته قبل حدوث ذلك الأمر يجدد له حكم بحسب ما أحدثه لا بحسب ما كان قبل إحداثه قال بعض المحققين وقولها ذلك بمنزلة الخبر لا من قول الصحابي المختلف في كونه حجة لأنها اطلعت منه صلى الله عليه وسلم أنه إذا اطلع على ما أحدثت النساء لمنعهن ويؤيد. ذلك حديث ابن ماجه عنها بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في المسجد إذ دخلت امرأة مزينة ترفل في زينة لها في المسجد فقال صلى الله عليه وسلم: "يا أيها الناس انهوا نساءكم عن لبس الزينة والتبختر في المسجد فإن بني إسرائيل لم يلعنوا حتى لبس نساؤهم الزينة وتبختروا في المساجد" قال بعض المتأخرين وفيه دليل لتحريم الفعل لترتب اللعن عليه وإذا كانت المرأة لا تخرج إلا كذلك منعت ا هـ واعتذر في الإحياء عن قول بعض أولاد عبد الله بن عمر لما ذكر حديث لا تمنعوا إماء الله بلى والله لنمنعهن فضرب صدره وغضب. قال الغزالي وإنما استجرأ على المخالفة لعلمه بتغير الزمان وإنما غضب عليه لإطلاق اللفظ بالمخالفة ظاهرا من غير عذر ا هـ فتأمله تجده صريحا في اعتماد ما مر عن عائشة رضي الله عنها ولا ينافي ذلك كله قول شيخ الإسلام في فتح الباري في تمسك بعضهم في منع النساء مطلقا بقول عائشة رضي الله عنها وفيه نظر إذ لا يترتب عليه تغير الحكم لأنها علقته على شرط لم يوجد بناء على ظن ظنته فقالت لو رأى لمنع فيقال عليه لم ير ولم يمنع فاستمر الحكم حتى أن عائشة لم تصرح بالمنع وإن كان كلامها يشعر بأنها كانت ترى المنع. وأيضا فقد علم سبحانه ما سيحدثن فما أوحى إلى نبيه صلى الله عليه وسلم بمنعهن ولو كان ما أحدثن يستلزم منعهن من المساجد لكان منعهن من غيرها أولى وأيضا فالإحداث إنما وقع من بعض النساء لا من جميعهن فإن تعين المنع فليكن لمن أحدثت والأولى أن ينظر إلى ما يخشى منه الفتنة فليجتنب لإشارته صلى الله عليه وسلم إلى ذلك بمنع الطيب والزينة وكذا التقيد بالليل كما سبق ا هـ. فتأمله تجده إنما ساقه هذا كله ردا.

 

ج / 1 ص -286-        على من فهم من كلام عائشة منع النساء مطلقا وحينئذ فما ذكره من الرد عليه ظاهر لأنه وإن فرض دلالة كلامها على ذلك. فصريح الأحاديث الصحيحة يخالف ذلك فتعين الرد على من فهم من كلامها منع النساء من المساجد مطلقا إذ لا معنى لمنع عجوز هرمة في ثياب بذلة ومعنى قوله علقته على شرط لم يوجد..إلخ أي: إن فهمت أيها القائل بالمنع مطلقا ذلك من قولها فالشرط لم يوجد لأن النساء كلهن لم يحدثن بدليل قوله فالإحداث إنما وقع من بعض النساء ولم يرد رد ما أفهمه كلامها من منع من أحدث؛ لأنه صرح باعتماده في آخر كلامه كما علمت ومعنى قوله كلامها يشعر بالمنع أي: مطلقا من حيث عود الضمير على النساء الذي هو محلى باللام المفيدة للعموم. ولكن ذلك ليس مرادا لها ومعنى قوله لكان منعهن من غيرها أولى أي: عندك أيها القائل بالمنع مطلقا من المساجد دون غيرها أي: وهذا تحكم؛ لأن غير المساجد من الأسواق ونحوها أولى بالمنع مطلقا لما هو جلي فكيف لا يقول بالمنع فيه مطلقا ويقول بذلك في المسجد وإنما بينت مراده رحمه الله؛ لأن بعضهم فهم من كلامه غير المراد فاعترض عليه بما لا يجدي ومما يؤيد ما قدمته من وجوب المنع بشرطه السابق واعتماد كلام عائشة رضي الله عنها قول الغزالي في الإحياء في الباب الثالث من المنكرات المألوفة ويجب أن يضرب بين الرجال والنساء حائل يمنع من النظر فإن ذلك أيضا مظنة الفساد ويجب منع النساء من حضور المساجد للصلاة ولمجالس العلم والذكر إذا خيفت الفتنة بهن فقد منعتهن عائشة رضي الله عنها فقيل لها إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما منعهن من الجماعات فقالت لو علم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أحدثن بعده لمنعهن ا هـ ويوافقه قول ابن خزيمة من أكابر أصحابنا صلاة المرأة في بيتها أفضل من صلاتها في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن كانت تعدل ألف صلاة إنما أراد به صلاة الرجال دون النساء فإذا كانت أفضل فالذي يخرجها من بيتها إما الرياء أو السمعة وهو حرام وإما لغرض آخر من أغراض النفس من تفرج وغيره وهو مخرج للعمل عن الإخلاص ولا يجوز لأحد أن يفتي أو يأذن في ترك الإخلاص ا هـ وفي بعض ما ذكره نظر لا يخفى على من له دراية بالمذهب وفي منسك ابن جماعة الكبير ومن أكبر المنكرات ما يفعله جهلة العوام في الطواف من مزاحمة الرجال بأزواجهم سافرات عن وجوههن وربما كان ذلك في الليل وبأيديهم الشموع متقدة ومن المنكرات أيضا ما يفعله نساء مكة وغيرهن عند إرادة الطواف وعند دخول المسجد من التزين واستعمال ما تقوى رائحته من الطيب بحيث يشم على بعد فتشوش بذلك على الناس ويجتلبن بسببه استدعاء النظر إليهن وغير ذلك من المفاسد نسأل الله أن يلهم ولي الأمر إزالة المنكرات آمين ا هـ فتأمله تجده صريحا في وجوب المنع حتى من الطواف عند ارتكابهن دواعي الفتنة فيتأيد به ما قدمته. وحديث "كل عين زانية" "والمرأة إذا استعطرت فمرت بالمجلس فهي كذا وكذا" معنى زانية رواه الترمذي وصححه وروى ابن حبان حديث "أيما امرأة استعطرت فمرت على قوم ليجدوا ريحها

 

ج / 1 ص -287-        فهي زانية وكل عين زانية" قال بعض المتأخرين ومن البدع ما يقع في شهر رمضان وهو نوم النساء في الجامع ودخولهن مع الرجال المرافق فذلك حرام لا يرضى به لنساء المسلمين إلا قليل النخوة فكيف يجوز أن يرضى به أحد لامرأته وكيف لا يجب منعها وكيف يقال بوجوب المنع ويجوز لها الخروج هذا لا يكون في الشرع. قال ومن المحرمات مزاحمتهن الرجال في المسجد والطريق عند خوف الفتنة قال صلى الله عليه وسلم: "لأن يزحم رجلا خنزير متلطخ بطين خير له من أن يزحم منكبيه امرأة لا تحل له" رواه الطبراني ثم نقل عن الطرطوشي من المالكية وأبي شامة منا أنهما أنكرا ذلك وبالغا فيه وأنه من الفسوق وأن من تسبب فيه يفسق ثم قال فإن قلت أتقول بمنع خروج النساء إلى المساجد والمواعيد وزيارة القبور غير قبر النبي صلى الله عليه وسلم قلت: كيف لا أقول به وقد صار متفقا عليه لعدم شرط جواز الخروج في زمنه صلى الله عليه وسلم وهو التقى والعفاف. وقد ذكر ذلك من المتقدمين الشيخان الإمامان الزاهدان الورعان الشيخ تقي الدين الحصني وشيخنا علاء الدين محمد بن محمد بن محمد النجاري تغمدهما الله برحمته وفيما ذكراه كفاية لمن ترك هواه وقد ظن بعض الناس أن القول بالتحريم وادعاء الاتفاق على المنع مخالف للمذهب وليس كذلك وعلى ما أذكر كلاما مجموعا من كتب المذهب وغيره يوضح مرادهما ويبين أنه لا خلاف فيما قالاه وأن من يخالفهما فلعدم اطلاعه على ما علماه ولا يلزم من عدم الاطلاع للبعض العدم للكل. فما ذكراه أن المفتى به في هذا الزمان منع خروجهن ولا يتوقف في ذلك إلا غبي تابع لهواه؛ لأن الأحكام تتغير بتغير أهل الزمان وهذا صحيح على مذاهب العلماء من السلف والخلف فمن ذلك ما قاله في شرح مسلم نقلا عن القاضي عياض قال اختلف السلف في خروجهن للعيدين فرأى جماعة أن ذلك حق عليهن منهم أبو بكر وعمر وابنه وغيرهم رضي الله عنهم ومنهم من منعهن من ذلك منهم عروة والقاسم ويحيى الأنصاري ومالك وأبو يوسف, وأبو حنيفة أجازه مرة ومنعه أخرى, وفي شرح العمدة لابن الملقن: ومنع بعضهم في الشابة دون غيرها وهو مذهب مالك وأبي يوسف قال الطحاوي كان الأمر بخروجهن في ابتداء الإسلام ليكثر المسلمون في عين العدو ا هـ. وفي شرح ابن دقيق العيد وقد كان ذلك الوقت أهل الإسلام في حيز القلة فاحتيج إلى المبالغة في إخراج العواتق وذوات الخدور وفي مصنف ابن العطار وينبغي للمرأة أن لا تخرج من بيتها بل تلزم قعره فإنها كلها عورة والعورة يجب سترها وأما الخروج إلى المساجد في الغلس عند أمن الضرر والفتنة فقد كان مأذونا فيه زمن النبي صلى الله عليه وسلم وزمان بعض أصحابه. ثم منع منه لما أحدث النساء من الافتتان بهن والتبهرج والتطيب وفتنتهن بالرجال ثم ذكر حديث عائشة في منعهن ثم قال وينبغي للمرأة إذا خرجت من بيتها أن لا تتزين ولا تتطيب ولا تمشي وسط الطريق وأن لا يكون خروجها لحاجة شرعية إلا بإذن زوجها وينبغي للرجل أن لا يعين زوجته ولا امرأة ممن يحكم عليها بشيء من أسباب الإعانة على الخروج من بيتها وقد

 

ج / 1 ص -288-        ثبت في الصحيح الإذن لهن يوم العيد والخروج إلى المصلى متلفعات بمروطهن حتى الحيض ليشهدن الخير ودعوة المسلمين ويعتزلن المسلمين وقد منع هذا في غير هذه الأزمان لما في حضورهن من المفاسد المحرمة قال حجة الإسلام في الإحياء وقد كان أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم للنساء في حضور المساجد والصواب الآن المنع إلا العجائز بل استصوب ذلك في زمن الصحابة رضي الله عنهم حتى قالت عائشة رضي الله عنها وذكر ما مر عنها وقال فيه أيضا في كتاب الأمر بالمعروف ويجب منع النساء من حضور المساجد للصلاة ومجالس الذكر إذا خيفت الفتنة بهن فهذه أقاويل العلماء في اختلاف الحكم فيها بتغير الزمان. وأهل الأقاويل المذكورة هم جمهور العلماء من المجتهدين والأئمة المتقين والفقهاء الصالحين الذين هم من الممهرين فيجب الأخذ بأقاويلهم؛ لأنهم علم الأمة واختيارهم لنا خير من اختيارنا لأنفسنا ومن خالفهم فهو متبع لهواه فإن قيل فما الجواب عن إطلاق أهل المذهب غير من مر فالجواب أن محله حيث لم يريدوا كراهة التحريم ما إذا لم يترتب على خروجهن خشية فتنة وأما إذا ترتب ذلك فهو حرام بلا شك كما مر نقله عمن ذكر والمراد بالفتنة الزنا ومقدماته من النظر والخلوة واللمس وغير ذلك. ولذلك أطلقوا الحكم في هذه المسألة بدون ذكر محرم يقترن بالخروج وأما عند اقتران محرم به أو لزومه له فالصواب القطع بالتحريم ولا يتوقف في ذلك فقيه ويتضح الأمر بذكر تلك المحرمات المقترنة بالخروج فمنها أن خروجها متبرجة أي: مظهرة لزينتها منهي عنه بالنص قال تعالى: {وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} [الأحزاب: 33] وروى ابن حبان والحاكم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "يكون في أمتي رجال يركبون على سرج كأشباه الرجال ينزلون على أبواب المساجد نساؤهم كاسيات عاريات على رءوسهن كأسنمة البخت العجاف العنوهن. فإنهن ملعونات" وفي حديث آخر "مائلات مميلات وفيه فإنهن لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا" ولا يخفى أن مجموع هذه الصفات لا تحصل للمرأة وهي في بيتها بل يكون ذلك في خروجها من بيتها عند حصول هذه الهيئة فيها وخوف الافتتان بها ولذلك شرط العلماء لخروجها أن لا تكون بزينة ولا ذات خلاخل يسمع صوتها فكيف يجوز لأحد أن يرخص في سبب اللعن, وحرمان الجنة بالقرآن والسنة والمذهب القائل بأن كل حالة يخاف منها الافتتان حرام يدل على أن التبرج حرام ومنها تحريم نظر الأجانب إليها ونظرها إليهم كما صححه النووي ومنها مزاحمة الرجل في المسجد أو الطريق عند خوف الفتنة فإن ذلك حرام وروى أبو داود من حديث أبي أسيد الأنصاري أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وهو خارج من المسجد فاختلط الرجال مع النساء في الطريق فقال النبي صلى الله عليه وسلم للنساء: "استأخرن فإنه ليس لكن أن تحففن الطريق عليكن بحافات الطريق" قال فكانت المرأة تلصق بالجدار حتى أن ثوبها ليعلق بالجدار من لصوقها به فهذه الأحاديث دالة على منع المزاحمة بين الرجل الأجنبي والمرأة. انتهى كلام

 

ج / 1 ص -289-        بعض المتأخرين ملخصا وما أحسنه وأحقه بالصواب وفي الأنوار في آخر كتاب الجهاد المنكرات المألوفة أنواع؛ الأول منكرات المساجد, قال ولو كان الواعظ شابا متزينا كثير الأشعار والحركات والإشارات وقد حضر مجلسه النساء وجب المنع فإن فساده أكثر من صلاحه بل لا ينبغي أن لا يسلم الوعظ إلا لمن ظاهره الورع وهيئته السكينة والوقار وزيه زي الصالحين وإلا فلا يزداد الناس به إلا تماديا في الضلال فيجب أن يضرب بين الرجال والنساء حائل يمنع من النظر فإنه مظنة الفساد. ويجب منع النساء من حضور المساجد للصلاة ولمجالس الذكر إذا خيفت الفتنة ا هـ. فتأمله تجده صريحا أيضا فيما قدمته وفي المهذب في باب صلاة الجمعة ولأنها أي: المرأة لا تختلط بالرجال وذلك لا يجوز فتأمله تجده صريحا في حرمة الاختلاط وهو كذلك؛ لأنه مظنة الفتنة وبه يتأيد ما مر عن بعض المتأخرين والذي نقله عن الحصني كأنه أخذه من كلامه في شرح أبي شجاع وغيره وقد أطال الكلام في ذلك بما حاصله أنه ينبغي القطع في زماننا بتحريم خروج الشابات وذوات الهيئات لكثرة الفساد والمعنى المجوز للخروج في خير القرون قد زال وأيضا فكن لا يبدين زينتهن ويغضضن أبصارهن وكذا الرجال ومفاسد خروجهن الآن محققة وذكر ما مر عن عائشة رضي الله عنها ونقله عن غيرها أيضا ممن مر ذكرهم ثم قال: ولا يتوقف في منعهن إلا غبي جاهل قليل البضاعة في معرفة أسرار الشريعة قد تمسك بظاهر دليل حملا على ظاهره دون فهم معناه مع إهمالهم فهم عائشة ومن نحا نحوها ومع إهمال الآيات الدالة على تحريم إظهار الزينة وعلى وجوب غض البصر فالصواب الجزم بالتحريم والفتوى به ا هـ. وهذا حاصل مذهبنا واحذر من إنكار شيء مما مر قبل التثبت فيه ولا تغتر بمن تموه بلسانه وتفوه بما لا خبرة له به فإن العلم أمانة والله سبحانه وتعالى ولي التوفيق والإعانة.
سئل رضي الله عنه بما صورته ما حد جار المسجد في قوله صلى الله عليه وسلم
"لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد"؟ "فأجاب" بقوله قال بعض أصحاب القفال جواره أربعون دارا من كل جانب. كما في الوصية وقال غيره أخذا من الأحاديث هو من سمع النداء أي: إذا كان المنادي في أرض المسجد إذ الظاهر أنه يشترط هنا لتسمية من سمع النداء جارا ما ذكروه في الجمعة من أن المعتبر نداء حيث يؤذن كعادته وهو على الأرض في طرف المسجد الذي يليهم والأصوات هادية والرياح راكدة وأن يكون المصغي للنداء معتدل السمع.
"وسئل" نفع الله به عن قول الماوردي إذا أقيمت الصلاة حرم على الإمام الانتظار هل هو مشكل بكراهة الانتظار في الصلاة أم لا؟ "فأجاب" بقوله ليس بمشكل به؛ لأنه بالانتظار في الصلاة يحصل للمأمومين في مقابلة تضررهم به عبادة بخلاف الانتظار قبل الصلاة فإن فيه ضررا عليهم من غير أن يحصل لهم في مقابلته شيء

 

ج / 1 ص -290-        "وسئل" نفع الله به عن قولهم يسن انتظار المأموم في الركوع والتشهد الأخير هل يزاد على ذلك شيء؟ "فأجاب" بقوله يزاد عليه المزحوم فيسن انتظاره في القراءة والموافق البطيء فينبغي أن يسن انتظاره في السجدة الثانية وينبغي أيضا أن يلحق بالمزحوم الموافق إذا شرع الإمام في الركن الرابع. ثم جرى هو جهلا على ترتيب صلاة نفسه فيسن انتظاره في القيام أيضا.
"وسئل" رضي الله عنه بما لفظه إذا كان المسجد مطروقا كالجامع عندنا بالشحن وله إمام راتب متولي وظيفة الإمامة على حسب ما ذكره الواقف فهل لغيره أن يقيم الجماعة فيه قبل أن يصلي الإمام المذكور وعبارة سيدنا الشيخ أبي إسحاق نفع الله به في المهذب وإن حضروا والإمام لم يحضر فإن كان للمسجد إمام راتب قريب فالمستحب أن يبعث إليه ليحضر؛ لأن في تفويت الجماعة عليه افتياتا وإفسادا للقلوب. وإن خشي فوات أول الوقت لم ينتظروا؛ لأن النبي ذهب ليصلح بين بني عمرو بن عوف فقدم الناس أبا بكر رضي الله عنه وحضر النبي صلى الله عليه وسلم وهم في الصلاة ولم ينكر. قال النووي رحمه الله في شرحه للمهذب حديث قصة بني عمرو بن عوف رواه البخاري ومسلم من رواية سهل بن سعد الساعدي قال الشافعي رضي الله عنه والأصحاب إذا حضرت الجماعة ولم يحضر إمام فإن لم يكن للمسجد إمام راتب قام واحد وصلى بهم وإن كان له إمام راتب فإن كان قريبا بعثوا إليه من يستعلم خبره ليحضر أو يأذن لمن يصلي بهم وإن كان بعيدا أو لم يوجد في موضعه. فإن عرفوا من حسن خلقه أنه لا يتأذى بتقدم غيره ولا تحصل بسببه فتنة استحب أن يتقدم أحدهم ويصلي بهم للحديث المذكور ويحفظ أول الوقت والأولى أن يتقدم أولاهم بالإمامة وأحبهم إلى الإمام فإن خافوا أذاه أو فتنة انتظروه وإن طال الانتظار وخافوا فوات الوقت كله صلوا جماعة هكذا ذكر هذه الجملة الشافعي والأصحاب ا هـ. كلام شرح المهذب بحروفه. وقال سيدنا الشيخ أبو إسحاق الشيرازي نفعنا الله به في المهذب وإن حضر وقد فرغ الإمام من الصلاة فإن كان للمسجد إمام راتب كره له أن يستأنف فيه الجماعة؛ لأنه ربما اعتقد أنه قصد الكياد والإفساد فإن كان المسجد في السوق أو ممر الناس لم يكره أن يستأنف فيه الجماعة؛ لأنه لا يحتمل الأمر الكياد والإفساد فإن حضر ولم يجد إلا من صلى استحب لمن حضر أن يصلي معه لتحصل له فضيلة الجماعة. والدليل عليه ما روى أبو سعيد الخدري أن رجلا جاء وقد صلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال:
"من يتصدق على هذا" فقام رجل فصلى معه ا هـ. لفظ المهذب بحروفه قال في شرحه سيدنا الإمام النووي نفع الله به إن المسجد المطروق لا تكره فيه جماعة بعد جماعة ثم قال في شرح المهذب أما حكم المسألة فقال أصحابنا إن كان للمسجد إمام راتب وليس هو مطروقا كره لغيره إقامة الجماعة فيه ابتداء قبل فوات مجيء إمامه ولو صلى الإمام كره أيضا جماعة أخرى فيه بغير إذنه. إذا هو الصحيح المشهور وبه قطع الجمهور وحكى الرافعي وجها أنه لا يكره ذكره في باب الأذان وهو

 

ج / 1 ص -291-        شاذ ضعيف وإن كان المسجد مطروقا أو غير مطروق وليس له إمام راتب لم يكره إقامة الجماعة الثانية فيه لما ذكره المصنف ا هـ لفظ شرح المهذب بحروفه وعبارة الروضة ولو حضر قوم في مسجد له إمام راتب. فهو أولى من غيره. فإن لم يحضر إمامه استحب أن يبعث إليه ليحضر وإن خيف فوات أول الوقت استحب أن يتقدم غيره. قلت تقدم غيره مستحب إن لم يخف فتنة فإن خيف صلوا فرادى ويستحب لهم أن يعيدوا معه إذا حضر بعد ذلك والله أعلم وقال في آخر الباب ولو كان للمسجد إمام راتب كره لغيره إقامة الجماعة فيه قبله أو بعده إلا بإذنه فإن كان المسجد مطروقا فلا بأس وقد سبقت المسألة في باب الأذان ا هـ لفظه هنا بحروفه وكلامه هنا في الروضة ظاهره أنه إذا كان مطروقا لا تكره الجماعة الأولى فيه. وكلام شرح المهذب السابق يخالفه؛ لأنه قيد ذلك بالجماعة الثانية وفي شرح مسلم باب تقديم الجماعة من يصلي بهم إذا تأخر الإمام فيه حديث تقدم أبي بكر وحديث عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهما وأن الإمام إذا تأخر عن الصلاة تقدم غيره إذا لم يخف فتنة وإنكار من الإمام ا هـ وهذا يخالفه أيضا فإن هذا الكلام في المطروق وفي شرح التنبيه للأزرقي بعد قول التنبيه إذا كان للمسجد إمام راتب كره لغيره إقامة الجماعة فيه ما لفظه ولا شك أن للإمام حالين فذكر الحال الأول والخلاف فيه ثم قيده بالمطروق. ثم قال الحالة الثانية إن كان الإمام لم يصل وذكر الكلام في ذلك إلى آخره ولم يقيده بالمطروق كما قيد به الحالة الأولى وأما الشيخ زكريا في شرح الروض فقال فيه في آخر الباب بعد قول الروض ويكره أن تقام جماعة في مسجد بغير إذن إمامه الراتب قبله أو بعده أو معه إلا إن كان المسجد مطروقا فلا يكره إقامتها فيه وقال فيه قبل ذلك بعد قول الروض وإمام المسجد أحق من غيره ويبعث له فإن خيف فوات أول الوقت وأمنت الفتنة أم غيره وإلا صلوا فرادى قال في شرحه ثم محل ذلك في مسجد غير مطروق. وإلا فلا بأس أن يصلوا أول الوقت جماعة كما سيأتي آخر الباب ا هـ فأخذ الشيخ زكريا رحمه الله تعالى بظاهر إطلاق الروضة ولم ينظر إلى مخالفة كلام شرح المهذب لهذا الظاهر ولا نظر أيضا إلى كلام شرح مسلم. ولا شك أنا إذا اعتمدنا هذا الظاهر كان فيه مخالفة لكلام الشيخ في المهذب نفعنا الله به وكلام النووي في شرح المهذب فتأملوا حفظكم الله تعالى ذلك وهل لعبارته هذه محمل آخر وفي المنتقى للنشائي ولو حضر قوم بمسجد له إمام راتب فهو أولى فإن غاب ندب طلبه إن أمن وقت الفضيلة وإلا فيقدم غيره قلت بأمن الفتنة وإلا صلوا فرادى وإن حضر بعد إقامة الجماعة لم يكره لهم إقامتها. إذا لم يكن راتب أقول وفيه وجه وإلا فالأصح في الأذان يكره قلت ولا كراهة بالمطروق كيف خصص المطروق بالصورة الثانية ولم يذكره حيث ذكره آخر الباب في الروضة ولا شك أن التعليل بأن في تفويت الجماعة عليه افتياتا وإفسادا للقلوب يشمل المطروق وغيره فتأملوا ذلك حفظكم الله تعالى تأملا شافيا وأوضحوا الجواب واذكروا النقل في المسألة إن كان. وإن كان للمتأخرين

 

ج / 1 ص -292-        كلام فيها فاستوعبوه مأجورين لا عدمكم المسلمون؟ "فأجاب" نفع الله به بقوله الذي دلت عليه عبارة الروضة بل صرحت به وأقرها المتأخرون أن المسجد المطروق لا تكره الجماعة فيه قبل الإمام ولا بعده بل قال ابن الرفعة وغيره لا خلاف في عدم كراهة الجماعة الثانية وجزم شيخنا في شرح الروض بأن إقامة الجماعة معه كذلك ولى مدة طويلة أتطلب له صريحا من كلامهم فلم أجده وإنما غاية ما يستدل له به عموم إطلاقهم أن المطروق يخالف غيره لكنه لا يسلم من بحث ووجه عدم كراهة ما ذكر في المطروق. انتفاء السبب الذي كره لأجله وهو كونه يورث قدحا في الإمام وطعنا فيه وإنما يقوى ذلك عند كون المسجد غير مطروق بخلاف المطروق فإن الناس يكثر ورودهم عليه فلا يتخيل في تعدد الجماعات حينئذ قدح في الإمام نعم إن ألف ذلك إلا من متصد له بحيث يقطع من قرائن أحواله أنه إنما قصد بذلك مضادة الإمام والطعن فيه فلا يبعد حينئذ القول بالكراهة وإن تخيل من كلامهم خلافه؛ لأنهم إنما قيدوا بذلك في المسجد غير المطروق لكن نقل ابن الرفعة وغيره من المتأخرين عن النص. واعتمدوه أن محل كراهة إقامة الجماعة بعده في غير المطروق ما إذا كانوا يعادونه؛ لأنه يؤدي إلى العداوة والاختلاف فيفوت مقصود الجماعة واعتمد صاحب الوافي أيضا ذلك فقال محل كراهة ذلك في غير المطروق في جمع مخصوصين؛ لأنه يدل على إفسادهم عليه بخلاف ما إذا اتفق ذلك لأعذار خلفتهم عنه فلا يكره وكذلك الأذرعي فقال ويشبه أن محله إذا أقيمت الجماعة بعده مراغمة له أو إظهارا لكراهة الصلاة معه ونحو ذلك وفي كلام الشافعي رضي الله عنه والأصحاب ما يعضده ا هـ لكن قد يؤخذ من تعليلهم الكراهة بما ذكر الكراهة في مسألتنا أيضا. وإن كانت هذه مفروضة في غير المطروق ومسألتنا مفروضة في المطروق وكثيرا ما يذكرون تعارض العلة والمعلل ويأخذون بقضية العلة تارة والمعلل أخرى بحسب المدرك والعمل هنا بقضية العلة أولى؛ لأن الشارع له مزيد اعتناء بالمحافظة على وقوع الألفة وعدم التنافر وإظهار العداوة بين المسلمين هذا ما يتلخص في هذه المسألة وبعد ذلك نرجع إلى ما في السؤال فنقول قول المجموع. قال الشافعي والأصحاب إذا حضرت الجماعة ولم يحضر إمام..إلخ محله في المطروق لما صرح به هو بعد ذلك والتقييد في قوله وخافوا فوات الوقت كله. إنما هو؛ لأنهم في هذه الحالة يسن لهم التجمع وإن خافوا فتنته كما بسطته في بشرى الكريم وقول السائل نفع الله به وكلام شرح المهذب يخالفه؛ لأنه قيد ذلك بالجماعة الثانية يجاب عنه بأنه لا مخالفة بل صرح فيه بمسألة الجماعة الأولى أيضا حيث قال كما حكى في السؤال قال أصحابنا إن كان للمسجد إمام راتب وليس هو مطروقا كره لغيره إقامة الجماعة ابتداء..إلخ فقيد كراهة الجماعة الأولى قبل الإمام بغير المطروق فأفهم أن المطروق لا تكره فيه الجماعة الأولى قبل الإمام ثم صرح بأنه لا تكره فيه الجماعة الثانية أيضا. فلا مخالفة على أن قوله لم يكره إقامة الجماعة الثانية فيه لا يدل على كراهة الأولى بل هو مسكوت عنه ولك حمل قوله

 

ج / 1 ص -293-        الثانية على أن المراد بها أنها ثانية بالنظر إلى صلاة الإمام فتشمل المتقدمة عليها والمتأخرة عنها فحينئذ لا مخالفة أيضا بل يكون مصرحا بالمسألتين كما صرح به في الروضة. وما ذكره السائل من مخالفة مسلم لما في الروضة يجاب عنه بأنا وإن سلمنا أن كلامه في المطروق على ما فيه لا نسلم المخالفة فإنه قيد تقدم غيره بما إذا لم تخف فتنة ونحن نلتزم أنه في المطروق لو خشي من تقدم غيره عند غيبته القريبة فتنة كره على ما قدمنا بل قد ينتهي الأمر إلى الحرمة بحسب تفاقم تلك الفتنة وعدمه وفرق بين الفتنة التي هي نحو الضرب ومجرد تشاحن أو تقاطع وما ذكر عن الأزرقي وهو كونه لم يقيد لا يعتد به مع ما تقرر من كلام الروضة وغيرها وقول السائل فأخذ الشيخ زكريا رحمه الله تعالى بظاهر إطلاق الروضة ولم ينظر إلى مخالفة كلام شرح المهذب..إلخ علم الجواب عنه مما مر وأن كلام شرح المهذب موافق لا مخالف. وقوله فانظر كيف خص المطروق بالصورة الثانية..إلخ يجاب عنه بأنا لا نسلم أن عبارته تقتضي ذلك وإن كان ما قبل قلت في الصورة الثانية بل عبارته تقضي بإطلاقها أنه لا كراهة في المطروق مطلقا وعلى التنزل فهو حاك لعبارة الروضة وعبارتها صريحة في الإطلاق فلا نظر لعبارته وقوله ولا شك أن التعليل أن في تفويت الجماعة عليه..إلخ قد مر الجواب عنه.
"سئل" رضي الله عنه عن مسبوق ركع مع الإمام وشك في ركوعه في نية الاقتداء هل ينوي فيه الاقتداء كالموافق أو لا حتى يعود إلى القيام وإذا علق المأموم إبطال المتابعة بشيء هل تبطل به المتابعة أو لا حتى يوجد المعلق عليه؟ "فأجاب" نفع الله به بقوله المعتمد كما حررته في شرح العباب وغيره ما في الروضة والمجموع أنه إذا شك في نية الاقتداء صار كالمنفرد فإن تابعه بعد أن انتظره كثيرا لذلك بطلت صلاته وإلا فلا وفرقت ثم بينه وبين الشك في أصل النية بأن هذا إنما أثر لكونه في الحقيقة ليس في صلاة وإنما اغتفر له ذلك مع قصر الزمن لكثرة عروض مثل ذلك فلو لم يغتفر قليله لشق بخلاف ما نحن فيه فإنه. وإن شك في نية الاقتداء هو في الحقيقة في صلاة فهو كالمنفرد. فلا فرق ولا بد من مبطل وهو ما مر من المتابعة مع الانتظار الكثير وإذا تقرر أنه بالشك في نية الاقتداء يصير منفردا فإذا كان مسبوقا وعرض له ذلك في ركوعه مع الإمام قبل أن يتم الفاتحة لزمه بمجرد عروضه له العود إلى القيام وإكمال الفاتحة؛ لأن الفاتحة لا تسقط إلا عن مسبوق متحقق نية القدوة ليتحمل عنه الإمام حينئذ وأما مع الشك فلا لما تقرر أنه بالشك صار منفردا وقد صرح بذلك غير واحد من أصحابنا ومن ثم لما ذكر العباب أنه إذا لم يقرن نية الاقتداء بالإحرام صار منفردا فإن نوى مفارقته فواضح. وإن تابعه بلا تجديد نية بطلت صلاته إن انتظره كثيرا عرفا وإلا فلا قلت في شرح ذلك تقييدا له قال الزركشي نقلا عن المعتمد والذخائر ويشترط أن لا يخل ترتيب صلاة نفسه ويقرأ حال قيامه؛ لأن العبرة بما يجب عليه في صلاته بحكم الانفراد فإن ترك شيئا من ذلك مما يتحمله الإمام بطلت قطعا ا هـ. وهو واضح وبه

 

ج / 1 ص -294-        يعلم ما ذكرته في مسألتنا أن المسبوق بمجرد الشك في نية الاقتداء وهو في الركوع يلزمه العود للقيام وإتمام الفاتحة ثم بعد إتمامها إن اقتدى بالإمام لزمه موافقته وإلا استمر على حكم الانفراد. وبما تقرر من أنه بمجرد الشك في نية الاقتداء يصير منفردا يعلم أنه إذا علق نية قطعها على شيء يحتمل وجوده ولو نادرا بطلت نية اقتدائه وصار منفردا لتصريحهم بأن التعليق ينافي الجزم فهو بعده كالشاك بجامع فوات الجزم في كل منهما. وقد علمت أنه بمجرد الشك يصير منفردا لفوات الجزم المشترط في النيات فكذلك بمجرد التعليق المذكور يصير منفردا لفوات الجزم المذكور وقد ذكروا في تعليق نية الصلاة ما يصرح بما ذكرته.
"وسئل نفع الله به عن إعادة الصلاة مع جماعة هل تتقيد بمرة كما قاله الأكثرون أو لا كما في التعقبات من أنه لو أعادها مرة ثم أدرك جماعة ثالثة فالذي يظهر الاستحباب كالثانية وهكذا أبدا ا هـ. فإن قلتم تتقيد بمرة فما الدليل عليه وهل يحكم على من زاد على مرة بالكراهة أو البطلان والتحريم وظاهر بعض الأحاديث التي رأيناها مطلقة غير مقيدة بمرة والصحيح عند الأصوليين أن الأمر المطلق لا يدل على تكرار ولا على مرة والحكم المرتب على الوصف المناسب يشعر بعليته فيتكرر الحكم بتكرر علته كما لا يخفى فإذا كان الأمر كذلك فما وجه المنع من الزيادة وما وجه التقييد بالمرة وهل ورد شيء بالتقييد. أو بالمنع من الزيادة أو لا أليس قوله صلى الله عليه وسلم
"إذا أتيتما مسجد جماعة فصليا معهم" كقوله "إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول. وإن كنتم جنبا فاطهروا" إلى غير ذلك مما لا يخفى فما الدليل على التكرار هنا والتقييد ثم بالمرة وقال الشيخ زكريا رحمه الله تعليلا وإلا لزم استغراق ذلك للوقت ا هـ فلو استغرقه متجرد للعبادة بعد أداء جميع نوافل الوقت آدابها بإعادة الصلاة فهل يكره أو يحرم وهل يمنع فاعله أو لا مع أن الصلاة أفضل من القراءة والذكر لاشتمالها عليهما. وإنما أطلنا الكلام في هذا بما لا يليق طلبا لزيادة الإيضاح والتحقيق ولأن بعض الناس مواظبون عليها فالمسئول كشف ذلك بما هو الأليق للمتجرد للعبادة بعد أداء نوافل الوقت. "فأجاب" بقوله عبارتي في شرح العباب وإنما تسن الإعادة مرة فقط ففي الخادم كالتوسط أن الإمام أشار إلى أن الإعادة إنما تسن مرة واحدة قال يعني الإمام وإلا لزم استغراق الوقت ولم ينقل ذلك عن السلف قال جمع محققون وما أشار إليه يفهم من نص الشافعي رضي الله عنه. وعبارته ويصلي الرجل قد صلى مرة مع الجماعة كل صلاة فقوله رضي الله عنه مرة ظاهر في الاحتراز عمن صلى مرتين فأكثر وبهذا يعلم تزييف قول بعضهم وما ذكره الزركشي من التقييد بمرة ليس بمعتمد فإنه لم يوجد في كلام أحد من المتقدمين ولم يعتمده أحد من المتأخرين سوى الأذرعي والمعتمد استحباب الإعادة مطلقا من غير تقييد بمرة أو مرات ا هـ. فقوله لم يوجد..إلخ يرده وجوده في كلام الإمام وظهور النص فيه وقوله لم يعتمده..إلخ ممنوع فإن أحدا منهم لم يعلم أنه ذكره ورده وكفى باعتماد الأذرعي له مع قوله إن قوة كلام الإمام يرشد إليه. على أن ابن الرفعة حكى

 

ج / 1 ص -295-        عن الأصحاب ما يصرح بما ذكرناه من التقييد بالمرة وذلك أنه ذكر للوجه القائل بمنع الإعادة لمن صلى في جماعة دليلا وتعليلا أما الدليل فخبر أبي داود "لا تصلوا صلاة في يوم مرتين" وأما التعليل فهو قوله ولأن الإعادة لتحصيل فضل الجماعة وقد حصلت له. ولو قيل بالإعادة لقيل إنه يعيدها ثانية وثالثة ورابعة وهو مخالف لما كان عليه الأولون ا هـ فتأمل هذه الملازمة التي أوردها قائل هذا الوجه على القائلين بالأصح تجدها مع رعاية أنها لا تكون غالبا إلا في متفق عليه بين الخصمين صريحة في امتناع الإعادة أكثر من مرة باتفاق الأصحاب القائلين بالأصح ومقابله وإلا لم تحسن الملازمة المذكورة ولم يكن فيها حجة. قال في المهمات وتصويرهم يشعر بأن الإعادة إنما تستحب إذا حضر في الثانية من لم يحضر في الأولى وهو ظاهر وإلا لزم استغراق ذلك للوقت وقد يقال بالاستحباب إذا اختلفت الأئمة ا هـ وقد نظر فيه بأنه لا يخلو إما أن يقول تسن الإعادة مرة فقط أو أكثر فإن قال بالأول فلا معنى لما ذكره؛ لأنه لا يلزم عليه استغراق وإن قال بالثاني فالاستغراق لازم له على كل تقدير وعجيب من شيخنا حيث اعتمد ندب الإعادة مرة فقط ثم ذكر كلامه عقب ذلك وأقره عليه. قال الأذرعي ولا خفاء أن محل سنها حيث لم يعارضها ما هو أهم منها وإلا فقد تحرم وقد تكره وقد تكون خلاف الأولى انتهت عبارة شرح العباب ومنها يعلم أن المنقول المنصوص عليه أن الإعادة لا تسن إلا مرة أما كونه المنقول فلأن الأصحاب المذكورين متفقون عليه كما قررته وأما كونه المنصوص عليه للشافعي رضي الله عنه فلقوله السابق ويصلي الرجل قد صلى مرة مع الجماعة كل صلاة فقوله قد صلى مرة لا بد أن يكون له فائدة وإلا كان لغوا. والشافعي من أعلام أئمة اللغة الذين يؤخذ بلغاتهم فلا يقع منه هذا التقييد وهو قوله مرة إلا لفائدة هي تقييد ندب الإعادة بالمرة حتى لو صلى مرتين لم يندب له الثالثة فصح لنا أن نقول إن التقييد بالمرة هو المنقول عليه ويعلم مما سبق أيضا أن التعليل باستغراق الوقت من كلام الإمام لا من كلام شيخنا رحمه الله خلافا لما أوهمه كلام السائل نفع الله به ولكن الإمام لم يقتصر عليه حتى يرد عليه ما أشار إليه السائل من استشكاله بل ضم إليه ضميمة توضح المراد. وهو قوله ولم ينقل ذلك عن السلف أي: مع ما علم من أحوالهم العلية وهممهم الزكية ومثابرتهم على أنواع العبادات سيما الصلوات فلو كانت الإعادة أكثر من مرة مشروعة لبادروا إليها ولفعلوها كلهم أو بعضهم فلما أعرضوا عنها جملة كان في ذلك إشارة إلى عدم مشروعيتها فحينئذ معنى التعليل باستغراق الوقت أنه لو طلبت إعادة أكثر من مرة لطلب من الشخص استغراق الوقت بها وهكذا في كل وقت؛ لأنك إذا فرضته صلى الظهر أول وقتها سن له إعادتها إلى خروج الوقت فإذا دخل وقت العصر سن له المبادرة بها ثم إعادتها إلى خروج الوقت فإذا دخل وقت المغرب فعل كذلك فإذا دخل وقت العشاء فعل كذلك فإذا دخل وقت الصبح فعل كذلك فلزم استغراق جميع أوقاته وفاتت عليه أكثر مطلوباته ومهماته والإعادة ليست من

 

ج / 1 ص -296-        السنن المتأكدة لوقوع الخلاف الشهير في امتناعها فلا يفوت لأجلها مطلوبات أهم منها ومن ثم قيد الأذرعي سن الإعادة مع أنه لا يقول بندبها إلا مرة بما إذا لم يعارضها ما هو أهم منها قال وإلا فقد تحرم وقد تكره وقد تكون خلاف الأولى ا هـ. فإن قلت ذلك الاستغراق إنما يصلح علة للمنع في حق غير منقطع للعبادة لا شغل له غيرها أما هو فما وجه المنع فيه قلت قد تقرر أن الإعادة من السنن التي وقع الخلاف في أصل جوازها فضلا عن تكريرها فالأولى بالتعبد المذكور الإعراض عنها والاشتغال بما هو أهم منها حتى من جنس الصلاة وهي النوافل المطلقة إذ الاشتغال بها واستغراق غير أوقات الكراهة بها لا خلاف في جوازه بل ندبه فكان اللائق به أن يمنع مما في جوازه الخلاف القوي ويؤمر بالاشتغال بما لا خلاف في فضله وعظيم ثوابه وهو النوافل المطلقة ونحوها فنتج من ذلك كله أنه لا حاجة بأحد إلى أن تباح له الإعادة أكثر من مرة. فتأمله ليفهم منه حكمة منع الإعادة أكثر من مرة وقول السائل نفع الله به وهل يحكم على من زاد على المرة بالكراهة..إلخ جوابه أنا حيث قيدنا بالمرة قلنا إن الزيادة عليها محرمة؛ لأن الصلاة متى انتفى الطلب عنها لذاتها كانت فاسدة فيحرم التلبس بها عملا بالقاعدة المقررة أن التلبس بالعبادة الفاسدة حرام بل لو قلنا بالكراهة كانت فاسدة أيضا نظير ما قالوه في الصلاة التي لا سبب لها في الوقت المكروه أنها لا تنعقد وإن قلنا إن الكراهة للتنزيه وقد ذكرت في شرح العباب نحو ذلك. فقلت فيه من جملة مسائل كثيرة أبديتها هنا لم أر فيها نقلا ثم رأيت ما يوافق ما أبديته. سادسها أنه لو أعاد منفردا لم تنعقد إذ لا عذر له والأصل منع الإعادة إلا لسبب ولم يوجد. وأما ما كان يفعله المزني من إعادة التي تفوته مع الجماعة خمسا وعشرين مرة فهو إن صح عنه اختيار له وهل من السبب وجود قول بالبطلان في صلاته الأولى للنظر فيه مجال. ثم رأيت الإسنوي قال أول هذا الكتاب واحترز المصنف بالفرائض عن الصلاة التي يستحب إعادتها بسبب ما كالشك في الطهارة ونحوه فإن الجماعة لا تجب فيها قطعا. وإن كانت تستحب فهو صريح في سن الإعادة وحده إذا كان في صلاته الأولى خلل ومنه جريان خلاف في بطلانها ويؤيده قول القاضي لو تلبس بحاضرة ثم تذكر فائتة أتمها ثم يصلي الفائتة ثم يعيد الحاضرة ا هـ. ولا ملحظ لإعادة الحاضرة حينئذ إلا الخروج من الخلاف القائل بوجوب الترتيب بل صرح الأصحاب بذلك حيث حملوا أمره صلى الله عليه وسلم لمن رآه يصلي خلف الصف بالإعادة على الندب وهذا مما نحن فيه فإن أحمد وغيره يقولون ببطلان الصلاة حينئذ بل عموم كلامهم ربما يقتضي سن الإعادة ولو منفردا لكل من ارتكب مكروها. وإن لم يجر خلاف في البطلان لكنه بعيد جدا ا هـ. وقول السائل نفع الله به وظاهر بعض الأحاديث التي رأيناها..إلخ جوابه أن الذي جاء في الإعادة من السنة إثباتا ومنعا أنه صلى الله عليه وسلم صلى الصبح في مسجد الخيف بمنى في حجة الوداع فلما انفتل من صلاته رأى في آخر القوم رجلين لم يصليا معه فقال علي بهما فأتي بهما ترعد فرائصهما أي: جمع فريصة وهي

 

ج / 1 ص -297-        لحمة عند القلب تضطرب للخوف فقال "ما منعكما أن تصليا معنا" فقالا يا رسول الله قد صلينا في رحالنا فقال "إذا صليتما في رحالكما ثم أتيتما مسجد جماعة فصلياها معهم. فإنها لكما نافلة" صححه الترمذي وغيره وأن معاذا رضي الله عنه كان يصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم العشاء ثم يرجع إلى قومه فيصلي بهم تلك الصلاة رواه الشيخان وأنه صلى الله عليه وسلم قال وقد جاء بعد صلاته العصر رجل إلى المسجد من يتصدق على هذا فيصلي معه فصلى معه رجل حسنه الترمذي. وهذا المتصدق هو أبو بكر رضي الله عنه كما في سنن البيهقي وأنه صلى الله عليه وسلم قال "من صلى وحده ثم أدرك جماعة فليصل إلا الفجر والعصر" أعل بالوقف وقال عبد الحق الذي وصله ثقة ا هـ ويجاب بأن خبري الصبح والعصر السابقين أصح فقدما وأنه صلى الله عليه وسلم قال "لا تصلوا صلاة في يوم مرتين" رواه أبو داود كما مر لكن بلفظ أتيت ابن عمر رضي الله عنهما على البلاط أي: محل بالمدينة وهم يصلون فقلت ألا تصلي معهم قال قد صليت إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "لا تصلوا صلاة في يوم مرتين" ولا حجة فيه لمنع أصل الإعادة مطلقا خلافا لمن زعمه؛ لأنه ليس فيه تعرض لمنع الإعادة مع الجماعة إلا بطريق العموم. وهو مخصوص بتلك الأحاديث الصحيحة المصرحة بندبها وكأنها لم تبلغ ابن عمر ومن وافقه فأخذوا بالعموم. وروى أبو داود عن يزيد بن عامر قال جئت والنبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة فجلست ولم أدخل معهم في الصلاة فانصرف علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأى يزيد جالسا فقال ألم تسلم يا يزيد قلت بلى يا رسول الله قد أسلمت قال "فما منعك أن تدخل مع الناس في صلاتهم" قال كنت صليت في منزلي وأنا أحسب أن قد صليتم فقال "إذا جئت إلى الصلاة فوجدت الناس فصل معهم وإن كنت قد صليت تكن لك نافلة وهذه مكتوبة" وروى أبو داود أيضا "إذا صلى أحدكم في رحله ثم أدرك الإمام ولم يصل فليصل معه فإنها له نافلة" وبهذا كالأحاديث السابقة يتضح أن المراد بقوله في الحديث الذي قبل هذا وهذه مكتوبة الأولى لا الثانية خلافا لمن استدل به من أصحابنا على أن المعادة هي الفرض هذا ما يتعلق بالأحاديث الواردة في الإعادة وبيان الحجة فيها والجواب عنها وأما ما أشار إليه السائل من أن الأول منها يدل على تكرر الإعادة؛ لأنه رتبها على الوصف المناسب فلتتكرر بتكرره وقياسا على خبر إذا سمعتم المؤذن. وعلى الآية التي ذكرها فجوابه منع ما علل به ومنع قياسه. أما الأول فلأن محل تكرر المسبب بتكرر سببه ما لم يمنع من التكرر مانع وهنا منع منه مانع وهو أن الأصل منع الإعادة على أنه ليس هنا سبب يتكرر كما سيتضح والدليل على أن الأصل منع الإعادة هو أن جماعة من المجتهدين قالوا بامتناعها عملا بذلك الأصل الموافق لعموم الخبر السابق "لا تصلوا صلاة في يوم مرتين" والدليل عليه أيضا امتناع الإعادة مع الانفراد كما مر وامتناعها لمن صلى في جماعة على وجه قال به غير واحد من أصحابنا. فاتضح بذلك أن الإعادة على خلاف الأصل وأن الأصل امتناعها لكن لما ورد بها النص فيمن صلى منفردا أو جماعة استنبط الأئمة لذلك

 

ج / 1 ص -298-        سببا فقالوا وإنما سنت الإعادة فيمن صلى منفردا لتحصيل الجماعة في فريضة الوقت حتى كأنها فعلت كذلك لشدة الاعتناء بها وفيمن صلى في جماعة لاحتمال اشتمال الثانية على فضيلة لم توجد في الأولى وإن كانت الأولى أكمل في الظاهر ا هـ. فتأمله تجده دالا على أن السبب في الأول هو تحصيل الجماعة في فرضه وفي الثاني هو رجاء ما ذكر وهذا غير متكرر. ؛ لأنه بإعادته أول مرة حصلت له الجماعة في فرضه والرجاء المذكور فإذا أعادها مرة أخرى كانت هذه الإعادة واقعة بلا سبب؛ لأن حصول الجماعة في فرضه والرجاء المذكورين لا يتكرران وقد مر لنا أن الأصل منع الإعادة إلا لسبب ولا سبب هنا للإعادة أكثر من مرة فامتنعت فعلم أن الأحاديث السابقة مطلقة للإعادة ومرتبة لها على الصلاة الأولى مع الانفراد أو الجماعة ومن قواعد الشافعي رضي الله عنه أنه يستنبط من النص معنى يخصصه أو يعممه ولا يستنبط منه نصا يعود عليه بالبطلان. فلو فرضنا أن تلك الأحاديث تشمل تكرر الإعادة بطريق العموم لكونها وقائع قولية لكانت تلك العلل المستنبطة موجبة لتخصيصها بالمرة الأولى كما بينته قريبا بقولي فتأمله تجده..إلخ فاتضح وجه المنع من الزيادة ووجه التقييد بالمرة وأما الثاني أعني منع القياس على الخبر والآية المذكورين فلأن الأدلة في تينك قامت على التكرر صريحا ولم يمنع منه مانع بخلافه فيما نحن فيه وإيضاحه أن القصد من إجابة المؤذن الإذعان لما قاله بذكر مثله وهذا لا يتقيد بأول ولا بغيره فسن مطلقا. وأما الآية فالأمر فيها معلق بسبب هو الجنابة فتكرر بتكرره إجماعا والحاصل أن الأمر من حيث ذاته لا يقتضي فورا ولا تكرارا لكنه إذا علق بسبب فتارة يدل الدليل على تكرره بتكرر السبب كسماع المؤذن والجنابة فيتكرر المسبب وهو الإجابة والتطهر لشهادة العلة المستنبطة للتكرر وتارة يدل على عدم تكرر السبب بمقتضى ما دلت عليه العلة المستنبطة كما في مسألتنا فلا تكرر فاتضح فرقان ما بين أخبار الإعادة وأخبار إجابة المؤذن ونحوها واندفع ما رتب السائل إشكاله عليه من أن السبب تكرر في أخبار الإعادة فاقتصرنا بها على الأمر المحتاج إليه فقط ولم نجوزها في غيره عملا بالأصل الذي أقمنا عليه الدلائل السابقة فليتأمل السائل وفقه الله ما اشتمل عليه هذا الجواب حق التأمل فإنه يتضح له الصواب ويتخلص به من ورطة الشك والارتياب.
"وسئل" نفع الله بعلومه عمن سجد في أثناء فاتحته لتلاوة إمامه معه فلما عاد من السجود استأنف الفاتحة من أولها إما ناسيا أو جاهلا أو موسوسا فركع الإمام قبل إتمامه الفاتحة فماذا يجب على المأموم. والحالة هذه وعمن انتظر سكتة الإمام ليقرأ فيها الفاتحة فركع الإمام عقب فاتحته فماذا يجب على المأموم وقد ذكر بعضهم فيه احتمالين ولم يصحح شيئا. وقال الشيخ زكريا في شرح الروض القياس أنه كالناسي خلافا للزركشي في سقوط الفاتحة ا هـ. هل الأقرب أنه كالناسي أو لا كالمشتغل بسنة حتى يقرأ قدر السكتة ويعذر؛ لأن هذه السكتة سنة وما مراد الزركشي بسقوط الفاتحة أهو إذا كان مسبوقا أو لا.

 

ج / 1 ص -299-        وما هو الأصح المعتمد في هذه المسألة وعلى أي العمل. "فأجاب" بقوله إن كان أدرك من قيام الإمام قبل ركوعه سواء ما قبل السجود وما بعده زمنا يسع الفاتحة بالنسبة لقراءة نفسه على ما اعتمده الزركشي أو بالنسبة للوسط المعتدل فيما يظهر لي وأطلت الاستدلال له ولتزييف غيره في شرح العباب وغيره فهو موافق فيتخلف وجوبا وإلا بطلت صلاته إن علم وتعمد وإلا لغت ركعته لإتمام الفاتحة ما لم يقم الإمام من السجدة الثانية ويجلس إن أراد الجلوس أو يتم انتصابه قائما إن أراد القيام فمتى وصل لذلك قبل إتمامه الفاتحة تابعه وجوبا وأتى بركعة بعد سلام إمامه. وإن لم يدرك مع الإمام زمنا يسع الفاتحة كلها. كما ذكر فهو مسبوق فمتى فاته إدراك الركوع فاتته الركعة ومتى تخلف بعد قيام إمامه من الركوع لإتمام فاتحته إلى أن هوى إمامه للسجود بطلت صلاته على ما في ذلك من الخلاف الشهير بين المتأخرين هذا كله في الناسي والجاهل وأما الموسوس فإن كان قد أعاد الفاتحة لموجب بأن شك في بعضها فكذلك بل أولى؛ لأنه متخلف لواجب إذ الشك في بعضها قبل فراغها يوجب إعادة ما مضى منها. وإن كان يكرر ألفاظها أو يعيدها لغير موجب فلا يجوز له التأخر إلا لتمام ركنين الركوع والاعتدال فإن فرغ من الفاتحة. قبل هويه للسجود فإن كان موافقا ركع واعتدل ولحقه وأدرك الركعة وإن أراد الإمام الهوي للسجود وهو لم يفرغ من الفاتحة لزمته نية المفارقة؛ لأنه تعارض في حقه واجبان إتمام الفاتحة ومتابعة الإمام وقد تعذر الجمع بينهما فلزمه السعي في تصحيح صلاته وهو هنا لا يمكنه إلا نية المفارقة فلزمته وأما المسبوق فيلزمه أن يقرأ بقدر ما فوت فإن فرغ منه قبل فوات الركوع ركع وأدرك الركعة وإلا كمل إلى أن يهوي الإمام للسجود فيلزمه حينئذ المفارقة أيضا لما مر فتأمل ذلك فإنه مأخوذ من متفرقات كلامهم. واطرده فيما يشابهه كالمشتغل بنحو دعاء الافتتاح أو التعوذ والأوجه الذي اقتضاه كلام المحب الطبري. وصرح به الأصبحي وغيره أن المنتظر سكتة الإمام ليقرأ فيها الفاتحة فركع إمامه عقبها أنه كالناسي بجامع عذرهما فيكون كبطيء القراءة حتى يتخلف لقراءتها ما لم يتم انتصابه أو جلوسه كما مر وقول الزركشي بسقوطها عنه بعيد إذ غاية أمره أنه معذور بفعل السنة وقد صرحوا في المعذور والمدرك لزمن يسع قراءة الفاتحة أنه يتخلف لقراءتها ما لم يقم الإمام أو يجلس بخلاف غير المعذور كالموسوس السابق وكمن تعمد تركها حتى ركع الإمام فيلزم كلا منهما كما يصرح بالأول كلام النووي وكما نقله ابن الرفعة وغيره عن القاضي وأقروه أنه يفارقه على المذهب أي: إن خشي التخلف عنه بركنين فعليين فحينئذ الأوجه أنه يشتغل بقراءتها إلا أن يخاف أن يتخلف عنه بهما فحينئذ تلزمه مفارقته بالنية كما مر هذا حاصل ما يتعلق بما قاله السائل. وأما قوله أولا كالمشتغل بسنة..إلخ فجوابه أن الكلام إنما هو في الموافق فحيث ركع الإمام ولم يقرأ لزمه قراءة الفاتحة كلها فإن فرغ منها قبل قيام الإمام أو جلوسه وإلا وافقه فيما هو فيه. وأتى بركعة بعد سلام الإمام فإن كان المنتظر السكتة مسبوقا تخلف لقراءة قدر ما أدرك فإن فرغ منه وأدرك الركوع

 

ج / 1 ص -300-        أدرك الركعة وإلا استمر حتى يهوي الإمام للسجود فحينئذ يفارقه كما مر وعلم من قولي إن الكلام إنما هو مفروض في الموافق بدليل تصريحهم بأنه كبطيء القراءة أن الزركشي يقول بسقوطها عن الموافق وإذا قال بسقوطها عن الموافق فالمسبوق أولى.
"وسئل نفع الله به عن مدافعة الحدث إذا خيف معها فوات الصلاة المسنونة كالرواتب أو فوت الجماعة ما الذي يقدمه وهل يفرق بين ما إذا رجا قضاءها أو لا. وبين موضع يقل فيه الماء أو لا؟ "فأجاب" نفع الله به بقوله متى خاف من المدافعة ضررا شديدا فهي عذر في إخراج النافلة بل والفريضة عن وقتها فإذا لم يكن بقي من وقتها إلا ما يسعها وهو متوضئ لكنه خشي من حبس نحو ريح دافعه ضررا قدم تفريغ نفسه وإن خرج الوقت خشية من الضرر الذي يلحقه وإن لم يخف منه ضررا فالأولى له تفريغ نفسه وإن خشي فوت الجماعة خروجا من خلاف من أبطل الصلاة مع مدافعة الحدث وإذا قدم تفريغ النفس على الجماعة مع كونها فرضا فأولى أن يقدمه على النافلة وإن خشي خروج وقتها سواء أرجا قضاءها أم لا سواء أكان في موضع يقل فيه الماء أم لا.
"وسئل" أعاد الله علينا من بركته بما صورته. نقل القاضي عياض عن العلماء أن الأجذم والأبرص يمنعان من المسجد ومن الجمعة ومن اختلاطهما بالناس فهل المنع مما ذكر على سبيل الوجوب أو الندب وهل يكون ما ذكر عذرا لهما مسقطا عنهما الحج والعمرة لاحتياجهما إلى المسجد والاختلاط بالناس أم لا أو يفرق بين الجمعة وبين الحج والعمرة بعدم تكررهما دون الجمعة وهل حج التطوع كالفرض أم لا؟ "فأجاب" رضي الله عنه بقوله قال القاضي قال بعض العلماء ينبغي إذا عرف أحد بالإصابة بالعين أنه يجتنب ليحترز منه وينبغي للسلطان منعه من مخالطة الناس ويأمره بلزوم بيته ويرزقه إن كان فقيرا. فإن ضرره أشد من ضرر المجذوم الذي منعه عمر رضي الله عنه والعلماء بعده من الاختلاط بالناس قال النووي في شرح مسلم. وهذا الذي قاله هذا القائل صحيح متعين ولا يعرف عن غيره خلاف ا هـ. وبه يعلم أن سبب المنع في نحو المجذوم خشية ضرره وحينئذ فيكون المنع واجبا فيه وفي العائن كما يعلم من كلامهم بالأولى حيث أوجبوا على المعتمد خلافا لمن نازع فيه على المحتسب الأمر بنحو صلاة العيد ومنع الخونة من معاملة النساء لما في ذلك من المصالح العامة وأن المدار في المنع على الاختلاط بالناس فلا منع من دخول مسجد وحضور جمعة أو جماعة لا اختلاط فيه بهم وحينئذ ظهر عدم عد ذلك عذرا في ندب أو وجوب الحج أو العمرة ولو كفاية لإمكان فعلهما مع عدم الاختلاط وبفرض أنه لا يمكن إلا مع ذلك يجاب بأن وجوب النسك آكد من وجوب الجمعة فلا يلزم من عد ذلك عذرا فيها فلا يرد على ذلك ما اعتمدته في شرح العباب أن خبث الريح عذر فيها وإن لم يختلط والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب

 

 

ج / 1 ص -301-        "وسئل" نفع الله به عن جماعة اجتمعوا لقراءة القرآن بمقبرة فمروا بآية سجدة وفيهم كثير من طلبة العلم بل من أهله. فلم يسجدوا ظنا أن كراهة نحو الصلاة في المقبرة رفعت عنهم الخطاب بسجدة التلاوة فهل الأمر كما ظنوه أو لا؟ "فأجاب" بقوله الذي يظهر أن الأمر ليس كما ظنوه فقد صرح الفقهاء أن محل كراهة الصلاة في المقبرة ونحوها ما لم يخف خروج الوقت, وإلا وجبت فيها إن كانت واجبة وسنت إن كانت سنة وحينئذ فالمجتمعون على القراءة إن كان في عزمهم عدم الخروج منها فورا سن لهم السجود ويكون خوف خروج وقت السجود بطول الفصل رافعا لكراهته في المقبرة كما علمته من كلامهم وإن كان في عزمهم الخروج منها فورا سن لهم تأخير السجود إلى الخروج منها وكره لهم فيها إذ لا عذر حينئذ.
"وسئل" نفع الله به عن حديث
"لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد" صحيح أو ضعيف؟ "فأجاب" بقوله هو حديث ضعيف أخرجه الدارقطني.
"وسئل" نفع الله به عن النفي في خبر إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة هل هو على ظاهره بمعنى نفي الكمال أو المراد به النهي. "فأجاب" بقوله يصح كل من الأمرين أي: لا صلاة كاملة حينئذ إلا المكتوبة أو لا تصلوا إلا المكتوبة ومن قال إن المراد هذا دون الأول فقد أبعد بل وهم ولعله توهم أن صلاة غير المكتوبة حينئذ غير منعقدة وليس كذلك بل هي منعقدة؛ لأن الكراهة تنزيهية لا لذات الصلاة بل لأمر خارج عنها وهو تفويت فضيلة تكبيرة الإحرام وغيرها مع الإمام. فإن قلت إذا كان النفي للكمال تؤخذ الكراهة التي ذكروها من أين قلت تؤخذ منه أيضا؛ لأنه لا معنى لنفي الكمال إلا ذلك.
"وسئل" نفع الله به عن حديث مسلم الناهي لمن أرادوا بيع دورهم لبعدها عن المسجد مع ترغيبهم بأن لهم بكل خطوة درجة وحديث الأبعد فالأبعد من المسجد أعظم أجرا هل يعارضان حديث أحمد فضل الدار القريبة من المسجد على الدار الشاسعة كفضل الغازي على القاعد. "فأجاب" بقوله لا يعارضانه؛ لأن كلا مفروض في حالة تخصه فالأولان فيما إذا احتيج للبعد لحراسة البلد. أو لغير ذلك والأخير فيما إذا لم يكن في سكنى البعيد حاجة واستشهد لذلك بأن الأحاديث لما وردت في تفضيل ميامن الصفوف رغب الناس في ذلك وعطلوا ميسرة المسجد فقيل يا رسول الله إن ميسرة المسجد قد تعطلت فقال من عمر ميسرة المسجد كتب له كفلان من الأجر فأعطى أهل الميسرة في هذه الحالة ضعف ما لأهل الميمنة من الأجر وليس لهم ذلك في كل حال. وإنما خصهم بذلك لما تعطلت تلك الجهة فكذا ما نحن فيه الأصل تفضيل القريبة من المسجد على البعيدة منه فلما ثبت لها هذا الفضل رغب كل من الناس في ذلك. حتى أراد بنو سلمة أن يعروا ظاهر المدينة ويقربوا من المسجد فكره صلى الله عليه وسلم ذلك وأعطاهم ذلك الفضل في هذه الحالة ونزل فيهم:
{وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا

 

ج / 1 ص -302-        وَآثَارَهُمْ} [يّـس: 12] فقال صلى الله عليه وسلم حين نزلت الآية "يا بني سلمة دياركم تكتب آثاركم" ومن هذا يؤخذ تأييد ما كنت دائما أبحثه وأقرره أن محل أفضلية أيمن الصفوف ما إذا جاء المأموم ورأى الصفوف قد صفت أو لم يترتب على المسابقة لذلك خلو مياسر الصفوف وإلا لم يكن مفضولا لئلا يرغب الناس كلهم عنه ويقاس بذلك ما في معناه وفيه تأييد لما بحثه الزركشي أيضا. أن صفوف الجنازة الثلاثة المستحبة متساوية في الفضل لئلا يرغب الناس عن غير الأول فيفوت على الميت فضيلة جعل المصلين عليه ثلاثة صفوف ولما استدركته عليه من أن محل ما ذكره فيمن جاء أولا. أما من جاء وقد صفت الثلاثة فينبغي أن يتحرى أولها لانتفاء العلة السابقة آنفا.
"وسئل" رضي الله عنه عن شخص يكون إماما لا مأموما؟ "فأجاب" بقوله هو أعمى أصم ليس بإزائه أحد لا يصح اقتداؤه بغيره ويصح اقتداء الغير به.
"وسئل" نفع الله به بما لفظه قال التاج في ألغازه وقائل لا قصاص في الشعور بلى إن القصاص لفي شعر وفي ظفر؟ "فأجاب" بقوله الأول في نحو الجائفة وغير الموضحة والثاني القصاص فيه من قص الشعر يقصه وفي الحديث كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسجد على قصاص الشعر وهو بالكسر والفتح منتهى شعر الرأس حيث يؤخذ بالمقص.
"وسئل" نفع الله بعلومه عما إذا لحق الإمام في الركوع ثم خرج إمامه من صلاته بعد ركعتين لملاقاة نجاسة له. مثلا حينئذ هل يكون المقتدي به المذكور مدركا للركعة الأولى أو لا لعدم حسبان ركوعه وهل يقال في هذه الصورة ركوعه غير محسوب وهل الحكم فيما إذا لاقى النجاسة من أول الصلاة أو آخرها سواء أو لا؟ "فأجاب" بقوله نعم يكون المقتدي مدركا للركعة حيث طرأ لإمامه بعد الركوع مبطل لصلاته كحدث أو نجاسة سواء كان في أثنائها أم آخرها ففي شرح المهذب لو أحدث الإمام في سجوده لم يؤثر في إدراك المأموم الركعة بلا خلاف؛ لأنه أدرك ركوعا محسوبا للإمام ذكره البغوي وغيره ا هـ. وهو ظاهر كما ذكرته في شرح العباب. ثم قلت والذي يظهر أن حدثه بعد أن لحقه المأموم في الركوع واطمأن كذلك أخذا من العلة المذكورة أي: وهو كونه أدرك ركوعا محسوبا للإمام وقت إدراكه ثم رأيت القاضي الحسين صرح بما يؤيد ما ذكرته وهو أنه لو أدرك راكعا فاقتدى به ثم فارقه عند قيامه حسبت له الركعة ا هـ قال غيره فيه أنه لا يشترط في التحمل بقاؤه مأموما به؛ لأن سبب التحمل قد وجد وهو اقتداؤه به في الركوع كما لو بطلت بعد ذلك صلاة الإمام ا هـ. وهو صريح فيما ذكرته ا هـ. كلام شرح العباب وذكر فيه إثر ذلك كلاما لابن العماد فيه التصريح بهذه المسألة الأخيرة مع ما قدمنا في ذلك وبينت ما فيه بكلام مبسوط أعرضت عنه هنا لعدم الحاجة إليه.
"وسئل" فسح الله في مدته عما إذا قام إمامه لخامسة هل الأولى انتظاره أو فراقه وفيما

 

ج / 1 ص -303-        إذا كان مسبوقا هل هو كغيره أو لا حتى تجوز مفارقته؟ "فأجاب" بقوله الأولى انتظاره وسواء المسبوق وغيره وعبارة شرحي للعباب لو قام الإمام لزيادة كخامسة سهوا لم يجز له متابعته وإن كان شاكا في فعل ركعة أو مسبوقا علم ذلك أو ظنه فإن تابعه بطلت صلاته إن علم وتعمد ولا نظر إلى احتمال أنه ترك ركنا من ركعة؛ لأن الفرض أنه علم الحال أو ظنه وحينئذ فإن كان المأموم موافقا فظاهر أنه أتم صلاته يقينا أو غير موافق فهي غير محسوبة للإمام وهو لا يجوز متابعته في فعل السهو قال الزركشي كالإسنوي نقلا عن المجموع في الجنائز ولا يجوز له انتظاره بل يسلم فإنه في انتظاره مقيم على متابعته فيما يعتقده مخطئا فيه والمعتمد خلاف ما قالاه وإن جرى عليه جمع ففي المجموع نفسه لو سجد إمامه الحنفي مثلا لص جاز له مفارقته وانتظاره كما لو قام إمامه إلى خامسة وفيه أيضا لو علم المسبوق بقيام إمامه لخامسة انتظره؛ لأن التشهد محسوب له وصرح الزركشي كابن العماد أن الإمام إذا ترك فرضا جاز للمأموم انتظاره حتى يأتي بالمنتظم ويتابعه فيه فإن القدوة إنما تنقطع بخروج الإمام من الصلاة وهو لا يخرج منها بفعل السهو فوجب أن لا تجب مفارقته ا هـ. وهذا صريح في رد قوله السابق فإنه في انتظاره مقيم على متابعته..إلخ وإنما حرموا عليه المتابعة هنا وأوجبوها عليه فيما إذا سجد إمامه للسهو وإن لم يعرف سببه؛ لأن قيامه لخامسة لم يعهد بخلاف سجوده للسهو فإنه معهود لسهو إمامه وأما متابعتهم له صلى الله عليه وسلم في قيامه للخامسة في صلاة الظهر فهو لكونهم لم يتحققوا زيادتها؛ لأن الزمن كان زمن الوحي وإمكان الزيادة والنقص ولهذا قالوا في قصة ذي اليدين: أزيد في الصلاة يا رسول الله وخرج بتقييدي المسبوق بما مر ما لو جهل ذلك فتابعه فإن الركعة تحسب له لكن إن قرأ فيها الفاتحة كما في المجموع؛ لأن الإمام لا يتحمل في هذه الحالة المقصود منها والله أعلم.
"وسئل" نفع الله به عن مصل وقت ترائي الهلال هل ينظر إلى محل سجوده في صلاته عملا بإطلاقهم تحصيل السنة أو إلى مطلع الهلال؛ لأن ترائيه فرض كفاية والقياس على رؤية المصلي عند الكعبة إليها عند من اختاره قياس أولى إن لم يكن مساويا؛ لأن نظرها سنة والترائي فرض كفاية حتى لو قيل به على المعتمد من نظر المصلي محل السجود ولو عندها لم يكن يعيد الفريضة الترائي أو يفرق بأن ترائي الهلال في الصلاة فيه تفرقة ليست في نظر الكعبة ويزيد الفرق بأنهم لم يستثنوا حالة الترائي. في عموم قولهم ينظر إلى محل السجود مع الجزم بأن هذه الحالة لا تعزب عنهم وهو الذي يتبادر إلى رأي الفقيه بل المتفقه؟ "فأجاب" بقوله: النظر للسماء في الصلاة مكروه إلا لحاجة فإن فرض احتياجه لترائي الهلال لانحصاره فيه مثلا لم يكره وإلا كره ولا نظر لكونه فرض كفاية لما تقرر أن الفرض عدم انحصاره فيه فلم تعم الحاجة إليه وهذا التفصيل ظاهر لا غبار عليه فلا يعول على غيره والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.

 

ج / 1 ص -304-        "وسئل" نفع الله به عن قولهم يستحب أن لا يزيد ما بين الإمام والمأمومين على ثلاثة أذرع فلو ترك هذا المستحب هل يكون مكروها كما لو ساواه في الموقف وحينئذ تفوته فضيلة الجماعة كما أجاب به بعض أئمتنا أم لا تفوت كما قال به غيره وكذلك لو صف صفا ثانيا قبل إكمال الأول هل يكون كذلك مكروها تفوت به فضيلة الجماعة؟ "فأجاب" بقوله كل ما ذكر مكروه مفوت لفضيلة الجماعة فقد قال القاضي وغيره وجزم به في المجموع السنة أن لا يزيد ما بين الإمام ومن خلفه من الرجال على ثلاثة أذرع تقريبا كما بين كل صفين أما النساء فيسن لهم التخلف كثيرا وفي المجموع اتفق أصحابنا وغيرهم على استحباب الصف الأول والحث عليه ويمين الإمام وسد فرج الصفوف وإتمام الأول ثم ما يليه وهكذا ولا يشرع في صف حتى يتم ما قبله. وفي شرحي للعباب كل ما قيل بندبه في هذا الباب تكره مخالفته كما يصرح به كلام المجموع فإنه لما ذكر أحكام الموقف قال: قال أصحابنا هذا كله مستحب ومخالفته مكروهة ثم قال بعد ذكر أحكام أخر للموقف وحاصله أن المواقف المذكورة كلها على الاستحباب فإن خالفها كره ا هـ. ومن هنا قال السبكي تكرر من النووي إطلاق الكراهة على المخالفة في جميع ما استحب في هذا الباب قال الزركشي كابن العماد وسبقهما الأحنف عصري صاحب البيان في مسألة المساواة وينبغي أن لا تحصل له فضيلة الجماعة كما لو قارنه في الأفعال ا هـ ولا خصوصية للمساواة بذلك بل سائر المكروهات في هذا الباب كذلك لما يأتي مبسوطا أن كل ما كان مكروها من حيث الجماعة يمنع فضلها انتهت عبارته وحاصل ما أشار إليه أنه يأتي أن المقارنة أو التقدم الغير المبطل مكروه مفوت لفضيلة الجماعة واعترضه كثيرون بما رده آخرون منهم أبو زرعة. قال: لأنهم لم يقولوا فاتت الجماعة بل فات فضلها فهي جماعة صحيحة لكن لا ثواب فيها. وفائدة صحتها مع انتفاء الثواب فيها سقوط الإثم على القول بفرضيتها عينا أو كفاية والكراهة على القول بسنيتها لقيام الشعار الظاهر ومنهم الزركشي قال لأن الصحة لا تستلزم الثواب ولا منافاة بين حصولها مع انتفاء فضلها بدليل ما لو صلى جماعة في أرض مغصوبة وكون المدرك لها في التشهد في جماعة قطعا ومع ذلك قيل لا يحصل له فضلها والبغوي إنما نفى فضلها ولم يقل بطلت فدل على بقائها حتى يتحمل عنه السهو وغيره قال والعجب من أولئك المشايخ أي: المعترضين كيف غفلوا عن هذا وتتابعوا على هذا الفساد. وأن فوات الفضيلة يستلزم الخروج عن المتابعة مع وضوح عدم التلازم بينهما وجزم البارزي بحصول ثوابها أعجب؛ لأن المكروه لا ثواب فيه وكيف يتخيل حصوله وقد ذكر الشيخ أبو إسحاق أن المفارقة الآتية تفوت الفضيلة ويجري ذلك في مساواة الإمام في الموقف فإنها مكروهة. والضابط أنه حيث فعل مكروها مع الجماعة أي: بأن لم يوجد حالة الانفراد من مخالفة المأمور بالموافقة والمتابعة فاته فضلها إذ المكروه لا ثواب فيه ا هـ. الغرض من كلام الزركشي ملخصا وهو ظاهر لا غبار عليه.

 

ج / 1 ص -305-        "وسئل" نفع الله به بما لفظه من كان مسبوقا. وسجد مع الإمام السجدة الأولى ولم يسجد الثانية حتى قام الإمام هل يسجدها أو يقوم موافقا للإمام؟ "فأجاب" بقوله حيث لم يقم المأموم سجد الثانية.
"وسئل" نفع الله به عن المأموم إذا أطال التشهد الأول من غير عذر وقام فركع الإمام هل يقرأ الفاتحة ويعذر إلى ثلاثة أركان أو يتابعه ويأتي بركعة بعد سلام إمامه أو يفارقه؟ "فأجاب" بقوله اختلف مشايخنا في ذلك فمنهم من نظر لعذره بالتخلف فقال إنه كمن سها في السجود فلم يتذكر إلا والإمام راكع فإنه يقوم ويركع وتسقط الفاتحة عنه قال فكذا هذا لما ندب له التخلف لإكمال التشهد كان معذورا فإذا أكمله وقام فإن أدرك الإمام راكعا ركع معه وسقطت عنه القراءة وإلا قرأ بقدر ما لحق وركع معه وسقطت عنه البقية كالمسبوق. ومنهم من قال يندب له التخلف لإكماله ثم يقوم ويقرأ الفاتحة فإن أدركها قبل الركوع فذاك وإن ركع الإمام وهو فيها كملها ويسعى خلفه ويغتفر له التخلف بثلاثة أركان طويلة؛ لأنه موافق لإدراكه زمنا يسع الفاتحة كلها مع الإمام بالقوة وإنما منعه عن ذلك تخلفه لإتمام التشهد وهو غير مقصر به لما تقرر أنه مندوب له, وفارق المسبوق إذا تخلف لإتمام الفاتحة لكونه اشتغل بافتتاح أو تعوذ وهذان الاثنان بعيدان وأولهما أغرب وأبعد. أما الأول فلأن الساهي الذي قاس عليه لا تقصير منه ألبتة بخلاف المتخلف لإتمام التشهد فإنه حصل منه نوع تقصير فلم يصح له ذلك القياس وأما الثاني فهو أن ما أطلقه من ندب التخلف لإكمال التشهد إنما يتم له ذلك إن ظن أن الإمام يطيل حتى يكمل ويلحقه ويدرك كل الفاتحة قبل ركوعه ووجه ذلك أنهم إذا ذكروا ذلك في الجائي بعد إحرام الإمام. فقالوا ولا يشتغل المسبوق بسنة بعد التحرم إلا إن علم أو ظن أنه مع ذلك يدرك الفاتحة قبل ركوع الإمام فإذا لم يستحبوا له الإتيان بالافتتاح أو التعوذ إلا بالشرط المذكور مع أنه في محلهما هو والإمام فمن في التشهد يكون كذلك بالأولى لفوات محله بقيام الإمام عنه ومن ثم نظر بعضهم إلى تقصيره بإكمال التشهد مطلقا. وإن قلنا بأن المسبوق يشتغل بما ذكر بشرطه والفرق ما أشرت إليه من فوات محل التشهد هنا بقيام الإمام عنه بخلافه في المسبوق وبهذا يتضح تقصير هذا المتخلف لإكمال التشهد وأما ادعاء أن هذا موافق. والموافق وإن قصر يتخلف لإكمال الفاتحة ما لم يسبق بأكثر من ثلاثة أركان طويلة فممنوع كيف وقد صرحوا بأن المسبوق هو من يدرك من قيام الإمام ما يسع الفاتحة والمتخلف للتشهد لم يدرك ذلك فهو مسبوق لا موافق وإذا كان مسبوقا تعين إلحاقه بالمسبوق إذا اشتغل بافتتاح أو تعوذ بل هو أولى منه بذلك كما مر وإذا اتضح أنه كالمسبوق تعين أن يجري فيه ما قالوه فيما إذا اشتغل بافتتاح أو تعوذ فركع الإمام من أنه يجب عليه أن يتخلف وقرأ بقدر ما فاته من الفاتحة وحينئذ فهل يعذر بالتخلف بثلاثة أركان طويلة كالموافق لعذره. بوجوب التخلف عليه أو لا يعذر إلا بركنين فيه خلاف وعلى كل كثيرون وعلى الثاني الذي هو المعتمد

 

ج / 1 ص -306-        عند جمع محققين من المتأخرين فإن فرغ مما لزمه قبل أن يهوي الإمام للسجود وافقه فيما هو فيه وفاتته الركعة وإن لم يفرغ وقد آن للإمام أن يهوي فقد تعارض في حقه واجبان متابعة الإمام لما تقرر أنه لا يجوز له أن يتخلف بأكثر من ركنين والتخلف لقراءة قدر ما فوته ولا مخلص له عن هذين الواجبين إلا بنية المفارقة فيلزمه وحينئذ فيكمل الفاتحة ويمشي على نظم صلاة نفسه فإن قلت كيف ينسب كل من المشتغل بإكمال التشهد وبالافتتاح أو التعوذ إلى تقصير مع ندب تخلفه واشتغاله بذلك ووجوب تخلف كل منهما لقراءة قدر ما فوته قلت الندب له لا ينافي نسبة إلى تقصير له؛ لأنه ندب مشروطا بسلامة العاقبة أي: فإن بان أنه أدرك الفاتحة بان أن لا تقصير وإلا بان أن ثم تقصيرا أوجب له احتياطا فهو تقصير عاد على عبادته بالاحتياط لا بالتساهل أو الإبطال وحينئذ فذلك التقصير مناسب للندب لا أنه مناف له فتأمله فقد صرح المتولي بأنا وإن أوجبنا على المسبوق المذكور التخلف لقراءة كل الفاتحة هو مقصر وبه يعلم أن الإيجاب عليه لا ينافي نسبته للتقصير وزعم أن هذا من تفرد المتولي ممنوع بل لو سلم كان كافيا في الحجة لما ذكرناه بالأولى من أن وجوب التخلف لنقص الفاتحة لا يمنع من نسبة تقصير إليه فالحاصل أن المعتمد أن المشتغل بإكمال التشهد كالمشتغل بدعاء الافتتاح أو التعوذ في أنه مسبوق وفي أنه يلزمه أن يتخلف لقراءة قدر ما فوته. وفي أنه لا يتخلف إلا بركنين وفي أن الركعة تفوت بفوات ركوع الإمام وفي أنها إذا فاتته لا يأتي بها وإلا بطلت صلاته إن علم وتعمد وفي أنه إذا تعارض معه الواجبان السابقان لزمته نية المفارقة وإذا تأملت ما قررته علمت الجواب عن جمع ما وقع في فتاوى السمهودي رحمه الله مما يؤيد الإفتاء الثاني السابق فتنبه لذلك.
"وسئل" فسح الله في مدته عن تقارن راء تحرم المأموم وميم سلام الإمام. فهل ينال فضيلة الجماعة أو لا فيبطل اقتداؤه بل وصلاته إن تعمد؟ "فأجاب" بقوله لا يحصل له فضل الجماعة لإطباقهم على أن شرط حصوله إدراك جزء من صلاة الإمام قبل سلام الإمام وهذا لم يدرك جزءا كذلك وأما بطلان صلاته بذلك فغير ظاهر؛ لأنه لم يربط صلاته ابتداء بمن ليس في صلاة بل بمن هو فيها لكنه لم يتم له ما ظنه من إدراك الراء قبل الميم بل الظاهر أنه لا يشترط ظن ذلك بل يكفي تجويزه فهو من حيث عدم البطلان معذور ومن حيث عدم إدراك الجماعة غير معذور؛ لأن مدار الأول على التقصير ولم يوجد. ومدار الثاني على تحقق إدراك جزء من صلاة الإمام ولم يوجد فظهر افتراقهما وأنه لا يلزم من عدم حيازة الفضيلة وبطلان الاقتداء بطلان الصلاة.
"وسئل" عمن أحرم والإمام في الجلسة الأخيرة فسلم قبل أن يجلس فهل على المأموم أن يقعد ثم يقوم أو يمضي على صلاته؟ "فأجاب" بقوله إذا سلم الإمام عقب إحرامه لم

 

ج / 1 ص -307-        يلزمه القعود بل لا يجوز له لانقضاء المتابعة الموجبة للموافقة فيما لم يحسب له فيصير جلوسه زيادة في الصلاة وهي مبطلة وإذا أحرم ولم يسلم الإمام ولم يجلس عامدا عالما بل استمر قائما. إلى أن سلم الإمام بطلت صلاته لما فيه من المخالفة الفاحشة نعم يظهر أنه يغتفر هنا التخلف بقدر جلسة الاستراحة أخذا من أنه لو سلم إمامه في غير محل تشهده فتخلف ولم يقم بطلت صلاته إن زاد تخلفه على قدر جلسة الاستراحة وإلا فلا ويؤيد ذلك أنهم لم يعدوا مخالفة الإمام بها فيما لو تركها وفعلها المأموم مخالفا فاحشة فكذا يقال بنظيره هنا وصرحوا أيضا بأنه لو جلس بعد الهوي من الاعتدال جلسة يسيرة لم يضر مع أن الموضع ليس موضع جلوس فاتضح بذلك ما ذكرته والله أعلم.
"وسئل" نفع الله به. هل تجوز صلاة الرغائب والبراءة جماعة أم لا؟ "فأجاب" بقوله أما صلاة الرغائب فإنها كالصلاة المعروفة ليلة النصف من شعبان بدعتان قبيحتان مذمومتان وحديثهما موضوع فيكره فعلهما فرادى وجماعة وأما صلاة البراءة فإن أريد بها ما ينقل عن كثير من أهل اليمن من صلاة المكتوبات الخمس بعد آخر جمعة في رمضان معتقدين أنها تكفر ما وقع في جملة السنة من التهاون في صلاتها فهي محرمة شديدة التحريم يجب منعهم منها لأمور منها أنه تحرم إعادة الصلاة بعد خروج وقتها ولو في جماعة وكذا في وقتها بلا جماعة ولا سبب يقتضي ذلك ومنها أن ذلك صار سببا لتهاون العامة في أداء الفرائض لاعتقادهم أن فعلها على تلك الكيفية يكفر عنهم ذلك والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
"وسئل" فسح الله في مدته عما إذا ركع المأموم قبل الإمام عمدا هل ينتظره فيه أم يجب عليه العود للمتابعة وإذا كان ساهيا فهل الحكم كذلك؟ "فأجاب" بقوله إن تعمد ذلك سن له العود إلى القيام وإن سها تخير بين العود إليه وانتظاره في الركوع وفارق ما لو قام عن التشهد الأول قبل الإمام فإنه إن تعمد تخير بين البقاء والعود. وإن سها لزمه العود بأن هذا أفحش في المخالفة فلزم الساهي العود؛ لأنه لا قصد له يعتد به بخلاف العامد فإنه انتقل عن فرض المتابعة إلى فرض آخر وهو القيام فكان له قصد صحيح فتخير وأما من ركع قبل الإمام فإنه لم يخالفه مخالفة فاحشة لقرب الركوع من القيام فلم يجب عليه العود مطلقا وتخير عند السهو لعدم تقصيره مع عدم فحش المخالفة وندب له العود عند التعمد؛ لأن ما قبل الركوع فيه واجبان فرض القيام وفرض المتابعة فكان العود إليه أولى من البقاء في الركوع ولا كذلك في التشهد والله أعلم.
"وسئل" نفع الله بعلومه عما إذا حضر في المسجد وغيره جماعة بعد صلاة الإمام ولم يكن لهم إمام فهل يستحب للإمام الذي صلى أو لا أن يؤمهم كذلك مرة أو أكثر وهل هذا الاستحباب للإمام والمأموم اللذين صليا أم لا؟ "فأجاب" بقوله قد تقرر في الجواب الذي

 

ج / 1 ص -308-        قبل هذا أن المنقول المنصوص عليه المعتمد أن الإعادة لا تجوز إلا مرة واحدة وأن الذي دل عليه كلامهم أنه لا فرق في ندبها مرة بين الإمام والمأموم سواء أحضر من لم يصل أم لا. وسواء أكان الإمام في الأولى هو الإمام في الثانية أم لا حتى لو كانت الجماعة الأولى إماما ومأموما فقط سن لهما بعد فراغهما إعادتها ثانيا وإن كان الإمام في الأولى هو الإمام في الثانية لكن تجب نية الإمامة في المعادة في وقت الكراهة. وقال بعضهم مطلقا وقد حررت ذلك مع فوائد نفيسة في شرح العباب حاصل بعضها وتسن الإعادة ولو في صبح أو عصر لما مر أنه صلى الله عليه وسلم طلبها إيماء في الصبح وصريحا في العصر وتسن أيضا وإن كان إمام الأولى أكمل؛ لأنه صلى الله عليه وسلم طلبها مع كونه الإمام في الأولى ولا نظر لوقت الكراهة؛ لأن هذه صلاة لها سبب وهو حيازة الجماعة لمن صلى منفردا ورجاء حيازة فضيلة أخرى لمن صلى جماعة وقضيته أن محل ندب الإعادة إذا لم يكره الاقتداء بإمام المعادة فإن كره الاقتداء به لم تجز الإعادة خلفه لعدم الفضيلة حينئذ سواء كان مبتدعا أم فاسقا أم غيرهما إذ كل مكروه من حيث الجماعة يمنع فضيلتها. ومن ثم بحث الزركشي كالأذرعي أن محل سن الإعادة مع جماعة إذا كانوا في غير مسجد تكره إقامة الجماعة فيه ثانيا ومحل ندبها مع المنفرد إذا اعتقد المنفرد إباحتها أو ندبها وإلا امتنعت لانتفاء الفرضية. إذ الصلاة خلف المخالف مكروهة من حيث الجماعة ويلزم من صلى في جماعة ثم أعادها إماما لأخرى وقت الكراهة نية الإمامة؛ لأن السبب المجوز للإعادة حينئذ حوز الفضيلة وهو متوقف على نية الإمامة فمع عدمها يكون نفلا لا سبب له بل لا يبعد وجوب نية الإمامة مطلقا؛ لأن سبب الإعادة في هذه حوز الفضيلة وهو منتف حيث انتفت نية الإمامة أما لو أعاد مع منفرد أو صلى منفردا ثم أعاد مع جماعة فلا يلزم نية الإمامة فيهما؛ لأن تحصيل الثواب للمنفرد في الأولى وحصول صورة الجماعة في الثانية مطلوب فليكن ذلك سببا مخرجا لصلاته المعادة عن كونها نفلا لا سبب له أو لا مقتضى لإعادتها ثم رأيت الجلال البلقيني. قال لو دخل إلى محل بعد أن صلى الصبح أو العصر وأراد أن يصلي إماما ويصلي معه من حضر ظهر لي أنه لا يصح؛ لأنه مستأنف لصلاة لا سبب لها في وقت الكراهة بخلاف ما إذا كان مأموما ا هـ. ويتعين حمله على ما إذا لم ينو الإمامة لما قدمته والزركشي قال لو صلى منفردا ثم أراد إعادتها بجماعة ولم ينو الإمامة لم يستحب له؛ لأنه يصير معيدا منفردا بلا سبب والأذرعي سبقه لذلك بزيادة فقال ويظهر أنه إذا صلى منفردا أو في جماعة ثم أراد إعادتها مع جماعة تقام ويكون هذا إمامهم أنه لا يستحب به الإعادة على الراجح إلا أن ينوي الإمامة إذ لا تستحب الإعادة منفردا بلا سبب يقتضيها ا هـ. وقضية كلامهما أنه لا بد من نية الإمامة مطلقا ولو في غير وقت الكراهة ومشى عليه بعض اليمنيين ا هـ. حاصل ما أردت نقله من شرح العباب لمزيد الفائدة والله أعلم بالصواب.

 

ج / 1 ص -309-        باب شروط الإمامة وما يتعلق بها.
"وسئل" رضي الله تعالى عنه إذا كان في جدار المسجد باب نافذ مفتوح علوي يمنع المرور أو كان به شباك يغلق علوي أو سفلي يمنع المرور أيضا أو كان له باب سفلي مفتوح لا يمنع المرور ولا الرؤية ثم جعل عليه ثوب يمنع الرؤية دون المرور أو رد بعضه أو ستر بعضه بالثوب بحيث لا يمنع الرؤية فهل تصح قدوة المأموم بإمام المسجد إذا كان خلف ذلك في هذه الصور كلها أو بعضها إذا كان يعلم حال الإمام أو بعض المأمومين؟ "فأجاب" بقوله الذي صرح به الشيخ أبو محمد الجويني أن الخوخة كالشباك فتكون مما يمنع المرور لكن ينبغي حمله على خوخة صغيرة أو عالية في الجدار لا يتطرق منها عادة إذ المدار على الاستطراق العادي وحيث وجد صحت القدوة وإلا فلا كما يدل لذلك قول الشيخ أبي محمد أيضا إذا وقف الإمام على السهل والمأموم على الجبل فإن كان الجبل يمكن صعوده صح اقتداؤه به إذا كان مكان الارتقاء في الجهة التي فيها الإمام. وإن كان بخلاف ذلك كان الحكم بخلافه؛ لأن الجبل حينئذ بمنزلة السور المنيف يقف عليه المقتدي والإمام على القرار ا هـ. فعلم مما ذكر في السور أن العبرة بسهولة الاستطراق لا بإمكانه على بعد ويؤيده قول القمولي فيما لو صلى الإمام بصحن المسجد والمأموم بسطح داره وعلى الطريقين لا بد من إمكان الاستطراق إليهما ولا تكفي المشاهدة وقول الزركشي ولو كان المرور ممكنا لكن بانعطاف فالوجه القطع بالبطلان وإلا لصحت الصلاة في كل محل يمكن فيه التوصل إليه من موضع آخر بانعطاف وبتسور جدار ونحوهما وقد صححوا بطلان الخارج من المسجد المسامت لجداره. وإن قرب منه لحيلولة الجدار بينه وبين الإمام أي: وإن أمكن رقيه والوصول منه إلى المسجد؛ لأنه لا يعد استطراقا عاديا. فإن قلت يخالف ما ذكر قول ابن الرفعة عن المتولي وأقره لو كانا على سطحين صح اقتداء أحدهما بالآخر وإن كان بينهما شارع عريض؛ لأنه كالنهر وهو لا يضر. قلت لا منافاة؛ لأنهما حينئذ يعدان مجتمعين؛ لأنه لا تغاير بين بنائهما بخلاف من في بناء جداره جدار المسجد فإن البناء مختلف فاشترط سهولة الاستطراق من تلك الخلوة في ذلك الجدار ولما تغاير بناء من بالسطح ومن بقرار المسجد اشترط إمكان الاستطراق كما مر عن القمولي ونص عليه الشافعي رضي الله عنه لكن إطلاقه البطلان محمول على من لا يمكنه الوصول للمسجد. إلا بنحو انعطاف وازورار أي: من غير جهة الإمام بحيث لا يوليها ظهره. ونقل ابن الرفعة عن ابن التلمساني أن الستر المرخى كالباب المردود؛ لأن الحيلولة به تمنع الاجتماع بخلاف حيلولة نحو الشارع.
"وسئل" رضي الله عنه عن رجل إذا قرأ الفاتحة غير بعض حروفها فيقول في المستقيم المصطقيم هل يجوز الاقتداء به أم لا إذا وجد أقرأ منه؟. "فأجاب" بقوله من أبدل حرفا من الفاتحة لم يجز لأحد أن يقتدي به إلا أن يكون مثله بأن كان يبدل ذلك الحرف الذي يبدله والله أعلم.

 

ج / 1 ص -310-        "وسئل" رضي الله عنه عن كيفية نية الصلاة بأنه كيف يقول المصلي أصلي سنة العيد. وكذا في الوتر أصلي صلاة الوتر وكذا الضحى أصلى صلاة الضحى وكذا سنة صلاة الكسوف وكيف ينوي صلاة الجنازة وما أحسن ما يقوله في ذلك كله. "فأجاب" بقوله: إن الأولى في ذلك أن يقول سنة صلاة العيد أو الوتر أو الضحى أو الكسوف والقول بأن الأولى نية الوتر ضعيف ويجب أن يعين أن العيد الأكبر أو الأصغر وأن الكسوف للشمس أو القمر وكيفية صلاة الجنازة أصلي على هذا الميت أو على فلان إن كان غائبا أو على من صلى عليه الإمام فرض كفاية مأموما إن كان في جماعة والله أعلم.
"وسئل" رضي الله عنه عن شخص له بيت ملاصق لجدار المسجد. وله باب يفتح ويغلق من جهة المسجد فإذا كان حال الصلاة والقدوة بإمام المسجد فتح الباب لكن في موقفه لم ير الإمام ولا بعض المأمومين وإنما يسمع المبلغ فقط بالتكبير فهل يكون هذا التبليغ كاف من المؤذن أو من غيره وتصح القدوة أم لا بد من رؤية بعض المأمومين ويكون الحكم أيضا إذا كان الإمام بالمسجد والمأموم خارجه بالشارع المطروق أو بالفضاء بشروطه يكفي التبليغ مع عدم الرؤية للإمام أو لبعض المأمومين وسواء وقف بباب المسجد أحد أم لا؟ "فأجاب" بقوله حيث كان المأموم في غير المسجد اشترط رؤيته للإمام أو بعض المأمومين كالواقف بباب المسجد ولا يكفي هنا سماع صوت المبلغ والله أعلم.
"وسئل" رضي الله عنه ما حقيقة رحبة المسجد وما الفرق بينها وبين حريمه وهل لكل منهما حكم المسجد؟ "فأجاب" بقوله قال في المجموع ومن المهم بيان حقيقة هذه الرحبة ثم نقل عن صاحب الشامل والبيان أنها ما كان مضافا إلى المسجد محجرا عليه لأجله وأنها منه وأن صاحب البيان وغيره نقلوا عن نص الشافعي وغيره صحة الاعتكاف فيها قال النووي واتفق الأصحاب على أن المأموم لو صلى فيها مقتديا بإمام المسجد صح وإن حال بينهما حائل يمنع الاستطراق؛ لأنها منه كما مر قال وذكر ابن عبد السلام أن المحل الذي بباب جامع دمشق المسمى بباب الساعات رحبة وخالفه ابن الصلاح ذاهبا إلى أنها صحن المسجد وطال النزاع بينهما والصحيح الأول وتأملت ما صنعه أبو عمرو واستدلاله فلم أر فيه دلالة على المقصود ا هـ. وليست توجد لكل مسجد وصورتها أن يقف الإنسان بقعة محدودة مسجدا ثم يترك منها قطعة أمام الباب فإن لم يترك شيئا لم يكن له رحبة وكان له حريم أما لو وقف دارا محفوفة بالدور مسجدا فهذا لا رحبة له ولا حريم بخلاف ما إذا كان بجانبها موات فإنه يتصور أن يكون له رحبة وحريم ويجب على الناظر تمييزها منه فإن لها حكم المسجد دونه وهو ما يحتاج إليه لطرح القمامات والزبالات.
"وسئل" رضي الله عنه هل يصح الاقتداء بالموسوس وما الفرق بينه وبين الشاك؟ "فأجاب" بقوله الصلاة خلفه صحيحة لكن قال أبو الفتوح العجلي في نكت الوسيط إنها

 

ج / 1 ص -311-        خلفه مكروهة؛ لأنه يشك في أفعال نفسه وعليه فالصلاة خلف غيره أفضل وإن كانت أقل جماعة قاله ابن العماد ويجب على الناظر عزله؛ لأن الوسوسة بدعة محرمة وقد عزل النبي صلى الله عليه وسلم إماما بصق في المسجد عن الإمامة ا هـ. وفي الوجوب نظر والحديث إنما يدل على الجواز لا الوجوب على أن الأوجه أنه لا يجوز عزله حيث صحت صلاته ولم يضر بالمأمومين بإبطاء أو تطويل وفرق بين الوسوسة والشك بأنه يكون بعلامة كترك ثياب من عادته مباشرة النجاسة وترك الصلاة خلف من عادته التساهل في إزالتها؛ لأن الأصل وهو الطهارة قد عارضه غلبة النجاسة والاحتياط هنا مطلوب بخلاف الوسوسة فإنها الحكم بالنجاسة من غير علامة بأن لم يعارض الأصل شيء كإرادة غسل ثوب جديد أو اشتراه احتياطا وذلك من البدع كما صرح به النووي في شرح المهذب فالاحتياط حينئذ ترك هذا الاحتياط وبأن الموسوس يقدر ما لم يكن كائنا ثم يحكم بحصوله كأن يتوهم وقوع نجاسة بثوبه ثم يحكم بوجودها من غير دليل ظاهر. وهذا معنى قول أبي الفتوح العجلي الوسوسة تقدير ما لم يكن إن لو كان كيف يكون ثم يحكم بكونه كائنا حتى يكون الواجب غسله عنده. وكثير من الموسوسين يحرم بالصلاة ثم يسلم ويحرم وهكذا وهو دائر بين حرامين؛ لأن الصلاة إن كانت قد صحت حرم الخروج منها وحينئذ لا يكون قضاء على المعتمد وإن قال به كثيرون وإلا حرم عليه التسليم؛ لأنه تلبس بعبادة فاسدة.
"وسئل" رضي الله عنه عمن رأى على نحو بدن فاسق نجاسة ثم رآه يصلي فهل له الائتمام به؟ "فأجاب" بقوله نعم له ذلك؛ لأن الظاهر من حاله صحة صلاته وإن كان لو أخبر بطهارة ثوبه لا يقبل خبره.
"وسئل" عن تعريف المسبوق بمن لم يدرك زمنا يسع قراءة الفاتحة هل ذلك بقراءة نفسه أم بقراءة معتدلة إذا كان هو بطيء القراءة؟ "فأجاب" بقوله الذي اعتمده الزركشي في المسبوق والموافق أن العبرة بحال الشخص نفسه في السرعة والبطء والذي رجحته في شرح الإرشاد وبينته في غيره أن العبرة بالوسط المعتدل؛ لأنه الذي يتصور عليه قولهم إن الموافق وإن لم يشتغل بقراءة الفاتحة كأن كان بطيء القراءة يتخلف لإتمامها ما لم يسبق بأكثر من ثلاثة أركان طويلة ولو اعتبروا قراءة نفسه لكان مسبوقا وهو لا يجوز له التخلف.
"وسئل" رضي الله عنه عن المأموم إذا التبس عليه الأمر في حال كونه موافقا أو مسبوقا ماذا يفعل؟ "فأجاب" بقوله إذا شك المأموم هل هو موافق أو مسبوق فلم أر فيه نقلا منذ سنين مع تطلبه والذي ظهر لي الآن فيه أن يقال إنه تعارض معه واجبان وأصلان؛ لأن الأصل أنه لم يدرك زمنا يسع الفاتحة وقضيته وجوب متابعة الإمام وعدم جواز التخلف لإتمامها كمن يتحقق أنه مسبوق والأصل أيضا أن المأموم مخاطب بالفاتحة وأن الإمام لا يتحملها عنه حتى يتحقق أنه مسبوق وقضيته وجوب التخلف لإكمال الفاتحة وعدم جواز المتابعة

 

ج / 1 ص -312-        وإذا تعارض أصلان وواجبان ولا مرجح لأحدهما أو كان مرجح أحدهما ضعيفا أو أمكن إلغاؤهما والعمل بغيرهما وجب كما هو ظاهر من كلامهم في مواضع كثيرة وحينئذ فالذي يتجه لي أنه يجب عليه نية المفارقة وتكون مفارقة بعذر فلا تفوت عليه فضيلة الجماعة وذلك؛ لأنه إن جعل نفسه مسبوقا عملا بالأصل الأول فوت وجوب تكميل الفاتحة نظرا للأصل الثاني أو موافقا نظرا للأصل الثاني فوت وجوب المتابعة نظرا للأصل الأول ولا مخرج عن ذلك إلا بما قلناه. فإن قلت إسقاط الفاتحة أو بعضها عن المسبوق وإدراكه الركعة رخصة فلا يصار إليها إلا بيقين فلم لم يجعلوه موافقا قلت واغتفار تخلف الموافق بأكثر من ركنين رخصة فلا يصار إليه إلا بيقين.
"وسئل" رضي الله عنه بما صورته فرق من يأتي بين الشك والوسواس؟ فقال إن ما يختص وقوعه بالفرض دون النفل فهو وسواس لا التفات إليه ولا يعول عليه وما يقع في الفرض دون النفل على السواء فهو الشك وكل ما غلب على ظن متعاطي العبادة أنه يقع قبل أن يوجد فذلك هو الوسواس وليس بسهو وحكم السهو أنه يجب تداركه وأما الوسواس فيجب تركه. ولا يجوز الاعتماد عليه وينبغي الاعتماد على جميع ما في شرح المهذب للنووي لمن ابتلي بالوسواس والظن عبارة عن اعتياد شيء بالتكرار وهو ثلاث مرات فما فوق والعبادات عبارة عن امتثال الأوامر واجتناب النواهي والأوامر هي الواجب والمستحب والمناهي الحرام والمكروه ولا يجب على أحد أن يتذكر ما مضى من عبادته وإن قرب العهد به حتى أنه لا يجب عليه أن يتذكر البسملة بعد أن صار في الحمد لله رب العالمين وكذلك لا يجب عليه أن يتذكر الركوع بعد صيرورته في الاعتدال وما أشبه ذلك وإذا شرع المصلي في الإقامة ذاكرا للصلاة التي يريد الشروع فيها فلا تعزب تلك النية ولا يمكن نسيانها إلا لهجوم حادث عظيم ومن عرف من نفسه حفظ أشياء وذكرها ثم اعتراه نسيان في شيء مخصوص فذلك هو الوسواس الذي ينبغي تركه اعتمادا على ما يعتاد من نفسه من حفظ أشياء وعدم نسيانها فذلك مثلها ومجرد التكبير كاف في انعقاد الصلاة ا هـ. ما أورده سيدنا الفقيه العلامة عبد الله بن أحمد محرمه نفع الله به ورحمه من الضابط والمسئول من سيدي حفظه الله وزاده علما ونورا وتوفيقا وكمالا أن يشرح جميع الضابط المذكور ببسط وإيضاح وتمثيل خصوصا على قوله. وكل ما غلب على ظن متعاطي العبادة أنه يقع قبل أن يوجد. وقوله والظن عبارة..إلخ وهل يؤخذ منه ما ذكره الشاشي في الحلية الجامعة لأقاويل العلماء ما لفظه: وقال أبو حنيفة إن كان شكه في ذلك أول مرة بطلت صلاته وإن كان الشك يعتاده ويتكرر له بنى على غالب ظنه فإن لم يقع له ظن بنى على الأقل ا هـ. وقوله في الضابط ولا يجب على أحد أن يتذكر ما مضى من عبادته..إلخ هل مراده لا يجب ما لم يعرض له الشك في ترك ركن أو ما لم يغلب على ظنه تركه أو مطلقا حتى لو شك لم يبن على الأقل ما لم يغلب على ظنه ذلك. وما الحكم لو كان الشك بسبب مشوش يغلب

 

ج / 1 ص -313-        على الظن أن لولاه لم يكن الشك. "فأجاب" بقوله: أما الضابط المذكور فأكثره لا يوافق كلام أئمتنا فلا يعول عليه وبيانه أن تخصيصه الوسواس والشك بالفرض دون النفل غير صحيح بل كل منهما يجري في كل من الفرض والنفل وأما تفسيره الوسواس بقوله: وكل ما غلب..إلخ فممنوع وكذا قوله وأما الوسواس فيجب تركه وذلك؛ لأن الوسواس إما مذموم وهو العمل بكل ما طرق الذهن أو يتخيله الوهم وهذا هو الذي أقام الأئمة النكير على فاعله وأكثروا من ذمه وتقبيح طريقه وذم ما هو عليه بل شبه بعضهم من هذه طريقته بقوم من كفار الهند المتغالين في كفرهم حتى أنكروا جميع الحقائق الموجودة المشاهدة بالحس وقالوا إنها كلها خيال وباطل وفرعوا على هذا المذهب من القبائح الشنيعة التي يبرأ عنها السمع ولا يقول بها عاقل ما إهماله أولى من تركه. فالموسوسون كهؤلاء؛ لأن الشخص منهم كما شاهدناه من غير واحد منهم يجعل يده أو بدنه داخل الماء ولا يزال يغمسها المرات الكثيرة التي تزيد على المائة حتى يتيقن ارتفاع حدثها بل قد يفعل ذلك وأكثر منه ولا يتيقن رفع حدث كما حكى لي بعض الثقات أن موسوسين أجنبا فخرجا إلى بحر النيل ليغتسلا فيه فوصلا إليه بعد الفجر فقال أحدهما للآخر انزل انغمس في الماء وأنا أعد لك وأخبرك هل عم الماء رأسك أو لا فنزل واستمر ينغمس وذلك يقول له بقي عليك شيء يسير من رأسك لم يعمه الماء فلا زال كذلك إلى قرب الظهر فتعب وطلع من الماء ولم يتيقن رفع جنابته ثم قال للآخر انزل وأنا أعد لك فنزل وفعل كما فعل الأول وهو يقول له كما قال له واستمر إلى قرب الغروب ولم يتيقن أيضا رفع جنابته فطلع ورجعا شاكين في بقاء جنابتهما وتركا صلاة ذلك اليوم فهذا يشبه طريقة الكفرة المذكورين واعتقادهم بل أقبح وأفحش وقد قوي الوسواس على بعض من أدركته حتى خرج من بين عياله وأولاده فارا على وجهه في البراري فلم يدر له الآن مكان ولم يسمع له خبر وبالجملة هو داء عضال قل من يقع في ورطته وينجو منها والجنون دونه بكثير فإنه ينحل البدن ويذهب العقل بل والإدراك والفهم ويصير المبتلى به كالبهيمة لا يهتدي لخير قط. ولا تصح له عبادة على مذهب أحد من الأئمة لاستيلاء الشيطان على فكره وجعله سخرية وهزءا يلعب به كيف أراد وقد شاهدت أيضا من له فطنة وذكاء وفهم دقيق في العلوم وجمال مفرط ابتلي به حتى انتحل وتغيرت صورته الآدمية وتوحش واعتزل الناس جملة ولم يصر له مأوى إلا بيوت الأخلية والماء الذي عندها فهذا هو الذي أنكره الأئمة وبالغوا فيه وهو حقيق بذلك وقد قال في المجموع من البدع المذمومة غسل الثوب الجديد. وقد قالوا يكره إمامة الموسوس. وأما محمود وهو الاحتياط للعبادة بأن لا يوقعها إلا على وجه متفق عليه وقد قال ابن عبد السلام ينبغي الورع في العبادات بشرط أن لا يجاوز طريقة السلف فقد كانوا يمشون حفاة ويصلون من غير غسل أرجلهم وقد أكل صلى الله عليه وسلم في أواني المجوس ولبس جبة من نسجهم وأحوال السلف في ذلك شهيرة لا تخفى على الموفق. وقد قال الشافعي رضي الله عنه وأحب أن يغسل حصى

 

ج / 1 ص -314-        الجمار وبه يعلم أن محل كون غسل الثوب الجديد مذموما ما لم يغلب احتمال النجاسة فيه وقوله والظن..إلخ ليس بصحيح أيضا بل الذي أطبق عليه أئمتنا وغيرهم أنه الطواف الراجح سواء كان الرجحان نشأ من التكرار أو من غيره وقوله ولا يجب على أحد..إلخ صحيح والكلام كما هو ظاهر العبارة في أنه لا يجب عليه أن يتكلف التذكير ولا أن يخطره بباله. وأما إذا وقع التذكر فواضح سواء كان في شيء معين أو مبهم فيجب عليه العمل بقضيته وأما إذا وقع التردد فإن زال فواضح أيضا أنه لا عبرة به وإن لم يزل وكان في واجب تعين وجب عليه العمل بقضيته سواء كان وهما أي: طرفا مرجوحا أم ظنا أي: طرفا راجحا أم شكا كما صرحوا به سواء أنشأ من سبب مشوش أم لا وما ذكر عن أبي حنيفة لا يوافق عليه أئمتنا كما علم مما تقرر. وقوله وإذا شرع المصلي..إلخ غير صحيح كيف وقد أجمع أئمتنا وغيرهم على أنه لا بد من نية الصلاة عند تكبيرة التحرم وإنما اختلفوا في المقارنة على الوجه المخصوص وقد تعزب النية لشدة اشتغال النفس أو تعلقها بمألوف أو غير ذلك فلذا لم يكتفوا بوجودها عند المقدمات بل اشترطوا وجودها حقيقة عند أول المقاصد. وقوله وقد عرف نفسه..إلخ غير صحيح لما تقرر أولا على أن حصره الوسواس في هذا مخالف لتعريفه له بما ذكره وإلا فكلا الأمرين غير صحيح وكذا قوله ومجرد التكبير..إلخ والله أعلم.
"وسئل" رضي الله عنه عن القدوة بمن شك في صحة صلاته لأجل قلة محافظته على شرائط الصلاة وأركانها هل تصح القدوة به أم لا؟ "فأجاب" بقوله إن القدوة تصح بمن ذكر ما لم يتيقن أنه ارتكب مبطلا لصلاته في اعتقاد المأموم.
"وسئل" رضي الله عنه عن شخص رأى مصليا جالسا فظن أنه في التشهد وأراد الاقتداء به فأحرم بالصلاة وجلس معه ثم ظهر له أن جلوس ذلك المصلي بدل عن القيام لعجزه عنه فهل يجب على الشخص المذكور القيام أم لا وإذا قلتم يجب عليه القيام وقام فهل يكون حكمه حكم المسبوق أو حكم الموافق؟ "فأجاب" بقوله يجب عليه القيام وحكمه حكم المسبوق قياسا على ما أفتى به المحققون من مشايخنا وغيرهم من أهل عصرهم في المسألة الشهيرة بطول النزاع فيها وهي أن يظن عند سماع التكبير أنه للتشهد فيجلس ثم يتذكر عند تكبير الركوع. فأفتى شيخنا خاتمة المتأخرين شيخ الإسلام زكريا والكمال الرداد شارح الإرشاد وصاحب العباب والكمال القادري وغيرهم بأنه في حكم المسبوق وأفتى السيد السمهودي والكمال بن أبي شريف والشمس الجوجري وغيرهم بأنه كالموافق والأوجه الأول والقول بأنه كالساهي عن القراءة حتى ركع الإمام وليس كالساهي عن القدوة إذا رفع رأسه من السجود والإمام راكع؛ لأن هذا له ذكر فغلطه إنما يلحق بالناسي للقراءة يرد بوضوح الفرق بين المأموم في صورة النزاع وبين الساهي عن القراءة فإن الساهي عنها

 

ج / 1 ص -315-        أدرك محل القراءة بالفعل فلزمه التخلف لها وغاية عذره أنه منع البطلان بتخلفه بخلاف المأموم في مسألتنا ونظيرتها فإنه لم يدرك محل القراءة بالفعل؛ لأنه لما ظن الإمام جالسا للتشهد وجب عليه في ظنه الإتيان بالجلوس فانتقاله إليه كانتقال المزحوم للجري على فعل نفسه فكما أن المزحوم بعد فراغه من السجود يكون كالمسبوق لعذره بإلزامه بالتخلف المفوت عليه محل القراءة كذلك المأموم فيما ذكرناه فإنه إنما تخلف لواجب عليه في ظنه فإذا فات بسببه إدراك محل قراءة الفاتحة سقطت عنه قياسا على المزحوم بجامع أن كلا وجب عليه التخلف حتى فات محل القراءة. فإن قلت يمكن الفرق بينهما بأن الوجوب في المزحوم مطابق لما في نفس الأمر وهنا إنما هو بالنسبة لظنه فقط على أنه بان خطؤه والظن وحده لا عبرة به في العبادات وإن لم يبن خطؤه فما بالك وقد بان خطؤه قلت محل عدم اعتبار الظن إنما هو فيما لا يسقط بالعذر. وأما ما سقط به كالفاتحة فيؤثر فيه الظن إذا منعه من إدراك محله بالفعل؛ لأنه من جملة الأعذار ومن ثم اتجه الفرق بين الساهي عن القراءة وعن القدوة فإن الأول أدرك محلها بالفعل فلم يؤثر فيه السهو بخلاف الثاني فكان غاية الظن أنه كالسهو. وألحقناه بالسهو عن القدوة كالقراءة لما علمت من أنه منع من إدراك محل القراءة بالفعل على أن لنا أن نقول إن كلامهم في مسألة الزحمة شامل لمن ظن الزحمة فتخلف ثم بان أن لا زحمة فيجري على ترتيب صلاة نفسه وإذا لم يقم إلا والإمام راكع سقطت عنه الفاتحة أو والإمام قريب من الركوع سقط عنه بعضها وحينئذ فيندفع القول بإمكان الفرق بين المسألتين من أصله وبما تقرر علم أن من نام متمسكا في تشهده الأول فانتبه فوجد إمامه راكعا تخلف وجرى على نظم صلاة نفسه كالناسي للقراءة ولا يتحمل الإمام عنه شيئا؛ لأنه ليس مسبوقا. ولا في حكمه؛ لأن تخلفه ليس واجبا عليه وبه فارق ما مر في مسألتنا وربما ينسب فيه إلى تقصير وبه فارق ما مر في مسألة الساهي عن القدوة. وعلم أيضا أن من تخلف لإكمال تشهده الأول بعد علمه بقيام إمامه فلم يقم إلا والإمام راكع أو قريب من الركوع لزمه التخلف لقراءة قدر ما فوته من الفاتحة لتقصيره باشتغاله عن الواجب من متابعة الإمام وقراءة الفاتحة بالنسبة فهو أشد تقصيرا من مأموم اشتغل بافتتاح أو تعوذ حتى ركع الإمام والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
"وسئل" رضي الله عنه عن الإمام إذا ترك الفاتحة سهوا في صلاة جهرية ولم يعلم المأموم بذلك فتابعه فهل يجب عليه إعادة الصلاة نظير ما قالوه فيما لو صلى خلف إمام بظاهر ثوبه نجاسة غير معفو عنها فإنه يجب عليه الإعادة في هذه الصورة وإن بعد عن الإمام بحيث لا يراها أو كان في ظلمة أو كان أعمى وليس ذلك إلا لنسبته إلى نوع تقصير في الجملة أو لا تجب عليه الإعادة نظير ما قالوه أيضا لو اقتدى المأموم بالإمام في ركعة أصلية فبان الإمام ساهيا في إتيانه بزائدة قام إليها فقام معه جاهلا زيادتها وأتى بأركانها كلها فإنها تحسب له إذ لا تقصير منه لخفاء الحال عليه فإن قلتم بالأول أشكل الثاني وإن قلتم

 

ج / 1 ص -316-        بالثاني أشكل الأول؟ "فأجاب" بقوله نعم تجب عليه الإعادة كما يصرح به كلامهم حيث قالوا لو بان أن إمامه ترك تكبيرة الإحرام ولو سهوا لزم المأموم الإعادة بخلاف ما لو بان أنه ترك النية؛ لأن ترك تكبيرة الإحرام لا يخفى فينسب المأموم إلى تقصير بخلاف ترك النية فتأمله تجده صريحا في مسألتنا فإن الفاتحة وتكبيرة الإحرام على حد سواء فإذا ألزموه بالإعادة في ترك التحرم ولو سهوا فكذلك نلزمه في ترك الفاتحة لاستوائهما في أن ترك كل منهما لا يخفى سواء كانت الصلاة سرية أم جهرية إذ التحرم لا فرق في تركه بين السرية والجهرية لا يقال يمكن الفرق بأن ترك التحرم يوجب عدم الانعقاد بخلاف ترك القراءة؛ لأنا نقول لو كان هذا هو الملحظ لساوى النية. وقد علمت الفرق بينهما بأنها تخفى بخلافه فكان هذا هو الملحظ ويلزم منه أن ترك الفاتحة كترك التحرم. ويؤيد ذلك ما صرح به الزركشي وغيره نقلا عن القاضي أبي الطيب والنص أن الإمام لو صلى قاعدا لمرض فزال في أثنائها فلم يقم بطلت صلاته دونهم وإن داموا على متابعته ما لم يمكنهم معرفة قدرته بنحو سرعة حركته فحينئذ تلزمهم الإعادة وبه يعلم أن كل مبطل لا يمكن الاطلاع عليه إذا طرأ كنية القطع لا يؤثر في صلاة المأموم بخلاف ما يمكن الاطلاع عليه ولو بوجه ما كسرعة الحركة الدالة. على زوال المرض في الصورة المذكورة. ويؤيد ذلك قولهم لا يصح الاقتداء بالأمي ولو في السرية وإن لم يعلم بحاله أي: لإمكان الاطلاع على حاله عادة بخلاف نحو المحدث والجنب وقولهم تصح القدوة بمجهول الحال بالنسبة للقراءة ما لم يسر في جهرية فلا يصح حينئذ اقتداؤه به فإن اقتدى به أعاد اتفاقا كما في المجموع إذ الظاهر لو كان قارئا لجهر مع أن الأصل أنه لا يحسنها فلا نظر لاحتمال نسيانه للجهر وقول البغوي في فتاويه ولو عجز إمامه في أثناء الصلاة عن القراءة لخرس فارقه وجوبا بخلاف عجزه عن القيام لصحة اقتداء القائم بالقاعد بخلاف اقتداء القارئ بالأخرس فإن لم يعلم بحدوث الخرس حتى فرغ من الصلاة أعاد؛ لأن حدوثه نادر بخلاف حدوث الحدث. فإن قلت قد ينافي ما تقرر قول الماوردي لو لحن إمامه لحنا مغيرا ولم يعلم به لم تبطل صلاته كالمصلي خلف جنب قلت هذه مقالة لما علمت من تصريحهم بعدم صحة الصلاة خلف الأمي ولو في سرية وإن جهل حاله واللحن المغير أولى بذلك؛ لأن صلاة الأمي في نفسها صحيحة مطلقا بخلاف صلاة اللاحن لحنا يغير. ويفرق بين ما نحن فيه ومن اقتدى بمن ظنه في ركعة أصلية فبان إتيانه بزائدة ولو عمدا على نزاع فيه فإن قام إليها فقام معه وأتى بأركانها كلها فيصح اقتداؤه بل وتحسب له الركعة بأنه لا قرينة هنا يستدل بها على الزيادة حال وجودها؛ لأن الصورة أنه ظنه في أصلية ولا يتصور هذا الظن إلا مع انتفاء القرائن الدالة على أنه قائم لزائدة بخلافه فيما مر فإن تركه للتحرم أو للفاتحة عليه قرائن يستدل بها على الترك حال وجودها ولم يقم في نفس المأموم ما يحيل المبطل فكان مقصرا فلزمه الإعادة. وأما هنا فلا تقصير فيه ألبتة. لما قررته أنه لا قرائن يستدل بها على الزيادة

 

ج / 1 ص -317-        حال وجودها سيما وقد قام في نفسه ما يحل الزيادة وهو ظنه أنه في ركعة أصلية ومع هذا الظن لا يتصور وجود قرينة على الزيادة وإلا لم يظن أنه في أصلية فاتضح بذلك تعليلهم لصحة القدوة هنا بعدم التقصير منه لخفاء الحال عليه ولعدم صحتها في ترك التحرم بأنها لا تخفى فنسب إلى تقصير وهذان وإن توهم ببادئ الرأي أن كلا منهما تحكم لكن عند تأمل ما قررته يظهر وجههما ويندفع ذلك التوهم فاستفد ذلك وأمعن النظر فيه فإنه مهم والله أعلم.
"وسئل" رضي الله عنه عن قولهم يراعي المسبوق نظم المستخلف فإذا أتم الإمام الفاتحة وخرج من الصلاة واستخلف من لم يقرأ الفاتحة فهل على الخليفة الركوع ويأتي بعد سلامه بركعة أم لا فإذا قرأ الفاتحة فهل تحسب له هذه أم لا تحسب لكون قراءته ليست محل قراءة إمامه؟ "فأجاب" بقوله الذي دل عليه كلامهم أنه يقرأ الفاتحة وتحسب له وهذا ظاهر من قولهم لا تلزمه قراءة التشهد إذا جلس بهم؛ لأنه لا يزيد على بقاء إمامه حقيقة وهو لو بقي لم يجب على هذا المسبوق قراءة التشهد ا هـ فكذا يقال هنا لو بقي إمامه قرأ الفاتحة خلفه فكذا إذا خرج من الصلاة فيقرؤها في محلها بفرض بقاء الإمام لما علمت أنهم مصرحون برعاية هذا الفرض أعني فرض بقائه, والله أعلم.
"وسئل" رضي الله عنه عن المأموم إذا كان بعيدا أو به صمم وقرأ سورة بعد الفاتحة ولم يركع إمامه هل له أن يقرأ سورة ثانية وثالثة وأكثر أو يسكت أو يقرأ شيئا من أوراده وهل يكره له ذلك أو لا؟ "فأجاب" بقوله بأن في المجموع يجوز أن يجمع بين صورتين فأكثر في ركعة واحدة وذكر الحديث الآتي وبه يعلم أن مراده الجواز الصادق بالندب إذ الحديث الذي استدل به صريح فيه ومن ثم حكى البيهقي عن الربيع قلت للشافعي أيستحب الجمع بين سور فقال نعم وأفعله واستدل بحديث الصحيحين عن ابن مسعود لقد عرفت النظائر. التي كان صلى الله عليه وسلم يقرن بينهن فذكر عشرين سورة من المفصل كل سورتين في ركعة وبه يعلم أنه يسن لمن ذكر في السؤال أن يقرأ سورة ثانية وثالثة وأكثر إلى أن يركع الإمام وهو أفضل من تكريره السورة الواحدة فلو كررها في ركعتين فالظاهر أنه يحصل أصل سنة القراءة وقد صح أنه صلى الله عليه وسلم قرأ في الصبح إذا زلزلت في الركعتين كلتيهما والله أعلم.
"وسئل" رضي الله عنه عمن جلس هو وإمامه للتشهد الأول فقام إمامه وهو في أثنائه فهل له أن يكمله وإذا كمله وقام فركع الإمام في أثناء فاتحته فهل يكون مسبوقا فما حكمه أو موافقا؟ "فأجاب" بقوله قياس كلامهم في مسألة ما لو ترك إمامه للقنوت حيث قالوا يسن له الإتيان به وإن أدركه قبل فراغه من السجدة الأولى وفي المسبوق حيث قالوا يسن له الاشتغال بالافتتاح إن ظن إدراك الفاتحة لو أكمله ولحق الإمام وحينئذ فإذا أدرك الإمام في أثناء فاتحته فالقياس أنه كمسبوق اشتغل بنحو الافتتاح فركع إمامه في أثناء فاتحته

 

ج / 1 ص -318-        وحكمه أنه يجب عليه أن يتخلف بقدر ما فوت فإذا قرأ بقدره فإن لم يرفع الإمام من الركوع ركع معه وكان مدركا للركعة وإلا فهل يكون كالموافق يجري على نظم صلاة نفسه ما لم يسبق بأكثر من ثلاثة أركان طويلة أو يتابعه فيما هو فيه وتفوته الركعة قضية كلام الشيخين كالبغوي الأول ومشى عليه جمع متأخرون وكلام المجموع والتحقيق يدل عليه كما ذكرته في شرح مختصري للروض ثم رأيته في الخادم ذكره أيضا فهو الأقرب لكلامهم لكن مشى جمع من الأصحاب منهم الغزالي وتبعهم جمع متأخرون على الثاني.
"وسئل" رضي الله عنه بما صورته ما ضابط الصف الأول وهل يقطعه تخلل نحو منبر أو لا؟ "فأجاب" بقوله قال في الإحياء إن المنبر يقطع الصف الأول وغلطه النووي في شرح مسلم وبين أن الصف الأول الممدوح هو الذي يلي الإمام سواء كان صاحبه متقدما أو متأخرا وسواء تخلله مقصورة ونحوها أم لا ثم قال وهذا هو الصحيح الذي تقتضيه ظواهر الأحاديث وصرح به الجمهور ثم نقل فيه قولا أنه الذي يلي الإمام من غير أن يتخلله نحو مقصورة وآخر أنه الذي سبق إلى المسجد وإن صلى في صف متأخر وغلطهما وقد يؤخذ من قوله أو متأخرا أنه لو بقي في الصف الأول فرجة كان المقابل لها من الصف الثاني أو الثالث مثلا صفا أول بالنسبة لمن بعده وهو قريب إن تعذر عليه الذهاب إليها. وإلا فوقوفه دونها مكروه إذ يكره الوقوف في صف قبل إكمال الذي يليه.
"وسئل" رضي الله عنه عن قول الماوردي يكره اقتداء خنثى بانت أنوثته بامرأة ورجل بخنثى بانت ذكورته هل هو معتمد؟ "فأجاب" بقوله هو متجه لكن ينبغي تقييده في الأول بما إذا بانت أنوثته بغير الولادة وإلا فلا وجه للكراهة حينئذ.
"وسئل" رضي الله عنه عن تصوير ابن الأستاذ صحة اقتداء الشافعي بحنفي افتصد بما إذا دخل في الصلاة ناسيا هل هو معتمد؟ "فأجاب" بقوله هو متجه واعتمده بعض المتأخرين ووجهه أنه متلاعب حتى في اعتقاد المأموم فكيف يربط صلاته به لكن مقتضى إطلاقهم خلافه.
"وسئل" رحمة الله عليه عن رجل اقتدى بخنثى معتقدا أنه رجل ثم بعد الصلاة بان أنه خنثى ثم بان رجلا فهل تصح ولا إعادة عليه فما الفرق بينه وبين ما لو اقتدى الخنثى بامرأة يعتقد أنها رجل ثم بان بعد الصلاة أن الخنثى أنثى حيث صحح الروياني الإعادة؟ "فأجاب" بقوله: المعتمد عدم وجوب الإعادة في الأولى دون الثانية والفرق أنه في الأولى اعتقد ما هو الواقع في نفس الأمر فلم تجب الإعادة إذ العبرة في العبادات بما في نفس الأمر وظن المكلف وهنا تطابقا وأما في الثانية فقد اعتقد غير الواقع في نفس الأمر فألغي هذا الاعتقاد لما مر أن العبرة بما ذكر وإذا لغي لزم بطلان الصلاة فوجبت الإعادة.
"وسئل" نفع الله به عمن جر شخصا من الصف ليحرم معه فهل تفوته سنة الصف وهل

 

ج / 1 ص -319-        هو من الإيثار بالقرب فيكون مكروها أو لا؟ "فأجاب" بقوله ليس هو من الإيثار بالقرب؛ لأنه أمر بمطاوعته لجاره فلم يترك قربة إيثارا لغيره بها بل امتثالا لأمر الشارع فلا كراهة بل فضيلة الصف لم تفته وإن قلنا بفوت ثواب الجماعة لمن تركها بعذر؛ لأنه ثم لم يؤمر بتركها وإنما رخص له فيه بخلافه هنا وعلى التنزل فينبغي أن ثواب مطاوعته أعلى من ثواب الصف؛ لأن فيها نفعا متعديا بخلافه.
"وسئل" رضي الله عنه عن المنفرد عن الصف هل تفوته فضيلة الصف أو الجماعة؟ "فأجاب" بقوله مقتضى كلامهم أنه يفوته ثواب الجماعة لقولهم كل مكروه من حيث الجماعة يفوت ثوابها أي: وإن وقعت الصلاة جماعة حتى لا كراهة ولا حرمة على من فعلها مع ذلك والظاهر أن المراد بالمكروه من حيث الجماعة ما توقف وجوده على وجودها بأن لا يتصور وقوعه ممن يصلي وحده.
"وسئل" رضي الله عنه صلى صفوف وراء الصف الأول مع فرجة فيه تسع جماعة أو واحدا فهل يفوت غير من في الصف الأول فضيلة الجماعة؟ "فأجاب" بقوله يكره عدم تسوية الصفوف وحيث تركوا فرجة فلا تسوية وهذا مكروه من حيث الجماعة فتفوت فضيلتها وهل تفوت على أهل المسجد كلهم ما عدا أهل الصف ممن يمكنه المجيء إلى تلك الفرجة أو على من يليها من أهل الصف الثاني فقط كل محتمل. والأقرب فواتها على من علم بها وأمكنه المجيء إليها من أهل الصف الثاني وغيرهم لتقصير الكل كما يشهد له كلامهم في مسألة خرق الصفوف للفرجة والمرور بينهم وبين سترتهم وإن زادوا على ثلاثة خلافا لمن قيد ذلك بصفين لتوهمه أنه مثل التخطي في الجمعة والفرق أنه لا تقصير ممن جلس وبين يده فرجة بخلاف من صلى كذلك.
"وسئل" رضي الله عنه عمن تشهد التشهد الأول دون إمامه تبطل صلاته بخلاف ما لو قنت دونه مصلي الظهر وراءه أو غيره فما الفرق مع أن التخلف لسنة في المسألتين؟ "فأجاب" بقوله: يفرق بأنه في الأولى أحدث جلوسا لم يفعله الإمام ألبتة بخلافه في الثانية فإنما طول قياما فعله الإمام ولم يحدث قياما لم يفعله ومن ثم جلس الإمام ولو لكلمة من التشهد كان للمأموم التخلف لإتمامه كالقنوت فالمسألتان على حد واحد.
"وسئل" رضي الله عنه بما لفظه ما ضابط المسبوق والموافق؟ "فأجاب" بقوله اختلف المتأخرون في ضابطهما فقال جماعة واعتمده شيخنا في شرح الروض وغيره أن الموافق من أدرك زمنا يسع الفاتحة مع الإمام والمسبوق بخلافه وقال آخرون واعتمده ابن قاضي شهبة وغيره أن الموافق من أحرم مع الإمام والمسبوق بخلافه. والأوجه الأول لما يلزم على الثاني من أن من لم يحرم مع الإمام مسبوق وإن أدرك قدر الفاتحة وأضعافه والتزام ذلك في غاية البعد والمنافاة لكلامهم ومن أنه لا يتصور لنا مسبوق في غير الركعة الأولى وقد

 

ج / 1 ص -320-        صرحوا بخلافه نعم يمكن أن يجاب عن هذا الثاني بأن التعبير بالإحرام مع الإمام جرى على الغالب وحينئذ فالموافق في غير الركعة الأولى من أدرك الركعة من أولها فإن قلت هل يمكن رد الثاني إلى الأول قلت نعم إنما عبروا بالإحرام مع الإمام ومثله إدراك الركعة من أولها لما مر؛ لأن الغالب حينئذ أن يكون أدرك زمنا يسع الفاتحة للاحتراز عما لو أحرم بعده وأدرك زمنا يسع سورة البقرة مثلا إذ لا يظن من له أدنى مسكة أن هذا غير موافق جزما وعلى الأول فهل المراد بما يسع الفاتحة من قراءة الإمام أو المأموم أو بالنسبة للزمن المعتدل؟ احتمالات لم أرها والأخير منها أقرب وأضبط لما يلزم على الأول من أنه لو كان الإمام بطيئا وأمكن المأموم قراءة الفاتحة فأكثر بالنسبة إلى قراءة نفسه أو الزمن المعتدل دون قراءة الإمام أنه يكون مسبوقا وليس كذلك كما مر نظيره ولما يلزم على الثاني من أن البطيء إذا لم يشتغل بغير الفاتحة يكون دائما مسبوقا ومفهوم كلامهم خلافه ثم قولهم يسع الفاتحة ينبغي أن يكون فيمن لزمته قراءة الفاتحة أو بدلها من قرآن أو ذكر أو وقوف بقدرها. فلو ركع الإمام في فاتحة موافق فجرى على نظم صلاة نفسه فعند وصوله لإياك نعبد مثلا قام الإمام فحينئذ ينبغي أن يعتبر لكونه موافقا أو مسبوقا بالنسبة إلى هذا القيام الثاني اتساعه لقراءة ما بقي وعدمه لا لقراءة جميع الفاتحة؛ لأن الواجب عليه حينئذ بعضها لا كلها.
"وسئل" عن مأموم تشهد ظانا أن الإمام يفعله ثم لما فرغ منه وقام رأى الإمام راكعا فهل هو حينئذ مسبوق أو موافق؟ "فأجاب" بقوله: اختلف فيه المتأخرون فأفتى جمع بأنه موافق؛ لأنه أدرك زمنا يسع الفاتحة لو لم يظن ما ذكر فغاية ظنه أن يكون دافعا للبطلان لا مسقطا لقراءة الفاتحة وأفتى آخرون بأنه مسبوق؛ لأنه لم يدرك ذلك بالفعل والأقرب الثاني والتعليل الأول ممنوع.
"وسئل" عمن قام وجلس إمامه للاستراحة أو التشهد الأول هل يحرم عليه ذلك؟ "فأجاب" بقوله مقتضى إطلاقهم حرمة التقدم على إمامه بفعل أنه لا فرق لكن مقتضى قولهم لا تجب موافقته في نحو جلسة الاستراحة أنه لا فرق بين أن يفعلها الإمام ويتركها المأموم أو عكسه وهو متجه وعليه فينبغي إلحاق التشهد الأول بذلك ويشهد له الفرق بين القائم عامدا وساهيا بالنسبة لوجوب العود على الثاني دون الأول بأن الأول له قصد صحيح حيث ترك فرض المتابعة إلى فرض آخر وهو القيام بخلاف الثاني فمقتضى صحة القصد عدم الحرمة فيه على أنا نقول لا تقدم على الإمام في هاتين الصورتين؛ لأن القيام دخل وقته بإتمام السجود ولم يتقدم المأموم فيهما على الإمام بركن مخالف للركن الذي هو فيه؛ لأنه ليس في ركن بل في مقدمة الركن الذي انتقل إليه المأموم فإن قلت ما الفرق بين قيام المأموم قبل تشهد الإمام وعكسه حيث حرم وأبطل الصلاة قلت الفرق أنه في صورة.

 

ج / 1 ص -321-        العكس لا غرض له؛ لأنه ترك فرضا لسنة مع فحش المخالفة بخلافه في الأول.
"وسئل" عمن شك هل أدرك زمنا يسع الفاتحة أو لا فهل حكمه حكم المسبوق أو الموافق؟ "فأجاب" بقوله لم أر فيه نقلا ويحتمل؛ لأن الأصل عدم وجوب الفاتحة على من ركع الإمام في فاتحته حتى يتحقق خلافه ويحتمل الثاني؛ لأن الأصل وجوب الفاتحة في كل ركعة حتى يتحقق مسقطها؛ لأن الأصل عدم تحمل الإمام عن المأموم ما لزمه ولأن إدراك المسبوق الركعة رخصة أو في معنى الرخصة فلا يناط مع الشك في السبب المقتضي له ولأن التخلف عن الإمام لقراءة الفاتحة أقرب إلى الاحتياط من ترك إكمالها ومتابعة الإمام وهذا هو الأقرب والله سبحانه وتعالى أعلم.
"وسئل" رضي الله عنه عمن كبر للإحرام هاويا هل يصح؟ "فأجاب" بقوله الذي دل عليه كلام شرح المهذب وغيره أنه متى أنهى تكبيرة الإحرام قبل أن يصير أقرب إلى أقل الركوع جاز وإلا فلا. وهو متجه وإن كان كلام الروضة وأصلها قد يقتضي خلافه.
"وسئل" رضي الله عنه عن عار أفقه ومستور فقيه من المقدم منهما؟ "فأجاب" بقوله الذي يظهر أن العاري مقدم إذ لا نقص فيه يعارض فضيلته التي زاد بها وأيضا ففضيلته ذاتية وذاك كماله بالستر عرضي لا ذاتي ويقاس بما ذكر كل مقدم اختل فيه شرط لا يوجب الإعادة كالتيمم.
"وسئل" رضي الله عنه. عن قولهم إذا شرع في الرابع والموافق لم يركع وجب عليه متابعته هل يشمل الجلوس للتشهد والقيام أو لا؟ "فأجاب" بقوله نعم يشملهما كما صرحوا به لكن يبقى النظر في المراد بالشروع هل هو الأخذ في مقدمته فحيث شرع في الجلوس أو القيام وجبت متابعته وإن كان إلى الجلوس بالنسبة إلى القيام وإلى السجود بالنسبة للتشهد أقرب أو الانتهاء إلى ما يجزئ من الجلوس والقيام وإن كان ثم قليل انحناء. كل محتمل ولكن الثاني أقرب إلى ظاهر كلامهم فهو الأوجه ثم هل مرادهم بجلوس التشهد الأخير؛ لأنه الركن أو ما يشمل التشهد الأول؛ لأنه على صورة الركن كل محتمل أيضا والأول أقرب إلى كلامهم أيضا فعليه إذا جلس للتشهد الأول لا تجب متابعته حتى يفرغ منه ويشرع في القيام.
"وسئل" رضي الله عنه هل يجوز للمنفرد أن يقتدي في اعتداله بغيره قبل الركوع ويتابعه؟ "فأجاب" بقوله نعم وبه صرح الدارمي وغيره ويغتفر له هنا تطويل الركن القصير لأجل المتابعة كما لو اقتدى بمن يرى جواز تطويله فيجوز له متابعته فيه ويجوز له أن ينتظره ساجدا وكما لو لم يتمكن المزحوم من السجود إلا في سجدة الإمام الثانية. من الركعة الثانية فسجدها معه ثم يتخير بين أن يستمر فيها حتى يسلم الإمام فيسجد الأخرى وأن يجلس معه حتى يسلم ثم يسجد الأخرى وقول الزركشي في هذه أنه يتعين الشق الأول.

 

ج / 1 ص -322-        مردود ولا يجوز له أن يسجد الأخرى قبل سلام الإمام لئلا يؤدي إلى المخالفة ولا ينافيه قول الرافعي عن التتمة وجزم به النووي أنه إذا لم يتمكن من السجود حتى تشهد الإمام سجد ثم إن فرغ منه قبل سلام الإمام حصل الجمعة وإلا فلا؛ لأنه مبني على ضعيف وهو أنه يجري على ترتيب نفسه وأما على المعتمد من أنه يتابعه فلا يسجد بل يجلس معه بعد سلامه يسجد سجدتين ويتمها ظهرا نبه على ذلك الأذرعي وغيره.
"وسئل" رضي الله عنه عن إمام اقتدى به جماعة ثم اقتدى بإمام آخر هل له ذلك فإن قلتم لا فكيف صح اقتداء أبي بكر رضي الله عنه بالنبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي لا يخفى على علمكم فإن قلتم نوى المفارقة عن الجماعة ثم اقتدى بالنبي صلى الله عليه وسلم كيف صح اقتداء الجماعة المذكورين به أوضحوا لنا كيفية ذلك مفصلا؟ "فأجاب" بقوله للإمام أن يقتدي بإمام آخر سواء نوى مفارقة المأمومين أم لا؛ لأنه متبوع لا تابع بخلاف المأموم ليس له الاقتداء بإمام آخر إلا إن نوى مفارقة إمامه الأول. وإلا لزم أن يكون مقتديا باثنين في حالة واحدة وهو ممتنع وإذا اقتدى الإمام بإمام آخر بطل اقتداء الأولين به فإن علموا فورا وجبت عليهم مفارقته في الحال وإلا بطلت صلاتهم إن تابعوه في فعل من أفعال الصلاة أو في سلام بعد انتظار كثير وكذا إن جهلوا واستمروا على متابعته؛ لأن العبرة في الصلاة بما في نفس الأمر وهذا في نفس الأمر لا يصح الاقتداء به. فهو كما لو بان إمامه ممن لا تصح القدوة به فإن صلاته تبطل وإن ظنه ممن يصح الاقتداء به, وإذا بطل اقتداء الأولين به فلهم أن يقتدوا بمن اقتدى إمامهم به ولهم أن يتموا منفردين وهذا أعني جواز اقتداء الإمام بإمام آخر وبطلان الأولين به وجواز اقتدائهم بمن اقتدى إمامهم به مأخوذ من قصة أبي بكر فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما جاء وتأخر له أبو بكر نوى الاقتداء به ونوى الناس مفارقة أبي بكر والاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم وأما ما في الصحيحين من أن الناس اقتدوا بأبي بكر خلف النبي صلى الله عليه وسلم فمحمول على أنهم كانوا مقتدين به صلى الله عليه وسلم وأبو بكر يسمعهم التكبير كما في الصحيحين أيضا فنتج من مجموع هذين الحديثين اللذين كلاهما في الصحيحين ما قلناه. وأما ما رواه البيهقي من أنه صلى الله عليه وسلم صلى في مرض موته خلف أبي بكر رضي الله عنه فقال فيه النووي في مجموعه إن صح هذا كان ذلك مرتين كما أجاب به الشافعي والأصحاب وقد استدل أصحابنا على جواز نية المنفرد الاقتداء أثناء صلاته بقضية أبي بكر المذكورة وبينوا ذلك بأن الإمام في حكم المنفرد وبما رواه أبو داود والدارقطني وغيرهما وقال البيهقي رواته ثقات من أنه صلى الله عليه وسلم أحرم فأحرم الناس خلفه ثم ذكر أنه جنب فأشار إليهم كما أنتم ثم خرج واغتسل ورجع ورأسه يقطر وتحرم بهم. ومعلوم أنهم أنشئوا اقتداء جديدا لانفرادهم بعد خروجه ولا ينافيه خبر الصحيحين أنه ذكر أنه جنب قبل أن يحرم؛ لأنهما قضيتان.
"وسئل" رضي الله عنه بما لفظه إذا نوى شخص الاقتداء برجل ثم نواه ثانيا وثالثا

 

ج / 1 ص -323-        وهكذا فهل يدخل في الجماعة بالأوتار ويخرج بالأشفاع كما قالوه فيمن كبر للإحرام تكبيرات. ونوى بكل افتتاح الصلاة قالوا: لأن نية الثانية تتضمن الخروج من الصلاة ولا يحصل دخول؛ لأن الشيء الواحد لا يكون خارجا به من الصلاة داخلا به فيها فهل يأتي هذا التوجيه في مسألتنا وأيضا في حصول النية الثانية له في مسألتنا تحصيل للحاصل وهو ممنوع؛ لأن الدخول في الجماعة قد حصل بالنية الأولى أو ثم فرق بين نية الصلاة ونية الاقتداء فإن كان فتفضلوا به جزاكم الله خيرا؟ فأجاب بأن الذي يتجه أن تكرار نية الاقتداء لا يقتضي دخولا في الجماعة ولا خروجا منها. ويفرق بين هذا وبين ما قالوه فيما لو كبر للإحرام تكبيرات ونوى بكل الافتتاح بأن نية الافتتاح تقتضي قطع ما هو فيه إذ لا يكون افتتاحا إلا إذا لم يستقر شيء فمفهوم الافتتاح ينافي ما هو فيه فأبطله بخلاف نية الاقتداء فإنها لا تقتضي بطلان الاقتداء السابق؛ لأنها إما أن تكون مؤكدة للأولى فهي تزيدها قوة؛ لأنها غير منافية لها وإما أن تكون غير مؤكدة فتكون تحصيلا للحاصل وهو محال فيلغو فهي على كل تقدير لا تقتضي الأولى؛ لأن نية الجماعة تقبل التأكيد, بخلاف نية الافتتاح فإنها لا تقبله؛ لأن كل نية من نيات الافتتاح مناقضة للأخرى؛ لأن واحدة تقتضي الدخول وأخرى تقتضي الخروج فتعذر حملها على التأكيد فلذا قالوا إنه يدخل بالأوتار ويخرج بالأشفاع وأما نية الجماعة فلا تناقض الجماعة السابقة بل توافقها فكانت مؤكدة لها أو لغوا على الاحتمالين السابقين, والله أعلم.
"وسئل" رضي الله عنه بما لفظه إذا قام الإمام إلى خامسة سهوا قيل بأنه لا يجوز انتظاره فلو انتظره جاهلا بالتحريم وسجد معه للسهو أي: جاهلا فهل تبطل صلاته؟ "فأجاب" بقوله إذا قام. الإمام لخامسة يخير المأموم بين المفارقة والانتظار كما صرح به في المجموع وغيره وهو المعتمد وإن وقع في محل آخر أنه لا ينتظره واغتر به الإسنوي وغيره وعليه فإنما يضر الانتظار من عامد عالم بخلاف الناسي والجاهل غير المقصر بل مطلقا؛ لأن هذا من الفروع الخفية والتعلم إنما يجب علينا في الفروع الظاهرة دون الخفية.
"وسئل" نفع الله به عما إذا أقيمت الصلاة فسبق الصبيان الرجال إلى الصف الأول أو كانوا قعودا فيه فأقيمت الصلاة فجاء الرجال فهل لهم إخراجهم من الصف الأول كما ذكره الغزالي في الإحياء أو ليس لهم إخراجهم ويكون الصبيان أحق به لسبقهم كسائر المباحات كما أفتى به علي بن عمر بالمحقق وفي شرح التنبيه هذا الحكم الذي ذكره الأصحاب في موقف المأمومين فيما إذا حضروا جميعا. أما إذا حضر الصبيان أولا قبل الرجال فليس لهم إزالتهم عن موضعهم هل المراد بالحضور مجيئهم واجتماعهم في الصف الأول معا أم المراد الحضور في المسجد؟ "فأجاب" بقوله المعتمد أن الصبيان متى سبقوا البالغين إلى الصف الأول لم يجز لهم إخراجهم بخلاف الخناثى والنساء كما جزمت بذلك في شرح

 

ج / 1 ص -324-        الإرشاد وعبارته "و" ندب أن يقف "ذكران" ولو غير بالغين, أو بالغا وصبيا قصدا الاقتداء بمصل أو تأخرا عنه أو تقدم عليهما فيما مر أو رجال قصدوا ذلك "خلفه" صفا "ثم" إن ضاق صف الرجال وقف "صبيان" بكسر أوله وحكي ضمه خلفهم وإن تميزوا عنهم بعلم ونحوه خلافا للدارمي؛ لأنهم من جنسهم ولو لم يضق صف الرجال كمل بالصبيان ولو حضر الصبيان أولا لم ينحوا للبالغين "ثم" يقف "خناثى" خلف صف الصبيان وإن لم يضق صفهم لاحتمال ذكورتهم ولم يكمل بهم لاحتمال أنوثتهم "ثم نساء" خلف الخناثى وإن لم يضق عنهم أيضا وينبغي تقديم البالغات منهن قياسا على ما مر في الصبيان انتهت. وليس المراد بحضور الصبيان أولا حضورهم في مطلق المسجد بل إنما يقدمون إن حضروا في خصوص الصف الأول ولو قبل إقامة الصلاة فحينئذ لا ينحون للرجال لما تقرر أنهم من جنسهم بخلاف من بعدهم.
"وسئل" رضي الله عنه عن المأموم إذا أدرك مع الإمام زمنا يسع قراءة آيات فكرر آيتين للشك في مخارج الحروف فلم يقرأ إلا أربعا هل يجوز له أن يركع مع الإمام أو يجب عليه التخلف للآيتين؟ "فأجاب" بقوله يلزم المأموم التخلف لقراءة الآيتين؛ لأنه بإدراكه زمنهما خوطب بقراءتهما فلا يسقط عنه بشك ولا غيره.
"وسئل" رضي الله عنه عمن أحرم وفاته الركوع والإمام في السجود الثاني ولم يسجد معه أو هوى وجلس ولم يسجد أو أحرم بعد ما رفع الإمام رأسه وقبل القيام هل يلزمه الموافقة فإن خالف بطلت صلاته أم لا؟ "فأجاب" بقوله يلزم المأموم الموافقة فيها وإلا بطلت صلاته إن علم وتعمد نعم قضية قولهم لا يلزمه متابعته في فعل جلسة الاستراحة أو تركها لعدم فحش المخالفة أنه في الصورة الأخيرة أعني ما إذا أحرم والإمام في جلسة الاستراحة أو قائم من السجود أنه لا يلزمه الهوي إليه لعدم فحش المخالفة هنا أيضا.

باب صلاة المسافر.
"وسئل" أعاد الله علينا من بركاته لم راعوا خلاف القائل بمنع الجمع فقالوا بجوازه دون ندبه مع قولهم إن المخالف لا يراعي خلافه إذا خالف سنة صحيحة وهنا كذلك فإنه ثبت عنه صلى الله عليه وسلم الجمع كثيرا؟ "فأجاب" بقوله حكى الغزالي اتفاق الأصحاب على ذلك ويمكن أن يجاب عنهم بأن الجمع لما كان فيه إخلاء أحد الوقتين عن الصلاة بالكلية كان بعيدا عما استقر في الشرع بخلاف القصر فلذلك حملوا ما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم من تكرر الجمع على الجواز فقط وإن كان خلاف ظاهر السنة وراعوا خلاف أبي حنيفة لذلك على أن أبا حنيفة لم ينفرد بذلك. بل وافقه عليه جماعة من المجتهدين.

 

ج / 1 ص -325-        "وسئل" رضي الله عنه أيضا عن العاصي بسفره هل يباح له أكل الميتة والتيمم أم لا؟ "فأجاب" بقوله قال الأصحاب لا يباح له أكل الميتة للاضطرار؛ لأنه تخفيف وهو متمكن من دفع الهلاك بالتوبة فإن لم يتب ومات كان عاصيا بتركه التوبة وبقتله نفسه لكن نقل الأذرعي عن ابن الصلاح وأقره أن محل كون أكلها من رخص السفر ينشأ الاضطرار عنه في حق من كان بحيث لو أقام لم يضطر وفرق القفال كما في المجموع عنه وأقره بين المقيم حيث يجوز له أكلها ولو عاصيا كما في الروضة وأصلها والمسافر العاصي بسفره بأن أكلها في السفر سببه سفره وهو معصية فكان كما لو جرح في سفر المعصية لم يجز له التيمم لذلك الجرح مع أن الجريح الحاضر يجوز له التيمم وقضيته أن أكلها إذا كان سببه الإقامة وهي معصية كإقامة العبد المأمور بالسفر لا تجوز بخلاف ما إذا كان سببه إعواز الحلال. وإن كانت الإقامة معصية وقضية كلام الأصحاب الجواز مطلقا ولك أن تقول لا شك أن أكل الميتة للمضطر رخصة وقد قالوا إن الرخص لا تناط بالمعاصي فمتى كان السبب الموقع في الاضطرار معصية كأن عصى بسفره أو إقامته وكانا هما السبب في الاضطرار بأن كان لو ترك السفر أو الإقامة زال عنه الاضطرار امتنع الأكل من الميتة حينئذ؛ لأنه رخصة فلا يناط بمعصية ولا نسلم أن قضية كلام الأصحاب جواز الأكل حينئذ ومتى كان السبب ليس موقعا فيه كأن فقد الحلال في السفر والحضر جاز الأكل حينئذ؛ لأن سبب الأكل ليس هو السفر ولا الحضر فجاز وإن عصى بأحدهما ثم رأيت الأذرعي قال ويشبه أن يكون العاصي بإقامته كالمسافر إذا كان الأكل عونا له على الإقامة وقولهم تباح الميتة للمقيم العاصي بإقامته محمول على غير هذه الصورة ا هـ. وهو يؤيد ما قلته وأما التيمم فإن كان لفقد الماء فكان القياس أن ينظر فيه للتفصيل السابق في المضطر؛ لأنه تارة يكون عصى بنحو السفر الذي نشأ الفقد عنه فيمتنع وتارة لا يجوز لكن خالفنا ذلك هنا نظرا لحرمة الوقت ولأنه لا يمكن سواه فجوزناه له مطلقا وإن كان لجرح أو نحوه فمقتضى كلام القفال السابق أنه إن عصى بالسفر أو الإقامة امتنع وإلا فلا وهو مشكل؛ لأن السفر والإقامة لا دخل لهما في إباحته ولا يتصور كونهما السبب لنحو الجرح المجوز للتيمم فإن تصور ذلك زال الإشكال.
"وسئل" رضي الله عنه عن قولهم إن جمع التقديم أو التأخير قد يكون أفضل ولا تفاضل بين الجائزين؟ "فأجاب" بقوله الجمع وإن كان جائزا لا مندوبا لكن التفاضل بين نوعيه ليس من حيث ذات الجمع الجائز حتى يرد ما ذكر بل من حيث ما اقترن بأحدهما من الكمال الذي عاد على الصلاة الواجبة بكمال خلى عنه الجمع الآخر.
"وسئل" عما لو ترك ركنا من إحدى الصلاتين في جمع التقديم وجب إعادتهما؛ لأن كلا يحتمل أن يكون الركن منها ويمنع جمع التقديم لاحتمال أن يكون من الثانية فيطول بها

 

ج / 1 ص -326-        الفصل فوجب فعلهما في وقتيهما وامتنع جمع التقديم أخذا بالأسوأ فيهما فهل يمتنع جمع التأخير أيضا أو لا؟ "فأجاب" بقوله صرح شيخنا في شرح المنهاج بأنه لا يمتنع ووجهه وإن كان ظاهر عبارة المنهاج وغيره خلافه أنه حيث أمر بإعادتهما. فكأنه حينئذ لم يفعلهما فيجوز له جمع التأخير فإن قلت مقتضى هذا جواز جمع التقديم لما ذكر وأيضا فكما روعي فساد الثانية حتى امتنع جمع التقديم ينبغي مراعاته حتى يمتنع جمع التأخير قلت إنما راعينا ذلك الاحتمال بالنسبة لجمع التقديم؛ لأنا لو لم نراعه لوقعت العصر فاسدة على أحد التقادير فكان الأسوأ امتناعها في غير وقتها وأما الأولى فصحيحة على سائر التقادير؛ لأنها إن كانت هي الفاسدة فواضح؛ لأنها حينئذ أداء وإن كان الفاسد الثانية فقد صلاها في وقتها ولا يضر ضمه إليها صورة فرض آخر احتياطا لبراءة ذمته فمن أطال في الرد على ما ذكره شيخنا كأنه لم يلحظ ما قلناه ولم يتأمله إذ بتأمله يتضح الفرق بين الحالتين ويظهر بطلان جميع ما أورده المعترض وتكثر أو شنع به.
"وسئل" رضي الله عنه عن شخص سافر وداره خارج السور لكن يحتاج إلى الدخول من السور ثم يخرج منه إلى مقصده فهل يكون ابتداء سفره ماذا؟ "فأجاب" بقوله الذي يظهر أنه إذا كان وراء السور عمارات وسافر من داره خارجه واحتاج في الذهاب إلى مقصده للدخول من السور ثم الخروج منه ثم قطع العمارات التي وراءه من تلك الجهة أنه لا يترخص حتى يجاوز العمارات التي وراء السور من الجهة الأخرى وذلك؛ لأن السور لا عبرة به بالنسبة إليه بل جميع العمارات التي خارج السور بمنزلة بلده فلا بد من مجاوزتها وإن خرج من السور.
"وسئل" أيضا رضي الله عنه عن مسافر صلى الظهر في وقتها ثم أعادها جماعة فهل له جمع العصر تقديما؟ "فأجاب" بقوله قضية كلامهم أنه ليس له ذلك إذ الفرض هو الأولى فالمعادة فاضلة.
"وسئل" رضي الله عنه عن المسافر إذا أراد الجمع تأخيرا ثم أراد دخول مقصده والحالة هذه قبل فعل الظهر فهل يجوز له ذلك أم لا؟ "فأجاب" بقوله بأن الأوجه أنه لا يجوز له دخول مقصده قبل فعل الظهر كما قدمته مبسوطا وأشرت ثم إلى أن المسألة مبسوطة أيضا في حاشيتي على إيضاح النووي والله أعلم.
"وسئل" نفع الله به هل السفر للتنزه كالسفر لرؤية البلاد أو لا فما الفرق؟ "فأجاب" بقوله الذي ذكروه أن التنزه قصد صحيح يبيح القصر بخلاف مجرد رؤية البلاد لكن فرضوا الكلام في التنزه فيما لو سلك أبعد الطريقين لذلك وفرق بعضهم بأن قاصد الثاني غير جازم بمقصد معلوم؛ لأنه كالهائم بخلافه في التنزه. قال شيخنا في شرح الروض والوجه أن يفرق بأن التنزه هنا ليس هو الحامل على السفر بل الحامل عليه غرض صحيح كسفر

 

ج / 1 ص -327-        التجارة ولكنه سلك أبعد الطريقين للتنزه فيه بخلاف مجرد رؤية البلاد فإنه الحامل على السفر حتى لو لم يكن هو الحامل عليه كان كالتنزه هنا ولو كان التنزه هو الحامل عليه كان كمجرد رؤية البلاد في تلك ا هـ. وحاصل كلامه التساوي بينهما وفيه نظر بل الوجه أن يفرق بينهما بأن التنزه غرض صحيح يقصد في العادة للتداوي ونحوه كإزالة العفونات النفسية واعتدال المزاج وغير ذلك بخلاف مجرد رؤية البلاد إذا خلا عن ذلك كأن قصد السفر لبلد كذا لينظر بناءها من ماذا أو هل هي صغيرة أو كبيرة ونحو ذلك فإنه بالعبث أشبه فمن ثم جاز للأول القصر لصحة غرضه بخلاف الثاني وإن كان له مقصد معلوم لفساد غرضه؛ لأن فيه إتعاب نفسه ودابته من غير فائدة.
"وسئل" نفع الله به عمن صلى في جمع التأخير الظهر ثم تيقن بعد إحرامه بالعصر ترك ركن من الأولى هل يبطلان؟ "فأجاب" بقوله إن طال الفصل بين تذكره وسلام الأولى بطلنا الظهر لتعذر البناء عليها. والعصر لوقوعها وتحرم الأولى باق وإن لم يطل الفصل بين التذكر وسلام الأولى لغا ما أتى به من العصر وكمل الظهر وإطلاق الروياني بطلانهما محمول على الحالة الأولى وإلا فهو ضعيف.
"وسئل" نفع الله به عمن خرج من بلده ثم نوى وهو سائر أنه إذا دخل البلد الفلانية يقيم بها أكثر من أربعة أيام فهل ينقطع سفره بوصولها أو لا؟ "فأجاب" بقوله الظاهر انقطاع سفره بوصولها ما لم يكن عازما على فعل يناقض نيته الأولى ولا أثر لنيته الأولى وهو سائر حيث كان مستقلا وأما قول المجموع شرط تأثير نية الإقامة أن يكون حال النية ماكثا فهو فيمن نوى الإقامة الآن؛ لأنه إن كان سائرا لم يعتد بها؛ لأن فعله يكذبها بخلاف ما إذا كان ماكثا سواء أصلح المحل للإقامة أو لا أما في صورتنا فنيته صحيحة ولا فعل صدر منه يعارضها فوجب القول بتأثيرها إذا وصل المحل الذي نوى الإقامة به.
"وسئل" نفع الله به عمن أذن الظهر مثلا وهو على ماء فهل له نية تأخيرها إلى وقت العصر وإن كان يصليهما ويتيمم بمحل لا ماء فيه؟ "فأجاب" بقوله يحتمل أن يقال له ذلك كما اقتضاه إطلاقهم في باب السفر ويحتمل أن يلحق بمن مر بماء في الوقت وهذا أقرب ومقتضى كلام الرافعي عدم وجوب الوضوء لكن قال الإسنوي القياس وجوبه كقبول الهبة وعليه فيتقيد بما في قبولها من اشتراط كونها في الوقت وأن لا يمكن تحصيله بغيرها وأن لا يحتاج إليه المالك وأن يضيق الوقت عن طلبه.
"وسئل" رضي الله عنه إذا أكره على سفر المعصية فهل له أن يتعاطى شيئا من رخص السفر أو لا؟ "فأجاب" بأن من الواضح أن المكره على ذلك غير عاص بسفره فيتعاطى سائر رخص السفر المذكورة في بابه بشرطه المقرر.
ثم "وسئل" رضي الله عنه بما لفظه إذا كان على رجل لآخر دين حال وهو مليء به وأراد

 

ج / 1 ص -328-        أن يسافر فهل إذا تحقق رضاه بأنه لو علم لم يمنعه السفر يجوز له السفر فإن قلتم نعم فذاك وإن قلتم لا فما الفرق بين هذا وبين أكل طعامه إذا تحقق رضاه مع أن في الأكل هلاك ماله وهل فرق بين كون الدين كثيرا أو أقل ما يتمول؟ "فأجاب" بأن كلامهم في باب الوليمة كالصريح في جواز السفر فما إذا غلب على ظنه أنه لو علم به لم يمنعه سواء أكان المال قليلا أم كثيرا بشرط أن يغلب على ظنه ذلك مع كثرته فإن تردد أو جهل حال الدائن امتنع عليه السفر وإن قصر إلا بعد صريح الإذن.
"وسئل" نفع الله به عن المديون المليء إذا سافر بغير إذن من له الدين ناسيا للدين فلم يذكره إلا في أثناء الطريق ولم يتمكن من إرسال دينه إلا من البلد التي هو قاصدها إما لخوف على نفسه أو ماله أو نحو ذلك وكان يتعاطى رخص السفر من أول سفره فهل له أن يترخص في سفره وهل يجب عليه أن يقضي ما قصره أو صلاه في غير وقته كأن جمع تقديما أو أفطر صوما واجبا أم لا؟ فإذا أمكنه أن يرسل بالدين غيره في أثناء الطريق فهل له أن يترخص قبل وصول الدين إلى صاحبه؟ "فأجاب" بأنه إذا تذكر في أثناء الطريق ولم يمكنه إرسال الدين لدائنه بنفسه ولا بوكيله لخوف أو نحوه فهو ليس بآثم فيترخص بالقصر وغيره ولا قضاء عليه إلى أن ينتهي سفره أو يقدر على الإرسال وإذا قدر عليه في أثناء الطريق بنفسه أو بوكيله الثقة ولم يكن في الطريق نحو خوف وجب عليه إرساله فورا ومتى أخره عصى بسفره إلى جهة مقصده وامتنع عليه الرخص مطلقا.
"وسئل" رضي الله عنه عما إذا. تعارض القصر الذي هو أفضل في حق المسافر والجماعة بأن لم يجدها إلا وراء متم فما الأفضل؟ "فأجاب" بقوله الجماعة فرض كفاية والقصر سنة وفرض الكفاية أفضل من السنة وأيضا فأبو حنيفة القائل بوجوبه يوجب الإتمام عند الاقتداء بمتم فاندفعت مراعاة خلافه.
"وسئل" نفع الله به هل يجوز للمسافر القصر والجمع والمسح على الخف والفطر وغير ذلك من سائر الرخص المباحة إذا كان الغريم ظاهرا في بلاد الإسلام بأن كان والحالة هذه في البحر وكان من وجده مثلا قتله وأسره ونهبه فهل يجوز لذلك المسافر الإقدام على مثل هذا السفر. ويجوز له الترخص بجميع الرخص المباحة أم لا فإن قلتم يجوز ولا يحل مثل ذلك فهل ارتكاب مثل هذا من الكبائر أم لا وما المعتمد عندكم في الترجيح أيضا وذلك فيما إذا أقام الرجل ببلدة وكان بنية الارتحال كل وقت منها فهل له الفطر كالقصر وغيره إلى ثمانية عشر يوما أم لا وأيضا قد سئل المملوك في إقامته هذه فيما إذا شربت الأرض في شهر شعبان مثلا وكان لا يصلح ويحسن بذرها إلا في شهر رمضان وذلك اتفق في اليمن في السنة هذه وكان أهلها أي: الأرض لا يقدرون على بذرها لشدة الجوع والظمإ في ذلك الوقت فهل يباح لهم الفطر أو لا. وهل الأربع ركعات التي كان يفعلها النبي صلى الله عليه وسلم هل هي

 

ج / 1 ص -329-        سنة الظهر أو هي غيرها؟ "فأجاب" بقوله حيث غلب في سفر البحر أخذ الفرنج وأسرهم أو نحو ذلك حرم السفر فيه وكان معصية فلا يباح فيه شيء من رخص السفر والإلقاء بالنفس إلى الهلاك كبيرة بل من أعظم الكبائر كما بينته في كتابي الزواجر عن اقتراف الكبائر ومن كان سفره سفرا يبيح الرخص بالفطر والقصر ونحوهما فأقام ببلد لحاجة يتوقع قضاءها قبل مضي أربعة أيام جاز له أن يقصر ويفطر في رمضان ويفعل سائر رخص السفر إلى ثمانية عشر يوما ويباح الفطر لنحو الحراث والضمام وهو من يقطع الزرع إذا يبس إذا وقع ذلك في نهار رمضان ولم يمكنهم فعله ليلا ولا تأخيره إلى فراغ رمضان للخوف عليه ولو من الدواب فقد أفتى بذلك الأذرعي وغيره وهو ظاهر وبه صرحوا في الفطر لإنقاذ مال مشرف على تلف وهذا منه. وبفرض وقوع خلاف في هذه المسألة يتعين حمل كلام المانع من الفطر فيها على ما أشرت إليه وهو ما إذا أمكن التأخير ليلا أو إلى فراغ رمضان وإلا فكلامه في غاية الضعف والسقوط وسنة الزوال أربع وهي غير سنة الظهر التي هي أربع أيضا وكان صلى الله عليه وسلم ربما جمع وربما اقتصر على ركعتين بحسب فراغه صلى الله عليه وسلم واشتغاله والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.

باب صلاة الجمعة.
"وسئل" رضي الله عنه عن جماعة يصلون الجمعة وإمامهم قارئ ومنهم من يحسن الفاتحة وأكثرهم لا يحسنها فهل تصح جمعتهم حيث كان إمامهم قارئا أم لا تصح وأنا رأينا في فتاوى البغوي كلاما لم يفهم الراجح منه فبينوا لنا ما هو الراجح؟ "فأجاب" بأن الذي صرح به البغوي أنه إذا كان في البلد أربعون أميا فقط واتفقوا أمية لزمتهم الجمعة لصحة اقتداء بعضهم ببعض بخلاف ما إذا كان بعضهم أميا وبعضهم قارئا فإن جمعتهم لا تصح لارتباط صلاة بعضهم ببعض فأشبه اقتداء القارئ بالأمي وكذا لو اختلفوا أمية وكان بعضهم يعرف أول الفاتحة وبعضهم يعرف آخرها فإن جمعتهم لا تصح لما ذكروا في البغوي على ما ذكره الأذرعي وغيره لكن قال شيخنا شيخ الإسلام زكريا فيما إذا كان بعضهم أميا وظاهر أن محله فيما إذا قصر الأمي في التعلم وإلا فتصح الجمعة إذا كان الإمام قارئا قال البغوي ولو جهلوا كلهم الخطبة لم تجز الجمعة بخلاف ما إذا جهلها بعضهم فإنها تشرط لصحتها ومراده بجوازها في الشق الثاني ما يصدق بالوجوب فإنه إذا عرفها واحد من الأميين المستوين لزمتهم كما مر والله أعلم بالصواب.
"وسئل" رضي الله عنه - وفسح في مدته - عما إذا كان في قرية مسجد ثم تعطل لكونه بعيدا عن بعض أهل القرية أو لكون ما حوله متعطلا فأرادوا أن يعملوا مسجدا آخر والمسجد الثاني تحضره الجماعة فهل لهم ذلك؟ "فأجاب" رضي الله عنه بأنه يجوز بناء المساجد

 

ج / 1 ص -330-        الكثيرة في البلد ولو صغيرة ولا حجر على أحد في ذلك نعم لا يجوز تعديد الجمعة في بلد إلا إذا ضاق مسجدها عن أهلها فلهم حينئذ بناء مسجد آخر وإقامة جمعة ثانية فهو بخلاف ما إذا وسعهم مسجدها فليس لأحد بناء مسجد لأجل إقامة جمعة أخرى فيه لامتناعها حينئذ والله تعالى أعلم بالصواب.
"وسئل" رضي الله عنه فيمن أدرك إمام الجمعة في الثانية. بعد أن فارقه القوم فيها وقلنا إنها لا تشترط الجماعة في الثانية فهل يكون مدركا للجمعة بصلاته للركعة الأولى مع الإمام فقط فيضيف إليها أخرى وإن لم يصل الأولى مع أربعين أم لا؟ "فأجاب" - فسح الله في مدته - بأن الذي دل عليه كلامهم أنه يكون مدركا للجمعة بما ذكر؛ لأنه أدرك ركعة الإمام الثانية وقد أطلق الأئمة أن من أدرك الثانية مع الإمام أدرك الجمعة ولا نظر لمفارقة المأمومين له فيها؛ لأن اعتبار العدد فيهم باق إلى انقضاء الجمعة وكأنهم باقون مع الإمام من هذه الحيثية.
"وسئل" رضي الله عنه عما إذا اختلف الرافعي والنووي في مسألة ولم نعلم الراجح فأيهما نعمل بقوله: "فأجاب" بقوله العبرة بما صححه النووي رحمه الله وجزاه عن أهل المذهب خيرا فإنه الحبر الحجة المطلع المحرر باتفاق جميع من جاء بعده وحينئذ فلا يعدل عما رجحه.
"وسئل" رضي الله عنه عمن كان بالخلاء ونحوه وهو يسمع الخطيب خارجا عن المسجد هل يعد من الأربعين أم لا؟ "فأجاب" بأن الذي يصرح به كلامهم أن يعتد بسماع من بالخلاء ونحوه فقد قالوا لا بد من سماع أربعين من أهل الكمال والمراد بهم من تلزمهم الجمعة فتنعقد بهم ولا شك أن من بالخلاء ونحوه تلزمه الجمعة وتنعقد به. وكونه حالة السماع على هيئة تنافي الصلاة لا أثر له؛ لأن القصد من اشتراط سماعهم اتعاظهم بما يسمعون في الجملة وهذا المقصود حاصل بسماع من بالخلاء ونحوه ومن عبر بأنه يشترط حضور أربعين لم يرد أنه لا بد من حضورهم في المسجد وإنما مراده أنه لا بد من سماعهم سواء كانوا في المسجد أو خارجه على أن الجمعة لا يشترط لصحة إقامتها المسجد كما صرحوا به فلو أقاموها في فضاء بين العمران صحت. فإن قلت عبر بعضهم بالسماع وبعضهم بالحضور وبين العبارتين عموم وخصوص من وجه كما هو ظاهر إذ يجتمعان في حاضر يسمع. وتنفرد الأولى في حاضر أصم والثانية في بعيد يسمع فما المعتمد منهما قلت هذا إنما يصح لو لم يصرحوا بأن المراد من العبارتين واحد. أما إذا كان المراد منهما واحدا وهو السماع فلا عموم ولا خصوص وقول الشاشي لا يشترط السماع حتى لو كانوا صما كفى حضورهم شاذ مردود وإن تبعه عليه في البيان فإن قلت قيل الحكمة في اشتراط العدد المذكور في الجمعة مباهاة أهل الذمة وهذه الحكمة لا تحصل إلا بحضورهم في محل واحد على صفات الكمال فيخرج من بالخلاء ونحوه فلا يعتد بحضوره.

 

ج / 1 ص -331-        ولا سماعه؛ لأنه ليس على صفة أهل الكمال. قلت هذا الذي قيل لا يصح وإنما يمكن أن يكون ذلك حكمة لأصل الاجتماع في هذا اليوم وتخصيصه بخصوصيات لا توجد في غيره؛ لأنه يوم عيد المؤمنين وفيه ساعة الإجابة وفيه خلق آدم وفيه تقوم الساعة ونحو ذلك من خصائصه التي تزيد على المائة ويدل على ما ذكرته من أن ذلك حكمة لأصل الاجتماع ما رواه عبد الرزاق بإسناد صحيح عن محمد بن سيرين قال جمع أهل المدينة قبل أن تنزل الجمعة فقالت الأنصار إن لليهود يوما يجتمعون فيه كل سبعة أيام وللنصارى مثل ذلك فهلم فلنجعل لنا يوما نجتمع فيه نذكر به الله تعالى. ونصلي ونشكره فجعلوه يوم العروبة واجتمعوا إلى أسعد بن زرارة فصلى بهم يومئذ وأنزل الله تعالى بعد ذلك: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9] وهو وإن كان مرسلا لكن له شاهد وأما اشتراط العدد المذكور واشتراط حضورهم وسماعهم لأركان الخطبة فليس أمرا متفقا عليه فقد اختلف العلماء في مقدار العدد المشترط فيها بعد اتفاقهم على اشتراط مطلق العدد والقول بصحتها من الواحد لعله غلط وإن نقله ابن حزم لما نقله في المجموع أن الأمة أجمعت على اشتراط العدد في الجمعة وطال اختلافهم في ذلك والاستدلال على أربعة عشر قولا أدناها يشترط اثنان وأعلاها يشترط ثمانون. ومحل بسط الاستدلال لمذهبنا كتب أصحابنا وقد وفى بما فيها النووي في مجموعه وزاد عليه فجزاه الله عن المذهب وأهله خير الجزاء وأكمله وأتمه وأعمه. ثم رأيت الأذرعي صرح بما ذكرته من الاعتداد. بسماع من بالخلاء ونحوه فقال في شرح المنهاج فائدة أغرب من ذلك أنه يشترط في العدد المعتبر أن يكون على طهارة وستر حال الخطبة كالخطيب وكلام الإمام يفهم جريان الخلاف في اشتراط الطهارة فيهم قال صاحب التنجيز في شرح الوجيز والمشهور خلافه. قلت كلام الجماعة ساكت عنه وقد يوجه بأنه يعتبر في حقهم من الكمال ما يعتبر في حق الإمام أو بأن عدم ذلك قد يفضي إلى عدم الموالاة بين الخطبة والصلاة وعلة توجيهه ما أفهمه كلام الإمام من جريان الخلاف في اشتراط الطهارة فيهم ترد بأنهم ليسوا كالإمام للفرق الواضح بين الإمام والمأموم على أن الإمام لا يعتبر فيه من الكمال ما يعتبر فيهم إلا إن كان من الأربعين دون ما إذا كان زائدا عليهم وكون عدم ذلك قد يفضي إلى عدم الموالاة لا يؤثر كما لا يخفى فاتضح ما قاله أولا من أن هذه المقالة غريبة والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
"وسئل" - أعاد الله علينا من بركاته - عن بلد تسمى راوان بها ثلاث قرى مفصولة مختصة كل قرية باسم وصفة بين كل قرية وقرية أقل من خمسين ذراعا مثلا فبنوا مسجدا لإقامة الجمعة في خطة أبنية أوطان المجمعين فصلوا فيه مدة مديدة فحصل بينهم مقاتلة فانفردت قرية من الثلاث بجمعة في قريتهم وأهل القريتين بنوا مسجدا ثانيا لجمعة أخرى ويتم العدد من القريتين فهل الجمعتان صحيحتان أو باطلتان. فإن قلتم بالصحة للضرورة وحصل

 

ج / 1 ص -332-        بينهم أمان فهل يلزمهم أن يجتمعوا لجمعة واحدة وتبطل الأخرى بوجود الأمان بينهم لكون كل من الفريقين أمن على نفسه أو لا فإن قلتم باللزوم وامتنعوا من الحضور لجمعة واحدة فهل الجمعتان صحيحتان أو باطلتان أو إحداهما صحيحة والأخرى باطلة فإذا لم تعلم السابقة منهما فهل يلزم كلا من الفريقين إقامة جمعة وإعادة ظهر أم لا؟ "فأجاب" نفع الله بعلومه حيث كانت القرى المذكورة متمايزا بعضها عن بعض وكان في كل قرية أربعون من أهل الجمعة لزم أهل كل قرية إقامة الجمعة في بلدهم ولم يجز لهم أن يتركوا بلدهم من غير إقامة جمعة فيها ويذهبوا إلى أخرى فإن فعلوا ذلك أثموا إثما شديدا لكن جمعتهم صحيحة فلا يلزمهم إعادة الظهر وإذا أقام أهل كل قرية الجمعة في بلدهم خرجوا عن عهدة الواجب وصحت جمعتهم سواء المتقدمة والمتأخرة. وإنما يأتي التفصيل بين علم السابقة وغيرها إذا أقيمت جمعتان أو أكثر في بلدة أو قرية واحدة مع عدم الاحتياج إلى التعدد بأن كان بين أبنية البلد مسجد أو فضاء يسع أهلها فحينئذ لا يجوز لهم تعددها بخلاف ما إذا لم يكن فيها محل يسعهم فإنه يجوز لهم التعدد بقدر الحاجة فإن زاد التعدد على الحاجة فالسابقة إذا علمت هي الصحيحة والمعتبر في السبق راء تكبيرة إحرام الإمام وإن لم تعلم السابقة أو علمت ثم نسيت وجب الظهر على الجميع وإن علم وقوعهما معا أو لم يعلم سبق ولا معية أعيدت الجمعة إن اتسع الوقت ويندب لهم أن يقيموا الجمعة ثم الظهر والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
"وسئل" رضي الله عنه عن عبارة الروض وشرحه في كتاب الجمعة. ولو تركها أهل البلد وصلوا الظهر لم يصح ما لم يضق الوقت عن خطبتين وركعتين انتهت المسئول معرفة هذا القدر من الوقت فقد لا يعرفه بعض الفقهاء فضلا عن العوام فهل له إذا غلب على ظنه أنهم يتركونها أن يصلي الظهر أول الوقت وهل المراد بالخطبتين الاقتصار على لفظ الأركان فقط أو لا بد من وعظ يضاف إليها لتسمى خطبة؟ "فأجاب" فسح الله في مدته بقوله لا يصح الظهر ممن لزمته الجمعة إلا باليأس منها بأن يسلم الإمام أو يضيق الوقت عن أقل واجب في الخطبتين والركعتين ويكفي في الوعظ اتقوا الله ومع ذلك تسمى خطبة خلافا لما يوهمه كلام السائل والذي يظهر أن لمن غلب على ظنه أن أهل بلده لا يقيمون الجمعة صلاة الظهر أول الوقت أخذا من قول الزركشي في خادمه بعد كلام ساقه عن الإمام ويؤخذ منه أنه لو غلب على ظنه أن الإمام يؤخرها أي: الجمعة إلى آخر الوقت بإخباره أو بجريان عادته بذلك وأمكنه الذهاب والعود وإدراكه الإمام قبل ركوع الثانية يعني قبل الاعتدال منه جاز له السفر حينئذ فتستثنى هذه الصورة من كلامهم وهو فرع نفيس ا هـ فإذا جوز له السفر أول وقتها اعتمادا على غلبة ظنه بتأخيرها بإخبار أو عادة فيدركها مع أن ذلك قد يتخلف بأن يصليها أول الوقت فلا يدركها فكذلك ينبغي أن يجوز الظهر في مسألتنا أول الوقت إذا غلب على ظنه بإخبار الإمام أو بالعادة أنهم لا يصلونها بل الجواز في مسألتنا أولى؛ لأن صلاته

 

ج / 1 ص -333-        الظهر أول الوقت لا تؤدي إلى فوات الجمعة فإنه وإن صلى الظهر أوله ثم أقيمت الجمعة لزمته كما هو ظاهر؛ لأنا إنما قنعنا منه بالظهر أوله ظنا أن الجمعة لا تقام فإذا أقيمت الجمعة بان خلاف ذلك الظن وأنه من أهلها فلزمه إقامتها معهم وأما السفر أول الوقت فقد يؤدي إلى فواتها لو قدموها أوله فإذا جوزوا له السفر مع أنه قد يفوتها فلأن يجوز له تقديم الظهر الذي لا يفوتها بالأولى كما تقرر. وما ذكره الزركشي بحثا سبقه إليه الإسنوي فإنه لما نقل عن شرح المهذب أنه يشترط لحل السفر العلم بإدراكها قال وفيما قاله نظر والمتجه الاكتفاء بغلبة الظن ا هـ. وأجاب غيره بأن مراد شرح المهذب بالعلم غلبة الظن نظير ما صرح به الرافعي من أن مرادهم بقولهم يقضي القاضي بعلمه غلبة الظن ويؤيده أيضا قول البيضاوي فإن ظن كل أن غيره لم يصل على الميت لزمته الصلاة عليه وإن ظن أنها فعلت سقطت فتعبير الرافعي في هذه بالعلم مراده به غلبة الظن كما بينته عبارة البيضاوي المذكورة ويؤيده أيضا قولهم يجوز الأكل وغيره من مال الصديق إن علم رضاه ثم بينوا أن الظن هنا كاف فعلم أنهم كثيرا ما يطلقون العلم ويريدون غلبة الظن والله أعلم بالصواب.
"وسئل" رضي الله عنه هل للمعلمين في ترك التعليم يوم الجمعة أثر؟ "فأجاب" أطال الله في مدته حكمة ترك التعليم وغيره من الأشغال يوم الجمعة أنه يوم عيد المؤمنين كما ورد ويوم العيد لا يناسبه أن يفعل فيه الأشغال وأيضا فالناس مأمورون فيه بالتبكير إلى المسجد مع التهيؤ قبله بالغسل والتنظيف بإزالة الأوساخ وجميع ما يزال للفطرة كحلق الرأس لمن اعتاده وشق عليه بقاء الشعر فإن الحلق حينئذ سنة وكنتف الإبط وقص الشارب وحلق العانة وقص الأظفار والتكحل والتطيب بشيء من أنواع الطيب وأفضله المسك مع ماء الورد ولا أشك أن من خوطب بفعل هذه الأشياء كلها مع التبكير بعدها. لا يناسبه شغل فكان ذلك هو حكمة ترك سائر الأشغال يوم الجمعة هذا فيما قبل صلاة الجمعة وأما بعدها فالناس مخاطبون بدوام الجلوس في المساجد إلى صلاة العصر لما ورد في ذلك من الفضل العظيم وبعد صلاة العصر لم يبق مجال للشغل على أن الناس مأمورون بالاجتهاد في الدعاء في ذلك اليوم إلى غروب شمسه لعل أن يصادفوا ساعة الإجابة فاتضح وجه ترك الشغل في ذلك اليوم جميعه والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
"وسئل" فسح الله في مدته إذا كان في بلد أو قرية أربعون غالبهم أميون. ونحو ثلاثة أنفس قراء فهل يجب عليهم إقامة الجمعة أو لا فإن قلتم بالوجوب فذاك وإن قلتم بخلافه وسمعوا النداء في بلد أو قرية وكان بينهم مقاتلة فهل هو عذر في تركها أو لا وهل إذا أقاموها في بلدتهم وصلوا بعدها ظهرا أجزأهم ذلك أو الترك لهذه الأمور أولى بينوا لنا ذلك؟ "فأجاب" بقوله المراد بالأمي في كلام الفقهاء من لا يحسن الفاتحة بأن يخل بحرف أو تشديدة من الفاتحة وليس المراد به العامي إذ هو كغيره حتى في الجمعة, حتى لو كان.

 

ج / 1 ص -334-        إمامها عاميا يحسن الفاتحة والصلاة صحت وإن كان وراءه علماء إذا تقرر ذلك فإذا كان في بلد أربعون أميا فقط واتفقوا أمية قال البغوي فينبغي أن تلزمهم الجمعة لصحة اقتداء بعضهم ببعض قال فإن كان بعض الأربعين أميا وبعضهم قارئا أي: كما في صورة السؤال لم تصح الجمعة لارتباط صلاة بعضهم ببعض فأشبه اقتداء قارئ بأمي وكذا إذا اختلفوا أمية كأن أحسن بعضهم من الفاتحة ما لا يحسنه الآخرون ا هـ وأقره على ذلك الأذرعي وغيره ومحله فيما إذا كان بعضهم أميا إذا قصر الأمي في التعلم وإلا فتصح الجمعة إذا كان الإمام قارئا. وبه يعلم أن الصورة المذكورة في السؤال فيها تفصيل وهو أن الأميين إن قصروا أو قصر بعضهم في التعلم لم تصح الجمعة وإلا صحت فيلزمهم إقامتها وإذا لم تصح فيلزم من قصر في التعلم التعلم حتى تصح الجمعة قال البغوي ولو جهلوا كلهم الخطبة لم تجز الجمعة بخلاف ما إذا جهلها بعضهم؛ لأنها تشرط لصحتها ومراده بجوازها في الشق الثاني ما يصدق بالوجوب فإنه إذا عرفها واحد من الأميين المستوين وجبت عليهم كما مر عنه وحيث لم تلزمهم الجمعة وسمعوا النداء بشرطه من بلد الجمعة ولم يخشوا من الذهاب إليها على أنفسهم. ولا مالهم لزمهم الذهاب إليهم وصلاة الجمعة معهم وإلا أثموا وإن أجزأتهم صلاة الظهر وأما صلاة الجمعة إذا فقد شرطها فلا تجوز ولا تجزئ والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
"وسئل" رضي الله عنه عن قولهم ولا يستخلف في الجمعة إلا مقتديا به قبل حدثه فهل في عبارتهم ما يفهم أن الإمام إذا تذكر حدثه قبل دخول الصلاة لا يمكن له أن يستخلف أحدا من المأمومين؛ لأنهم اقتدوا بالإمام بعد الحدث أم لا يفهم من هذه العبارة ذلك؟ "فأجاب" نفع الله به بقوله إن في عبارتهم ما يفهم جواز الاستخلاف في الصورة المذكورة؛ لأنهم عللوا امتناعه بمن لم يقتد به قبل حدثه بأن فيه إنشاء جمعة بعد أخرى أو فعل الظهر قبل فوت الجمعة وكلاهما ممتنع وإنما يتأتى هذا التعليل فيمن ابتدأ الدخول في الجماعة بعد علمه ببطلان صلاة الإمام؛ لأنه يلزم على ابتدائه الجماعة حينئذ أحد ذينك الشيئين الممتنعين وأما من اقتدى بالإمام الزائد على الأربعين المحدث في نفس الأمر فجمعته خلفه صحيحة إذ الصلاة خلف المحدث صحيحة محصلة للجماعة في الجمعة بشرطها وفي غيرها ويترتب عليها سائر أحكام الجماعة كما صرحوا به. وإذا صحت جمعته في صورتنا قبل خروج الإمام لم يلزم على استخلافه إنشاء جمعة بعد أخرى ولا فعل الظهر قبل فوت الجمعة فلا مقتضى حينئذ لامتناع استخلافه لما تقرر أن المانع له هو ما يلزم من ذينك الأمرين وهنا لا يلزم واحد منهما على أن ما ذكرته عنهم من أن الصلاة خلف المحدث صحيحة يترتب عليها سائر أحكام الجماعة بشرطها وفي غيرها صريح في الجواز في مسألتنا إذ من أحكام الجماعة جواز استخلاف أحد المأمومين الذين صحت صلاتهم وجماعتهم قبل خروج الإمام وهذا هو عين مسألتنا فتكون بهذا التقرير داخلة في عبارتهم

 

ج / 1 ص -335-        ووجهها ظاهر كما علم مما قررته أولا؛ لأنه لا يلزم على الاستخلاف من الإمام والمأمومين ولا على تقدمه بنفسه محذور فلا يتضح لامتناع ذلك هنا وجه حتى يقال به.
"وسئل" رضي الله عنه عن قولهم شرط الجمعة الجماعة إلا في الثانية فيجوز للمأمومين أن يتم كل جمعته فرادى في الركعة الثانية فإذا جاء من لم يحضر الركعة الأولى فهل له أن يقتدي بإمام الجمعة أو له أن يقتدي بأي من شاء من المأمومين فإذا قلتم نعم فذاك فكيف يحرم من جاء فإن قلتم يحرم بالظهر فكيف تصح ظهره قبل اليأس من الجمعة؟ "فأجاب" بقوله الجواب عن هذه المسألة ينبني على مقدمة وهي أن صاحب البيان نقل عن الشيخ أبي حامد وأقره أنه لو اقتدى بإمام المسبوقين الذي منهم شخص ليس منهم وصلى معهم ركعة وسلموا فله أن يتمها جمعة؛ لأنه وإن استفتح الجمعة فهو تابع للإمام والإمام مستديم لا مستفتح واعتمد ذلك جمع يمنيون ونظر بعضهم ممن شرح الإرشاد فيما وقع لشيخنا زكريا رحمه الله في شرح البهجة وغيرها مما يقتضي خلاف ذلك لكن في هذا التنظير نظر فإن ظاهر كلام الأصحاب امتناع ذلك ومن ثم جزمت به في شرح العباب فعلى الأول لا إشكال في صورة السؤال أن الداخل يلزمه الاقتداء بواحد من المأمومين ويتمها جمعة إن أدرك معه ركوع الثانية؛ لأنهم أولى بذلك من صورة صاحب البيان؛ لأن الجمعة صحيحة لكل من هؤلاء بلا نزاع بخلاف أولئك فإذا كان المقتدي ثم محصلا للجمعة؛ لأنه تابع لإمامه وإمامه مستديم لا مستفتح فكذا المقتدي بواحد من هؤلاء؛ لأنه تابع لإمامه وإمامه مستديم لا مستفتح. فإن قلت قياس تلك وجوب الاقتداء هنا بالإمام قلت ليس كذلك؛ لأنه ثم إنما وجب الاقتداء بالإمام؛ لأن البقية مؤتمون به فلم يمكن الاقتداء بغيره وأما هنا فكل منهم منفرد مستقل بنفسه فاستوى الإمام مع غيره فجاز للداخل الاقتداء بمن شاء منهم ويؤيد ذلك أيضا قولهم لو استخلف الإمام مقتديا به في الثانية أتم الخليفة ظهرا بخلاف من جاء واقتدى بهذا الخليفة فإنه يتم جمعة والفرق كما قاله القاضي حسين أن الخليفة لم يدرك ركعة مع إمام يصلي بالناس الجمعة فلهذا لم نجعله مدركا لها وأما المقتدي به فقد أدرك ركعة مع خليفة الإمام فحكم صلاته حكم صلاة المأموم فلهذا أدرك الجمعة ووجهه أن المستخلف يجري على ترتيب صلاة الإمام فكأنه هو في حق المقتدي ا هـ. وظاهر هذا أن المسبوق لو اقتدى بالخليفة بعد سلام القوم وأدرك معه ركعة أدرك بها الجمعة أيضا لما تقرر أنه حال محل الإمام وإن لزمه هو الظهر. وكلام البغوي في التهذيب مصرح بذلك عنهم حيث قال وعندي إنما يصلي المسبوق الجمعة إذا أدرك الخليفة في الركعة الأولى فأما إذا أدركه في الثانية فلا يصلي الجمعة؛ لأنها قد فاتت حين تمت صلاة الإمام ا هـ. فهذا اختيار له في مقابلة كلام الأصحاب ففيه تصريح عنهم بأنهم قائلون بأنه يدرك الجمعة سواء أدركه في الأولى من صلاة الخليفة أم في الثانية التي هي بعد سلام القوم وكلام القاضي السابق يفهمه كما علمت فإذا صحت صلاة الجمعة لمسبوق

 

ج / 1 ص -336-        أدرك الخليفة بعد تمام صلاة القوم نظرا إلى أنه يراعى نظم صلاة الإمام التي انقضت فبالأولى أن تحصل له الجمعة في مسألتنا؛ لأن صلاة القوم لم تنقض وكل منهم مراع لنظم صلاة الإمام مع ما بينهم من تمام الرابطة من حيث العدد ومن ثم لو كانوا أربعين فقط وبطلت صلاة واحد بطلت صلاة الجميع أي: جمعتهم لفقد العدد المشترط من أول الجمعة إلى آخرها وبهذا يتضح لك أنه في صورة السؤال يقتدي بواحد منهم ويصلي الجمعة وإن لم نقل بما مر أولا عن الشيخ أبي حامد ومن تبعه؛ لأنا وإن قلنا ثم بامتناع الاقتداء نحن قائلون بإدراك الجمعة بما ذكر في مسألة القاضي والبغوي ويلزم من إدراكها هنا إدراكها في صورة السؤال كما تقرر ويؤيده أيضا أنه لو بان حدث الأربعين صحت للإمام على المعتمد عند الشيخين كما بينته في شرحي للإرشاد والعباب رادا على من نازع فيه وللمتطهر أن يأتم بالإمام. وتحصل له الجمعة خلفه تبعا له وإن فات العدد؛ لأن اعتقاد فواته لمعنى يختص بالإمام فبقيت له الجمعة. ويلزم من بقائها له بقاؤها لمن يقتدي به فإذا نواها المتطهر وحصلت له في هذه الصورة ففي صورة السؤال أولى كما هو ظاهر فتأمله فإن هذا كاف في الدلالة لما قلناه في صورة السؤال وإن قلنا بما مر من اختيار البغوي فنتج أنا إن قلنا بما مر عن الشيخ أبي حامد وموافقيه أو بما نقله البغوي فواضح وإن قلنا بمقابلهما فهذا الذي اعتمده الشيخان كاف في الدلالة لما قلناه ثم على فرض عدم إدراكها الوجه أنه لا يجوز له أن يقتدي بأحدهم وينوي الظهر؛ لأن فيه فعل الظهر قبل اليأس من الجمعة وهو لا يجوز ولا يأس هنا لما علمت أنه يلزم من بطلان صلاة واحد من الأربعين بطلان صلاة الكل أي: جمعتهم وبفرض أنهم أكثر من أربعين يحتمل بطلان صلاة الجميع فتستأنف الجمعة فلم يحصل اليأس منها؛ لأنه لا يحصل إلا بالسلام كما صرحوا به. ويؤيد ذلك أنهم استشكلوا ما مر في خليفة الثانية إذا لم يدرك الأولى بأن فيه فعل الظهر قبل فوات الجمعة وهو لا يجوز وغاية ما تمحلوا له أنه عذر بتقديم الإمام له واعترض بأنه يلزم عليه حرمة تقدمه بنفسه وعدم انعقاد ظهره وإطلاقهم يأباه وأجيب بأن التقدم مطلوب في الجملة فهذا كله صريح في أنا إذا لم نجوز للداخل الجمعة في صورة السؤال حرم عليه الاقتداء بأحدهم بنية الظهر فيلزمه أن يصبر حتى تفوت الجمعة ولا يمكن هنا أن يقال يقتدي بأحدهم بنية الجمعة كما قالوه فيمن دخل والإمام في التشهد؛ لأن الجمعة ثم يمكن إدراكها بتقدير تذكر الإمام ركنا فيأتي بركعة معه وهنا لا يمكن ذلك فكانت نية الجمعة عبثا والله تعالى أعلم بالصواب.
"وسئل" أعاد الله علينا من بركاته عما إذا كان في بلد أو قرية أربعون رجلا أو أكثر من ذلك وأرادوا إقامة جمعة ولكن ليس فيهم من يعلم شروط الصلاة وأركانها وما يتعلق بهما فهل تصح جمعتهم ويتم العدد بهم أو لا وهل للشافعي أن يصلي بهم ومعهم أو تركه أولى وهل عليه قضاء أو إثم أو لا؟ "فأجاب" بقوله حيث أتى العامي بالشروط والأركان

 

ج / 1 ص -337-        على وجهها الشرعي صحت صلاته وإن لم يعرف الركن من الشرط ولا الفرض من السنة لكن يشترط أن لا يقصد بفرض معين النفلية إذا عرف ذلك علم أن الأربعين المذكورين إذا كانوا كذلك تلزمهم الجمعة. ويصلي بهم ومعهم العالم وغيره ولا قضاء عليه ولا إثم وإن لم يكونوا كذلك بأن علم أنهم يتركون بعض الأركان أو الشروط أو يأتون بها لا على وجهها الشرعي أو أنهم يقصدون بفرض ركن أو شرط النفلية لم يصح منهم جمعة ولا غيرها فلا يجوز لأحد أن يصلي بهم ولا معهم بل يجب على من يعرف ذلك أن يعلمهم ما يصححون به صلاتهم ويلزمهم المبادرة بالتعلم وبذل أجرة لمن يعلمهم ومتى تركوا ذلك أثموا وفسقوا ولزمهم قضاء جميع الصلوات التي صلوها بعد إمكان التعلم والله أعلم.
"وسئل" رضي الله عنه هل تحرم الصلاة والإمام على المنبر في مكة وهل الطواف وسجدة التلاوة كالصلاة وهل يحرم استدامة الصلاة كابتدائها؟ "فأجاب" بقوله نعم تحرم الصلاة والإمام على المنبر في مكة كما هو واضح ولا يصح قياس هذا على الصلاة في الأوقات المكروهة لورود النص ثم ولأن العلة التي حرمت الصلاة لأجلها هنا من إشعار الصلاة بالإعراض عن الخطيب موجودة في مكة وغيرها وعلة النهي إما غير معقولة المعنى فلا يصح القياس أو معقولته فلا يصح أيضا؛ لأنها ليست موجودة هنا والعلة المذكورة هنا غير موجودة ثم فبطل القياس أيضا والظاهر أن الطواف ليس كالصلاة. وعليه تدل العلة المذكورة؛ لأن الكلام والاستماع لا ينافيه بخلاف الصلاة فالأشعار فيها أقوى وسجدة التلاوة يحتمل حرمتها إلحاقا لها بالصلاة كما ألحقوها بها في الأوقات المكروهة ويحتمل عدم حرمتها أخذا من قولهم أنها في معنى الصلاة وليست بصلاة والوجه الأول؛ لأنهم إذا ألحقوها بها ثم فهنا أولى؛ لأن هذا أضيق إذ لا فرق فيه بين ما لها سبب وغيرها حتى الفائتة الفورية فإنها تحرم هنا خلافا لمن اعتمد خلافه وظاهر تعبيرهم بتحريم ابتداء الصلاة عدم حرمة الاستدامة ويحتمل خلافه ثم رأيت شيخنا في شرح البهجة. قال وخرج بابتدائه دوامه نعم يحرم التطويل ا هـ. وإنما حرم التطويل؛ لأنه يجب في نحو التحية أن تكون مخففة بأن يقتصر على قدر الواجب.
"وسئل" فسح الله في مدته هل يحرم أكل نحو البصل يوم الجمعة بقصد إسقاطها؟ "فأجاب" بقوله نعم يحرم ذلك كما صرح به ابن العماد قياسا على ما لو سافر قبل الزوال وفارق ما لو سافر بقصد القصر أو الفطر؛ لأنه رخصة في السفر بشرطه وقد وجد بخلاف هذا فإن إسقاطه للجمعة والجماعة ليس من باب الرخص وإن عبر به جماعة بل أكله جناية أوجبت لفاعلها البعد عن المسجد لتأذي الملائكة والناس بريحه فالإسقاط ليس رفقا به بل بغيره هكذا فرق به ابن العماد ويمكن أن يفرق بأن القصر والفطر فيهما إسقاط صفة أو شيء إلى بدل وهنا فيه إسقاط لا إلى بدل بالكلية أما الجماعة فواضح وأما الجمعة فليس

 

ج / 1 ص -338-        الظهر بدلا عنها بخلافه ثم وأيضا فالقصر والفطر قد يكون كل منهما مطلوبا بل أفضل فلم يضر قصدهما بخلاف أكل نحو البصل فإنه غير مطلوب بل مكروه فضيق فيه ما لم يضيق في غيره وأيضا فذاك فيه قصد ترخص لكن بعد مقاساة مشقة السفر وشدائده فلم ينظر للقصر مع ذلك القصد وهنا فيه قصد إسقاط شيء بلا مشقة ألبتة بل لغرض النفس المحض فحرم ومثل أكل ذلك فيما ذكر تعاطي سائر الأسباب المسقطة للجمعة بنية من غير حاجة ولا ضرورة وحيث حرم عليه أكل ما ذكر ثم أمكنه إزالة ريحه وجبت خروجا عن المعصية.
"وسئل" المجذوم والأبرص وذو الروائح الكريهة هل تسقط عنه الجمعة والجماعة ويمنع من شهودهما؟ "فأجاب" بقوله نقل ابن العماد عن بعض مشايخه أن الأبخر ومن به صنان مستحكم كمن أكل نحو الثوم بل أفحش قال ومن رائحة ثيابه كريهة كذلك وعن المالكية أن من ابتلي بجذام أو برص وهو من سكان المدارس والرباطات أزعج وأخرج لحديث:
"فر من المجذوم فرارك من الأسد" وأتاه صلى الله عليه وسلم مجذوم ليبايعه فقال: "أمسك يدك فقد بايعتك" وورد أنه أكل معه. ولعله لبيان الجواز إذا علم ذلك فيمنع من به ذلك من شهود الجمعة والجماعة ومن الشرب من السقايات المسبلة ولا يمنع من الصلاة وحده خلف الصفوف وللغير منعه من الوقوف معه.
"مسألة" هل ورد قراءة الضحى وألم نشرح في الجمعة "الجواب" لم يحفظ في ذلك شيء ولعل مستند من يقرؤهما فيها قول المروزي لا أحب المداومة على شيء كأن يقرأ كل يوم جمعة بالجمعة ونحو ذلك لئلا يعتقد العامة وجوبه وحكوا عن ابن أبي هريرة نحوه كما في التوسط. وما قالاه مفهوم كلام بقية الأصحاب خلافه على أن هذا التوهم ينتفي بقراءة سبح وهل أتاك في جمعة والجمعة والمنافقين في أخرى.
"مسألة" ذهب من بلده لبلد أخرى فصلى معهم الجمعة ثم رجع فرأى أهل بلده لم يصلوها والعدد لا يكمل إلا به فهل يعيدها معهم وتنعقد به الجمعة "الجواب" لا خفاء أنه إذا أعادها جماعة تكون له نفلا وحينئذ فلا يتم به العدد فيمتنع فعل الجمعة إلا إذا تم العدد بغيره.
"مسألة" قرية بعضها بيوت وبعضها خيام لا يظعنون وبينهما شارع ضيق ولا يتم عدد الجمعة إلا بالفريقين فهل تلزمهم الجمعة "الجواب" الذي عبروا به أن أهل الخيام لو لازموا الصحراء أبدا فلا جمعة عليهم وهو يحتمل أن تكون الصحراء فيه قيدا فحينئذ تلزم هؤلاء المذكورين في السؤال ويحتمل خلافه فعليه لا تلزمهم؛ لأنهم على هيئة المسافرين وهذا هو الأقرب لكلامهم واستدلالهم فإنه صلى الله عليه وسلم لم يأمر الذين حول المدينة بالجمعة لذلك.

 

ج / 1 ص -339-        "وسئل" رضي الله عنه عن قرية بها كثيرون يقيمون بها الجمعة وشعائر الإسلام ثم صاروا ينتقلون صاروا إلى مزارعهم. حتى خلت القرية وعطلوها من الجمعة وغيرها فهل يحرم عليهم ويجب على الإمام ردهم إلى قريتهم؟ "فأجاب" بقوله نعم يحرم عليهم ذلك حيث لم يكن لهم عذر في الانتقال المذكور ويجب على الإمام أو نائبه وكل من قدر على ذلك ردهم إلى قريتهم.
"وسئل" رضي الله عنه عن قرية لها سور ولا يكمل العدد إلا بمن هو داخله وخارجه فهل تلزم الكل ويجوز إقامتها داخل السور وخارجه؟ "فأجاب" بقوله الذي دل عليه كلام النووي في صلاة المسافر وكلامهم في باب الجمعة أنهم في هذه الصورة لا يجوز لهم إقامتها خارج السور لجواز القصر بمجاوزته وإن كان بعده بنيان لكن سكنى بعضهم خارجه لا يمنع كونه من المقيمين المستوطنين فيتم العدد به إذا أقيمت داخله أما إذا كان خارجه أربعون فأكثر وداخله كذلك فللخارجين عنه حيث عسر اجتماعهم في مكان داخله؛ لأنه محل إقامتهم وإن كان بالنسبة للداخلين محل سفر والله أعلم بالصواب.
"سئل" رضي الله عنه بما صورته ما تقول السادة العلماء رضي الله عنهم في خطيب خطب لصلاة الجمعة وأتى بكل الأركان إلا أنه صلى على المضمر على النبي صلى الله عليه وسلم جريا على قاعدة الخطباء كالإمام ابن نباتة وغيره فهل تصح الخطبة والصلاة أم لا أفتونا مأجورين مثابين لا عدمكم المسلمون؟ "فأجاب" سيدنا ومولانا الإمام علم الأئمة الأعلام ومصباح الظلام شهاب الدين أحمد ابن القاضي أبي القاسم بن محمد بن عبد الله بن عمر الناشري رحمهم الله تعالى ونفع بهم وأعاد علينا من بركاتهم بما صورته الحمد لله الموفق للصواب اعلم أن الخطب قد صنف فيها جماعة من العلماء علماء الإسلام وفحولهم ممن لا يجهل الواجبات كالإمام ابن نباتة والإمام ابن دقيق العيد وغيرهما من الأئمة المجتهدين قديما وحديثا ولم يكن في أكثر خطبهم إلا الصلاة بالضمير وخطبوا بذلك. وخطب بها غيرهم من العلماء وصلى معهم كل موجود في كل قطر من العلماء المعتبرين العارفين بالله وبأحكامه في كل وقت وزمان ولم ينقل أن أحدا من العلماء المعتبرين أنكر عليهم ذلك ولا قال ببطلان الخطبة وبطلان الصلاة بعدها ولو كان ذلك باطلا لوجب على العلماء إنكاره والرد على قائله وفاعله ولم يسعهم السكوت على ذلك إذ هم حجة الأئمة في أرضه. وهم ورثة الأنبياء ونجوم للاهتداء وأئمة للاقتداء ولا يجتمعون على ضلالة ولا تأخذهم في الله لومة لائم ولو رأوا الصلاة على المظهر في الخطبة واجبا لما جاز لهم العمل بخلاف الواجب ولما جاز لهم المتابعة كغيرهم على ذلك وهم برآء من ذلك ولو قيل بذلك لم تصح صلاة أحد من المسلمين ممن يخطب بهذه الخطب من ذلك الزمان إلى هذا الزمان ولم يقل بذلك أحد من علماء الإسلام. واعلم أنه لم يظهر هذا الاختلاف في هذه المسألة إلا في

 

ج / 1 ص -340-        هذا القرن بعد العشرين والثلاثين بسبب سؤال أجاب عنه بعض العلماء المالكية المتعلقين بعلم الأصول أجاب عليه بأنه لا تجوز الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في الخطبة إلا على المظهر كالتشهد. واحتج بحجج كلها لا تصح أن تكون حجة له فيما احتج به عليه فلما وقف علماء الفن على ذلك تعلق أكثرهم وعملوا به من غير نظر منهم في تحقيق المسألتين ولا فيما يقتضي الفرق بينهما بل قلدوا المخالف لمذهبهم إذ المالكية لا يوجبون الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد ويعترضون على الإمام الشافعي رضي الله عنه في إيجابه الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد فكيف يقلدونه فيما يقتضي الطعن في مذهبهم والرد على علمائهم ولم يبحثوا عن حجة أهل مذهبهم التي تقتضي الرد على المخالف والانتصار لمذهبهم والذب عن الطعن في علمائهم فلما سكت علماء اليمن على ذلك وعمل أكثرهم بمقتضى الفتوى المذكورة ظن كثير من الطلبة والعوام وجوب ذلك على من يخطب بخطب العلماء المتقدمين وأشاعوا في الناس أنه يجب عليهم إعادة هذه الصلاة ظهرا وهذا جهل قبيح ومنكر صريح إذ في ذلك إنكار على كثير من المجتهدين من علماء الإسلام وطعن في أقوالهم وإبطال تصديقهم فلما ورد السؤال عن ذلك أوجب البحث والفحص عما يكون به حجة أهل المذهب وما يكون به الذب عن الطعن فيهم فأقول والله الموفق للصواب: اعلم أن المتعلقين بالقول بوجوب الصلاة على المظهر في الخطب تعلقوا بأمرين أحدهما القياس على التشهد كما قاله صاحب الفتوى المذكورة. والأمر الثاني أنهم تعلقوا بقول العلماء في كلامهم على أركان الخطبة فقالوا منها الحمد لله ويتعين لفظه ومنها الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وأنه لا يجوز إبدال لفظ الحمد بغيره مثل الشكر والثناء فلا يجوز أن يقول أشكر الله أو أثني على الله بدل الحمد لله ولا يجوز إبدال لفظ الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بلفظ غير لفظ الصلاة مثل الرحمة والمغفرة. ولا يجوز اللهم ارحم محمدا ولا اللهم اغفر لمحمد أو اللهم اغفر له أو اللهم ارحمه إن كان قد مر له ذكر فلا يجوز ذلك بدل لفظ الصلاة أما تعلقهم بتعين اللفظ الوارد في التشهد في الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم على المظهر فالجواب عنه من وجهين أحدهما أن الصلاة على المظهر في التشهد ورد الأمر به في الحديث وهو مخصوص بالصلاة كما دل عليه سؤال السائل للنبي صلى الله عليه وسلم عن كيفية الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال يا رسول الله أما السلام عليك فقد عرفناه فكيف نصلي عليك إذا نحن صلينا عليك في صلاتنا؟ قال: "قولوا اللهم صل على محمد" إلى آخر الحديث فاختص بالصلاة إذ لا عموم وأمره صلى الله عليه وسلم يقتضي الوجوب نص عليه الإمام الشافعي رضي الله عنه ونقله عنه علماء المذهب من غير معارضة له في ذلك مع كونهم من أهل الاجتهاد وأما الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في الخطب فأكثر ما روي في الخطب التي هي المنسوبة إلى فحول العلماء الصلاة بالمضمر من غير إنكار من غيرهم من العلماء وعمل أكثر الأمصار في جميع الأقطار على ذلك والوجه الثاني يقتضي الفرق بين التشهد

 

ج / 1 ص -341-        والخطبة وذلك؛ لأن العلماء اتفقوا على أن آخر التشهد أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله ثم ذكروا وجوب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم مع التشهد بعد التشهد وذكروا أقله المجزئ منه وكان الصلاة على الظاهر أولى منه؛ لأنه كلام مبتدأ غير التشهد ولو أتى بالمضمر لم يصح؛ لأنه عائد إلى غير مذكور؛ لأن التشهد قد تم وهذا كلام مبتدأ غيره بخلاف الخطبة؛ لأنه كلام واحد فجازت الصلاة على المضمر عائدا إلى المظهر قبله فهذا فرق بين الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في الخطبة. فإذا علمت ذلك أنه أي لفظ أتى به الخطيب من ألفاظ الحمد والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم أجزأه وعلى هذا مضى أهل الأعصار في جميع الأقطار وهو الموجود في جميع خطب أهل الأمصار من غير اعتراض عليهم من العلماء المعتبرين ولا إنكار ونقول إن لفظ الحمد يتعين ولا نقول إن للحمد لفظا متعينا من ألفاظ الحمد مخصوصا لا يجوز غيره بل أي لفظ من ألفاظ الحمد أتى به أجزأه سواء كان اسما أو فعلا ماضيا أو مستقبلا وإنما أرادوا بالتعيين الاحتراز عن غير لفظ الحمد كالشكر والثناء كما بيناه أولا. وكذلك نقول لفظ الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم يتعين. ولا نقول إن للصلاة لفظا متعينا من ألفاظ الصلاة مخصوصا لا يجوز غيره بل المراد بتعين الصلاة الاحتراز عن لفظ غير لفظ الصلاة كالرحمة والمغفرة كما بيناه أولا فعلى هذا أي لفظ أتى به من ألفاظ الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم أجزأه سواء كان مظهرا أو مضمرا إذا تقدم ذكره صلى الله عليه وسلم على المضمر ولأنه إذا صحت الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم بالمظهر الذي يحتمل أن المراد به هو فكيف لا تصح الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم بالمضمر الذي هو أعرف المعارف ولا يحتمل أن يراد به غيره. وتخصيصه صلى الله عليه وسلم بالصلاة عليه بلفظ لا يحتمل غيره ينبغي أن يكون ذلك أولى بالصحة ومن الدليل على صحة جواز الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بالمضمر وكونه الأولى قول الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] وقال عز من قائل عليم: {صَلُّوا عَلَيْهِ } ولم يقل صلوا على محمد ولا على النبي وكان اتباع القرآن الذي نزل بأفصح لسان وأبلغ بيان أولى ومن الدليل على أن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بالمضمر أولى عند تقدم ذكره صلى الله عليه وسلم صلاة المحدثين عليه عند رواية الحديث والمستمعين للحديث. وكذلك جميع رواة الحديث لا تكون صلاتهم جميعهم في جميع ذلك إلا على مضمر عائد على مظهر على أن ذلك أفصح وأولى مع جواز الجميع ا هـ. والله سبحانه أعلم بالصواب. وأجاب سيدنا ومولانا وقدوتنا إلى الله تعالى برهان الدين أوحد العلماء العاملين وبقية الأئمة المجتهدين إبراهيم بن أبي القاسم مطير متع الله بحياته المسلمين وقد سئل عن صحة الجواب وتقريره من يعتمد قوله ويجوز تقليده؟ فأجاب بما صورته بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله وصحبه أنصار دين الله وبعد فقد ورد سؤال على شيخ شيوخنا الإمام العلامة حسين بن عبد الرحمن الأهذلي في خطبة الجمعة هل يشترط فيها قول اللهم.

 

ج / 1 ص -342-        صل على محمد ونحو ذلك أعني إظهار الاسم أو يكفي الإتيان بالضمير كما هو وضع الخطب المصنفات للجمع وغيرها فقال: الجواب أنه إن خطب بخطبة مستوفيا طرفيها سبق فيها ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أولا وذكر نعته أو نحو ذلك كفى الصلاة عليه بالضمير لعوده على مظهر وهو أبلغ وأحرى حينئذ من الإظهار إذ الإظهار يوهم أنه غيره بخلاف الإضمار فإنه صريح في عوده على المذكور. وهذا بخلاف ما قالوه في التشهد فإن المرجح عند أكثرهم اشتراط الإظهار اتباعا للفظ الحديث وكان القياس يقتضي الاكتفاء بالضمير أيضا في التشهد وهو وجه مشهور رجحه ابن الرفعة في الكفاية. وأما إذا خطب بخطبة مختصرة لم يسبق فيها ذكر النبي صلى الله عليه وسلم فأقل الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم أن يأتي بها مع الإظهار للاسم وما توهمه بعض المتأخرين كالبرماوي وغيره من اشتراط الإظهار فهو وهم وغلو في الجري على الظاهر كعادة الظاهرية وفيه مخالفة لما عليه السلف بمجرد مفهوم بعيد شاذ لو قيل به لزم منه إبطال ما لا يحصى من الجمع في أعصار وقرون ماضية ومستقبلة وذلك من المفهومات البوارد التي لا يريدها المصنفون ويسترسل بها في التعلق بها بعض المتأخرين ا هـ. المقصود من جوابه رحمه الله ونفع به وبكلامه يدل على فحولته. واعلم أن الإمام الشافعي رضي الله عنه وأصحابه من المتقدمين المجتهدين الموافقين له في الاجتهاد والمتأخرين من التابعين بالتقليد بحكم الاعتقاد المشهورين بالتصانيف المعتمدة في أكثر البلاد فيما غبر من الدهور والآحاد لم يشترطوا التصريح باسمه صلى الله عليه وسلم ظاهرا بل أطلقوا أنه يتعين الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم واستدلوا بما لا خفاء فيه قال في التفقيه وقد تعجب بعض المتأخرين من أصحابنا من كون الشافعي رضي الله عنه أوجب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في الخطبة والخطبة التي نقلت عنه صلى الله عليه وسلم ليس فيها صلاة عليه. والآية وإن دلت على الصلاة تعين حملها على الاستحباب لترك النبي صلى الله عليه وسلم لها فالمنقول الأول ا هـ. إذا تقرر ذلك فالأئمة رحمهم الله تعالى ذكروا أركان الخطبة مجملة وقالوا يشترط لفظ الحمد ولفظ الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وذلك شامل للظاهر والمضمر. والمراد أن يعلم أن الخطيب صلى عليه صلى الله عليه وسلم؛ لأن لفظ الآية صلوا عليه وكذلك الأحاديث إذ الغرض أن لا تخلو الخطبة من الصلاة وذلك حاصل بالظاهر والمضمر ومن صرح من العلماء باشتراط الإتيان بالاسم الشريف ظاهرا محمول على ما إذا لم يسبق له ذكر إذ يشترط ما يدل على سبق ذكره فإذا لم يسبق له ذكر وقال الخطيب صلى الله عليه وسلم لم يحصل المقصود فتعين حمل الإطلاق على ذلك نعم ذكر القاضي زكريا رحمه الله تعالى في شرح البهجة ما نصه ولا يكفي صلى الله عليه وسلم نعم إن تقدم اسمه على الضمير ففيه نظر والأوجه أنه لا يكفي أيضا؛ لأنه لم يصرح باسمه في الصلاة وبه أفتيت هذا لفظه في شرح البهجة وفي شرح الروض يتعين لفظ الصلاة عليه كاللهم صل على محمد فخرج رحم الله محمدا صلى الله عليه وسلم وفي شرح المنهج نحو ذلك والظاهر أنه منه رحمه الله على سبيل البحث وإن ذكره بصيغة الجزم تقليد البعض المتأخرين. وقد ذكره ابن أبي شريف في

 

ج / 1 ص -343-        شرح الإرشاد ولفظه وهل يكفي صلى الله عليه وسلم بلفظ بدل الظاهر المتجه عدم الاكتفاء كما لا يكفي في التشهد ا هـ. فنقول النص في المسألة غير موجود والأدلة محتملة بطرقها التأويل ووجدنا الإجماع السكوتي من العلماء في الأمصار مع تطاول الأعصار على تقرير الخطيب على الاكتفاء بالضمير عند سبق الذكر وقربه فإن قيل الإتيان بالظاهر في محل الإضمار يدل على قوة الاعتناء قلنا ذلك لا يقتضي الوجوب مع ما فيه من الاستهجان عند فوت الذكر المنافي للفصاحة المطلوبة. في الخطبة وأما القياس على التشهد فقد يختلف بأن الخطبة ليست كالتشهد إذ التشهد في عبادة يبطلها الكلام ولا كذلك الخطبة وهو جزء من الصلاة بخلافها. فظهر بما تقرر صحة جواب الإمام الأهذلي رحمه الله والله سبحانه وتعالى أعلم ما قولكم رضي الله عنكم ونفع بعلومكم في هذه الأجوبة هل هي صحيحة فيجوز العمل بمقتضاها أم مهجورة فتلغى بينوا ذلك لنا بيانا شافيا وسوقوا فيما أوقع الإشكال واللبس دليلا كافيا أثابكم الله الجنة فمرادنا الإفادة لا التعصب كما هو لأهل الوقت عادة جعلنا الله وإياكم ممن يستمع القول فيتبعون أحسنه وأثابكم الله الجنة بمنه وكرمه؟ فأجاب الشيخ الإمام العالم العلامة رضي الله عنه سراج الدين عمر بن المقبول الأسدي قاضي قضاة أبي عريش باليمن بما صورته: الحمد لله وعليه نتوكل وبه نستعين وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم الجواب والله الهادي للصواب أن الأجوبة المذكورة صحيحة منقحة صريحة وأن جواب الفقيه العلامة الأجل البحر الحبر الفهامة غرة وجه الزمن وأعلم علماء اليمن برهان الدين إبراهيم بن أبي القاسم مطير مبني على الصحة والتحقيق جامع لأنواع التحرير والتدقيق. ولقد أجاب في المسألة وأجاد وأصاب الغرض وأفاد بجواب طابق معنى السؤال وجلى بصبح فهمه ليل الإشكال ودفع بيد علمه عن وجه الحق جلباب الباطل وأزال فلا مخالفة في تصحيح مقالته ولا رد لصريح عبارته؛ لأنه جاء في جوابه بما لم ينسج على منواله, ولا جرت أقلام الفقهاء المعتبرين بمثاله حيث جمع جوابه بين كلام الموافق والمخالف فلله دره من محقق عارف فصدر الكلام بقول الحسين الأهذلي ثم عقبه بقول زكريا وذيل فحل بذلك عرى الالتباس وأزال الإشكال والوسواس فالحاصل عندنا صحة الأجوبة وأمضاها وجواز العمل بمقتضاها فلا مخالفة لذلك ولا مزيد على ما هنالك والحكم فيما إذا اتفق أهل عصر من الفقهاء المجتهدين وقال به أئمة العلماء العاملين إنه يصير حجة وإجماعا وعليه التعويل ولا يسع من جاء بعدهم الاجتهاد في إبطال ذلك بحكم أو تفصيل كما هو المقرر والمهذب في كتب الأصحاب وأصول المذهب. وما جزم به برهان الدين تبعا للناشري والأهذلي في أثناء الجواب يفصح عن تحقيق البحث وإصابة الصواب والدليل على ذلك والمؤيد لما هنالك ما ذكره القاضي زكريا رحمه الله في باب القضاء من شرحه للروض ما لفظه فإن اختلف المفتيان جوابا وصفة ولا نص من كتاب أو سنة مع أحدهما قدم الأعلم وكذا إذا اعتقد أحدهما أعلم أو أورع كما يقدم أرجح الدليلين

 

ج / 1 ص -344-        وأوثق الروايتين ويقدم الأعلم على الأورع؛ لأن تعلق الفتوى بالعلم أشد من تعلقها بالورع. فلو كان ثم نص قدم من معه النص وكالنص الإجماع ا هـ. لفظه ههنا ثم ذكر في موضع آخر بعد هذا بنحو ورقة ما لفظه ولو تعارض جزم مصنفين فكتعارض الوجهين فيرجع في ذلك إلى البحث كما مر وكذا يرجح بالكثرة فلو جزم مصنفان بشيء وثالث مساو لأحدهما بخلافه رجحناهما عليه ا هـ. لفظه وقد اتضح ذلك كل الاتضاح وظهر برهان الحق ولاح. وهذا ما تيسر لنا من الجواب والله الموفق للصواب وفوق كل ذي علم عليم ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وهو حسبنا ونعم الوكيل قال ذلك وكتبه الفقير إلى الله. القدير عمر بن المقبول بن عمر الأسدي عامله الله بلطفه الخفي وغفر له ولوالديه ولجميع المسلمين والحمد لله وحده وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم ا هـ والله أعلم. وأجاب الشيخ العلامة البحر الحبر الفهامة الفقيه الهادي بن حسن الصيرفي بما صورته الحمد لله وحده وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم الأجوبة صحيحة يجوز العمل بمقتضاها والحال ما ذكر والله سبحانه وتعالى أعلم قال ذلك وكتبه الفقير إلى الله الهادي بن حسن الصيرفي لطف الله به وبوالديه وبجميع المسلمين؟ "فأجاب" سيدنا وشيخنا العلامة العبد الفقير إلى الله تعالى شهاب الدين أحمد بن حجر الهيتمي متع الله بحياته ونفع بعلومه في الدنيا والآخرة بما صورته الحمد لله حمد معترف بتقصيره مغترف من بحار مدده وتيسيره والصلاة والسلام على من أظهر الدين بعد خفائه وعلى آله وصحبه كمال عليائه ما دامت شريعته الغراء مشيدة الأركان بأئمة التحقيق وفرسان البرهان وبعد فقد ورد علي هذا السؤال من أهل اليمن ذوي الفصاحة واللسن طلبا لحل إشكاله وإزالة غيهب جداله فقصدت إلى ذلك مع الاعتراف بأني لست هنالك. وإنما ترآب التطفل على بساط الكرم أنتج مزيد الإنعام بجلائل النعم على أن هذا السؤال لما اشتمل عليه من الرد والتزييف حقيق أن يردف بالترصيف بتصنيف لكن الاشتغال بسوء المقترف هو المانع لي في الرقي إلى هذه الغرف فأسأل المنان بفضله أن يجعلني من أهله إنه جواد كريم رءوف رحيم فأقول اعلم أن الذي دل عليه كلام أئمتنا صريحا وتلويحا أن الإتيان بالضمير في الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في الخطبة لا يكفي سواء تقدم له ذكر أم لا. وممن صرح بذلك الغزي وابن قاضي شهبة الكبير في شرحه على المنهاج ونكته على التنبيه حيث نقله وأقره وجزم به صاحب الأنوار وعبارته أقل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول اللهم صل على محمد أو صلى الله على محمد أو على رسوله وشروطها شروط التشهد وأن يذكر عليه السلام مظهرا لا مضمرا ففي الخطبة لو قرأ وأشهد أن محمدا رسول الله اللهم صل عليه أو صلى الله عليه لم يكف ا هـ. فهذا صريح في أنه لا يكفي الإتيان بالضمير في الخطبة وإن تقدم ما يرجع إليه كما أفاده صريح قوله فلو قرأ..إلخ الشامل للخطبة والصلاة. وجزمه بذلك مشعر بل ظاهر في أن ذلك غير بحث بل من جملة منقول المذهب صريحا أو اقتضاء ومما يؤيد

 

ج / 1 ص -345-        أنه من جملة ذلك قول الخوارزمي في كافيه وهو من أكابر أصحابنا أصحاب الوجوه فرائض الخطبة خمس التحميد وأقله أن يقول الحمد لله والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وأقلها أن يقول صلى الله على محمد فذكره أن هذه الصيغة أقل ما يتأدى به الواجب صريح أو كالصريح في أنه لا يكفي اللهم صل عليه ونحوه ويؤيده أيضا قول ابن النقيب في جامعه أخذا من عبارة المجموع وغيره الثاني الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم أو محمد أو رسول الله ا هـ. فأفهم التقسيم المفيد للحصر. والظاهر فيه أنه لا يكفي الإتيان بالضمير وإجزاء نحو الماحي والعاقب والحاشر علم من كلام غيره بل قضية هذه العبارة أنه لا يكفي صلى الله على رسوله ولما كانت عبارة أكثرهم مقتضية لذلك أيضا وكان المصحح عند الشيخين إجزاءه أبرز ذلك الأذرعي حيث قال في توسطه والصلاة على رسوله هل تجزي والظاهر أن كل ما أجزأ في التشهد يجزئ هنا وقال في قوته وكذا لو قال والصلاة على محمد أو النبي أو رسول الله كفى والظاهر أن كل ما كفى منها في التشهد يجزئ هنا ا هـ. فأفهم صريح كلامه أن الصلاة في الخطبة مقيسة على الصلاة بعد التشهد وهو ما صرح به الأصحاب كما يأتي وأن بحثه الإجزاء هنا قياسا على الإجزاء بالصلاة إنما هو فيما إذا أتى مع الضمير بلفظ رسول لخفة الإيهام بل عدمه حينئذ بخلاف ما لو لم يأت بذلك كأن قال عليه فإنه لا يجزئ قطعا وليس هو من محل البحث في شيء بل هو المنقول صريحا أو اقتضاء كما قدمته. ولعل شيخنا شيخ الإسلام زكريا سقى الله عهده إنما أتى في شرح البهجة بما توهم منه المجيب الثاني أنه بحث؛ لأنه لم ير كلام الأنوار ولا غيره مما ذكرته. وتبعه على ذلك الكمال بن أبي شريف وغيره على أن عبارته عند التحقيق لا تقتضي أن ذلك بحث بل أنه موافق لمن قال بذلك ومن ثم جزم به في غير شرح البهجة كشرح الروض وغيره إذا تقرر ذلك وعلمت أن عدم الإجزاء هو الحق والصواب الذي يرجع إليه فلتجر ذيل المقال على ثرى حجج هؤلاء المجيبين وتزييفها لئلا يغتر بها ضعيف العقل لما أكثروه من تنميقها بما لا يجدي عند التأمل واستحضار القواعد والأصول فنقول احتجاج المجيب الأول بأكثر ما في خطب ابن نباتة مزيف فإن ابن نباتة لم يكن من أئمة الفقه الذين يحتج بكلامهم. وأما ابن دقيق العيد فكان مالكيا ثم تشفع فيحتمل تصنيفه لما نقل عنه وهو مالكي على أنه ترقى إلى أن يقول بما ظهر له وإن لم يكن موافقا لأدلة مذهبه ولا قواعدها وقوله وخطب بها غيرهم من العلماء وصلى معه كل موجود في كل قطر..إلخ وقوله على هذا مضى أهل الأعصار في جميع الأقطار وغير ذلك من نحو هذا العموم الذي لا مستند له ألبتة ممنوع على أنه ناقض نفسه حيث ذكر بعد ذلك أن أكثر علماء اليمن على عدم إجزاء الضمير وأن ذلك إنما وقع في خطب الأكثر على أن هذا الأخير ممنوع أيضا؛ لأن مصر وإقليمها المشتمل من العلماء قديما وحديثا ما لم يشتمل عليه غيره من الأقاليم لا يوجد فيه من يذكر في خطبته الضمير إلا إن كان جاهلا ومع ذلك هو قليل وربما استغنى عنه أهل بلده أو محلته

 

ج / 1 ص -346-        حتى يمتنع من ذلك وبهذا تبين فساد جميع ما فرعه على ذلك مما يمجه السمع ويتنزه عنه سليم الطبع لا سيما قوله فلم يقل بذلك أحد من علماء الإسلام مع ما قدمته عن الأئمة. وقوله إن ذلك إنما حدث في هذا القرن..إلخ وما رتبه عليه من قوله وهذا جهل قبيح..إلخ مما لا ينبغي صدوره من عالم إلا بعد إيضاح سبيله ولم يوجد وقوله والجواب عن الأمرين ظاهر وذلك..إلخ يرد بما قدمته من أن الحجة في ذلك ليس هو هذا الذي زعمه بل التصريح به أو بما يدل عليه كما ذكرته أولا وقوله أحدهما أن الصلاة على المظهر في التشهد..إلخ لا يجدي شيئا؛ لأنا لم نقل إن عدم الإجزاء في الخطبة بطريق أن النص يدل عليه لشموله كما توهمه هذا المجيب فبنى عليه ما ذكره بطريق القياس أخذا من احتجاج الشافعي والأصحاب رضي الله عنهم. على وجوب الصلاة في الخطبة بالقياس على وجوبها في الصلاة ومن قول الأذرعي لا يبعد مجيء الخلاف المذكور في وجوب الصلاة على الآل في التشهد الأخير هنا ونحو هذه العبارة مما يدل على تساوي البابين كثيرا في كلامه وكلام غيره كما يعلم من تصفحه وقوله فأكثر ما روي..إلخ ممنوع كما يعلم مما تقرر. وفرقه بين التشهد والخطبة بما ذكره فيه من التهافت وعدم الجري على القواعد ما لا يخفى على من له أدنى مسكة من العلوم؛ لأن رجوع الضمير المذكور لما قبله من غير فصل ولا إيهام أمر صناعي وكون ما قبله ركن وهو ركن آخر أمر شرعي اعتباري لا تعلق له بذلك فحينئذ كيف يقال إن التشهد قد تم وإن هذا كلام مبتدأ..إلخ ومما يبطل ما زعمه قول النووي في المجموع عن الرافعي وفي وجه يكفي أن يقول اللهم صل عليه والكناية ترجع إلى قوله في التشهد وأشهد أن محمدا رسول الله قال وهذا نظر إلى المعنى ا هـ فأفهم بذلك أن المكتفي بالضمير إنما راعى صحة المعنى وأن المانع له إنما راعى الاتباع له فقط وإن كان المعنى صحيحا فبطل الفرق المذكور على أنا وإن سلمنا أنه صحيح فللخطبة أركان مختلفة أيضا فاشتمالها على تلك الأركان المختلفة. كاشتمال الصلاة على أركانها فيلزمه جريان ذلك بعينه فيها؛ لأنه إذا قال الحمد لله وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قوله صلى الله عليه وسلم ركنا مستقلا جاريا بعد تمام ركن الحمد فلا فارق حينئذ بينهما من هذه الحيثية بوجه وكان ينبغي لهذا المجيب أن يعرض عن هذا ويحتج بأن كلامهم صريح في الفرق بينهما وأنهم اغتفروا في الخطبة ما لم يغتفروه ثم حيث قالوا لا يجزئ في الصلاة صلى الله على أحمد بخلافه في الخطبة ولو قال والصلاة على محمد أجزأ هنا لا هناك؛ لأن باب الخطبة أوسع. فإن قلت فهذا حينئذ يشكل على ما سبق من عدم الإجزاء في الضمير قياسا على التشهد قلت لا يشكل؛ لأن لفظ أحمد علم ولا اشتراك فيه وضعا بل هو فيه عرضي كما هو مقرر في محله بخلاف الضمير فإنه وإن كان أعرف من العلم من حيثية أخرى لكن رجوعه إلى المذكور قبله حتما غير وضعي لاحتمال عوده إلى غير مذكور احتمالا قريبا جائزا لغة فكان فيه من نوع الإيهام ما ليس في دلالة أحمد على مسماه فمن ثم

 

ج / 1 ص -347-        أجزأ أحمد هنا دون عليه ولا يلزم من القياس في فرع لاتضاح علته القياس في فرع آخر لم تتضح تلك العلة فيه إيضاحها في ذاك وإن كان بينهما نوع مشابهة. وبهذا التقرير يظهر لك اندفاع قوله ولأنه إذا صحت الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم بالمظهر الذي يحتمل أن المراد به هو فكيف لا تصح بالمضمر الذي هو أعرف المعارف ولا يحتمل أن يراد به غيره ويظهر لك أيضا أنه خفي عليه معنى قولهم المضمر أعرف المعارف وتوهم منه غير المراد وبنى عليه ما ذكره وقوله بل أي لفظ من ألفاظ الحمد أتى أجزأه..إلخ مبني على كلام للجيلي وغيره ورده الأذرعي والزركشي وغيرهما بأنه غريب وهو كذلك كما يدل عليه كلام المجموع. وقوله ولا نقول إن للحمد لفظ متعين..إلخ مبني على لغة غير مشهورة وهي إهمال. وقوله ومن الدليل على جواز الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم بالمضمر وكونه أولى قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} [الأحزاب: 56]..إلخ إن أراد الاحتجاج به للجواز المطلق فليس الكلام فيه أو للجواز في الخطبة قيل له سارت مشرقة وسرت مغربا شتان بين مشرق ومغرب وإذن قد انتهى الكلام على الجواب الأول المعلوم منه. رد بقية الأجوبة لمن تأمل ذلك لكن من حق هذا المقام أن يزاد في إيضاحه وبسطه فنقول: قول الثاني نقلا عمن ذكره وهو أبلغ وأجزل..إلخ إذا أراد به إطلاق الأبلغية فممنوع؛ لأن من قواعدهم المقررة أن الظاهر قد يؤتى به بدلا عن الضمير لزيادة التقرير والتمكين ومنه قوله تعالى: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء: 54] وقد يؤتى به لتعظيم المحدث عنه ومنه قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [العنكبوت:19] وقد يؤتى به للدلالة على أن ما أسند إليه هو اللائق به. ومنه قوله تعالى الآية الثانية أيضا وقوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ} [النساء: 64] ولم يقل واستغفرت لهم؛ لأن لفظ الرسول ينبئ عن قبول شفاعته وإذا أراد به خصوصية ذلك لبعض الأمكنة فمسلم لكن لا نسلم أن ما نحن فيه من ذلك بل هو من المواضع التي يكون الإتيان فيها لفظا بالظاهر أجزل؛ لأن البلاغة في الخطبة مطلوبة شرعا والبلاغة فيه أبلغ؛ لأن كلا من القواعد الثلاثة التي ذكرتها تتأتى فيه؛ لأن قول الخطيب اللهم صل على محمد أو النبي أو الحاشر أو الماحي أو نحو ذلك. ولو بعد سبق ذكره يدل على التقرير والتمكين ويدل على تعظيمه صلى الله عليه وسلم حيث لم يكتف في التسوية بمزيد شرفه إلا باسمه الظاهر دون ضمير يرجع لما سبق ويدل على أن سبب طلب الصلاة الواجبة عليه في هذا المحل ما دل عليه اسمه أو وصفه الشريف من زيادة تحليه من محامد الهبة أو الإنباء أو الرسالة عن الله أو نحو ذلك وبهذا يظهر لك أتم ظهور ويتضح لك أكمل إيضاح علة وجوبهم الإظهار في هذا المحل وعدم إجزاء الضمير إذ عوده على المذكور قبله هو الأصل ولا يتيقظ السامع عند سماعه لنكتة فيها مزيد تشريف له بخلاف ما إذا عدل عن الأصل إلى غيره وهو ذكر المظهر فإن السامع حينئذ يتنبه إلى نكتة العدول فيستفيدها ففيه

 

ج / 1 ص -348-        من رعاية ما يدل على شرفه بكل طريق أمكن ما لا يخفى. وقوله وكان القياس..إلخ ممنوع لإيضاح الفارق كما مر وقوله وما توهمه بعض المتأخرين..إلخ هو الواهم لما مر من أنه غير بحث وقوله وغلو في الجمود على الظاهر هو الجمود المحض المنبئ عن عدم الاطلاع على الفوائد والقواعد التي أشرت إليها وقوله وفيه مخالفة لما عليه السلف مجرد دعوى كما وقع لمن قبله كما قدمت رده. وقوله وذلك من المفهومات البوارد هو البارد الناشئ عن برد القطنة وجمود القريحة وقول الثاني وكلامه يدل على فحولته مجرد تقليد من غير مستند وقوله واعلم أن الشافعي رضي الله عنه..إلخ هو من التهويل بل الذي ذكره الأول مما لا طائل تحته ولا يقبله إلا غبي خفيت عليه المآخذ والقواعد وما نقله عن التفقيه من التعجب من إيجاب الشافعي الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في الخطبة ممنوع وقد بين أصحابنا دليل ذلك من القياس وفعل السلف والخلف. وقوله وذلك شامل للظاهر والمضمر إلخ. ناشئ عن النظر لبعض كلامهم مع الغفلة عن باقيه وعن مداركه وقوله: لأن لفظ الآية: {صَلُّوا عَلَيْهِ} هو نظير ما وقع للمجيب الأول مما مر فيه أنه لا مطابقة بينه وبين المدلول كوجه من وجوه الاستدلالات كما لا يخفى وقوله إذ الغرض..إلخ ممنوع لما علمت من الفرق الواضح بينهما وقوله محمول..إلخ لا دليل لهذا الحمل بل لا يتصور توهم نزاع في ذلك إلا عند سبق ما يرجع إليه الضمير وإلا فلا وجه للنزاع حينئذ بل هو مكابرة وعناد وعبارة شرح الروض التي نقلها عنه اختصرها وأجحف بما قد يؤدي لإيهام هي سالمة عنه وقوله والظاهر..إلخ ممنوع كما مر وقوله ووجدنا الإجماع السكوتي مبني على ما سبق له كالأول من أن كل العلماء في كل الأمصار والأعصار اكتفوا بالضمير وهو باطل كما مر وقوله مع ما فيه من الاستهجان..إلخ هو المستهجن لمنافاته لقواعد البلغاء التي أشرت إليها فيما مر وفرقه بين الخطبة والتشهد بما ذكره لو سكت عليه لكان أولى لاقتضائه أن الضمير لا يجزئ في الخطبة بالأولى؛ لأنه مع ما فيه من الاختصار وحذف ما يمكن أن يستغنى عنه إذا لم يجز في الصلاة المطلوب فيها التحرز عن كلام الناس ما أمكن فلا يجزئ في الخطبة التي لا يطلب فيها التحرز المذكور بالأولى. وأما ما ذكره المجيب الثالث من اعتماد الأجوبة فممنوع وما دل عليه كلامهم في المسألة الأخرى التي سئل عنها أيضا فمقبول ولا يتوهم أن ما نحن فيه من ذلك إذ الإجماع على جواز الضمير بل ولا خلاف في منعه لأن المخالف إنما يعتد بخلافه إذا كان مجتهدا ولو في الفتوى ولم يوجد بل وجدنا مجتهدين بها مصرين بالمنع. فوجب علينا اتباعهم في ذلك لعدم بلوغنا لما نالوه من علي المسالك والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب والحمد لله وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم وحسبنا الله ونعم الوكيل نعم المولى ونعم النصير.
"وسئل" فسح الله في مدته عن جمعة تقام في بلدة بشروطها فقصر حتى فاتته ثم سمع النداء من بلد أخرى فهل يجب عليه السعي إليه أو لا؟ "فأجاب" بقوله قضية كلامهم أن

 

ج / 1 ص -349-        السعي إنما يجب بسماع النداء من بلد أخرى على من لا جمعة في بلده وهو محتمل ويحتمل خلافه لأن بلده حينئذ لا جمعة فيها سيما إذا كان مقصرا والأول أقرب لإطلاقهم والثاني أقرب للمعنى وكون جمعة بلده هي الأصلية في حقه فإذا فاتت وجب عليه الظهر أداء لا قضاء بأمر جديد لا بدل عن الجمعة لا يقتضي ترجيح واحد من الاحتمالين لكن تعرض بعض المتأخرين في هذه الصورة للصحة إذا خرج وصلاها مع أهل البلد الأخرى دون الوجوب قد يومئ إلى ترجيح الأول.
"وسئل" رضي الله عنه هل يكره السفر ليلة الجمعة؟ "فأجاب" نفع الله بعلومه بقوله مقتضى قول الغزالي في الخلاصة من سافر ليلتها دعا عليه ملكاه الكراهة. وهو متجه إن قصد بذلك الفرار من الجمعة قياسا على بيع النصاب الزكوي قبل الحول إلا أن يفرق بأن الحول ثم الذي هو سبب للوجوب انعقد في حقه بخلافه هنا وكأن هذا هو مدرك قول بعضهم لم أر لأحد من الأصحاب ما يقتضي الكراهة.
"وسئل" أعاد الله علينا من بركاته بما صورته تقدم إحرام أربعين بصفة الكمال على إحرام من ليس كذلك كغير المستوطن هل هو شرط؟ "فأجاب" بقوله ذكر القاضي والبغوي أنه شرط وتبعهما بعض المتأخرين وفيه نظر والموافق لإطلاقهم خلافه ومن ثم ضعف ما ذكره جماعة متأخرون. وعليه فينبغي التأخر خروجا من الخلاف ولا تفوته بذلك فضيلة التحرم فيما يظهر لأنه تأخر لعذر.
"وسئل" رضي الله عنه عما صورته صح أن ساعة الإجابة ما بين أن يجلس الخطيب إلى أن تنقضي الصلاة فهل هذا في كل خطيب أو لا فإن أوقات الخطب تختلف فيلزم عليه تعدد ساعة الإجابة؟ "فأجاب" بقوله لم يزل في نفسي منذ سنين حتى رأيت الناشري نقل عن بعضهم أنه قال يلزم على ذلك أن تكون ساعة الإجابة في جماعة غيرها في حق آخرين وهو غلط ظاهر وسكت عليه وفيه نظر ومن ثم قال بعض المتأخرين ساعة الإجابة في حق كل خطيب وسامعيه ما بين أن يجلس إلى أن تنقضي الصلاة كما صح في الحديث فلا دخل للعقل في ذلك بعد صحة النقل فيه.
"وسئل" فسح الله في مدته عمن تذكر فائتة وقت الخطبة هل يصليها ويترك سماع الخطبة أو لا؟ "فأجاب" بقوله لا يصلي الفائتة التي تذكرها وقت الخطبة.
"وسئل" عن أهل قرية يصلون الجمعة في مسجد منفصل عنها نحو أربعمائة ذراع والحال أنهم يصلون الجمعة فيه نحو أربعين سنة وأن بالقرية المذكورة مسجدا لطيفا وقدامه رحاب فهل لأهل القرية المذكورة أن يصلوا فيه أو في المسجد المنفصل عنها؟ "فأجاب" بقوله إن كان المسجد المنفصل معدا من حريم البلد بأن لم يخرج عنه كان كالذي بين عمرانها فلأهل البلد إقامة الجمعة في أحدهما وإن كان بعيدا عنها فإن جاوز حريمها

 

ج / 1 ص -350-        كالمذكور في السؤال فإن الغالب أن حريم البلد لا يبلغ أربعمائة ذراع لم يجز إقامة الجمعة فيه سواء كان متصلا بها ثم خرب ما حوله أم لا خلافا لبعض المتأخرين.
"وسئل" أعاد الله علينا من بركاته لو اتصلت قريتان فهل يجوز تعدد الجمعة فيهما؟ "فأجاب" بقوله الذي يظهر أنهم حيث عدوهما كالقرية الواحدة بالنسبة إلى مجاوزة عمرانهما في السفر امتنع تعددها وإلا جاز ويدل لذلك قولهم في توجيه تعدد الجمعة في بغداد أنها كانت قرى ثم اتصلت ولا فرق حيث اتصلتا الاتصال الذي ذكروه بين أن يتميز كل منهما باسم أو لا ولا بين أن يحجز بين بعض جوانبهما نهر أو لا.
"وسئل" نفع الله به ذكروا أن أهل البلد الذين لا يمكنهم إقامة الجمعة ببلدهم إذا سمعوا النداء تلزمهم الجمعة فإن كانت في وهدة أو قلة جبل قدرت معتدلة فإن سمعت لزمتهم الجمعة وإلا فلا هل يشمل ذلك ما لو كانت الوهدة بينها وبين وجه الأرض يومان أو أكثر أو لا؟ "فأجاب" بقوله ظاهر كلامهم يشمل ذلك ويدل له قولهم أيضا يجب على بعيد الدار السعي قبل الوقت إذ قولهم قبل الوقت يشمل ما قبل الفجر وقولهم يجب السعي على من سمع النداء إذ ظاهره أنه لو كان أحدهم بطيء المشي ولا يمكنه أن يصل لبلد الجمعة إلا إن سافر من يوم الخميس وجب عليه السعي من حينئذ. ولا يستبعد ذلك لأن الصورة أنه انتفت عنه سائر أعذار الجمعة والجماعة ومن هذا يظهر أن قولهم سائر أعذار الجماعة عذر للجمعة إلا نحو الريح العاصفة بالليل محمول على غير هذه الصورة فإنه حيث سلم وجوب السعي ليلا ينبغي بل يتعين أن تكون الريح العاصفة بالليل عذرا في حقه ثم الظاهر أن تلك القرية التي تحت الأرض إن كانت في سرب نازل على الاستواء اعتبرناها على رأسه أو مع انحراف اعتبرناها على وجه الأرض المسامت لها لا على رأس السرب.
"وسئل" رضي الله عنه بما لفظه قالوا لا بد في إقامة الجمعة أن تكون في محل لا يجوز القصر فيه فهل إذا أقامها من دورهم خارج السور وتكملوا بواحد ممن داره داخل السور تنعقد به أو لا؟ "فأجاب" بقوله مقتضى كلامهم أنها لا تنعقد به لأنه في محل يجوز له القصر فيه فهو بالنسبة إليه كالمسافر إذ ليس هو دار إقامته ولو دخل من داره خارج السور إلى داخله انعقدت به لأنه لا يجوز له القصر في هذا المحل على ما أفتيت به من أنه لو أراد السفر واحتاج إلى قصر داخل السور لكونه في مقصده لم يقصر حتى يخرج من السور ثم يجاوز العمران الذي وراءه لأن السور لا عبرة به في حقه وإنما العمران الذي خارجه كله بالنسبة إليه دار إقامته.
"وسئل" رضي الله عنه بما صورته قبض الخطيب حرف المنبر المعوج ونحوه فهل تبطل خطبته؟ "فأجاب" بقوله إن وضع يده عليه من غير قبض لم يؤثر كما لو جعلها على حبل

 

ج / 1 ص -351-        متصل بكلب وإن وضعها مع قبض فتارة يكون صغيرا بحيث ينجر بجره فتبطل خطبته كما لو قبض حبلا متصلا بسفينة صغيرة فيها نجس وتارة يكون كبيرا بحيث لا ينجر بجره فلا يؤثر كالسفينة الكبيرة ولا فرق في النجاسة التي عليه بين ذرق الطيور وغيرها؛ لأن حمل ما فيه ذرقها لا يعفى عنه في الصلاة كما أفهمه كلام بعض المتأخرين تبعا لبعض المتقدمين وإن عفي عن الوقوف والصلاة عليه والفرق بينهما لائح لكن اعتمد بعض مشايخنا العفو عنه في الثوب والبدن والمكان وهو حسن لو ساعده عليه نقل.
"وسئل" فسح الله في مدته بما صورته سلم الإمام في الوقت والمأمومون خارجه فهل تصح جمعته أو لا وما الفرق بينه وبين ما لو بانوا محدثين؟ "فأجاب" بقوله مقتضى كلامهم بل صريحه عدم صحة جمعة الإمام في المسألة الأولى وعليه ففارق وما ذكر بأن صورة الجمعة وقعت في الوقت فصحت من الإمام رعاية لذلك وبأن المحدث قد تصح منه الصلاة كفاقد الطهورين بخلاف الجمعة خارج الوقت فإنه لا يتصور صحتها وبأن أمر الجمعة إلى الإمام فتأخيرها تقصير منه بخلاف تبين حدثهم فإنه لا حيلة له فيه ومقتضى هذا الأخير أنه لو لم يحصل منه تقصير بالتأخير صحت جمعته واعتمده شيخنا في شرح الروض وقال إنه الأوجه وفيه وقفة بل الأوجه ما اقتضاه الفرقان الأولان من عدم صحتها منه مطلقا لأن اعتناء الشارع بالوقت أكثر منه بالعدد ولذا اختلف قول الشافعي رضي الله عنه في العدد في مسألة الانقضاض ولم يختلف في الوقت.
"وسئل" فسح الله في مدته بما صورته قالوا في غسل الجمعة يكره تركه مع أنه لم يرد فيه نهي مخصوص فما سبب ذلك؟ "فأجاب" بقوله عللوا الكراهة بتأكده بكثرة الأخبار الصحيحة الحاثة عليه ومنه يؤخذ أن كل ما كان كذلك بأن وردت فيه أخبار صحيحة كثيرة بطلبه يكره تركه ويلحق بذلك ما اختلف في وجوبه أو حرمته فيكره تركه أو فعله بالأولى ويصير تأكد طلبه أو الاختلاف في وجوبه أو حرمته بمنزلة النهي المخصوص وإذا تأملت ما قررته هنا علمت أن قول شرح المهذب يكره ترك شيء من سنن الصلاة يتعين حمله على السنن المتأكدة أو المختلف في وجوبها كالسورة والتشهد الأول والصلاة على الآل في التشهد الأخير وإلا فإطلاقه الكراهة لا يتمشى على اصطلاحه كغيره من المتأخرين في المكروه من كونه مغايرا لخلاف الأولى.
"وسئل" رضي الله عنه عن قولهم يشترط في خليفة الجمعة أن يكون مقتديا بالإمام قبل حدثه هل يشمل المتنفل وغيره؟ "فأجاب" بقوله لا بد من اقتدائه به قبل حدثه وإلا لأدى إلى إنشاء جمعة بعد انعقاد أخرى أو إلى جعلها ظهرا قبل فوت الجمعة ولا يرد المسبوق لأنه تابع لا منشئ قال شيخنا في شرح البهجة نعم لو كان غير المقتدي لا تلزمه الجمعة ناويا غيرها فلا يخفى جوازه ا هـ وللنظر فيه مجال إذ قضية إطلاقهم تنازع فيه

 

ج / 1 ص -352-        "وسئل" نفع الله به عمن سافر يوم الجمعة من بلده قبل الفجر إلى بلد بينها وبينها نحو ميل بل أقل ونيته العود منها بعد الجمعة أو يوم السبت فهل تلزمه الجمعة في تلك البلد مع سماعه النداء أو لا؟ "فأجاب" بقوله مقتضى كلامهم في باب السفر أنها لا تلزمه لقولهم لا ينقطع سفره بوصوله مقصده إلا إن نوى الإقامة مطلقا أو فوق أربعة أيام ويحتمل خلافه لأنها إذا لزمت في بلد أخرى بسماع النداء فهذا أولى وقولهم السابق إنما هو بالنسبة إلى انقطاع السفر المجوز للقصر لا المسقط للجمعة وعلى الأول فلو كان له بتلك البلدة زوجة يأتيها كل يوم جمعة فهل يقال لا تلزمه أو يقال تلزمه لأنه يسمى مقيما بمجرد وصوله لأنها وطن له كل محتمل ولعل الأقرب الثاني ولا يرد عليه قولهم العبرة في الوطن إذا كان له زوجتان بكل من بلدين بما كثرت إقامته فيه لأن ذاك بالنسبة للوطن طن المقتضي لكون الجمعة منعقدة به وأما مطلق الوطن الذي تلزم به فلا يشترط فيه ذلك ألا ترى أن التاجر والفقيه إذا كان عزم كل على العود إلى بلده. ولو بعد مدة تلزمه الجمعة ولا تنعقد به.
"وسئل" رضي الله عنه عن بلد بها جامعان قديمان وأحدهما أقدم وأصغر لكنه لا يسع أهلها إذا اجتمعوا فيه للجمعة فأمر السلطان أو نائبه أهلها بعدم تعدد الجمعة فخالفوا فهل تصح صلاتهم سواء كان فيهم من يعتقد جواز التعدد وهل بمخالفتهم للإمام أو نائبه يحل له رقابهم وأموالهم لتركهم الصلاة ويفسقون وترد شهادتهم وهل إذا انتقل أحد إمامي الجامعين المذكورين وهو حنبلي إلى مذهب مالك وقال أنا عفت مذهب أحمد وتركته يعزر ويصير بذلك مالكيا وهل انتقاله لغرض دنيوي جائز وتصح إمامته؟ "فأجاب" رضي الله عنه بقوله من المعلوم المقرر أن الجمعة لا يجوز تعددها عند الشافعي رضي الله عنه وعند كثيرين من العلماء إلا إن احتيج بأن لم يكن في البلد محل يسع أهلها فحينئذ يجوز التعدد بقدر الحاجة فقط وأنه لا يشترط لإقامتها المسجد بل متى كان في البلد محل يسع أهلها ولو غير مسجد وجبت إقامة الجمعة فيه وأنه إذا وقع تعدد غير محتاج. إليه كانت الجمعة الصحيحة هي السابقة والعبرة في السبق بالتحرم لا بغيره وأن الإمام أو نائبه إذا أمر بما لا معصية فيه وجب امتثال أمره وعلى من خالفه التعزير الشديد الزاجر لأمثاله عن مثل ذلك وأنه يجوز للعامي أي من لم يتأهل لمعرفة الأدلة على قوانينها تقليد من شاء من الشافعي ومالك وغيرهما ما لم يتتبع الرخص أو يحصل تلفيق لا يقول به أحد ممن قلدهم فإذا تقررت هذه القواعد علم أنه يجب على أهل البلد المقلدين للشافعي رضي الله عنه الاجتماع للجمعة في محل واحد من البلد حيث أمكن. ومتى خالفوا ذلك وصلوا صلاة فاسدة أثموا وفسقوا وردت شهادتهم وعزرهم الإمام التعزير البليغ لكن لا يحل قتلهم إلا إن تركوا الجمعة وإن قالوا نصلي الظهر بدلها فيستتيبهم الإمام فإن أبوا قتلهم قتل تارك الصلاة بشرطه المعروف في بابه ولا تحل أموالهم إلا إن استحلوا ترك فرض الصلاة المكتوبة سواء الجمعة وغيرها فإنهم حينئذ يكونون مرتدين فإذا قتلهم بذلك كانت أموالهم في بيت المال وفيما عدا

 

ج / 1 ص -353-        ما ذكر لا يحل قتلهم ولا أموالهم إلا إن بغوا على الإمام أو نائبه فله قتالهم كالبغاة إن وجد فيهم شروطهم المقررة في بابها. وعلم أيضا أنه لا عبرة بكون الإمام مالكيا أو غيره بل إذا عدد الجمعة من يجوز مذهبه التعدد وجب على الشافعية من أهل تلك البلد أن يصلوا مع السابقة فإن لم يدر سبق أو علمت معية أو سبق دون السابق أو سبق وسابق ونسيت عينه أو شك في السبق أو المعية وجب عليهم فيما عدا الحالة الثالثة والرابعة إقامة الجمعة ثانيا لعدم وقوع جمعة مجزئة منهم وفي الثالثة والرابعة إقامتها ظهرا وعلم أيضا أنه لا عبرة بالتقليد بل لا بد من قصد العمل على مذهب إمام يجوز تقليده ومن وجود الشروط التي تقدمت. وقول الحنبلي المذكور ما ذكر عنه إن أراد تنقيص مذهب أحمد أو تنقيص مقداره أدب التأديب البليغ ولا يجوز له الانتقال عن مذهبه لمذهب آخر لقصد أمر دنيوي فيعزر على ذلك أيضا ويصدق من غير يمين في كونه انتقل لا لقصد دنيوي وحيث صح تقليده لإمام مجتهد جازت الصلاة خلفه ما لم يرتكب مبطلا في اعتقاد المأموم. وعلم أيضا أن الإمام أو نائبه إذا أمر بعدم تعدد الجمعة في بلد وجب على جميع أهلها وإن كانوا أو بعضهم مقلدين لمن يجوز التعدد امتثال أمره وترك التعدد فإن خالفوا عزرهم وأثموا وردت شهادتهم. كما مر ولا تحل أموالهم ولا رقابهم إلا بالشروط السابقة ومجرد مخالفة الواجبات المجمع عليها أو المختلف فيها لا يقتضي كفرا ولا حرمة زوجة وإن انضم إلى ذلك تحليل حرام مجمع عليه معلوم من الدين بالضرورة بحيث لا يخفى على أحد كالزنا أو تحريم حلال كذلك كالنكاح كان ذلك التحليل أو التحريم هو الكفر والردة فيحرم عليه وطء زوجته وأمته ويستتاب فإن تاب وإلا ضربت عنقه.
"وسئل" رضي الله عنه عن قرية لم تقم فيها الجمعة إلا في مسجد واحد وإمام ذلك المسجد لم يحسن قراءة الفاتحة وغيره يحسن قراءتها فهل يكون لذلك الغير الذي يحسن قراءتها عذر في ترك الجمعة أو لا وإذا حضر ذلك الشخص الذي يحسن قراءتها وصلى الجمعة مقتديا بالإمام الذي لم يحسن قراءتها فهل يجب عليه أن يصلي الظهر مرة ثانية أو لا؟ "فأجاب" بقوله: نعم له عذر في ترك الجمعة ولا يجوز له أن يقتدي بمن لا يحسن القراءة, والمراد بعدم إحسان القراءة الذي الكلام فيه أن يكون يبدل حرفا بآخر أو يلحن لحنا يغير المعنى أما غير ذلك فلا يمنع الوجوب.
"وسئل" نفع الله به عما إذا جلس الخطيب بين الخطبتين هل يستحب له في جلوسه دعاء أو قراءة أو لا وهل يسن للحاضرين. حينئذ أن يشتغلوا بقراءة أو دعاء أو صلاة على النبي صلى الله عليه وسلم برفع الصوت أو لا؟ "فأجاب" بقوله: ذكر في العباب أنه يسن له قراءة سورة الإخلاص وقلت في شرحه لم أر من تعرض لندبها بخصوصها فيه ويوجه بأن السنة قراءة شيء من القرآن فيه كما يدل عليه رواية ابن حبان كان صلى الله عليه وسلم يقرأ في جلوسه من كتاب

 

ج / 1 ص -354-        الله وإذا ثبت أن السنة ذلك فهي أولى من غيرها لمزيد ثوابها وفضائلها وخصوصياتها قال القاضي والدعاء في هذه الجلسة مستجاب انتهت عبارة الشرح المذكور ويؤخذ مما ذكر عن القاضي أن السنة للحاضرين الاشتغال وقت هذه الجلسة بالدعاء لما تقرر أنه مستجاب حينئذ وإذا اشتغلوا بالدعاء فالأولى أن يكون سرا لما في الجهر من التشويش على بعضهم ولأن الإسرار هو الأفضل في الدعاء إلا لعارض.
"وسئل" نفع الله به عما إذا صلى الجمعة فأدرك من يصلي الظهر من المعذورين أو من فاتته الجمعة فهل يسن له أن يصليها معهم أو لا؟ "فأجاب" بقوله: لا تجوز الإعادة فيما ذكر. كما جزمت به في شرح الإرشاد وعبارته ودخل في المكتوبة فتسن خلافا للأذرعي ومن تبعه إعادتها عند جواز التعدد أو سفره لبلد آخر ورآهم يصلونها ولو صلى معذور الظهر ثم أدرك الجمعة أو معذورين يصلون الظهر سنت له الإعادة فيهما ولا يجوز إعادة الجمعة ظهرا وكذا عكسه لغير المعذور انتهت ووجه المنع في صورة السؤال أن الإعادة إنما ندبت لتحصيل كمال في فريضة الوقت يقينا إن صلى الأولى منفردا أو ظنا أو رجاء إن صلاها جماعة ولو بجماعة أكمل ظاهرا ومن صلى الجمعة كانت هي فرض وقته فإعادته الظهر لا ترجع بكمال على الجمعة التي هي فرض وقته أصلا فلما لم يكن في إعادة الظهر كمال يرجع لفرض الوقت امتنعت إعادة الظهر لأنها عبث والعبادة يقتصر فيها على محل ورودها أو ما هو في معناه من كل وجه.
"وسئل" نفع الله به عن الخطيب إذا اقتصر في خطبة الجمعة على الأركان بأن قال الحمد لله وصلى الله على سيدنا محمد اتقوا الله وقرأ آية وفي الثانية أتى بهذه الثلاثة ويرحمكم الله هل يجزئ أو لا؟ "فأجاب" بقوله: إذا اقتصر على أركان الخطبتين وأتى بشروطهما أجزأه وهذا ظاهر جلي والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
"وسئل" أدام الله النفع بعلومه ما الحكمة في سن غسل غاسل الميت؟ "فأجاب" بقوله حكمة ذلك أن في مماسة الميت تقذيرا للبدن فطلب منه إزالة ذلك القذر بغسل جميع بدنه وأيضا فذلك القذر مما يجر للبدن فتورا فطلب إنعاشه بالماء كما أن الحمام لما كان يجر فتورا للبدن فطلب الغسل عند الخروج منه بالماء البارد ليحصل ذلك الإنعاش ويزول ذلك الفتور فتقبل النفس حينئذ على عبادتها ونحوها بأعظم قابلية وأتم توجه والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
"وسئل" رضي الله عنه إذا رقى الخطيب المنبر هل يلتفت لاستقبالهم يمينا أو شمالا؟ "فأجاب" بقوله: الذي ينبغي أنه يلتفت يمينا أخذا من قولهم ويسن أن يكون جلوسه وكذا وقوفه كما يفهمه كلام الشيخين وغيرهما وصرح به في الأنوار بجانب المنبر الأيمن إن وسع فإذا آثر الجانب الأيمن بالجلوس أو الوقوف فكذا ينبغي أن يؤثر جهة اليمين بأن

 

ج / 1 ص -355-        يجعل الالتفات منها عليهم ثم رأيت الأصبحي قال في فتاويه إذا رقى الخطيب المنبر هل يلتفت على يمينه إلى جهة المشرق أم على شماله إلى جهة المغرب أجاب يحتمل أن يكون كالانصراف من الصلاة وفيه كلام للخراسانيين ا هـ وهو موافق لما ذكرته لأن الانصراف من الصلاة. يكون إلى اليمين حيث لا حاجة في جهة أخرى ولو قاسه بالتفات الإمام إلى المأمومين بعد السلام إلى فراغ الدعاء لكان أقرب في القياس وهذا الالتفات يكون إلى اليمين أيضا فيتأيد به ما ذكرته أيضا والله سبحانه, وتعالى أعلم بالصواب.
"وسئل" نفع الله به عن رفع اليدين بعد فراغ الخطبتين يوم الجمعة هل هو مستحب أو بدعة وهل الأولى رفعهما في زمننا هذا وقد استولى علينا الفرنج الملعونون وقد منع من رفعهما بعض فقهاء بلادنا متمسكا بأنه صلى الله عليه وسلم رفعهما للاستسقاء لا غير؟ "فأجاب" نفع الله به بقوله: رفع اليدين سنة. في كل دعاء خارج الصلاة ونحوها ومن زعم أنه صلى الله عليه وسلم لم يرفعهما إلا في دعاء الاستسقاء فقد سها سهوا بينا وغلط غلطا فاحشا. وعبارة العباب مع شرحي له "يسن للداعي خارج الصلاة رفع يديه الطاهرتين" للاتباع رواه الشيخان وغيرهما من طرق كثيرة صحيحة في عدة مواطن منها الاستسقاء وغيره كما بينها في المجموع. وقال من ادعى حصرها فهو. غالط غلطا فاحشا. ا هـ. وهذه لكونها مثبتة مقدمة على روايتهما كان صلى الله عليه وسلم لا يرفع يديه في شيء من الدعاء إلا في الاستسقاء واستحب الخطابي كشفهما في سائر الأدعية ويكره للخطيب رفعهما في حال الخطبة كما قاله البيهقي واحتج له بحديث في مسلم صريح فيه رعاية الرفع حذو المنكبين وقال الغزالي: حتى يرى بياض إبطيه وأورد فيه حديثا لكن أخرج أبو داود المسألة أن ترفع يديك حذو منكبيك ونحوهما. والاستغفار أن تشير بأصبع واحدة. والابتهال أن تمد يديك جميعا وهو يدل للأول. وينبغي حمل الثاني أي ما قاله الغزالي على ما إذا اشتد الأمر. ويؤيده ما في مسلم من رفعه صلى الله عليه وسلم يديه في الاستسقاء حتى رئي بياض إبطيه. ا هـ المقصود من شرح العباب والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
"وسئل" نفع الله به هل يجوز للحاضرين والمؤذنين إذا سمعوا اسم النبي صلى الله عليه وسلم أو أحد من الخلفاء الأربعة أن يصلوا عليه جهرا ويدعوا لهم بالرضوان ويؤمنوا جهرا إذا دعا بعد فراغ الخطبتين أم لا أو يستحب الترضي في هذا الزمان لظهور الرافضة وانتشارهم؟ "فأجاب" بقوله: أما حكم الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم عند سماع ذكره برفع الصوت من غير مبالغة فهو جائز بلا كراهة بل هو سنة وعبارة العباب. وشرحي له قال النووي وغيره ولا يكره أيضا رفع الصوت بلا مبالغة بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم إذا قرأ الخطيب:
{إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} [الأحزاب: 56] الآية ونقل الروياني ذلك عن الأصحاب فقال: يجب أن يكون

 

ج / 1 ص -356-        كالتشميت لأن كلا سنة فقول القاضي أبي الطيب يكره لأنه يقطع الاستماع ضعيف بل صوب الزركشي خلافه على أنه يؤخذ من قول القاضي فضج الناس أن هذا رفع بمبالغة وحينئذ فالكراهة واضحة كما يأتي فلم يخالف غيره وقول الكافي: لا يصلي لأنها غير واجبة اتفاقا وفي الإنصات خلاف يرد بمنع الاتفاق كيف؟ وقد قال أئمة من المذاهب الأربعة بوجوبها عليه صلى الله عليه وسلم كلما ذكر اسمه وفي أحاديث صحيحة ما يدل لهم كما ذكرته في تأليف لي مبسوط في أحكامها وفضائلها ويقاس بذلك ما يفعله المؤذنون من رفع أصواتهم بالصلاة عليه صلى الله عليه وسلم بين يدي الخطيب عند تصليته بجامع طلب الصلاة عند سماع ذكره صلى الله عليه وسلم كما يطلب عند الأمر بها في: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب: 56] ويؤيده ما في الجواهر في الحج من أنه يسن لكل من صلى عليه صلى الله عليه وسلم أن يرفع صوته بها لكن لا يبالغ في الرفع مبالغة فاحشة وقوله: لكن, يرد على من قال تأييدا لكراهة ما يفعله المؤذنون لعله لم يرد التعميم. وقول شيخنا: الأولى ترك ما يفعلونه لمنعه الاستماع المطلوب. وإن كان الآخر مطلوبا فيه نظر بل الأولى فعله كالتشميت ولا نسلم ما علل به لأن الكلام حيث لا مبالغة في الرفع وحينئذ فهو لا يمنع الاستماع وخرج بلا مبالغة الرفع بالمبالغة فإنه بدعة منكرة كما قاله الأذرعي وأما حكم الترضي عن الصحابة في الخطبة فلا بأس به سواء أذكر أفاضلهم بأسمائهم كما هو المعروف الآن أم أجملهم. وأما قول الشافعي رضي الله عنه ولا يدعو في الخطبة لأحد بعينه. فإن فعل كرهته فيحمل على ذكر من لا فائدة في ذكره كالدعاء للسلطان مع المجازفة في وصفه بلا ضرورة بخلاف ما إذا لم يجازف لأن أبا موسى الأشعري رضي الله عنه دعا في خطبته لعمر رضي الله عنه فأنكر عليه البداءة بعمر قبل البداءة بأبي بكر ورفع ذلك إلى عمر فقال للمنكر: أنت أذكى منه وأرشد. وأخرج أبو نعيم أن ابن عباس رضي الله عنهما كان يقول على منبر البصرة: اللهم أصلح عبدك وخليفتك على أهل الحق أمير المؤمنين. وفي شرح المهذب وغيره يندب للخطيب الدعاء للمسلمين وولاتهم بالصلاح والإعانة على الحق والقيام بالعدل ونحو ذلك ولجيوش الإسلام. ا هـ. ويؤيد ذلك قول الحسن البصري: رضي الله عنه لو علمت لي دعوة مستجابة لخصصت بها السلطان فإن خيره عام وخير غيره خاص. وأما التأمين على ذلك جهرا فالأولى تركه لأنه يمنع الاستماع ويشوش على الحاضرين من غير ضرورة ولا حاجة إليه. وأما ما أطبق الناس عليه من التأمين جهرا سيما مع المبالغة فهو من البدع القبيحة المذمومة فينبغي تركه والله سبحانه, وتعالى أعلم بالصواب.
"وسئل" نفع الله بعلومه عما إذا رقى الخطيب المنبر هل يلتفت لإسماعهم يمينا أو شمالا؟ "فأجاب" بقوله: لم أر في ذلك شيئا والظاهر أن اليمين أولى.
"وسئل" نفع الله بعلومه عن الحكمة في سن غسل غاسل الميت؟ "فأجاب" بقوله: من

 

ج / 1 ص -357-        شأن الميت أن يكون به قذر ومن شأن ماسه أن يحصل له نوع تقذر منه فسن غسل غاسله لإزالة ما حصل له من ذلك والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
"وسئل" نفع الله به عن بلدة للمسلمين وللنصارى الحربيين الحكم عليها وقد توافقت المسلمون معهم أن الواصل منهم آمن على نفسه وماله وكذلك النصارى وافقوهم أن الطالع إلى بلادهم آمن على نفسه وماله والنصارى لا يدفعون للمسلمين مالا وكل من دخل البلد وكان معه ما يستحق العشور أخذ منه على قاعدة البلد من المسلمين والنصارى ثم يقسم ما يجمع النصف للمسلمين والنصف للنصارى ثم إن المسلمين يقيمون الجمعة على ما ورد به الكتاب والسنة فهل الجمعة صحيحة أم لا؟ "فأجاب" بقوله: الجمعة صحيحة إذا وجدت شروطها وإن كان المقيمون لها فساقا إذ لا يشترط في مقيمها العدالة والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
"وسئل" نفع الله به عما إذا سلم إمام الجمعة بالقوم وخلفه مسبوقون فقاموا لإكمال صلاتهم فهل يتخيل أنه يجوز لغيرهم أن يقتدي بواحد منهم ناويا الجمعة وتحصل له لأن شرط الجمعة الجماعة ووقوعها من أربعين وقد وجد في هذه الحالة أو لا؟ "فأجاب" بقوله: قد ذكرت في شرح الإرشاد ما يفهم جواز الاقتداء بمسبوق أدرك ركعة مع الإمام. إذا قام ليأتي بها بعد سلام الإمام وتحصل له الجمعة وعبارته قال أي الجمال بن كبن حتى لو اقتدى بإمام المسبوقين الذي منهم شخص ليس منهم وصلى معهم ركعة وسلموا فله أن يتمها جمعة لأنه وإن استفتح الجمعة فهو تابع للإمام والإمام مستديم لها لا مستفتح نقله صاحب البيان عن الشيخ أبي حامد وأقره وكذلك الريمي في شرحه للتنبيه انتهت فأفهم تعليلهم المذكور إدراك الجمعة في صورتنا لأن ما ذكروه في صورتهم مبني على أن المسبوقين إذا قاموا ليكملوا الجمعة جاز لهم أن يقتدوا بواحد منهم. فإذا اقتدوا به على خلاف ظاهر كلام الأصحاب وجاز لغيرهم أن يقتدي به ويدرك الجمعة لما عللوا به من أن هذا المقتدي وإن استفتح الجمعة لا يضره ذلك لأنه تابع للإمام والإمام مستديم لها لا مستفتح فلأن يجوز في مسألتنا بالمساواة إن لم يكن بالأولى لأن اقتداء من فاتته الجمعة مع الإمام بمسبوق قام ليكمل موجود فيه ما عللوا به من أنه تابع للإمام الغير المستفتح مع زيادة أن ما في صورتهم فيه إنشاء صورة جمعة بعد أخرى, ولا كذلك في صورتنا فإن المسبوق لما قام ليأتي بما عليه يجوز لغيره الاقتداء به قطعا وإنما التردد في أنه إذا اقتدى به يدرك الجمعة أو لا وقد علمت مما قررته أنه يدرك الجمعة بعين ما ذكروه مع هذه الزيادة التي ذكرتها المرجحة لإدراكها في صورتنا بالأولى لأن صورتهم وقع الخلاف في أصل جواز الاقتداء فيها والذي دل عليه ظاهر كلام أكثر الأصحاب امتناعه لما فيه من إنشاء صورة جمعة بعد أخرى ومع ذلك يدرك الجمعة فليدركها في صورتنا التي لا خلاف في صحة الاقتداء فيها بالأولى فإن قلت القائلون بإدراكها في تلك الصورة إنما فرعوا ذلك

 

ج / 1 ص -358-        على اختيارهم صحة الاقتداء. أما على ظاهر كلام أكثر الأصحاب. فلا يجوز الاقتداء فضلا عن إدراك الجمعة فلا دليل فيما قالوه على ما قدمته قلت ممنوع لأن المانعين للاقتداء في تلك الصورة عللوه بما لا يأتي في صورتنا وهو إنشاء جمعة بعد أخرى ووجه الفرق أن المسبوقين لما أدركوا الجمعة مع الإمام ثم بعد سلامه أنشئوا باقتدائهم ببعضهم قدوة أخرى في الجمعة كانوا منشئين لصورة جمعة بعد أخرى وأما في صورتنا فالمؤتم المسبوق لم يدرك جمعة ولا اقتدى قبل بإمام الجمعة فلم يكن في اقتدائه بمسبوق قام للتكميل إنشاء جمعة لا معنى ولا صورة وإنما الذي فيه إنشاء ربط صلاته بصلاة ذلك المسبوق التابع للإمام المدرك للجمعة. وهذا الربط يصيره تابعا للإمام ومنزلا منزلة من أدرك مع الإمام ركعة لأن تابع التابع تابع وحينئذ اتضح إدراكه للجمعة. وإن لم نقل بما اختاره ابن كبن في تلك الصورة مما يؤيد أن التبعية للإمام تقتضي الحكم بإدراك الجمعة وإن لم يدرك التابع ركعة في جماعة أنه لو بان حدث الأربعين صحت الجمعة للإمام وكذا لمن يقتدي به تبعا له على المعتمد فإذا صحت لتابعه في هذه فأولى في مسألتنا كما هو ظاهر وقد وقعت هذه المسألة في هذه السنة أعني سنة إحدى وستين وتسعمائة بدرسنا في رمضان أثناء الكلام على قوله صلى الله عليه وسلم: "من أدرك ركعة من الجمعة فليصل إليها أخرى". فقلت يستفاد من قوله: من أدرك ركعة من الجمعة, لما فيه من العموم أن من جاء فوجد إمام الجمعة سلم ووجد مسبوقا أدرك معه ركعة فاقتدى به فيها أدرك الجمعة بنص هذا الحديث الصحيح لأن المقتدي بهذا المسبوق يصدق عليه أنه أدرك ركعة من الجمعة فطارت هذه المسألة واستشكلها الفضلاء وكأنها لم تطرق أسماعهم إلا حينئذ فمنهم من أنكرها وصمم غير مستند إلا لقضاء عقله ومنهم من رجع لما رأى بعض ما مر وكان من جملة ما فرعته على الإدراك. الذي أفتيت به أن هذا المقتدي لو قام ليأتي بالركعة الباقية عليه فاقتدى به آخر أدرك ولو اقتدى بهذا آخر أدرك ولو اقتدى بهذا آخر أدركها أيضا وهكذا ووقع الميل إلى القول بالإدراك لأن الكل تبع للإمام فكأنهم كلهم أدركوه في ركعته الثانية ولا نظر لوقوع صلاتهم مع انتفاء العدد المشترط بقاؤه إلى السلام لأن ذلك محله في غير التابع كما تقرر وبهذا يندفع ما شنع به بعض الطلبة أنه يترتب على ذلك أنه لو قام جماعة مسبوقون للتكميل فاقتدي بكل واحد أدرك كل الجمعة. وفي هذا تعدد للجمعة إلى غاية وهو بعيد من كلامهم ووجه اندفاعه ما تقرر أن اقتداء كل من الجائين بكل من المسبوقين منزل منزلة اقتدائهم كلهم بالإمام في ركعته الثانية كما تقرر فإن قلت هل يمكن أن يقال إنه لو أمكنهم كلهم الاقتداء بمسبوق واحد لم يجز لهم تعدد الاقتداء لأن في ذلك تعدد صورة الجماعة مع إمكان عدمه لما تقرر أن الكل تبع في الحقيقة للإمام الأول لم يكن في ذلك تعدد أصلا كما مر.
"وسئل" أعاد الله علينا من بركاته وبركات علومه عن رجلين أحرما بالجمعة مع إمامها

 

ج / 1 ص -359-        الأول أدرك الركعة الثانية والثاني أدرك التشهد فقط. ثم انتصب الإمام قائما ولم يعلم هل قام ساهيا أو متداركا فهل يجوز لهما القيام معه, الأول ليصلي معه الركعة الثانية, والثاني ليدرك معه ركعة فيدرك الجمعة أم لا يجوز لهما القيام للجهل بحال الإمام وإذا قلتم بعدم الجواز فما صورة العلم التي يقومان معه ليدرك كل معه ما ذكر كما وقع في كلامهم وما صورة العلم التي يقوم فيها الثاني ويمتنع الأول؟ "فأجاب" بقوله: لا يجوز له القيام معه لأنه لا يجوز له متابعته في فعل السهو كما صرحوا به بقولهم ولو قام الإمام لزيادة كخامسة سهوا. لم يجز له متابعته وإن كان شاكا في فعل ركعة أو مسبوقا علم ذلك أو ظنه ولا نظر إلى احتمال أنه ترك ركنا من ركعة لأن الفرض أنه علم الحال أو ظنه وحينئذ فإن كان المأموم موافقا انتظره لأنه أتم صلاته يقينا أو غير موافق فكذلك لأن هذه الركعة غير محسوبة للإمام وهو لا يجوز متابعته في فعل السهو, وصورة العلم فيما ذكر أن يعلم أنه ترك سجدة من الركعة الأولى فتتم بالثانية ويبقى عليه ركعة فإذا قام وقام معه أدرك الركعة لأنها حينئذ أصلية لا زائدة. وقد ذكرت ذلك في شرح العباب فلنذكر عبارته مع طولها. لما فيها من الفوائد ولفظها مع المتن ولو لم يدرك ركوع الثانية أو شك هل أدرك ركوعها المجزئ أو لا لم يدرك الجمعة لما مر سواء أعلم بالحال أم لا فيتمها ظهرا ويسجد للسهو في مسألة الشك لكن يحرم بها أي الجمعة حتما على المعتمد الذي اقتضاه كلام الشيخين وصححه في المجموع قال موافقة للإمام فقول الأنوار جوازا. وقول غيره ندبا ضعيف إذ يلغو عقد الظهر قبل سلام الإمام كما سيأتي لما أن اليأس منها لا يحصل إلا بسلام الإمام إذ قد يتذكر إمامه ترك ركن فيأتي بركعة فيدرك الجمعة لكن تذكره ذلك ليس بكاف وحده بل لا بد معه من علم المأموم بتركه للركن حتى يجوز له متابعته إذا قام ليأتي به بخلاف ما إذا لم يعلم فإنه لا يجوز له متابعته لقولهم لو بقي عليه ركعة فقام الإمام إلى خامسة لم يجز له متابعته حملا على أنه تذكر ترك ركن وفي المجموع عن الأصحاب لو صلى الإمام الجمعة ثلاثا ناسيا فأدركه مسبوق في الثالثة لم يدرك الجمعة قطعا لأن الثالثة غير محسوبة للإمام فإن علم الإمام أنه ترك سجدة ساهيا فإن علم أنها من الركعة الأولى. انجبرت الأولى بالثانية وصارت الثالثة ثانية وحسبت للمسبوق وأدرك بها الجمعة وإن لم يعلم محلها لم يدرك الجمعة لاحتمال أنها من الثانية فتتم بسجدة من الثالثة ويلغو باقيها. ا هـ كلام المجموع ولو أدركه في ركعة غير محسوبة للإمام لحدثه أو سهوه بزيادتها ففيه تفصيل مر في الجماعة وهو أنه إن أدرك الركعة بقراءتها فإن علم بزيادتها أو بحدثه لم تحسب له بل لا تنعقد وإلا حسبت عن الجمعة وغيرها كالصلاة خلف المحدث بخلاف ما لو بان إمامه كافرا أو امرأة لأنهما ليسا أهلا للإمامة بحال وقول القمولي لو أدرك الركعة بكمالها. صحت على الانفراد مردود بأنه مخالف لقوله وقول غيره إن الصلاة خلف المحدث جماعة حتى في الجمعة إذا زاد على الأربعين أما إذا أدرك ركوعها فقط فلا تحسب له مطلقا انتهت عبارة الشرح المذكور

 

ج / 1 ص -360-        وبتأمل كلام المجموع وما قبله يعلم اتضاح ما ذكرته في صورة العلم وأنه لا فرق بين مدرك الركعة الثانية ومدرك التشهد وحده في أن من علم قيام الإمام لأصلية تابعه ومن لا لم يجز له متابعته وإن من تابعه سهوا أو جهلا أو أدركه في ركعة زائدة فإن أدرك الفاتحة بكمالها حسبت له الركعة في الجمعة وغيرها. وإن لم يدركها بكمالها لم تحسب له الركعة في الجمعة وغيرها لأن شرط تحمل الإمام للفاتحة أو بعضها أن يكون في ركعة محسوبة له والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
"وسئل" نفع الله به عما اتفق لأهل قرية بروم أنهم من مدة مديدة يقومون في بروم غالب سنتهم. وذلك قدر ثلاثة أرباع السنة ثم في باقي السنة ينتقلون منها إلى قرية أخرى تسمى الهجلة فيقيمون بها باقي السنة خوفا من محذور الإفرنج وقت توهم خروجهم من بلاد الهند فاستمر حالهم على هذه الحالة مدة مديدة يزيد قدرها على عشرين سنة بحيث إنهم قد بنوا بالقرية. المسماة بالهجلة دورا واتخذوها لهم وطنا في بعض السنة فنشأ من ذلك سؤال وهو أن الجمعة هل تجب على أهل قرية بروم في كلا قريتيها بروم والهجلة أي ففي مدة إقامتهم في بروم يجب عليهم إقامتها فيها وفي مدة إقامتهم بالهجلة يجب عليهم إقامتها بها كذلك, أم لا يجب عليهم إقامتها فيهما كذلك معا لعدم وجود الاستيطان في إحداهما أم تقولون إنما تجب إقامتها عليهم في بروم فقط في أيام إقامتهم بها لأنها محل الاستيطان ولأن الحكم للأغلب والانتقال العارض في كل سنة منها إلى القرية المذكورة حكمه حكم من انتقل لحاجة. فلا يقدح ذلك في سقوطها عنهم مدة إقامتهم بها المدة المذكورة. فإن قلتم نعم تجب إقامتها عليهم في أيام إقامتهم في بروم وتنعقد جمعة للعلة المذكورة وهي كونها محل الاستيطان قلنا فما الحكم في وجوبها عليهم في مدة أيام إقامتهم بالهجلة المدة المذكورة هل تقولون بوجوب الجمعة عليهم في بروم وإن صارت خلية من المقيمين بها كما أن ذلك صفتها الآن وتوجبون عليهم إنشاء سفر إلى بروم في كل يوم جمعة لأجل إقامة الجمعة بها كما رأيت أهل قرية بروم قد اعتادوا ذلك فنجدهم في كل يوم جمعة ينشئون سفرا إلى قرية بروم ويقيمون الجمعة بها على هيئتها اعتقادا منهم أنها تجب عليهم وتنعقد لهم جمعة ولم يروا بذلك بأسا ومضت لهم على هذه الحالة سنون كثيرة يزيد قدرها فوق ما قدرناه أولا ثم الآن هم باقون على ذلك الاستمرار ما بقي تخوفهم من الكفار وجملة الحال في هذا السؤال أن أهل قرية بروم لم يزل ذلك دأبهم منذ بدأ ظهور الإفرنج في نواحي. بلاد الهند وتعودوا الخروج منها إلى أرض العرب إلى الآن ثم هم الآن على ذلك العزم لا يزال دأبهم ينتقلون في بعض السنة ما زالوا يتوهمون خروجهم ولا شك أن انقطاع هذا التخوف لا يكون إلا بانقطاع شوكة الحربيين من أرض بلاد الهند وذلك إما بزوال دولتهم وذهابها رأسا أو استيلاء المسلمين على جميع سواحلهم الذين ينشئون تجاهيزهم منها ولا شك أن زوال ذلك غير متيقن وحينئذ فهل يصح أن يقال في صورة السؤال إلى القول بعدم انعقاد

 

ج / 1 ص -361-        الجمعة في حق أهل قرية بروم حال إقامتهم بها وحال انتقالهم عنها أقرب من القول بانعقادها في حقهم فيها في الحالين أم يقال الأمر في ذلك بخلافه وما قولكم في قول صاحب الأنوار وشرط الكف عن اعتياد النزول في وقت معين والرحلة في وقت آخر فلو كانوا ينزلون في موضع صيفا ويرتحلون شتاء وبالعكس كالأكراد والأتراك فليسوا بمتوطنين هل فيه دلالة على عدم انعقاد الجمعة لمن ذكرنا في صورة السؤال أو لا؛ لأن ما ذكره في الأنوار غير المذكور في صورة السؤال فلا يستدل لذلك به وإنما مأخذ انعقاد الجمعة في حق أهل بروم مدة إقامتهم بها مأخوذ من قوله قبل ذلك. والتوطن نية الإقامة في بلدة أو قرية على التأبيد إلا لحاجة كتجارة وزيارة وعيادة وخوف غارة ونحوها. قلنا قد علم من حال أهل قرية بروم أنهم لم يزالوا يعتادون النزول في وقت معين من السنة إلى القرية المذكورة وذلك الوقت هو وقت التخوف من الإفرنج وقت إقبال مجيء الأذيب وأن نيتهم النزول إليها في ذلك الوقت على الدوام ما بقي معهم تخوف منهم سواء كانوا في ذلك الحال مستشعرين خروجهم أم لا فبينوا لنا ذلك. فإن قلتم: إنها لا تنعقد لهم في القريتين أو تنعقد في بروم فقط حال إقامتهم بها فقط. قلنا فإن قلتم بعدم وجوبها عليهم حال إقامتهم بالهجلة ووجوبها عليهم حال إقامتهم ببروم فقط قلنا فهل تقولون بجواز إقامتها في بروم حيث كانت خلية كما مر في صورة السؤال أو باستحباب إقامتها إن قلتم بالجواز وما الحكم في الذين لهم مال من نخل أو غيره إذا كان من عادتهم الانتقال لأجل الخريف كل سنة وكانوا يقيمون في البلد الذي ينتقلون إليه الشهرين أو الثلاثة فالفرض أن لهم ثم دورا وضياعا وكان ذلك دأبهم دواما مدة أربعين سنة فأكثر فهل يقال إن الجمعة تنعقد بهم في البلد التي إقامتهم بها أكثر. كما في بروم في حق بعض أهلها أم يقال لا تنعقد بهم وكذلك الشخص إذا كان له زوجتان في بلدين وله مالان فيهما أو مال في أحدهما فقط وإقامته في البلدتين غير منضبطة بل تارة يقيم بإحداهما أكثر وتارة بالعكس. وتارة يستوي الأمران أو قد تنضبط إقامته بهما على السواء ومضى له على هذا الحال نحو خمسين سنة فما المعتمد عندكم في انعقاد الجمعة به فيهما ووجوبها عليه فقد رأيت في ذلك أجوبة مضطربة فحققوا لنا المعتمد عندكم في ذلك؟ "فأجاب" - فسح الله في مدته - بقوله: عبارة شرحي على المنهاج ومن له مسكنان. يأتي فيه التفصيل الآتي في: {حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 196] ولا ينافيه ما في الأنوار أنهم لو كانوا بمحل شتاء وبآخر صيفا لم يكونوا متوطنين بواحد منهما لأن محل هذا فيمن لم يتوطنوا محلين معينين ينتقلون من أحدهما إلى الآخر ولا يتجاوزونهما إلى غيرهما بخلاف من توطنوا محلين كذلك لكن اختلف حالهم في إقامتهم فيهما فإن التوطن بهما أو بأحدهما يناط بما يناط به التوطن في حاضري الحرم وأفتى الجلال البلقيني في أهل بلد يفارقونها في الصيف إلى مضايعهم بأنهم إن سافروا عنها ولو سفرا قصيرا لم تنعقد بهم. وإن خرجوا عن المساكن وتركوا بها أموالهم ولم يكن هذا ظعنا لأنه السفر فتلزمهم ولو فيما خرجوا إليه إن

 

ج / 1 ص -362-        عد من الخطة وإلا لزمتهم فيها وما قاله في خروجهم عن المساكن ظاهر إلا قوله وتركوا أموالهم فليس بقيد وما قاله في سفرهم إن أراد به أنها لا تنعقد بهم في مضايعهم فواضح نعم تلزمهم إن أقيمت فيها جمعة معتبرة أو أنها لا تنعقد بهم في بلدهم لو عادوا إليها فليس بصحيح لأن خروجهم عنها لحاجة لا يمنع استيطانهم بها إذا عادوا إليها كما يصرح به المتن وإنما تسقط عنهم الجمعة نعم إن سمعوا النداء ولم يخشوا على أموالهم لو ذهبوا للجمعة لزمتهم مطلقا وانعقدت بهم في بلدهم ولو أكره الإمام أهل بلد على سكنى غيرها فامتثلوا لكنهم عازمون على الرجوع لبلدهم متى زال الإكراه لم تنعقد بهم في الثانية بل في الأولى لو عادوا إليها كما هو ظاهر. انتهت عبارة الشرح المذكور ومنها علم أن وطن المذكورين إنما هو بروم لما علمت أنهم أجروا فيمن له مسكنان تفصيل حاضري الحرم وقد قالوا هناك لو كان له وطنان اعتبر ما إقامته به أكثر. وقد ذكر في السؤال أن إقامتهم ببروم أكثر فلتكن هي وطنهم بنص كلامهم المذكور دون الهجلة وإذا تقرر أن بروم هي وطنهم لا غير فإذا خرجوا عنها لحاجة الخوف المذكور جاز لهم ذلك ثم إن كان بالهجلة أربعون متوطنون غير أهل بروم لزمتهم الجمعة ولزم أهل بروم صلاتها معهم ولا يحسبون من الأربعين وإن لم يكن بالهجلة أربعون كذلك فإن سمعوا النداء من بلد فيها جمعة معتبرة لزمتهم فيها وإلا صلى الكل الظهر. وأما رجوع أهل بروم إليها في كل يوم جمعة فلا يلزمهم إلا إن زال الخوف الذي فارقوا بلدهم لأجله وقربوا منها. بحيث لو خرجوا من الهجلة إليها قبل الفجر أمكنهم إدراك الجمعة فيها كما ملت إليه في شرح المنهاج وعبارته بعد ما مر: ولو خرج أهل البلد كلهم لحاجة كالصيف وأمكنهم إقامة الجمعة بوطنهم فهل يلزمهم السعي إليها من حين الفجر لأنه يحرم عليهم أن يعطلوها من الجمعة كما مر أو ينظر في محلهم فإن كان يسمع أهله النداء من بلدهم لزمهم لما مر أنه في حكم بعض أجزائه وإلا فلا محل نظر والأول أحوط. انتهت. وعلم من العبارة السابقة حكم الذين يخرجون في بعض السنة إلى مضايعهم وحكم من له مسكنان ببلدين. وحاصل هذا أنا نعتبر ما إقامته به أكثر فهو وطنه دون الآخر فإن استوت إقامته بهما اعتبر ما فيه أهله أي زوجته أو سريته ومحاجير أولاده دون نحو آبائه وإخوته فإن كان له بكل أهل اعتبر ما إقامة أهله به دائما أو أكثر أو بكل مال اعتبر ما فيه ماله دائما أو أكثر فإن كان أهله ببلد وماله ببلد اعتبر ما فيه أهله فإن استويا في كل ذلك انعقدت به في كل منهما كما بينت ذلك في شرح المنهاج والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
"وسئل" - فسح الله في مدته - عن أهل بلدة تلزمهم الجمعة إذا تفرقوا وسكنوا في البوادي. على نحو فرسخ أو فرسخين من بلدتهم ويجتمعون إليها للجمعة مع أنهم ينسبون إليها فهل تنعقد بهم الجمعة في بلدتهم الأصلية إذا لم يكمل العدد إلا بهم أم لا والحال أنهم لا يجيئون إليها إلا لحاجة أو جمعة أو عيد؟ "فأجاب" بقوله: لا تنعقد بهم الجمعة فيما ذكر

 

ج / 1 ص -363-        أخذا من قول الجلال البلقيني سئلت عن بلدة لا يقيم أهلها بها في الصيف وإنما يخرجون إلى مصايف لهم هل تلزمهم الجمعة والذي يظهر في ذلك أن الظعن هو السفر فإن كانوا يسافرون عنها بالكلية بحيث يطلق على ذلك اسم سفر ولو قصيرا فليسوا متوطنين. فلا تنعقد بهم, وإن كانوا يخرجون عن المساكن فقط ويتركون بها أموالهم وأمتعتهم فليس هذا بظعن فتلزمهم الجمعة فإن كان الفضاء الذي خرجوا إليه معدودا من خطة البلد صحت جمعتهم فيه وإلا فلا ويلزمهم فعلها في خطة البلد. ا هـ. فافهم ما ذكره في الحال الأول ما ذكرته في صورة السؤال بالأولى لأن من ذكرهم لا يفارقون بلدهم إلا أيام الصيف فقط على نية الرجوع والتوطن فيها وقد علمت أنه ذكر فيهم أنهم إن كانوا يسافرون عنها بالكلية. بحيث يطلق على ذلك اسم سفر ولو قصيرا فليسوا بمتوطنين فإذا ذكر هذا في هؤلاء فهو فيما في السؤال أولى لأن بعدهم عن البلد نحو فرسخ يطلق عليه عرفا أنه سفر. ويطلق على ساكنيه أنهم غير منسوبين لذلك البلد من حيث الإقامة وإن نسبوا إليها من حيث الإضافة إذ المتغرب عن مكة مثلا وإن فحش بعده عنها وطالت غيبته يقال له مكي إضافة له إلى أصل مسكنه وإن كان ساكنا بمحل غيره فهو مكي بهذا الاعتبار وليس مكيا الآن من حيث السكنى والإقامة والعبرة هنا إنما هي بالنسبة إلى الثانية دون الأولى وظاهر قول السائل نفع الله به: والحال أنهم لا يجيئون إليها إلخ. أنهم أعرضوا عن سكناها بالكلية ولكنهم يترددون إليها لحاجة أو جمعة أو عيد فإن كان حالهم كذلك فهم غير متوطنين بذلك البلد قطعا لإعراضهم عن سكناه بنيتهم عدم العود إليه إلا لحاجة وهذا ظاهر لا تردد فيه وإنما التردد فيمن يفارقون البلد في بعض فصول السنة لربيع أو صيف مع عزمهم على العود عند انقضاء غرضهم وحكمه ما أشار إليه الجلال أنهم إن بعدوا عنها بحيث يسمى سفرا وانقطعت نسبتهم إليها في السكنى في ذلك الزمن صاروا غير متوطنين بها فلا تنعقد بهم وإلا فهم باقون على توطنهم ثم هذا كله إنما هو بالنسبة للتوطن وعدمه حتى يحسبوا من الأربعين أو لا وأما بالنسبة للزوم فإن سمعوا النداء بشروطه لزمهم الحضور لمحله وإلا فلا والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
"وسئل" - نفع الله به - هل يلزم المحبوسين إقامة الجمعة في الحبس؟ "فأجاب" بقوله: القياس أنه يلزمهم ذلك إذا وجدت شروط وجوب الجمعة وشروط صحتها ولم يخش من إقامتها في الحبس فتنة لكن أفتى غير واحد بأنها لا تلزمهم مطلقا وقد بالغ السبكي فقال لا يجوز لهم إقامتها وإن جاز تعددها وهو بعيد جدا وإن أطال الكلام فيه في فتاويه والاستدلال لعدم الوجوب بأن الحبوس لم تزل مشحونة من العلماء من السلف والخلف ولم ينقل أن أحدا منهم أقامها في الحبس يمكن الخدش فيه بأنه لا يتم إلا إن ثبت أنه وجد في حبس أربعون شافعيا ممن يعتد بفعلهم ولم يقيموها مع توفر ما ذكرناه من الشروط وعدم خوف الفتنة فمن أثبت هذا اتضح له عدم الوجوب ومن لم يثبته يلزمه أن يقول بالوجوب. فإنه الذي

 

ج / 1 ص -364-        يصرح به كلام أصحابنا. ولقد كان البويطي وهو في قيوده في الحبس يغتسل ويلبس نظيف ثيابه ويأتي إلى باب السجن فيشاور السجان في صلاة الجمعة فيمنعه فيرجع ويقول الآن سقطت الجمعة عني فتأمل محافظة هذا الإمام الذي هو أجل أصحاب الشافعي رضي الله عنه ولذا استخلفه في حلقته وأخبره بهذه المحنة التي وقعت له بقوله له: ستموت في قيودك على صلاة الجمعة, مع ما هو عليه تجده كالصريح في أنه لو أمكنه إقامتها في الحبس لفعلها فيه فإن قلت إن أقاموها قبل جمعة البلد أفسدوها على أهلها أو بعدها لم تنعقد لهم. قلت ممنوع فيهما بل عذر الحبس لا يبعد أنه يجوز التعدد فيفعلونها متى شاءوا قبل أو بعد ولا حرج عليهم حينئذ.
"وسئل" - أعاد الله علينا من بركاته - عن بيت واحد فيه أربعون متوطنون بصفة من تلزمهم الجمعة فهل يلزمهم إقامتها أو لا؟ "فأجاب" بقوله: أفتى جمع يمنيون بعدم الوجوب أخذا من قولهم: الشرط أن تقام بين الأبنية ولا أبنية هنا وقياسا على أهل الخيام, وأفتى آخرون بوجوبها عليهم وهذا هو الأوجه ولا دليل للأولين في تعبير الأصحاب بالأبنية لأنه للغالب ولا في القياس على أهل الخيام لأن من شأن أربابها النجعة وعدم توطن محل واحد بخلاف أهل البناء الواحد فإن من شأنهم توطن بنائهم وعدم النقلة منه وشتان ما بين هذين فزعم بعضهم أن أهل البناء الواحد أولى بعدم الوجوب من أهل الخيام غلط واضح إذ لا مساواة بوجه فضلا عن الأولوية.
"وسئل" نفع الله به عن قولهم تصح الجمعة خلف المتنفل والمحدث هل يشترط سماعهما للخطبة أو لا؟ "فأجاب" بقوله: أفتى بعضهم بأنه يشترط في الأول سماعها بالنسبة إلى صحة الجمعة لهم خلفه والذي يتجه خلافه ويفارق الخليفة إذا شرطنا سماعه بأنه يبني صلاته على صلاة الإمام. وهو لا يتحقق إلا بعد سماعه صحت خلفهما إذا زادا على الأربعين لوجود صورة الجماعة لا حقيقتها فلم يكن لاشتراط السماع وجه.
"وسئل" نفع الله به - عما جاء في الحديث الحسن:
"من ترك اللباس تواضعا وهو قادر عليه دعاه الله يوم القيامة على رءوس الخلائق حتى يخيره من أي حلل الإيمان شاء يلبسها" ما معناه؟ "فأجاب" بقوله: معناه ما ذكره أئمتنا أنه يسن ترك الترفع في اللباس المباح بأن لا يلبس أرفع الجنس الذي يباح له لبسه لما فيه من شهوة النفس وترفعها به على غيرها وقد نهي عن ذلك في حديث عند أبي داود وإنما السنة لبس أوسط الجنس الذي يباح له لبسه بل قال أصحابنا: يكره لبس الخشن لغير غرض شرعي لخبر النسائي: "إذا أعطاك الله مالا فكثر أثر نعمة الله عليك وكرامته" ولأن الخشن ثوب الشهرة كالرفيع أما لبس الخشن والمزري مع القدرة على الرفيع لغرض شرعي كهضم النفس واقتدائها بزهاد هذه الأمة الذين

 

ج / 1 ص -365-        لبسوا الشمال والخشن فهو محبوب. كما أن لبس الرفيع للعلماء محبوب بقصد امتثال أوامرهم وإشاراتهم وإجلال العلم وإيقاع هيبته في قلوب العامة ليتلقى عنهم ما برز منهم من الأوامر والنواهي والزواجر والتغليظات وقد لبس العز بن عبد السلام زي الزهاد بمكة لما حج فأمر بمعروف ونهى عن منكر فلم يلتفت إليه. فقيل له: لست من أهل الإنكار وإنما ينكر العلماء فلبس الثياب النفيسة كالطيلسان وذوات الأكمام الوسيعة ونحوها فامتثل أمره وخضع لقوله فعلم أن مصلحة هذا أعظم من مصلحة الهضم الذي لا يمتثل معه أمر فرجع إلى لبس شعار العلماء عملا بأرجح المصلحتين.
"وسئل" - نفع الله به - عمن اقتصر في خطبة الجمعة على الأركان بأن قال الحمد لله وصلى الله على سيدنا محمد, اتقوا الله وقرأ آية وفي الثانية أتى بالثلاثة وبيرحمكم الله هل يجزئه ذلك؟ "فأجاب" بقوله: نعم يجزئه ذلك حتى في صلى الله على سيدنا محمد كما صرحوا به.
"وسئل" - نفع الله به - عما إذا قرأ الخطيب آية في الخطبة من غير قصدها ولا قصد غيرها من الأركان كأن يقرأ:
{إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} [الأحزاب: 56] الآية أو: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ} [النحل: 90] الآية ونحوهما من الآيات في أثناء الوعظ أو غيره هل يجزئ عن الآية أو لا؟ إذا لم يقصد بها شيئا وهل يشترط في الخطيب أن يكون متذكرا لفرضها حين القراءة أم لا. وإذا ترك الخطيب الآية في الخطبة الأولى وجلس للفصل بينهما فلما قام تذكر وقرأ الآية موافقة لعادته ثم جلس للفصل فهل يقطع الجلوس الأول موالاة الخطبة الأولى أم لا؟ "فأجاب" بقوله: عبارة شرح العباب ولا تجب نية الخطبة ولا نية فرضيتها كما جزم به في المجموع في باب الوضوء وجزم به أيضا ابن عبد السلام في فتاويه. وعلله بأنها أذكار وأمر بمعروف ونهي عن منكر وقراءة وكل ذلك لا يحتاج لنية لأنه ممتاز بصورته منصرف إلى الله تعالى بحقيقته فلا يفتقر إلى نية تصرفه إليه وهذا أوجه مما في الروضة وأصلها عن القاضي من اشتراط ذلك وإن جزم به في الأنوار كالأذرعي واقتضاه كلام ابن الرفعة وكلام الروضة مشير إلى ضعف كلام القاضي بل القاضي نفسه إنما فرعه كما في المهمات عنه على القول الضعيف أنها بدل عن الركعتين انتهت وبها يعلم أن المعتمد أن قراءة الآية في الخطبة لا يشترط في وقوع الاعتداد بها عنها نية كونها منها. بل يكفي الإتيان بها وإن لم يقصد شيئا لانصرافها إليها بلا نية كما تقرر نعم الشرط عدم الصارف بأن لا يقصد غير الخطبة كما هو ظاهر وفي شرح العباب أيضا والتاسع أن يعلم الخطيب واجبها أي الخطبة كما في الأنوار وليس كلامه بظاهر بل الذي يظهر أخذا مما مر في الصلاة أن الشرط أن لا يقصد بفرض معين النفلية فإذا علم أن فيها واجبات وأتى بها ولم يقصد بواحد معين منها أنه نفل صحت على قياس الصلاة بالأولى. ا هـ. وبه يعلم أنه لا

 

ج / 1 ص -366-        يشترط في الخطيب أن يكون متذكرا لفرض القراءة حين قراءته الآية بل الشرط أن لا يقصد بها النفلية وفيه أيضا بعد قول المتن: الخامس أي من الأركان قراءة آية مفهمة في إحدى الخطبتين وتجزئ كما في الأم وغيرها قبلهما وبعدهما وبينهما لأنها إما في الأولى أو الثانية والثابت القراءة في الخطبة دون تعيين نعم تسن في الأولى كما في المجموع. ا هـ. وبه يعلم أن قراءة الخطيب للآية فيما ذكر آخر السؤال وقعت في محلها لما تقرر أن الثانية محل لها كالأولى وأنه مخطئ بالجلوس الثاني فلا يضر إن كان جاهلا وقصر الفصل وإلا ضر ولزمه. إعادة الخطبة وأن جلوسه الأول وقع في محله أيضا لأن قراءتها في الأولى سنة لا واجبة كما تقرر.
"وسئل" - نفع الله به - عن خطيب يترك لبس الطيلسان ويزعم أنه ليس بسنة هل زعمه صواب أم لا؟ "فأجاب" بقوله: ليس ما زعمه بصواب بل الصواب أنه سنة كما صرح به غير واحد من أئمتنا وللجلال السيوطي رحمه الله مؤلف مستقل في سنية لبس الطيلسان جمع فيه الأحاديث الواردة في ذلك وبين ما فيها والرد على من خالف في ذلك فشكر الله سعيه. ولقد كان شيخنا الإمام الأستاذ أبو الحسن البكري - سقى الله ثراه - يديم لبسه أول أمره في دروسه وغيرها فاعترضه بعض من له اعتياد ما بالحديث فبالغ الشيخ في الرد عليه بذكر الروايات الدالة على ندب لبسه ثم قال للمنكر أما تنكر ما أنت عليه من صفة كذا وكذا وبين له أمورا مجمعا على ذمها فكان ذلك مانعا للناس من الإنكار عليه كما أنهم لما أنكروا على الجلال في إدامة لبسه في سائر المواكب وغيرها صنف فيه فأجاد وأفاد والله تعالى يرحمنا وإياهما وسائر علماء المسلمين بمنه وكرمه آمين.

باب اللباس.
"وسئل" رضي الله عنه - ونفع بعلومه وبركته - عن فتخة الفضة المسماة عندنا بالحلقة هل يجوز للرجل لبسها أم لا لأنها ليست حينئذ داخلة في مسمى الخاتم لغة كما قاله ابن الملقن في العمدة قال ولم يجوزوا للرجل لبس شيء من حلي الفضة إلا الخاتم وليست هذه خاتما كما تقدم. ا هـ كلامه بمعناه لكن في نهاية ابن الأثير أن الحلقة خاتم بلا فص فسماها خاتما فما المعتمد في ذلك أفيدونا متع الله بكم المسلمين؟ "فأجاب" - فسح الله في مدته - بقوله: الذي يتجه جواز الحلقة المذكورة. فقد صرح أصحابنا بأنه لا فرق في جواز لبس الخاتم بل ندبه للرجل بين ما له فص وما لا فص له فأفهم ذلك أن كلا مما له فص وما لا فص له يسمى عندهم خاتما وإن كان الخاتم لغة لا يطلق إلا على ما له فص فقد قال في الصحاح والفتخة بالتحريك حلقة من فضة لا فص فيها فإذا كان فيها فص فهي الخاتم. ا هـ. فأفهم أن الحلقة غير الخاتم لغة فعلم بما تقرر من كلام الفقهاء واللغويين أن الخاتم عند

 

ج / 1 ص -367-        الفقهاء لا يشترط فيه الفص وحينئذ فيكون كلامهم صريحا فيما ذكرته من جواز الحلقة المذكورة. وزعم ابن الملقن ما ذكر عنه في السؤال يرده ما تقرر من أن عدم دخولها في مسمى الخاتم لغة لا يقتضي تحريمها لأن الأئمة صرحوا بحل ما لا فص له مع أنه لا يسمى خاتما لغة فعلم أنهم لم يريدوا بالخاتم في كلامهم الخاتم في اللغة بل ما هو أعم منه فاندفع نظره بلم يسم خاتما لغة وكأنه غفل عما ذكرته من أن الفقهاء يسمونه خاتما وإن لم يكن له فص واللغويين يخصون اسم الخاتم بما له فص على أنه قد يطلق على ما لا فص له اسم الخاتم أيضا كما يدل له كلام ابن الأثير المذكور في السؤال. فإن قلت ينبغي تحريمها من جهة أخرى وهي كونها من شأن النساء وقد صرح الأئمة بأن التشبه بالنساء حرام وعكسه للحديث الصحيح: "لعن الله المتشبهين بالنساء من الرجال والمتشبهات من النساء بالرجال" قلت إنما يحرم التشبه بهن بلبس زيهن المختص بهن اللازم في حقهن كلبس السوار والخلخال ونحوهما بخلاف لبس الخاتم بلا فص وهو الحلقة المذكورة فإنه ليس من شعارهن المختص بهن ويدل على ذلك قول الشافعي رضي الله عنه في الأم: ولا أكره للرجل لبس اللؤلؤ إلا للأدب فإنه من زي النساء لا للتحريم. قال في المجموع ردا على الرافعي الفاهم من هذا النص تبعا للشاشي أن التشبه بهن مكروه فقط وليس كما قالاه بل الصواب الحرمة وأما نصه في الأم فليس مخالفا لهذا لأن مراده أنه من جنس زي النساء لا أنه زي لهن مختص بهن لازم في حقهن. ا هـ. وكذلك نقول: الحلقة المذكورة إن سلم أنها زي لهن أي من جنس زيهن لا أنها بهن لازمة في حقهن. وقد أخرج البخاري وغيره عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم اتخذ خاتما من فضة فصه منه وفي صحيح مسلم أن فص خاتمه صلى الله عليه وسلم كان حبشيا. قال النووي نقلا عن العلماء يعني كان حجرا حبشيا أي فصا من جزع أو عقيق فإن معدنهما بالحبشة واليمن. ا هـ. ولا ينافيه هذه الرواية التي قبلها بإمكان الجمع بأنه صلى الله عليه وسلم كان له خاتمان من فضة أحدهما فصه منه والآخر فصه حبشي أي جزع أو عقيق وورد في التختم بالعقيق أحاديث منها أنه ينفي الفقر وأنه مبارك وأن من تختم به لم يزل ير خيرا وكلها لم يثبت منها شيء كما قاله الحفاظ وورد بسند ضعيف أن التختم بالياقوت الأصفر يمنع الطاعون وبما تقرر من أن الفص تارة يكون من الخاتم. وتارة يكون من غيره مع قولهم السابق يجوز لبس الخاتم وإن لم يكن له فص يظهر ما مر من جواز لبس الحلقة المذكورة إذ لا يتصور شيء يلبس في الإصبع من الفضة ولبس فصه منه ولا من غيره يسمى خاتما وهو غير الحلقة المذكورة فليتأمل ذلك فإنه صريح واضح في الدلالة على ما ذكرته من حل الحلقة المذكورة على أن المتولي والغزالي في الفتاوى شذا فقالا: لا يجوز للرجل التحلي بغير الخاتم من حلي الفضة كالسوار والدملج والطوق ونحوها لأنه لم يثبت في الفضة إلا تحريم الأواني وتحريم التشبه بالنساء. ا هـ. وما قالاه ضعيف جدا فإن هذا من التشبه بالنساء كما صرح به الأصحاب وهو ظاهر والله سبحانه وتعالى أعلم.

 

ج / 1 ص -368-        "وسئل" - نفع الله به - عن حديث أبي داود وابن حبان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجل رآه لابسا خاتما من شبه "ما لي أجد منك ريح الأصنام" فطرحه ثم جاء وعليه خاتم من حديد فقال "ما لي أرى عليك حلية أهل النار" فقال يا رسول الله من أي شيء أتخذه قال "اتخذه من ورق لا تتمه مثقالا" هل الحديث صحيح وما حكم الخاتم المتخذ من الأنواع المذكورة؟ "فأجاب" بقوله: الحديث حسن صحيح كذا قاله بعض المتأخرين وكأنه تعقب بذلك قول النووي إنه ضعيف والشبه بمعجمة مفتوحة فموحدة صنف من النحاس كلون الذهب, والحديث حجة في كراهته وليس في سياقه ما يقتضي تحريمه وكذا القول في خاتم الحديد وجواز خاتم الفضة للرجال لا نزاع فيه واشتراط الوزن المذكور في الحديث قال به جماعة من العلماء ومن أصحابنا أبو سعيد المتولي وغيره وصوبه الأذرعي وقال: ليس في كلامهم ما يخالفه لكن الأوجه ضبطه بما لا يعد إسرافا في العرف كما اقتضاه كلامهم وصرح به الخوارزمي وغيره في الخلخال.
"وسئل" - فسح الله في مدته - هل يجوز التفرج على الزينة إذا أمر بها نواب السلطان لفتح بلاد حصل له أو لغير ذلك أو لا يجوز لأن تزيين الجدران بالحرير منكر؟ "فأجاب" بقوله: نعم يحرم كما أفتى به ابن الرفعة قال لأنها إنما تعمل لأن ينظر إليها وهو العلة الغائية المطلوبة منها ففي تحريم النظر إليها حمل على تركها ونقله عنه السبكي وارتضاه بل وأخذ منه أن من فتح بابا في جدار مسجد وقلنا بحرمة ذلك عليه وهو المذهب سواء أكان لمصلحة نفسه أم لا يحرم المرور منه إلا لضرورة, سواء أكانت عتبه عريضة أم لا فإن قلت ما ذكره ابن الرفعة ظاهر إن لم يكونوا مكرهين على الزينة بخصوص الحرير وإلا كما هو الواقع الآن فلا ينبغي حينئذ حرمة النظر إليها لجوازها قلت هذا محتمل إن وجدت شروط الإكراه على الحرير بخصوصه ولم يكتف بغيره. ويحتمل وهو الأقرب الحرمة وإن وجد ذلك لأن الإكراه على الحرير بخصوصه ولم يكتف بغيره ويحتمل وهو الأقرب الحرمة وإن وجد ذلك لأن الإكراه على المحرم إنما يبيحه للمكره لا لغيره فأصحاب الدكاكين وإن أبيح لهم الزينة بالحرير والجلوس تحته لأجل الإكراه لا يباح لغيرهم النظر إلى ذلك للتفرج عليه ولا المرور في الأسواق المزينة بذلك بلا حاجة لأن في ذلك إغراء العوام وإيهامهم أنها حلال من غير إكراه ففي تواطؤ الناس على عدم التفرج عليها حمل لنواب الإمام على عدم الإكراه المحرم عليهم كما لا يخفى وما لا يتوصل إلى ترك المحرم إلا به فهو واجب.
"وسئل" - أعاد الله علينا من بركاته - هل يحرم لبس اللؤلؤ على الرجال؟ "فأجاب" بقوله: لا كما نص عليه الإمام الشافعي رضي الله عنه ولفظه لا أكره لبس اللؤلؤ إلا للأدب فإنه. من زي النساء لا للتحريم لأنه لم يرد الشرع بتحريم لبسه.
"وسئل" - نفع الله به - عن قول المحاملي في المقنع لبس الثياب المصبوغة من ترك المروءة هل هو وإطلاقه معتمد؟ "فأجاب" بقوله: نعم إن لم يلق به ذلك.

 

ج / 1 ص -369-        "وسئل" رضي الله عنه بما صورته ما أفتى به النووي رضي الله عنه وغيره من حرمة كون وثيقة الصداق حريرا إن أريد كتابة الرجال فيه فهو كخياطة الحرير وهو جائز للرجال أو اتخاذ النساء له فاتخاذ المرأة للحرير وافتراشها له جائز فما وجه الحرمة؟ "فأجاب" بقوله: رضي الله عنه الذي يظهر أن المراد الأول ولا نسلم أنه كالخياطة. لأن الثوب محتاج إليه ولا يمكن لبسه إلا بها بخلاف كون المكتوب فيه حريرا فإنه لا حاجة إليه أصلا وأيضا فالكتابة في شيء استعمال له عرفا بخلاف خياطته.
"وسئل" رضي الله عنه هل يجوز عمل عصائب النساء من الورق البياض ويجوز دوسه والاستنجاء به أو لا لتعظيمه من حيث كونه خلق لأن يكتب فيه نحو القرآن والسنة والعلوم الشرعية وكتابة غيرها فيه لم يخلق لها كما أشار إليه السبكي؟ "فأجاب" بقوله: الذي أفتى به البلقيني جواز عمل العصائب منه قال: وأما حديث لهن رءوس كأسنمة الإبل فلا يتناول ما نحن فيه. وهذا من الزينة المباحة ونقل الزركشي عن القمولي وأقره جواز الاستنجاء بالورق الكاغد إن كان خشنا مزيلا وصرح بذلك جماعة من المتأخرين ونقلوه عن الماوردي ويؤخذ منه جواز الدوس بالأولى ورد ما قاله السبكي مما ذكر في السؤال ومن حرمة دوسه ولو سلمنا خلقه لذلك فذلك لا يقتضي استعماله فيما لم يخلق له خلافا للسبكي حيث قال: إنه يقتضيه لا يقال الورق فيه النشاء وهو مطعوم لأنا نقول الكلام في ورق لا نشاء فيه على أن النشاء مستهلك فلا أثر لوجوده.
"وسئل" - نفع الله به - عن ورقة فيها اسم الله تعالى. هل يجوز أن يجعل فيها فضة ونحوها؟ "فأجاب" بقوله: نقل السبكي عن الفقهاء أنه لا يجوز ومقتضاه أنه لا فرق بين القرآن وغيره وأن القرآن لا فرق فيه بين أن يقصد به الدراسة أو لا وهو متجه وينبغي أن يلحق باسم الله تعالى كل اسم معظم.
"وسئل" - فسح الله في مدته - بما لفظه: شك في تساوي الحرير وغلبته فهل يجوز؟ "فأجاب" بقوله: نعم يجوز ذلك قياسا على ما قالوه في الضبة وقول الأنوار يحرم, ضعيف على أن نسخه مختلفة.
"وسئل" - نفع الله به - عمن نصب ثوب حرير وجلس تحته بحيث يسامت رأسه بعض الثوب المنصوب. ويصير تحته كما اعتاده أهل مصر في نصب البشاخين والنواميس عند دعوتهم الناس إلى وليمة ونحوها فهل يحل الجلوس تحت ما ذكر أو لا وهل يجوز نصب ما ذكر أو لا؟ "فأجاب" بقوله: الذي يظهر حرمة الجلوس تحت ما ذكر لأنه استعمال له عرفا ومن توهم أن استعمال نحو البشخانة إنما هو بالجلوس داخلها فقد غفل عن أن لها في العادة استعمالين أحدهما مع العيال وهو بما ذكر والثاني استعمال المدعوين وتزينهم بها وليس هو إلا بجلوسهم تحتها وهي منصوبة فإن قلت ينبغي أن يكون الجلوس المذكور

 

ج / 1 ص -370-        مباحا لأنا شككنا في كونه استعمالا أو غيره فلا يحرم بالشك قلت العرف قاض بأنه استعمال بلا شك وعلى تسليم ما ذكر فالأصل في الحرير الحرمة حتى يتبين الوجه المجوز لاستعماله وهو هنا أن يجمع أهل العرف على أن ما ذكر ليس استعمالا ولم يوجد ذلك فكان البقاء مع الأصل أولى ولا ينافي ما ذكرناه من الأصل جواز لبس الثوب المشكوك في كون أكثره حريرا أو كتانا مثلا خلافا لما في بعض نسخ الأنوار وقياسا على مسألة الضبة لأنا نقول الأصل في المختلط عدم زيادة واحد بعينه. وجواز استعماله حتى يعلم أن الأكثر هو الحرير. ولم يعلم فغلبنا هذين الأصلين على الأصل السابق على أنه إنما يتحقق وجوده في صرف الحرير فلا ترد مسألة المختلط أصلا وأما نصب ما ذكر فالظاهر أنه ليس من تزيين الجدران بالحرائر الذي قالوا بحرمته إن قصدت المرأة بنصبها أنها تستعملها وحدها فإن قصدت به جلوس الرجال تحتها أو زينة الجدار أو البيت أو استعمالها بجلوسها هي وزوجها فيها حرم نصبها. وكان ذلك منكرا مانعا من وجوب الإجابة في الوليمة.
"وسئل" - نفع الله به - هل الأفضل لبس الخاتم في اليمين أو اليسار وما حكم نقشه بالذكر أو غيره؟ "فأجاب" بقوله: ورد في أحاديث إيثار اليمين وفي أخرى إيثار اليسار وقد بينتها وما يتعلق بها في شرح الشمائل للترمذي والحاصل أن الأفضل عندنا لبسه في اليمين للحديث الصحيح كان يحب التيامن في شأنه كله أي مما هو من باب التكريم ولا شك أن في التختم تكريما - أي تكريم - فيكون في اليمين واعترض بعض الناس قول مالك رضي الله عنه يكره في اليمين. ويكون في اليسار بأنه يلزم عليه الاستنجاء بالخاتم مع أن أكثر الخواتيم فيها نقش القرآن والأذكار وهو اعتراض واه لأنه بسبيل سهل من أن يقلعه من يساره عند الاستنجاء حتى في الخلاء ويجعله في فمه, وحجة مالك في كراهية جعله في اليمين أنه عنده ليس من التكريم وإنما يجعل في اليد للختم به لما في الحديث أن كسرى وقيصر لا يقبلون إلا كتابا مطبوعا فاتخذ عليه الصلاة والسلام خاتما ونقش عليه: محمد رسول الله فإذا كان موضوعا في اليد فيتناول للختم به فالتناول إنما يسن باليمين وحينئذ فيلزم أن يكون باليسار. ويجاب بأن هذا إنما يتجه أن لو كانت سنة لبسه متقيدة بالختم به أما إذا لم تتقيد بذلك كما دل عليه ما جاء أنه صلى الله عليه وسلم كان له خاتمان خاتم يختم به وخاتم يلبسه دائما فلا يتجه ذلك الذي قاله مالك ثم رأيت بعض المالكية التزم ما في الاعتراض فقال: إن كان فيه ذكر الله فالأحسن إزالته عند الاستنجاء وإلا فالأمر واسع ورأيت بعضهم ذكر ما أجبت به عن احتجاج مالك فقال: الخاتم زينة مرخص فيها أصلها الحاجة لأنه صلى الله عليه وسلم إنما اتخذه لطبع الكتب حين قيل له إنهم لا يقبلون إلا الكتاب المطبوع. ولكن رخص فيه لجميع الأمة مع أنه يثقلها ويشغل البال وافترقت الصحابة رضي الله عنهم إلى قسمين منهم من كان يتختم في اليمين ومنهم من كان يتختم في اليسار وبالغ بعض المالكية وهو الباجي من أئمتهم فقال: الثاني هو الذي أجمع عليه أهل السنة وهو قول مالك وكره التختم في اليمين

 

ج / 1 ص -371-        قال ولا بأس أن يجعل الخاتم في يمينه للحاجة يتذكرها أو يربط خيطا في أصبعه ولابن القاسم عن مالك ولا بأس بلبس الخاتم فيه ذكر الله يلبسه في الشمال ويستنجي به وروى أبو داود أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد الخلاء وضع خاتمه وهو حديث منكر. ا هـ. وفيه ما فيه وخبر أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن عشر خصال ومنها "وعن التختم إلا لذي سلطان" قال أبو عمر بن عبد البر لا تقوم به حجة وفي الموطإ أنه أفتى بجواز لبس الخاتم أي مطلقا وقال لمن أفتاه أخبر الناس أني أفتيك بذلك قال ابن عبد البر: أراد مالك بذلك الإنكار على أهل الشام في إنكارهم له إلا لذي سلطان وهو حديث منكر قال ابن المسيب ألبسه على الجنابة وأدخل به الخلاء وأكتب فيه ذكر الله. وأجاز الحسن نقش الآية فيه وكرهه النخعي وغيره وكره ابن سيرين أن يكون في الخاتم اسم الله تعالى. قال بعض المالكية: وقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم اتخذ خاتما وزنه درهمان وفصه منه ونقش عليه: محمد رسول الله ونهى أن ينقش أحد عليه وكان في يده حتى مات ونقش مالك في خاتمه: حسبي الله ونعم الوكيل. ولبس أبو بكر رضي الله عنه وكرم وجهه خاتم النبي صلى الله عليه وسلم بعده ثم عمر ثم عثمان رضي الله عنه ثم سقط من غلامه معيقيب أو منه بعد ست سنين من خلافته في بئر أريس عند قباء فالتمس فلم يوجد وكان ذلك سبب فتح باب الفتنة التي ما زالت تطمو إلى أن قتل عثمان رضي الله عنه ثم تزايدت كما هو معلوم مشهور, ولما سقط من عثمان اتخذ بدله من ورق ونقش عليه محمد رسول الله أيضا قيل: وذكرت الهواتف فيه أنه كان أمنة للصحابة رضوان الله عليهم ومن حين سقوطه دخل بينهم ما دخل من الخلاف والفتن وتغيير القلوب وروى الزهري عن أنس أنه صلى الله عليه وسلم اتخذ خاتما من ذهب ثم نبذه فنبذ الناس خواتيمهم لبيان تحريم الذهب على الرجال ولا خلاف في جوازه للنساء وروي في كراهته لهن ما لا يقوم به حجة. وتمويهه بالذهب حرام عندنا مطلقا ثم إن حصل منه شيء بالعرض على النار حرمت استدامته وحرم لبسه وإلا فلا هذا مذهبنا وكره في العتبية للمالكية أن يجعل الرجل في خاتمه من الفضة قدر الحبة من الذهب لئلا يصدأ أو في رواية ابن وهب لم أزل أسمع أن الحديد يكره التختم به وكرهه أبو حنيفة للرجال قال ابن العربي وقد جاء أنه صلى الله عليه وسلم رأى رجلا وعليه خاتم من شبه أي: نحاس فقال له: إني لأجد منه ريح الأصنام وقال لآخر: "ما لي أرى عليك حلية أهل النار" لكن استدل له بقوله صلى الله عليه وسلم في حديث الصداق: "اتخذ ولو خاتما من حديد". وجاء عن علي رضي الله عنه وكرم الله وجهه قال: نهاني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أتختم في هذه وهذه يعني الوسطى والسبابة وقال الترمذي معناه أنه كان يكره التختم في الإصبعين واعترضه بعض المالكية فقال: إنما المعنى - والله أعلم - لا يتشبه الرجل بالنساء في التختم في الأصابع كلها قيل: والذي استقر عليه العمل أنه يجعل في الخنصر وثبت في الحديث أن وزنه درهمان من فضة وأن فصه منه وأنه جعله مما يلي كفه. ا هـ. والأخيران مسلمان والأول فيه نظر ففي الحديث ولا يبلغ به مثقالا

 

ج / 1 ص -372-        "وسئل" رضي الله عنه بما لفظه: ما حكم لبس زي الصلحاء والعلماء لهم. أو لغيرهم وما العمل الذي يسد خوف الرياء وكيف حال سندهم في لبس الخرقة؟ "فأجاب" بقوله: من تزيا زي صالح أو عالم فإن قوي يقينه بحيث لم يخش على نفسه رياء ونحوه لم يكن في ذلك بأس, وإن خشي تركه وإن كان صالحا أو عالما ذكره العز بن عبد السلام قال: والعمل إما أن يشرع فيه السر والخفاء كقيام الليل والذكر والدعاء فهذا لا يظهره وإلا خالف السنة وتعرض للرياء والسمعة وإما أن يشرع فيه الجهر كالأذان وتشييع الجنائز والجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والولايات الشرعية كالإمامة. فهذا لا يترك خوف الرياء والسمعة بل يجاهد نفسه في دفعهما وعلى هذا درج السلف والخلف, وإما أن يخير الشرع فيه بين الجهر والسر كالصدقة قال تعالى: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ} [البقرة: 271] الآية فهذا إخفاؤه خير من إظهاره للأمن من الرياء نعم إن كان ممن يقتدى به فإظهاره لأجل ذلك أفضل إذا قوي على حفظ نفسه من شوائب الفتنة والرياء لأنه متسبب في التوسعة على الفقراء ومثوبة الأغنياء ومن سن سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها. ا هـ. وذكر ابن عبد البر عن العلماء أنهم كرهوا الإفراط في بذاذة اللباس وعلوه. وقال النخعي: البس من الثياب ما لا يشهرك عند العلماء ولا يحقرك عند السفهاء. وأغراض السلف متفاوتة في إيثار الرفيع والخسيس فكان القاسم بن محمد بن أبي بكر رضي الله عنهم يلبس الخز وسالم بن عبد الله بن عمر رضي الله عنهم يلبس الصوف ولا ينكر أحدهما على الآخر وكان الخلفاء الراشدون لا يلبسون الخز لأنه بعيد من الزهد وداع إلى الزهو ففي الموطإ كان عمر رضي الله عنه وهو أمير المؤمنين يلبس ثوبا قد رقع بين كتفيه برقاع ثلاث بعضها فوق بعض قال الباجي يحتمل أنه رقعه مرة وتخرق ثم رقعه بعد مرة أخرى, ويحتمل أن يفعل ذلك في بيته ويلبس غير ذلك بين الناس أو يكون ليس مثل ذلك فاشيا بين أبناء الزمان فلا يشتهر به من لبسه ويحتمل أنه أخذ نفسه بذلك وإن اشتهر بالتقدم في الدين وشهد له بالجنة, ويحتمل أن ماله لم يتسع لأكثر وكان يحب التقليل من الأخذ من بيت المال وكان في هذه بعد الولاية أقوى منه قبلها وكذا كان بعض ذريته عمر بن عبد العزيز ولبس أبو بكر الكساء حتى عرف به وقالت غطفان في الردة ما كنا نتابع صاحب الكساء وكان على غاية من الخشونة في لباسه ومطعمه كان قميصه إلى نصف ساقه وكماه إلى طرف يده. وقال هو أجمع للقلب وأبعد من الكبر وأحرى أن يقتدي به المؤمن وكان سلمان وأبو ذر رضي الله عنهما في غاية من الزهد والرضا باليسير ورأى ابن عمر أباه يرمي جمرة العقبة وعليه إزار فيه اثنتا عشرة رقعة بعضها من أدم وكتب إلى بعض عماله ليكن طعامكم ولباسكم خشنا خلقا قيل: ومن هذه الآثار أخذ المتصوفة لباس الخرقة والتزيي وقد رواها جماعة من المتأخرين كالشيخ يوسف العجمي المدفون بقرافة مصر رحمه الله تعالى. وذكر بعض الصوفية سنده في الخرقة والمرقعة إلى أويس عن عمر رضي

 

ج / 1 ص -373-        الله عنهما وإلى الحسن عن علي رضي الله عنهما وإلى جابر بن عبد الله رضي الله عنهما فلمن ثبتت عقيدته فيهم وقوي يقينه وأمن على نفسه أن يظهر عليه آثار باطنه أن يلبس زيهم وهو الخرقة لقوله صلى الله عليه وسلم: "من تزيا بزي قوم فهو منهم ومن كثر سواد قوم فهو منهم ومن تشبه بقوم فهو منهم" وذكر غير سيدي يوسف العجمي من المؤلفين في طريق السائرين إلى الله أنه إذا صح للمريد مقام التوبة والورع وشرع في مقام الزهد فقد آن له لبس الخرقة إن رغب فيها فليراع ما يلزمه في لبسها لكن قد ارتفعت هذه القاعدة وانحل النظام ووقع الرضا من جهة الاتباع بالأوفق ومن جهة المتبوعين بالابتداع ومن ذلك ينتشر الفساد ويظهر العناد فلابس المرقعة يجب أن يكون قد أدب نفسه بالآداب وراضها بالمجاهدات والمكابدات وتحمل المشاق وتجرع المرارات وجاوز المقامات واقتدى بالمشايخ أهل الاتباع والاقتداء وصحب رجال الصدق وعرف أحكام الدين وحدود أصوله وفروعه ومن لم يكن بهذه الصفة فحرام عليه التعرض للمشيخة والإرادة. ا هـ. قال بعض الأئمة صدق الشيخ فيما ذكر لأنه لا يلبس الخرقة والمرقعة وزي الصالحين اليوم إلا كل مدع ليس معه من حلية القوم إلا القشرة خاصة خلي من المعنى لا ترى إلا دعاوى باطلة وأصولا واهية واتباع الآثار بالظواهر خاصة لا سيما إن كان من ذرية القوم وربما لبسها بعض العوام يلبسون على الناس أنهم من أهلها وليسوا كذلك وربما لبست بقية من لصوص ونحوهم وهذا له مندوحة كأكل الميتة للضرورة وذكر القاضي عياض أن من يتوصل لتحصيل الدنيا بطريقة الصلاح أشر من الظلمة. وذكر بعضهم أن الصوفية ثلاثة أصناف صوفية الحقائق وحالهم ترك الكدر وامتلاء الفكر واستواء الحجر والمدر قيل: هو كمال المعاني وترك الدعاوى وهؤلاء هم الصديقون والعلماء العارفون. وصوفية الأرزاق وهم الذين وقفت عليهم الخوانك والربط وشرطهم العدالة والتأدب بآداب أهل الطريق وهي الآداب الشرعية في غالب الأوقات وأن لا يتمسكوا بفضول الدنيا من التجارات ونحوها. وصوفية الرسوم وهم المقتصرون على لبس زي القوم فليس لهم همة إلا في تحصيله وآداب وضعية يتعارفونها فيما بينهم. ومنزلة هؤلاء من الصوفية منزلة من يلبس ثياب العلماء أو المجاهدين متشبها بهم من غير أن يعرف شيئا من العلم أو الجهاد وهؤلاء هم الذين أشار إليهم - سيدي أبو مدين قدس الله روحه - بقوله: واعلم بأن طريق القوم دارسة وحال من يدعيها اليوم كيف ترى. وسئل بعض العلماء عن سنده في الخرقة فقال: أما لبس القلنسوة أو العمامة أو الثوب فمن المشايخ من استحسنه بمنزلة خلع الملوك ولم يره آخرون إذ لم يرد أنه صلى الله عليه وسلم كسي ثوبا قال: وقد كنت لبست خرقة التصوف من طرق جماعة أبينها طريق شيخ الإسلام أبي محمد عبد القادر. وهي أجل الطرق المشهورة ولبسها من طريق الشيخ العارف أبي حفص عمر السهروردي ومن طريق الشيخ أحمد الرفاعي والشيخ أبي البيان الدمشقي وأخذت سلوك الطريق عن الشيخ عدي بن مسافر وأبي مدين المغربي وأخذنا عن الشيوخ المتقدمين كالفضيل والداراني

 

ج / 1 ص -374-        ومعروف الكرخي وأما نفس لبس الخرقة فاستحسنه جمع من الشيوخ وأسندوه من طريق مشهورة وقد يحصل بها منفعة واتصال وانضمام إلى أهل الخير والدين. ا هـ. ويقع لبعض الصوفية أن يقنع من أتباعه بأدنى عمل لعله ينجر إذا تشبه بالقوم إلى طريقتهم وهذا قصد حسن رأينا بعض مشايخنا يفعله وقال بعضهم وإنما ينبغي لبس الخرقة حيث لم يعارضه أحد ثلاثة أشياء احتياجه إلى أصل من الأثر يعتمد عليه ليخرجه من البدعة أو من مقاطع الاجتهاد, والرأي الثاني سلامته من اختلاف الأهواء والميل عن السنة. الثالث اتصال سندها وهو متصل إلى أويس عن عمر رضي الله عنهما وإلى الحسن عن علي رضي الله عنهما وهذا أشهر عند أهل العلم وأشهر طرقه طريق الشيخ عبد القادر وهو يرويه عن أبي السعادات الحرمي عن أبي الفرج الطرسوسي عن أبي الفضل التميمي وهو عبد الواحد بن أبي الحسن الفقيه الحنبلي عن أبي بكر الشبلي عن أبي القاسم الجنيد عن خاله السري السقطي عن معروف الكرخي عن داود الطائي عن حبيب العجمي عن الحسن البصري عن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم ومن طريق آخر إلى جابر بن عبد الله الأنصاري. واعلم أن السند إلى معروف متصل ومن بعده منقطع إذ لا يعرف له صحبة لداود الطائي ولا لعلي بن موسى الرضا وإنما تعرف صحبته لبكر بن حبيش وعنه يروي أحاديث الزهد وما يرويه غير أهل العلم الخطأ فيه كبير وإن كانوا ذوي فعل وصلاح ومن ثم نفر مالك عن الأخذ عنهم وصحبة داود لحبيب العجمي فيها نظر وأما اجتماع الحسن بعلي فباطل باتفاق أهل العلم بهذا الشأن وما يروى أنه سأله ما صلاح الدين قال الورع وما فساده قال الطمع. كذب موضوع وإسناد أويس أكثر انقطاعا وإسناد جابر أشد انقطاعا من الكل. لكن هؤلاء المشايخ الذين رووها أعلام كلهم لقي أشياخا غير هؤلاء والمعول عليه إنما هو على التواصي على البر والتقوى واعترض بعض المالكة ما ذكر من الانقطاع بأنهم حفظوا ومن حفظ حجة على من لم يحفظ. وزيادة العدل الصحيح قبولها وبأن نفي صحبة معروف لداود شهادة نفي فالمثبت أولى وبأن نفي لقي الحسن لعلي رضي الله عنهما غير متيقن لإمكان اجتماعه به فإنه كان بالكوفة والحسن بالبصرة وبعيد أن يسمع بعلي قريبا منه ولا يجتمع به. ولا يجتمع به ومثل هذا الإمكان كاف في الاتصال عند غير البخاري وبأن المنقطع بتقدير تسليم جميع ما ذكر معمول به في الفضائل وهذا مثلها لأن المدار فيه على الزهد والفضيلة.
"وسئل" رضي الله عنه عن استعمال الرجل المكحلة المغشاة بالحرير أو المطرزة بالقصب هل يحرم مطلقا أو فيه تفصيل؟ "فأجاب" نفع الله به بقوله: الظاهر في هذا تفصيل لا بد منه وهو أنه إن أمسكها واكتحل منها أثم لأن هذا استعمال لها وإن أخذ منها بالمرود. من يحل له استعمالها كامرأة وأعطته له لم يحرم وإن أمر بعملها له بخصوصه لأنها حينئذ أولى بالحل من نحو كيس المصحف الذي صرح بحله الفوراني ومن كيس الدراهم أو غطاء

 

ج / 1 ص -375-        العمامة والكوز الذي بحث حله الإسنوي واعترضه الزركشي بما رددته عليه في شرح العباب فإن قلت ظاهر هذا وتجويز المجموع وغيره خيط المسبحة تجويز غشاء المكحلة واستعمالها مطلقا فما المعنى المقتضي للتفصيل السابق فيها دون هذه النظائر؟ قلت الذي صرح به الإسنوي وأفهمه كلامهم أن شرط استعمال الحرير. المحرم أن يتعلق ببدنه فخرج كيس المصحف والدراهم وغطاء العمامة والكوز ودخلت المكحلة إذا تكحل منها بنفسه لأنه استعمل الحرير الذي عليها حينئذ بخلاف ما إذا كحله غيره ويفرق بينه وبين خيط السبحة ولقية الدواة بأنهما مستوران فلا خيلاء فيهما غالبة بخلاف المكحلة ويؤخذ من كلام الزركشي فرق آخر وهو أن غير الحرير يسرع تقطعه من المسبحة والدواة بخلاف الحرير فاحتيج إليه كالسجاف فلا زينة ولا خيلاء بخلاف غشاء المكحلة فإنه لمحض الزينة والخيلاء من غير حاجة فيه. إلى خصوص الحرير ألبتة وهو فرق ظاهر كالذي قبله.
"وسئل" - نفع الله به - هل روي أنه صلى الله عليه وسلم لبس عمامة صفراء؟ "فأجاب" بقوله: أخرج الحاكم والطبراني عن جعفر رضي الله عنه قال: رأيت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثوبين مصبوغين بزعفران رداء وعمامة وأخرج ابن سعد كان صلى الله عليه وسلم يصبغ ثيابه بالزعفران قميصه ورداءه وعمامته وفي رواية كان يصبغ ثيابه كلها بالزعفران حتى العمامة وروى ابن عساكر خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه قميص أصفر ورداء أصفر وعمامة صفراء والطبراني كان أحب الصبغ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. الصفرة.
"وسئل" - نفع الله به - هل العمامة الكبيرة والتي بلا عذبة وتحنيك مكروهة أو لا؟ "فأجاب" بقوله: إن كان كبرها لعذر برد ونحوه أو لكون كبرها من شعار علماء تلك الناحية وهو منهم ولا يعرف ويقتدى بقوله: ويمتثل أمره إلا إن كان عليه شعارهم فلا كراهة في كبرها بل هو حينئذ بقصد العذر سنة أو واجب لأن التوقي عن الآفات والمهالك مندوب بل واجب إن انحصر ذلك التوقي في شيء بعينه ولأن اتخاذ شعار العلماء لمن هو منهم وتوقفت معرفة كونه منهم على ذلك سنة مؤكدة لأنا مأمورون بنشر العلم وهداية الضالين وإرشاد المسترشدين فإذا توقف ذلك على شعارهم تعين لبسه بذلك القصد الحسن وكذا يقال في لبس الطيلسان والثياب الواسعة الأكمام إذا عرفت من شعارهم وتوقفت الهداية والامتثال للأوامر عليها ومن ثم قال سلطان العلماء العز بن عبد السلام - رحمه الله - كنت في المطاف وليس علي شعار العلماء فأمرت فلم يمتثل لي فذهبت ولبست شعارهم فأمرت فامتثل لي ووقع ذلك لبعض مشايخنا في الحج أيضا أنه كان عليه لبس ثياب السفر فأمر فقيل له ما بقي على الناس من يأمر بالمعروف إلا الحمالون قال فلما تحللت ولبست ثياب العلماء أمرت فامتثل لي فورا فمن لبس ذلك كله بهذا القصد الصالح فلا حرج عليه ولا كراهة في حقه. والأمور بمقاصدها والأعمال بالنيات ولا نظر لما قيل: من صدق في أمره امتثل له وإن كان

 

ج / 1 ص -376-        من كان لأن ذلك إن وقع فإنما هو عند صلاح الزمان وأهله وأما عند فسادهما واغترار الناس بالصور وما وقر في قلوبهم واعتقادهم من تعظيمها وتعظيم أهلها دون غيرهم فلا بد من رعاية تلك الأمور التي صار الامتثال والاهتداء بالعالم متوقفا عليها. وهذا مما لا مساغ لإنكاره وبه يندفع جميع ما أطلقه صاحب المدخل في إنكاره لذلك وفيه عن الإمام الطبري أن السنة وردت به وكذا العمامة والعذبة وأن الرداء أربعة أذرع ونصفا ونحوها والعمامة سبعة أذرع ونحوها يخرجون منها التلحية والعذبة والباقي عمامة وذكر في موضع آخر أن رداءه صلى الله عليه وسلم كان أربعة أذرع ونصفا. وعن الطرطوشي أنه قال روى أبو بكر بن يحيى الصولي في غريب الحديث أن النبي أمر بالتلحي ونهى عن الاقتعاط قال ابن قتيبة قعط الرجل عمامته يقعطها اقتعاطا أدارها على رأسه. ولم يتلح بها وقد نهي عنه وكذا قال أبو عبيدة وغيره والمقعطة العمامة وأخذ مالك رضي الله عنه من ذلك ومن فعل السلف له كراهة ترك التحنيك بأن لا يدخل تحت ذقنه شيء منها وبالغ الطرطوشي فعد تركه من البدع المنكرة التي شاعت في بلاد الإسلام وعن مجاهد أنه رأى من اعتم ولم يتحنك فقال تلك عمامة الشيطان وعمائم قوم لوط وأصحاب المؤتفكات وقال مالك: إنها من عمل القبط وأنكرها إلا أن تكون قصيرة لا تبلغ وهذا كله لا حجة فيه على من خالف مالكا في ذلك لأنه لم يصح فيه نهي عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا صح ما ذكر عن مجاهد ولا أن هذا شعار القبط والكراهة لا بد فيها من مستند ولا يقنع فيها بمجرد ما ذكر كما يعرف من كلام الأصوليين وبتسليم أن السلف كانوا يحتنكون وأنهم أجمعوا على ذلك وأن لمدعي ذلك أن يثبته عن جميعهم من طريق صحيح فمخالفته لا تكون مكروهة هذا ما يتعلق بالتحنيك. وأما العذبة فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم فعلها وصح عنه تركها فمن ثم لم يكن في تركها حرج وإذا فعلها فإن شاء أسدلها أمامه بين يديه أو بين كتفيه لأنه جاء عنه صلى الله عليه وسلم كل من هذين, واستدل بعضهم على عدم كراهة التحنيك والعذبة. بأن اللبس من باب المباح ويمكن أن يوجه بأن معناه أن الأصل في كيفياته الإباحة حتى يرد ما يصح الاستدلال به على الكراهة ولم يصح في ترك التلحية والعذبة شيء يحتج به للكراهة الشرعية فاندفع تعجب صاحب المدخل من هذا الاستدلال ثم قال: وليس اللبس من باب المباح مطلقا إذ الغرض منه ستر العورة والسنة في حق الرجل أن يستر جميع بدنه على الوجه المشروع فيه فهو مطلوب بذلك. لأجل الامتثال ثم العمامة على صفتها في السنة والرداء في الصلاة مطلوب شرعا وهو أن يجعله على كتفيه دون أن يغطى به رأسه. وكذلك المطلوب الخروج للجمع بثياب غير ثياب مهنته فأين المباح المطلق ولو سلمنا أنه مباح فالأكل والشرب ودخول البيت كل منها من قبيل المباح ومع ذلك لها سنن كثيرة فلبس العمامة وإن أبيح لا بد له من سنن كتناولها باليمين وقوله: بسم الله الرحمن الرحيم, والذكر الوارد إن كان ما لبس جديدا وامتثال السنة في لبس التعميم من فعل التحنيك والعذبة وتصغيرها. ا هـ. ملخصا. وكله مندفع بقولي معناه أن الأصل

 

ج / 1 ص -377-        في كيفياته الإباحة حتى يرد ما يصح الاستدلال به على الكراهة...إلخ فتأمله فإنه واضح ثم نقل عن الغزالي في كتاب الأربعين له أن السنة في التسرول أن يكون قاعدا. وفي التعميم أن يكون قائما. ا هـ. ثم رأيت صاحب الدخل ذكر كلام ابن عبد السلام وبين أنه لا تمسك فيه لما قدمته فيما مر أول هذا الجواب فقال ما حاصله: وما يقوله أهل الوقت من استباحة ما يلبسونه من هذه الثياب أن ذلك بفتواه فإن كان استنادهم في ذلك لفتواه فهو غلط محض وذلك أنه سئل. هل في لبس هذه الثياب الموسعة الأردان أي أصول الأكمام والعمائم المكبرة بأس أو بدعة تستعقب توبيخا في القيامة والمبالغة في تحسين الخياطة والزيق والتضريب مضر بأهل الورع أم لا؟ فأجاب بما نصه: الأولى بالإنسان أن يقتدي برسول الله صلى الله عليه وسلم في الاقتصاد في اللباس, وإفراط توسيع الأكمام بدعة وسرف وتضييع للمال ولا تجاوز الثياب الأعقاب فما زاد على الأعقاب ففي النار ولا بأس بلبس شعار العلماء من أهل الدين ليعرفوا بذلك فيسألوا فإني كنت محرما فأنكرت على جماعة من المحرمين لا يعرفونني ما أخلوا به من آداب المطاف فلم يقبلوا فلما لبست ثياب الفقهاء وأنكرت على الطائفين ما أخلوا به من آداب الطواف سمعوا وأطاعوا, فإذا لبس شعار الفقهاء لهذا الغرض كان له فيه أجر لأنه سبب إلى امتثال أمر الله والانتهاء عما نهى الله عنه. وأما المبالغة في تحسين الخياطة وغير ذلك فمن فعل أهل الرعونة والالتفات إلى الأغراض الخسيسة التي لا تليق لأولي الألباب. ا هـ جوابه ولا شيء فيه يبيح ما ذكروه لأنه ابتدأ كلامه بأن هذا سرف وبدعة وتضييع للمال ثم بعد هذا التأسيس قال ولا بأس بلبس شعار العلماء. من أهل الدين فقيد العالم بكونه ذا دين ومن كان كذلك لا يسامح نفسه في ارتكاب مكروه ولا في ترك مندوب فكيف بالمحرم ولا يختلف أحد من العلماء في أن إضاعة المال والسرف محرمان فكيف يقتدى بعالم وقع في محرمات ثلاث: البدعة والسرف وإضاعة المال, فالحاصل من أحوالنا أنا لبسنا تلك الثياب وتعلقنا بقوله: ولا بأس بلبس شعار العلماء من أهل الدين ورأينا بعض من ينسب اليوم للعلم والدين يلبس تلك الثياب فقلنا هذه هي تلك الثياب جهلا منا بأهل العلم والدين منهم وبصفتهم وكيف يتعلقون بفتواه وهو كان يمشي بين الناس مكشوف الرأس ويتصدق بعمامته في الطريق؟ وقوله في تحسين نحو الخياطة ما مر عنه مع أنه لا خطر فيه لأنه من قبيل المباح يبطل ما توهم عنه من أنه يبيح أو يستحب المحرم المتفق عليه وأن ذلك من شعار العلماء فاتضح بطلان ما نسبوه لهذا الإمام. ا هـ. حاصل كلامه وإذا تأملته التأمل الصادق وجدت عليه مؤاخذات كثيرة فإن جميع ما ذكره مردود وبيان ذلك أن قوله فتحفظ أولا بذكر البدعة والسرف وإضاعة المال ثم تحفظ قوله ثانيا العلماء من أهل الدين. ...إلخ يقال عليه لا تحفظ إلا لو كان ما ذكره أولا وثانيا من واد واحد. وليس كذلك بل الثاني مستثنى من الأول فإنه قد حكم أولا بأن في ذلك التوسيع تلك المحذورات ثم ذكر ما هو في حكم المستثنى منه فقال: ولا بأس بلبس شعار العلماء. . إلخ فبين أن لبس ما فيه

 

ج / 1 ص -378-        ذلك التوسيع بقصد امتثال أمر الله لا بدعة فيه ولا سرف ولا إضاعة لمال بل فيه الأجر وإنما جعلناه مستثنى من الأول لأن شعار العلماء في كلامه إن كان على السنة فلا يحتاج لقوله: ولا بأس. . إلخ ولا إلى بيان انتفاء ذلك البأس بما وقع له من الإنكار وعدم قبوله ثم قبوله عند لبس ذلك الشعار ولا إلى أن فيه أجرا لأنه سبب لامتثال أمر الله والانتهاء عما نهى الله عنه, فعلم قطعا من كلامه أن هذا الشعار ليس على قانون السنة وأنه في أصله مذموم إلا إذا لبس بذلك القصد الصالح فحينئذ لا ذم فيه بل فيه الأجر وإذا تقرر هذا بطل القول بأنه تحفظ أولا وثانيا بما ذكر وقوله فقيد العالم إلخ يقال عليه كونه من أهل الدين لا ينافي لبسه شعار أهل الدنيا بقصد صالح أخروي وهو امتثال الأمر واجتناب النهي. ومن ثم استدل على ذلك بما وقع له نفسه فإنه كان يؤثر التقشف في لباسه على ما كان عليه السلف لكنه لما كان ببلده مصر لم يحتج للبس غيره لأنه فيها معروف مشهور نافذ الكلمة حتى على الملوك لأنهم في أسره وتحت حكمه فلما جاء إلى مكة لم يعرف بها كما هو ببلده فأمر وهو بتلك الثياب فلم يؤبه له فعلم أنه لا بد له حينئذ من لبس شعار العلماء فلبسه حينئذ لتنفيذ أمره فكان الأمر كذلك فلم ينقصه لبس ذلك اللباس الخارج عن السنة في أصله لأنه لم يلبسه لشهوة نفسه وإنما لبسه لقصد صالح فأجر عليه حينئذ. فصح الاستدلال بكلامه هذا على ما تقرر أولا أن اللباس الخارج عن السنة إذا لبس بقصد صالح لا كراهة فيه. وقوله: ولا يختلف أحد في أن إضاعة المال. . إلخ يقال عليه إن أردت إضاعة المال فيما لا غرض لعاقل كرميه في بحر فمسلم لك ذكر الإجماع الذي ادعيته ولكن لا حجة لك في ذلك وليس كلامك فيه وإن أردت أعم من ذلك كما هو صريح كلامك أنه فيما نحن فيه فهذا تجاسر منك على دعوى الإجماع مع أن مذهب الشافعي وغيره أن التوسيع والتطويل الذي ليس بقصد الكبر مكروه لا حرام بخلافه مع قصد الكبر فإنه حرام لا للتوسيع والتطويل. بل لقصد المحرم وهو الكبر ومن علل ذلك بالسرف وإضاعة المال كابن عبد السلام مراده أن في ذلك شبها ما بإضاعة المال لأن ما يصرف في زيادة الطول والعرض يمكن الاستغناء عنه. وأما حقيقة إضاعة المال فلا لأن في ذلك أغراضا للعقلاء منها أن التوسيع لا يسرع التقطع له وأنه إذا خلق الثوب يؤخذ منه ويرقع في باقيه وأنه ربما يضع في كمه ما يعرض له حمله ولا يجد له إناء والأغراض في ذلك كثيرة فأي إضاعة حقيقية مع ذلك وقوله فكيف يقتدى بعالم وقع في محرمات ثلاث. . إلخ يقال عليه إطلاقك تحريم كل من هذه الثلاث ليس في محله؛ لأن كلا منها قد يحرم وقد لا يحرم باتفاق من مذهبنا ومذهبك أما للبدعة فواضح وأما السرف وإضاعة المال فالكلام في سرف وإضاعة مال لغرض صحيح فكيف بهذه الإطلاقات الموهمة وقوله: وكيف يتعلقون بفتواه. . إلخ يقال عليه قد بينا السبب في ذلك وأنه كان في بلده مشهورا لا يحتاج إلى لبس شيء فلم يلبسه ثم لما رحل لما لا يعرف فيه لبس شعار أهل الدنيا بقصد صالح جميل عملا بقضية الكمال وهو

 

ج / 1 ص -379-        أن يكون في كل حال على ما هو الأفضل والأكمل في إبلاغ الحق وتنفيذه وقوله: يبطل ما توهم عنه.. إلخ يقال عليه شتان ما بين المقامين. إذ تحسين نحو الخياطة لم يعهد شعارا للعلماء فقال فيه العز ما قال إذ ليس فيه غرض صالح غالبا بخلاف لبس شعار العلماء للقصد الصالح وقوله فاتضح بطلان ما نسبوه لهذا الإمام يقال عليه لم يتضح ذلك وإنما اتضح بطلان ما رددت عليهم به كما لا يخفى على ذي بصيرة والله الموفق. ونظير ذلك قيام الناس بعضهم لبعض فإنه كان لا يعرف في الزمن الأول فلما حدث تطابق الناس عليه وصار تركه لإنسان قطيعة يتولد عليها من المفاسد ما لا يخفى استحبه أئمتنا بل أوجبوه لذلك والكلام في قيام لبس العالم ونحوه ممن يسن القيام لهم.
"وسئل" نفع الله به عن خيط القصب المسمى بالكركر هل يجوز للرجل استعماله في الكوافي والقميص أو لا مع أن أهل مليبار مطبقون على استعماله في ذلك والحال أنه تخرج منه الفضة إذا سبك ولونه يشبه لون الذهب فما حكمه؟ "فأجاب" بقوله: لا يجوز للرجل استعماله في خياطة ثوب ولا غيرها كما صرحوا به. سواء أكان فضة خالصا أم مطلية بذهب لأنه من زينة النساء المختصة بهن فمن فعله من الرجال صار متشبها بهن ملعونا على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم فإنه صح عنه لعن المتشبهين من الرجال بالنساء والمتشبهات من النساء بالرجال.

باب صلاة العيدين.
"وسئل" رضي الله عنه عن الرجوع من الصلاة وغيرها من العبادات هل فيه قربة وثواب أو لا؟ "فأجاب" بقوله: ذهب الإمام والغزالي إلى أنه لا قربة في ذلك بدليل أنه لا يكره الركوب في الرجوع من الجنازة وغيرها ورده النووي وابن الصلاح بقوله: صلى الله عليه وسلم لأبي بن كعب: "إن الله قد أعطاك ذلك كله وكان قد قيل له لو اتخذت دابة تحملك في الظلماء وتقيك حر الرمضاء فقال أبي: أحب أن يكتب لي أجر ممشاي ورجوعي فقال له صلى الله عليه وسلم "إن الله قد أعطاك ذلك كله" ومن قوله: كله يؤخذ الرد على من قال المراد أعطاك مجموع ذلك كله. أي أجر المشي فقط مع أنه تأويل وحمل بلا دليل عليه ومما يصرح برده رواية مسلم: "قد جمع الله لك ذلك كله" لا يقال إنما كتب لأبي ذلك لأنه كان يقصد برجوعه صلاة الراتبة في بيته لأنا نقول الحديث يشمل ما بعد الصبح والعصر ولا راتبة بعدهما وأيضا فلم يرتب ذلك على قصد بل على المشي في الرجوع منها, والإضمار يحتاج لدليل وإنما كتب له أجر ذلك لأن متعلقات العبادات باقية بدليل ندب الرجوع من غير طريق الذهاب وإنما لم يكره الركوب في الرجوع لأنه أخف من الذهاب لانقضاء العبادة فسومح فيه ما لم يسامح في الذهاب.

 

ج / 1 ص -380-        "وسئل" أعاد الله علينا من بركاته سؤالا صورته: ثبت أنه صلى الله عليه وسلم كان يذهب إلى صلاة العيد من طريق ويرجع في أخرى فما حكمته وهل كل عبادة كذلك؟ "فأجاب" بقوله: حكمة ذلك كون الذهاب في الأطول لأنه أفضل وقيل: كان يتصدق في الأولى فلا يبقى معه شيء فيرجع في أخرى لئلا يسأله سائل فيرده وقيل: ليشرف أهل الطريقين الأوس والخزرج وقيل: ليشهد له الطريقان وقيل: ليفتي أهل الطريقين وقيل: ليغيظ المنافقين بإظهار الشعار وقيل: ليحذر كيدهم وقيل: للتفاؤل بتغيير الحال إلى المغفرة والرضا وقيل: لكثرة الزحام. قال النووي عن الأصحاب: إن لم يعلم الحامل له صلى الله عليه وسلم على المخالفة سنت لنا بلا خلاف وإن علم ووجد ما خالف لأجله في إنسان سنت له أيضا وإلا فوجهان الصحيح باتفاق الأصحاب أنها تسن أيضا. وأصح الأقوال في حكمته هو الأول وقول إمام الحرمين وغيره الرجوع ليس بقربة غلطوهم فيه لقوله في حديث أبي: "إن الله قد جمع لك ذلك كله". وهذا الحكم مطرد في كل قربة مشى إليها قال ابن العماد: إلا الصلاة على الجنازة فإنها إذا كانت في مسجد أو غيره ندبت المبادرة إليها والمشي إليها من الطريق الأقصر وكذا إذا خشي فوت الجماعة. ا هـ. وفيه نظر لأن سن الذهاب في القصيرة لا ينفي سن الرجوع في الطويلة فلم يخرج عن القاعدة وإنما هو مستثنى من كون الذهاب يكون في الأطول لا من ندب الذهاب في طريق والرجوع في أخرى فإن أصل السنة يحصل وإن.
ذهب في القصيرة ورجع في الطويلة كما اقتضاه كلامهم.
"وسئل" فسح الله في مدته هل يخرج غسل العيد بالزوال كصلاته وهل يسن ولو بعد صلاة العيد؟ "فأجاب" بقوله: قضية قولهم إن الغسل لليوم لا للصلاة بخلاف غسل الجمعة أنه لا يخرج وقته بالزوال وأنه يسن فعله ولو بعد صلاة العيد.
"وسئل" رضي الله عنه كم أيام عيد الفطر هل هي أربعة كأيام عيد الأضحى؟ "فأجاب" بقوله: قضية تعليل القفال وغيره وجوب الصاع في صدقة الفطر بأن الناس يمتنعون غالبا عن الكسب في يوم العيد وثلاثة بعده ولا يجد الفقير من يستعمله فيها لأنها أيام سرور وراحة عقب الصوم والصاع مع ما يضم إليه من الماء يجيء نحو ثمانية أرطال خبز أن الذي تتابع الناس عليه بطالة ثلاثة أيام بعد يوم العيد كأيام التشريق.
"وسئل" رضي الله عنه سؤالا. صورته هل صائم الدهر يأكل في عيد الفطر قبل الصلاة ويمسك في الأضحى؟ "فأجاب" بقوله: علل الأصحاب ذلك بعلتين إحداهما تقتضي ذلك والأخرى تقتضي الأكل في عيد الأضحى قبل الصلاة أيضا والمتجه الأول وإن نذر صوم الدهر رعاية للمعنى الأصلي.
"وسئل" رضي الله عنه ما معنى قد تصلى لنا العيدان في صفر؟ "فأجاب" بقوله: تصلى بمعنى الانحناء والتقويم والتليين من صليت العود على النار والعيدان جمع عود وهو آلة.

 

ج / 1 ص -381-        اللهو المشهورة. والصفر صفير القصب.
"وسئل" رضي الله عنه بما لفظه في شعب الإيمان الفارسية للسيد نور الدين محمد الأبجي رحمه الله أنه لا يجوز تسمية الثامن من شوال عيدا ولا اعتقاده عيدا ولا إظهار شيء من شعار العيد فيه فهل صرح بذلك غيره أو في كلام غيره ما يؤيده وهل اتخاذ الطعام الكثير فيه كما في العيد إظهار لشعار العيد أو لا؟ "فأجاب" بقوله: لم أر لهذا السيد سلفا فيما ذكر عنه. وليس ما ذكره بصحيح إلا في اعتقاد أنه عيد وضعه الشارع كما وضع عيدي الفطر والأضحى فتحريم اعتقاد ذلك ظاهر جلي وأما مجرد تسمية ذلك عيدا أو إظهار شعار العيد فيه فليس بمحرم نعم ينبغي أنه خلاف الأولى وخلاف الأولى يطلق عليه أنه غير جائز حملا للجواز على مستوي الطرفين فلعل السيد أراد بقوله: لا يجوز ذلك وإلا كان مخالفا لكلام الأئمة بلا مستند.

باب صلاة الخوف.
"وسئل" فسح الله في مدته هل يكره حمل السلاح في الصلاة لغير خوف؟ "فأجاب" بقوله: قال الشيخ أبو حامد لا خلاف في كراهة حمله حينئذ.
"وسئل" رضي الله عنه بما لفظه: صلوا الجمعة في الخوف فهل يجوز أن تكون الفرقة الثانية في الركعة الثانية أقل من أربعين عند الإحرام بالجمعة أو لا؟ "فأجاب" بقوله: قضية جريان خلاف الانفضاض هنا فيما إذا نقصت الفرقة الثانية عن أربعين أن صورة المسألة أنهم أحرموا في الركعة الثانية أربعين ثم نقصوا. وأنهم لو أحرموا وهم دون أربعين لم تنعقد, لكن صريح كلام مختصر الكفاية وقضية كلام الروضة وبعض مختصراتها خلافه وهو متجه وإن أوهم كلام الروض وغيره الأول لتعليلهم عدم ضرر النقص عن الأربعين بسبق انعقاد الجمعة ولم يقولوا بسبق انعقاد الركعة الثانية ولا شك أن الجمعة سبق انعقادها وإن كانت الفرقة الثانية دون أربعين ابتداء فجاز لهم الإحرام بها مع نقصهم لأنه تبع للفرقة الأولى ثم رأيت كلام الكمال الدميري في شرح الإرشاد. موافقا لما ذكرته بخلاف كلام الجوجري.
"وسئل" نفع الله به عمن أخذ مداسه أو نحوه وهو في الصلاة فهل يجوز له تبعه ولا تبطل صلاته؟ "فأجاب" بقوله: صريح قولهم تجوز صلاة شدة الخوف للخائف على ماله أو مال غيره أو نحوهما جواز ذلك وأنه لا بطلان, لكن قيد ابن الرفعة وغيره أصل المسألة بضيق الوقت فليقيد به ما في السؤال.
"وسئل" رضي الله عنه عما إذا خاف المسافر فوت الرفقة إن وقف للصلاة مع ضيق الوقت فهل يصلي صلاة شدة الخوف؟ "فأجاب" بقوله: نعم. كما أفتى به بعض المتأخرين

 

ج / 1 ص -382-        للضرر الحاصل بفوات الرفقة فهي كالهزيمة المباحة وليست كمحرم خاف فوت الحج لأن تلك ليس فيها شيء حاصل يخاف فوته وهنا يخاف فوت حاصل وهو الرفقة.
"وسئل" نفع الله به بما لفظه: رأيت معزوا لبعض أئمة اليمن ما لفظه: المدور الفضة الذي يلبسه الرجال مع الخاتم أو دونه وهو المسمى في حديث بلال بالفتخة الذي يظهر تحريم لبسه على الرجال لأنه لا يدخل في مسمى الخاتم إذ الخاتم ما له فص أشار لذلك بعض شراح البخاري. انتهى كلامه لكن قال النووي في شرح المهذب: يجوز الخاتم بفص وبلا فص ويجعل الفص من باطن كفه أو ظاهرها وباطنها أفضل للأحاديث الصحيحة فيه هذه عبارته. ا هـ. فصرح كما نرى بتسميته خاتما وإن لم يكن ثم فص. "فأجاب" بقوله: الذي أفتيت به قديما وحديثا وجريت عليه في شرح الإرشاد وغيره جواز لبس الحلقة المذكورة ولأنها تسمى خاتما كما في المجموع. وغيره وما نقل عن بعض شراح البخاري غفلة عن قول أئمتنا بجواز لبس الخاتم بفص وبدونه على أن تلك العبارة أعني حصر الخاتم فيما له فص لو صحت عمن يعتد به كانت مؤولة فإن ذلك حصر إضافي باعتبار الأغلب أو الأشهر فلا يستدل بها على تحريم لبس ما ليس له فص فاستدلال من ذكر في السؤال بها على التحريم تساهل فاحش وغلط قبيح وكيف يستجيز ذو ديانة أن يقدم على تحريم بمجرد إشارة عبارة لما لا يدل على التحريم كما تقرر؟ فتنبه لذلك واحذر الوقوع في مثله وفقنا الله للصواب بمنه وكرمه آمين فإن قلت هذه الحلقة من شعار النساء فلبس الرجال لها تشبه بهن فيحرم من هذه الحيثية قلت زعم أن لبسها من شعارهن المختص بهن ممنوع ووجوده فيهن فقط في بعض البلاد لا نظر إليه كما حررت هذا المبحث أعني التشبه بهن وما ضابطه في كتابي المسمى شن الغارة على من أظهر معرة تقوله في الخنا وعواره تقبله الله بمنه وكرمه آمين.

باب صلاة الكسوفين.
"وسئل" رضي الله عنه عن الكسوف هل يتصور في غير القمرين أو لا كما رأيته في بعض التفاسير فإن قلتم نعم بتصوره فما علامته وهل تشرع له صلاة كما بحثه بعض فحول علماء اليمن على تقدير وقوعه وهل وقع أم لا؟ "فأجاب" رضي الله عنه وفسح في مدته بأن ما نقلتموه عن بعض علماء اليمن بحثه الزركشي فقال: ينبغي أن يستثنى من قول الرافعي ما عدا كسوف النيرين ما لو انكسفت النجوم فالقياس على كسوف القمر وأولى لأنها أدلة القبلة وبها الاهتداء. ا هـ. وفيه نظر ظاهر إذ قياسها على القمر أنه يصلي لها صلاة الكسوف المشتملة على ركوعين في جماعة وليس كما قال ونص الأم الموافق لكلام الشيخين والأصحاب يرد ما زعمه ولفظه: ولا آمر بصلاة جماعة في زلزلة ولا ظلمة ولا لصواعق ولا ريح ولا غير ذلك من الآيات وآمر بالصلاة منفردين كما تصلى سائر الصلوات. ا هـ. فانظر.

 

ج / 1 ص -383-        لعموم قوله: ولا غير ذلك من الآيات الشامل لانكساف النجوم ولغير ذلك وبه جزم ابن أبي الدم فقال: ولا يصلي على هيئة الخسوف قولا واحدا. ا هـ. ويوجه بأنه لا يصار لتغيير الصلاة إلا بتوقيف ولم يرد إلا في النيرين. وليس غيرهما في معناهما وقول الزركشي وأولى شهادة القبلة وبها الاهتداء يرد بأن لا مساواة فضلا عن الأولوية لأن النيرين من آيات الله الباهرة ولهما من الظهور في العالم ما ليس لغيرهما من النجوم. فإذا وقع بهما تغير كان ذلك آية مخوفة سائر أهل هذا العالم من غضب الله وعقابه فشرعتا لهما صلاة مخصوصة متميزة عن سائر الصلوات لتناسب تميزهما عن سائر الكواكب فكيف بعد هذا التقرير يقال إن النجوم أولى بصلاة الكسوف من القمر ومما يدل لما ذكرناه أن من كره استقبال القمرين. لم يقل بكراهة استقبال بقية النجوم وفرق بنحو ما ذكرته فاتضح الفرق بينهما وبين غيرهما وأن الذي يتجه أن يقال إن انكساف النجوم بمنزلة الزلازل ونحوها فيأتي فيها حكمها من الصلاة فرادى على المذهب المنصوص حذرا من الغفلة عند حدوث الحوادث العظيمة ثم ظاهر كلام الشيخين كالبغوي أن هذه الصلاة سنة بسبب متقدم فتجوز في الأوقات المكروهة. وقال جمع متقدمون ليست كذلك بل هي نافلة مطلقة فلا تحل الوقت المكروه واعتمده بعض المتأخرين وقال لم يرد الشيخان إضافة الصلاة لتلك الآيات وكونها سنة لها حتى تكون ذات سبب بل المراد استحباب الاشتغال بالصلاة حينئذ رجوعا إلى الله واجتنابا للغفلة عند تذكيره عز وجل وتخويفه بآياته وهذا لا خلاف فيه وساق عبارات قد تدل على ذلك, الذي يتجه ترجيحه ما دل عليه كلام الشيخين من أنها ذات سبب ولا نسلم أن مرادهما ما ذكر لأن ندب الصلاة عند حدوث تلك الآيات فيه تقييدها بذلك السبب فيصدق عليها حد الصلاة التي لها سبب, فمن ادعى خروج هذه عن ذوات السبب مع صدق تعريفها فعليه البيان وتلك العبارات المسوقة كما تحتمل ما قاله تحتمل ما قلناه, فلا شاهد فيها وإن لم يكن فيها شاهد وجب الرجوع إلى حدهم لذوات السبب وهو يصدق على هذه الصلاة فكانت ذات سبب فتحل في الوقت المكروه ثم ما تقرر في انكساف النجوم إنما هو على فرض وقوعه وإلا فالذي صرح به أهل الهيئة وإليهم المرجع في ذلك أن غالب النجوم لا تنكسف لكن أورد عليهم السيف الآمدي إشكالا على طريقتهم. وقال لا جواب لهم عنه وحاصل ما ذكره أنهم زعموا أن سبب خسوف القمر أن جرم الشمس أكبر من كرة الأرض بأضعاف كثيرة حتى أن منهم من قدره بمائة وأربعة وستين مرة وأن الشمس إذا انحطت للغروب امتد للأرض ظل على شكل مخروط صنوبري ضرورة أن الشمس أكبر من الأرض ولا يزال مخروط الأرض يمتد ويستدق إلى أن تنحط ولا يتعدى ذلك عطاردا إذا اتفق حضور القمر في ذلك الظل من غير تناف ولا تأثير بحيث يحجب نور الشمس فهو خسوفه وعلى حسب تركه في مخروط الظل يكون زيادة الخسوف ونقصه ثم لا يزال القمر في السير والظل في الميل إلى حالة الانجلاء والعود إلى مقابلة

 

ج / 1 ص -384-        الشمس من غير حاجب وزعموا أن الكواكب الثابتة في تلك البروج أيضا يكتسب نورها من نور الشمس كاكتساب نور القمر من نور الشمس فإذا قيل لهم لم لا تنكسف تلك الكواكب بحيلولة مخروط ظل الأرض بينهما وبين الشمس قالوا: لأن الظل ينمحق دون الوصول إليها فإذا قيل لهم: ولم قلتم بانمحاق مخروط الظل دونها قالوا لأنها تنكسف وهو دور ممتنع. قال ولم يتحقق لهم عنه جواب بل لو قيل لهم الكواكب الثابتة في فلك البروج وكذلك زحل والمشتري والمريخ مضيئة بأنفسها فلذلك لم تنكسف بمخروط الظل مع وصوله إليها لم يكن لهم عنه جواب وأما قولهم في كسوف الشمس إنه بسبب ستر القمر لها عند المقارنة ولهذا لا يعهد كسوفها في غير أيام المقارنة والاجتماع. فإن قيل لهم كما أن القمر قد يقارن الشمس المقارنة العميمة كذلك الزهرة وعطارد فما لهما لا يحجبان الشمس عن أبصارنا في وقت المقارنة والاجتماع كما في القمر لم يجدوا إلى الفرق سبيلا. ا هـ. واعترض أيضا ابن العربي في شرح الترمذي قولهم إن سبب كسوف الشمس ستر القمر لها بأن الشمس عندهم أضعاف القمر في الجرم فكيف يستر الجرم الصغير الجرم الكبير إذا قابله. ا هـ. وجوابه أنه كلما زاد البعد اتسع الجرم الصغير للمقابلة كما قاله الشافعي رضي الله عنه في محاذاة الناس القبلة مع قلة عرض سمتها وبعد عرض ما بين المشرق والمغرب, قياسا على النار المرئية من بعد وعلى عرض المرماة والشمس في الفلك الرابع والقمر في الفلك الأول فلبعد المسافة بينهما حجبها عند تمام المقابلة أو بعضها عند عدم تمامها وإن كان جرمه صغيرا بالنسبة لها فتأمل ذلك فإنه مهم. والحاصل أنا إن قلنا إن الكواكب غير الثابتة نورها مكتسب من نور الشمس كما يقوله أهل الهيئة فهم قائلون مع ذلك بأنها لا تنكسف وإن لزمهم ما مر عن الآمدي على أنه يمكن الانفصال عنه بأن يقال ملحظ القول بعدم انكساف الكواكب الاستقراء التام والوجود وسببه انمحاق مخروط الظل دونها. والدليل على هذا الانمحاق عدم وقوع الانكساف لها في الخارج, وبهذا التقرير يندفع الدور الذي أورده الآمدي عليهم, وإن قلنا بما قاله الآمدي من أن الكواكب مضيئة بنفسها وليست مكتسبة من الشمس فعدم انكسافها واضح حينئذ لأن المقرب ما قالوه من استمدادها من الشمس لأن القمر الذي هو أضوأ منها وأجلى إذا كان نوره إنما هو من نور الشمس عند أهل الهيئة ومن وافقهم من أهل السنة وهم كثيرون فكذلك تلك الكواكب نورها من نور الشمس لا تحقيقا بل ظنا بواسطة تسليم أن نور القمر من نور الشمس ويبعد أن نوره من نورها ونور الكواكب ليس من نورها والبحث في كل ذلك لا دليل عليه يرجع إليه عند التنازع ولا جدوى له عند التحقيق وإنما المدار على أنه إن تصور انكساف الكواكب صلى لها صلاة, نحو الزلازل لا صلاة الكسوف خلافا للزركشي لما مر لك مبسوطا.
"وسئل" أعاد الله علينا من بركاته ما حقيقة كسوف القمرين وما حقيقة هذا الذي يستر القمر في النصف الثاني من الشهر قليلا قليلا حتى يكمل ثم ينجلي أول الشهر وما الحكمة

 

ج / 1 ص -385-        في زيادة ركوع في صلاة الكسوف خاصة؟ "فأجاب" أمدنا الله من مدده بقوله: أما حقيقة كسوف الشمس والقمر واختلاف القمر زيادة ونقصا وغيرهما فقد تعرض له أهل الهيئة وإليهم المرجع في ذلك قالوا: ومما يعرض للقمر ما يعرض له بالقياس إلى الشمس. وهو المحاق والزيادة والكمال والنقصان وكسفه الشمس والخسوف وبيان ذلك أن جرم القمر كثيف كمد مظلم لا نور له بذاته وإنما هو صقيل يستضيء بضياء الشمس كالمرآة المصقولة إذا حوذي بها الشمس فيكون النصف من القمر المواجه للشمس مضيئا أبدا بضوء الشمس والنصف الآخر مظلما منه على حاله لعدم وصول الضوء من الشمس إليه فعند اجتماع القمر مع الشمس يكون القمر متساويا بين الشمس لأن فلكها فوق فلكه إذ هي في السماء الرابعة وهو في السماء الدنيا فيكون نصفه المظلم مواجها له ونصفه المضيء مستورا عنا بالنصف المظلم فلا نرى شيئا من ضوئه وهذا هو المحاق. فإذا بعد القمر عن الشمس مقدارا قريبا من اثني عشر جزءا أو أقل أو أكثر على اختلاف أوضاع المساكن وعروض القمر وكثرة البخار وحدة الإبصار مال نصفه المضيء إلينا شيئا يسيرا فيرى منه وهو الهلال, ثم كلما ازداد بعده عن الشمس ازداد ميل المضيء إلينا فإذا قرب البعد من ربع الدور يرى القمر كنصف دائرة وهكذا يزيد الميل فيرى شكلا إهليجيا حتى إذا قابل القمر الشمس وصار البعد بينهما نصف الدور صرنا نحن بين القمر والشمس وصار ما يواجه الشمس من القمر يواجهنا. فيرى القمر كدائرة تامة وهو الكمال ويسمى القمر حينئذ بدرا فإذا انحرف عن مقابلة الشمس مال إلينا شيء من نصفه المظلم واستتر عنا شيء من نصفه المضيء فيظهر في صفحة القمر ثلمة ثم يأخذ الظلام في الزيادة والضياء في النقصان فيرى القمر على شكل إهليجي ثم كنصف دائرة ثم على شكل الهلال في جانب المشرق حتى ينمحق ويستتر عنا نصفه المضيء بالكلية ويكون القمر مظلما لا يستضيء إلا وجهه المقابل للشمس وإذا كان القمر عند الاجتماع على طريقة الشمس أي على مدارها أو قريبا منه. وذلك عند عقدتي الرأس والذنب إذ لا عرض للقمر هناك فيكون على منطقة البروج التي هي مدار الشمس حال القمر بيننا وبين الشمس فيستتر عنا ضوءها وهو كسوف الشمس واعلم أن ذلك يختلف بحسب عروض البلدان شمالا وجنوبا وقلة العروض وكثرتها والضابط فيه أن يكون القمر بحيث تنقطع الخطوط الشعاعية الخارجة عن الأبصار إلى الشمس إما جميعها أو بعضها فيستتر عنا ضوءها إما بالكلية وهو الكسوف التام أو لا بالكلية وهو الكسوف الغير التام وهو السواد الذي يظهر للحس في وجه الشمس حالة الكسوف وهو لون جرم القمر. ولكون كسوف الشمس إنما هو لحيلولة القمر بيننا وبين الشمس وذلك السواد المشاهد إنما هو لون القمر يبتدئ سواد الشمس في الكسوف من جهة المغرب ثم إذا أخذ القمر يمر بالشمس لكونه أسرع منها يبتدئ الجلاء أيضا من جهة المغرب للحوق القمر إياها من المغرب وإذا كان القمر كذلك على طريقة الشمس أي على أحد العقدتين أو حواليها بأربعة وعشرين

 

ج / 1 ص -386-        جزءا وكسر عند الاستقبال حال الأرض بين القمر والشمس ووقع ظلها على القمر فلم يصل إليه ضوء الشمس فيبقى على ظلامه الأصلي, وهو خسوف القمر وبيانه أن الأرض كثيفة مانعة نفوذ الضوء فيها وحيث كانت أصغر من الشمس يستضيء بضوئها أكثر من نصفها ويقع لها ظل في مقابلة الشمس مخروط الشكل يستدق شيئا فشيئا وينتفي في أفلاك الزهرة فللظل عند فلك القمر غلظ ما فإذا قطع هناك سطح مستو مواز لقاعدة مخروط الظل حصل دائرة مركزها في سطح البروج وفي جزء منها يقابل جزء الشمس وذلك المركز يتحرك بمقدار حركة الشمس فإن كان القمر في الاستقبال عديم العرض وقع في دائرة الظل وانخسف كله وإن كان ذا عرض بحيث لا يصل إلى صفحته شيء من دائرة الظل لم يكن هناك خسوف أصلا وإن كان عرضه أقل من ذلك انخسف منه ما وقع في دائرة الظل وابتداء خسوف القمر وانجلاؤه من المشرق عكس الكسوف وذلك لأن القمر يلحق ظل الأرض لكونه أسرع من الظل من جهة المغرب فيصل طرفه الشرقي أوائل الظل فيأخذ ذلك الطرف في السواد أولا. ويكون القمر يلحق الظل من المغرب يكون مرور طرفه الشرقي بالظل أولا فكما أن طرفه الشرقي يصل أولا إلى الظل كذلك هذا الطرف يجاوزه أولا فيبتدئ منه الانجلاء كما ابتدأ منه الانخساف فعلم مما تقرر أن خسوف القمر أمر عارض له يتحقق في ذاته لا بالقياس إلى الإبصار وأنه لا يمكن إلا في أواسط الشهر وأن كسوف الشمس إنما هو أمر بحسب الرؤية ليس في ذات الشمس تغير أصلا وأنه لا يتصور إلا في أواخر الشهر والذي يظهر أن الحكمة في زيادة الركوع في صلاة الكسوف هي أن الكسوف من آيات الله الباهرة يخوف بها عبيده, كما صح في الحديث فناسب زيادة الركوع فيه لأنه مما تفضل الله به على هذه الأمة دون غيرها إذ هو من خصائصها على ما قاله جماعة من المفسرين وغيرهم لما أخرجه البزار والطبراني في الأوسط عن علي أول صلاة ركعنا فيه العصر فقلت يا رسول الله: ما هذا قال: "بهذا أمرت" قال بعض العلماء ووجه الاستدلال منه أنه صلى الله عليه وسلم صلى قبل ذلك الظهر وصلى قبل فرض الصلوات الخمس قيام الليل, فكون الصلاة السابقة بلا ركوع قرينة لخلو صلاة الأمم السابقة منه. ا هـ. وفيه ما فيه وقال جمع من المفسرين في قوله تعالى: {وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} [البقرة: 43] إن مشروعية الركوع في الصلاة خاص بهذه الأمة وإنه لا ركوع في صلاة بني إسرائيل ولذا أمرهم بالركوع مع أمة محمد صلى الله عليه وسلم. ا هـ. ولا يرد عليهم قوله تعالى: {يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ} [آل عمران:43] لأن المراد بالركوع هنا مطلق الصلاة فيكون فيه ذكر الأعم الذي هو الصلاة بعد الأخص الذي هو السجود وأفرد السجود بالذكر لاختصاصه بالقرب الذي لا يوجد في غيره ولأنه أفضل أركان الصلاة على قول وقيل: المراد بالقنوت إقامة الطاعة لقوله تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً} [الزمر: 9] وبالسجود الصلاة لقوله: {وَأَدْبَارَ السُّجُودِ} [قّ: 40] وبالركوع الخضوع. فإذا قلنا بما قاله هؤلاء من أن الركوع

 

ج / 1 ص -387-        خاص بهذه الأمة ناسب حينئذ زيادته في هذه الصلاة دون غيرها لأنها لما كانت لطلب رضاه تعالى وحذرا من خوف سطوته وعقابه وكان الركوع فيه من الخضوع المناسب لذلك التخويف وفيه من الامتنان على هذه الأمة ما ليس في غيره ناسب حينئذ زيادته توسلا بأخص نعمه تعالى من حيث الصلاة على هذه الأمة ولا شك أن التوسل بأخص النعم له وقع ومزيد دفع للفتن والمحن, هذا إن قلنا بأنه من خصائص هذه الأمة فإن قلنا إنه ليس من خصائصها فحكمة زيادته أنه في سائر الصلوات كالوسيلة للسجود. لأن كلا منهما فيه خضوع لكنه في السجود أعظم وكان كالمقصد, والركوع كالوسيلة له ولهذا فصل بينهما بالاعتدال حتى تتميز الوسيلة عن المقصد وإذا كان الركوع كالوسيلة فناسب اختصاصه بالزيادة إعلاما أما بأن المطلوب في هذا الوقت الإكثار من الوسائل ليتوصل بها إلى المقاصد ومن ثم سن الإكثار من الصدقة والعتق وغيرهما من وسائل الخير للوصول إلى المقاصد وهي دفع الله لهذه الآية المخوفة لعباده. وأيضا فالركوع أشق من السجود وكان في تكريره الإعلام بأن المطلوب في هذا الوقت الإكثار من الطاعات وإلزام النفس بما يشق عليها من فعلها لما تقدر عليه ولو بمشاق كثيرة من الخيرات ويؤيد ما ذكرته اتفاق أئمتنا على أن الأكمل المبالغة في تطويل الركوع واختلافهم في السجود هل يطول أو لا وليس ذلك فيما يظهر إلا إشارة لما ذكرته للإشارة إلى أن هذا الوقت هو وقت التوسل إلى الله بتكليف النفس سائر المشقات التي لها عليها نوع قدرة لعل أن ينكشف عن الناس ما حل بهم هذا ولم يتكرر الركوع وحده بل تكررت قراءة الفاتحة والاعتدال أيضا فحكمة تكرير الاعتدال أنه تابع لأنه للفصل بين الركوع والسجود فلزمهم من تكرير الركوع تكريره فتكريره تبع لتكرير الركوع. وأما تكرير الفاتحة فلاشتمالها على الثناء على الله تعالى بجامع صفاته الكلية وعلى اللجاءة إليه تعالى في سائر الأمور فناسب تكرير ذلك ليكون سببا لرفع ما حل بالناس من ذلك الإزعاج والتخويف العظيم والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
"وسئل" نفع الله به وأعاد علينا من بركاته ما حقيقة زلزلة الأرض المعهودة المسماة بالراجفة؟ "فأجاب" رضي الله عنه ونفع بعلومه وبركته بقوله: أما حقيقة الزلزلة فهو ما أخرجه أبو الشيخ في العظمة وابن أبي الدنيا في كتاب العقوبات عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: خلق الله جبلا يقال له ق محيط بالعالم وعروقه إلى الصخرة التي عليها الأرض فإذا أراد الله أن يزلزل قرية أمر ذلك الجبل فحرك العرق الذي يلي تلك القرية فيزلزلها ويحركها فمن ثم تحرك القرية دون القرية وأخرج الخطيب وابن عساكر عنه قال: جبل ق محيط بالدنيا وقد أنبت الله منه الجبال وشبك بعضها ببعض بعروقه كالشجرة كالأوتاد فإذا أراد الله أن يزلزل أرضا أوحى إلى ق فحرك العرق وأخرج عبد بن حميد عن عكرمة أن ذا القرنين لما بلغ الجبل الذي يقال له ق ناداه ملك فقال ذو القرنين ما هذا الجبل قال هذا جبل يقال له ق وهو أم الجبال والجبال كلها من عروقه فإذا أراد الله

 

ج / 1 ص -388-        أن يزلزل قرية حرك منه عرقا وقد يعارض هذه الآثار ما أخرجه الطبراني عن ابن عباس ما معناه أن الله إذا أراد أن يخوف عباده أبدى عن شيء من آثار قدرته للأرض فعند ذلك تزلزلت وما أخرجه ابن المنذري بسنده عن ابن جريج قال بلغني أن عرض كل أرض مسيرة خمسمائة سنة. وأن بين كل أرضين ذلك والأرض السابعة فوق الثرى واسمها تخوم وأن أرواح الكفار فيها ثم قال: وإن الثرى فوق الصخرة والصخرة على الثور والثور له قرنان وله ثلاث قوائم يبتلع ماء الأرض كلها يوم القيامة والثور على الحوت وذنب الحوت عند رأسه مستدير تحت الأرض السفلى وطرفاه منعقدان تحت العرش. وأخبرت أن عبد الله بن سلام سأل النبي صلى الله عليه وسلم على ماء الحوت قال "على ماء أسود وما أخذ منه إلا كما أخذ حوت من حيتانكم من نحو هذه البحار". وحديث: "أن إبليس تغلغل إلى الحوت فعظم له نفسه وقال ليس خلق بأعظم منك غنى ولا أقوى فوجد الحوت في نفسه فتحرك فمنه تكون الزلزلة إذا تحرك فبعث الله حوتا صغيرا فأسكنه في أذنه فإذا ذهب يتحرك تحرك الذي في أذنه فيسكن ويجاب بأنه لا تعارض في ذلك, أما أولا فلإمكان الجمع فنقول يحتمل أن تحرك عرق من جبل ق وظهور بعض آثار القدرة للأرض وتحرك الحوت كل واحد من هؤلاء ينشأ عند الزلزلة, فتارة يكون عن الأول وأخرى عن الثاني وأخرى عن الثالث. وهذا الجمع متعين على تقدير صحة جميع الآثار المتقدمة, وأما ثانيا فلأن ما ورد عن الصحابي مما لا يقال من قبل الرأي في حكم المرفوع للنبي صلى الله عليه وسلم. والذي مر عن ابن عباس كذلك فيكون مقدما على ما قاله ابن جريج وعلى هذا فالجواب عما مر عن ابن عباس مما ظاهره التنافي فمن بعض الطرق عنه أن السبب تحرك ق وفي بعضها عنه أنه التجلي أن كلا سبب نظير ما مر إن صحا وإلا فما صح منهما وبهذه الآثار كلها رد على الحكماء في قولهم إن الزلازل إنما تكون عن كثرة الأبخرة عن تأثير الشمس واجتماعها تحت الأرض بحيث لا يقاومها برودة حتى يصير ماء ولا يتحلل بأدنى حرارة لكثرتها ويكون وجه الأرض صلبا بحيث لا تنفذ البخارات منها وإذا صعدت ولم تجد منفذا اهتزت منها الأرض واضطربت كما يضطرب بدن المحموم. لما يثور في باطنه من بخارات الحرارة وربما يشق ظاهر الأرض ويخرج من الشق تلك المواد المحتبسة. ا هـ. وقد يقال هو لا ينافي ما مر ويكون احتباس تلك الأبخرة علامة على تحرك "ق" أو الحوت والمشاهدة قاضية بذلك الاشتقاق وخروج تلك المواد كما حكاه المؤرخون في كثير من الزلازل الواقعة فيما مضى فهو قرينة على أن لكلامهم وجها ومن القواعد أن كلامهم حيث لم يخالف نصا ولا يرتب عليه شيء مما يخالف الأصول لا بدع في القول به وهذا من هذه القاعدة. إذ ما قالوه هنا لا يترتب عليه شيء من ذلك لما علمت أن تلك الآثار على تقدير صحتها يمكن التوفيق بينها وبين ما قالوه وأخرج الترمذي عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا اتخذ الفيء دولا والأمانة مغنما والزكاة مغرما وتعلم العلم لغير الدين وأطاع الرجل امرأته وعق أمه وأدنى

 

ج / 1 ص -389-        صديقه وأقصى أباه وظهرت الأصوات في المساجد وساد القبيلة فاسدهم وكان زعيم القوم أرذلهم وأكرم الرجل مخافة شره وظهرت القينات والمعازف وشربت الخمور ولعن آخر هذه الأمة أولها. فليرتقبوا عند ذلك ريحا حمراء وزلزلة وخسفا ومسخا وقذفا وآيات تتابع كنظام لآلئ قطع سلكه فتتابع" وأخرج الترمذي أيضا عن ابن عباس رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا فشا في هذه الأمة خمسة يحل بها خمس إذا أكل الربا كانت الزلزلة والخسف" وصح أنه صلى الله عليه وسلم قال: "جعل الله عذاب أمتي في الدنيا القتل والزلازل والفتن". وأخرج ابن أبي الدنيا حديث: "سيكون في أمتي خسف ورجف وقردة وخنازير" وأخرج ابن السكن حديث: "يكون في أمتي رجفة يهلك فيها زهاء عشرة آلاف أو أكثر من ذلك, يجعلها الله عظة للمتقين ورحمة للمؤمنين وعذابا على الكافرين" وأخرجه ابن عساكر أيضا بلفظ: "يهلك فيها عشرة آلاف عشرون ألفا ثلاثون ألفا" وأخرج الديلمي عن حذيفة مرفوعا: "خراب مصر من جفاف النيل وخراب الحبشة من الرجفة" وأخرج عن كعب قال: "إنما تزلزل الأرض إذا عمل فيها بالمعاصي فترعد فزعا من الرب جل جلاله أن يطلع عليها" وهذا لا ينافي ما مر في سبب الزلزلة كما علم مما قدمته والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.

باب صلاة الاستسقاء.
"وسئل" رضي الله عنه ما قول من يقول بسعد المنازل وبحسنها وما يكون جواب من يسأل عن يوم كذا يصلح لنقلة أو تزويج؟ "فأجاب" بقوله: من أضاف التأثير إلى المنازل أو الكواكب أو البروج أو الأيام أو نحو ذلك فإن أراد أن ذلك من حيث إن الله أجرى عادته الإلهية بوقوع ذلك الأمر عند ذلك الشيء لم يحرم عليه بل يكره له ذلك وإن أراد أن نحو المنزل أو الكوكب مؤثر بنفسه كفر وأصل ذلك ما قاله الأئمة فيمن يقول مطرنا بنوء كذا فعلم أن من سئل عن يوم يصلح لنحو نقلة. ينبغي أن لا يجيب بشيء من حيث اليوم بل يأمر بالاستخارة والفعل بعدها إن انشرح له الصدر لأن هذا هو السنة وخلاف المألوف من الجهلة المشتغلين بما لا يحل من علم الرمل وأمثاله هو البدعة القبيحة المحرمة.
"وسئل" نفع الله به هل بين من عبر في ندب البروز لأول مطر السنة أو العام فرق؟ "فأجاب" بقوله: لا فرق بينهما في هذا المحل وإن أمكن بينهما فرق من جهة أخرى كما أشار إليه السهيلي في روضه.
"وسئل" نفع الله به عن صوم الاستسقاء يجب بأمر الإمام فهل يعم المسافر وغيره؟ "فأجاب" بقوله: الذي يتجه وإن اقتضى كلام بعضهم خلافه أنه لا فرق بين المسافر وغيره حيث لم يتضرر بالصوم ويشهد لذلك قولهم تجب طاعة الإمام فيما يأمر به وينهى عنه ما لم

 

ج / 1 ص -390-        يخالف حكم الشرع والظاهر أن مرادهم بمخالفة حكم الشرع أن يأمر بمعصية أو ينهى عن واجب فشمل ذلك المكروه فإذا أمر به وجب فعله إذ لا مخالفة حينئذ ثم ظاهر كلامهم أن الصدقة تصير واجبة إذ أمر بها وهو كذلك لكن يتحقق الوجوب بأقل ما ينطلق عليه اسم الصدقة كما هو ظاهر فإن عين في أمره قدرا فهل يجب فلا يجوز النقص عنه أولا كل محتمل والأقرب الثاني وإن قدر عليه المأمور لأن تعيين ذلك يكاد أن يكون تعنتا لأن القصد بالصدقة حاصل بخروج أقل ما يجزئ.
"وسئل" رضي الله عنه بما لفظه: إذا صيم للاستسقاء بعد مضي النصف الأول من شعبان فسقوا قبل الخروج فخرجوا للوعظ والدعاء والشكر والخطبة فهل هذا الخروج مع تلبسهم بالصوم يستحب لأنه تابع أم لا لحرمة الصوم وزوال السبب فإن قلتم بالأول لزم أن يكون الخروج لذلك في اليوم الرابع حتى لو سقوا اليوم الأول حال الصوم لا يخرجون فيما عدا الرابع والسابق لفهم الفقير أنهم إذا سقوا قبل إكمال الصوم استحباب الخروج لما ذكر إن كان وقت الاختيار لذلك باقيا وإلا فمن الغد ثم وقع في النفس أيضا أنه يرجع إلى تيسر الاجتماع وعدمه فإنه أولى فما الذي تعطيه الشريعة المحمدية شيد الله أركانها الغراء بكم ولا زلتم في نعم يؤذن الحمد بازديادها وحيث قلنا بوجوب التبييت في صوم الاستسقاء بأمر الإمام فاتفق تركه من شخص هل يتفرع عليه عدم صحة نيته من ذلك الشخص أول النهار أو يصح ويكون آثما بترك التبييت فقط. ؟ "فأجاب" بقوله: من المعلوم أن صلاة الاستسقاء لا تتقيد بيوم ولا وقت وأن وقتها المختار كوقت صلاة العيد وأنهم إذا سقوا قبل الاستسقاء وبعد تهيئتهم لصلاته بالصوم ونحوه خرجوا للشكر بالصلاة والخطبة وغيرهما ولا يتكرر هذا الخروج هنا خلافا لما قد يتوهم من عبارة الإرشاد كما بينته في شرح الإرشاد فإذا أصابوا اليوم الأول فسقوا سن لهم الخروج في بقيته إن كان وقت الاختيار باقيا وسهل اجتماعهم وإلا فمن الغد قياسا على ما قالوه في صلاة العيد إذا شهدوا برؤية هلاله وحيث خرجوا في بقية اليوم أو الغد ما يسن لهم الخروج في يوم آخر والسنة إذا خرجوا أن يكونوا صائمين ما لم يأمرهم الإمام بالصوم وإلا كان واجبا وكذا إذا أمرهم بصوم الأيام الثلاثة قبل الاستسقاء وصوم يوم الخروج فإنه يصير واجبا على المعتمد وإن نازع فيه منازعون والأوجه أنه يجب فيه التبييت كما يقتضيه كلامهم في باب الصوم وإن خالف فيه الأذرعي. ومنه يؤخذ كما بينته في شرح الإرشاد أيضا أن الصوم صار واجبا لذاته لا لحيثية إظهار مخالفة الإمام لأنه لا اطلاع له على النية. وقد أوجبوها فمن ترك التبييت عمدا أو سهوا لا يصح منه صوم ذلك اليوم بل يجب عليه قضاء يوم مكانه كما يفيده عموم كلامهم وحيث وجب الصوم هنا أو سن فلا فرق بين وقوعه بعد نصف شعبان وقبله لأن المحرم فيه هو تعاطي صوم لا سبب له وهذا له سبب متقدم مقارن فهو كإباحة صلاة الاستسقاء في الأوقات المكروهة.

 

ج / 1 ص -391-        "وسئل" فسح الله في مدته عن قول الأصحاب في الاستسقاء واللفظ للإرشاد وإن سقوا قبله صلوا شكرا ويتكرر بتأخره هل المراد أن يؤتى بصلاة الاستسقاء في هذا المقام على الكيفية المتقدم ذكرها بجميع سابقها ولاحقها أو غير ذلك كما هو في الإسعاد فيخرجون من الغد صائمين ولا يستأنفون صوم الثلاث إلخ وهو صريح في التخصيص والتفصيل ولو اتفق احتياج الناس إلى الاستسقاء في النصف الأخير من شعبان فما حكم الصيام ابتداء وتكرارا أثابكم الله تعالى وصريح لفظه فيتحرم بها شكرا لا استسقاء؟ "فأجاب" بقوله: عبارة شرحي على العبارة المذكورة وإن سقوا قبله أي قبل الاستسقاء وبعد تهيئتهم لصلاته بالصوم ونحوه خرجوا للوعظ والدعاء والشكر وصلوا شكرا لله تعالى وطلبا للمزيد قال تعالى: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} [ابراهيم: 7] وخطب بهم وقوله: شكرا من زيادتي وإذا فعلوا ما مر فلم يسقوا تكرر بتأخره أي بسبب تأخر الغيث جميع ما مر من صلاة الاستسقاء وكذا خطبتها كما صرح به ابن الرفعة وغيره وكذا الصوم على ما يأتي, فإذا لم يسقوا في اليوم الأول كرروا ذلك في اليوم الثاني والثالث والرابع وهكذا إلى أن يسقوا فإن الله يحب عباده الملحين في الدعاء كما في حديث ضعيف والمرة الأولى آكد. وقد نص الشافعي رضي الله عنه مرة على توقف كل خروج على صوم ثلاثة أيام قبله ومرة أخرى على عدم ذلك. ولا خلاف لأنهما كما في المجموع عن الجمهور منزلان على حالين الأول على ما إذا اقتضى الحال التأخير كانقطاع مصالحهم والثاني على خلافه وقيل: الأول محمول على الندب والثاني على الجواز وحيث عادوا من الغد أو بعده ندب أن يكونوا صائمين فيه انتهت وذكرت في شرح العباب نحو ذلك حيث قلت قوله: كرروا. . إلخ يشمل الزيادة على الثلاث وهو كذلك كما في المجموع وغيره وقوله والخطبة هو ما أفهمه كلام المجموع. وصرح به ابن الرفعة وغيره وإنما لم يكرروا صلاة الكسوفين لأن الحاجة هنا أشد. قوله: ثم إن انقطعت مصالحهم. . إلخ أشار به إلى ما في المجموع عن الجمهور من أن الشافعي نص مرة على توقف الخروج على صوم ثلاثة أيام قبله ومرة على عدم توقفه على ذلك فنزل على حالين الأول على ما إذا اقتضى الحال التأخير والثاني على خلافه فجزم الروض وغيره بعدم التوقف محمول على ذلك أو ضعيف وقيل: لا خلاف بل الأول محمول على الندب والثاني على الجواز وحيث عادوا من الغد أو بعده ندب أن يكونوا فيه صائمين. ا هـ. وبذلك يعلم الجواب عن قول السائل نفع الله بفوائده هل المراد إلخ وعن قوله صريح لفظه. . إلخ أما الأول فواضح. وأما الثاني فلأن قوله شكرا مفعول لأجله أي لأجل الشكر فهو علة لندب الصلاة ولا يلزم من التعليل بشيء من الانحصار فيه. ومن ثم قلت عقبه وطلبا للمزيد وإنما نص على الشكر إشارة إلى أن القصد الأعظم من هذه الصلاة الشكر على النعم السابقة وهو يستلزم النعم اللاحقة كما صرحت به الآية فنية الشكر مستلزمة لنية الاستسقاء إن تنزلنا وقلنا بالاقتصار عليها فلا يقال صريح لفظه أنه يتحرم بها

 

ج / 1 ص -392-        شكرا إلا استسقاء بل صريح لفظه يفعلها لأجل الشكر فإذا تحرم بها جاز له الاقتصار على نيته. وجاز له أن يضم إليها طلب المزيد وإذا اتفق الاستسقاء في النصف الأخير من شعبان جاز الصوم ابتداء وتكررا لأنه بسبب سيما إن أمر به الإمام أو نائبه لأنه يصير واجبا فإن قلت هل يقال هنا بنظير ما قالوه في الصلاة في الأوقات المكروهة من الفرق بين السبب المتقدم والمقارن والمتأخر قلت نعم كما يدل عليه قياسهم الحرمة بتفصيلها يوم الشك ونحوه على حرمة الصلاة من أن العبرة في المقدم وغيره بالصلاة لا الوقت ومن قسم المقارن بناء على مقابله ثم, وكل من المتقدم والمقارن يجوز الصلاة فكذا الصوم.

باب الجنائز.
"وسئل" رضي الله عنه وأفاض علينا من مدده ما قولكم فيما أفتى به شيخنا الوالد من أنه لا يؤخر تجهيز الميت لأجل تحصيل الكافور زمنا لا يتغير فيه الميت قبله فإنه وقع عندي في ذلك شيء بمسألة نقل الميت؟ "فأجاب" نفعنا الله به وبعلومه بأن الذي يتجه أن الأفضل تأخير الميت تأخيرا يسيرا لا يخشى منه تغير بوجه لأجل تحصيل الكافور لأن كلامهم في باب الجنائز ناطق بأن الأولى فعل الأفضل به وإن أدى رعاية ذلك الأفضل إلى تأخير ألا ترى أن أقل الغسل يحصل بإفاضة الماء على جميع البدن ومع ذلك قالوا الأولى رعاية أكمل الغسل مع أن الأكمل الذي ذكروه يستدعي زمنا طويلا ولم ينظروا لذلك وكذلك قالوا الأولى إفراد كل ميت بالصلاة عليه ولم ينظروا إلى جمع الموتى في صلاة واحدة وكذلك قالوا نختار نقل الميت إلى نحو مكة إن لم يتغير قبله ولم يراعوا طول زمن تأخير دفنه لتلك المصلحة العائدة عليه ونظائر ذلك كثيرة في كلامهم على أن لنا قولا أو وجها قواه بعضهم أن الكافور واجب وحينئذ فيتأكد رعاية تحصيله وإن أدى إلى تأخير كما مر خروجا من خلاف من قال بوجوبه والله أعلم بالصواب.
"وسئل" كيف توضع يد الميت في اللحد؟ "فأجاب" بقوله لم أر في أمتنا كلاما في كيفية وضع يدي الميت في اللحد وظاهر سكوتهم عنه أنه لا سنة في وضعهما ولا يقاس بناء على الاحتجاج بفعل الصحابي على ما في سنن أبي داود أن فاطمة الزهراء رضي الله عنها لما احتضرت استقبلت القبلة وتوسدت يمينها لأن توسد اليمين ثم لا يعارضه سنة أخرى وتوسدها هنا يعارضه أن السنة هنا في الخد الأيمن أن يفضى به إلى الأرض فلو قلنا بندب توسد اليمين لفاتت تلك السنة وحينئذ فالأسهل في كيفية وضعهما أن تكون اليمنى بحذاء خده الأيمن واليسرى على جانبه الأيسر والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
"وسئل" رضي الله عنه هل تلقين الميت بعد صب التراب أو قبله وإذا مات طفل بعد موت أبويه أو أحدهما كيف الدعاء في الصلاة عليه؟ "فأجاب" رضي الله عنه بقوله: لا يسن

 

ج / 1 ص -393-        التلقين قبل إهالة التراب بل بعده كما اعتمده بعض المتأخرين وجزمت به في شرح الإرشاد وإن اختار ابن الصلاح أنه يكون قبل الإهالة قال الإسنوي وسواء فيما قالوه في الدعاء في الصلاة على الطفل مات في حياة أبويه أم لا لكن خالفه الزركشي فقال إن كان أبواه ميتين أو أحدهما أتى بما يقتضيه الحال والدميري فقال إن كان أبواه ميتين لم يدع لهما. والذي قاله الزركشي أوجه كما ذكرته في شرح العباب فحينئذ يقول اللهم اجعله فرطا لأبويه وسلفا وذخرا وهذه الأوصاف كلها لائقة بالميت والحي فليأت بها سواء كانا حيين أو ميتين أما السلف والذخر فواضح وأما الفرط فهو السابق المهيئ لمصالحهما في الآخرة وليس المراد السبق بالموت بل السبق بتهيئة المصالح ولا شك أن الميت يحتاج إلى من يسبقه إلى الجنة أو الموقف ليهيئ له المصالح وولده الطفل كذلك. وأما العظة فتختص بالحي فيقول وعظة للحي من أبويه فإن ماتا حذف هذه اللفظة وكذلك الاعتبار والشفيع عام للحي والميت فيأتي به فيهما وتثقيل الموازين كذلك بخلاف أفرغ الصبر والحاصل أنه يأتي بالألفاظ كلها سواء كانا حيين أم ميتين إلا قوله عظة واعتبارا وأفرغ الصبر فإنه لا يأتي بها إلا إذا كانا حيين أو أحدهما فإن كانا حيين فواضح أو أحدهما فقط ذكره فقال وعظة واعتبارا للحي منهما وأفرغ الصبر على قلب الحي منهما والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
"وسئل" رضي الله عنه عن قول شيخ الإسلام زكريا في شرح الروض الروح جسم لطيف وهو باق لا يفنى عند أهل السنة وقال في الأضواء البهجة في إبراز دقائق المنفرجة حقيقة الروح لم يتكلم عليها النبي صلى الله عليه وسلم فنمسك ولا نعبر عنها بأكثر من موجود كما قال الجنيد وذكر أن أهل الكلام اختلفوا فيها فما الراجح المعتمد في ذلك؟ "فأجاب" بقوله ما قاله شيخنا سقى الله عهده في شرح المنفرجة هو طريقة المحتاطين كالجنيد وعليه كثيرون من أئمة التفسير كالثعلبي وابن عطية وعليه حملوا قوله تعالى:
{قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الاسراء: 85] ولم يبينه لهم ومشى في شرح الروض على ما عليه جمهور المتكلمين من أهل السنة من أنها جسم لطيف مشتبك بالبدن اشتباك الماء بالعود الأخضر قال النووي في شرح مسلم وهذا هو الأصح عند أصحابنا. وذهب كثير منهم إلى أنه عرض وأنه هو الحياة التي صار البدن بوجودها حيا وقال كثير من الصوفية تبعا للفلاسفة ليست بجسم ولا عرض بل جوهر مجرد قائم بنفسه غير متحيز وله تعلق خاص بالبدن للتدبير والتحريك غير داخل في البدن ولا خارج عنه قال السهروردي ويدل للأول الأخبار الدالة على أنه جسم لما ورد عنه من الهبوط والعروج والتردد في البرزخ والعرض لا يوصف بذلك وقد تكلم عليها متأخرو الصوفية فنقل الإمساك عنهم المراد بهم متقدموهم وأجاب الخائضون فيها عن الآية بأن سببها أن اليهود لما أرادوا سؤاله صلى الله عليه وسلم عنها قالوا إن أجاب عنها فليس بنبي وإن لم يجب فهو صادق فلم يجب لأن الله لم يأذن له فيه تأكيدا لمعجزته وتصديقا

 

ج / 1 ص -394-        التلقين قبل إهالة التراب بل بعده كما اعتمده بعض المتأخرين وجزمت به في شرح الإرشاد وإن اختار ابن الصلاح أنه يكون قبل الإهالة قال الإسنوي وسواء فيما قالوه في الدعاء في الصلاة على الطفل مات في حياة أبويه أم لا لكن خالفه الزركشي فقال إن كان أبواه ميتين أو أحدهما أتى بما يقتضيه الحال والدميري فقال إن كان أبواه ميتين لم يدع لهما. والذي قاله الزركشي أوجه كما ذكرته في شرح العباب فحينئذ يقول اللهم اجعله فرطا لأبويه وسلفا وذخرا وهذه الأوصاف كلها لائقة بالميت والحي فليأت بها سواء كانا حيين أو ميتين أما السلف والذخر فواضح وأما الفرط فهو السابق المهيئ لمصالحهما في الآخرة وليس المراد السبق بالموت بل السبق بتهيئة المصالح ولا شك أن الميت يحتاج إلى من يسبقه إلى الجنة أو الموقف ليهيئ له المصالح وولده الطفل كذلك. وأما العظة فتختص بالحي فيقول وعظة للحي من أبويه فإن ماتا حذف هذه اللفظة وكذلك الاعتبار والشفيع عام للحي والميت فيأتي به فيهما وتثقيل الموازين كذلك بخلاف أفرغ الصبر والحاصل أنه يأتي بالألفاظ كلها سواء كانا حيين أم ميتين إلا قوله عظة واعتبارا وأفرغ الصبر فإنه لا يأتي بها إلا إذا كانا حيين أو أحدهما فإن كانا حيين فواضح أو أحدهما فقط ذكره فقال وعظة واعتبارا للحي منهما وأفرغ الصبر على قلب الحي منهما والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
"وسئل" رضي الله عنه عن قول شيخ الإسلام زكريا في شرح الروض الروح جسم لطيف وهو باق لا يفنى عند أهل السنة وقال في الأضواء البهجة في إبراز دقائق المنفرجة حقيقة الروح لم يتكلم عليها النبي صلى الله عليه وسلم فنمسك ولا نعبر عنها بأكثر من موجود كما قال الجنيد وذكر أن أهل الكلام اختلفوا فيها فما الراجح المعتمد في ذلك؟ "فأجاب" بقوله ما قاله شيخنا سقى الله عهده في شرح المنفرجة هو طريقة المحتاطين كالجنيد وعليه كثيرون من أئمة التفسير كالثعلبي وابن عطية وعليه حملوا قوله تعالى:
{قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الاسراء: 85] ولم يبينه لهم ومشى في شرح الروض على ما عليه جمهور المتكلمين من أهل السنة من أنها جسم لطيف مشتبك بالبدن اشتباك الماء بالعود الأخضر قال النووي في شرح مسلم وهذا هو الأصح عند أصحابنا. وذهب كثير منهم إلى أنه عرض وأنه هو الحياة التي صار البدن بوجودها حيا وقال كثير من الصوفية تبعا للفلاسفة ليست بجسم ولا عرض بل جوهر مجرد قائم بنفسه غير متحيز وله تعلق خاص بالبدن للتدبير والتحريك غير داخل في البدن ولا خارج عنه قال السهروردي ويدل للأول الأخبار الدالة على أنه جسم لما ورد عنه من الهبوط والعروج والتردد في البرزخ والعرض لا يوصف بذلك وقد تكلم عليها متأخرو الصوفية فنقل الإمساك عنهم المراد بهم متقدموهم وأجاب الخائضون فيها عن الآية بأن سببها أن اليهود لما أرادوا سؤاله صلى الله عليه وسلم عنها قالوا إن أجاب عنها فليس بنبي وإن لم يجب فهو صادق فلم يجب لأن الله لم يأذن له فيه تأكيدا لمعجزته وتصديقا

 

ج / 1 ص -395-        وهو كالصريح في أن الصلاة على الغائب لا تسقط الفرض عن أهل بلده مطلقا لكن تعقبه بعض المتأخرين فقال ولك أن تقول المخاطب بفروض الكفاية جميع الأمة عند الجمهور فينبغي أن يسقط الفرض بذلك ا هـ. وجرى على هذا الزركشي أيضا فقال والأقرب سقوط الفرض عنهم أي عن أهل بلده لحصول الفرض ا هـ. وكذلك جرى عليه شيخنا شيخ الإسلام زكريا سقى الله عهده فقال والأوجه حمل ما ذكره ابن القطان على ما إذا لم يعلم أهل موضعه بصلاة الغيبة فإن علموا سقط الفرض عنهم لأن فرض الكفاية إذا قام به بعض سقط الفرض عن الباقين ا هـ وبذلك علم أن المعتمد سقوط الصلاة عن أهل البلد بصلاة الغائب سواء أكان منهم أو من غيرهم لكن إثمهم بتأخير الصلاة عليه إلى أن صلى عنه لا مسقط له كما هو ظاهر لأن الفرض يتوجه إليهم أولا فإذا تباطئوا عنه أثموا بهذا التباطؤ وإن قام بالفرض غيرهم ولا يجوز أن يصلى على غائب في البلد مطلقا سواء كان له حوائج تشغله أم لا قالوا لتيسر الحضور قال في الخادم وقضيته أن المعذور لمرض أو زمانة أو حبس له الصلاة وقال المحب الطبري يتجه الجواز لا سيما إذا اتسعت خطة البلد حتى صار ما بين طرفيها مسافة قصر ا هـ وأخذه من كلام شيخه الأذرعي لكن تعقب ذلك شيخه بأن الأقرب إلى كلامهم المنع وكذا قال غيره وإطلاقهم صريح في المنع من ذلك ا هـ. وهو كما قالوه ففي شرح المهذب وغيره لا تجوز على من في البلد للاتباع ولتيسر الحضور كبرت البلد أم صغرت وشبهوه بالقضاء على من بالبلد لإمكان حضوره ا هـ وإذا كان كلامهم صريحا في المنع حتى لنحو المريض والمحبوس فما بالك بمن يشتغل بالصلاة عن حوائجه على أنا لو قلنا بما بحثه جمع من الجواز لنحو المريض والمحبوس فالذي يتجه أنا لا نقول للمشتغل المذكور لأن مانع أولئك اضطراري ومانع هذا اختياري ولأن المشقة هنا ليست كالمشقة ثم والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
"وسئل" رضي الله عنه عن قول الإرشاد ولا ينحى سابق لأولى إلا لذكورة فلو كان الأولى نبيا كعيسى عليه السلام فهل ينحى السابق له أم لا؟ "فأجاب" رضي الله عنه بقوله ظاهر إطلاقهم هنا أنه لا ينحى السابق للمسبوق ولو نبيا لكنهم صرحوا في باب الأطعمة بأنه يلزم مالك طعام اضطر إليه بذله لنبي مضطر إليه أيضا لأن بقاء نفس النبي أولى من بقاء نفس غيره فيحتمل قياس ذلك بهذا فيتقدم النبي على غيره مطلقا ويحتمل الفرق بأن فوات نفس النبي لا خلف له ففيه مفسدة لا يمكن تداركها لو قدم المالك عليه وأما تقدم السابق فلا مفسدة فيه وإنما غايته أنه أوثر بفضيلة استحقها بسبقه وهي القرب من الإمام وهذه لا يحتاج إليها إلا غير النبي وأما النبي فهو غني عنها إذ لا يحصل له بذلك إلا مجرد قرب من الإمام وهو بالنسبة لعلي مقامه ليس فيه كبير أمر فلم يفوت على السابق لأنه يتشرف به دون النبي المسبوق كما تقرر ولعل هذا أقرب والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب

 

ج / 1 ص -396-        "وسئل" رضي الله عنه فيمن مات وعليه ديون لأقوام متفرقة فوضعوا تركته في حاصل وختم القاضي عليها فجاء ولده فقال لهم مكنوني من التركة ولا تعرفوا المال إلا مني وأوفيكم جميع الديون إلى الزمن الفلاني فمكنوه من ذلك وكتبوا عليه الديون في ذمته عند القاضي على الوجه المذكور ثم وضع يده على التركة فتصرف فيها فأعطاهم لا على نسبة ديونهم ثم هرب وبقيت لهم فضلات من ديونهم ومن الديانين شخص كان غائبا حين الموت وتمكين الولد من التركة وموافقتهم على ما ذكروا وإعطائه لهم ما ذكر أيضا فهل يسري جميع ما فعلوه على هذا الغائب ويحرم من أخذ ما يخص دينه من التركة أو أن كل ما فعلوه باطل بالنسبة لحصته فيرجع بقدرها على من خصه شيء من التركة من الغرماء أم لا؟ أفتونا مأجورين. "فأجاب" بقوله الذي نص عليه الشافعي والأصحاب أن وارث الميت إذا سأل غرماءه أن يحتالوا عليه ليصير الدين في ذمته وتبرأ ذمة الميت جاز وعبارة الشافعي رضي الله عنه في الأم إن كان الدين يستأخر سأل أي وليه غرماءه أن يحللوه ويحتالوا به عليه وأرضاهم منه بأي وجه كان انتهت. قال النووي في المجموع ظاهره أنه بمجرد تراضيهم على مصيره في ذمة الولي يبرأ الميت ثم استشكله بأنه ليس على قواعد الحوالة والضمان ثم أجاب بأنه يحتمل أن الشافعي والأصحاب رأوا هذه الحوالة جائزة مبرئة للميت في الحال للحاجة والمصلحة ا هـ وهو جواب حسن واضح ومن ثم اعتمده غير واحد من المتأخرين. وفي الخادم أن كلامهم مصرح بأن هذه الحوالة مبرئة للذمة ثم رد على من نازع فيه بأنه اغتفر ذلك مصلحة للميت أي كما مر عن المجموع إذا تقرر ذلك علم منه أن الوارث المذكور لما سألهم في أن يمكنوه من التركة وأن لا يعرفوا المال إلا منه فأجابوه إلى ذلك ورضوا بذمته برئت ذمة الميت في الحال وصارت ديونهم متعلقة بذمة الوارث ويلزم من براءة ذمة الميت من ديونهم انفكاك التركة عن كونها مرهونة بديونهم كما صرح به الأصحاب في باب الرهن وحينئذ فلا حق للغرماء الراضين بذمة الوارث في شيء من التركة بل جميعها باق على رهنيته بدين الغائب فيرجع على كل من أخذ منها شيئا به حتى يستوفى جميع دينه إن كان مساويا لها أو ناقصا عنها ولا حق لهم في شيء منها حتى يستوفى جميع دينه فإن فرض أنهم لم يرضوا بذمة الوارث فالتركة مرهونة بحقوقهم وحق الغائب فإذا اقتسموها في غيبته رجع على كل منهم فيشاركه بالحصة فيما أخذه إن بقي وإلا ففي بدله وإن أعسر بعضهم جعل كأنه معدوم وشارك غيره ثم إذا أيسر هذا المعسر طالبه كل منهم بالحصة ولو انتقلت أعيان التركة منهم إلى غيرهم ببيع ونحوه رجع على من انتقلت إليه بالحصة التي يستحقها بنسبة دينه لأن تصرفهم في حصته من كل من الأعيان باطل وهم لوضع يدهم عليها بغير حق غاصبون أو كالغاصبين لها فإن شاء رجع عليهم وإن شاء رجع على من ترتبت يده على أيديهم وكذلك يقال في الحالة الأولى إذا لم يستحقوا شيئا من التركة ووضعوا أيديهم عليها والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.

 

ج / 1 ص -397-        "وسئل" رضي الله عنه هل يلزم الزوج تكفين زوجته بجديد كالكسوة؟ "فأجاب" بقوله أفتى بعضهم بذلك واعتمده غيره وبعضهم بأنه يجوز باللبيس ككفارة اليمين واعتمده ابن كبن والذي يتجه الأول لاعتبارهم ذلك بحال الحياة وليس الملحظ هنا كالكفارة لأن العبرة فيها بما يسمى كسوة وهنا بما كانت تستحقه حال الحياة بدليل وجوب تجهيزها عليه وإن كانت غنية وعدم وجوبها إذا كانت ناشزة والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
"سئلت" في الترمذي أنه صلى الله عليه وسلم قال: "من كتب هذا الدعاء وجعله بين صدر الميت وكفنه في رقعة لم ينله عذاب القبر ولا يرى منكرا ونكيرا وهو هذا لا إله إلا الله والله أكبر لا إله إلا الله وحده لا شريك له لا إله إلا الله له الملك وله الحمد لا إله إلا الله ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم" قال بعضهم ومثل ذلك ما يكتب من التسبيح الذي قيل فيه إنه مشهور الفضل والبركة من كتبه وجعله بين صدر الميت وكفنه لا يناله عذاب القبر ولا يناله منكر ونكير وله شرح عظيم وهو دعاء الأنس سبحان من هو بالجلال موحد وبالتوحيد معروف وبالمعارف موصوف وبالصفة على لسان كل قائل رب بالربوبية للعالم قاهر وبالقهر للعالم جبار وبالجبروت عليم حليم وبالحلم والعلم رءوف رحيم سبحانه كما يقولون وسبحانه كما هم يقولون تسبيحا تخشع له السموات والأرض ومن عليهما ويحمدني من حول عرشي اسمي الله وأنا أسرع الحاسبين. وقال ابن عجيل إذا كتب هذا الدعاء وجعل مع الميت في قبره وقاه الله فتنة القبر وعذابه وهو هذا اللهم فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة إني أعهد إليك في هذه الحياة الدنيا إني أشهد أن لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك وأن محمدا عبدك ورسولك وأنك إن تكلني إلى نفسي تقربني من الشر وتباعدني من الخير وإني لا أثق إلا برحمتك فاجعله لي عندك عهدا تؤتنيه يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد وقال أيضا من كتب هذا الدعاء في كفن الميت رفع الله عنه العذاب إلى يوم ينفخ في الصور وهو هذا اللهم إني أسألك يا عالم السر يا عظيم الخطر يا خالق البشر يا موقع الظفر يا معروف الأثر يا ذا الطول والمن يا كاشف الضر والمحن يا إله الأولين والآخرين فرج عني همومي واكشف عني غمومي وصل اللهم على سيدنا محمد وسلم ا هـ ما قاله ابن عجيل فهل ما نقله صحيح معتمد وهل يفرق بين أن يكتب ويحفظ عن الصديد وأن لا يحفظ عنه. "فأجبت" بقولي ليس ذلك بصحيح ولا معتمد فقد أفتى الإمام ابن الصلاح بأنه لا يجوز كتابة شيء من القرآن على الكفن صيانة له عن صديد الموتى ومثل ذلك الكتاب الذي يسمونه كتاب العهدة ينبغي أن لا يجوز وأقر ابن الصلاح على ذلك الأئمة بعده وهو ظاهر المعنى جدا فإن القرآن وكل اسم معظم كاسم الله أو اسم نبي له يجب احترامه وتوقيره وتعظيمه ولا شك أن كتابته وجعله في كفن الميت فيه غاية الإهانة له إذ لا إهانة كالإهانة بالتنجيس ونحن نعلم بالضرورة أن ما في كفن الميت لا بد وأن يصيبه بعض دمه أو صديده أو غيرهما من الأعيان النجسة التي بجوفه فكان تحريم وضع ما كتب فيه اسم

 

ج / 1 ص -398-        معظم في كفن الميت مما لا ينبغي التوقف فيه. وأما ما في الترمذي فيتوقف الاحتجاج به على صحة سنده بل لو فرض صحة سنده لم يعمل به لأن الأئمة نصوا على خلاف مقتضاه فيكون إعراضهم عنه إنما هو لعلة فيه كيف وهو مخالف لهذه القاعدة المعلومة التي لا نزاع فيها وهي أن تنجيس اسم الله ونحوه فيه إهانة له وإهانته محرمة فيكون السبب إلى ذلك محرما نعم إن فرض أن ذلك المكتوب جعل في محل من القبر بحيث أمن عليه يقينا أنه لا يصيبه شيء من الصديد ونحوه لم يبعد القول بالجواز حينئذ لانتفاء علة التحريم السابقة على أنه حينئذ لا يجدي شيئا لأن الشرط كما ذكر عن الترمذي وغيره أن يوضع في كفن الميت فوضعه خارج الكفن لا يفيد شيئا فالحاصل أنه إن وضع في الكفن كان فيه تسبب إلى تنجيس اسم الله تعالى وقد تقرر وبان وظهر حرمة ذلك وإن وضع خارج الكفن لم يفد شيئا لأن ذلك الثواب الذي قيل فيه مشروط بوضعه في الكفن فالصواب عدم كتابة ذلك وعدم وضعه في القبر مطلقا والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
"وسئل" أعاد الله علينا من بركاته عما يذبح من النعم ويحمل مع ملح خلف الميت إلى المقبرة ويتصدق به على الحفارين فقط وعما يعمل يوم ثالث موته من تهيئة أكل وإطعامه للفقراء وغيرهم وعما يعمل يوم السابع كذلك وعما يعمل يوم تمام الشهر من الكعك ويدار به على بيوت النساء اللاتي حضرن الجنازة ولم يقصدوا بذلك إلا مقتضى عادة أهل البلد حتى إن من لم يفعل ذلك صار ممقوتا عندهم خسيسا لا يعبئون به وهل إذا قصدوا بذلك العادة والتصدق في غير الأخيرة أو مجرد العادة ماذا يكون الحكم جواز وغيره وهل يوزع ما صرف على أنصباء الورثة عند قسمة التركة وإن لم يرض به بعضهم وعن المبيت عند أهل الميت إلى مضي شهر من موته لأن ذلك عندهم كالفرض ما حكمه. "فأجاب" بقوله: جميع ما يفعل مما ذكر في السؤال من البدع المذمومة لكن لا حرمة فيه إلا إن فعل شيء منه لنحو نائحة أو رثاء ومن قصد بفعل شيء منه دفع ألسنة الجهال وخوضهم في عرضه بسبب الترك يرجى أن يكتب له ثواب ذلك أخذا من أمره صلى الله عليه وسلم من أحدث في الصلاة بوضع يده على أنفه وعللوه بصون عرضه عن خوض الناس فيه لو انصرف على غير هذه الكيفية ولا يجوز أن يفعل شيء من ذلك من التركة حيث كان فيها محجور عليه مطلقا أو كانوا كلهم رشداء لكن لم يرض بعضهم بل من فعله من ماله لم يرجع به على غيره ومن فعله من التركة غرم حصة غيره الذي لم يأذن فيه إذنا صحيحا وإذا كان في المبيت عند أهل الميت تسلية لهم أو جبر لخواطرهم لم يكن به بأس لأنه من الصلات المحمودة التي رغب الشارع فيها والكلام في مبيت لا يتسبب عنه مكروه ولا محرم وإلا أعطي حكم ما ترتب عليه إذ للوسائل حكم المقاصد والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.

 

ج / 1 ص -399-        "وسئل" فسح الله تعالى في مدته عن قولهم في الجنائز يجعل قليل كافور لأنه يشد البدن وقالوا يجعل على منافذ بدنه قطن لئلا يدخله الهوام ما الحكمة في جميع ذلك وجميع بدن الميت وأجزائه صائرة إلى البلى؟ "فأجاب" بأن الحكمة في ذلك ما هو مقرر عند أهل السنة من أن البدن ينعم بأنواع النعيم كالروح وحيثما بقي اتصل به النعيم وباتصال النعيم به يزيد سرور الروح وانبساطها فإن البدن بينه وبينها غاية الارتباط والمناسبة فجميع ما يحصل له يحصل لها وعكسه فلذلك حافظوا على طلب إبقائه ليزداد بذلك نعيمه في البرزخ والنعيم فيه مقصود أي مقصود والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
"وسئل" رضي الله عنه عما إذا كان قبر رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى القبر قبة وأراد الرجل أن يكون قبره بجنبه فضاق الموضع إلا بنقض شيء قليل من القبة فهل يجوز له نقضه فإن قلتم نعم فذاك وإن قلتم لا فمع علمكم أن الشافعي رضي الله عنه قال رأيت الولاة بمكة يأمرون بهدم ما بني منها ولم أر الفقهاء يعيبون ذلك عليهم؟ "فأجاب" بقوله إن كانت تلك القبة مبنية في مقبرة مسبلة وهي التي اعتاد أهل البلد الدفن فيها فهي مستحقة الهدم فلكل أحد هدمها وإن كانت على ذلك القبر وحده ولم تكن في مقبرة مسبلة لم يجز لأحد هدمها لمثل ما ذكره السائل من الدفن بجانب القبر والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
"وسئل" رضي الله عنه عن الميت هل يسأل في قبره جالسا أو راقدا؟ "فأجاب" بقوله الذي في البخاري أنه يسأل قاعدا وكذا في ابن ماجه وفيه أن الصالح يجلس غير فزع والسيئ يجلس فزعا والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
"وسئل" نفع الله به إذا سئل الميت هل تلبس روحه الجثة كما كان في الدنيا؟.
"فأجاب" بقوله ورد في حديث البراء كما ذكره القرطبي أنه تعاد إليه روحه ثم يسأل.
"وسئل" نفع الله به أين تكون الروح مقيمة بعد السؤال. "فأجاب" بقوله ذكر ابن رجب أن الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين تكون أرواحهم في أعلى عليين ويؤيده اللهم الرفيق الأعلى وأكثر العلماء أن أرواح الشهداء في الجنة في أجواف طيور خضر لها قناديل معلقة بالعرش تسرح في رياض الجنة حيث شاءت كما في مسلم وغيره وروى ابن المبارك عن كعب قال جنة المأوى جنة فيها طير خضر ترعى فيها أرواح الشهداء على مارق نهر بباب الجنة في قبة خضراء يخرج عليهم رزقهم من الجنة بكرة وعشيا قال ابن رجب ولعل هذا في عوام الشهداء والذين هم في القناديل تحت العرش خواصهم ولعل هذا في شهداء الآخرة كالغريق ونحوه وأما بقية المؤمنين فنص الشافعي رضي الله عنه على أن من لم يبلغ التكليف منهم في الجنة. وعن ابن مسعود رضي الله عنه أن أرواح ولدان المؤمنين في أجواف عصافير تسرح في الجنة حيث شاءوا فتأوي إلى قناديل معلقة بالعرش".

 

ج / 1 ص -400-        أخرجه ابن أبي حاتم ويؤيده ما في مسلم أن له أي إبراهيم ولد النبي صلى الله عليه وسلم لظئرين يكملان رضاعه في الجنة وأما أهل التكليف فقد اختلف فيهم قديما وحديثا قال أحمد أرواحهم في الجنة قال روي عنه صلى الله عليه وسلم "نسمة المؤمن إذا مات طائر يعلق في شجر الجنة حتى يرجعه الله تعالى إلى جسده حين يبعثه" وعن وهب أنها في دار يقال لها البيضاء في السماء السابعة وعن مجاهد أنها تكون على القبور سبعة أيام من يوم دفن لا تفارقه قال وأما السلام على القبور فلا يدل على استقرار أرواحهم على أفنية قبورهم فإنه يسلم على قبور الأنبياء والشهداء وأرواحهم في أعلى عليين ولكن لها مع ذلك اتصال سريع بالجسد ولا يعرف كنه ذلك إلا الله تعالى ويشهد لذلك الأحاديث المرفوعة والموقوفة على الصحابة كأبي الدرداء وعبد الله بن عمر. وأخرج ابن أبي الدنيا عن مالك بلغني أن الروح مرسلة تذهب حيث شاءت وعن عبد الله بن عمرو نحوه ويجمع هذه الأقوال ما ذكره الإمام العارف ابن ترجمان في شرح أسماء الله الحسنى حيث قال والنفس مبرأة من باطن ما خلق منه الجسم وهي روح الجسم وأوجد تبارك وتعالى الروح من باطن ما برأ منه النفس وهي للنفس بمنزلة النفس للجسم والنفس حجابه والروح توصف بالحياة وبإحياء الله عز وجل له وموته أي الروح خمود إلا ما شاء الله يوم خمود الأرواح والجسم يوصف بالموت حتى يجيء بالروح وموته مفارقة الروح إياه وإذا فارق هذا العبد الروحاني الجسم صعد به فإن كان مؤمنا فتحت له أبواب السماء حتى يصعد إلى ربه عز وجل فيؤمر بالسجود فيسجد ثم يجعل حقيقته النفسانية تعم السفل من قبره إلى حيث شاء الله من الجو وحقيقته الروحانية تعم العلو من السماء الدنيا إلى السابعة في سرور ونعيم ولذلك لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم موسى قائما في قبره يصلي وإبراهيم تحت الشجرة قبل صعوده إلى السماء الدنيا ولقيهما في السموات العلى فتلك أرواحهما وهذه نفوسهما وأجسادهما في قبورهما وإن كان شقيا لم يفتح له فيرمى من علو إلى الأرض. وهذا قول حسن من هذا الرجل الكبير يزول به ما للقرطبي على ذلك من الاعتراضات من جملتها حديث: "ما من أحد يمر بقبر أخيه المؤمن كان يعرفه في الدنيا فسلم عليه إلا عرفه ورد عليه السلام" فإنه يدل على أن الروح على القبر وكذلك حديث الجريدتين. والجواب أخذا مما مر أن الذي في القبر إنما هو حقيقته النفسانية المتصلة بالروح قال القرطبي وقد قيل إنها تزور قبورها كل جمعة على الدوام ولذلك سن زيارة القبور ليلة الجمعة ويومها وبكرة السبت ا هـ قال ابن رجب ورجح ابن عبد البر أن أرواح الشهداء في الجنة وأرواح غيرهم في أفنية القبور تسرح حيث شاءت وقالت فرقة تجتمع الأرواح بموضع من الأرض كما روي عن سعيد بن المسيب عن عبد الله بن عمر قال إن أرواح المؤمنين تجتمع بالجابية وأما أرواح الكفار فتجتمع بسبخة حضرموت يقال لها برهوت. وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "بعض بقعة في الأرض واد بحضرموت يقال له برهوت فيه أرواح

 

 

ج / 1 ص -401-        الكفار وفيه بئر ماء يرى بالنهار أسود كأنه قيح يأوي إليها الهوام" قال سفيان وسألنا الحضرميين فقالوا لا يستطيع أحد أن يبيت فيه بالليل قال ابن قتيبة وذكر الأصمعي عن رجل من أهل برهوت يعني البلد الذي فيه هذا البئر قال نجد الرائحة المنتنة الفظيعة جدا ثم نمكث حينا فيأتي الخبر بأن عظيما من عظماء الكفار قد مات فنرى أن تلك الرائحة منه.
"وسئل" رضي الله عنه هل يعرف الميت من يزوره ويفرح بذلك؟ "فأجاب" بقوله ذكر ابن رجب حديثا أخرجه العقيلي فيه أنهم يسمعون السلام ولا يستطيعون رده.
"وسئل" فسح الله في مدته عن الميت هل يرى النبي صلى الله عليه وسلم ويقال له ما تقول في هذا الرجل وهذا إشارة إلى الحضور وقد يموت في الوقت الواحد خلق كثير ويقال ذلك لكل واحد منهم فكيف هذا؟ "فأجاب" بقوله قال الإمام العارف ابن أبي جمرة إن هذا الرجل المراد به ذات النبي صلى الله عليه وسلم ورؤيتها بالعين وفي هذا دليل على عظم قدرة الله إذ الناس يموتون في الزمان الفرد في أقطار الأرض على اختلافها بعدا وقربا كلهم يراه قريبا منه لأن لفظة هذا لا تستعمل إلا في القريب وفيه رد على من أنكر رؤيته صلى الله عليه وسلم في الأقطار في زمن واحد بصور مختلفة ودليله عقلا أنهم جعلوا ذاته الشريفة كالمرآة كل يرى فيه صورته على ما هي عليه من حسن أو قبح والمرآة على حالها من الحسن لم تتبدل. والذي قاله المحققون من الصوفية أن الأمر في عالم البرزخ والآخرة على خلاف عالم الدنيا فينحصر الإنسان في صورة واحدة إلا الأولياء كما نقل عن قضيب البان وغيره أنه رئي في صور مختلفة والسر في ذلك أن روحانيتهم غلبت على جسمانيتهم فجاز أن يظهر في صور كثيرة وحملوا عليه قوله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر الصديق رضي الله عنه لما قال وهل يدخل أحد من تلك الأبواب كلها قال:
"نعم وأرجو أن تكون منهم" وقالوا إن الروح إذا كانت كلية كروح نبينا صلى الله عليه وسلم ربما تظهر في سبعين ألف صورة ا هـ وهم أصحاب كشف واطلاع فيسلم لهم ما قالوه.
"وسئل" فسح الله في مدته هل عذاب القبر على الروح والجسد أم على أحدهما؟ "فأجاب" بقوله ذهب أهل السنة إلى أن الله يحيي المكلف في قبره ويجعل له من العقل مثل ما عاش عليه ليعقل ما يسأل عنه ويجيب عنه وما يفهم به ما أتاه من ربه وما أعد له في قبره من كرامة وهوان وبهذا نطقت الأخبار والأصح أن العذاب على الروح والجسد.
"وسئل" أعاد الله علينا من بركاته هل يغرس الريحان ونحوه على منزل القبر أو قافية اللحد؟ "فأجاب" بقوله استنبط العلماء من غرس الجريدتين على القبر غرس الأشجار والرياحين على القبر. ولم يبينوا كيفيته لكن في الصحيح أنه غرس في كل قبر واحدة فشمل القبر كله فيحصل المقصود بأي محل منه نعم أخرج عبد بن حميد في مسنده أنه صلى الله عليه وسلم وضع الجريدة على القبر عند رأس الميت

 

ج / 1 ص -402-        "وسئل" نفع الله به كيف يدري الميت بوصول الثواب له وهل الأنفع الصدقة أو القراءة أو تسبيل الماء أو الأكل؟ "فأجاب" بقوله المشهور من مذهبنا عدم وصول القراءة إلى الميت إلا إن قرئ على القبر أو بعيدا عنه بنيته ودعا عقبها وكيفية الوصول لم يثبت فيها شيء لكن ذكر القرطبي منامات تدل على وصول نوره وغيره والتفاضل بين الصدقة والقراءة على القول بوصولها لم يثبت فيه شيء أيضا وينبغي أن تكون الصدقة أفضل إذ لا خلاف في وصولها بخلاف القراءة والأفضل منها ما دعت الحاجة إليه في المحل المتصدق فيه أكثر وتارة يكون الماء وتارة يكون الخبز وتارة يكون غيرهما.
"وسئل" فسح الله تعالى في مدته عما إذا نقل الجسد من القبر هل تنتقل معه الروح وهل الأول تراب الميت أو الثاني. "فأجاب" بقوله تنتقل معه لأنها تابعة له لا للقبر والثاني لم نر فيه شيئا ولا يبعد أن كلا ترابه لكن الأول كان مغيا بوقت.
"وسئل" نفع الله به عما إذا دفنت الرقبة في مكان والجثة في آخر فأين تكون الروح؟ "فأجاب" بقوله لم نر فيه شيئا ولكن إن قلنا في الجثة فظاهر أو على القبر فهي متعلقة بجميع الجسد وإن تفرقت أجزاؤه ثم رأيت بعض المحققين أفتى بذلك فقال الروح وإن لم تكن داخلة جسد الميت لكن لها به وبكل جزء منه اتصال مستمر فإذا فرق بين الجسد والرأس اتصلت الروح بكل منهما ولو فرض تعدد تفريق أعضاء الميت فكذلك.
"وسئل" نفع الله به عن الملكين الذين يجلسان على القبر يستغفران للميت هل هما الكاتبان أو السائق والشهيد؟ "فأجاب" بقوله ذكر القرطبي في تفسير:
{وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ } حديثا طويلا أخرجه أبو نعيم وهو يدل على أن الكاتبين هما السائق والشهيد وهما اللذان يجلسان على القبر للاستغفار إلى يوم القيامة.
"وسئل" فسح الله في مدته هل إعادة الأجساد تكون على صفتها الأولى حتى في المحشر أو لا فتكون العينان في الرأس ويحشرون جردا مردا كما ورد؟ "فأجاب" بقوله ذكر القرطبي في تفسير:
{وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ} والحليمي ما له تعلق بما نحن فيه وفي تذكرته في حديث: "يحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة غرلا" أي غير مختونين ما يدل على أنهم يحشرون بجميع أجزائهم التي كانت في الدنيا من لحم ودم وعظم وشعر ولهذا استحبوا دفن ما ينفصل منه معه وحينئذ فالتغيير إنما يكون عند دخول الجنة وكون العينين في الرأس قال بعضهم لم نر أحدا من المفسرين ولا من العلماء بعد الكشف قال به لكن قال شيخ الإسلام ابن حجر إنه ورد ومع ذلك فظاهر جوابه صلى الله عليه وسلم لاستعظام أم المؤمنين كشف العورات بأن لكل منهم يومئذ شأن يغنيه أنهما في الوجه وفي تذكرة القرطبي حديث فيه أنه تنشق عنهم الأرض شبابا أبناء ثلاث وثلاثين سنة.
"وسئل" نفع الله به هل يعرف الناس بعضهم بعضا في المحشر؟ "فأجاب" بقوله: نعم

 

ج / 1 ص -403-        في مواطن منها أرباب الحقوق كما يدل عليه أحاديث الصحيحين ومنها إذا كان الرجل رأسا في الخير يدعو إليه ويأمر به يدعى باسمه حتى إذا نجا يقال له انطلق إلى أصحابك فبشرهم وأخبرهم بأن لكل إنسان منهم مثل هذا وكذا إذا كان رأسا في الشر ومنها في موطن الشفاعة فقد أخرج الطحاوي أنه صلى الله عليه وسلم قال: "إذا كان يوم القيامة جمع الله تعالى أهل الجنة صفوفا وأهل النار صفوفا فينظر الرجل من صفوف أهل النار إلى الرجل من صفوف أهل الجنة فيقول له يا فلان أتذكر يوم اصطنعتك معروفا فيقول اللهم هذا اصطنع لي في الدنيا معروفا فيقال له خذ بيده وأدخله الجنة".
"وسئل" رضي الله عنه هل يميت الله العصاة من هذه الأمة إذا دخلوا النار إماتة حقيقية وما معنى:
{لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ}؟ "فأجاب" بقوله روى مسلم حديثا طويلا فيه التصريح بأنهم يموتون ثم يحملون ضبائر فيبثون على باب الجنة. الحديث قال النووي والإماتة حقيقية ثم يخرجون موتى قد صاروا فحما فيحملون ضبائر كما تحمل الأمتعة ثم يلقون على باب الجنة ثم نقل عن القاضي عياض أن المراد بها أنه يغيب عنهم إحساسهم بالآلام واختار ما مر وكلام القرطبي يقتضي أنهم من حين يدخلونها يموتون وضبائر بفتح المعجمة جمع ضبارة بكسرها وهي الجماعة والضمير في فيها في الآية راجع إلى الجنة والاستثناء فيها منقطع إذ الموتة الأولى في الدنيا أو إلا بمعنى بعد أو سوى.
"وسئل" رضي الله عنه عن قولهم يكره اللغط في الجنازة فهل تنتهي الكراهة بماذا أي بالانصراف عن المقبرة أم تتقيد بما دام الميت في النعش إذ الجنازة اسم للميت في النعش. "فأجاب" بقوله يحتمل أن يقال تنتهي بتمام طم القبر وأن يقال بسد اللحد فقط وهذا هو الأقرب وأما الاحتمالان المذكوران في السؤال فبعيدان جدا ويرد الأول بأنه يلزم عليه كراهة اللغط في المقبرة وإن لم يكن مع جنازة ولم يقولوا به وإن كان لذلك وجه والثاني بأنه من الواضح البين أنه ليس المراد بالجنازة في مثل هذا الموضع ما ذكر في السؤال وإن كان هذا هو أصل وضعها إذ كيف يتخيل ذلك مع تعبيرهم بفي في قولهم في الجنازة وإنما المراد بها الجماعة التابعون لها أو تكون في للسببية أي يكره اللغط بسبب الجنازة على تابعها وحينئذ فما دام يصدق عليه أنه تابعها كره له وما لا فلا ومعلوم مما قالوه في حصول القيراطين أن تبعيتها تنقطع بسد اللحد وإن لم يطم القبر بدليل أنه لو رجع حينئذ حصل له تمام القيراطين فاتضح بذلك ما رجحته من انتهاء الكراهة بسد اللحد.
"وسئل" فسح الله تعالى في مدته عن امرأة أوصت بأنها تكفن من مالها فهل يسقط عن الزوج ولو كفنها الوصي من ماله هل يرجع؟ "فأجاب" بقوله إن ماتت غير ناشزة والزوج موسر كان إيصاؤها بمؤنة تجهيزها من مالها وصية لوارث فلا تنفذ إلا إن أجاز بقية الورثة وشرط رجوع الوصي إذن القاضي إن تيسر وإلا فإشهاد عدلين أنه أنفق بنية الرجوع

 

ج / 1 ص -404-        "وسئل" رضي الله عنه بما صورته الميت قد يلطخ بدنه أو بعض كفنه بزعفران فهل يجوز أو لا؟ "فأجاب" بقوله في الحديث الصحيح النهي عن التزعفر للرجال وفي شرح البخاري لابن الملقن وغيره أن الشافعي وأبا حنيفة رضي الله عنهما قالا لا يجوز ذلك للرجال وأجازه مالك رضي الله عنه وغيره في الثياب دون البدن ا هـ وهو صريح في أن مذهب الشافعي رضي الله عنه تحريم ذلك لكن قضية قولهم يكره الخلوق للرجال وهو طيب مخلوط بزعفران وغيره عدم التحريم إلا أن يحمل هذا على ما إذا استهلك الزعفران بحيث صار لا يظهر له أثر محسوس على أن المراد بالخلوق هو تلطيخ قليل من البدن أو الثوب وحينئذ فلا منافاة أصلا ويؤخذ من كراهة الخلوق أن تلطيخ قليل من كفن الميت بالزعفران مكروه لا حرام.
"وسئل" فسح الله في مدته عن امرأة كفنت من مالها وزوجها غائب موسر فهل يرجع الورثة عليه بالكفن؟ "فأجاب" بقوله قال الجلال البلقيني لا يستقر في ذمته وهو صريح في أنهم لا يرجعون عليه قال وظهر لي أن الكفن إمتاع لا تمليك لأن التمليك بعد الموت لا يمكن وتمليك الورثة لا يجب فتعين الإمتاع ا هـ فإن قلنا إمتاع اتضح ما ذكره لأنه بموتها لم يترتب عليه في ذمته شيء وإن قلنا تمليك رجعوا عليه بقيمتها لأنها ملكته أو قيمته بموتها والأوجه ما ذكره من أنه إمتاع ثم رأيت الريمي أفتى فيمن أوصت بأن تجهز من مالها بأنها إن قالت أوصيت بإسقاط ذلك عن الزوج كان وصية لوارث أو اجعلوا تجهيزي من مالي صرف عليها من مالها ويبقى الكفن ومؤنة التجهيز في ذمة الزوج لأن مالها قد يكون أحل من مال الزوج ويبقى ما عليه في ذمته كما لو كان لها دين فأوصت بأن تكفن من مالها الخاص لا يكون ذلك إسقاطا لشيء من الدين. قال فإن قيل هذا وجب على الزوج بالموت بخلاف الدين فإنه وجب من قبل قلنا والكفن واجب من قبل الموت لأن مأخذه وجوب الكسوة في حال الحياة ولهذا لو ماتت وهي ناشزة سقط إيجاب الكفن فعلمنا أن وجوبه متقدم كالدين ا هـ وكلامه صريح في مخالفة الجلال البلقيني وأن الورثة يرجعون عليه وأن الكفن تمليك لا إمتاع وقد رجح الأذرعي ما رجحه الجلال وقاسه على ما لو كان معسرا وكفنت من مالها أو غيره فإنه لا يبقى دينا عليه جزما والأوجه أنها حيث أوصت بأنها تجهز من مالها كانت وصية لوارث سواء أطلقت أو عينت نوعا منه وأنها حيث كفنت من مالها أو غيره لم يرجع به على الزوج وإن كان المستبد بذلك إنما فعله على ظن صحة الوصية.
"وسئل" فسح الله في مدته بما صورته إذا كان الزوج معسرا وجبت مؤنة التجهيز في مال الزوجة كيف يتصور إعساره مع فرض مال للزوجة فإنه يرث منها حصة يصير بها موسرا؟ "فأجاب" بقوله لا شك أنه لا يرث أي يستقر إرثه إلا بعد انقضاء ما تعلق بعين التركة ومما.

 

ج / 1 ص -405-        يتعلق بعينها مؤن التجهيز فهي مقدمة على إرثه بالمعنى المذكور فهو حال وجوبها موصوف بالإعسار إلى الآن.
"وسئل" رضي الله عنه إذا أوصى الميت أن يصلي عليه رجل فهل يقدم على الأولياء أو لا؟ "فأجاب" بقوله أفتى بعض علماء اليمن بأنه لا يتقدم عليهم لأن الحق لهم فلا تنفذ وصيته لكن الأولى لهم إذا كان أصلح أن يقدموه.
"وسئل" فسح الله في مدته هل إذا جعل مكان للدفن فوق الأرض وأحكم بحيث أنه يمنع الرائحة والسبع ووضع فيه شخص فهل يكفي الدفن أو يلزم أن نفتحه قبل أن يبلى فيحفر له فيه ويدفن فيه أو يعتمد قول البغوي بالاكتفاء بالدفن فيه؟ "فأجاب" بقوله الذي في الروضة واعتمده المتأخرون أنه لا يكفي الدفن فيها فيجب أن يحفر له قبل بلائه حفرة تمنع الرائحة والسبع ويدفن فيها وما اقتضاه كلام البغوي مما يخالف ذلك ضعيف.
"وسئل" رضي الله عنه عن كراهة الكتابة على القبور هل تعم أسماء الله والقرآن واسم الميت وغير ذلك أو تخص شيئا من ذلك بينوه بما فيه؟ "فأجاب" بقوله أطلق الأصحاب كراهة الكتابة على القبر لورود النهي عن ذلك رواه الترمذي وقال حسن صحيح واعترضه أبو عبد الله الحاكم النيسابوري المحدث بأن العمل ليس عليه فإن أئمة المسلمين من الشرق إلى الغرب مكتوب على قبورهم وهو عمل أخذ به الخلف عن السلف رضي الله عنهم وما اعترض به إنما يتجه أن لو فعله أئمة عصر كلهم أو علموه ولم ينكروه وأي إنكار أعظم من تصريح أصحابنا بالكراهة مستدلين بالحديث هذا وبحث السبكي والأذرعي تقييد ذلك بالقدر الزائد عما يحصل به الإعلام بالميت وعبارة السبكي وسيأتي قريبا أن وضع شيء يعرف به القبر مستحب فإذا كانت الكتابة طريقا فيه فينبغي أن لا تكره إذا كتب بقدر الحاجة إلى الإعلام. وعبارة الأذرعي وأما الكتابة فمكروهة سواء كان المكتوب اسم الميت على لوح عند رأسه أو غيره هكذا أطلقوه والقياس الظاهر تحريم كتابة القرآن سواء في ذلك جميع جوانبه لما فيه من تعريضه للأذى بالدوس والنجاسة والتلويث بصديد الموتى عند تكرار النبش في المقبرة المسبلة وأما غيره من النظم والنثر فيحتمل الكراهة والتحريم للنهي وأما كتابة اسم الميت فقد قالوا إن وضع ما يعرف به القبور مستحب فإذا كان ذلك طريقا في ذلك فيظهر استحبابه بقدر الحاجة إلى الإعلام بلا كراهة ولا سيما قبور الأولياء والصالحين فإنها لا تعرف إلا بذلك عند تطاول السنين ثم ذكر ما مر عن الحاكم وقال عقبه فإن أراد كتابة اسم الميت للتعريف فظاهر ويحمل النهي على ما قصد به المباهاة والزينة والصفات الكاذبة, أو كتابة القرآن وغير ذلك ا هـ. وما بحثه السبكي من عدم الكراهة في كتابة اسم الميت للتعريف والأذرعي من استحبابها ظاهر إن تعذر تمييزه إلا بها لو كان عالما أو صالحا وخشي من طول السنين اندراس قبره والجهل به لو لم يكتب اسمه على

 

ج / 1 ص -406-        قبره ويحمل النهي على غير ذلك لأنه يجوز أن يستنبط من النص معنى يخصصه وهو هنا الحاجة إلى التمييز فهو بالقياس على ندب وضع شيء يعرف به القبر بل هو داخل فيه أو إلى بقاء ذكر هذا العالم أو الصالح ليكثر الترحم عليه أو عود بركته على من زاره وما ذكره الأذرعي من تحريم كتابة القرآن قريب وإن كان الدوس والنجاسة غير محققين لأنهما وإن لم يكونا محققين في الحال هما محققان في الاستقبال بمقتضى العادة المطردة من نبش تلك المقبرة واندراس هذا القبر ويلحق بالقرآن في ذلك كل اسم معظم بخلاف غيره من النظم والنثر فإنه مكروه لا حرام وإن تردد فيه وقوله ويحمل النهي إلخ قد علمت أنه تارة يحمل على الكراهة وتارة يحمل على الحرمة وهو ما لو كتب القرآن أو اسما معظما دون غيرهما وإن قصد المباهاة والزينة.
"وسئل" رضي الله عنه عن كتابة العهد على الكفن وهو لا إله إلا الله والله أكبر لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد لا إله إلا الله ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وقيل: إنه اللهم فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة الرحمن الرحيم إني أعهد إليك في هذه الحياة الدنيا أني أشهد أنك أنت الله لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك وأن محمدا عبدك ورسولك صلى الله عليه وسلم فلا تكلني إلى نفسي فإنك إن تكلني إلى نفسي تقربني من الشر وتبعدني من الخير وأنا لا أثق إلا برحمتك فاجعل لي عهدا عندك توفنيه يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد هل يجوز ولذلك أصل؟ "فأجاب" بقوله: نقل بعضهم عن نوادر الأصول للترمذي ما يقتضي أن هذا الدعاء له أصل وأن الفقيه ابن عجيل كان يأمر به ثم أفتى بجواز كتابته قياسا على كتابة الله في نعم الزكاة وأقره بعضهم بأنه قيل يطلب فعله لغرض صحيح مقصود فأبيح وإن علم أنه يصيبه نجاسة وفيه نظر وقد أفتى ابن الصلاح بأنه لا يجوز أن يكتب على الكفن يس والكهف ونحوهما خوفا من صديد الميت وسيلان ما فيه وقياسه على ما في نعم الصدقة ممنوع لأن القصد ثم التمييز لا التبرك وهنا القصد التبرك فالأسماء المعظمة باقية على حالها فلا يجوز تعريضها للنجاسة والقول بأنه قيل يطلب فعله إلخ مردود لأن مثل ذلك لا يحتج به وإنما كانت تظهر الحجة لو صح عن النبي صلى الله عليه وسلم طلب ذلك وليس كذلك.
"وسئل" فسح الله في مدته عن أقل الكفن الشرعي المجزئ ما هو وما هو الأفضل وما الزائد على الأفضل وهل يحرم الإسراف فيه وكيف يكون وهل الفقير والغني فيه سواء. وهل يجوز دفن اثنين في قبر واحد لغير ضرورة وإذا قلتم لا فهل هذه الفساقي التي تعمل ويدفن فيها الأقارب قبل البلى جائزة ويجزئ الدفن فيها أم لا وما هي الضرورة المجوزة لجمع اثنين في قبر وهل إذا حفر قبر ووجد فيه عظم هل يجوز فيه الدفن أم لا؟ "فأجاب" بقوله أقل الكفن ثوب يستر جميع البدن فإن اقتصر على ساتر

 

ج / 1 ص -407-        العورة وهي ما بين سرة الرجل وركبته وغير وجه المرأة وكفيها ولو أمة لزوال الرق بالموت أجزأ من حيث سقوط الحرج عن الأمة وإن أثم الورثة بنقص الميت عن حقه إذ حقه ستر كل بدنه حيث خلف مالا ولم يوص بترك الزائد على العورة هذا هو المعتمد من اضطراب طويل لا يليق ذكره بهذا المحل ويجزئ الكفن من أي نوع كان لكن يحرم الحرير ونحوه من مزعفر وكذا معصفر على الخلاف فيه حيث كان هناك غيره على الذكر البالغ العاقل خلافا للأذرعي ومثله الخنثى نعم المتجه كما قاله الإسنوي وغيره وصرح به الجرجاني أنه لا يجوز الطين مع وجود غيره ولو حشيشا وإن جاز ذلك للحي في الصلاة لما فيه من الازدراء بالميت ولا يجزئ أيضا متنجس بما لا يعفى عنه مع وجود طاهر غير حرير أما الحرير فيقدم على المتنجس والأفضل للرجل ثلاثة أثواب وكونها لفائف ومتساوية وللمرأة والخنثى خمسة إزار ثم قميص ثم خمار ثم تلف في لفافتين ولا تجوز الزيادة على ثوب يستر كل البدن إن كفن من بيت المال أو مما وقف على الأكفان كما أفتى به ابن الصلاح. ويحتمل أن يلحق به ما وقف على تجهيز الموتى ويحتمل خلافه لأن التجهيز يشمل الواجب والمندوب والأقرب الأول وأن التجهيز لا ينصرف إلا إلى ما يجب من الكفن والدفن ونحوهما أو كان عليه دين مستغرق ولم يرض الغريم بالزائد على الثوب ولا يعتبر رضاه بما يستر كل البدن وإن كان له المنع من المستحب لتأكد أمر هذا أي بالاختلاف في وجوبه وعلى تسليم هذه العلة فيؤخذ منها تخصيص عموم قولهم له المنع من المستحب بغير ما اختلف في وجوبه وليس للوارث المنع من الثلاثة. ولو اتفق الورثة على ثوب أو قال بعضهم يكفن بثلاثة وبعضهم بثوب ولم يوص الميت به فيهما كفن بثلاثة والزيادة على الثلاثة في الرجال خلاف الأولى وعلى الخمسة فيه في المرأة مكروهة لأنه سرف كذا قاله الأصحاب وهو المذهب وإن قال في المجموع ولو قيل بتحريمها لم يبعد وبه قال ابن يونس وقال الأذرعي إنه الأصح المختار وحيث قلنا بجواز الزيادة على الثلاثة أو الخمسة فينبغي أن يقيد بما يأتي عن الأذرعي في المغالاة فيه وبما تقرر يعلم أن المذهب أن الإسراف في الكفن مكروه لا حرام ولذلك قالوا تكره المغالاة فيه وتكفين المرأة أي ونحوها بالحرير خلافا للأذرعي لأن ذلك سرف لا يليق بالحال قال الأذرعي والظاهر أنه لو كان الوارث محجورا عليه أو غائبا أو كان الميت مفلسا حرمت المغالاة فيه من التركة ا هـ ويجرى ما قاله من الحرمة في الصور الثلاث في تكفين المرأة ونحوها بالحرير وقد علم مما ذكرته جواب قول السائل وكيف يكون الكفن فإن أراد السؤال عن صفته فالسنة أن يكون أبيض ومغسولا قال البغوي وثوب القطن أولى من غيره قال في الروضة ويعتبر في الكفن المباح حال الميت فيكفن الموسر من جياد الثياب والمتوسط من أوسطها والمعسر من خشنها ا هـ. واعتبار ما ذكر من الأحوال الثلاثة سنة فالغني والفقير ليسا سواء في.

 

ج / 1 ص -408-        الكفن الأكمل وأما في أقل ما يجزئ فهما فيه سواء ولا عبرة بإسرافه وتقتيره قبل موته نعم إن كان عليه دين مستغرق اعتبر تقتيره على الأوجه أخذا مما قالوه في المفلس والفرق بينهما لا يجدي كما لا يعرف بتأمله. وأما دفن اثنين في قبر واحد فإن اتحد نوعهما كرجلين أو امرأتين واحتيج إليه بأن كثر الموتى وعسر الإفراد فعل وإن لم يحتج إليه ندب تركه كما في الروضة وأصلها وقال الماوردي يكره والسرخسي يحرم قال السبكي والأصح الكراهة أو نفي الاستحباب وأما الحرمة فلا دليل عليها وأما جمع امرأة ورجل في لحد واحد فلا يجوز إلا إن اشتدت الحاجة اشتدادا حثيثا كأن لم يوجد أو لم يتمكن إلا من ذلك أو كان بينهما محرمية أو زوجية أو أحدهما صغيرا لم يبلغ حد الشهوة والخنثى مع الأنثى أو غيره كالأنثى مع الذكر وحيث جمع متحدي النوع أو مختلفيه جعل بينهما حاجز تراب أو نحوه وهو مندوب على الأوجه وفاقا للأذرعي ويحتمل وجوبه إن تعدى بجمع متحدي النوع لغير ضرورة. وأما الدفن في الفساقي فالكلام عليه يستدعي الكلام على أقل القبر وهو حفرة تمنع الرائحة والسبع قال الرافعي والغرض من ذكرهما إن كانا متلازمين بيان فائدة الدفن وإلا فبيان وجوب رعايتهما ولا يكفي أحدهما ا هـ قال غيره وظاهر أنهما غير متلازمين وهو كذلك وعليه فالفساقي التي لا تكتم الرائحة وتمنع السبع لا يكفي الدفن فيها ومن ثم قال السبكي في الاكتفاء بالفساقي نظر لأنها ليست معدة لكتم الرائحة لأنها ليست على هيئة الدفن المعهود شرعا قال وقد أطلقوا تحريم إدخال ميت على ميت لما فيه من هتك حرمة الأول وظهور رائحته فيجب إنكار ذلك ا هـ. وبتأمل آخر كلامه تعلم أنه حيث حفر قبر إما تعديا وإما مع ظن أنه بلي ولم يبق فيه عظم فوجد فيه عظم رد التراب عليه وجوبا ولا يجوز الدفن فيه قبل البلى وفي الروضة وغيرها يحرم نبش قبر الميت ودفن غيره فيه قبل بلائه عند أهل الخبرة بتلك الأرض فإن حفر فوجد فيها شيء من عظم الميت قبل تمام الحفر وجب رد ترابه عليه وإن وجدها بعد تمام الحفر جعلها في جانب من القبر وجاز لمشقة استئناف قبر دفن الآخر معه.
"وسئل" نفع الله به قالوا يسقط فرض صلاة الجنازة بصبي مميز ولو مع وجود رجل فهل هو موافق لقضية قول الشيخين إنما تصح ممن كان من أهل فرضها وقت الموت أو لما صوبه الإسنوي من أن الشرط أن يكون من أهل صحة الصلاة حينئذ؟ "فأجاب" بقوله المعتمد ما ذكره الإسنوي ولا ينافيه كلام الشيخين وغيرهما لأن مرادهم بأهلية الفرض أهلية صحة فعله فيوافق كلام الإسنوي وقوله إن قضية كلامهم أنها لو كانت حائضا عند الموت وطهرت بعد الغسل ونحو ذلك لا تصح صلاتها ممنوع لأن كلامهم هنا خرج مخرج الغالب كما يدل له تصريحهم بما ذكره السائل من سقوط فرضها بفعل المميز مع وجود الرجال

 

ج / 1 ص -409-        "وسئل" نفع الله به قالوا الأولى بغسل الرجل من الرجال أولاهم بالصلاة عليه فيقدم المعتق وعصبته على ذوي الأرحام وقدموا في المرأة ذوات الأرحام كبنت العم وبنت العمة وبنت الخال وبنت الخالة على ذوات الولاء فما الفرق؟ "فأجاب" بقوله قد يفرق بأن الملحظ في التقديم مع الذكورة الأحق بالتقديم في الصلاة والمعتق أحق من ذوي الأرحام والملحظ في التقديم مع الأنوثة القرب وذوات الأرحام أقرب من ذوات الولاء وإنما كان المعتق أحق بالصلاة من القريب من ذوي الأرحام لأن له عصوبة اقتضت قوة إرثه والمدار في التقديم في الصلاة على قوة الإرث وبما تقرر يعلم أنه ينبغي أن يكون السلطان مقدما هنا في الغسل على ذوي الأرحام ومتأخرا عن المعتق أخذا مما قالوه في نظيره في الصلاة ويحتمل الفرق بأن في الصلاة من الشرف ما لا ينبو عن رتبة السلطان بخلاف الغسل إلا أن يجاب بأن هذا حق ثبت له فله مباشرته بنفسه وتفويضه إلى غيره.
"وسئل" فسح الله في مدته بما لفظه استثنى بعضهم الغريب العاصي بغربته كالآبق والناشزة والغريق العاصي بركوبه البحر كمن ركبه لشرب الخمر أو ليسرق ورده الزركشي فقال والظاهر أن هذا لا يمنع الشهادة ثم قال وأما الميت عشقا فشرطه العفة والكتمان وينبغي أن يراد به من يتصور إباحة نكاحه لها شرعا ويتعذر الوصول إليها كزوجة الملك وإلا فعشقه الأمرد معصية فكيف تحصل بها درجة الشهادة قال ويستثنى منه الميتة بالطلق الحامل بزناها فكيف الجمع بين أطراف كلامه المشتمل على تناقض في الظاهر؟ "فأجاب" بقوله يجاب بأن الجهة في الغربة والغرق منفكة إذ المحصل للمعصية ليس هو المحصل للزهوق بل المحصل له سبب آخر غير الغربة وغير ركوب البحر كعروض ريح ونحوه مما ليس ناشئا عن ذينك في العادة وبه فارق ما يأتي في الحمل من الزنا وأما في مسألة العشق والطلق فالمحصل للزهوق هو ما به المعصية لا غير إذ ليس هناك سبب غير العشق والحمل مع الطلق اللازم له الذي لا يتصور انفكاكه عنه حتى يحال عليه الهلاك فلم يمكن أن يكون ما به المعصية محصلا للشهادة مع اتحاد الجهة نعم لو رأى أمرد رؤية مباحة كأول نظرة فنشأ منها عشقه فعف فكتم فمات لم يبعد أن يقال هنا إنه شهيد إذ لا معصية.
"وسئل" فسح الله في مدته بما صورته فرض الكفاية وسنتها مهم يقصد حصوله من غير نظر بالذات إلى فاعله وإذا فعله واحد سقط الحرج عن الباقين ويلزم عليه أن لا يصح فعل واحد منهما بعد صدوره من آخر لسقوط الخطاب به مع تصريحهم في صلاة الجنازة بخلافه فما الذي يظهر في الجواب عن ذلك؟ "فأجاب" بقوله الذي يظهر أن في كل من فرض الكفاية وسنتها خطابين أحدهما يقصد به حصول الفعل لدفع الإثم في الأول أو خلاف الأولى أو الكراهة في الثاني وهذا هو الذي يسقط بالواحد والثاني يقصد به تحصيل الفعل لأجل. مصلحة حصول الثواب وهذا هو الذي لا يسقط بالواحد بل لا بد من الإتيان به من

 

ج / 1 ص -410-        كل فرد فرد بعينه فإن قلت يلزم على ذلك أن تكون سنة الكفاية متضمنة لسنة العين قلت لك أن تلتزمه لكن سنة العين التي تضمنتها سنة الكفاية ليست كسنة العين المطلوبة بخصوصها لأن هذه ليس في تركها كراهة ولا خلاف أولى بخلاف تلك, ولك أن تمنعه بأن هذا المتضمن لا يسمى سنة عين أصلا لأن سنة العين هي التي طلبت مع النظر لفاعلها بالذات وهذه ليست كذلك ولا يلزم من ترتب الثواب على حصولها كونها تسمى سنة عين كما لا يخفى.
"وسئل" فسح الله في مدته قالوا لا بد في التكبيرة الثالثة من الدعاء للميت بخصوصه كاغفر له أو ارحمه فهل يشمل ذلك الطفل وهل اللهم اجعله فرطا لأبويه كاف عن ذلك؟ "فأجاب" بقوله لا فرق بين الطفل وغيره كما اقتضاه إطلاقهم وهو صريح واضح وكونه مغفورا له لا يمنع الدعاء له بذلك لأن ذلك يحصل له به زيادة في رفع درجته والدعاء بجعله فرطا لأبويه إلخ القصد به والداه بالذات وإن كان يلزم منه كونه مغفورا له إذ الفرط السابق المهيئ لمصالحهما واللوازم لا يكتفى بها في مثل هذا المقام المطلوب فيه التنصيص على ما ينفع الميت هذا ما يظهر ويحتمل أنه يكفي اكتفاء باللازم المذكور.
"وسئل" نفع الله به بما لفظه وقع الوباء في بلاد فهل يكره لأحد من أهل تلك البلاد الدخول في بلد أخرى ولا يحرم الخروج حينئذ أو لا؟ "فأجاب" بقوله إذا عم الوباء قطرا من الأقطار فظاهر أنه لا يحرم حينئذ الخروج من بلد إلى بلد أخرى منه ولا دخولها لفوات المعنى المعلل به حرمة الخروج وكراهة الدخول حينئذ وقد نقل ما يوافق ذلك عن ابن بنت الأعز من المتأخرين فإن قلت الغرباء أسرع تأثرا أيام الوباء من أهل البلد فينبغي كراهة الدخول وإن عم قلت هو كذلك إن تباعدت البلدان تباعدا فاحشا بحيث يقضي أهل الخبرة باختلاف هوائهما لأن الداخل حينئذ للبلد البعيدة يكون بدنه أسرع انفعالا وتأثرا بهواء تلك البلد وإن كان الوباء في بلدة أيضا. فإن قلت لعل هذا مبني على ما عليه الأطباء من أن الطاعون إنما ينشأ عن فساد الهواء والذي ثبت في الحديث الصحيح أنه من الجن قلت ليس مبنيا على ذلك إذ لا مانع من أن الجن يكون لهم مزيد تسلط على الغرباء أكثر وعلى هذا فلا فرق بين البلد البعيدة والقريبة وعلى تسليم كونه مبنيا عليه فلا مانع من اجتماع السببين من فساد الهواء وطعن الجن ألا ترى إلى قول فقهائنا إن الوصية أيام الوباء ولو من الصحيح تكون من الثلث وليس ذلك إلا لأن الهواء قد فسد فالأبدان كلها مشرفة على التغير والفساد وإن لم تحس بذلك وكلامهم هذا صريح في أن فساد الهواء له دخل وإن كان طعن الجن له دخل أيضا ولا مانع من أن الله تعالى يجعل لتسلط الجن على الطعن أمارة وهي فساد الهواء.
"وسئل" رضي الله عنه بما صورته ما تقولون في مسألة وقع فيها جوابان مختلفان

 

ج / 1 ص -411-        صورتها صحراء واسعة يسيل ماؤها إذا أتى المطر في بستان جماعة وفي الصحراء المذكورة مقبرة جرت العادة أن من أراد الدفن فيها فلا مانع له وليست موقوفة فدفن فيها رجل من أهل العلم والصلاح فهل يجوز البناء عليه مدرسة أو قبة أو تربة ونحو ذلك لينتفع الحي والميت بالقراءة فيها وليتميز بها عن غيره ويكثر زواره والتبرك به أو لا؟ أجاب الأول فقال يكره البناء في المقبرة المسبلة بل لا يجوز لما فيه من التضييق على الناس وقد قال الإمام شهاب الدين الأذرعي الوجه في البناء على القبور ما اقتضاه إطلاق ابن كج من التحريم من غير فرق بين ملكه وغيره للنهي العام ولما فيه من الابتداع بالقبيح وإضاعة المال والسرف والمباهاة ومضاهاة الجبابرة والكفار والتحريم يثبت بدون ذلك ا هـ جواب الأول؟ وأجاب الثاني فقال يجوز البناء في الصحراء المذكورة لأمور أحدها أن هذه الصحراء حكمها حكم الموات وقد قال الإمام ابن العماد إن كانت أي المقبرة مواتا لم يحرم البناء فيها وإن كانت مملوكة جاز البناء فيها بإذن المالك الأمر. الثاني أن الإمام بدر الدين الزركشي نقل في الخادم عن الشيخ الإمام شرف الدين الأنصاري كلاما طويلا في الكلام على القرافة ذكر في أثنائه أن السلف رضي الله عنهم شاهدوا هذه القرافة الكبرى والصغرى من الزمان المتقدم وبني فيها الترب والدور ولم ينكره أحد من علماء الأعصار لا بقول ولا فعل قال وقد بنوا فيه قبة الإمام الشافعي رضي الله عنه ومدرسته وهكذا سائر المزارات إلى آخر كلام الشرف الأنصاري قال بعض المتأخرين واقتضى كلامه عدم تحريم البناء في المسبلة قال وإذا لم يحرم في مسبلة لم يحرم في موات ومملوك بإذن مالكه من باب أولى قال وهو مخالف لما تقدم عن الأذرعي. الثالث أن الحاكم قال في مستدركه إثر تصحيح أحاديث النهي عن البناء والكتب على القبور ليس العمل عليها فإن أئمة المسلمين شرقا وغربا البناء على قبورهم وهو أمر أخذه الخلف عن السلف قال البرزلي فيكون إجماعا الأمر الرابع أن ما قاله الإمام الأذرعي فيه نظر فقد ذكر هو في الوصايا عن الشيخين من غير اعتراض عليهما جواز الوصية لعمارة قبور الأولياء والصالحين لما فيها من إحياء الزيارة والتبرك بها وقال أعني الإمام الأذرعي في الوقف بعد نقله هذا الكلام قلت وقضيته جواز الوقف على عمارة هذا النوع ويختص المنع بغيره وعلى جواز الوقف على قبور أهل الخير العمل ا هـ المقصود من كلام الإمام الأذرعي. وقد ذكر هو أيضا في الوصايا أن الوصية والوقف إنما يجوزان فيما يكون قربة عند الموصي أو الواقف الأمر الخامس أن بعض علماء أئمتنا المتأخرين ذكر كلاما حسنا يؤيد جواز البناء فقال قلت ذكروا صحة الوصية لبناء المسجد الأقصى وقبور الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وألحق الشيخ أبو محمد بها قبور العلماء والصالحين لما فيها من الإحياء بالزيارة. وقد ذكر الغزالي رضي الله عنه في الوسيط والإحياء كلاما يدل على جواز البناء على قبور علماء الدين ومشايخ الإسلام وسائر الصلحاء ولا يبعد جواز ذلك حملا على الإكرام قال وفي شرح

 

ج / 1 ص -412-        التنبيه للإمام ابن الرفعة ما يدل على جواز البناء كما في الوسيط والإحياء بل على استحبابه ولا شك في ذلك لوجوده في جميع أمصار الإسلام قديما وحديثا قال ولم ينقل عن أحد من العلماء والصلحاء ولاة أمور الدين إنكار فيه بقول ولا فعل مع عدم الشك في تمكنهم منه والله تعالى أعلم ا هـ السؤال فما المرجح المعتمد من الجوابين وما قولكم رضي الله عنكم إذا كانت الصحراء التي فيها المقبرة المذكورة غير موقوفة وكانت صفتها على ما ذكرنا أولا فهل يا شيخ الإسلام حكم هذه الصحراء حكم المسبلة لكون من أراد الدفن فيها فلا مانع له أم حكمها حكم الأرض المملوكة لكون مائها إذا أتى المطر يسيل في بستان جماعة أم حكمها حكم الأرض الموات كما قال بعض المفتين من علماء العصر. فإن قلتم حكمها حكم المسبلة فإذا كانت الصحراء واسعة فهل يجوز البناء فيها إذا لم يحصل التضييق لسعة البقعة سيما أنهم عللوا كراهة البناء لما فيه من التضييق بل هذا التعليل في جواب الأول وإن قلتم حكمها حكم الأرض المملوكة جاز البناء فيها بإذن المالك كما تقدم عن الإمام ابن العماد. وإن قلتم حكمها حكم الموات كما قال بعض المفتين من علماء العصر فمن أحياها أو قطعة منها ملكها وصارت ملكا له من أملاكه يتصرف فيها كيف يشاء كما قال هذا المفتي بل كلام من جوز البناء محمول على ما إذا كان البناء في موات أو ملك أوضحوا لنا القول في ذلك بجواب شاف يحصل به المقصود وما قولكم رضي الله عنكم في قول من قال يكره البناء على القبر والكتابة وأن يعلم بعلامة زائدة وقيل لا يكره البناء إذا كان الميت من المشايخ والعلماء والسادات نقل من جامع الفتاوى هل الكراهة للتنزيه. وقوله وقيل لا يكره البناء إلخ هل رأيتم ما يعضده غير ما ذكرنا في السؤال الأول وما قولكم فسح الله في مدتكم وأعاد علينا من بركتكم في قول الشيخين في الجنائز يكره البناء على القبر وقالا في الوصية تجوز الوصية لعمارة قبور العلماء والصالحين لما في ذلك من الإحياء بالزيارة والتبرك بها هل هذا تناقض مع علمكم أن الوصية لا تنفذ بالمكروه فإن قلتم هو تناقض فما الراجح وإن قلتم لا فما الجمع بين الكلامين؟ "فأجاب" بقوله المنقول المعتمد كما جزم به النووي في شرح المهذب حرمة البناء في المقبرة المسبلة فإن بني فيها هدم ولا فرق في ذلك بين قبور الصالحين والعلماء وغيرهم وما في الخادم مما يخالف ذلك ضعيف لا يلتفت إليه وكم أنكر العلماء على باني قبة الإمام الشافعي رضي الله عنه وغيرها وكفى بتصريحهم في كتبهم إنكارا والمراد بالمسبلة كما قاله الإسنوي وغيره التي اعتاد أهل البلد الدفن فيها أما الموقوفة والمملوكة بغير إذن مالكها فيحرم البناء فيهما مطلقا قطعا إذا تقرر ذلك فالمقبرة التي ذكرها السائل يحرم البناء فيها ويهدم ما بني فيها وإن كان على صالح أو عالم فاعتمد ذلك ولا تغتر بما يخالفه. وأما المسألة الثانية فقد علم جوابها مما تقرر وهو أنه حيث اعتيد الدفن في محل من الصحراء حرم البناء فيها وهدم وإن لم يحصل به تضييق في الحال لأنه يحصل به ذلك في الاستقبال ولأن من شأن البناء أن يضيق

 

ج / 1 ص -413-        وكون مائها إذا أتى المطر يسيل إلى بستان جماعة لا يخرجها عن كونها مسبلة ويلحقه بالموات خلافا لما نقل عن بعض المفتين نعم إن اتخذ أصحاب البستان في ذلك المحل الذي اعتيد الدفن فيه مجاري للماء حتى يصل إلى بستانهم وكان ذلك الاتخاذ قبل أن يصير ذلك المحل مسبلا ملكوا تلك المجاري وحريمها ولم يجز الدفن فيها وأما المسألة الثالثة فالحاصل من اضطراب وقع للشيخين فيها أن قولهما في الجنائز يكره البناء على القبر مرادهما بناء في ملك الشخص أو غيره بإذنه فإن أراد المسبلة أو الموقوفة كان مرادهما كراهة التحريم وما ذكراه في الوصايا محمول على غير البناء في المسبلة لما تقرر لك أولا وكراهة الكتابة وما بعدها للتنزيه لا للتحريم.
"وسئل" نفع الله به ما حكم الأذان والإقامة عند سد فتح اللحد؟ "فأجاب" بقوله هو بدعة إذ لم يصح فيه شيء وما نقل عن بعضهم فيه غير معول عليه ثم رأيت الأصبحي أفتى بما ذكرته فإنه سئل هل ورد فيهما خبر عند ذلك فأجاب بقوله لا أعلم في ذلك خبرا ولا أثرا إلا شيئا يحكى عن بعض المتأخرين أنه قال لعله مقيس على استحباب الأذان والإقامة في أذن المولود وكأنه يقول الولادة أول الخروج إلى الدنيا وهذا آخر الخروج منها وفيه ضعف فإن مثل هذا لا يثبت إلا بتوقيف أعني تخصيص الأذان والإقامة وإلا فذكر الله تعالى محبوب على كل حال إلا في وقت قضاء الحاجة ا هـ كلامه رحمه الله وبه يعلم أنه موافق لما ذكرته من أن ذلك بدعة وما أشار إليه من ضعف القياس المذكور ظاهر جلي يعلم دفعه بأدنى توجه والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
"وسئل" رضي الله عنه ما حكم بناء القبور قدر مدماكين فقط وهل يجوز أخذ حجارة القبور لسد فتح لحد أو لبناء قبر؟ "فأجاب" بقوله لا يجوز على المعتمد بناء القبر في المقبرة المسبلة سواء أظهر ببنيانه تضييق في الحال أم لا وهي التي اعتاد أهل البلد الدفن فيها وإن لم يعرف لها مسبل وألحق بها الأذرعي الموات لأن فيه تضييقا على المسلمين بما لا مصلحة ولا غرض شرعي فيه بخلاف الإحياء وهو أوجه من قول غيره يجوز ويهدم بلا خلاف كما في المجموع وإن قلنا الكراهة للتنزيه ويظهر أن الذي يهدمه هو الحاكم لا الآحاد أخذا من كلامهم في باب الصلح لما يخشى فيه من الفتنة وسواء فيما ذكر البناء في حريم القبر وخارجه خلافا لبعضهم ومن المسبلة الموقوفة بل أولى. قال الزركشي والبناء في المقابر أمر قد عمت به البلوى وطم ولقد تضاعف البناء حتى انتقل للمباهاة والشهرة وسلطت المراحيض على أموات المسلمين والأشراف والأولياء وغيرهم فلا حول ولا قوة إلا بالله ا هـ وليس هذا خاصا بترب مصر بل انتقل نظير ذلك وأفحش منه إلى تربتي المعلاة والبقيع حتى صار يقع فيهما من المفاسد ما لا يقع في غيرهما وسببه ولاة السوء وقضاة الجور ثم ظاهر إطلاقهم أنه لا فرق بين البناء القليل والكثير لأن علة الحرمة أنه يتأبد

 

ج / 1 ص -414-        بالجص وإحكام البناء فيمنع عن الدفن هناك بعد البلى والانمحاق وهذا يجري في البناء القليل فهو حرام كالكثير والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
"وسئل" أدام الله النفع به ما حكم المراثي وهل أحد قال فيها من العلماء المشهورين؟ "فأجاب" بقوله: عبارة شرحي للعباب ويحرم الندب مع البكاء كما حكاه في الأذكار وجزم به في المجموع وصوبه الإسنوي قال وإلا لدخل المؤرخ والمادح لكنه في الروضة تبع الرافعي في حذف التقييد بالبكاء واعتمده الزركشي وغيره كما يعلم من كلامه الآتي وهو تعديد محاسن الميت كواكهفاه واجبلاه وا سنداه وا كريماه وذلك لما يأتي بل في المجموع عن جمع الإجماع عليه قال فيه وجاء في الإناحة ما يشبه الندب وليس منه وهو خبر البخاري عن أنس رضي الله عنه قال لما ثقل النبي صلى الله عليه وسلم جعل يتغشاه الكرب فقالت فاطمة وا أبتاه فقال
"ليس على أبيك كرب بعد اليوم" فلما مات قالت وا أبتاه جنة الفردوس مأواه يا أبتاه إلى جبريل ننعاه ثم قلت في الشرح المذكور ويكره ترثية الميت كما ذكره المتولي والروياني في البحر للنهي عن المراثي وفسروها بأنها عد محاسنه أي بغير صيغة الندب السابقة لئلا يلزم اتحادها معها وقد أطلقها الجوهري على عد محاسنه مع البكاء وعلى نظم الشعر فيه فيكره كل منهما لعموم النهي عن ذلك. قال جمع متأخرون منهم الأذرعي في توسطه وأطال في ذلك ولعله أي ما ذكر من كراهة الترثية إذا بعثت على النوح وتجديد الحزن أو ظهر منها تبرم أو فعلت مع الاجتماع لها أو أكثر منها لكن خالف الأذرعي في بعض ذلك إن بعثت على ذلك أي النوح ونحوه مما ذكر كما يصنعه الشعراء في عظماء الدنيا وينشد في المحافل عقب الموت فهي نياحة محرمة بلا شك ا هـ. ويؤيده قول ابن عبد السلام بعض المراثي حرام كالنوح لما فيه من التبرم بالقضاء إلا إذا ذكر مناقب عالم ورع أو صالح للحث على سلوك طريقته وحسن الظن به بل هي حينئذ بالطاعة والموعظة أشبه لما ينشأ عنها من البر والخير ومن ثم مازال كثير من الصحابة وغيرهم من العلماء يفعلونها على ممر الأعصار من غير إنكار وقد قالت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه:

ماذا على من شم تربة أحمدا                      أن لا يشم مدى الزمان غواليا

صبت علي مصائب لو أنها                            صبت على الأيام عدن لياليا

وقد رثاه صلى الله عليه وسلم كثيرون من أصحابه كأبي بكر وعثمان وعلي وحسان وصفية عمته وغيرهم رضي الله عنهم والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
"وسئل" أدام الله النفع بعلومه أن يتفضل بذكر شيء في موت الأولاد من الأحاديث والآثار لأنه عم في هذا العام موت الصغار بالطاعون فلعل آباءهم يتصبرون بسبب ذلك؟.

 

ج / 1 ص -415-        "فأجاب" بقوله أما مطلق الصبر فله فضائل كثيرة وفيها أحاديث شهيرة منها قوله صلى الله عليه وسلم: "الصبر نصف الإيمان واليقين الإيمان كله" وقوله صلى الله عليه وسلم: "الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد" وقوله صلى الله عليه وسلم: "ما رزق عبد خيرا له ولا أوسع من الصبر" وقوله صلى الله عليه وسلم: "أفضل الإيمان الصبر والسماحة" وقوله صلى الله عليه وسلم: "نعم سلاح المؤمن الصبر والدعاء" وقوله صلى الله عليه وسلم: "النصر مع الصبر والفرج مع الكرب وإن مع العسر يسرا" وقوله صلى الله عليه وسلم: "انتظار الفرج بالصبر عبادة ومن رضي بالقليل رضي الله تعالى عنه بالقليل من العمل" وقوله صلى الله عليه وسلم: "إن الصبر عند الصدمة الأولى" وقوله صلى الله عليه وسلم: "الصابر الصابر عند الصدمة الأولى" وقوله صلى الله عليه وسلم: "الصبر ثلاثة صبر على المصيبة وصبر على الطاعة وصبر عن المعصية فمن صبر على المصيبة حتى يردها بحسن عزائمها كتب الله له ثلاثمائة درجة ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض ومن صبر على الطاعة كتب له ستمائة درجة ما بين الدرجتين كما بين تخوم الأرض إلى منتهى الأرضين ومن صبر عن المعصية كتب الله له تسعمائة درجة ما بين الدرجتين كما بين تخوم الأرض إلى منتهى العرش مرتين". وأما الصبر على موت الأولاد ففيه فضائل أكثر من أن تحصى وفيه أحاديث أعظم من أن تستقصى منها قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا مات ولد العبد قال الله تعالى لملائكته قبضتم ولد عبدي فيقولون نعم فيقول أقبضتم ثمرة فؤاده فيقولون نعم فيقول ماذا قال عبدي فيقولون حمدك واسترجع فيقول الله تعالى ابنوا لعبدي بيتا في الجنة وسموه بيت الحمد" ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: "ما من مسلمين يموت لهما ثلاثة من الولد لم يبلغوا حنثا إلا أدخلهما الله الجنة بفضل رحمته إياهم" وقوله صلى الله عليه وسلم: "من دفن ثلاثة من الولد حرم الله عليه النار" وقوله صلى الله عليه وسلم: "ما من مسلم يموت له ثلاثة من الولد لم يبلغوا الحنث إلا تلقوه من أبواب الجنة الثمانية من أيها شاء دخل". وقوله صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى "إذا وجهت إلى عبد من عبيدي مصيبة في بدنه أو في ولده أو في ماله فاستقبلها بصبر جميل استحييت يوم القيامة أن أنصب له ميزانا أو أنشر له ديوانا" وقوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله تعالى لا يرضى لعبده المؤمن إذا ذهب بصفيه من أهل الأرض فصبر واحتسب بثواب له دون الجنة" وقوله صلى الله عليه وسلم يقول الله "ما لعبدي المؤمن عندي جزاء إذا قبضت صفيه من أهل الدنيا ثم احتسبه إلا الجنة" وقوله صلى الله عليه وسلم: "ما من الناس من مسلم يتوفى له ثلاث لم يبلغوا الحنث إلا أدخله الله الجنة بفضل رحمته إياهم" وقوله صلى الله عليه وسلم: "ما من مسلمين يموت بينهما ثلاثة أولاد لم يبلغوا الحنث إلا أدخلهما الله بفضل رحمته إياهم الجنة فيقال لهم ادخلوا الجنة فيقولون حتى يدخل آباؤنا فيقال لهم ادخلوا الجنة أنتم وآباؤكم" وقوله صلى الله عليه وسلم: "ما منكن امرأة تقدم بين يديها ثلاثة من ولدها إلا كانوا لها حجابا من النار قالت امرأة واثنين قال واثنين". وقوله صلى الله عليه وسلم: "من احتسب ثلاثة من صلبه دخل الجنة قالت امرأة واثنان قال واثنان" وقوله صلى الله عليه وسلم: "من قدم له ثلاثة لم يبلغوا الحنث كانوا له حصنا حصينا من النار واثنين وواحد ولكن ذلك في أول صدمة" وقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يموت لمسلم ثلاثة من الولد فيلج النار إلا تحلة

 

ج / 1 ص -416-        القسم" وقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يموت لإحداكن ثلاثة من الولد فتحتسبهم إلا دخلت الجنة واثنان" وقوله صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده إن السقط ليجر أمه بسرره إلى الجنة إذا احتسبته" وقوله صلى الله عليه وسلم: "لسقط أقدمه بين يدي أحب إلي من فارس أخلفه خلفي" وقوله صلى الله عليه وسلم: "إن أبغض العباد إلى الله العفريت النفريت الذي لم يرزأ أي يصب في مال ولا ولد" وقوله صلى الله عليه وسلم: "بخ بخ ما أثقلهن في الميزان لا إله إلا الله والحمد لله والله أكبر والولد الصالح يتوفى للمرء المسلم فيحتسبه". وقوله صلى الله عليه وسلم: "إن الرجل من أمتي ليدخل الجنة فيشفع لأكثر من مضر وإن الرجل من أمتي ليعظم للنار حتى يكون أحد زواياها وما من مسلمين يقدمان أربعة من ولديهما إلا أدخلهما الله الجنة بفضل رحمته" قالوا أو ثلاثة قال "أو ثلاثة" قالوا أو اثنين قال "أو اثنين" وقوله صلى الله عليه وسلم: "تعسر نزع الصبي تمحيص للوالدين" وقوله صلى الله عليه وسلم لامرأة قالت يا رسول الله قدمت ثلاثة من الولد فقال لها صلى الله عليه وسلم: "لقد احتظرت بحظار شديد من النار" وقوله صلى الله عليه وسلم: "ما من امرأين مسلمين هلك بينهما ولدان أو ثلاثة فاحتسبا وصبرا فيريان النار أبدا" وقوله صلى الله عليه وسلم: "ما من مسلمين يموت لهما ثلاثة من أولادهما لم يبلغوا الحنث إلا كانوا لهما حصنا حصينا من النار" قالوا يا رسول الله وإن كانا اثنين قال "وإن كانا اثنين قالوا وإن كان واحدا قال وإن كان واحدا ولكن إنما ذاك عند الصدمة الأولى" وقوله صلى الله عليه وسلم: "من أصيب له ولدان أو ثلاثة لم يبلغوا الحنث فاحتسبهم كانوا له سترا من النار". وقوله صلى الله عليه وسلم: "من دفن ثلاثة من الولد فصبر عليهم واحتسبهم وجبت له الجنة ومن دفن اثنين فصبر عليهما واحتسبهما وجبت له الجنة ومن دفن واحدا فصبر واحتسب كانت له الجنة" وقوله صلى الله عليه وسلم: "من قدم ثلاثة لم يبلغوا الحنث كانوا له حصنا حصينا من النار قال أبو ذر قدمت اثنين يا رسول الله قال واثنين" قال أبي بن كعب قدمت واحدا يا رسول الله قال: "وواحدا ولكن ذاك في أول صدمة" وقوله صلى الله عليه وسلم: "من قدم شيئا من ولده صابرا محتسبا حجبوه بإذن الله من النار" وقوله صلى الله عليه وسلم: "من كان له فرطان من أمتي أدخله الله الجنة" قالت عائشة فمن كان له فرط قال: "ومن كان له فرط يا موفقة" قالت ومن لم يكن له فرط قال: "فأنا فرط أمتي لم يصابوا بمثلي". وقوله صلى الله عليه وسلم: "من مات له ثلاثة من الولد لم يبلغوا الحنث لم يرد النار إلا عابر سبيل يعني الجواز على الصراط" وقوله صلى الله عليه وسلم: "يا عثمان أما ترضى بأن للجنة ثمانية أبواب وللنار سبعة أبواب لا تنتهي إلى باب من أبواب الجنة إلا وجدت ابنك قائما عنده آخذا بحجزتك يشفع لك عند ربك" قالوا يا رسول الله ولنا في فرطنا ما لعثمان بن مظعون قال: "نعم لمن صبر واحتسب" وقوله صلى الله عليه وسلم: "لأن أقدم سقطا أحب إلي من مائة مستتم". وأما الصبر على المصائب مطلقا ففيه أحاديث كثيرة أيضا منها قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا أصيب أحدكم بمصيبة فليذكر مصيبته بي فإنها من أعظم المصائب" وقوله صلى الله عليه وسلم: "ما من أحد أصيب بمصيبة فاسترجع إلا استوجب من الله ثلاث خصال كل خصلة خير من الدنيا وما فيها" قال أبو عبيدة يعني: {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} وقوله صلى الله عليه وسلم:

 

ج / 1 ص -417-        "ما من امرئ تصيبه مصيبة تحزنه فيرجع فيقول إنا لله وإنا إليه راجعون إلا قال الله عز وجل أوجعت قلب عبدي فصبر واحتسب اجعلوا ثوابه منها الجنة وما ذكر مصيبته فرجع إلا جدد الله له أجرها" وقوله صلى الله عليه وسلم: "ما من عبد يصاب بمصيبة فيقول إنا لله وإنا إليه راجعون اللهم عندك احتسبت مصيبتي فأجرني فيها واعقبني منها خيرا إلا أعطاه الله ذلك" وقوله صلى الله عليه وسلم: "ما من عبد يصاب بمصيبة فيفزع إلى ما أمر الله به من قوله إنا لله وإنا إليه راجعون اللهم أجرني في مصيبتي هذه وعوضني منها خيرا إلا آجره الله في كل مصيبة وكان قمنا أي حقيقا من أن يعوضه الله منها خيرا". وقوله صلى الله عليه وسلم: "ليسترجع أحدكم في كل شيء حتى في شسع نعله فإنها من المصائب" وقوله صلى الله عليه وسلم: "من استرجع عند المصيبة جبر الله مصيبته وأحسن عقباه وجعل له خلفا صالحا" وقوله صلى الله عليه وسلم: "من أصابته مصيبة فقال إذا ذكرها إنا لله وإنا إليه راجعون جدد الله له من أجرها مثل ما كان له يوم إصابته" وقوله صلى الله عليه وسلم: "أعطيت أمتي شيئا لم يعطه أحد من الأمم أن يقولوا عند المصيبة إنا لله وإنا إليه راجعون" وقوله صلى الله عليه وسلم: "أيها الناس من أصيب منكم بمصيبة من بعدي فليتعز بمصيبته بي عن مصيبته التي تصيبه فإنه لن يصاب أحد من أمتي من بعدي بمثل مصيبته بي" وقوله صلى الله عليه وسلم: "المصيبة تبيض وجه صاحبها يوم تسود الوجوه" وقوله صلى الله عليه وسلم: "المصائب والأحزان في الدنيا جزاء" وقوله صلى الله عليه وسلم: "ثم إذا أصابته مصيبة احتسب وصبر وإذا أصابه خير حمد الله وشكر إن المسلم يؤجر في كل شيء حتى في اللقمة يرفعها إلى فيه". وقوله صلى الله عليه وسلم: "عظم الأجر عند عظم المصيبة وإذا أحب الله قوما ابتلاهم" وقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا أحب الله العبد ألصق به البلاء" وقوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله إذا أحب قوما ابتلاهم فمن صبر فله الصبر ومن جزع فله الجزع" وقوله صلى الله عليه وسلم: "ما يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في نفسه وولده وماله حتى يلقى الله وما عليه خطيئة" وقوله صلى الله عليه وسلم: "أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل يبتلى الرجل على حسب دينه فإن كان دينه صلبا اشتد بلاؤه وإن كان في دينه رقة ابتلي على قدر دينه فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض وما عليه خطيئة" وقوله صلى الله عليه وسلم: "أشد الناس بلاء في الدنيا نبي أو صفي" وقوله صلى الله عليه وسلم: "أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الصالحون ثم الأمثل فالأمثل". وقوله صلى الله عليه وسلم: "أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الصالحون وقد كان أحدهم يبتلى بالفقر حتى ما يجد إلا العباءة يحويها فيلبسها فيبتلى بالقمل حتى يقتله ولأحدهم كان أشد فرحا بالبلاء من أحدكم بالعطاء" وقوله صلى الله عليه وسلم: "أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم". وقوله صلى الله عليه وسلم: "أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل يبتلى الناس على قدر دينهم فمن ثخن دينه اشتد بلاؤه ومن ضعف دينه ضعف بلاؤه وإن الرجل ليصيبه البلاء حتى يمشي في الناس ما عليه خطيئة" وقوله صلى الله عليه وسلم: "إنا معاشر الأنبياء يضاعف علينا البلاء" وقوله صلى الله عليه وسلم: "إن الرجل يكون له المنزلة عند الله فما يبلغها بعمل فلا يزال الله يبتليه بما يكره حتى يبلغه إياها". وقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا كثرت ذنوب العبد فلم يكن له من العمل ما يكفرها ابتلاه الله بالحزن ليكفرها" وقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا قصر العبد في العمل ابتلاه الله بالهم" وقوله

 

ج / 1 ص -418-        صلى الله عليه وسلم: "مثل المؤمن كمثل الزرع لا تزال الريح تفيه أي تميله ولا يزال المؤمن يصيبه البلاء ومثل المنافق كمثل شجرة الأرز لا تهتز حتى تحتصد" وقوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله إذا أراد بعبده الخير عجل له العقوبة في الدنيا وإذا أراد الله بعبده الشر أمسك عنه بذنبه حتى يوافي به يوم القيامة" وقوله صلى الله عليه وسلم: "ما من مسلم يصيبه أذى شوكة فما فوقها إلا حط الله تعالى به سيئاته كما تحط الشجرة ورقها" وقوله صلى الله عليه وسلم: "ما من مسلم يشاك شوكة فما فوقها إلا كتب له بها درجة ومحيت عنه بها خطيئة" وقوله صلى الله عليه وسلم: "إن الصالحين ليشدد عليهم فإنه لا يصيب مؤمنا نكبة من شوكة فما فوق ذلك إلا حطت عنه بها خطيئة ورفع له بها درجة". وقوله صلى الله عليه وسلم: "قاربوا وسددوا ففي كل ما يصاب به المسلم كفارة حتى النكبة ينكبها أو الشوكة يشاكها" وقوله صلى الله عليه وسلم: "ما يصيب المؤمن من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه" وقوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله يتعاهد عبده المؤمن بالبلاء كما يتعاهد الوالد ولده بالخير وإن الله ليحمي عبده المؤمن من الدنيا كما يحمي المريض أهله الطعام" وقوله صلى الله عليه وسلم: "ما من عبد ابتلي ببلية في الدنيا إلا بذنب والله أكرم وأعظم عفوا من أن يسأله عن ذلك الذنب يوم القيامة" وقوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله ليبتلي المؤمن وما يبتليه إلا لكرامته عليه" وقوله صلى الله عليه وسلم: "ليس بمؤمن مستكمل الإيمان من لم يعد البلاء نعمة والرخاء مصيبة" جعلنا الله من هؤلاء المؤمنين وألحقنا بأحبابنا من الصديقين والصالحين في دار كرامته مع دوام رضاه وغاية نعمته إنه الجواد الكريم الرءوف الرحيم.
"وسئل" نفع الله به عن معنى حسن الظن بالله تعالى هل المراد به أن يظن العبد أن الله تعالى يعطيه الخير ويوفقه له أو يحصل مراده في الدنيا والآخرة أو مجرد أن الله يرحمه فلو ظن لما رأى أحواله متفرقة غير منتظمة أنه لا يفعل بي إلا كذا وكذا فهل هذا من عدم حسن الظن بالله تعالى أم لا وما مؤداه الحقيقي إذا أطلق؟ "فأجاب" بقوله ذكرت في كتابي الزواجر عن اقتراف الكبائر ما يعلم به الجواب عن ذلك وعبارته الكبيرة الحادية والثانية والأربعون سوء الظن بالله تعالى والقنوط من رحمته أخرج الديلمي وابن مردويه في تفسيره أنه صلى الله عليه وسلم قال:
"أكبر الكبائر سوء الظن بالله عز وجل" وقال تعالى عز قائلا: {وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ} [الحجر: 56].
"تنبيه" عد هذين كبيرتين مغايرتين لليأس من رحمة الله هو ما وقع للجلال البلقيني وغيره وكأنهم لم ينظروا إلى ما بين الثلاثة من التلازم ومن ثم قال أبو زرعة وفي معنى الآيس القنوط والظاهر أنه أبلغ منه للترقي إليه في قوله تعالى:
{وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُوسٌ قَنُوطٌ} [فصلت: 49] ا هـ والظاهر أيضا أن سوء الظن أبلغ منهما لأنه يأس وقنوط وزيادة التجويز على الله تعالى أشياء لا تليق بكرمه وجوده. وفي تفسير ابن المنذر عن علي كرم الله وجهه قال أكبر الكبائر الأمن من مكر الله واليأس من روح الله والقنوط

 

ج / 1 ص -419-        من رحمة الله وفي تفسير ابن جرير عن أبي سعيد نحوه وقلت قبل ذلك الكبيرة الأربعون اليأس من رحمة الله تعالى قال تعالى: {إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف: 87] وقال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48] وقال تعالى: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر: 53] وقال تعالى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [لأعراف: 156] وفي الحديث: "إن لله تعالى مائة رحمة كل رحمة منها طباق ما بين السماء والأرض أنزل منها رحمة واحدة بين الجن والإنس والبهائم فبها يتعاطفون وبها يتراحمون وبها تعطف الطير والوحوش على أولادها وأخر تسعة وتسعين رحمة يرحم بها عباده يوم القيامة". وأخرج الترمذي وحسنه عن أنس رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "قال الله تعالى يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك يا ابن آدم لو أتيتني بقراب الأرض - أي بضم القاف ويجوز كسرها أي قريب ملئها خطايا - ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا لأتيتك بقرابها مغفرة" وعن أنس بسند حسن أنه صلى الله عليه وسلم دخل على شاب وهو في الموت فقال كيف تجدك قال أرجو الله يا رسول الله وأني أخاف ذنوبي فقال صلى الله عليه وسلم: "لا يجتمعان في قلب عبد في مثل هذا الموطن إلا أعطاه الله ما يرجو وأمنه مما يخاف". وأخرج أحمد أنه صلى الله عليه وسلم قال: "إن شئتم أنبأتكم ما أول ما يقول الله عز وجل للمؤمنين يوم القيامة وما أول ما يقولون له قلنا نعم يا رسول الله قال إن الله عز وجل يقول للمؤمنين: هل أحببتم لقائي؟ فيقولون: نعم يا ربنا, فيقول: لم, فيقولون: رجونا عفوك ومغفرتك, فيقول الله: قد وجبت لكم مغفرتي" والشيخان: "قال الله عز وجل أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه حيث يذكرني" الحديث. وأبو داود وابن حبان في صحيحه أنه صلى الله عليه وسلم قال "حسن الظن من حسن العبادة" والترمذي والحاكم أنه صلى الله عليه وسلم قال: "إن حسن الظن بالله من حسن العبادة" ومسلم وغيره عن جابر أنه سمع النبي قبل موته بثلاثة أيام يقول "لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله عز وجل" وأحمد وابن حبان في صحيحه والبيهقي أنه صلى الله عليه وسلم قال: "قال الله جل وعلا أنا عند ظن عبدي بي إن ظن خيرا فله وإن ظن شرا فله" والبيهقي أنه صلى الله عليه وسلم قال: "أمر الله عز وجل بعبد إلى النار فلما وقف على شفتها التفت فقال أما والله يا رب إن كان ظني بك لحسن فقال الله عز وجل ردوه أنا عند حسن ظن عبدي بي".
"تنبيه" عد هذا كبيرة هو ما أطبقوا عليه وهو ظاهر لما فيه من الوعيد الشديد الذي علمته مما ذكر بل في التصريح الذي مر آنفا أنه من الكبائر بل جاء عن ابن مسعود أنه أكبر الكبائر ا هـ ما في الزواجر وبه يعلم أن سوء الظن قد يراد به اليأس من رحمة الله وفسر الفقهاء خبر مسلم السابق:
"لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله تعالى" بأن المراد به

 

ج / 1 ص -420-        أن يظن أنه يرحمه ويعفو عنه وإحسان الظن بالله تعالى مندوب قالوا ويندب للحاضرين أن يحسنوا ظن المحتضر ويطمعوه في رحمة الله تعالى وبحث الأذرعي وجوبه عليهم إذا رأوا منه أمارات اليأس والقنوط أخذا من قاعدة النصيحة الواجبة وعبارة شرحي للإرشاد بعد ذكر ذلك قيل والأولى للصحيح تغليب خوفه على رجائه والأظهر في المجموع استواؤهما لأن الغالب في القرآن ذكر الترغيب والترهيب معا. وقال الغزالي إن أمن داء القنوط فالرجاء أولى أو أمن المكر فالخوف أولى أي وإن لم يغلب واحد منهما استويا وينبغي حمل كلام المجموع على هذه الحالة وقضية كلامه أي الإرشاد كأصله والروضة والمنهاج أن المريض الذي ليس بمحتضر كالصحيح والأوجه ما دل عليه كلام المجموع من أن المريض غير المحتضر مثله في ذلك وعبارته اتفق الأصحاب وغيرهم على أنه يسن للمريض ومن حضرته أسباب الموت ومقدماته أن يكون حسن الظن بالله تعالى انتهت عبارة شرح الإرشاد وبها مع ما سبق عن الزواجر يعلم أن الكلام في مقامين أحدهما شخص يجوز وقوع الرحمة له والعذاب فهذا هو الذي تعرض له الفقهاء فإن كان مريضا ندب له تغليب جانب الرجاء وإن كان صحيحا اختلفوا فيه كما رأيت. ثانيهما في شخص آيس من وقوع شيء من أنواع الرحمة له مع إسلامه وهذا هو الذي كلام الزواجر فيه فهذا اليأس كبيرة اتفاقا لأنه يستلزم تكذيب النصوص القطعية التي أشرنا إليها. ثم هذا اليأس قد تنضم إليه حالة أشد منه في التصميم على عدم وقوع الرحمة له وهو القنوط بحسب ما دل عليه سياق فهو يئوس قنوط وتارة ينضم إليه أنه مع عدم رحمته له يشدد عذابه كالكفار وهذا هو المراد بسوء الظن هنا فتأمل ذلك فإنه مهم وقد علم مما قدمته عن الفقهاء أن المراد بإحسان الظن المندوب أنه يظن أن الله يرحمه ومن الرحمة أن الله يوفقه للخير وأن يعطيه ما يسأل منه مما يتعلق بالدنيا أو الآخرة وإن الإنسان إذا رأى أحواله غير جارية على سنن الاستقامة فاشتد الخوف عنده بسبب ذلك وخشي أن يعاقب على قبائحه مع تجويزه أن الله تعالى قد يعفو عنه ويغفر له لم يكن هذا من سوء الظن بل هو من الحالات الكاملة والأحوال الفاضلة فقد قال صلى الله عليه وسلم: "أنا أعلمكم بالله وأخوفكم منه". وورد عن الخلفاء الراشدين وبقية أئمة السلف من أنواع الخوف ما يفتت الكبد ويذيب الجلد ولذلك جرى جماعة أجلاء على ترجيح جانب الخوف على جانب الرجاء مطلقا لأنه ما دام ترجيحه باقيا كان حاملا على اجتناب المعاصي وغيرها من سائر ما لا ينبغي بخلاف ترجيح جانب الرجاء فإنه غالبا يحمل صاحبه على اقتراف النقائص خلصنا الله منها ووفقنا لطاعته بمنه وكرمه وأدام علينا رضاه في هذه الدار إلى أن نلقاه آمين.
"وسئل" نفع الله به بما لفظه احتيج لسد فتح لحد القبر ولم يوجد إلا لبن لغائب ومسجد فما الذي يؤخذ؟ "فأجاب" بقوله متى توقف الدفن الواجب عليه جاز أخذه من مال الغائب لأن الميت إن لم يكن له مال كان هذا المال من جملة ما تعلق به فرض

 

ج / 1 ص -421-        الكفاية الذي يعم جميع الموسرين وإن كان له مال كان كأكل المضطر طعام الغائب ويضمنه ويؤخذ من كلامهم في المضطر إذا وجد مأكولا لغائب ولحم ميتة أو صيد وهو محرم ما قلناه هنا من أنه يجب تقديم مال الغائب ولا يجوز الأخذ من جدار المسجد وإن كان خرابا لأنه لا يمكن تملك بعضه ومال الغائب قد علمت أنه يملك قهرا عليه للمضطر ببدله وإذا قدم الغائب ووجد للميت تركة فله مطالبة الوارث برد لبنه فيجب نبش القبر وإعطاؤه لبنه أو شراء غيره إن وجد وإلا دفع له قيمته وواضح أن اللبن المختلط بزبل بحيث لا يمكن تطهيره لا يمكن تقويمه إذ لا يصح بيعه فلا تجب فيه قيمة وإن وجب رده كغير المتمول.
"وسئل" أعاد الله علينا من بركاته وبركات علومه في الدنيا والآخرة عمن قبر والده أو أمه عند صالح فهل الأولى البداءة بزيارة الأصل أو الصالح؟ "فأجاب" بقوله الذي يتجه في ذلك أنه إن مر بقبر الصالح قبل بدأ به وإلا بدأ بأبيه أو أمه وهذا أولى من إطلاق بعضهم أنه يبدأ بوالده لأن الله تعالى أمر ببر الوالدين والإحسان إليهما ومن ذلك الوقوف عند قبرهما والدعاء لهما وتلاوة القرآن على قبرهما.
"وسئل" رضي الله عنه عن زيارة قبور الأولياء في زمن معين مع الرحلة إليها هل يجوز مع أنه يجتمع عند تلك القبور مفاسد كثيرة كاختلاط النساء بالرجال وإسراج السرج الكثيرة وغير ذلك؟ "فأجاب" بقوله زيارة قبور الأولياء قربة مستحبة وكذا الرحلة إليها وقول الشيخ أبي محمد لا تستحب الرحلة إلا لزيارته صلى الله عليه وسلم رده الغزالي بأنه قاس ذلك على منع الرحلة لغير المساجد الثلاثة مع وضوح الفرق فإن ما عدا تلك المساجد الثلاثة مستوية في الفضل فلا فائدة في الرحلة إليها وأما الأولياء فإنهم متفاوتون في القرب من الله تعالى ونفع الزائرين بحسب معارفهم وأسرارهم فكان للرحلة إليهم فائدة أي فائدة فمن ثم سنت الرحلة إليهم للرجال فقط بقصد ذلك وانعقد نذرها كما بسطت الكلام على ذلك في شرح العباب بما لا مزيد على حسنه وتحريره وما أشار إليه السائل من تلك البدع أو المحرمات فالقربات لا تترك لمثل ذلك بل على الإنسان فعلها وإنكار البدع بل وإزالتها إن أمكنه. وقد ذكر الفقهاء في الطواف المندوب فضلا عن الواجب أنه يفعل ولو مع وجود النساء وكذا الرمل لكن أمروه بالبعد عنهن فكذا الزيارة يفعلها لكن يبعد عنهن وينهى عما يراه محرما بل ويزيله إن قدر كما مر هذا إن لم تتيسر له الزيارة إلا مع وجود تلك المفاسد فإن تيسرت مع عدم المفاسد فتارة يقدر على إزالة كلها أو بعضها فيتأكد له الزيارة مع وجود تلك المفاسد ليزيل منها ما قدر عليه وتارة لا يقدر على إزالة شيء منها فالأولى له الزيارة في غير زمن تلك المفاسد بل لو قيل يمنع منها حينئذ لم يبعد. ومن أطلق المنع من الزيارة خوف ذلك الاختلاط يلزمه إطلاق منع نحو الطواف والرمل بل والوقوف بعرفة أو مزدلفة والرمي إذا خشي الاختلاط أو نحوه فلما لم يمنع الأئمة شيئا من ذلك مع أن فيه اختلاطا

 

ج / 1 ص -422-        أي اختلاط وإنما منعوا نفس الاختلاط لا غير فكذلك هنا ولا تغتر بخلاف من أنكر الزيارة خشية الاختلاط فإنه يتعين حمل كلامه على ما فصلناه وقررناه وإلا لم يكن له وجه وزعم أن زيارة الأولياء بدعة لم تكن في زمن السلف ممنوع وبتقدير تسليمه فليس كل بدعة ينهى عنها بل قد تكون البدعة واجبة فضلا عن كونها مندوبة كما صرحوا به.
"وسئل" نفع الله به عمن مر بمقبرة فقرأ الفاتحة وأهداها لهم فهل تقسم بينهم أو يصل لكل منهم مثل ثوابها كاملا؟ "فأجاب" بقوله أفتى جمع بالثاني وهو اللائق بسعة الفضل.
"وسئل" نفع الله به بما لفظه ما حكم الأذان والإقامة عند سد فتح اللحد؟ "فأجاب" بقوله هو بدعة ومن زعم أنه سنة عند نزول القبر قياسا على ندبهما في المولود إلحاقا لخاتمة الأمر بابتدائه فلم يصب وأي جامع بين الأمرين ومجرد أن ذاك في الابتداء وهذا في الانتهاء لا يقتضي لحوقه به.
"وسئل" أعاد الله علينا من بركاته عن حكم بناء القبور قدر مدماكين فقط؟ "فأجاب" بقوله يحرم بناء القبر في المقبرة المسبلة وهي التي اعتاد أهل البلد الدفن فيها ومثلها الموقوفة لذلك سواء كان مدماكا أم مدماكين لأن الكل يسمى بناء ولوجود علة تحريم البناء في ذلك وهي تحجير الأرض على من يدفن بعد بلاء الميت إذ الغالب أن البناء يمكث إلى ما بعد البلى وأن الناس يهابون فتح القبر المبني فكان في البناء تضييق للمقبرة ومنع الناس من الانتفاع بها فحرم ووجب على ولاة الأمر هدم الأبنية التي في المقابر المسبلة ولقد أفتى جماعة من عظماء الشافعية بهدم قبة الإمام الشافعي رضي الله عنه وإن صرف عليها ألوف من الدنانير لكونها في المقبرة المسبلة وهذا أعني البناء في المقابر المسبلة مما عم وطم ولم يتوقه كبير ولا صغير فإنا لله وإنا إليه راجعون.
"وسئل" رضي الله عنه هل يجوز لأحد الأخذ من حجارة القبور لسد فتح لحد ولبناء قبر أم لا؟ "فأجاب" بقوله إن علم مالك تلك الأحجار فواضح أنه لا يجوز الأخذ منها إلا برضاه إن كان رشيدا وإن جهل فإن رجي ظهوره لم يجز أخذ شيء منها وإن أيس من ظهوره فهي من جملة أموال بيت المال فلمن له فيه حق الأخذ منها بقدر حقه وقد نقل الشيخان وأقراه في إحياء الموات أن المال الضائع أمره إلى الإمام إن رأى حفظه حتى يظهر مالكه أو بيعه وحفظ ثمنه فعل وله أن يقرضه أي الثمن على بيت المال ومحل حفظه إلى ظهور مالكه كما في الخادم عن ابن عبد السلام ما إذا توقع ظهوره وهو متعين ومن ثم جزم به ابن سراقة فإن أيس من ظهور مالكه صار مصروفا إلى مصارف بيت المال وأخذ من هذا جماعة أن الأموال التي يأخذها المكاسون وتختلط وتنبهم ملاكها تصير من أموال بيت المال.
"وسئل" نفع الله به وفسح في مدته عما إذا حضر المسلم الحروب الواقعة بين الكفار الحربيين ككفرة مليبار فإن من يشاهد الحرب كافرا كان أو مسلما يقصد معاركهم إلى نحو

 

ج / 1 ص -423-        فرسخين ويعدون لذلك مآكل ويقوم عند معركتهم ويتفرج على القتل والضرب فيما بينهم فهل يأثم المسلم بمشاهدته وحضوره لما فيه من تكثير جمعهم مع أنه لا ضرورة له إلى ذلك وتقبيح طائفة وتحسين أخرى والحث على الهجوم على الآخرين ووجود الخطر فربما تصل إليه سهامهم وربما يجرح وربما يقتل أو لا إثم في ذلك وإذا أعان المسلمون إحدى طائفتي الكفرة في حروبهم وقاتلوا الآخرين معهم من غير ضرورة ولا حاجة حتى يقتلوا أو يقتلوا في الحروب فهل يجوز ذلك أو لا وهل يؤجر المسلم بذلك لقتله الكافر أو لكونه مقتوله وهل يعامل معاملة الشهيد في عدم الغسل والصلاة عليه وقد يكون خروج المسلم لإعانتهم لطلب ملوك بلادهم الكفرة منه أن يخرج معهم لذلك فكيف يكون الحكم في ذلك وهل فرق بين ما إذا خرج بطلب ملوكهم أو لا؟ "فأجاب" بقوله حضور المسلم لحرب الحربيين فيما بينهم بقصد تعلمه الشجاعة وكيفية القتال وقوة النفس عند مشاهدته أو بقصد فرحه بمن مات من الحربيين لتعلو كلمة الله تعالى بضعف شوكتهم وقلة عددهم أو بقصد شيء غير ذلك من المقاصد الصحيحة جائز لا محذور فيه بوجه سواء بعد محل الحرب أو قرب وليس في ذلك تكثير لجمعهم فإن التكثير إنما يتصور في حق الموالي والمناصر وأما الحاضر راجيا لزوالهم وفنائهم عن آخرهم ومنتظرا وقوع دائرة عليهم فينتقم منهم فغير مكثر لجمعهم بل هو من جملة المحاربين لهم باطنا وكذا لا محذور أيضا في إغراء بعضهم على بعض لأن التوصل إلى قتل الحربي جائز بل محبوب بأي طريق كان هذا كله إن ظن سلامته أو قتله بعد إنكائهم أما لو غلب على ظنه أن مجرد حضوره يؤدي إلى قتله أو نحوه من غير أن يلحقهم منه نكاية بوجه فحضوره حينئذ في غاية الذم والتقصير فليمسك عنه. وإذا أعان مسلم أو أكثر إحدى الطائفتين فقتله في الحرب أحد الحربيين فهو شهيد لا يغسل ولا يصلى عليه وله ثواب أي ثواب إن قاتل لتكون كلمة الله هي العليا ولا فرق في ذلك كله بين من خرج بنفسه ومن خرج بطلب ملكهم له حيث لا إجبار.
"وسئل" نفع الله به عما إذا التقى مسلم وكافر في طريق في الأمن فتسابا في شيء من الأمور فوقع الاختلاف بينهما حتى قتل المسلم فهل هو شهيد حتى لا يغسل ولا يصلى عليه أو لا ولو وقع بين الكفرة من غير إرادة حرب فأرادوا قتله فهرب منهم فقتلوه هل هو شهيد فلا يغسل ولا يصلى عليه أو لا ولو سافر جماعة لتجارتهم فالتقوا بالحربيين في طريقهم فتقاتلوا من بعيد بالبنادق والسهام فقتل المسلمون بسبب ذلك فهل يغسلون ويصلى عليهم أو لا ولو دفن من قتله الكفار الحربيون من غير غسيل ولا صلاة بزعم أنه شهيد مع أنه ليس كذلك لجهلهم بالحكم فلما علم الحكم حفروا فوجدوه منتفخا أو منتنا وتعذر إخراجه وغسله فهل يجب التيمم مع إمكانه والحالة هذه أو لا؟ "فأجاب" بقوله إذا تحارب مسلم وكافر فقتل الكافر المسلم ظلما لكونه حربيا أو ذميا ولم يتعد المسلم عليه بإرادته

 

ج / 1 ص -424-        قتله فالمسلم شهيد لا يغسل ولا يصلى عليه وهذا هو المراد بالشهيد حيث أطلق بخلاف ما لو أراد مسلم قتل ذمي ظلما فدفعه الذمي عن نفسه بالتدريج إلى أن أفضى الدفع إلى قتله فإن المسلم في هذه ليس شهيدا لتعديه المفضي إلى قتله وفي شرحي للعباب وقيد في البهجة الحرب بكونها حلالا احترازا عن محاربة مسلمين لذميين ظلما فلا يكون مقتولهم شهيدا وهو ظاهر ا هـ وبها يتضح ما قررته ومن هرب منهم فقتلوه في الصورة المذكورة في السؤال غير شهيد فقد صرحوا بأن من اغتاله كافر في غير قتال غير شهيد وبأن الشهيد هو الذي قتله كافر مع قيام الحرب. وفي شرح العباب وأفهم قوله مع قيام الحرب أن المعركة لو انجلت فولى المشركون فتبعهم المسلمون ليستأصلوهم فكر بعضهم على مسلم فقتله لا يكون شهيدا لكن استبعده الأذرعي ومن ثم رجح الزركشي أنه شهيد لأن آثار القتال موجودة لم يفصل بينهما شيء ا هـ. وبهذا الأخير يفرق على كلام الزركشي بين هذه ومسألتنا بأن آثار القتال لما بقيت هنا كان القتال كأنه موجود وأما في مسألة السؤال فليس فيها آثار قتال ألبتة فلا مقتضى فيها للشهادة وفيه أيضا أن الشهيد هو الذي قتله كافر مع قيام الحرب أو مات بسبب الحرب كأن رمحته دابة له أو لغيره أو عاد إليه سلاحه أو سلاح مسلم خطأ وبه يعلم أن المسلمين المقتولين في قول السائل نفع الله بعلومه وبركته ولو سافر جماعة لتجارتهم إلخ شهداء لا يغسلون ولا يصلى عليهم وفيه أيضا لو دفن الميت قبل الغسل أو بدله وهو التيمم نبش له القبر وجوبا تداركا للواجب إلا إن تغير قال الماوردي بالنتن والرائحة والقاضي أبو الطيب وابن الصباغ بالتقطع وهذا أبلغ مما قبله فإن التأذي برائحته أبلغ من تقطيعه فيحرم النبش حينئذ لما فيه من هتك حرمته ا هـ. وبها يعلم في مسألة السؤال الأخيرة أنه لا يجوز النبش لما فيه من هتك حرمة الميت وأنه لا يجب التيمم بل يحرم النبش له كالغسل بعد التغير لما تقرر من أن فيه هتكا لحرمته فإن ظن عدم تغيره فنبش فرأى التغير وجب رد التراب فورا كما هو ظاهر ويلزم من وجوب الفورية فيه عدم وجوب الغسل أو التيمم بل عدم الجواز وفي شرح العباب أيضا فإن دفن من يجب غسله قبل غسله أو تيممه كما قاله الأذرعي وغيره نبش له ثم بعده يصلى عليه لأنه واجب مقدور عليه فوجب فعله ما لم يتغير بنحو نتن شديد كما يأتي فحينئذ لا يجوز نبشه لهتك حرمته. وتردد الأذرعي في النبش عند دفنه بلا غسل جهلا أو نسيانا أو خوفا من نحو عدو أو لفقد الطهور ثم أشار إلى أنه حيث صحت الصلاة عليه بلا غسل لم ينبش وإلا نبش وهو محتمل ويحتمل الأخذ بإطلاقهم من النبش مطلقا حيث لا تغير مبالغة في إكرامه ولعل هذا أقرب ا هـ.
"وسئل" نفع الله به عن قول الأصحاب رضي الله عنهم يسن قراءة يس عند من حضره الموت يعني مقدماته لأن الميت لا يقرأ عليه هل لا يؤمر بالقراءة عليه لعدم انتفاعه بها للصعود بروحه إلى الحضرة الإلهية فلانتفاء انتفاعه بالقراءة حينئذ كما ذاكرني بذلك بعض

 

ج / 1 ص -425-        أئمتنا أم المراد غير ذلك وما هو؟ "فأجاب" بقوله قولهم الميت لا يقرأ عليه مبني على ما أطلقه المتقدمون من أن القراءة لا تصل إلى الميت لأن ثوابها للقارئ والثواب المترتب على عمل لا ينقل عن عامل ذلك العمل قال تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم:39] ووصول الدعاء والصدقة ورد بهما النص فلا يقاس عليهما إذ لا مجال للقياس في ذلك فاتجه قولهم أن الميت لا يقرأ عليه لما ذكرته ولما كان المتأخرون يرون وصول القراءة للميت على تفصيل فيه مقرر في محله أخذ ابن الرفعة كغيره بظاهر الخبر من أنها تقرأ عليه بعد موته وهو مسجى بل في وجه لبعض أصحابنا أنها تقرأ عليه عند القبر. وتبع هؤلاء الزركشي فقال لا يبعد على القول باستعمال اللفظ في حقيقته ومجازه أنه يندب قراءتها في الموضعين وما نقل في السؤال من التعليل بعدم انتفاعه للصعود بروحه إلخ كلام في غاية السقوط والفساد لأن صعود الروح للملإ الأعلى لا ينافي انتفاعها بما يصل إليها إجماعا من الدعاء والصدقة فكذا القراءة لولا ما أشرت إليه من الفرق على أن الحق وصولها إن عقبها دعاء بوصول ثوابها أو مثله لأن حذف لفظ مثل وإرادة معناها صحيح كبعتك بما باع به فلان فرسه وأوصيت لك بنصيب ابني وكذا إن لم يعقبها دعاء وكانت على القبر لأن الميت حينئذ كالحاضر ترجى له الرحمة والبركة. وبهذا يتضح فساد تلك المذاكرة إذ لو نظروا إلى صعود روحه بالمعنى الذي في السؤال لم يقولوا بذلك فإن قلت ينافي قولهم الميت لا يقرأ عليه قول الشافعي رضي الله عنه يقرأ عند القبور ما تيسر من القرآن ويدعو لهم عقبها قلت لا ينافيه لأن كلامهم في مجرد القراءة عند الميت وكلام الشافعي رضي الله عنه هذا تأييد للمتأخرين في حملهم مشهور المذهب على ما إذا لم يكن بحضرة الميت أو لم يدع عقبها.
"وسئل" نفع الله به عما قالوه في غسل الميت في أنه يغسل أولا رأسه ثم لحيته هل المراد تقدمهما بغسلة السدر والتنظيف والفرض والتثليث أو بالأولى فقط واستظهر بعضهم أنه يقدم بغسلات السدر رأسه ثم لحيته ثم باقي بدنه ثلاثا بالماء الصرف كذلك هل هو كذلك أم لا؟ "فأجاب" بقوله إن الغاسل يخير بين كل ما ذكر فيه كما حققه السبكي وغيره حيث قال لا وجه لتخصيص السدر بالأولى من غسلات التنظيف أي الذي يفهمه كلام الروضة وغيرها بل الوجه التكرير به إلى أن يحصل النقاء على وجه الخبر والمعنى يقتضيه فإذا حصل النقاء وجب غسله بالماء الخالص ويسن بعدها ثانية وثالثة كغسل الحي فإن استعمل الخالص بعد كل غسلة من غسلات التنظيف كفاه ذلك عن استعماله بعد تمامها وتكون كل مرة من التنظيف واستعمال الخالص يعد غسلة واحدة وكلامه الأخير بيان لكلامهم وكذا الأول ومن ثم قال ابنه في التوشيح قد لا يجعل ذلك خلافا ويقال إنما خصت الأولى بالذكر لحصول النقاء بها غالبا. أي فالحاصل أن

 

ج / 1 ص -426-        الغاسل يخير بين الكيفيتين وأن مرادهم بالثلاث في قولهم بعد غسلة السدر ثم يصب ماء قراحا من فرقه إلى قدمه ثم يغسله بالماء القراح ثلاثا إنها ثلاث متوالية في الكيفية الأولى ومتفرقة في الكيفية الثانية فإن قلت أي الكيفيتين أفضل قلت ظاهر كلام السبكي وغيره أن الأولى هي الأفضل لما تقرر أنها الموافقة للخبر ولأنها أبلغ في النظافة مع السهولة.
"وسئل" نفع الله به عن قولهم إن أقل الدفن ما يمنع الميت ورائحته هل المراد يمنع رائحته بحيث لا يدركها القاعد الملاصق للقبر أو المراد أن لا يدركها بالشم مع تقريب الأنف إلى تراب القبر لأنها إذا أدركت بذلك أدركها السبع فيحمله على النبش أو غير ذلك؟ "فأجاب" بقوله ظاهر كلامهم أنه لا يلزم من منع الرائحة منع السبع وعكسه وهو ظاهر كما قاله جمع متأخرون فلا يكفي أحدهما كما قاله جمع متقدمون نقله ابن الرفعة عن الأصحاب وهو المعتمد وإن نازع فيه الأذرعي ومن تبعه إذا تقرر ذلك فالظاهر أن المراد بمنع الرائحة منعها عمن عند القبر بحيث لا يتأذى بها تأذيا لا يحتمل عادة لأن ملحظ اشتراط منع القبر لها دفع الأذى عن الناس والأذى إنما يتحقق بما ذكرته من أن يفوح منه ريح يؤذي من قرب منه عرفا إيذاء لا يصبر عليه عادة ويؤيد ما ذكرته أنه لا أثر لرائحة لا تؤذي كذلك قول الأصحاب يسن أن يعمق القبر قدر قامة وبسطة لأنه أبلغ في المقصود من منع السبع والرائحة فعلمنا من ذلك أن أصل الرائحة لا يؤثر وإنما المؤثر منه ما تقرر وبما تقرر من عدم التلازم يندفع قول السائل لأنها إذا أدركت بذلك أدركها السبع.
"وسئل" فسح الله في مدته عن قراءة:
{رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ} [الحشر: 10] الآية في رابعة الجنازة هل له أصل معتبر أم يقال لا بأس بها للمناسبة وكذلك قراءة: {وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ} [الكهف: 46 ومريم: 76] عند المرور على القبر وكونها كفارة لإثم مروره عليه هل له أصل أيضا أم لا؟ "فأجاب" بقوله جميع ما ذكر فيه لا أصل له بل ينبغي كراهة قراءة الآية المذكورة في الرابعة كما تكره القراءة في غير القيام من بقية الصلوات وقول السائل عند المرور على القبر إن أراد المشي عليه لا إثم فيه أو بحذائه فلا كراهة ولا إثم فأي إثم في المرور حتى يحتاج لرفعه.
"وسئل" فسح الله في مدته عن قول الأئمة لو اختلط مسلمون بكفار أو ماتت كافرة ولو حربية أو مرتدة وفي بطنها جنين مسلم ميت قبروا بين مقابر المسلمين وعكسه لكن هل تطمس قبورهم أو ترفع شبرا استظهر بعضهم الأول قال لأن رفعه يؤدي إلى أن يزار الكافر ويحترم فحينئذ يطمس قبره هل هو كذلك أم لا؟ "فأجاب" بقوله ما بحث من الطمس محتمل وإن كان ما علل به غير مطرد بل غير صحيح لأنا إن نظرنا إلى محل الدفن وهو كونه بين مقبرتي المسلمين والكفار انتفى كونه يزار ويحترم سواء أرفع أم لم يرفع وإن

 

ج / 1 ص -427-        نظرنا إلى أن الرفع يستلزم الزيارة والاحترام حرمناه في مقبرة الكفار وليس كذلك فالوجه أن يقال لا يسن الرفع لأن فيه نوع احترام ولا يقال يسن الطمس لأن الأئمة لم يطلبوه إلا عند خشية النبش لا غير وفرق واضح بين العبارتين فتأمله.
"وسئل" نفع الله به عن كيفية التصدق بثواب القراءة هل يكون ذلك على الترتيب كأن يقول اللهم أوصل ثواب ما قرأته وأجر ما تلوته إلى روح فلان ثم إلى روح فلان وهكذا كما في وقف الترتيب ويقدم الأقرب فالأقرب وبعدهم من شاء أو التشريك كأوصل اللهم ثواب ما ذكر إلى روح فلان وفلان أو هما سيان في الحكم بينوا لنا ما في ذلك من نص أو قياس؟ "فأجاب" بقوله إيصال عين ثواب ما قرأه إلى غيره غير مراد وإنما المراد الدعاء بأن الله تعالى يتفضل ويوصل مثله إلى المدعو له فلفظة المثل إن صرح بها فواضح وإلا فهي مرادة وحذف لفظها وإرادة معناها شائع في كلامهم في الوصية والبيع وغيرهما. وإذا تقرر أن المراد الدعاء بإيصال مثل ثواب القراءة اتضح أنه لا فرق بين أن يأتي بالمدعو لهم مرتبين أو مجموعين بالعطف بالواو أو بدونه كأوصل ثواب ذلك إلى المسلمين أو الأشراف أو أهل بلد كذا ألا ترى أنك لو قلت اللهم اغفر لفلان وفلان أو لفلان ثم فلان أو للمسلمين كنت داعيا ومؤديا لسنة الدعاء الخاص أو العام في الكل فكذلك فيما نحن فيه نعم في النفس توقف من الإتيان بالترتيب لأن فيه نوع تحكم في الدعاء فينبغي أنه خلاف الأدب إذ اللائق في الأدب أن يفوض وقت إعطاء المطلوب للغير إلى مشيئة الله تعالى وأما التنصيص على طلب أن إعطاء فلان قبل فلان وفلان قبل فلان ففيه نوع قلة أدب كما لا يخفى على موفق. فإن قلت ظاهر قولهم ويقرب زائره منه كقربه منه حيا أنه يعامله بما كان يعامله به لو كان حيا كتقدمه على غيره في الزيارة إن كان له عليه ولادة أو مشيخة أو نحوهما وإذا سن ذلك فليس تقديمه في الدعاء على غيره قلت فرق واضح بين المقامين لأن الزيارة إكرام ناجز تتفاخر به الأرواح كما ورد ما يدل على ذلك فساغ التقديم فيها لذلك وأما الدعاء فهو طلب أفضال من الله تعالى على المدعو له والخيرة في وقت ذلك إليه تعالى فلا دخل للترتيب فيه بوجه بل فيه تحكم وقلة أدب كما تقرر فيه فلم يقل به نعم ينبغي إذا أراد ذكر جماعة كلا على انفراده أن يقدم في اللفظ مع العطف بالواو لا بنحو ثم الأفضل فالأفضل كما هو ظاهر.
"وسئل" نفع الله به عن صلاة الجنازة هل كانت على من قبلنا؟ "فأجاب" بقوله نعم فقد أخرج أبو داود والطيالسي وابن منيع وعبد الله بن الإمام أحمد والروياني وابن عساكر والنسائي والبيهقي وغيرهم أن الملائكة لما قبضوا روح آدم صلى الله عليه وسلم وأولاده ينظرون غسلوه وهم ينظرون وكفنوه وهم ينظرون وصلوا عليه ثم حفروا له ودفنوه ثم أقبلوا عليهم فقالوا يا بني آدم هذه سنتكم في موتاكم وهذه سبيلكم

 

ج / 1 ص -428-        "وسئل" فسح الله في مدته بما لفظه الحديث الصحيح مر بجنازة فأثني عليها خيرا إلخ هل هو على ظاهره من أن ثناء الواحد يوجب الجنة وإن خالف الأكثر؟ "فأجاب" بقوله هو محمول عند العلماء على ظاهره بشرط كون الثناء من عدل خبير صالح للتزكية وهذا الثناء علامة على ما عند الله للعبد بإخبار الصادق صلى الله عليه وسلم وثناء الاثنين كاف كما في الخبر.
"وسئل" نفع الله به هل يعلم الأموات بزيارة الأحياء وبما هم فيه؟ "فأجاب" بقوله نعم يعلمون بذلك من غير تقييد بزمان خلافا لمن قيد كما أفاده حديث ابن أبي الدنيا:
"ما من رجل يزور قبر أخيه ويجلس عليه إلا استأنس ورد حتى يقوم" وصح حديث: "ما من أحد يمر بقبر أخيه المؤمن كان يعرفه في الدنيا فيسلم عليه إلا عرفه ورد عليه السلام".
"وسئل" فسح الله في مدته هل يعلم الأموات بأحوال الأحياء وبما هم فيه؟ "فأجاب" بقوله نعم لحديث مسند أحمد:
"إن أعمالكم تعرض على أقاربكم وعشائركم من الأموات فإن كان خيرا استبشروا وإن كان غير ذلك قالوا اللهم لا تمتهم حتى تهديهم كما هديتنا" وبه يعلم أنها إنما تعرض على صالحي الأقارب وفي رواية لأبي داود الطيالسي: "وإن كان غير ذلك قالوا اللهم ألهمهم أن يعملوا بطاعتك" وفي حديث ضعيف: "إن نفس المؤمن إذا قبضت تلقاها أهل الرحمة من عباد الله كما يلقون البشير من أهل الدنيا فيقولون انظروا صاحبكم ليستريح فإنه في كرب شديد ثم يسألونه ما فعل فلان وفلانة هل تزوجت" الحديث وفيه: "إن أعمالكم تعرض على أقاربكم وعشائركم من أهل الآخرة فإن كان خيرا فرحوا واستبشروا وقالوا اللهم هذا فضلك ورحمتك فأتمم نعمتك عليه وأمته عليها ويعرض عليهم عمل المسيء فيقولون اللهم ألهمه عملا صالحا ترضى به ويقربه إليك" وروى الترمذي الحكيم حديث: "تعرض الأعمال يوم الاثنين والخميس على الله وتعرض على الأنبياء وعلى الآباء والأمهات الجمعة فيفرحون بحسناتهم وتزداد وجوههم بياضا وإشراقا فاتقوا الله ولا تؤذوا أمواتكم" وفي حديث ابن أبي الدنيا: "لا تفضحوا موتاكم بسيئات أعمالكم فإنها تعرض على أوليائكم من أهل القبور".
"وسئل" فسح الله في مدته هل يسمع الميت كلام الناس؟ "فأجاب" بقوله نعم لحديث أحمد وجماعة:
"إن الميت يعرف من يغسله ويحمله ويدليه في قبره" وأخرج ابن أبي الدنيا عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: "الروح بيد ملك يمشي به مع الجنازة يقول له أتسمع ما يقال لك فإذا بلغ حفرته دفنه معه".
"وسئل" فسح الله في مدته ما مقر الأرواح بعد موت أجسادها؟ "فأجاب" بقوله صح أنه صلى الله عليه وسلم قال:
"إنما نسمة المؤمن أي روحه طائر أي على صورته تعلق في شجر الجنة حتى يرجعه الله إلى جسده يوم يبعثه" وفي حديث سنده حسن: "تكون النسم طيرا

 

ج / 1 ص -429-        يعلق بالشجر حتى إذا كان يوم القيامة دخلت كل نفس في جسدها" وفي حديث مسلم وغيره: "أرواح الشهداء عند الله في حواصل طير تسرح في أنهار الجنة حيث شاءت ثم تأوي إلى قناديل تحت العرش" وفي رواية سندها حسن: "إن أرواحهم في قبة خضراء على نهر بباب الجنة يخرج إليهم منها رزقهم غدوة وعشية" ولا تخالف ما قبلها لأنهم مراتب وصح حديث: "أولاد المؤمنين في جبل في الجنة يكفلهم إبراهيم وسارة حتى يردهم إلى آبائهم يوم القيامة". وأخرج جماعة أنه صلى الله عليه وسلم قال: "أتيت بالمعراج الذي تعرج عليه أرواح بني آدم فما ترى الخلائق أحسن من المعراج ما رأيت الميت حين يشق بصره طامحا إلى السماء فإن ذلك عجبه بالمعراج فصعدت أنا وجبريل فاستفتح باب السماء فإذا أنا بآدم تعرض عليه أرواح ذريته من المؤمنين فيقول روح طيبة ونفس طيبة اجعلوها في عليين ثم تعرض عليه أرواح ذريته الفجار فيقول روح خبيثة ونفس خبيثة اجعلوها في سجين" وفي حديث عند أبي نعيم الأصبهاني: "إن أرواح المؤمنين في السماء السابعة ينظرون إلى منازلهم في الجنة" ولا تنافي بينه وبين ما قبله لأن المؤمنين درجات كالشهداء.
"وسئل" نفع الله به هل تجتمع الأرواح ويرى بعضهم بعضا؟ "فأجاب" بقوله نعم للخبر أنهم يجتمعون ويتلقون الميت ثم يسألونه ما فعل فلان وفلانة إلخ وفي حديث ابن أبي الدنيا لما مات بشر بن البراء بن معرور وجدت عليه أمه وجدا شديدا فقالت يا رسول الله هل يتعارف الموتى فأرسل إلى بشر بالسلام فقال:
"نعم والذي نفسي بيده إنهم ليتعارفون كما يتعارف الطير في رءوس الشجر" وفي حديث أحمد: "إن روحي المؤمنين ليلتقيان على مسيرة يوم وما رأى أحدهما صاحبه قط" وصح حديث: "إن المؤمن ينزل به الموت ويعاين ما يعاين يود لو خرجت نفسه والله يحب لقاء المؤمن وإن المؤمن تصعد روحه إلى السماء فتأتيه أرواح المؤمنين يستخبرونه عن معارفه من أهل الأرض فإذا قال تركت فلانا في الدنيا أعجبهم ذلك وإذا قال إن فلانا قد مات قالوا ما جيء به إلينا" وفي رواية: "فيقولون إنا لله وإنا إليه راجعون ذهب به إلى أمه الهاوية".
"وسئل" فسح الله في مدته هل يسأل الشهيد؟ "فأجاب" بقوله لا كما صرح به جماعة واستدل له القرطبي بخبر مسلم "هل يفتن الشهيد قال: "
كفى ببارقة السيوف على رأسه فتنة" قال ومعناه أن السؤال في القبر إنما جعل لامتحان المؤمن الصادق في إيمانه من المنافق وثبوته تحت بارقة السيوف أدل دليل على صدقه في إيمانه وإلا لفر للكفار قال وإذا كان الشهيد لا يفتن فالصديق أولى لأنه أجل قدرا ووردت أحاديث إن المرابط لا يسأل أيضا وكذا المطعون والصابر في بلد الطعن محتسبا ومات بغير الطاعون كما في بذل الماعون لشيخ الإسلام ابن حجر والله تعالى أعلم.

 

ج / 1 ص -430-        "وسئل" فسح الله في مدته هل يسأل الطفل؟ "فأجاب" بقوله لا كما أفاده قول أئمتنا خلافا لابن يونس لا يلقن صبي لم يبلغ ومثله مجنون لم يسبق له تكليف قال الزركشي لأنهم لا يسألون وبه أفتى شيخ الإسلام ابن حجر وللحنابلة والحنفية والمالكية قول إن الطفل يسأل ورجحه جماعة من هؤلاء واستدل له بما لا يصح إنه صلى الله عليه وسلم لقن ابنه إبراهيم ولا يؤيد ذلك ما روي عن أبي هريرة إنه كان يقول في صلاته على الطفل اللهم أجره من عذاب القبر لأنه ليس المراد بعذاب القبر فيه عقوبته ولا السؤال بل مجرد ألم الهم والغم والوحشة والضغطة التي تعم الأطفال وغيرهم.
"وسئل" فسح الله في مدته بما لفظه ما قيل إن الموتى يفتنون في قبورهم أي يسألون كما أطبق عليه العلماء سبعة أيام هل له أصل؟ "فأجاب" بقوله نعم له أصل أصيل فقد أخرجه جماعة عن طاوس بالسند الصحيح وعبيد بن عمير بسند احتج به ابن عبد البر وهو أكبر من طاوس في التابعين بل قيل إنه صحابي لأنه ولد في زمنه صلى الله عليه وسلم وكان بعض زمن عمر بمكة ومجاهد وحكم هذه الروايات الثلاث حكم المراسيل المرفوعة لأن ما لا يقال من جهة الرأي إذا جاء عن تابعي يكون في حكم المرسل المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم كما بينه أئمة الحديث والمرسل حجة عند الأئمة الثلاثة وكذا عندنا إذا اعتضد وقد اعتضد مرسل طاوس بالمرسلين الآخرين بل إذا قلنا بثبوت صحبة عبيد بن عمير كان متصلا للنبي صلى الله عليه وسلم وبقوله الآتي عن الصحابة كانوا يستحبون إلخ لما يأتي أن حكمه حكم المرفوع على الخلاف فيه وفي بعض تلك الروايات زيادة إن المنافق يفتن أربعين صباحا ومن ثم صح عن طاوس أيضا أنهم كانوا يستحبون أن يطعم عن الميت تلك الأيام وهذا من باب قول التابعي كانوا يفعلون وفيه قولان لأهل الحديث والأصول: أحدهما أنه أيضا من باب المرفوع وأن معناه كان الناس يفعلون ذلك في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ويعلم به ويقر عليه والثاني أنه من باب العزو إلى الصحابة دون انتهائه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وعلى هذا قيل إنه إخبار عن جميع الصحابة فيكون نقلا للإجماع وقيل عن بعضهم ورجحه النووي في شرح مسلم وقال الرافعي مثل هذا اللفظ يراد به أنه كان مشهورا في ذلك العهد من غير نكير ثم ما ذكر في السؤال عن العلماء من أن المراد بالفتنة سؤال الملكين صحيح. ويؤيده خبر البخاري:
"أوحي إلي أنكم تفتنون في القبور فيقال ما علمك بهذا الرجل" إلخ وروى ابن أبي الدنيا أنه صلى الله عليه وسلم قال لعمر "كيف أنت إذا رأيت منكرا ونكيرا قال وما منكر ونكير قال فتانا القبر" الحديث وفي مرسل عند أبي نعيم: "فتان القبر ثلاثة أنكور وناكور ورومان" وفي حديث مرفوع رواه ابن الجوزي: "فتانو القبر أربعة منكر ونكير وناكور ورومان". واعلم أنه ليس في ذكر السبعة الأيام معارضة للأحاديث الصحيحة لأنها مطلقة وهذا فيه زيادة عليها فوجب قبولها كما هو مقرر في الأصول وقوله فيها نم صالحا لا ينافيه السؤال في يوم ثان وهكذا خلافا لمن وهم فيه ونظير ذلك أنه أطلق السؤال فيها.

 

ج / 1 ص -431-        وفي حديث حسن إن السؤال يعاد عليه في المجلس الواحد ثلاث مرات فإنه جاء في أحاديث إن السائل ملك وفي أحاديث إنه ملكان وأحاديث إنه ثلاثة وأحاديث إنه أربعة ولا تنافي لأن ذاكر الواحد لم يقل ولا يأتيه غيره ذكره القرطبي. واعلم أيضا أن السؤال فيما بعد اليوم الأول تأكيد له لحديث إنهم لا يسألون عن شيء سوى ما ذكر في السؤال الأول وحكمة التكرير تمحيص الصغائر وإظهار شرفه صلى الله عليه وسلم ومزيته على سائر الأنبياء فإن سؤال القبر إنما جعل تعظيما له إذ لم يجعل ذلك لنبي غيره وصح حديث: "وأما فتنة القبر فبي يفتنون وعني يسألون" وبين الحكيم الترمذي أن سؤال القبور خاص بهذه الأمة فإن قلت لم كرر الإطعام سبعة أيام دون التلقين قلت لأن مصلحة الإطعام متعدية وفائدته للميت أعلى إذ الإطعام عن الميت صدقة وهي تسن عنه إجماعا والتلقين أكثر العلماء على أنه بدعة وإن كان الأصح عندنا خلافه لمجيء الحديث به والضعيف يعمل به في الفضائل.
"وسئل" فسح الله في مدته بما لفظه ما ميت مات ولم تطلع روحه كما صح به الخبر؟ "فأجاب" بقوله المراد بذلك النطف في الأصلاب سماها الله أمواتا مع أنه لم يكن فيها روح فقال:
{وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ }.
"وسئل" أعاد الله علينا من بركاته عن ترك العيادة للمرضى يوم السبت هل له أصل؟ "فأجاب" بقوله لا أصل له بل هو بدعة قبيحة اخترعها بعض اليهود لما ألزمه الملك بقطع سبته والإتيان لمداواته فتخلص منه بقوله لا ينبغي أن يدخل على مريض يوم السبت فتركه وأما زعم بعضهم أن لذلك أصلا وهو زيارته صلى الله عليه وسلم القبور يوم السبت قال ففيه تفاؤل على موت المريض فهو في غاية السقوط إذ ليس فيه إشارة لذلك بوجه كما هو واضح فترك ذلك لذلك من باب التشاؤم والطيرة المنهي عنهما والمسلمون برآء من ذلك وليس هذا إلا كقول بعض العوام لا ينبغي أن يزار المريض يوم الاثنين لأنه صلى الله عليه وسلم مات فيه وهذا أيضا من باب التشاؤم والطيرة. نعم هنا فائدة دقيقة ينبغي التفطن لها وهي أنه رسخ في أذهان العوام أن أياما مشئومة على المريض إذا أعيد فيها فينبغي لمن علم منه اعتقاد ذلك أن لا يعاد في تلك الأيام لأن ذلك يؤذي المريض ويزيد في مرضه لما ركز في عقولهم السخيفة من التشاؤم والطيرة فيحصل بذلك ضرر كبير وقد قال صلى الله عليه وسلم:
"لا ضرر ولا ضرار" وقد تترك السنة لعوارض قوية. فإن قلت ينبغي للعالم أن يفعل ذلك إظهارا للسنة وإعلاما للناس بها ليتركوا ما في أذهانهم قلت هذا واضح إن لم يغلب عليهم الجهل والتشاؤم ويرسخ ذلك في أذهانهم حتى يعادوا بسببه العالم ويستسخروا به ويحصل له منهم منه أذى شديد أما إذا ترتب عليه ذلك فتركه أولى لأن درء المفاسد أولى من جلب المصالح.
"وسئل" فسح الله في أجله عما اعتيد من أن من عاد مريضا لا بد أن يأتي معه بشيء وإلا عيب عليه هل له أصل أو هو بدعة؟ "فأجاب" بقوله لا أصل لذلك بل هو بدعة إن

 

ج / 1 ص -432-        كان مع اعتقاده توقف العيادة على شيء يصحبه معه أما إذا انتفى هذا الاعتقاد بأن كان من أتى بشيء فهو زيادة في البر ومن لا فلا عتب عليه فذلك إحسان للمعارف أو الأصدقاء أو الأقارب وهو سنة كما هو واضح.
"وسئل" ذكر التفتازاني في شرح العقائد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن العالم والمتعلم إذا مرا على قرية فإن الله يدفع العذاب عن مقبرة تلك القرية أربعين يوما" هل لهذا الحديث أصل وهل رواه أحد من أصحاب السنن أو لا؟ "فأجاب" بقوله لم أر لهذا الحديث وجودا في كتب الحديث الجامعة المبسوطة ولا في غيرها ثم رأيت الكمال بن أبي شريف صاحب الإسعاد قال إن الحديث لا أصل له وهو موافق لما ذكرته.
"وسئل" نفع الله به عن العزاء الذي يفعلونه ببلاد اليمن قد يفعله أجنبي ويطلب الرجوع به على الورثة وقد يفعله وارث ويرجع به على بقية الورثة فما حكمه. "فأجاب" بقوله جعل الطعام للمعزين إن حمل على معصية كنياحة حرم مطلقا وإن لم يكن فيه ذلك فإن فعله أجنبي من غير إذن الورثة جاز ولم يرجع به عليهم لأنه متبرع به وكذا إذا فعله بعض الورثة من غير إذن الباقين فلا رجوع له بشيء على بقية الورثة ويحرم على وارث أو وصي جعله من التركة إذا كان في الورثة غير مكلف أو محجور عليه بسفه وإذا أوصى الميت بفعله فإن كان على وجه حرام أو مكروه لم تنفذ وصيته وإلا نفذت من الثلث إن لم تجز الورثة الزائد عليه فيفعله الوصي حينئذ والله تعالى أعلم.

باب تارك الصلاة.
"وسئل" رضي الله عنه بما صورته تارك الصلاة بشرطه لا يتحتم قتله إذا تاب اتفاقا بخلاف نحو الزاني المحصن فإن في تحتم قتله خلافا والأصح تحتمه فما الفرق بينهما. "فأجاب" بقوله الفرق أن المقتضي لقتل تارك الصلاة ليس مجرد الترك بل مع الإصرار عليه فإذا لم يصر لا نقول سقط الحد بل لم نتحقق موجبه ولا كذلك نحو الزاني المحصن لأن الفعل المجعول سببا قد تحقق فإذا وجدت التوبة ثار الخلاف نظرا إلى أنها هل تجب ما قبلها حتى في الدنيا أو يختص ذلك بالآخرة ومن زعم تحتم قتل تارك الصلاة فقد غلط غلطا فاحشا.
"وسئل" فسح الله في مدته هل يقتل بترك الصلاة المنذورة؟ "فأجاب" بقوله الأوجه من وجهين أنه لا يقتل بتركها وإن كانت مقيدة بزمان.