الفتاوى الكبرى الفقهية على مذهب الإمام الشافعي

أبواب: الغصب - العارية - الشفعة - القراض - الإقرار

ج / 3 ص -3- بسم الله الرحمن الرحيم
باب الغصب
وسئل: لو أتلف زرعا لغيره أول خروجه أو ثمرا كذلك بحيث يكون لا قيمة له أو له قيمة قليلة ولو بقي إلى وقت كماله لتضاعفت قيمته فماذا يجب عليه فيما أتلفه هل يجب عليه قيمته لو بقي إلى حالة كماله كما قال بذلك إسماعيل الحضرمي صاحب ثمرة الروضة أو الواجب غير ذلك. فأجاب: بأنه إذا أتلف ما لا قيمة له لا شيء عليه سوى التعزير أو ماله قيمة قليلة لزمه قيمته عند تلفه ولا نظر إلى أنه لو بقي إلى وقت كماله لتضاعفت قيمته؛ لأن النظر في قيمة المتلف إنما هو إلى وقت إتلافه كما صرحوا به قالوا ولا عبرة بالزيادة بعد التلف كما لا عبرة بالنقص بالكساد وما نقل عن إسماعيل الحضرمي مما يخالف ذلك اختيار له غريب أو شاذ فلا يعول عليه، والله أعلم.
وسئل: عمن أتلف زرعا لا قيمة له عند الإتلاف أو له قيمة ما حكمه. فأجاب: رضي الله تعالى عنه بأن من أتلف زرعا لا قيمة له عند الإتلاف لا شيء عليه غير التعزير كما صرح به أصحابنا حيث قالوا لا يصح بيع ما لا يتمول كحبتي بر أو زبيب ومع هذا يحرم غصب ذلك ويكفر مستحله ويجب رده فإن أتلف فلا ضمان إذ لا مالية لذلك وقضيته أن التعبير بحبتي حنطة مثال ومن ثم عبرا في التتمة والبحر بحبات حنطة وبه يعلم أن كل ما لا يعد مالا في العرف لقلته لا يضمن ولا يصح بيعه وهو ما اعتمده الزركشي قال كعشرين حبة خردل بخلاف عشرين حبة حنطة ا هـ. واعترض تمثيله بذلك بما رددته في شرح الإرشاد وأما إذا كان له قيمة قليلة فإنها تلزمه ويعزر أيضا وشرط تعزيره مطلقا أن يتعمد الإتلاف عالما بحرمته فإن قلت ما تقرر من أن نحو الحبتين من الحنطة والزبيب لا يعدان مالا معترض وإن جرى عليه الشيخان في البيع بأنهما صرحا في الإقرار بأن الزبيبة حيث يكون لها قيمة مال كذا زعمه الأسنوي لكن رده الزركشي بأن المراد ههنا أنه لا يعد مالا يتمول لا أنه لا مالية فيه أصلا واستدل لذلك بكلامهم هنا وثم وضبط الإمام المتمول بأنه الذي يقدر له أثر في النفع أو الذي يفرض له قيمة عند غلاء الأسعار والمال بخلافه هنا

 

ج / 3 ص -4- ا هـ. والذي يضمن إنما هو المتمول دون مطلق المال فإن قلت قال القفال ومن تبعه من أتلف حبتي حنطة ضمنهما قلت هذه مقالة ضعيفة والمعتمد ما مر من عدم الضمان فإن قلت يلزم على عدم الضمان عدم سماع الدعوى بذلك فكيف قلتم يعزر قلت لا يلزم ذلك بل تسمع الدعوى به؛ لأن فائدتها لا تنحصر في التغريم بل قد يكون من مقاصدها إثبات فسقه وطلب تعزيره، والله أعلم.
وسئل: في دار مشتركة بين ورثة مشاعا فقام أحد الورثة وهدم وبنى وعمر وأصلح وأدخل فيها أنقاضا من ماله كأحجار وغير ذلك بحيث تعذر تمييز الأنقاض القديمة من الأنقاض الحادثة المستجدة وزاد فيها أيضا زيادات من المنافع والسكنى بأنقاض منفردة حادثة من ماله بغير إذن شركائه فهل لهم المطالبة برفع الزيادات المنفردة المستجدة بإنقاضه أو يجبرون على إبقائها بأجرة المثل أم لا فإذا قلتم بنقضها ورفعها وتسوية أرضها فهل يلزمهم بسبب نقضها لذلك شيء أم لا وما الحكم في الأنقاض القديمة والأنقاض الحادثة المختلطة التي تعذر تمييز بعضها عن بعض إذا لم يصطلحوا على شيء. فأجاب: لبقية الورثة مطالبة المتعدي المذكور برفع بنائه ولا يجبرون على إبقائه بأجرة ولا غيرها ولا يضمنون بسبب هدمه ويلزمه تسوية الأرض بعد الهدم والأجرة من حين وضع بنائه إلى إزالته وإذا تعدى بخلط أنقاضه بأنقاض غيره التي وضع يده عليها تعديا وتعذر التمييز غرم قيمة أنقاض غيره، والله تعالى أعلم.
وسئل: سعى بآخر إلى ظالم فأخذ منه مالا هل يرجع على الساعي. فأجاب: ليس على الساعي المذكور ضمان وإنما عليه الإثم الشديد إذ السعاية من الكبائر وفي نهاية الغريب حديث الساعي متلب أي مهلك بسعايته نفسه والمسعى به وإليه، والله أعلم.
وسئل: اعتيد في جهة أن الدابة لا يرغب في استئجارها في بعض أيام الأسبوع فلو غصبت فهل تعتبر أجرة مثلها في مدة أيام الأسبوع. فأجاب: نعم يعتبر ذلك فإن المنافع كالأعيان فالقيمة فيها ذاتية وجد راغب بالفعل أم لا ومن ثم أفتى بعض شراح الإرشاد في أرض لا تؤجر قط بأنها تعتبر بأقرب البلاد إليها، والله أعلم.
وسئل: عن شخص دفع إليه ثوب وقال أحرقه أو ارمه في البحر فاستعمله ثم حرقه أو رماه فهل يضمنه. فأجاب: رضي الله تعالى عنه أبدى فيها القاضي وجهين أحدهما نعم؛ لأنه دخل في ضمانه بالاستعمال والإلقاء والثاني لا قال الأذرعي والزركشي والأول أقيس ا هـ. وعليه فالمراد بالدخول في الضمان أنه يضمن أجرته مدة استعماله أو يضمن جملته كل محتمل ولعل الثاني أقرب ولا نسلم أن الإتلاف مأذون فيه الآن؛ لأنه لما استعمله صار غاصبا له لتعديه باستعماله فيما لم يؤذن له فيه والغاصب لا يبرأ إلا بالرد ولم يحصل وأما

 

ج / 3 ص -5- فعله ما أمر به فلا يضاف حينئذ إلى الإذن؛ لأنه لما استعمله أعرض عن الإذن وصار متصرفا فيه لنفسه فلزمه بعد التصرف فيه رده إلى مالكه وإلا ضمنه والتعبير يدخل في ضمانه لا ينافي ضمان جميعه بل جعله الإلقاء سببا للضمان ظاهر في ضمان جميعه إذ لو ضمن أجرة استعماله فقط لم يكن للإلقاء دخل في الضمان مطلقا فإن قلت هو وكيل وتعديه لا يمنع تصرفه قلت ممنوع؛ لأن التوكيل في المعاصي باطل، والله أعلم.
وسئل: عمن أوصل غصنا له بشجرة غيره عدوانا فأثمر فالثمرة لمن. فأجاب بقوله: أفتى البغوي بأنها لصاحب الغصن فقط وقاضي حماة البارزي بأنها بينهما نصفين؛ لأنها حصلت من ملكها والأوجه الأول كما لو غرسه في أرض غيره عدوانا فصار شجرة فأثمر بل يلزم الثاني أنه لو أنزى فحله على شاة غيره عدوانا كان النتاج بينهما لتولده من ملكيهما ولا قائل بذلك من أصحابنا.
وسئل: رضي الله تعالى عنه عما إذا زرع أحد الشريكين في الأرض المشتركة بغير إذن شريكه فهل للشريك الآخر قلعه مجانا. فأجاب بقوله: نعم له ذلك وغلط من قال له أجرة المثل ولا يقلع مجانا؛ لأنه انتفع بماله فيه شركة وذلك؛ لأنه غاصب لنصيب شريكه فلا حرمة لما فعله.
وسئل: عمن ركب فرسا مشتركا بينه وبين غيره وأجهده في السوق فأسقطت مهرا ميتا فهل يضمنه. فأجاب بقوله: أفتى بعضهم بأنه يضمنه والأصح خلافه.
وسئل: عمن نجس ثوب آخر ولم ينقص بالغسل فهل يلزمه تطهيره. فأجاب بقوله: لا يلزمه بل ولا يجوز له بغير إذن صاحبه وإن كان لغسله مؤنة فإن طهره فنقص ضمن أرش النقص ولو رده نجسا فمؤنة التطهير عليه وكذا الأرش اللازم منه.
وسئل: عمن أخذ من الصبي شيئا لم يبرأ برده إليه مطلقا بخلاف العبد فما الفرق. فأجاب بقوله: الفرق أن العبد أهل لليد في الجملة فما احتوت عليه يده بإذن سيده كانت كيد السيد بخلاف الصبي فإن يده كلا يد إذ ما فيها عرضة إلى الضياع ولهذا جاز أخذه للرد على وليه أو الحاكم حسبة بخلاف ما بيد العبد ولا فرق بين ملبوس الصبي وغيره فيما مر.
وسئل: رضي الله تعالى عنه عمن غصب شيئا فاستأجر من يحمله فهل يستحق الأجير أجرة المثل أو المسمى. فأجاب بقوله: الذي ذكره الرافعي في الاستئجار لحج التطوع أنه يستحق أجرة المثل لا المسمى وبه صرح في البيان وقيده ابن عجيل بما إذا لم يعلم الغصب وإلا لم يستحق شيئا بل يضمنه أيضا.
وسئل: عمن غصب أرضا ولم يعتد إيجارها إلا بطعام فما الذي يلزمه. فأجاب:

 

ج / 3 ص -6- بقوله: نقل بعضهم عن جماعة من المحققين في نظيره أنه يجري على عادة البلد فيما يقوم به من طعام وغيره فإذا يلزمه من الطعام ما يستأجر به عادة وقال بعضهم إنه يلزمه قيمة ذلك الطعام الذي يستأجر به من نقد البلد ونقله عن غيره.
وسئل: عمن قطع لسان بقرة مثلا فتركها المالك بلا ذبح حتى ماتت فهل يضمن الأرش فقط كما لو ذبحها فتركها المالك حتى أنتنت. فأجاب: بأنه يضمنها في المسألة الأولى بجميع قيمتها؛ لأن التلف حصل بسرايته فهو كما لو جرح رجلا فسرى لنفسه ومات مع قدرته على مداواتها بخلافه في الثانية فإن الأرش استقر بالذبح وما حدث بعده من كون الأنفس صارت تعافها ليس من سرايته وأيضا فلحمها لم يحرم بالنتن بخلافه في الأولى فإنه حرم بواسطة فعله.
وسئل: رضي الله تعالى عنه عمن غصب عبدا فمرض عنده ثم رده مريضا فمكث في يد السيد مدة ثم زال مرضه فهل عليه أجرة مثل المدة التي كان مريضا فيها في يد السيد. فأجاب بقوله: كلام البغوي في فتاويه صريح في وجوب ذلك وهو متجه خلافا لبعض المتأخرين حيث قال لا أجرة؛ لأنه بالرد إلى المالك زال الضمان والنقص الذي قد حصل بالمرض في يده قد ضمنه بالأرش ا هـ. ويرد بأن هذا متولد من فعله فضمنه بالأجرة وإن كان ضمنه أولا بالأرش.
وسئل: عمن غصب أرضا أو اشتراها شراء فاسدا وهي تزرع برا وذرة وغيرهما فما الذي يضمنه. فأجاب بقوله: الذي يضمنه هو أجرة مثل أعلاها منفعة كما لو غصب عبدا يحسن صناعات مختلفة فإنه يضمن أعلاها.
وسئل: عمن سعى بآخر إلى السلطان فغرمه لأجل السعاية شيئا فهل يرجع به على الساعي. فأجاب بقوله: قضية قواعد مذهبنا أنه لا يرجع عليه بشيء وهو كذلك خلافا لابن عبد السلام ويفرق بينه وبين تغريم الشاهد إذا رجع بأن الشاهد ألجأ الحاكم شرعا إلى الحكم المقتضي لتغريم المشهود عليه بخلاف الساعي فإنه لم يلجئ السلطان لذلك ويفرق أيضا بينه وبين ما لو قال هذه الدار لزيد بل لعمرو بأنه ثم أحل بين عمرو وبين داره بإثباتها للأول بطريق شرعي ناقضها قوله بعد ذلك فناسب أن يغرم لتحقق حيلولته بين عمرو وبين حقه وهنا لم يتحقق منه حيلولة ولا إلجاء شرعي فلم يضمن شيئا.
وسئل: عمن أتلف ولد بهيمة فنقص لبنها فهل يلزمه أرش النقص. فأجاب بقوله: أفتى بعضهم بأنه يلزمه فتقوم لبونا تحلب كل يوم كذا وتقوم ناقصة عما كان وهو كذا فما نقص من القيمة وجب عليه غرمه.
وسئل: عمن غصب طعاما وأضاف به المالك برئ هل هو على إطلاقه. فأجاب:

 

ج / 3 ص -7- بقوله إن قدمه له على حاله أو بعد تغيره ولم تنقص قيمته فلا كلام في البراءة أو بعد أن نقصت ولم يسر للتلف ضمن نقصها وبرئ من الباقي أما إذا قدمه وقد صار ساريا للتلف فلا يبرأ بأكل المالك حينئذ كما بحثه بعضهم بناء على أن حكم ذلك حينئذ حكم التالف وهو الأصح فالضمان قد صار مستقرا في ذمة الغاصب قبل الأكل فلا يسقط به وأيضا فإن قلنا ببقائه عند صيرورته إلى هذه الحالة على ملك المالك فلا كلام أو بانتقاله إلى ملك الغاصب فقد حمله عليه ضيافته فلا يسقط به ما استقر في ذمته من الضمان.
وسئل: بما لفظه اطردت عادة أهل بلد بإجارة أراضيهم بنوع من الحبوب فغصب شخص أرضا منها فهل تلزمه الأجرة حبا أو نقدا. فأجاب بقوله: قال بعض المتأخرين المحقق عند جماعة من المحققين في نظيره أنه يجري على عادة البلد فيما تقوم به من طعام وغيره وقد يؤيده قولهم لو غلب من جنس العروض نوع كالطعام انصرف الذكر إليه عند الإطلاق في عقد البيع كالنقد فإلحاقه بالنقد في ذلك يومئ إلى إلحاقه به في غرامة المتلفات.
وسئل: عمن أكل من يد آخر طعاما وكان في الأصل مغصوبا ولم يعلم فهل يؤاخذ به في الآخرة. فأجاب بقوله: نقل الغزي عن البغوي أن المأكول منه إن كان معروفا بالصلاح لم يؤاخذ به الآكل وإلا أوخذ به ثم قال الغزي وأظنه لا يوافق عليه أي بل لا يؤاخذ به مطلقا لعدم العلم وقد يقال مقتضى المطالبة بما يتلفه ناسيا أو جاهلا المطالبة هنا مطلقا؛ لأن هذا من باب خطاب الوضع فليست مطالبته بفعل حرام بل بإتلاف ماله وإن كان جاهلا.
وسئل: عن شخص غصب عينا مثلية وأتلفها وقلتم يضمن مثلها وإن أعوزه ووجده بأكثر ضمنها بقيمة المثل وقت المحاكمة والتأدية وإن لم يكن لها مثل ضمنها بقيمتها أكثر ما كانت من حين الغصب إلى حين التلف مفهوم ذلك أنه إذا كان أكثر القيمة ما بين الغصب والتلف دون ثمن المثل فله قبوله بينوا لنا صورة الأقل والأكثر في القيمة في المدة وأوضحوا ذلك مفصلا. فأجاب بقوله: الحاصل في هذه المسألة أن من غصب عينا مثلية وأتلفها يلزمه مثلها فإن فقده أو وجده بزيادة على ثمن مثله لزمه أقصى قيمة من وقت الغصب إلى وقت فقد المثل فلو كان وقت الغصب يساوي مائة ووقت الفقد يساوي مائتين وفيما بين الوقتين يساوي ألفا لزمه الألف وقس على ذلك وأما المتقوم فيضمن بأقصى قيمة من الغصب إلى التلف، والله أعلم.
وسئل: عمن شغل بقعة من المسجد بمتاع له فهل يحرم عليه وتلزمه أجرة المثل. فأجاب بقوله: نقل النووي رحمه الله في فتاويه عن الغزالي أنه تلزمه أجرة البقعة ما لم يغلق باب المسجد وإلا لزمه أجرة جميعه ثم قال وهذا صحيح معتبر وتصرف الأجرة في مصالح

 

ج / 3 ص -8- المسجد وظاهر حرمة ذلك وإن لم يضيق على المصلين.
وسئل: رضي الله تعالى عنه بما صورته قالوا لو غصب خشبة وأدرجها في سفينة لم تقلع منها في اللجة إن خشي تلف نفس أو مال محترم ما المراد بالمحترم. فأجاب بقوله: المراد بالمحترم في غير هذا الباب ما حرم قتله أو إتلافه ويحتمل إلحاق هذا الباب بغيره ويحتمل خلافه والذي يتجه أن يقال إن خشي إتلاف نفس اشترط أن لا تكون محترمة كحربي ومرتد وزان محصن وإن خشي إتلاف مال فإن كان حيوانا فهو محترم وإن كان لغير محترم وإن كان غيره فقد صرحوا بأن مال الحربي غير محترم ويحتمل إلحاق المرتد به لقول بعضهم كنفس الحربي وماله فأتي بالكاف الدالة غالبا على عدم الحصر في مدخولها ويحتمل الفرق بأن مال المرتد لبيت المال إن مات مرتدا وإلا فهو له وأيضا من استولى عليه لا يملك شيئا منه بخلاف مال الحربي وأيضا فالحربي إذا مات على حرابته انتقل لوارثه الحربي وهو غير معصوم بخلاف المرتد فإنه إذا مات على حالته انتقل للمسلمين فلهم حق متأكد في ماله بخلاف مال الحربي.
وسئل: عمن خلط المغصوب وصار غير متميز فهل يملكه أو لا. فأجاب بقوله: إذا خلطه بما لا يتميز عنه ملكه سواء أكان من جنسه أو غيره وسواء أكان ما خلطه به له أو لمالك آخر هذا هو المعتمد مذهبا ولا يكلف المالك أن يأخذ من المختلط بغير جنسه مطلقا بخلاف المختلط بجنسه فإنه يجبر على أخذ بعض المختلط بالأجود أو المثل لا الأردأ وظاهر كلامهم أن الغاصب يجوز له التصرف بنفس الخلط سواء أعطى المالك البدل أو لا ويؤيده قولهم أن الحق انتقل بالخلط إلى ذمته لكن لو قيل إنه يحرم عليه التصرف قبل رد البدل وأنه لا ينفذ منه لم يبعد قياسا على الورثة حيث يحرم عليهم التصرف في تركة مورثهم إذا كان مدينا مع أنها ملكهم والدين في ذمة مورثهم ولو بعد الموت رعاية لصاحب الدين ولا يقال إن التركة مرهونة بالدين شرعا بخلاف هذا؛ لأنا نقول والعين المختلفة بما يجبر على القبول منها ينبغي أن تكون مرهونة بحق المالك كذلك رعاية لحقه.
وسئل: هل تجب إراقة الخمر الغير المحترمة وإن قصد صاحبها التخلل وما هي. فأجاب بقوله: الأوجه أنها التي عصرت بقصد الخمرية وحينئذ فتجب إراقتها فورا ولا يجاب للحيلولة بينه وبينها إلى التخلل نعم إن قصد قبل تخمرها اتخاذها للخلية لم تجب إراقتها؛ لأنه أبطل النية الأولى بالنية الثانية.
وسئل: رضي الله تعالى عنه عن قول الإرشاد وضمن آخذ من غاصب لا بنكاح وفي شرح المنهاج في باب الغصب لو زوج الغاصب الأمة المغصوبة ففاتت منافعها تحت يد الزوج فغرمها رجع بها على الغاصب وإذا ماتت عنده وغرم قيمتها رجع بها ا هـ. وهذا

 

ج / 3 ص -9- يناقض ما اقتضته عبارة الإرشاد من عدم الضمان فتأملوا الجمع بينهما بأي شيء أثابكم الله. فأجاب بقوله: لا تنافي بين عبارة الإرشاد وعبارة شرح المنهاج المذكورة بل هما متحدتان مفادهما واحد كما يفهمه قول الإرشاد عقب لا بنكاح ورجع الخ. إذ معنى لا بنكاح أن من تزوج المغصوبة من الغاصب جاهلا فتلفت عنده لا يطالب بقيمتها؛ لأن الزوجة من حيث هي زوجة لا تدخل تحت اليد نعم قال الزركشي ينبغي تخصيصه بما إذا تلف بغير الولادة وإلا فيضمنها كما لو أولد أمة غيره بشبهة وماتت بالولادة فإنه يضمنها كما قالوه ا هـ. وفيه شيء بينته في شرح الإرشاد وإذا علم أن الغاصب لا يضمن قيمتها لو تلف عنده فلو غرمها له المالك رجع بها على الغاصب كما أفاد قول الإرشاد ورجع الخ. وكذا منافعها الفائتة في يد الزوج من غير فعله لا يضمنها لما تقرر أن الزوجة من حيث هي زوجة لا تدخل تحت اليد فإذا غرمه المالك إياها رجع بها على الغاصب كما يفيده قول الإرشاد ورجع الخ. بخلاف ما لو غرمه مهر وطئه أو أجرة المنافع التي استخدمها فيها فإنه لا يرجع به؛ لأنه شرع في العقد على أن يضمن المهر ولأن الغاصب لم يسلطه بالتزويج على الاستخدام فظهر لمن له أدنى تأمل أن لا تخالف بين العبارتين بوجه وأن توهم المخالفة بينهما إنما نشأت عن الغفلة عن معنى قوله لا بنكاح وعن قوله عقبه ورجع الخ.
وسئل: عمن غصب عبدا يعرف صنعة فنسيها وقلنا يغرم قيمة هذا الوصف من المصدق في النسيان لو تذكر فادعى الغاصب أنه متذكر فلا عليه غرم والمالك أنه متعلم فالغرم من المصدق منهما هذا على قول الفرق بين التذكر والتعلم. فأجاب بقوله: الذي دل عليه كلامهم أن الغاصب هنا هو المصدق؛ لأن المالك يدعي عليه إحسان قنه لحرفة فأتت في يده فلزمه قيمتها والغاصب يدعي بقاء تلك الحرفة أو عدمها من أصلها فلا يلزمه شيء والأصل براءة ذمته مما يدعيه عليه المالك حتى يثبت موجبه وأيضا فإن اتفقا على وجود تلك الحرفة واختلفا في النسيان فالأصل دوامه وإن لم يتفقا على وجودها بأن اختلفا فيه فالأصل عدمها وكل من هذين الأصلين مساعد لأصل براءة ذمة الغاصب فقوي جانبه باعتضاد دعوانا أصل براءة الذمة مع أصل الدوام في الأولى أو أصل العدم في الثانية ومما يشهد لتصديقه قولهم لو اختلفا في كون المغصوب كاتبا أو محترفا صدق الغاصب بيمينه؛ لأن الأصل براءة ذمته وعدم ما ادعاه المالك وقولهم لو رد الغاصب المغصوب أعمى مثلا وقال هكذا غصبته وقال المالك بل حدث عنده صدق الغاصب بيمينه؛ لأن الأصل براءة ذمته عما يزيد على تلك الصفة فتأمل هذا كالذي قبله تجده صريحا في تصديق الغاصب في صورة السؤال والمعتمد الذي صرح به الشيخان وغيرهما. أن تعلم الصنعة كتذكرها وعلى الفرق بينهما الذي ذكره السائل فالمصدق فيما ذكره الغاصب أيضا كما علم مما قررته على الأصح في صورة اختلافهما في النسيان.

 

ج / 3 ص -10-          وسئل: عن مغصوب تحقق جهل مالكه هل هو حرام محض أو شبهة وهل يحل التصرف فيه كاللقطة أو كغيرها. فأجاب بقوله: لا يحل التصرف فيه ما دام مالكه مرجو الوجود بل يوضع عند قاض أمين إن وجد وإلا فعالم كذلك فإن أيس من معرفة مالكه صار من جملة أموال بيت المال كما في شرح المهذب فإنه قال ما ملخصه من معه مال حرام وأيس من معرفة مالكه وليس له وارث فينبغي أن يصرفه في المصالح العامة كالقناطر والمساجد وإلا فيتصدق به على فقير أو فقراء. ويتولى صرفه القاضي إن كان عفيفا وإلا حرم التسليم إليه وضمنه المسلم بل ينبغي أن يحكم رجلا من أهل البلد دينا عالما فإن فقد تولاه بنفسه وأخذ الفقير للمدفوع إليه حلال طيب وله أن يتصدق به على نفسه وعياله إن كانوا فقراء والوصف موجود فيهم بل هم أولى من يتصدق عليهم وله أن يأخذ منه قدر حاجته؛ لأنه أيضا فقير كذا ذكره الأصحاب ونقل عن معاوية وأحمد والحارث المحاسبي وغيرهم من أهل الورع؛ لأنه لا يجوز إتلاف المال ولا رميه في البحر فلم يبق إلا مصالح المسلمين ا هـ. وقد سبقه إليه الغزالي في الإحياء وغيره هذا في الحرام المحض كما تقرر أما ما لم يتحقق فيه ذلك فهو شبهة والاشتراء منه مكروه وإن غلب الحرام كما في شرح المهذب وقال الغزالي حرام قيل ويستثنى من الأول ما قاله الشيخ عز الدين من أنه لو اختلط ثوب مباح بنحو ألف ثوب مغصوب فيجب الجزم بتحريم الشراء؛ لأن المباح مغمور تافه بالنسبة إلى الحرام ويؤيده قولهم في باب الصيد لو اختلط حمام مملوك غير محصور بحمام مباح محصور حرم الاصطياد منه ا هـ. وما مر من وضع ما لم ييأس من مالكه في يد من مر هو قضية كلام الأصحاب وصرح به الأذرعي وقول ابن الصلاح في كتب المسلمين التي بيد الفرنج هل يحل شراؤها أن استنقاذها حسن ثم لا يجوز القراءة والانتفاع بها حالا والظاهر أنها إذا عرفها سنة جاز تملكها كاللقطة مردود وممن رده الأذرعي فقال في توسطه الأقرب أنه لا يلحق باللقطة بل يحفظ إلى اليأس من العثور على مالكه ثم يصنع به ما يصنع بالمال الضائع أي يصرفه في المصالح عند اليأس من معرفة مالكه.
وسئل: عن أرض لا تؤجر قط فماذا يلزم غاصبها. فأجاب بقوله: أفتى بعضهم بأنه تجب أجرة أقرب الأراضي إليها وهو محتمل منقاس ويقاس به غيره.
وسئل: عن دار مشتركة بين أخوين فسكنا فيها ولم يستأجر أحدهما من الآخر ولا استعار ولا استباح لكن أحدهما وحده والآخر له عيال فهل لكل الرجوع على الآخر أو لا. فأجاب بقوله: نعم لكل منهما مطالبة الآخر بأجرة سكناه في نصيبه بأجرة المثل بقسطه على قدر السكان.
وسئل: رضي الله تعالى عنه عما إذا اختلط المغصوب أو المنهوب بغيره من المملوك اختلاط امتزاج بحيث لا يمكن تمييزه كزيت وحنطة بيضاء بمثلها فهل يملكه الغاصب

 

ج / 3 ص -11-          بمجرد ذلك وكيف يمكن القول بذلك مع تعديه. فأجاب بقوله: هذه المسألة لم تزل معروفة بالإشكال قديما وحديثا ولكن الذي صححه الشيخان أن المغصوب كالهالك حتى يتمكن الغاصب من إعطائه قدر حقه من غير المختلط ولنا قول أنهما يشتركان ونصره جمع فيرجع في قدر حقه من نفس المخلوط نفسه ووجه بأن خلط بالمثل اشتركا أو بالأجود أو الأردأ فكالهالك والمعتمد أنه كالهالك مطلقا وانتصر جماعة للقول بالاشتراك بالقياس على ما لو سالت صبرة أحدهما على صبرة الآخر وفرق السبكي بأنه ليس هناك تصرف مكلف بحال الضمان عليه بخلافه هنا فالضرورة هنا لم تدع إلى الاشتراك وأجاب صاحب الذخائر عن أشكال هذه المسألة بما حاصله مع الإيضاح أنه لما تعذر وصول المالك لعين حقه بسبب خلط الغاصب المقتضي لضمانه جعل المخلوط كالتالف وجعل شغل ذمته بالغرم وتمكين المالك من أخذه حالا مقتضيا لملك الغاصب بخلاف المغصوب منه إذ لم يتصرف في ملك الغاصب حتى يضمنه فيدخل في ملكه بالتعذر المذكور وتعدي الغاصب لا يقتضي جعل عين ماله مملوكا للمغصوب منه مجانا إذ الظالم لا يظلم بل ينتصف منه والعبد المغصوب إذا أبق مرجو العود فلم يتعذر رده بإباقه فتوجه فيه ضمان القيمة للحيلولة بخلاف ما نحن فيه لتعذر رده مطلقا فالواجب فيه يكون للفيصولة وقد قال جمع وإن كان المعتمد خلافه إن اختلط تمر البائع بتمر المشتري يفسخ البيع لتعذر التسليم المستحق فإذا جعلوا الملك في المبيع منتقلا للبائع بسبب تعذر التسليم وإن لم يكن الخلط من فعله فكذلك هنا وعلى الراجح لو أراد القسمة بحسب القيمتين امتنع للربا ورجح السبكي قول الشركة وفرع عليه ما مر وأطال في الانتصار له وأن قول الهلاك باطل لكن أطال الزركشي وغيره في الرد عليه وأنه ناقض نفسه وكيف يكون باطلا وهو موجود في المذاهب الأربعة قال بعضهم والحاصل أنه لا يخلو قول من الأقوال في هذه المسألة من محذور وأن القول بالهلاك يندفع محذوره بما قاله الزركشي في شرح المنهاج وابن المقري في تمشيته من أنا وإن قلنا بملك الغاصب ذلك فإنه يمنع من التصرف فيه حتى يعطي المغصوب منه ما وجب له؛ لأن له حق الحبس فيما ملكه إياه بعوض ورضي فكيف إذا ملكه بغير رضاه قيل وهو حسن وإن كان ظاهر كلام الأصحاب خلافه ويظهر أن محله إذا كان موسرا قال السبكي وقد يتوهم من فرض المسألة في الزيت والحنطة اختصاصها بالمثلي وليس كذلك بل خلط المتقوم كذلك ثم حكى عن ابن الصباغ وغيره أنهم جزموا بأن قول الهلاك لا يأتي في خلط الدراهم بمثلها ووجهه بأن كل درهم متميز في نفسه وإن لم يتميز لنا وليس كالزيت فإنه يحصل له بالاختلاط حقيقة أخرى ورد بأن ما ذكر لا يأتي في خلط القمح بمثله لتميز كل حبة
في نفسها ومقتضى كلام الشيخين أن الدراهم كالحنطة فيما مر فيأتي فيها ما تقدم أيضا من كلام الزركشي وابن المقري ولو غصب من اثنين زيتا ثم خلطه. قال السراج البلقيني: فالمعروف عند الشافعية أن الغاصب لا يملك شيئا من ذلك ولا يكون كالهالك لكن حكى صاحب

 

ج / 3 ص -12-          البحر وجهين فيما إذا غصب دراهم من اثنين وخلطها أحدهما تقسم بينهما والثاني يتخيران بين القسمة والمطالبة بالمثل ا هـ. وفي فتاوى النووي رحمه الله ورضي عنه إذا أخذ المكاس من إنسان دراهم فخلطها بدراهم المكس ثم رد عليه قدر دراهمه من ذلك المختلط لا يحل له إلا أن يقسم بينه وبين الذي أخذت منه وهو يرجح الوجه الأول من وجهي البحر ورجح الشيخان أيضا أنه لو حدث في المغصوب ما يسري للتلف كبل الحنطة وتعفنها وجعلها هريسة وغصب تمر ودقيق وسمن وجعله عصيدة فهو كالهالك ويغرم بدل كل مغصوب مما ذكر من مثل أو قيمة وقيل يرده مع أرش النقص وقيل يتخير المالك بين موجب القولين واستحسنه في الشرح الصغير واختاره السبكي وقيل يتخير الغاصب بين إمساكه وغرم بدله ورده مع أرش النقص وعلى الأول فهل المغصوب لمالكه أو للغاصب فيه وجهان وجه الأول القياس على ما لو قتل شاة فإن المالك يكون أحق بجلدها مع قيمتها ووجه الثاني أن الغاصب غرم له ما يقوم مقام التالف من كل وجه فالأول لا وجه له كما قاله المتولي ومن ثم صحح الثاني وقال ابن الرفعة إنه مقتضى كلام الإمام فإنه استبعد مقابله وفارق مسألة الشاة ببقاء المالية هنا وقول الزركشي النظائر تقتضي ترجيح الأول فيه نظر ولا فرق على الثاني بين أن يكون للحنطة والهريسة مالية أم لا وعلى الثاني فهل يأتي هنا ما مر من أنه لا يحل للغاصب التصرف حتى يغرم البدل أو يفرق بأن منعه هنا يؤدي إلى إتلاف مال بخلافه ثم فإن التأخير ليس فيه إتلاف له محل نظر والثاني منقدح إن لم يجد قاضيا يقوم مقام المالك أو كان معسرا كما مر ولو غصب خشبا وأحرقه فالرماد كالهريسة فيما مر، والله أعلم.
وسئل: رضي الله تعالى عنه بما لفظه الحمد لله وحده أسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن يمن ويتفضل علينا وعلى المسلمين بطول حياة سيدنا ومولانا وعمدتنا وعدتنا وملاذنا وسيدنا وبركتنا وشيخنا وأستاذنا شيخ مشايخ الإسلام عمدة الأنام من إليه المرجع وعليه المعول شهاب الدين أحمد بن حجر حفظه الله وأطال بقاءه لنا وللمسلمين وبعد فتفضلوا بوضع جوابكم الشافي الوافي لا زلتم أهلا وملاذا لحل المشكلات ورفع المعضلات على إشكال في مسألة ذكرها في العباب في الغصب في فرع كما أن ذلك غير خاف على شيخنا حيث قال فرع لو غصب حنطة قيمتها خمسون فطحنها فعادت عشرين فخبزها فبلغت خمسين ثم تلفت ضمن ثمانين بسبب نقص الطحن ولا عبرة بزيادة قيمة الخبز كأن نسي العبد الحرفة وتعلم أخرى ا هـ. ما في العباب ونقل هذا في التجريد عن القاضي حسين وكذلك في أدب القضاء للغزي وتبعه الشيخ زكريا في مختصره ونقلها في الجواهر وكذلك موسى بن الزين في كوكبه وكلهم ساكتون عنها مع أنها مشكلة على القاعدة في أن المثلي إذا تغير من حالة إلى أخرى ضمنه الغاصب بالأغبط منهما ففي التمشية والأنوار أنه إذا غصب حنطة وطحنها ثم خبزها فللمالك الأغبط فإن قلت في تصوير العباب زيادة وهي

 

ج / 3 ص -13-          نقصان القيمة ثم عودها قلنا القاعدة أن المثلي لا يتغير ضمانه بنقص القيمة اللهم إلا أن يقال هذا إن لم يصر متقوما كما في العباب أو يقال إن الفرع الذي في العباب معروف للقاضي الحسين وقد عرف من الروضة أن طريقة القاضي أن المثلي يضمن بالقيمة الجواب لا عدمكم المسلمون ولا أخلى الوجود منكم وهدى بكم كل ضال آمين.
سؤال آخر: ذكر في الإرشاد تبعا للشيخين أن زوج المغصوبة إذا كان جاهلا وتلفت عنده لا يضمن لا طريقا ولا قرارا وصرح به في الروض وأقره عليه الشيخ زكريا في شرحه عليه وكذلك في العباب كل ذلك في أول الباب وفي آخره ذكر في الروضة إذا غرم قيمتها يرجع بها على الغاصب وكذا أجرة المدة التي لم يستخدمها فيها وجريا في الروضة والعباب على الأجرة وسكتا عن القيمة ولم يظهر بينهما فرق والذي في آخر الباب يشكل على الذي في أوله فما الظاهر ما ذكر أولا أو آخرا أو كل منهما مقرر وعليه فما الفرق. الجواب: ما في العباب هو المنقول المعتمد ولا يخالف ما ذكروه في المثلي؛ لأن هذا من صور ما إذا صار المثلي متقوما؛ لأن العبرة في ذلك بالآخر وهو باعتباره كذلك وحينئذ فلا نظر لكونه صار مثليا ثم متقوما وقد صرحوا في هذا القسم بأنه يجب المثل إلا أن يكون المتقوم أكثر قيمة فتجب قيمته فعلم وجوب الثمانين هنا؛ لأنها الأغبط وإن اختلف سبب وجوبها أما الخمسون فلأنها القيمة حين التلف وأما الثلاثون فلأنها أرش جنايته على المغصوب بطحنه الذي نقصت به قيمته وقاعدة الباب أن ما ضمنه بجنايته لا يعود بفعله فيه ما ساوى قيمة أرش تلك الجناية ومن ثم شبه القاضي هذه بما إذا غصب عبدا يعرف حرفة تزيد بها قيمته فنسيها عنده فإنه يضمن أرش نقصها وإن علمه حرفة أخرى تساويها أو تزيد عليها؛ لأن فعله في المغصوب ولو بما يزيد فيه غير محترم فلا يقابل بمال ومن ثم قال في أصل الروضة لو نسي صنعة وتعلم أخرى أو أبطل صنعة الحلي وأحدث أخرى فلا انجبار بحال وعلى هذا لو تكرر النقص وكان الناقص في كل مرة مغايرا للناقص في المرة الأخرى ضمن الجميع حتى لو غصب جارية قيمتها مائة فسمنت وبلغت ألفا وتعلمت صنعة فبلغت ألفين ثم هزلت ونسيت الصنعة وعادت قيمتها مائة يردها ويغرم ألفا وتسعمائة ا هـ. وبه كالذي قبله يعلم أن محل قولهم المثلي لا يتغير ضمانه بنقص القيمة حيث كان النقص لمجرد الرخص أما إذا كان من فعله فضمنه وإن انجبر وزاد من فعله أو غير فعله كما تقرر وبهذا يجاب عن قول السائل نفع الله بعلومه فإن قلت الخ. وذلك؛ لأن إطلاق نقص القيمة في إشكاله وجوابه غير معول عليه وإنما النقص الذي يضمن ما كان عن فعله عاد أم لا بل وكذا إن لم يكن عن فعله لما تقرر في النسيان عنده والذي لا يضمن هو ما كان عن الرخص فقط ورد العين كما هي وحينئذ فالجواب لا يلاقي السؤال؛ لأن النقص الذي في عبارة العباب مما يضمن وحينئذ فقول السائل ثم عودها يوهم ارتفاع هذا النقص بعود القيمة للخمسين وليس كذلك لما تقرر من

 

ج / 3 ص -14-          وجوب الثلاثين مطلقا ومن وجوب قيمة الصنعة الفائتة وإن خلفتها صنعة أخرى أزيد قيمة منها والنقص الذي في جوابه وهو قوله لا يتغير ضمانه بنقص القيمة مما لا يضمن كما هو واضح مما قررته
فليتأمل وقوله اللهم الخ. جوابه أن صيرورته متقوما لا دخل لها في وجوب أرش النقص الذي يضمن لما تقرر من وجوبه وإن عاد ما يجبره ورد المتقوم كالعبد به لإلغاء فعل الغاصب والزيادة في يده فلم يتجبر بهما نقص ضمنه وقوله أو يقال إن الفرع الخ. جوابه إن كلام القاضي في هذا الفرع ماش على كلام الأصحاب فلا يؤثر فيه أن له رأيا يخالف كلامهم في المثلي على أنه لا يخالفه من كل وجه كما ستعلمه نعم يشكل على كلامه أن مقتضى كلامهم في المثلي أنه في صورة القاضي يرد مثل الحنطة والثلاثين التي هي أرش جنايته أما الأول فلأنهم في صورة ما إذا صار المثلي متقوما أوجبوا المثل حيث لم يكن المتقوم أغبط وهنا ليس الخبر أغبط من الحنطة؛ لأن قيمتها خمسون وقيمته خمسون فهما متساويان فلا أغبط وحيث لا أغبط تعين المثل فإيجاب القاضي القيمة وهي خمسون مخالف لكلامهم وأما الثلاثون فلأنها أرش جنايته فلتجب وإن رد المثل فإن قلت في الروضة عن القاضي فيما إذا غصب حنطة ثم طحنها ثم جعلها خبزا وأتلفه وقلنا لا مثل للدقيق أنه يغرم أكثر القيم ولا يطالب بالمثل أي؛ لأنه تلف وهو متقوم كما علله به بعضهم وكلامه السابق إنما يأتي على هذا لأنه لما تلف وهو متقوم وجبت الخمسون مع الثلاثين وكلامه هذا ضعيف فكيف سكتوا عليه قلت ليس كلامه هذا ضعيفا من كل وجه بل هو موافق لقولهم لو صار المثلي متقوما وجب المثل إلا أن يكون المتقوم أكثر قيمة إلا في صورة ما لو كانت قيمة الحنطة في صورة الروضة أكثر فعند القاضي تجب قيمتها وعلى الأصح يجب مثلها وليست هذه الصورة نظيرة لصورتنا فلا يضرنا ضعف كلامه فيها وما لو ساوت قيمتها قيمة الخبز فعلى الأصح يجب مثل الحنطة وقضية كلام القاضي وجوب القيمة نظرا للتعليل السابق وهو كونه ينظر إلى حاله وقت تلفه أي فيما إذا ساوت القيمة أو زادت قيمته متقوما وكذا لو زادت مثليا ويوجه اعتباره القيمة في هذه بيوم التلف بأنه يعتبره فيها بالنسبة لأصل وجوب القيمة وإذا اعتبرت القيمة وجب النظر لأكثر أحوالها وإذا تقرر هذا فكلام القاضي في فرع الجواهر وغيرها إنما يوافق رأيه في صورة الروضة ولك أن تقول يمكن تخريجه على الأصح أيضا كما أشرت إليه بقولي أولا؛ لأنها الأغبط وإن اختلف سبب وجوبها وإيضاحه أن الثلاثين لما كانت مقابلة لنقص أجزاء العين وجب ضمها إليها فصارت مساوية لثمانين لا لخمسين والثمانون أغبط من قيمة الحنطة فوجبت حتى على الأصح وحينئذ يؤخذ من هذا تقييد قولهم حيث لا أغبط في صورة إذا صار المثلي متقوما يجب المثل ما لم يكن الغاصب ضمن جزءا من المثل إذا ضم أرشه إلى قيمة المتقوم صار أغبط فتجب القيمة هنا نظرا لما قررته من وجوب تبعية الأرش للعين؛ لأنه بدل جزئها ومع هذا لا يخلو كلام القاضي عن نظر ونقد

 

ج / 3 ص -15-          وإن أقره عليه في فرع القمولي وضعفوا كلامه في فرع الروضة إلا أن وجه تقريرهم يقر به ما ذكرته فتأمله هذا ما يتعلق بالمسألة الأولى، وأما الثانية فلا تخالف فيها في كلامهم؛ لأنهم بينوا أول الباب أن يد الزوج ليست يد ضمان بالنسبة للقيمة وفي آخره أن الأجرة فيها تفصيل فإن فوت المنافع لزمته أجرتها وإلا فلا وإنما الذي يشكل من ذلك قول الروضة أنه إذا غرم قيمتها يرجع بها على الغاصب فإن هذا يقتضي أنه طريق في الضمان وليس كذلك ولأجل هذا الإيهام حذفه الروض لكن الجواب عنه أنه علم من كلامه أنه غير طريق فوجب حمل قوله إذا غرم قيمتها على ما إذا أداها للمالك ظنا أنها تلزمه، ثم علم أنها لا تلزمه فله الرجوع بها عليه لتبين فساد الأداء إذ لا عبرة بالظن البين خطؤه، والله سبحانه أعلم.

باب العارية
وسئل: حيث اقتضى الحال أن المعير يتملك بالقيمة هل يدخل في ملكه قهرا من غير لفظ أم لا بد من لفظ فإن قلتم لا بد فهل يشترط العلم بالقيمة حال التملك أم لا وهل يكتفي باللفظ قبل تسليم القيمة أو لا بد من تسليمها أو رضا المستعير بذمته. فأجاب بقوله: إن الذي ذكره الرافعي في العزيز نقلا عن التهذيب صريح في أنه لا يدخل في ملك المعير قهرا وأنه لا بد من عقد وعبارته بعد أن حكى الخلاف في المسألة وليس له التملك إلا بإذن المستعير؛ لأنه بيع أو إجارة ا هـ. وعبارة التهذيب بعد أن ذكر أنه يخير بين القلع مجانا والأخذ بالقيمة أو الإبقاء بالأجرة فإن أراد القلع لا يحتاج إلى إذن المستعير وإن أراد التملك بالقيمة أو التقرير بالأجرة يحتاج إلى إذنه؛ لأنه بيع أو إجارة وربما يريد المستعير نقله انتهت وحاصلها أنه لا يستقل بالتملك أو بالإبقاء بالأجرة بخلاف القلع؛ لأن في التملك إخراج ملكه عنه وفي الإبقاء بالأجرة إلزام ذمته مالا وهو قد لا يريد ذلك بل يريد القلع واعتمد الأسنوي وغيره ما ذكر وحينئذ فإذا اختار المعير التملك أو الإبقاء بالأجرة فإن رضي المستعير قلنا لهما لا بد من إنشاء عقد بيع في الأول أو إجارة في الثاني وإن لم يرض المستعير بواحد منهما كلف تفريغ الأرض، وأما إذا امتنع المعير من التخيير والمستعير من بذل الأجرة وقد طلبها المعير فإنهما يهملان إلى أن يختار المعير ما له اختياره أو يبذل له المستعير الأجرة ويرضى فإن قلت ما الفرق بين هذا والتملك بالشفعة حيث لم يتعين فيه اللفظ؛ لأنه يحصل بعد رؤية الشقص وعلم الثمن. أما بنحو تملكت بالشفعة مع قبض المشتري عوض ما سلمه للبائع قبضا كقبض المبيع، وإما بأن يرضى المشتري بذمته حيث لا ربا وإن لم يتسلم الشقص، وإما بأن يتملك عند القاضي ويحكم له بالشفعة وإن لم يسلم الثمن قلت الفرق بينهما إن دفع الضرر الذي هو سبب الأخذ بالشفعة لا طريق له سوى

 

ج / 3 ص -16-          تملك الشقص المذكور فلذلك كان التملك فيها قهريا بخلاف الضرر في مسألتنا فإنه يندفع بالقلع أو بالتبقية بالأجرة كما يندفع بالتملك فلم يكن قهريا وإذا بان أنه غير قهري بان اتضاح توقفه على رضا المستعير؛ لأنه قد يريد دفع الضرر بغيره وهو القلع وإذا توقف رضاه ورضي احتيج إلى ناقل له عن ملكه إلى ملك المعير ولا يكون ذلك إلا بعقد فلذلك اشترط هنا وبما تقرر علم أنه لا بد من معرفة المعير والمستعير بالقيمة أو أجرة المثل حتى يقع عقد البيع أو الإجارة بعوض معلوم وأنهما حيث عرفا القيمة أو الأجرة وعقدا بها في الذمة صح ولا يشترط تسليمها لصحة العقد بل يصح وإن لم يسلمها، ثم يطالب المستعير المعير في الأولى وعكسه في الثانية فإن تنازعا في البداءة بالتسليم يأتي فيهما ما في المتبايعين وإن امتنع المستعير من العقد بالقيمة في الذمة وأبي إلا أن يقع العقد على عينها فإن وافقه المعير فذاك وإلا أعرض الحاكم عنهما فيما يظهر نظير ما مر، والله أعلم بالصواب.
وسئل: رضي الله تعالى عنه عن مسألة الفقيه أحمد بن موسى بن عجيل اليمني في فتواه أنه إذا كانت بهيمة بين اثنين ينتفع بها أحدهما برضا من صاحبه فتلفت في يده وجب عليه ضمان نصيب الآخر؛ لأن ذلك عارية وكذا ولدها حكمه حكم ولد المستعار فإن كان ثم مهايأة كان حكمه في يد هذا ويد هذا حكم العين المستأجرة فلا ضمان ما صورة المسألة والسبب الموجب لضمان نصيب الآخر وما صورة المهايأة المذكورة في السؤال. فأجاب بقوله: ما ذكر عن ابن عجيل من ضمان نصيب الآخر؛ لأنه عارية ومن أن ولدها كولد المستعار صحيح وحكم ولد العارية أنه إن حدث بيد المستعير كان أمانة شرعية وكذا لو ساقها فتبعها ولدها الذي ولدته قبل العارية وعلم به المالك فسكت فيكون تحت يده أمانة شرعية أيضا فإن تلف بتقصيره ضمنه وإلا فلا وما ذكره في مسألة المهايأة مبني على أن المهايأة هل هي إجارة أو عارية فيه خلاف وقضية تجويزهم الرجوع فيها أنها عارية وقضية قولهم لو تهايئا فرجع السابق بعد أن استوفى المنفعة لزمه لصاحبه أجرة مثل المنفعة التي استوفاها أنها إجارة والذي يظهر ترجيحه أنه لا يطلق القول بأنها إجارة محضة ولا عارية محضة بل فيها شائبة من كل منهما لكن شائبة الإجارة أظهر؛ لأن وضعها استيفاء منفعة في مقابلة منفعة إذ صورتها أن تكون بين اثنين مثلا عين مشتركة فيتفقان على قسمة منافعها مياومة أو مشاهرة أو مسانهة بأن تكون عند أحدهما زمنا معينا وعند الآخر زمنا كذلك فإذا تراضيا على ذلك جاز وكان في معنى الإجارة؛ لأن المنافع المستوفاة ضمنا لم تكن في غير مقابل وإنما منافع كل مقابلة لمنافع الآخر وهذا شأن الإجارة ووضعها دون العارية فظهر أن المغلب فيها معنى الإجارة وإذا غلب فيها ذلك كان حكم ما في يد أحدهما مدة المهايأة حكم المؤجرة وهو الأمانة فمن تلف عنده منهما بغير تفريط لا يضمنها فظهر بما قررته صحة ما قاله الإمام ابن عجيل أعاد الله علينا من بركاته وصالح معاملاته، والله أعلم.

 

ج / 3 ص -17-          وسئل: رضي الله عنه في شخص قال لجماعة أعينوني بأثواركم بكرة للحرث والعادة أن معير الأثوار يحرث عليها بنفسه أو أجيره أو عبده فسرحوا معه بكرة فأحد الجماعة يحرث على ثوريه بنفسه والثاني حرث على ثوريه عبده والثالث أجيره والرابع مشترك هو وآخر في الثورين وآلة الحراثة وفي أجرة الأجير كذلك فأمر الأجير يحرث عليهما في حول المستعير بغير إذن شريكه فحرثوا إلى نحو ربع النهار فجاء متلصصون أخذوا بعض الأثوار وأتلفوا البعض وقتلوا الحراثين جميعا وأخذوا آلة الحراثة والدواب التي تحملها ما الحكم. فأجاب: رضي الله تعالى عنه الحكم في صورة الأثوار أن على الآمر لمالكها بإعانته بها في أرضه ضمانها وضمان جميع ما استعاره من آلة الحرث وغيرها والذي يظهر أنه لا يضمن العبد؛ لأن قوله لمالكه أعني بثورك لا يستلزم استعارة العبد لما ذكر في السؤال من أن الحراث تارة يكون المالك وتارة يكون أجيره أو عبده فلم يتعين العبد وإذا لم يتعين لم يكن مستعارا بخلاف ما لو قال له أعني بثورك وعبدك فإن كلا من الثور والعبد مستعار حينئذ وواضح أن الرابع يضمن أيضا حصة شريكه في الثورين والآلة المشتركة لتعديه باستعمال حصة شريكه فيما لم يأذن فيه وقرار الضمان على المستعير، والله تعالى أعلم.
وسئل: رضي الله عنه عمن شرب من سقاية في المسجد فانكسر منه كوزها أو انكسر منه قنديل المسجد أو أخذ كوزا من سقاء ليشرب منه فانكسر أو استعار قنديلا مسرجا أو دواة فانكسرا أو شمعة ليقدها أو انكسر إناء من بعض الضيوف أو تصدق على من أعيا بركوب دابته فماتت تحته أو استعمل ظرف الهدية فهل يضمن في كل ذلك أم في بعضه أم لا يضمن في كله. فأجاب بقوله: في ذلك تفصيل أما الأولى والثانية فإن كانت الكيزان أو القناديل التي للاستصباح دون غيرها فإنها تضمن مطلقا وقفت على الشاربين أو شريت من ربع الوقف حيث شرط الواقف فلا ضمان إن لم يفرط ومثلهما الأباريق الموقوفة على من يتوضأ فإن بقيت على ملك واضعها ضمن كاسرها وإن لم يفرط، وأما الثالثة فإذا أعطى عطشانا كوزا ليشرب فوقع منه وانكسر ضمنه كالماء الذي فيه إن زاد على كفايته فيضمن الزائد على الأوجه؛ لأنه قبضه لغرض نفسه وإن كان بإذن المالك فإن أعطاه له بعوض ضمن الماء فقط؛ لأنه مملوك بالشراء الفاسد لعدم رؤيته دون الكوز؛ لأنه مأخوذ بالإجارة الفاسدة، وأما الرابعة والخامسة فإن استعار ليستصبح أو يكتب فالقنديل والدواة مضمونان بالعارية دون الزيت والحبر؛ لأنهما مأخوذان بالهبة الفاسدة فإن استعار ليكتب ببعضه فقط ضمن الزائد على ما مر، وأما السادسة فإن صرح بالعارية فإن اعتبرنا الصيغة ضمن أو المعنى فلا، ونظرهم للأول أكثر وعلى الثاني فإن استعارها لإيقاد كلها أو بعضها يأتي ما سبق وإن لم يصرح بها لم يضمن وكذا يقال في كل ما لا تصح إعارته مما يستهلك، وأما السابعة فالأوجه فيها الضمان كما مر فيمن أخذ كوزا ليشرب منه بلا عوض، وأما الثامنة

 

ج / 3 ص -18-          فيضمن فيها الدابة، وأما التاسعة فإذا جرت العادة برد الظرف ضمنه وإن لم يستعمله فإن تلف في يد الرسول قبل قبض المهدى له فإن كان عبده ضمن؛ لأن يده كيده أو وكيله فالذي يظهر أنه إن أرسله ليطلب ذلك دخل في ملكه بقبض الوكيل فيضمن الظرف بتلفه في يد وكيله بلا تقصير وإن لم يرسله لم يدخل في ملكه إلا بقبضه ولم يوجد فلا يضمنه الوكيل أيضا؛ لأنه في هذه الحالة وكيل المهدي لا المهدى له.
وسئل: عن مستعير سرق من عنده المستعار فحلون عليه فهل يلزمه الحلوان. فأجاب بقوله: نعم؛ لأنه من تمام الرد الواجب عليه.
وسئل: رضي الله عنه هل الإباحة من ألفاظ التمليك أو لا وهل قولهم في باب المبيع قبل قبضه وإباحة الطعام للفقراء يفهم التقييد بالفقراء أم لا وهل الصدقة كالإباحة. فأجاب بقوله: الذي دل عليه كلام الزركشي أول قواعده في مسائل متفرقة وغيره أخذا من كلام التاج السبكي أن لفظ الإباحة صريح في جواز الانتفاع بالشيء المباح، ثم إن كان الانتفاع به لا يمكن إلا بذهاب عينه كانت الإباحة قبل إتلافه غير لازمة فهو باق على ملك مالكه وله التصرف فيه بأي وجه أراد وليس للمباح له التصرف فيه بغير الوجه الذي أبيح له وهو أكله مثلا فإذا أتلفه بأكله أو نحوه تبينا أنه ملكه قبيل إتلافه على الخلاف المذكور في الضيف وإن كان الانتفاع به ممكنا مع بقاء عينه كالأرض كانت الإباحة مفيدة لجواز انتفاعه لا لملكه العين ولا المنفعة فلا يجوز له إجارته ولا إعارته؛ لأنه إنما ملك أن ينتفع ولا فرق في ذلك كله بين أن يقيد الإباحة بمدة أو يطلقها؛ لأنه إذا جاز تعليقها كما رجحه الزركشي إذ لا تمليك فيها فتوقيتها أولى وإذا تأملت ما قررته علمت الجمع بين مسائل ذكرها الزركشي وغيره ظاهرها التناقض وعلمت الفرق بين الصدقة والإباحة؛ لأن الصدقة تقتضي الملك حيث قبضها المتصدق عليه سواء أكانت بنحو طعام أو أرض أو غيرهما ولا فرق في الصدقة والإباحة بين أن يكونا على فقير أو غني كما أشار إلى ذلك التاج السبكي في قواعده وإن أوهم قول الفقهاء في باب المبيع قبل قبضها وإباحة الطعام للفقراء خلافه
وسئل: عمن وجد غلطا في كتاب مستعار معه أو موقوف هل له إصلاحه وما ظنه غلطا هل له أن يكتب فوقه لعله كذا كما يفعله كثير. فأجاب بقوله: نقل الأسنوي وغيره عن العبادي وأقروه أنه إذا استعار كتابا فرأى فيه خطأ لا يصلحه إلا أن يكون قرآنا فيجب ا هـ. وظاهره أنه لا فرق بين الموقوف وغيره ولا بين حسن الخط وغيره في الصورتين المذكورتين وللنظر فيه مجال وفي فتاوى القاضي لا يجوز رد الغلط في كتب الغير وحمله الريمي على ما لا يغير الحكم وإلا وجب رده لا سيما على الثبت اليقظ، وكتب الوقف أولى وما ذكره ظاهر عند تيقن الغلط فلا يجوز بمجرد الظن أن يكتب لعله كذا في ملك أو وقف

 

ج / 3 ص -19-          كذا قاله بعضهم وأخذ الأذرعي بجواز ذكر عيب الخاطب لأجل النصيحة جواز إصلاح الخطإ في الكتب المستعارة، ثم نقل عن العبادي ما مر، ثم قال واعلم أن إطلاق إصلاح الخطإ في المستعار خطأ فنقول إن علم رضا المعير وهو أهل للإصلاح جاز قطعا أو كراهته فلا قطعا وإلا فإن كان خط المستعير كخط الكتاب المستعار أو يقاربه فهذا محتمل وجه الجواز أنه إحسان فالظاهر رضا المعير به ووجه المنع أنه تصرف في ملك الغير بغير أمره، وإن كان خط الكتاب في غاية الحسن لم يجز قطعا أو العكس ففي الجواز نظر؛ لأن الإصلاح بتخريج الساقط بالخط الحسن يبين قبح خط الأصل ويفضحه وهذا إن لم يحصل بالإصلاح كشط مكتوب أو تعييب أو ضرب فإن هذا يظهر أنه لا يجوز إلا بعد العلم برضا المعير وينبغي أن يفرق بين الموقوف على جماعة مسلمين وبين الملك والموقوف على معين فكل ما جاز فيهما جاز في الموقوف على العموم من باب أولى وكل ما امتنع فيهما هل يمتنع فيه هذا موضع ترو وتفصيل يدركه النبيه ا هـ. ملخصا
وسئل: رضي الله تعالى عنه بما صورته ذكر أبو شكيل شارح الوسيط أن رجلا استعار عبدين من مالكهما فقتل أحدهما الآخر عمدا فاقتص المالك ضمن قيمتهما فهل هو معتمد. فأجاب بقوله: مقتضى قول الأصحاب إذا قتل السيد العبد القاتل لعبده في يد الغاصب برئ؛ لأن المالك هو المتلف أنه لا يضمن؛ لأن الغاصب أسوأ حالا منه فما ذكره أبو شكيل فيه نظر وإن وافقه بعضهم.
وفرق بين الغاصب والمستعير بأن المستعار تضمن رقبته دون جنايته، والمغصوب تضمن رقبته وجنايته فإذا اقتص المالك من المغصوب فقد استوفي متعلق الغصب وسقط عن الغاصب حكم الغصب في الرقبة وفي هذه الجناية وإذا استوفى المعير فقد استوفى شيئا لا تعلق له بالعارية ولا يضمنه المستعير فيبقى حكم العارية بحاله وهو ضمان العبدين المذكورين على المستعير وهل يطرد ذلك في جميع العواري إذا أتلفها المعير قبل أن يقبضها. قال بعضهم: لو أتلف أجنبي المستعار قبل أن يقبضه المعير فإن لم يضمنه بأن أتلفه لصيال أو قصاص ضمنه المستعير فقط وإلا فهو طريق والقرار على المتلف وحينئذ فإتلاف المعير كذلك ففي الحالة الأولى الضمان على المستعير ولا يسقط عنه بإتلاف المعير بخلاف الغصب في القصاص لما مر من الفرق بينهما وفي الحالة الثانية يسقط الضمان عنه إذ لا فائدة في تغريمه وهو يرجع به على الآخر ا هـ. وهو مبني على ما مر من الفرق بين الغاصب والمستعير.
وسئل: عن شخص قال لآخر منحتك كذا فهل هو كأعرتك أو كوهبتك. فأجاب بقوله: صرح في البيان في الهبة بأن المنحة هبة لكن كلامه في العارية صريح أو كالصريح في أن المنحة هي العارية وهو الذي دلت عليه الأحاديث واللغة والاستعمال واعتمده بعض شراح الوسيط.

 

ج / 3 ص -20-          وسئل: عمن استعار عبدا فهل يضمن ثيابه. فأجاب بقوله: لا يضمنها؛ لأنه لم يأخذه مستعملا لها بخلاف إكاف الدابة.
وسئل: عمن استعار كتابا موقوفا فتلف عنده بلا تقصير فهل يضمنه أو لا. فأجاب بقوله: قال في الروضة في أواخر كتاب الوقف إذا سبلت كيزان على حوض أو نهر فتلف منها شيء في يد أحد لم يضمن إلا بالتعدي ومنه استعماله في غير ما وقف له وبه يعلم أن الكتاب المذكور إن كان وقفا على المستعير بأن كان من جملة الموقوف عليهم فلا ضمان عليه وكذا إن لم يكن وقفا عليه بأن كان وقفا على إنسان بخصوصه فاستعاره منه كما صرح به البلقيني قياسا على ما لو استعار من مستأجر وألحق بذلك الاستعارة من كل من يستحق المنفعة استحقاقا لازما دون الرقبة قال وعليه لو أصدق زوجته منفعة أو صالح عليها أو جعلها رأس مال سلم لم يضمن المستعير من هؤلاء ا هـ. وهو بحث متجه.
وسئل: عن دابة مستعارة عثرت حالة الاستعمال وماتت ما الحكم. فأجاب بقوله: إن كان سبب تعثرها هو الاستعمال المأذون فيه لم يضمنها المستعير؛ لأنها حينئذ تلفت بالاستعمال المأذون فيه وإن تعثرت لا بسبب أو بسبب هو الاستعمال لكنه غير المأذون فيه ضمنها كما لو تلف بآفة سماوية في الطريق، والله أعلم.
وسئل: عمن أبرأه عن عين فأبرأه الآخر عن دين فهل يصحان. فأجاب بقوله: لا يصح الإبراء عن العين بل عن الدين لكن بحث جمع متأخرون أنه لو قصد بالإبراء عن الدين جعله في مقابلة الإبراء عن العين لم يصح.
وسئل: رضي الله تعالى عنه عن قولهم في العارية وقلع مجانا بذرا ونواة حمله سيل فنبت في أرضه فهو باق على ملك صاحبه فإن أعرض عنه فهو لصاحب الأرض هذا فيما لا قيمة له كنواة أما غيره فهو باق لمالكه ذكره ابن أبي شريف في شرحه زاد في الأسنى وعلى مالكه القطع؛ لأن مالك الأرض لم يأذن فيه فهو كما لو انتشرت أغصان الشجرة في هواء داره وعليه التسوية للأرض؛ لأن ذلك لتخليص ملكه وفي فتاوى السمهودي وإن كان ذلك يسيرا يعرض الناس عن المطالبة به عادة ألحق ذلك بالسواقط التي جرت العادة بالإعراض عنها وفي الأسنى بعد ما تقدم فإن أعرض عنها وكان ممن يصح إعراضه فهي لمالك الأرض ا هـ. ولا يخفى مناقضة ما ذكر لما ذكره ابن أبي شريف فما المعتمد. فأجاب بقوله: كلام الإسعاد لا يخالفه ما ذكر بعده ومن ثم جريت عليه مبينا لمراده في شرح الإرشاد حيث قلت وعلى مالك الأرض رده أي ما حمل من نحو نوى وحب لمالكه إن حضر وإن لم يكن له قيمة كحبة ونواة لم يعرض عنها وذلك؛ لأن تقييده الإعراض بما لا قيمة له الموهم أن ما له قيمة لا يزول الملك عنه بالإعراض يحمل على أن المراد قيمة لها وقع عادة أما ما ليس لها وقع كذلك فهي كعدم وكلامه في باب

 

ج / 3 ص -21-          الصيد والذبائح دال على ذلك وعبارة شرحي على المنهاج فرع يزول ملكه بالإعراض عن نحو كسرة خبز وسنابل الحصادين وبرادة الحدادين فيملكها آخذها على المعتمد أي: عند النووي وغيره خلافا لقول الرافعي ومن تبعه أنها تصير مباحة ولا تملك ا هـ. وينفذ تصرفه فيها أخذا بظاهر أحوال السلف ومنه يؤخذ أنه لا فرق في ذلك بين ما تتعلق به الزكاة وغيره مسامحة بذلك لحقارته عادة فبحث الزركشي ومن تبعه التقييد بما لا تتعلق به مردود لذلك نعم محل جواز أخذ ذلك كما هو ظاهر ما لم تدل قرينة من المالك على عدم رضاه كأن وكل من يلقطه له انتهت عبارة الشرح المذكور والحاصل أن الإعراض المملك المكتفى فيه بالقرينة يجري فيما لا قيمة له بالكلية وفيما له قيمة تافهة، وأما ما له قيمة لها وقع فلا يكتفي فيه بالقرائن بل لا بد فيه من التمليك أو صريح الإباحة.

باب الشفعة
وسئل: رضي الله تعالى عنه هل للشفيع بعد العلم الاشتغال بصلاة النفل. فأجاب بقوله: له الاشتغال بنافلة مؤقتة كما شمله كلامهم وهل يلحق بها النافلة المطلقة أو لا. كل محتمل والأقرب الثاني؛ لأن هذه لا يخشى فوتها بخلاف تلك وعلى كل فلو علم وهو فيها فهل يجب عليه الاقتصار على ركعتين بعد العلم أو له أن يصلي ما شاء كل محتمل أيضا ولكن الأول أقوى مدركا.
وسئل: رضي الله تعالى عنه عما إذا اشترى زيد حصة من عمرو من أرض مشتركة، ثم باع المشتري الشقص من مشتر آخر مثلا بعشرين درهما فادعى الشفيع على المشتري بالشفعة وأيضا ادعى أن المشتري الثاني المدعى عليه بالشفعة أقر بأن المشتري الأول إنما اشترى هذا المبيع بعشرة دراهم يريد الشفيع الشفعة على المشتري الثاني بالعشرة دراهم مؤاخذة له بإقراره هل له ذلك أم لا. بل نقول لا نؤاخذ المشتري الأول بإقرار المشتري الثاني بل أنت أيها الشفيع مخير إن أردت الشفعة على الثاني بقيمة الذي اشترى به هو عشرون وإن أردت فاترك عقده على حاله وأثبت على المشتري الأول أن ثمنه هو العشرة الدراهم واشفع فهل هو قول صواب أو للشفيع ما أراد من المؤاخذة يريد ادفع الثمن القليل إلى المشتري الثاني المدعي إقراره وأخذه المبيع منه. فأجاب بقوله: ما ذكر من تخيير الشفيع هو الصواب كما يعرف بأدنى نظر في كلامهم فقد قالوا لو باع المشتري لثاني وهو لثالث وهو لرابع وهكذا تخير الشفيع في الأخذ من أيهم شاء؛ لأن الثمن قد يكون في نحو البيع الأول أو الثاني أقل أو من جنس عليه أيسر ا هـ. فعلم أن النزاع في كون الشراء المذكور في السؤال بعشرة لا فائدة له بل مهما أثبته الشفيع من أي الأثمان شاء أخذ به وواضح أن إقرار أحد المشتريين أنه اشترى بكذا إنما يؤثر في حقه فقط أو أن المشتري منه أو

 

ج / 3 ص -22-          البائع له إنما كان شراؤه بكذا لا عبرة به حيث لم يكن الشقص بيده وإنما يؤاخذ كل بإقراره فيما يتعلق بشرائه فقط.
وسئل: عما إذا وكلت امرأة زيدا في طلب الشفعة من عمرو فلم يبادر الموكل بالشفعة بأن حضر مجلس القاضي ومضى عليه زمن يمكنه الشفعة فيه فهل هذا يسقط شفعة موكلته؛ لأن المبادرة واجبة على الموكلة والوكيل. وإذا قلتم بسقوط الشفعة بذلك فادعى الوكيل الطلب من القاضي وأنكر المدعى عليه الطلب ووافقه القاضي على عدم الطلب فأراد الوكيل إقامة بينة على الطلب من القاضي وسماعه للطلب هل له إقامة البينة أم لا ولا سيما بعد حكم القاضي بسقوط الشفعة. فأجاب بقوله: إذا تراخى الوكيل من غير عذر ألجأ إلى ذلك كأن حضر مجلس القاضي ولم يبادر بطلت الشفعة لموكله من غير عذر له مسقط لشفعة موكله كما صرحوا به حتى في المختصرات وإذ ادعى الوكيل أنه بادر بالطلب من القاضي وأقام بذلك بينة لم تسقط شفعة موكله ولا عبرة حينئذ بقول القاضي ولا بحكمه الناشئ عن علمه أو عن بينة أخرى أما الأول فلتصريحهم بأن محل الحكم بالعلم حيث لا بينة تخالفه، وأما الثاني فلأن بينة الإثبات وهي بينة الوكيل مقدمة على بينة النفي وإن كان معها حكم؛ لأن حكم القاضي ليس من المرجحات كما بينته في شرح الإرشاد فإن فرض حصر بينة النفي له بأن أثبتت بينة الوكيل طلبه في مجلس محصور ونفته بينة خصمه في ذلك المجلس تعارضتا فيتساقطان ويصدق الشفيع بيمينه في عدم تقصيره في الطلب؛ لأن الأصل بقاء حقه نعم للحاكم هنا الحكم بعلمه لسقوط حقه لكن إن كان ثقة أمينا على الأوجه ومما صرحوا به أنه لو أخر الطلب، ثم اعتذر بنحو مرض أو مطر وأنكر المشتري صدق الطالب بيمينه إن عرف منه ذلك وإلا فالمشتري.
وسئل: عما إذا مات زيد وخلف ورثة مثلا ثم مات بعض الورثة وورثه الباقون فادعى على الباقي من الورثة اشتراء شقص من الوارث الميت فأنكر أحد بقية الورثة الاشتراء فأقام المدعي حجة على ذلك فأراد المنكر الشفعة بعد الإنكار فهل له الشفعة أم لا أم يفرق بين تخصيص الإنكار بحصته وعدم تخصيصه قياسا على مسألة ما في الصلح من قوله في الإرشاد وشفع منكر خصص أم لا يرجع إلى التخصيص وعدمه بل إلى إنكاره أصل الشركة مطلقا فلا شفعة وبين إنكار الشراء فيشفع؛ لأنه لا يلزم من إنكار الشركة إنكار مطلق الشركة. فأجاب بقوله: لا شفعة للمنكر هنا مطلقا لزعمه بطلان البيع من أصله المترتب عليه الآخذ بالشفعة. إذ فرض السؤال أنه لما ادعى الشراء من الميت قال له أحد ورثته لم تشتر منه شيئا فإذا ثبت الشراء منه لم يشفع ذلك المنكر لما تقرر أنه أنكر أصل البيع المستلزم لإنكاره استحقاقه الأخذ بالشفعة وليس هذا نظير مسألتهم المذكورة في الصلح؛ لأن صورتها أن المدعي ادعى جميع الدار التي في يد اثنين ففصلنا فيمن لم يقر له بين أن ينكر ملكه لحصته

 

ج / 3 ص -23-          فقط فيشفع؛ لأنه لم ينكر حينئذ بطلان البيع الذي تضمنه الصلح المترتب عليه الأخذ بالشفعة بل قضية تخصيصه الإنكار بما بيده فقط اعترافه بصحة ملك المقر له وذلك يستلزم اعترافه بصحة البيع المذكور فجاز أن يأخذ بالشفعة وبين أن يعمم إنكاره لملك شيء من الدار المدعى بها فحينئذ إذا صالح المقر له لم يكن للمنكر الأخذ بالشفعة لاعترافه ببطلان البيع المذكور المترتب عليه الأخذ بالشفعة وقد ذكرت في شرح الإرشاد أن قضية كلام مصنفه في شرحه أن المقر له لو باع النصيب لأجنبي غير المقر لا يأخذه المنكر بالشفعة مطلقا وليس كذلك بل فيه التفصيل المذكور كما هو ظاهر أي: لأن المدار على اعتراف الشريك بصحة البيع فيأخذ بالشفعة أو ببطلانه فلا يأخذ بها فإن قلت يشكل على ما ذكرت قولهم لو كان بينهما عرضة مشتركة فادعى أجنبي نصيب أحدهما وشهد له الآخر فردت شهادته ثم باع المشهود عليه نصيبه لآخر فللشاهد أخذه بالشفعة فقد صححوا أخذه بالشفعة مع اعترافه ببطلان البيع المترتب عليه الأخذ قلت لا إشكال في ذلك؛ لأنهم لم يصححوا أخذه بالشفعة وأبقوه له بل أوجبوا رده عليه للمشهود له لاعترافه بشهادته السابقة أنه ملكه فإذا صار في يده أخذناه بقضية شهادته فكان هذا أعني رده إلى مالكه هو المسوغ للأخذ بالشفعة وإن كان الآخذ بها يزعم بطلان البيع وقول السائل نفع الله به بل إلى إنكاره أصل الشركة الخ. عجيب فإنه لا فرق كما هو جلي بين إنكار الشركة وإنكار الشراء إذ كل منهما من الشريك القديم مانع من أخذه بالشفعة لأن كلا منهما يوجب إقراره بعدم ملك المشتري من الشريك القديم وإذا أنكر ملك المشتري للشقص فكيف يتصور أخذه له وقوله لا يلزم من إنكار الشركة إنكار مطلق الشركة أعجب؛ لأنه إن أراد بالشركة الأولى نوعا خاصا منها لزم من إنكاره إنكار مطلقها وإن أراد بالشركة الأولى مطلقها كانت هي عين الثانية فيلزم من إنكار إحداهما إنكار الأخرى ولعل في ذلك تحريفا والأصل أنه لا يلزم من إنكار الشراء إنكار مطلق الشركة وهذا اللزوم الصحيح لا يفيد في مسألتنا أيضا؛ لأن المدار إنما هو على الاعتراف ببطلان البيع فحيث اعترف به لم يأخذ بالشفعة سواء أنكر أصل الشركة أم أنكر الشراء كما في صورة السؤال.
وسئل: عما إذا تملك الشفيع بما ذكروه من الصيغ وبشرطه مثلا ثم لم يسلم الثمن قالوا يمهل ثلاثة أيام فإن لم يسلم فسخ الحاكم تملكه، ثم استطرد في الدميري خلافا حتى قال: وقيل بحبس الشفيع فهل المشتري يتخير بين الفسخ وبين إجبار الشفيع على التسليم أو ليس للمشتري إلا فسخ الشفعة كما هو ظاهر قولهم فسخ الحاكم تملكه. فأجاب بقوله: عبارة الدميري التي أجملها السائل إذا تملك الشفيع الشقص بغير الطريق الأول لم يكن له أن يتسلمه حتى يؤدي الثمن وإن لم يسلمه المشتري قبل أدائه ولا يلزمه أن يؤخر حقه بتأخير البائع حقه وإذا لم يكن الثمن حاضرا بأن غاب ماله وقت التملك أمهل ثلاثة أيام فإذا انفضت ولم يحضره فسخ القاضي تملكه وقيل: إذا قصر في الأداء بطل حقه وقيل إن

 

ج / 3 ص -24-          المشتري يفسخ وقيل: يحبس الشفيع حتى يوفي الثمن انتهت وهي واضحة الدلالة على أن الحبس قول ضعيف وعلى أن المشتري عقب مضي الأيام الثلاثة في صورة غيبة الثمن يخير بين أن يصبر إلى حضوره وبين أن يرفع الأمر إلى الحاكم ليفسخ وليس له الاستقلال بالفسخ ولا إجبار الشفيع على التسليم.
وسئل: رضي الله تعالى عنه عن قول الدميري في شرح قول المنهاج ولو باع أحد الشريكين نصف حصته لرجل مثلا ثم باقيها لآخر فالشفعة في النصف الأول للشريك القديم؛ لأنه ليس معه في حال بيعه شريك إلا البائع والبائع لا يتصور أن يأخذ ما باعه بالشفعة ا هـ. هل لقائل أن يقول هذا البيع في الابتداء أما بعد أن يأخذ الشريك القديم فيأخذ البائع بالشفعة بقسطه مما يملك الشريك القديم بالشفعة محتجا بأن تملك الشفعة معاوضة قلنا هذا يمنع ذلك ولا سيما في الأنوار في هذا المحل ما هو أصرح من ذلك بقوله حتى لا يتمكن أي البائع من أخذه الخ. فأجاب بقوله: كأن السائل نفع الله به يشير إلى أن البائع لما باع نصف حصته وأخذها شريكه بالشفعة كان هو حين الأخذ شريكا قديما بالنسبة إلى وقت الأخذ فلم لم يأخذ من الشفيع بقسط ما بقي له؛ لأن أخذ الشفيع بمنزلة الشراء فكأن الشفيع اشترى الشقص المشفوع والشفيع له شريك قديم فكان القياس أن يشاركه هذا حاصل ما يمكن أن يفهم من كلام السائل نفع الله به والذي دل عليه كلامهم بل صرح به قولهم أن البائع لا يتصور أن يأخذ ما باعه بالشفعة أن البائع لا شفعة له على الشفيع مطلقا ويوجه بأن علة ثبوت الشفعة إما دفع ضرر مؤنة القسمة وهو الأصح أو دفع سوء المشاركة وكل من هاتين العلتين يمنع أخذ البائع من الشفيع؛ لأنه لما باع بعض حصته لغير شريكه كان منه نوع تعد إذ أدخل عليه من يضره بطلب القسمة أو من يسيء مشاركته فدفع الشارع ذلك كله عنه بأن أثبت له الأخذ بالشفعة من المشتري حتى تنتفي علية كل من ضرر القسمة وسوء المشاركة وإذا كان هذا هو السبب في علة ثبوت الشفعة للشريك القديم علم منه أنها لا تثبت للبائع على الشفيع؛ لأن الشفيع لم يصدر منه نوع من أنواع التعدي على البائع بالأخذ بل إنما قصد بأخذه منع تعدي البائع عليه بالبيع من غيره فكيف يتوهم حينئذ أن البائع يأخذ مع أنه المتعدي بالبيع والشفيع غير متعد بالأخذ وأيضا فالبائع ببيعه بعض حصته لثالث قد وطن نفسه على ما يأتي من الثالث من ضرر القسمة وسوء المشاركة وشريكه القديم لم يوطن نفسه على ذلك وإنما البائع أدخل عليه ذلك الضرر فناسب ثبوت الشفعة له لعذره ولم يناسب أخذ البائع لشيء من الشفوع لما تقرر أن علة أخذه منع آثار تعدي البائع وإذا كانت هذه هي العلة فهي غير موجودة في البائع فتعذر أخذه هذا حاصل ما يوجه به كلامهم وهو توجيه ظاهر جلي لا غبار عليه فليتأمل.
وسئل: رضي الله تعالى عنه عن أخوين مشتركين في أرض باع أحدهما لأجنبي مثلا ثم

 

ج / 3 ص -25-          مات الآخر الذي لم يبع قبل أن يسقط حقه وورثه الآخر البائع فهل للبائع أن يشفع فيما باع؛ لأنه قام مقام أخيه في ذلك أم لا. فأجاب بقوله: أن للبائع الوارث أن يشفع كما هو ظاهر إذ لا مانع له من ذلك؛ لأنه أخذه بالشفعة للوصف الذي طرأ وهو الإرث غير الوصف الذي باع به، وتبدل الأوصاف كتبدل الذوات وليس هذا كفروع ذكروا فيها سقوط حقه بإرثه؛ لأن تلك الحق فيها له على الميت فإذا صار هو الوارث تعذر طلبه لذلك الحق وهنا الحق للميت على المشتري فإذا مات انتقل حق الميت لوارثه وإن كان هو البائع فله حينئذ الأخذ به خلافة عن مورثه الآن وكونه بائعا وصف انقضى وخلفه وصف آخر فعمل به لإطباقهم على أن ما يثبت للميت يثبت لوارثه إلا في مسائل ليست هذه منها فإن قلت صرحوا بأنه لا شفعة للشريك الوارث فيما بيع في دين مورثه فهل يؤخذ من هذا المنع في مسألتنا. قلت لا يؤخذ منه ذلك بوجه لوضوح فرقان ما بينهما إذ سبب المنع هنا أنه قادر على ترك بيعه وأداء الدين من ماله كذا قيل وفيه نظر والوجه أن سببه أن الوارث يملك التركة وإن كان الدين مستغرقا فالشقص المبيع ملكه حالة البيع فكيف يتصور أخذه بالشفعة على أنه قد لا يقدر على ترك بيعه لكون الميت أوصى ببيعه في دينه، ثم رأيت بعضهم قال الظاهر أن المنع لكونه نائب مورثه فلو شفع لكان كالشافع فيما باعه بنفسه أي لنفسه وهو موافق لما ذكرته لكن ما ذكرته أوضح لما ذكروه أنه يملك التركة ملكا حقيقيا وإن استغرقها الدين فليس كالبائع فيما باعه لنفسه بل هو هو حقيقة وظاهر كما علم مما تقرر أن الكلام في وارث حائز أو غيره لكن بالنسبة لما يخص قسطه من الإرث دون قسط غيره، والله تعالى أعلم.

باب القراض
مسألة: نقل شيخ الإسلام في تخريج أحاديث الرافعي والزركشي في الخادم وغيرهما عن ابن حزم وأقروه أن كل باب من أبواب الفقه له أصل في الكتاب والسنة إلا القراض مع قيام الإجماع عليه لكنه إنما يكون عن أصل فهل هو كما قال وكيف ساغ لهؤلاء الأئمة تقريره مع حديث ابن ماجه: "ثلاث فيهن البركة البيع إلى أجل والمقارضة وخلط التمر بالشعير للبيت لا للبيع". الجواب: الحديث المذكور لا يرد عليهم؛ لأنه موضوع كما قاله البخاري وعلى التنزل وأن له أصلا فهو ليس بهذا اللفظ أعني المقارضة بالقاف خلافا لمن وهم فيه اغترارا بكون ابن ماجه ذكره في الشركة والمضاربة أي: المقارضة وإنما صوابه بالعين أي: بيع العرض بالعرض فاتضح قول ابن حزم ما مر وتقريرهم عليه لكن يرد عليهم ما اشتهر في السير أنه صلى الله عليه وسلم سافر تاجرا لخديجة قبل النبوة وحكى ذلك وأقره بعدها فدل على جوازه جاهلية وإسلاما وثبت أن للقراض أصلا أصيلا والله أعلم.
وسئل: عما لو اختلف الدافع والمدفوع له بعد تلف المدفوع فادعى المدفوع إليه أنه

 

ج / 3 ص -26-          قراض وادعى الدافع أنه قرض فما المعتمد في ذلك وما وجه الاستدلال مع ملاحظة كلامهم آخر العارية. فأجاب: رضي الله تعالى عنه بأن الذي جرى عليه صاحب الجواهر والخادم وغيرهما تصديق المالك؛ لأن المدعى عليه يدعي سقوط الضمان مع اعترافه بتصرفه فيه المقتضي لشغل الذمة والأصل عدم ذلك ويؤيده قول ابن علي الثقفي لو دفع إليه ألفا فتصرف فيها فربح ألفا، ثم اختلفا فقال القابض كان مضاربة بالنصف مثلا وقال المالك كان بضاعة أي وكالة صدق الدافع وجزم به في البحر ورجحه الأذرعي؛ لأن الأصل عدم ما ادعاه القابض ويؤيده أيضا قولهم لو قال مالك الدابة لراكبها أجرتكها فعليك الأجرة وقال الراكب أعرتني صدق المالك؛ لأن الأصل عدم إذن المالك في إباحة منافع دابته مجانا وخالف في مسألتنا ابن الصلاح فأفتى بأن القول قول القابض في نفي الضمان؛ لأنهما اتفقا على الإذن في التصرف واختلفا في شغل الذمة والأصل براءتها ا هـ. وما قاله ممنوع وإن تبعه الدميري والجوجري وغيرهما؛ لأنا تيقنا بالتصرف اشتغال الذمة والقابض يدعي سقوطه فكانت دعواه مخالفة للأصل فلم تسمع منه ومال الجلال البلقيني إلى ما رجحه ابن الصلاح وأيده بقول البغوي لو دفع ألفا لإنسان فقال المدفوع إليه كان وديعة فهلك فقال الدافع بل أخذته قرضا فالقول قول المدفوع إليه مع يمينه؛ لأن الأصل براءة ذمته بخلاف ما لو قال غصبتني فقال لا بل أكريتني فالقول قول المالك على الأصح؛ لأنه أتلف منفعة ماله، ثم ادعى إسقاط الضمان بعد الاتفاق على أخذه لحق نفسه ا هـ. ولا شاهد فيه لما قاله ابن الصلاح خلافا لما زعمه الجلال؛ لأن مسألة البغوي الأولى أعني قول المدفوع إليه قراض وقول الدافع قرض لم يحصل فيها تصرف يقتضي شغل الذمة بل الذمة باقية على أصل براءتها فلذا صدق المدفوع إليه؛ لأن أصل براءة ذمته لم يعارضه شيء، وأما في مسألتنا فقد تيقنا الصرف وهو مقتض لشغل الذمة فبطل أصل براءتها ولزم من بطلان هذا الأصل تصديق الدافع؛ لأن دعواه عضدها تيقن شغل الذمة الموافق لها على أن مسألة البغوي الثانية تؤيد ما قلناه كما علم مما قدمته من التوجيه فكلامه لنا لا علينا فتأمل وممن تبع ابن الصلاح أيضا الولي العراقي أبو زرعة فرجح تصديق العامل بعد التلف وفرق بينه وبين مسألة العارية السابقة بأنهما ثم متفقان على عدم انتقال ملك العين للآخذ بل هي باقية على ملك مالكها وقد انتفع بها ومدع عدم العوض والأصل عدم سقوطه فإن الانتفاع بملك الغير يقتضي العوض ا هـ. ويرد بما تقرر من أنا في مسألتنا تيقنا التصرف وهو مقتض لشغل الذمة فلم يصدق الآخذ فاتضح أن المسألتين على حد سواء وأن كلامهم في مسألة العارية شاهد عدل على تصديق الدافع، ثم ما ذكره البغوي في المسألة الأولى هو المعتمد ومن ثم جرى عليه في الأنوار وقال البغوي
إنه متعين وبه أفتى شيخنا شيخ الإسلام زكريا سقى الله عهده، وأما ما في منهاج القضاة من أنه لو دفع إليه مالا وتلف في يده فقال دفعته قرضا وقال الآخر وكالة صدق الدافع ا هـ.
فهو ضعيف والمعتمد تصديق المدفوع إليه نظير مسألة البغوي وبما قررته يعلم

 

ج / 3 ص -27-          أن الكلام في مسألتنا فيما إذا كان التلف بعد تصرف القابض فيصدق الدافع حينئذ لما قدمته أما إذا وقع التلف قبل التصرف فالمصدق حينئذ هو القابض وعليه يحمل ما مر عن ابن الصلاح وغيره؛ لأنهما اتفقا على الإذن واختلفا في شغل الذمة والأصل براءة ذمتهما قال الشيخان ولو أقام كل منهما بينة بما قاله قال صاحب العدة والبيان بينة القابض أولى في أحد الوجهين ا هـ.
واعترض بأن الحق التعارض وفيه نظر بل الأوجه ما بحثه أبو زرعة من ترجيح بينة الدافع؛ لأن معها زيادة علم بالانتقال إلى الآخذ، والله أعلم.
وسئل: رضي الله تعالى عنه عمن قارض شخصا فاشترى وباع فلما نض الثمن ولم يظهر فيه ربح أخذ العامل مالا من عنده وأضافه إلى مال القراض بإذن المالك مثلا ثم عملا فيه فما حكم الربح الحاصل بعد ذلك. فأجاب بقوله: إن جرى ذلك بعد فسخ عقد القراض أو استرداد المالك رأس المال فهو محض شركة وإلا صحت الشركة مع بقاء عقد القراض على حاله فيعمل في الربح الحاصل بمقتضى العقدين شركة وقراضا فإن تساويا في المال فالربح بينهما نصفين وللعامل من حصة المالك ما كان شرطه له من الربح.
وسئل: عما إذا مات المالك فتصرف العامل في مال القراض جاهلا فهل يضمن وهل الوكيل مثله. فأجاب بقوله: من المعلوم ارتفاع العقد بالموت فتصرف العامل حينئذ كتصرف الغاصب فإن كان بعين المال بطل والأصح وما صرفه من مال القراض مضمون عليه وإن جهل وكذا حكم الوكيل إذا تصرف بعد الموت أو العزل.
وسئل: عن شخصين دفعا لإنسان قراضا فدفع أحدهما ألف أشرفي والآخر ألفي أشرفي فالجملة ثلاثة آلاف واتفقا على أن يكون للعامل الثلث من الربح ولكل واحد منهما الثلث ورضي العامل بذلك وثبت ذلك عند قاض شافعي المذهب وسافر ذلك الإنسان وربح ربحا كثيرا فامتنعا أن يدفعا له ما وقع الاتفاق عليه فهل يجب عليهما دفع ذلك أم لا. فأجاب بقوله: القراض المذكور فاسد فيستحق العامل أجرة مثله ولا شيء له من الربح والله أعلم.
وسئل: عمن قال قارضتك على إحدى هاتين الصرتين مثلا ثم عين إحداهما في المجلس صح بخلاف ساقيتك على إحدى هاتين الحديقتين ثم عين إحداهما في المجلس فإنه لا يصح فما الفرق بينهما. فأجاب بقوله: قد يفرق بأن القصد هنا وقوع العقد على شيء مربح من غير خصوص شيء معين وذلك حاصل في المسألة الأولى؛ لأن الربح لا يختص بواحدة دون الأخرى فلا يختلف الغرض في تعين أي واحدة منهما ولا نظر فيها إلى كون واحدة أروج من الأخرى؛ لأنه لا ينافي كون الأخرى فيها ربح وهو المقصود دون الربح والقصد في المساقاة وقوع عقدها على شيء معين يثمر غالبا وذلك غير حاصل في المسألة الثامنة؛ لأن الغرض فيها يختلف باختلاف عين الحديقة؛ لأن القصد الثمرة وهي تختلف باختلاف الأمكنة

 

ج / 3 ص -28-          اختلافا كثيرا فوجب تعيين محلها لاختلاف الغرض به.
وسئل: عن رجل دفع إلى آخر مالا نقدا قدره عشرون ألف محلق على سبيل المضاربة الشرعية فاشترى العامل بذلك بضائع ومتاجر وسافر بذلك بإذن رب المال إلى بعض البلاد وباع واشترى في ذلك أيضا مثلا ثم حضر إلى رب المال وذكر له أن المتحصل في ذلك ربحا ثلاثة عشرة ألف محلق مثلا ثم رجع عن ذلك وقال إن المتحصل في ذلك ربحا إنما هو ستة آلاف محلق فسأله رب المال عن تفصيل بيعه وشرائه وربحه ومصارفه ومحصولاته فأجاب بأنه لا يلزم بيان ذلك ولا الجواب وأن القول قوله في ذلك فهل يلزمه بيان ذلك وتفصيله ومحاسبة رب المال عن الأصل والربح وتفصيلات التصرف أم لا يلزمه ذلك والحال أن التجار المسافرين معه إلى البلد التي سافر إليها بمثل البضائع التي سافر بها ربحوا فيها أكثر من ضعف ربح العامل المذكور مع أن بيعهم وشراءهم في أوان واحد على كيفية متقاربة وماذا يلزم العامل المذكور إذا صمم على عدم المحاسبة إذا فصل تفصيلا بعيدا عن تفصيل أمثاله من التجار وإذا لم يكن مع رب المال بينة باعتراف العامل المذكور بأنه ربح في ذلك ثلاثة عشر ألف محلق فماذا يلزمه في ذلك وما حكم الله تعالى في ذلك. فأجاب بقوله: إذا قال له ربحت كذا، ثم رجع عنه لم يقبل رجوعه وإن ذكر شبهة لغلطه لكن له تحليف المالك أنه لا يعلم ذلك سواء ذكر شبهة أم لا على الأصح وإذا فصل ما صرفه فإن كان قدرا لائقا محتملا في العادة صدق بيمينه وإن كان قدرا غير لائق لذلك لم يصدق بالنسبة للزائد على اللائق فيطالب به وإذا لم يفصل وامتنع من المحاسبة ألزم بها أخذا مما قالوه في ناظر الوقف، وفائدتها أنه إذا ذكر مقادير المصاريف نظر فيها هل هي لائقة أم لا ويأتي فيها ما ذكرناه، وأما المحاسبة عن كيفية الربح ومقاديره فلا يلزم بها كما هو ظاهر إذ لا ضابط له يوقف عليه بها بخلاف المصاريف فإن لها مقادير عند أهل العرف لا تتخرم غالبا وإذا عدم المالك البينة باعتراف العامل الأول أو لم يعدمها جاز له تحليفه على أنه ما اعترف له أولا بما ذكر والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب، ثم رأيت شيخنا قال في أدب القضاء لا يطالب أحد منهم أي: الأمناء كالوكيل والوصي والمقارض والمرتهن بإقامة حساب بل إن ادعى عليه جناية فالقول قوله بيمينه ذكره ابن الصلاح في الوصي والهروي في أمناء القاضي ومثلهم بقية الأمناء لكن الأوجه كما يؤخذ من كلام القاضي حسين أن الأمر في ذلك كله يرجع إلى رأي القاضي بحسب ما يراه من المصلحة ا هـ. وينبغي حمله على المحاسبة عن كيفية الربح ومقداره، وأما على المصاريف فالذي يتجه فيه ما ذكرته أخذا مما ذكروه في ناظر الوقف كما قدمته.
وسئل: عن رجل دفع مائة لآخر يسافر برا أو بحرا بشرط أنه إذا عاد بالسلامة يسلم إليه مائة وعشرين سواء ربح في تلك المائة أضعافا أو خسر خسرانا بينا ومع ذلك إذا تلف المال

 

ج / 3 ص -29-          لا يصير القابض ضامنا كما جرت به عادة أهل الهند ويتعاملون بهذا الشرط فالمسئول بيان حكم هذه المسألة فقد عمت البلوى بها فإن قلتم بعدم الجواز لوجود الشرط فهل حكم ذلك كحكم الربا أو القراض أوضحوه لنا إيضاحا وافيا أثابكم الله ثواب المحسنين. فأجاب رضي الله تعالى عنه بقوله: الشرط المذكور باطل ومبطل لعقد القراض المذكور والمال المأخوذ به محرم شديد التحريم؛ لأنه من أكل أموال الناس بالباطل ومن أخذ بهذا الشرط مالا فهو عاص آثم فعليه التوبة والرجوع إلى الله سبحانه وتعالى فإن قلت فما حكم المال الذي أخذه العامل بهذا الشرط قلت هو قراض فاسد فيد العامل يد أمانة والربح كله للمالك والخسر عليه، ثم إن طمع العامل في زيادة ربح له على المائة والعشرين فله أجرة المثل وإلا فلا؛ لأن من عمل غير طامع في شيء لا شيء له.
وسئل: رضي الله تعالى عنه بما لفظه لو طلب الرصدي نقدا ولم يكن في مال القراض أو تعسر إحضاره أو كانت المصلحة أن لا يباع لذلك في تلك الحالة فأعطاه من ماله وأشهد عند عجزه عن الرفع إلى الحاكم فهل له الرجوع كنظائره أو لا وهل يجري ذلك في الوكيل والمودع ونحوهم حيث جاز لهم الدفع من المال الذي بأيديهم لمن ذكر أم لا. فأجاب بقوله: إن ما ذكروه في هرب عامل المساقاة والجمال ونحوهما قاض بأنه إذا طلب من عامل القراض أو نحوه ما يحسب على المالك كما يأخذه الرصدي والمكاس وتعذر أو تعسر وزنه من المال فأعطاه العامل أو نحوه من ماله بإذن القاضي أو مع إشهاده على أنه أعطاه ليرجع أو بشرط الرجوع لفقد القاضي أو تعسره لكونه فوق مسافة العدوى أو للخوف منه على المال كما هو الغالب الآن رجع به على المالك وإن اختل شرط من ذلك لم يرجع به لتبرعه، والله سبحانه وتعالى أعلم.

باب الإقرار
وسئل:
رضي الله تعالى عنه لو أقر لأولاده بمال وفيهم حي وميت فهل يدخل الميت في الإقرار ويكون لوارثه كما لو خصه بالإقرار أم لا. فأجاب بقوله: إن الذي يظهر أن الميت من الأولاد يدخل فيهم ويكون لورثته أخذا من قول الروياني لو قال لهذا الميت علي كذا فظاهر كلام المختصر جواز الإقرار بتقدير كان له علي ا هـ. ويؤخذ من تقدير كان له علي أن تخصيصه بالإقرار له ليس هو ملخص صحة الإقرار له وإنما ملخصه أن كونه ميتا لا ينافي صحة الإقرار له؛ لأن الميت وإن لم يكن يمكن تصور الملك له حين الإقرار يمكن تصوره له قبل ذلك بالتقدير المذكور فلم يكن الموت مانعا لصحة الإقرار وإذا اتضح أنه لا منافاة بين الموت وصحة الإقرار اتضح العمل بعموم قوله علي لأولادي كذا؛ لأنه لا تخصيص لأحدهم فدخلوا كلهم أحياؤهم وأمواتهم لاستواء وصف الموت والحياة بالنسبة

 

ج / 3 ص -30-          إلى صحة الإقرار فإن قلت يعارض ذلك قولهم لو أطلق الإقرار للحمل بالمال وانفصل حي وميت استحق الحي جميع المال المقر به وكان الميت كالمعدوم قلت الفرق بين هذه الصورة ومسألتنا واضح فإن الإقرار للحمل لا يصح إلا إن أسنده إلى نحو إرث أو أطلق وانفصل حيا لوقت يعلم وجوده عند الإقرار؛ لأن الحمل لا يمكن أن يتصور له الملك حقيقة أو احتمالا إلا بذلك فالميت المنفصل لا يتصور له الملك قبل ذلك فلم يصح الإقرار له وصح للحي بخلاف الميت في مسألتنا فإنه عهد له قبل الآن ملك والإقرار إخبار عن حق سابق فصح إسناد الملك إليه والإقرار له به فدخل في مطلق الإقرار للأولاد لشمول اللفظ له مع عدم شيء يخرجه ولا نظر إلى المتعارف الغالب من أن الإقرار لا يكون إلا لحي؛ لأنا لو نظرنا لذلك لم يصح الإقرار للميت وإن نص عليه فإن قلت فرق بين النص والظاهر قلت فرق بينهما من حيث علم الأصول ومباحثه، وأما في الأحكام الفقهية فهما مستويان غالبا فإن قلت فإن وقف على أولاده لم يتناول الموتى منهم حتى لا يصرف منه شيء لورثتهم قلت الفرق بين الإقرار والوقف جلي فإن الإقرار إخبار عن حق سابق والحق السابق الميت فيه والحي سواء بخلاف الوقف فإنه إنشاء تمليك المنافع للموقوف عليه فاشترط فيمن يوقف عليه أن يكون عند الوقف ممن يمكن تمليكه الآن والميت ليس كذلك فلم يمكن القول بدخوله فيه فالملحظ في البابين مختلف بل بينهما من البون ما لا يخفى على من له أدنى تأمل، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وسئل: رضي الله تعالى عنه في شخص أقر أن جميع كامل البستان الصغير من أرض وأخشاب وبناء المعروف بمحمد بن يحيى الصائر إليه بالشراء الشرعي وجميع البيت الصائر إليه بالشراء من أولاد إدريس الكائنين بالحجاز بجميع حقوق ذلك من سقية ومنافع وحقوق ملك لبنته فاطمة مثلا ثم وجد في مكتوب شراء البستان المذكور لهذا المقر من محمد بن يحيى أنه اشتراه أي: اشترى منه سقيته وهي ثلاثة عشر قيراطا فهل تستحق البنت المذكورة جميع البستان بجميع السقية المعينة في مكتوب الشراء؛ لأن قوله بجميع حقوق ذلك من سقية ومنافع إنما هو قيد لكامل البستان الصغير فالضمير في سقيته راجع إليه والمرجع إنما هو مقيد بمن هو المعروف به البستان وهو المشتري منه فتكون السقية أيضا مقيدة بقيد مرجع الضمير كما هو الظاهر المتبادر سيما عند عدم المانع وإلا يكن القيد لغوا محضا في الوصية فالمقر به إنما هو جميع السقية المعروفة بالمشترى منه لا السقية المطلقة فحينئذ لو فرضنا أن هذه السقية تكون زائدة على كفاية البستان المرجع للضمير مع أنها ليست كذلك على ما هو عادة أرض أهل الحجاز بحسب اختلاف الفصول فهل هذه الزيادة داخلة في الإقرار ويكون للمرأة المقر لها جميع السقية المعروفة بمحمد بن يحيى أم على قدر العادة، ثم لو فرضنا أنها أقل من الكفاية فكيف العمل فيها أيضا. فأجاب بقوله: نعم تستحق البنت المذكورة جميع البستان وسقيته، ثم الذي دل عليه كلام أئمتنا أن المراد بسقيته سقيته

 

ج / 3 ص -31-          الموجودة له حال الإقرار سواء أكانت زائدة على السقية المذكورة في مستند الشراء أم لا فما يدل لذلك قولهم لو قال لمالك هذه الدابة علي كذا حمل على مالكها الآن؛ لأن الظاهر وإن احتمل أن تكون لمالك آخر قال الأذرعي لكن قد يعهدها ولا يعلم انتقالها عنه إلى غيره وقد يشتريها أو يتهبها أو يرثها أو يقبل الوصية بها فيقول آخر في ذلك المجلس ذلك فلا يمكن حمله على مالكها الآن قطعا ا هـ. فتأمل رعايتهم للظاهر وهو الحمل على المالك حال الإقرار وإعراضهم عن كونه ملكا للمقر له فيجب تقديم المخبر عنه على المخبر فهو إخبار عن حق ثابت ويكفي في ثبوته سبقه على الإقرار بلحظة وأيضا فمالك اسم فاعل وهو حقيقة في مالكها حال الإقرار مجاز في مالكها قبله فحمل اللفظ على حقيقته دون مجازه ومحل حمله على حقيقته ومجازه الذي ذهب إليه الشافعي رضي الله تعالى عنه إذا أرادهما المتكلم إذا تقرر ذلك فالسقية مختلفة أيضا فيكفي في استحقاق المقر لها ثبوته لها قبيل الإقرار بلحظة على القاعدة المقررة فإذا علم أنها إنما ثبتت لها في ذلك الزمن لا فيما قبله فلينظر إليها حال الإقرار وينزل الإقرار عليها ولا نظر لسقيته المذكورة في مستند الشراء إذا كانت أزيد أو أنقص من سقيته الثابتة له يوم الإقرار؛ لأن مبنى الإقرار على اليقين أو الظاهر القوي وطرح المشكوك فيه والظاهر أن المراد سقيته حال الإقرار دون التي قبل ذلك إذا تخالفتا فحملنا لفظه عليها عملا بالظاهر دون السقية السابقة طرحا للمشكوك فيه وكون الضمير في سقيته يرجع إلى البستان المقيد بأنه مشترى من محمد بن يحيى لا يقتضي ثبوت السقية الموجودة حال الشراء للمقر لها للاتفاق على أنها لا تملك البستان قبيل الإقرار دون ما قبل ذلك وإذا لم يكن لها حق فيما قبل ذلك من حيث الملك فأولى أن لا يكون لها حق فيما قبل ذلك من حيث معرفة قدر السقية فوجب النظر إليها حال الإقرار والإعراض عن النظر لما قبله فاندفع ادعاء أن الظاهر أنها مقيدة بقيد مرجع الضمير على أن ههنا مانعا يمنع من حملها على الموجودة حال الشراء؛ لأنه إذا فرض أنه حينئذ كان شربه ثلاثة عشر قيراطا فتصرف فيها المشتري وجعل له عشرة قراريط أو زاد حتى بقيت عشرين قيراطا، ثم أقر فلو حملنا إقراره على الموجودة حال الشراء دون الإقرار لكان ذلك مخالفا للقاعدة وكلامهم إذ اعتبار السابق المقتضي والإعراض اللاحق الموجود بعيد مع أن الألفاظ إنما تحمل على مدلولاتها حال التلفظ بها والأذهان إنما يتبادر إليها من الألفاظ حملها على مدلولها حال التلفظ بها ويؤيد ذلك أنه لو قال كان لك علي ألف لم يكن لا في جواب دعوى إقرارا قالوا؛ لأنه لم يعترف في الحال بشيء والأصل براءة الذمة ولا يلزم على ذلك أن القيد لغو خلافا لما في السؤال؛ لأن فائدته في البستان تعريفه وتمييزه عن غيره وفائدة رجوع الضمير في سقيته للبستان بذلك القيد ربط السقية المقر بها بذلك البستان المقيد إذ لو حذف الضمير فقال وسقية لكان إقرارا بمجهول مطلق لا تعلق له بالبستان المذكور فوجب رجوع الضمير إلى البستان حتى ترتبط السقية به ومما يدل لذلك أيضا أنه لو قال له علي مائة درهم ودراهم

 

ج / 3 ص -32-          البلد مغشوشة أو ناقصة وتعذرت مراجعته حمل على دراهم البلد المتعامل بها حالة الإقرار حملا على المعهود ولا نظر لدراهمها قبل ذلك وما ذكرته هو ما قال الأذرعي أنه الصواب المنقول المنصوص في المعاملات؛ ولأنه المتيقن ولم أر من صرح بخلافه ولا تغتر بما زعمه الأسنوي في المهمات من نقل ما يخالفه ا هـ. ووجه الدلالة من هذا أنهم حملوا الدراهم في هذه الصورة على الموجود حال الإقرار وأعرضوا عن القاعدة العامة وهي أن الدراهم حيث أطلقت في باب الإقرار حملت على دراهم الإسلام وهي الوازنة الخالصة إلا فيما استثنوه فإذا خالفوا القاعدة تحكيما للمعهود حال الإقرار حتى حملوها عليه فأولى أن تحمل السقية في مسألتنا على السقية المعهودة حال الإقرار وإن سلمنا أن رجوع الضمير للبستان بقيده قرينة على أن المراد السقية الموجودة حال الشراء؛ لأن هذه القرينة عارضها ما هو أقوى منها مما قدمناه ومما سيأتي ومنه قولهم لو قال له عندي جارية أو شجرة فكانت الجارية حاملا والشجرة مثمرة لم يدخل الحمل ولا الثمرة قالوا لأنهما لا يتناولانهما؛ لأن الإقرار إخبار عن حق سابق كما مر وربما كانت الجارية والشجرة له دون الحمل والثمرة بأن كانا موصى بهما فإذا أخرجوهما لهذا الاحتمال البعيد فأولى إخراج السقية الموجودة حال الشراء لاحتمال أن المقر تصرف فيها بزيادة أو نقص حال كون البستان على ملكه، ثم إذا انتقل عنه لم يكن له إلا ما استقر عليه أمره من السقية ووجودها حال الإقرار قرينة ظاهرة على أنها الذي استقر عليها أمر هذا البستان وأنها التي أقر بها دون السقية الموجودة حال الشراء، ثم رأيت ما هو أصرح في مسألتنا مما مر وهو ما في الأنوار وغيره حيث قالوا قال القفال وغيره وضابط ما يدخل تحت مطلق البيع يدخل تحت الإقرار وما لا فلا إلا الثمرة المؤبرة والحمل والجدار أي فإنها تدخل في البيع ولا تدخل في الإقرار لبناء الإقرار على اليقين وبناء البيع على العرف ا هـ. وإذا تأملت هذا الضابط وجدته شاملا لمسألتنا فتكون منقولة إذ ما دخل تحت كلامهم كذلك يصدق عليه أنه منقولهم كما صرح به النووي في مجموعه ووجه شموله لها أنه لو قال بعتك هذا البستان الذي اشتريته من فلان وسقيته وكانت سقيته الموجودة وقت البيع دون تلك السقية السابقة وهذا مما لا يشك فيه المتفقه فضلا عن الفقيه وقد علمت من الضابط أيضا أن الإقرار أولى بعدم التناول من البيع؛ لأنا وجدناه لا يتناول أشياء مع أن البيع يتناولها فإذا لم يتناول البيع شيئا كان الإقرار أولى بعدم تناوله لما تقرر أن مبناه على اليقين أي: أو الظن القوي لما مر فاتضح بما ذكرته سيما من هذا الضابط أن قول المقر إنما يتناول الموجودة حال الإقرار سواء أكانت موافقة للسقية حال الشراء أم أنقص عنها أم أزيد وسواء أكفت السقية الموجودة حال الإقرار البستان أم زادت عنه أم نقصت، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وسئل: في شخص اشترى دارا وقبضها، ثم أسكنها شخصا آخر، ثم بعد مدة أقر بأن الدار المذكورة ملك من أملاك الساكن المذكور وصدقه الساكن على ذلك ولم يزل مستمرا

 

ج / 3 ص -33-          على سكناه إلى أن توفي المقر المذكور فادعى بعض ورثته أعني المقر المذكور أن الدار المذكورة حال الإقرار مبيعة لشخص معلوم بيع عدة وأمانة فهل تسمع هذه الدعوى من الوارث أو لا بد من دعوى المشتري أو تسمع من كل منهما وإذا سمعت الدعوى ممن تسوغ له وثبت ما ادعاه فهل تنزع الدار من الساكن أو لا وإذا انتزعت فعادت إلى الوارث بإقالة أو غيرها هل يجب عليه ردها للمقر أو لا وهل عودها إلى الوارث بغير إقالة كعودها بها أو لا وأجرة المثل مدة السكنى بالدار المذكورة تلزم الساكن إذا قلتم بفساد الإقرار أم لا. فأجاب بقوله: بيع العدة الخالي عن الشرط المفسد صحيح عندنا فليس للوارث الدعوى به؛ لأن الحق متمحض لغيره وهو المشتري وتسمع دعواه بذلك فإن أثبت الشراء من الوارث قبل إقراره انتزع العين من المقر له ويلزمه للمشتري أجرة مثلها مدة وضع يده عليها وهي ملك المشتري وحيث عادت للوارث فإن كان مصدقا للمورث في إقراره انتزعها المقر له منه مطلقا وإلا فإن عادت إليه من جهة مورثه فإن كان سبب العود إليه إرثه كالإقالة انتزعها منه أيضا، لأنه خليفة مورثه أولا من تلك الجهة لم ينتزعها منه أخذا من قولهم لو تزوج مجهولة فاستلحقها أبوه ولم يصدقه لم ينفسخ نكاحه، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وسئل: في شخص أقر في مرض موته بدين مثلا ثم بدين آخر مثلا ثم بآخر مرتبا مثلا ثم بوقف سابق مثلا ثم بهبة صحيحة مقبوضة سابقة مثلا ثم بعتق سابق مثلا ثم أوصى لجهات مثلا ثم دبر ثلاثة أعبد مرتبا واحدا بعد واحد مثلا ثم بجناية مثلا ثم برهن والحال أن التركة لم تف بذلك كله فمن المقدم في ذلك كله أوضحوا لنا وصدر البعض في مجلس والبعض في مجالس لكنه مرتبا كما ذكر أفتونا مأجورين. فأجاب بقوله: إن الديون المقر بها المترتبة تستوي كلها في كونها تتعلق بالتركة فتوزع عليها إن لم تف بها ولا يقدم بعضها على بعض إلا لموجب آخر، وأما التقدم في الإقرار فليس مقتضيا لتقدم وفاء ولا تعلق، وأما الإقرار بالوقف السابق على المرض وبالهبة الصحيحة المقبوضة السابقة على المرض أيضا وبالعتق السابق عليه أيضا فهو صحيح فيخرج المقر به في الثلاثة من رأس المال ولا يتعلق به دين ولا تزاحمه وصية ولا يحتاج لإجازة ورثته ويصح أيضا إقراره بالجناية والرهن فإن أقر بهما في عبد مثلا وقدم الإقرار بالجناية تعلقت الجناية بعينه ولم يتعلق به الرهن إلا إن عفا ذو الجناية عنه وإذا أوصى لجهات، ثم دبر ثلاثة أعبد فهذه كلها تبرعات متعلقة بالموت وحكمها أنه يسوى بينهما سواء أكانت مترتبة أم غير مترتبة وسواء أكان فيها عتق أم لا لاشتراكها في وقت نفاذها وهو وقت الموت فسقط الثلث على الوصايا وعلى المدبرين باعتبار القيمة فقط أو مع المقدار فإذا كانت قيمة المدبرين مائة والوصايا بمائة والثلث مائة عتق نصف كل من المدبرين وكان لأرباب الوصايا خمسون، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وسئل: أفاض الله تعالى عليه إنعامه وبلغه في الدارين مرامه في شخص أقر أنه لا

 

ج / 3 ص -34-          يستحق في الوقف الكائن بكذا ولا في معلومه شيئا قل ولا جل والحال أنه لم يعلم له فيه حقا حال الإقرار مثلا ثم ظهر له بعد ذلك أن له فيه حقا هل يؤاخذ بإقراره ويسقط حقه وهل يكون الحكم كذلك إذا علم به أم لا أفتونا مأجورين. فأجاب بقوله: الذي أفتى به السبكي أنه لا عبرة بالإقرار المخالف لشرط الواقف؛ لأن شرط صحة الإقرار أن لا يكذبه الشرع فإن كان له احتمال ما أخذنا المقر به ولا يثبت حكمه في حق غيره وأفتى غيره بأنه يقبل إقراره في حق نفسه مدة حياته أي: وإن خالف إقراره شرط الواقف وقد نقل الغزي وغيره هذين الإفتاءين ولم يرجحوا منهما شيئا والذي يتجه ترجيحه هو الثاني وعليه يدل قول الماوردي وجزم به بعضهم لو وقف دارا، ثم أقر بها لشخص وصدقه الموقوف عليه لم يبطل الوقف بل يسقط حق الموقوف عليه من الغلة ويصرف إلى من بعده من أهل الوقف فأفهم إطلاقه صحة إقراره بالنسبة لسقوط حقه مدة حياته سواء أخالف شرط الواقف وكان له احتمال ما أم لم يكن له احتمال وهو ظاهر؛ لأنه وإن لم يكن له احتمال ظاهرا يمكن أن يكون له احتمال باطنا والمقر أعرف بنفسه فآخذناه بإقراره مطلقا وليس الشرع حينئذ مكذبا للإقرار خلافا لما ادعاه السبكي؛ لأن الشرع حيث راعى ما قلناه لم يكن مكذبا للإقرار فاندفع تعليل السبكي بذلك هذا كله إن أقر وهو عالم بأنه وقف فإن كان جاهلا وعذر بجهله لغا إقراره أخذا من قولهم لو باع دار أبيه فادعى على المشتري أن البائع كان وقفها عليه أو على أولاده وأقام بينة بطل البيع فلو أقام المشتري بينة بإقرار المدعي أنها كانت ملكا لأبيه حين باعها وثم أطفال من أولاد أولاده سمعت وبطلت دعوى الوقفية في نصيبه دون نصيب الأطفال وليس له أن يدعي نصيب أولاده؛ لأنه خرج بإقراره عن كونه قيما لهم ويجوز أن ينصب المقر مدعيا قاله القاضي حسين قال البغوي كما قال العبادي ولو ادعى المقر جهله بالوقف حال الإقرار صدق بيمينه قال الأذرعي: وهذا هو الصحيح ويجب الجزم به إذا دلت القرائن على صدقه بأن كان طفلا وقت الوقف ا هـ. فكلام العبادي والأذرعي صريح فيما ذكرته في مسألتنا من إلغاء إقراره إذا دلت القرائن على صدقه فلا يبطل حقه بما ظهر له بعد إقراره لعذره فالحاصل نفوذ الإقرار من العالم مطلقا لا من الجاهل سيما إذا دلت القرائن على صدقه ا هـ.
وسئل: رضي الله تعالى عنه ادعى وارث على ورثة أن أباكم أقر لي بأرض كذا التي تحت أيديهم فهل تسمع دعواه وبينته. فأجاب بقوله: اختلف في ذلك علماء زبيد كيوسف المقري وأهل عصره والوجه سماع الدعوى والبينة بالإقرار ولا تسمع بينتهم أن الأرض لهم لبطلان يد مورثهم الذي تلقوا عنه بإقراره، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وسئل: رضي الله تعالى عنه في شخص قال ليس لي عند أو مع فلان شيء هل يشمل العين والدين. فأجاب: الذي قاله البلقيني في ليس لي على فلان أو في ذمته شيء أنه إقرار بالبراءة من الدين، والله سبحانه وتعالى أعلم.

 

ج / 3 ص -35-          وسئل: في امرأة أعارت بنتها مصاغا وحليا وفرشا وأواني وغيرها وأقرت البنت أن جميع ما بيدها من حلي ومصاغ وغيرهما وعددت أنواع ذلك ملك لأمها وأنه في يدها عارية لا حق لها فيه ولا شيء من منافعه سوى بشخانة وجارية اسمها كذا ولم يزل جميع ذلك بيدها إلى أن ماتت في عصمة زوجها فوضع يده على جميعه وادعى أنها زفت به إليه وأن إقرارها لم يكن إلا وهي في عصمة زوج غيره وأن على والدتها إثبات أن هذه الأعيان ملك لها وأنها استجدت أمتعة ومصاغا بعد إقرارها فهل تسمع دعاويه هذه جميعها أو بعضها وهل المصدق هو أو أمها في جميعها وبعضها. فأجاب بقوله: إقرار المرأة لأمها بما ذكر صحيح معمول به سواء أكان حال الزفاف أم بعده أم قبله بشرط أن تكون بالغة عاقلة مختارة رشيدة ودعوى الزوج الثاني أن الإقرار لم يقع وهي في عصمته لا يلتفت إليها؛ لأنه يؤاخذ بحكم ذلك الإقرار وإن وقع منها وهي في عصمة غيره، وأما طلبه من الأم أنها تثبت أن الأعيان التي ماتت عنها هي التي كانت موجودة عند الإقرار فهو صحيح فعليها إثبات ذلك فإن لم تثبته واختلفا في الأعيان التي ماتت عنها كلها أو بعضها هل كانت موجودة حال الإقرار أم لا صدق الزوج بيمينه أخذا مما في الروضة وغيرها من أنه لو قال ما ينسب إلي أو ما في يدي لزيد مثلا ثم نازعه زيد في عين هل كانت في يده حينئذ صدق المقر بيمينه أن تلك العين لم تكن في يده حال الإقرار وعلى المقر له البينة وكذا لو قال ليس لي مما في يدي إلا كذا والباقي لزيد قال جمع ومثل المقر وارثه ولا يشكل على ما تقرر عن الروضة قول القاضي حسين في فتاويه لو قال هذه الدار وما فيها لفلان مثلا ثم مات ونازع وارثه المقر له في بعض الأمتعة فقال الوارث لم يكن هذا في الدار يوم الإقرار وعاكسه المقر له صدق المقر له؛ لأنه أقر له بها وبما فيها ووجدنا المتاع فيها فالظاهر وجوده فيها يوم الإقرار ا هـ.
وكالوارث في هذا المقر ووجه عدم استشكال هذا على ما مر ما علم من كلام القاضي وهو أنه هنا وجدت قرينة تؤيد صدق المقر له فقوي بذلك جانبه على جانب المقر فصدق المقر له بيمينه لذلك مع مساعدة أصل الاستصحاب لدعواه، وأما مخالفة البغوي للقاضي في ذلك بقوله وعندي لا تسمع الدعوى بأنه كان في الدار حالة الإقرار؛ لأنه غير مقيد يدعي أن الميت أقر له بها ويحلف الوارث على نفي العلم بإقرار المورث ففيه نظر كما قاله القمولي في جواهره؛ لأن الإقرار له بما في الدار صحيح وكلام البغوي لا يتأتى إلا على أن الإقرار بذلك غير صحيح وقد علمت أن المذهب صحته فإن قلت مقرا على ما قاله القاضي ما في فتاوى ابن الصلاح من أنه لو أقر بأن جميع ما في هذا البيت ملك زوجتي مثلا ثم مات وأقامت بينة بذلك فقال الوارث هذه الأعيان لم تكن موجودة عند الإقرار حلف الوارث على نفي العلم أن هذه الأعيان ولا شيء منها لم يكن موجودا في البيت وقت الإقرار ولو كانت الزوجة ساكنة معه في الدار كان لها أن تحلف على استحقاق نصف هذه الأعيان، ثم لها بعد ذلك حصتها من الميراث من النصف الآخر قال ولا يكفي حلفه أن المدعي لا

 

ج / 3 ص -36-          يستحق هذه الأعيان إلا إذا لم يقم المدعي حجة ومن ذلك وأطال فيه واعتمد ما قاله الغزي وغيره وجعلوه مستثنى من قولهم يكفي قول الخصم في الجواب لا يستحق علي شيئا قلت ما قاله لا يشكل على كلام القاضي إذ هو الموافق لما مر عن الروضة وقد علمت الفرق بين ما فيها وما قاله القاضي ولا نظر هنا إلى كونه عين البيت نظير ما مر في كلام القاضي؛ لأن الصورة هنا أنه لم يجعل البيت مقرا به حتى يكون ما فيه تابعا له في الإقرار به فلم تقو حينئذ القرينة مع المقر له بخلافه فيما مر عن القاضي فإنه جعل فيه الدار وما فيها مقرا بهما فاستتبعت الدار ما فيها حتى يعلم خلافه فلذا قوي جانب المقر له وصدق وما قاله ابن الصلاح فيما لو كانت الزوجة ساكنة معه أخذه من قولهم إذا اختلف الزوجان ولو بعد الفرقة في متاع البيت ولا بينة ولا اختصاص لأحدهما بيد فلكل منهما تحليف الآخر فإذا حلفا جعل بينهما وإن حلف أحدهما فقط قضى له كما لو اختص أحدهما باليد وحلف ومثلهما وارثاهما ووارث أحدهما والآخر وسواء أصلح لهما أو لأحدهما فإن قلت إذا أقر بأن جميع ما بيده ملك فلان وأشهد عليه ومات فما كيفية شهادة الشهود قلت الذي صرحوا به أن كل ما علم الشهود أنه كان بيده وقت إقراره عليهم أن يشهدوا به دون غيره وبما تقرر يعلم الجواب عن جميع ما في السؤال، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وسئلت: عن رجل قال فلان أو هذا ابن عمي أو وارثي مثلا ثم مات المقر فهل يرثه المقر به مطلقا أو لا أو فيه تفصيل. فأجبت: إذا قال هذا ابن عمي وبين أنه ابن عم لغير أم صح إلحاقه له بعمه بشروطه المقررة في كتب الفقه ومنها أن يكون المقر ذكرا مكلفا مختارا والمقر به مجهول النسب لم يجر عليه رق للغير ولا ولد على فراش الغير وإن نفاه وأن يمكن كونه ولدا للملحق به وهو العم في هذه الصورة وأن يصدقه المقر به إن كان أهلا للتصديق وأن يكون الملحق به ميتا وأن يكون المقر وارثا حائزا لتركة العم الملحق به لو قدر موته حين الإلحاق به كما بينته في شرح الإرشاد مع رد إشكال لابن الرفعة وغيره أو ردوه على ذلك فإذا وجدت هذه الشروط ومات المقر ولا وارث أقرب إليه من هذا المستلحق ورثه أما إذا قال هذا ابن عمي وأطلق فلا يرث المقر به منه شيئا لاحتمال كونه ابن عم لأم وإن قال وارثي ففيه خلاف بين الهروي والقفال قال الهروي في إشرافه لو أقر أن هذا وارث فلان لا تقبل ولو قال هذا وارثي قبل قال وهذه مسألة حسنة غريبة لا يعرفها إلا من تبحر في الفقه وقال القفال في فتاويه لو قال فلان عصبتي ووارثي إذا مت من غير عقب لم يكن هذا شيئا؛ لأن المقر به إن كان معروف النسب فلا فائدة في إقراره هذا وإن كان مجهول النسب فلا يصح أيضا ما لم يفسر؛ لأنه قد يريد بعصبته أنه أخوه وربما يريد أنه عمه أو ابن عمه، ثم بعد التفسير ينظر فيه فإن قال هو أخي يجب أن يكون هو جميع وارث أبيه وإن كان عما فيكون هو وارث جميع مال جده وإن كان ابن عمه يجب أن يكون هو وارث عمه فيصح منه الإقرار بالنسب على طريق الخلافة عنه، ثم الميراث مبني عليه

 

ج / 3 ص -37-          عندنا ولو قالت امرأة فلان ابن عمي وهو وليي في النكاح ووارثي إذا مت مثلا ثم ماتت فجاءه يطلب ميراثها قال القفال لا يكون له ميراثها ولم يصح ذلك التزويج إن كان قد زوجها؛ لأنها بذلك الإقرار ألحقت نسبا بجدها وهي ليست بوارثة جميع مال الجد فلم يصح التزويج ولا يرثها ا هـ.
وما ذكره القفال أوجه معنى ونقلا أما المعنى فلأنه إذا قال لمجهول النسب هذا أو فلان وارثي كان مجملا غير مبين فيه جهة الإرث لشموله للوارث بفرض أو عصبة وعلى كل فيحتمل أنه ألحقه بنفسه حيث لم يقل إذا مت من غير عقب أو بأبيه أو جده أو عمه مثلا ولإلحاقه بنفسه شروط وبغيره شروط منها تلك الشروط وزيادة كونه وارثا حائزا لتركة الملحق به كما تقدم ولا يتحقق استيفاء تلك الشروط إلا مع بيان جهة الإرث من بنوة أو أخوة أو غيرهما، ثم يبحث عن تلك الشروط هل وجدت في هذا الاستلحاق أو لا فكان في هذا الإقرار من الإبهام ما يوجب تعذر العمل به فوجب إلغاؤه وإن قال لمن ذكر هذا عصبتي كان فيه من الإبهام المذكور نحو ما تقرر لشموله العصبة بنفسه وبغيره ومع غيره وعلى التنزل وأن المراد الأول؛ لأنه المتبادر من إطلاق العصبة فهو شامل لعصبة البنوة والأخوة والأبوة والعمومة والجدودة وغير ذلك وعند شموله لتلك الجهات وتردده فيما بينها يتعذر العمل به فوقع لغوا غير معتد به كما تقرر في الذي قبله، وأما النقل فلأنه الموافق لما في الروضة وغيرها أن من ادعى أنه وارث التركة احتاج إلى ذكر الوراثة وجهتها من نحو بنوة أو أخوة فإن أقام بينة لم تسمع إلا إن ذكرت هذين أعني الوراثة أي: كونه وارثا وبينت جهتها وقالت لا نعلم له وارثا سواه وكانت من أهل الخبرة بباطن حال مورثه بنحو صحبة أو جوار فإن لم يقولا لا نعرف له وارثا سواه أو قالاه ولم يكونا خبيرين بباطن الحال وكان سهمه غير مقدر أو كان مقدرا لكن كان ممن يحجب لم يعط شيء من التركة حتى يبحث القاضي عن حال مورثه في البلاد التي سكنها أو طرقها فيكتب إليها أو يأمر من ينادي فيها أن فلانا قد مات فإن كان له وارث فليأت القاضي فلانا أو يبعث إليه فإذا فعل ذلك وغلب على ظنه أنه لا وارث له سواه أعطاه حقه بلا يمين عملا بالظاهر وإن كان سهمه مقدرا وهو ممن لا يحجب أعطى أقل فرضيه عائلا بلا بحث وأكثرهما بعد البحث ولو قالا وهما غير خبيرين لا وارث له سواه لم يقدح في شهادتهما وإن أخطأ من جهة القطع بها من غير تحقق؛ لأنهما إنما شهدا بما اعتقدا ولم يقصدا الكذب وإن شهدا بأنه ابنه أو أخوه مثلا ولم يذكرا كونه وارثا نزع المال ممن هو بيده وأعطيه بعد بحث القاضي كما صرح به ابن الرفعة ونقله عن الجمهور إذا تقرر ذلك علم منه أنه موافق لما قاله القفال دون ما قاله الهروي فتعين اعتماد كلام القفال دون كلام الهروي اللهم إلا أن يحمل كلام الهروي على ما إذا صدر ذلك من فقيه عارف بشروط الاستلحاق وبحقيقة قوله هذا وارثي وما يشترط له، ثم مات من غير أن يحتمل حدوث حاجب للمقر به فحينئذ يقبل منه هذا الإقرار؛ لأن تلك الاحتمالات التي نظر إليها القفال منتفية حينئذ ومنه يؤخذ أنه لا بد في ذلك الفقيه المقر من أن يكون

 

ج / 3 ص -38-          مذهبه موافقا لمذهب الحاكم في باب الإلحاق بالنفس وبالغير فإن تلك الاحتمالات لا تنتفي إلا عند موافقة مذهب الحاكم لمذهب المقر فيما ذكرناه وإلا فتلك الاحتمالات قائمة فلا يفيد إقراره شيئا؛ لأن القاعدة الغالبة في الإقرار التي بنى عليها الشافعي رضي الله تعالى عنه غالب أحكامه أو جميعها أنه يطرح الشك ويأخذ باليقين ولا يستعمل الغلبة كما نص رضي الله تعالى عنه على ذلك.
وسئل: رضي الله تعالى عنه عن رجل أقر لآخر بدين وأقر المقر له أن مالي عندك دين ولا بقية دين وأن ابن الصلاح أفتى بتقديم بينة الإقرار بالدين المثبتة فهل يخالف ما ذكر في الروضة من أنه لو أقام بينة أني أستحق عليك ألفا فقال المدعى عليه لي بينة أنك أقررت أن ما لي عندك دعوى فإنها تقدم ويبطل دعواه أم لا وما هو المعتمد في ذلك. فأجاب بقوله: إن عبارة ابن الصلاح في فتاويه رجل أقر لرجل بدين معلوم وأقر المقر له أنه لا يستحق على المقر دينا ولا بقية دين والإقراران جميعا في يوم واحد معين من غير أن يبين أيهما قبل فبأيهما يعمل وهل يمنع ذلك من المطالبة بالدين أجاب يحكم ببينة الإقرار المثبتة فإنه ثبت به شغل إذ لولاه لجعلنا إقرار المقر له تكذيبا للمقر ولا يصار إلى ذلك بالاحتمال وإذا ثبت أصل الشغل والقول بتصديق الإقرارين معا فلا يصار إلى تصديقهما بتقدير تأخير الإقرار النافي عن الإقرار المثبت بناء على احتمال طريان البراءة والإسقاط فإنا لا نترك أصل الشغل باحتمال تعقب المسقط فتعين تصديقهما بتقدير وقوع الإقرار النافي قبل الإقرار المثبت فإذا ادعى المقر له هذا فذلك مقبول ا هـ. كلام ابن الصلاح وينازع فيه أمور منها قول الشيخين وغيرهما نقلا عن فتاوى القفال وأقروه لو أقام شاهدا بألف ادعاه ليحلف مع شاهده وأقام خصمه شاهدا بإقراره أن لا شيء له عليه حلف المدعى عليه مع شاهده وسقطت دعوى المدعي؛ لأن
الأصل براءة الذمة ا هـ. فأصل براءة الذمة هنا اقتضى ترجيح الشاهد بإقراره أنه لا شيء له عليه فقدم على الشاهد بشغل الذمة بالألف فكذا في مسألة ابن الصلاح ينبغي أن تقدم البينة النافية على المثبتة لاعتضاد الأولى بأصل براءة الذمة وقول ابن الصلاح إنه يثبت بالمثبتة شغل ذمته يرد بأنه لا يثبت بها ذلك إلا مع عدم المعارض لها، وأما عند وجود النافية المعارضة لها فلا يتحقق شغل ذمته وحينئذ فتقدم النافية لاعتضادها بالأصل فليس في ذلك ترك أصل الشغل باحتمال تعقيب المسقط خلافا لما زعمه؛ لأن كلا من طرفي الإثبات والنفي هنا محتمل فإذا وجد مرجح لأحدهما عمل به والمرجح موجود بالنسبة للنفي لا للإثبات فليقدم طرف النفي على الإثبات لاعتضاده وعدم اعتضاد مقابله فإن قلت يمكن الفرق بين مسألة الشيخين ومسألة ابن الصلاح بأن مسألته فيها حجة تامة في كل من الطرفين فكان أصل الشغل محققا ويلزم من تحققه انتفاء أصل براءة الذمة فلم يلتفت إليه في مسألته، وأما مسألتهما فليس فيها حجة تامة بل بعضها فلم يتحقق فيها شغل فنظروا حينئذ إلى أصل براءة الذمة وجعلوه مرجحا لطرف النفي الموافق له

 

ج / 3 ص -39-          دون طرف الإثبات المخالف له قلت هذا الفرق وإن أمكن أن يتخيل لا تأثير له فإنه في الحقيقة يرجع إلى الفرق بالصورة دون المعنى وهو غير مؤثر ولا يلتفت إليه وذلك؛ لأن المسألتين في المعنى سواء؛ لأن البينة المثبتة في مسألته لما عارضتها البينة النافية لم يبق حينئذ حجة شرعية لما تقرر أولا من وجود المعارض لها واعتضاده بالأصل دونها فساوت حينئذ الشاهد وحده في مسألة الشيخين فكما رجحا النافي على المثبت لما مر كذلك ينبغي ترجيح النافية على المثبتة في مسألته لذلك ومنها أن الأذرعي نازعه فيما ذكره بقول شريح في روضته إذا شهدت بينة بالمال وأخرى بالإبراء منه فبينة الإبراء أولى إن أطلقتا وإن وقتتا فالمتأخرة وإن أطلقت بينة وأرخت بينة فبينة البراءة أولى؛ لأنها إنما تكون بعد الوجوب ويحتمل أن يجعل كما لو ذكرنا وقتا واحدا فيتعارضان ا هـ. كلام شريح وقال الأذرعي: عقبه وهذا قد ينازع فيما ذكره أبو عمرو رحمه الله تعالى ا هـ. ومنازعته فيه ظاهرة سيما ما ذكره في الصورة الأولى فإن قياس ما قاله أبو عمرو أن بينة المال مقدمة؛ لأنه تحقق بها شغل الذمة فلا يترك ذلك باحتمال تعقيب المسقط وهو الإبراء وإذا لم ينظر شريح إلى ذلك في مسألته فلا ينظر إليه في مسألة أبي عمرو فإن قلت يمكن الفرق بين مسألتيهما بأن مسألة أبي عمرو فيها إقراران متعارضان لا يستدعي أحدهما قدم الآخر؛ لأن الإقرار بعدم الاستحقاق لا يستدعي وجود شيء مستحق أقر بانتفائه بل كثيرا ما يصدر هذا ممن لا دين له ولا حق بالكلية بخلاف مسألة شريح فإن الإبراء يستلزم مبرأ منه فتكون الشهادة به متأخرة عن الشهادة بالمال فلذا قدمت عند الإطلاق بينة الإبراء؛ لأنها متأخرة فتقديمها لاعتضادها بما ذكر مستلزم لتأخرها عن شغل الذمة ورفعها لما اشتغلت به ولا كذلك في مسألة أبي عمرو قلت يرد ذلك بأنا وإن سلمنا أن كثيرا ما يصدر ذلك ممن لا حق له ولا كذلك في الإبراء لكن ذلك لا يرفع احتمال تقدم الإبراء من دين آخر أو لا من دين بالكلية على ثبوت المال الشاهدة به البينة المعارضة لبينة الإبراء فليس تقديم بينة الإبراء لذلك فحسب وإن توهم ذلك من قول شريح؛ لأنها إنما تكون بعد الوجوب بل لكونها اعتضدت بأصل براءة الذمة فالحاصل أن تقديم بينة الإبراء له سببان استلزامها أنها بعد الوجوب، واعتضادها بأصل براءة الذمة فيقاس عليها البينة النافية في مسألة أبي عمرو لاعتضادها بذلك الأصل وإن انتفى عنها السبب الأول على أنه لا ينبغي النظر إليه مستقلا؛ لأنها وإن استلزمت ذلك لكن هذا الاستلزام لا يقتضي تقديمها إلا إذا كانت تستلزم أنها بعد وجوب ذلك المال الذي شهدت به الأولى بخصوصه وواضح أنها لا تستلزم هذا الخاص فكان الأولى تعليل تقديمها باعتضادها بأصل براءة الذمة فإن قلت بل يستلزم ذلك الخاص بنفسه؛ لأن الأصل عدم وجوب غيره والإبراء منه قلت وإن كان ذلك هو الأصل إلا أنه لا يقتضي استلزامه بخصوصه، وإنما يشير إليه لكن لما اعتضدت تلك الإشارة بأصل براءة الذمة اقتضت ترجيح بينة الإبراء وكذلك البينة النافية في مسألة أبي عمرو واعتضدت بذلك الأصل وإن لم يكن معه

 

ج / 3 ص -40-          شيء آخر يعضده فينبغي أن يعمل به ومنها قولهم لو ادعى دارا في يد غيره فقال اشتريتها من زيد وأقام المدعي بينة على إقرار زيد له بها قبل البيع وأقام المدعى عليه بينة على إقرار المدعي بها لزيد قبله وجهل التاريخ أقرت في يد المدعى عليه ا هـ. وسبب ذلك أن تاريخ البينتين لما انبهم تعارضتا فتساقطتا وبقي الأصل المحقق وهو أن الأصل في وضع اليد أن يكون بحق وأنها تدل على الملك حتى يثبت ما يرفعه وحينئذ فقياس هذا في مسألة أبي عمرو أن يقال إن البينتين لما انبهم تاريخهما تعارضتا فتساقطتا وبقي الأصل المحقق وهو براءة الذمة هذا وإن كان غير ما قدمناه في الأمر الأول والثاني من تقديم البينة النافية إلا أن مآل هذا وذينك إلى عدم استحقاق المدعي وبراءة المدعى عليه فانتفت الأمور الثلاثة من هذه الحيثية وإن اختلفت من حيثية أخرى كما علم مما تقرر والحاصل أنه يقال لأبي عمرو إما أن تنظر إلى أن لإحدى البينتين مرجحا فهو للنافية فقط وإما أن تنظر إلى أن لا مرجح لواحدة منهما وكل من هذين يقتضي براءة المدعى عليه وعدم ثبوت شيء في جهته، وأما دعوى أن الأصل شغل ذمته وأن هذا مرجح للبينة المثبتة فهذا محل النظر والنزاع؛ لأنا إن سلمناه قلنا عارضه أصل البراءة المرجح للنافية وإن منعناه نظرا إلى معارضه قلنا فيتساقطان وكل من هذين يقتضي براءة المدعى عليه كما تقرر ومنها ما أفتى به أبو عمرو ونفسه فيما إذا قامت بينة بأن مالك هذه الدار رهنها من فلان وأقبضها في ربيع الأول سنة تسع وسبعمائة مثلا وأقام آخر بينة بأنه أقر له بها سنة تسع ولم يذكروا شهرا من أنهما يتعارضان بناء على الأصح من أن صحة الرهن تمنع صحة الإقرار فيتساقطان فلا يثبت الرهن ولا الإقرار ا هـ. فكما حكم بالتعارض هنا ولم ينظر إلى أن البينة المثبتة للرهن تحقق بها شغل العين وشككنا في تقدم الإقرار الشاهد به البينة الأخرى وتأخره عنه فلا يسقط أعني الرهن بالاحتمال فكان قياس ما قاله هنا من التعارض أن يقول به في مسألته السابقة، وأما كونه يقول في الأولى بتقديم المثبتة ويقول هنا بالتعارض فهذا فيه نظر أي نظر لاستواء المسألتين ومجيء نظير ما علل به تلك في هذه حرفا بحرف كما لا يخفى على متأمل ويلزم من مجيء علته التي قالها، ثم هنا استواؤهما فيما ذكرناه فعدوله عنه إلى الفرق بينهما في الحكم مع اتحادهما في العلة يقدح فيما قاله في تلك وتبين أن الوجه نظير ما قاله في هذه من تعارض البينتين، ثم أيضا وبراءة ذمة المدعى عليه، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وسئل: رضي الله تعالى عنه عن امرأة ساكنة في بيت استأجره زوجها قال لها المالك إنك وجدت في الدار كيسا لمورثنا ضمنه عشرة آلاف دينار فأجابت بأنها لم تجد إلا ألف دينار فهل هذا الإقرار معتبر فيلزمها ما أقرت به لمالك الدار وهل يقبل تفسيرها للدينار بغير مفهومه الشرعي وهل اليد على الدار للمستأجر أم للمالك وهل في ذلك إقرار بمجهول وعلى تقديره فما الذي يلزمها وهل عدم تعيينها بمحل مخصوص في الدار يوجب عدم اعتبار مؤاخذتها بالإقرار وهل إذا شهدت البينة بصورة ما أقرت به هل الشهادة صحيحة

 

ج / 3 ص -41-          أم لا وإذا لم يستفسرها الحاكم في مجلس الحكم، ثم استفسرها في مجلس آخر يقبل تفسيرها أم لا. فأجاب: بما صورته إن كانت صيغة إقرارها لم أجد له إلا ألف دينار كان إقرارا معتبرا بخلاف ما إذا لم تقل له فإنه يكون لغوا أخذا من قولهم لو قال لي عليك ألف فقال في جوابه خذه أو لست منكرا أو لا أنكر أو قال أظن أو أحسب أو أقدر لم يكن إقرارا لاحتماله غير الإقرار أيضا والأصل في الإقرار العمل باليقين كما نص عليه الشافعي رضي الله تعالى عنه قالوا ولو قال لي عليك ألف فقال غير عشرة لم يكن إقرارا أيضا ولو قال لي عليك ألف فقال مع مائة لم تجب الألف ولا المائة فهذا كله صريح فيما ذكرته وإذا قلنا الإقرار صحيح لم يقبل تفسيرها للدينار بغير مفهومه الشرعي إلا إن وصلته به فليس في ذلك إقرار بمجهول واليد على الدفين الذي في الدار للمستأجر باتفاق الشافعي وأصحابه إلا المزني وغلطوه بأن الدار وما فيها في يد المستأجر قالوا لكن محل تصديق المستأجر إن احتمل صدقه ولو على بعد فأما إذا لم يحتمل لكون مثله لا يحتمل دفنه في مدة يده فالمصدق المالك بلا خلاف هذا كله إذا وجد الدفين والدار في يد المستأجر أما لو وجد بعد عودها إلى المالك فإن قال المالك أنا دفنته بعد عود الدار إلي فالقول قوله بيمينه بشرط الإمكان وإن قال كان مدفونا قبل وضع المستأجر يده صدق المستأجر؛ لأن المالك اعترف بحصول الكنز في يده فيده تفسخ اليد السابقة ولهذا لو تنازعا قبل الرجوع كان القول قوله أي: المستأجر كما مر بتفصيله ذكر ذلك جميعه النووي في شرح المهذب وكذا هو في الروضة وأصلها وغيرهما وإذا صح الإقرار كما ذكرناه لم يشترط أن يعين محلا مخصوصا من الدار وعلى الحاكم وفقه الله تعالى وسدده أن ينظر في اللفظ الذي شهدت به البينة ويحرره ويحكم بموجبه مما ذكرناه وغيره فإن لم يتحرر عنده لفظ الشهود بالإقرار استعاد شهادتهم ورتب عليها مقتضاها وتقبل شهادة البينة حينئذ ثانيا كما يعلم بالأولى من قول الغزي لا يجوز للحاكم تعليم الشاهد كيفية الشهادة فلو فعل وأدى الشاهد بتعليمه اعتد بذلك، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وسئل: هل يصح تعليق الإقرار. فأجاب بقوله: أما تعليق الإقرار فلا يصح كقوله له علي ألف إن قدم زيد ما لم يقصد به التأجيل والأصح ولو قال معسر له علي ألف إن أيسرت فإن قصد التعليق بطل أو التأجيل صح وإن تعذر استفساره صح على نزاع فيه.
وسئل: رضي الله تعالى عنه عما إذا أقر شخص لآخر في غيبة المقر له فهل يملكه المقر له أم لا بد أن يسمع ما أقر له به. فأجاب بقوله: من أقر لشخص بشيء لم يجز له التصرف فيه حتى يبلغ الخبر المقر له ويرد الإقرار فإن شرط صحة الإقرار عدم تكذيب المقر له فإن كذب بطل الإقرار وإلا صح فعلم أنه لا يشترط في ملكه أن يسمع حتى لو مات قبل أن يبلغه الخبر ملكه ورثته إن لم تكذب المقر له، والله سبحانه وتعالى أعلم.

 

ج / 3 ص -42-          وسئل: عما إذا كان لشخص على آخر دين شرعي بمستند شرعي ثابت محكوم به في الشرع الشريف وله عقارات فمرض مرضا مات به فأقر في المرض المذكور أن ولده فلانا يستحق من العقارات كذا وابنته تستحق كذا وفلانا كذا إلى أن تصرف في جميع العقارات ولم يترك شيئا يوفى به دينه ومات فهل إقرار المريض لولده بعقار هو معروف به وعليه الدين مانع لرب الدين من المطالبة على الولد إلا كان حيا أم يحمل على تبرع المريض في المرض ويكون وصية ولا يسري إلا في الثلث ولا يمنع رب الدين من المطالبة. فأجاب بقوله: الذي قاله البلقيني أنه لو أقر في مرض موته أنه ملك وارثه كذا وقال في عين عرف أنها كانت للمريض هذه ملك لوارثي فلينزل ذلك على حالة المرض ذكره القاضي حسين في باب التفليس عند الكلام على إقرار المفلس بدين مطلق أن المرأة المريضة لو أقرت بإبراء زوجها من الصداق ينزل على الإبراء في المرض وله نظير في إقرار الوالد بملك للابن إذا لم يفسره بالهبة والكلام فيه معروف ا هـ. وقد اختصر البلقيني كلام القاضي وحاصله أنها لو أقرت في المرض أنها أبرأت زوجها من صداقها ففيه الخلاف فيمن أقر في المرض بأنه وهب لوارثه في الصحة أي والأصح منه القبول ثم فكذا هنا قال ولو أطلق المريض الإقرار بالعتق حمل على عتقه في المرض وكذا لو أقر بهبة عين مطلقا حمل على أنه وهبها في المرض ويحسب من ثلثه ولو أطلقت المريضة أنها أبرأت زوجها من صداقها حمل على أنه في المرض فلا يصح أي إن لم يجزه بقية الورثة ا هـ. والراجح في النظير الذي ذكره البلقيني عند النووي وغيره كابن الصلاح والهروي أن له الرجوع أي: تنزيلا على أضعف الملكين وأدنى السببين وهو أن الولد إنما ملك ذلك بطريق أن الأب وهبه له فكذا في مسألتنا ينزل الإقرار على الأضعف وهو وقوع التمليك في حالة المرض حتى يكون تبرعا وللدائن رد التبرع محسوبا من الثلث إن كان لغير وارث وإلا وقف على إجازة بقية الورثة لكن يشكل على ما ذكر عن القاضي في المسألة الأولى أنه رجح في النظير المذكور مقابل ما مر عن النووي وغيره فيه فقال في تعليقه لو أقر بأن هذه العين ملك ابني وهي في يدي أمانة مثلا ثم ادعى بعد ذلك أن المقر به كان له مثلا ثم وهبه له مثلا ثم رجع فيه وكذبه الولد فالقول قول الولد ا هـ. ورجح هذا في فتاويه فقال إنه الظاهر وحينئذ فقد يتوهم بين كلاميه في المسألة تناف ولا تنافي لظهور الفرق بينهما؛ لأن الأصل في الأولى تأخر الإقرار إلى حالة المرض فاعتضدت دعوى وقوعه فيه بذلك الأصل فقبلت والأصل في النظير المذكور بقاء ملك الابن فاعتضدت دعواه تكذيب الوالد بذلك الأصل فصدق دون الوالد؛ لأنا تحققنا ملكه وشككنا في السبب المقتضي لرفعه وهو الهبة فلم يصدق مدعيها وهذا وإن دفع التناقض عن القاضي إلا أنه لا يقتضي اعتماد ما قاله في النظير المذكور لما مر من رده بأن الإقرار ينزل على أقل السببين وأضعفهما ومن ثم لما نقل ابن
الصلاح عن العبادي موافقة القاضي هنا متمسكا بأن الأصل بقاء الملك رده بأنا نتمسك بأن الإقرار المطلق منزل على أقل السببين

 

ج / 3 ص -43-          وأضعفهما كما ينزل على أقل المقدارين استصحابا للأصل القديم وهذا الأصل متقدم على الأصل الذي تمسك به العبادي فكان الأخذ به أولى ولا يرد هذا أنه لو أقر مطلقا، ثم فسر بثمن مبيع لم يقبضه أو بدين مؤجل لم يقبل؛ لأن ذلك يمنع المطالبة والإلزام في الحال فهو مناقض لموجب قوله علي نعم يشكل على ما قاله القاضي في المسألة الأولى قول النووي لو وهب وأقبض ومات وادعى الوارث كون ذلك في المرض وادعى المتهب كونه في الصحة فالمختار أن القول قول المتهب ا هـ. وقد يجاب بأن الأصل في الهبة مع القبض أن تكون مستلزمة لملك المتهب فادعاء الوارث وقوعها في المرض فيه معارضة لهذا الأصل ورفع له والأصل عدم رفعه حتى يتحقق وقوعه في المرض فصدقنا المتهب لذلك إذ لا قرينة ولا أصل يدلان على خلاف دعواه، وأما في مسألة القاضي فالقرينة تصدق الوارث وهي وقوع الإقرار في المرض وكون العين معروفة بأنها له إلى حالة مرضه وحينئذ فتنزيل الإقرار على حالة المرض ظاهر؛ لأنه إخبار عن سابق ويكفي في تحقق سبقه كونه قبل وقت الإقرار بلحظة فنزل عليها للاعتضاد بهاتين القرينتين الظاهرتين في ذلك كما لا يخفى وبهذا الذي قررته يندفع اعتماد البلقيني جزم الماوردي بخلاف ما مر عن النووي في المسألة الأخيرة ويندفع أيضا قول القمولي مقتضى كلام القاضي تنزيل الإقرار في مسألة النووي على المرض قال الزركشي بعد أن ساق كلام النووي والماوردي والظاهر أنهما لو أقاما بينتين قدمت بينة الوارث لزيادة علمها وقد أفتى النووي بتقديم بينة المرض على بينة الصحة؛ لأنها ناقلة والأخرى مستصحبة ا هـ. وبما تقرر اتجه كلام القاضي في المسألة الأولى التي هي صورة السؤال وذكر الزركشي ما يوافقه فقال أطلقوا الخلاف أي في صحة إقرار المريض بالعين وينبغي أن يستثنى منه ما إذا تحقق ملكه للعين إلى حالة مرض الموت فإنه إذا أقر بها مطلقا وقالت الورثة هو عن هبة وقال المقر له بل عن معاوضة لا محاباة فيها فالقول قول الوارث بيمينه؛ لأن الأصل عدم المعاوضة وهي نظير الأب يقر لولده بشيء، ثم يفسره بالهبة ليرجع فيقبل على الأصح ا هـ. وسبقه إلى ذلك شيخه البلقيني في فتاويه وكأنه أخذه منها فقال فيها شخص أقر لبعض الورثة في مرض موته بأعيان هل يحتاج لإجازة بقية الورثة أجاب إذا ظهر ما يقتضي صدور انتقال ذلك عنه في الصحة لمن ذكر أو في مرض الموت بعوض لا محاباة فيه فإنه لا تعلق لبقية الورثة به وكذا لو لم يعرف أنه كان مالكه إلى حالة المرض المذكور وقال بقية الورثة إنه انتقل عنه في المرض بغير عوض وقال المقر له بل كان بعوض لا محاباة فيه فالقول قول من قال إنه كان بغير عوض بيمينه وحينئذ يحتاج إلى إجازة ا هـ.
وفي الأشراف للهروي لو أقر بشيء مثلا ثم قامت بينة أنه كان في ملكه إلى أن أقر به لم يصح الإقرار قال السبكي: وهذا في بينة واحدة أما إذا شهدت بينة بالإقرار وبينة بالملك فالذي يظهر أنه يقدم بينة الإقرار؛ لأن الشاهدة بالملك تعتمد الظاهر ا هـ. وبهذا يعرف أن محل ما قاله القاضي من صحة الإقرار وتنزيله على حالة

 

ج / 3 ص -44-          المرض محله ما إذا لم تقم بينة بأنه كان في ملكه إلى أن أقر به وإلا لم يصح إقراره فإن قامت بينة بالإقرار وبينة بالملك قدمت بينة الإقرار ونزل على حالة المرض، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وسئل: رضي الله تعالى عنه بما لفظه ذكروا فيما لو قال بعني ما تدعيه أنه يكون إقرارا فهل أجرني كذلك. فأجاب بقوله: هو كذلك بالنسبة لتضمنه الإقرار بالمنفعة دون العين.
وسئل: رضي الله تعالى عنه عن قول الشيخين شرط ملحق النسب بغيره أن يكون وارثا حائزا لتركة الملحق به ولو بواسطة كأن أقر بعم وهو حائز تركة أبيه الحائز تركة جده الملحق به فإن كان مات أبوه قبل جده فلا إلحاق قال ابن الرفعة: وهو يفهم أنه يعتبر كون المقر وارثا حائزا لميراث الملحق به لو قدر موته حين الإلحاق وكلامهم يأباه؛ لأنهم قالوا لو مات مسلم وترك ولدين مسلما وكافرا مثلا ثم مات المسلم وترك ابنا مسلما وأسلم عمه الكافر فحق الإلحاق بالجد لابن ابنه المسلم لا لابنه الذي أسلم بعد موته ولو كان كما قيل لكان الأمر بالعكس فما المعتمد من ذلك. فأجاب بقوله: المعتمد ما أفهمه كلام الشيخين وقد يجاب عما احتج به ابن الرفعة بأن حق الإلحاق ثبت للابن المسلم على انفراده، ثم انتقل بموته لابنه؛ لأن ما ثبت للمورث يثبت لوارثه فطرو إسلام الابن لا يرفع ما ثبت لابن المسلم من حق الإلحاق فاختص به من غير أن يشركه فيه عمه لقيام المانع به وهو الكفر حين موت أبيه فلا ينافي ما ذكروه في هذه المسألة ما أفهمه كلام الشيخين كما يعلم لمن تأمل ما ذكرته.
وسئل: عمن أقر لولده بدور بمكتوب لكن صيغة لفظ المكتوب وأقر المشهد المذكور أن الدور المخلفة عن والده ملك لولده فلان فهل هذا الإقرار صحيح معمول به سواء علم قصد المقر أو جهل لموته من المرض الذي كان به حال الإقرار أم لا. فأجاب بقوله: الذي جزم به في الأنوار أنه لو قال الدار التي ورثتها من أبي لفلان لم يكن إقرارا إلا أن يريد ووجهه ما في كلامه من التناقض فيما هو كالجملة الواحدة فهو كقوله داري لفلان فإنه لغو لما تقرر وإن احتمل أن الإضافة فيه للسكنى أو المعرفة؛ لأن الأصل في الإضافة الملك وهو مستلزم للتناقض واستشكال الأسنوي الأولى بعد أن نقلها عن فتاوى البغوي بأن الملكين فيها لم يتواردا على وقت واحد ممنوع بل تواردا عليه بالمعنى الذي قررته نعم يشكل على كلام البغوي هذا قوله نفسه وجرى عليه في الروضة ولو قال الدار التي تركها أبي لفلان بل لفلان سلمت للأول فهذا صريح في صحة الإقرار فينافي ما مر من عدم صحته ويجاب بأن قوله تركها أبي ليس فيه إضافة ملك له صريحا ولا لزوما بخلاف ورثتها من أبي فإنه صريح في ملكه لها بالإرث ومما يدل على ذلك ما في الأنوار أيضا أنه لو قال العين الفلانية تركة فلان لم يكن إقرارا بالملك ولا لوارثه باليد قال

 

ج / 3 ص -45-          شارحه أي لصدق اللفظ على ذلك والأصل عدم زيادة عليه وهذا هو قاعدة الباب وهو إلزام اليقين وإطراح الشك ا هـ. فعلم أن قوله تركها أبي لا يستدعي ملكه ولا ملك أبيه لها فيصح إقراره بها معه إذ لا مانع فيه بخلاف ورثتها من أبي لوجود المانع وهو الإضافة المقتضية للملك المنافي للإقرار إذا تقرر ذلك فقول الموثق وأقر المشهد الخ. يحتمل أن يكون حكاية للفظ كلام المقر من غير زيادة ولا نقص وأن يكون عبر عما سمعه منه بذلك بحسب ما أداه إليه فهمه فيرجع إليه فإن كانت الصيغة التي سمعها منه الدور التي ورثتها من أبي لولدي فلان فالإقرار باطل إلا أن يريده فإن تبين ذلك قبل موته وإلا فهو محكوم ببطلانه وكذا إن كانت الدور المخلفة لي عن والدي، وأما إن كانت الدور التي تركها أو خلفها والدي لفلان فالإقرار صحيح فإن تعذر استفسار الموثق فقاعدة باب الإقرار من العمل باليقين ما لم يكن اللفظ نصا أو ظاهرا قويا في خلافه تقتضي بطلان الإقرار المذكور لما تقرر أن لفظ الموثق المذكور أعني قوله وأقر الخ. يحتمل معنيين صحيحين ومعنيين باطلين وليس هو في أحد تلك المعاني أظهر منه في الآخر فلا وجه لترجيح بعضها على بعض إلا بأن يقال الظاهر من حال الموثق أنه يحكي لفظ المقر من غير تصرف فيه بزيادة ولا نقص فحينئذ يترجح العمل به فيصح الإقرار إن سلم أن ذلك هو الظاهر وأن مثل هذا الظاهر يرجح به في باب الإقرار وفي النفس من ذلك شيء بل أشياء وميل النفس الآن إلى عدم العمل بعبارة الموثق المذكورة لاحتمالها وعدم ترجيح بعض معانيها على بعض بمرجح قوي ومن تأمل كلام أئمتنا في باب الإقرار ومبالغتهم في عدم النظر إلى ظواهر اللفظ وتحري اليقين ما أمكن علم صحة ما ذكرته، والله أعلم.
وسئل: عمن غاب فادعى عليه عند شافعي أنه أقر أن جميع ما بيده شركة بينه وبين المدعي ولم يعين ما بيده وشهدت بينة بذلك كذلك فهل تسمع هذه الدعوى والبينة مع الجهل. فأجاب: إذا وجدت شروط الدعوى على الغائب سمعت الدعوى المذكورة وقبلت شهادة البينة المذكورة، ثم ما علم أنه كان بيده يوم الإقرار يكون شركة بينهما وما لم يعلم فإن اختلفا في عين أو أعيان هل كانت بيده إذ ذاك يصدق المقر بيمينه أنها لم تكن في يده في ذلك الوقت وعلى المقر له البينة ومثلهما وارثاهما كما هو ظاهر.
وسئل: رضي الله تعالى عنه عما إذا قال شخص ذو أولاد معه في بلده لي ولد في بلد ولم يزد على ذلك فهل يصح هذا الإقرار فإذا مات فللقاضي أن يأخذ من أولاده حصة ولد ويحفظها إلى أن يتبين الحال. فأجاب بقوله: الأوجه أنه لا يصح الإقرار المذكور أخذا من أنه لو كان له أمتان فأتت كل واحدة بولد فقال أحد هذين الولدين ابني فهل يوقف ميراث ابن فيه وجهان: أصحهما: لا يوقف فكذا يقال في صورة السؤال.
وسئل: عما إذا ثبت دين على ميت فأقر وارثه بأعيان التركة لشخص فهل يصح

 

ج / 3 ص -46-          إقراره. فأجاب بقوله: نعم يصح كإقرار المفلس بالأعيان بل أولى وبذلك صرح الشمس الجوجري في شرح الإرشاد.
وسئل: رضي الله تعالى عنه عما إذا استلحق شخص وصدق المستلحق بأنه أبوه ثم بعد مدة انتسب لشريف وأقام بينة باستلحاقه أو ولادته على فراشه فهل يقبل منه. فأجاب بقوله: لا تسمع دعواه الثانية ولا بينته نعم إن شهدت حسبة باستلحاق الشريف له في صغره قبل استلحاق الثاني سمعت وكذا إن شهدت أنه ولد على فراشه فإن قالت بعقد نكاح اشترط تعرضها لشروطه.
وسئل: عن شخص أقر بإقرار صورته أقر فلان أن في ذمته لبناته مبلغا جملته كذا وأن ذلك ترتب في ذمته لهن بمقتضى أنه باع لهن أماكن مختلفة عن والدتهن فلانة بوادي كذا وقبض لهن صرا ومعاليم وأجرة بيوت وغلالا وتصرف في ذلك لنفسه والحال أن والدة البنات أقرت لبناتها أن جميع ما بيدها من العقار ملك لهن ثم توفيت الأم بعد وضع يد والدهن على العقار وباع منه شيئا بعد وفاتها وتضمن هذا الإقرار وغيره مسطور شرعي وكتب عليه حاكم شافعي المذهب ثبت عندي ذلك وحكمت بموجبه فهل يتضمن حكم الشافعي غير مقاصد المحكوم به أو يكون مقصورا على مقاصده وإذا قلتم بشموله للمقاصد وغيرها فهل يتسلط على قوله باع لهن الخ. ويكون حكما بصحة ما تضمنه هذا اللفظ من كون الأماكن مخلفة عن والدتهن حتى يكون لوارث غيرهن التمسك بهذا اللفظ والمطالبة بما يخصه من هذا المخلف.
وإذا قلتم بشموله وأن له المطالبة فهل يكون قوله لهن متعلق بقوله باع فقط أو به وبقوله مخلفة فيكون حينئذ مانعا للغير من المطالبة بمقتضى أنه لم يبع إلا ما هو مخلف لهن أو يكون مقصورا على التعلق بقوله باع ويكون قوله مخلفة مطلقا عن التقييد بالجار المذكور وإذا قلتم بعدم شمول الحكم للمقاصد فهل لحاكم آخر أن ينظر في غير المقاصد وما تضمنه اللفظ من الأقاويل بما يقتضيه نظره أو لا. فأجاب بقوله: الذي صرح به الولي أبو زرعة وغيره أن الحكم بموجب كذا أو بالموجب في كذا إذا صدر من الحاكم فقد أتى بصيغة شاملة لجميع الأحكام فكأنه نص على جميع الآثار وهذا صريح في تناوله الآثار المقصودة وغيرها فيتسلط قول الحاكم وحكمت بموجبه على جميع ما سبقه ومنه قوله باع لهن الخ. ومع شموله لذلك وكونه حكما بما يضمنه فليس لوارث غيرهن مطالبتهن من هذا المخلف بما يخصه؛ لأن هذا اللفظ ليس صريحا بل ولا دالا دلالة قوية على أن المقر المذكور وضع يده على مخلف تلك الوالدة جميعه وأتلفه أو تصرف فيه وإنما الذي يدل عليه أن الدين المترتب في ذمته لبناته له أسباب من جملتها بيع أماكن لهن مخلفة عن والدتهن فجعله هذا سببا من أسباب ثبوت الدين فيه تصريح بأنه لم يبع لهن إلا ما خصهن من مخلفها وأنه لم يبع ما خص

 

ج / 3 ص -47-          غيرهن؛ لأن الكلام وسياقه ينبو عن بيعه ما خص غيرهن على أنه محتمل واللفظ المحتمل لا يعمل به في الإقرار عندنا فقد قال الشافعي رضي الله تعالى عنه عنه أصل ما أبني عليه الإقرار أن ألزم اليقين وأطرح الشك ولا أستعمل الغلبة قال الشيخ أبو علي أي ما غلب على الناس والمراد باليقين في كلامه ما يشمل الظن القوي ولهذا قال في موضع آخر ولا ألزمه إلا ظاهر ما أقر به بينا وإن سبق إلى القلب غير ظاهر ما قال ومن هنا قال الهروي وغيره من أصحاب الشافعي يلزم في الإقرار باليقين وبالظن القوي لا بمجرد الظن والشك إذ الأصل براءة الذمة وبهذا يعلم ظهور ما تقرر من أن قول المقر مخلفة عن والدتهن لا يقتضي أنه استولى على جميع مخلفاتها ولا على بعضه الشامل لحصة بقية بعيد لا يعول عليه بل ولا يصلح أن يلزم به ذمة الميت بشيء للوارث حتى يطلبه من تركته وأنه لا فرق فيما تقرر أن يعلق قوله لهن بمخلفة على ما فيه من بعد وبين أن يعلق بباع وعلم مما قررته أولا أنه ليس لحاكم مخالف للشافعي أن يحكم بخلاف ما شمله حكمه بالموجب في شيء من مقاصد ذلك المحكوم بموجبه وغير مقاصده من جميع الآثار، ثم رأيت ما يصرح بما ذكرته في مخلفة عن والدتهن وهو قول الأنوار ولو قال العين الفلانية تركة فلان لم يكن إقرارا بالملك لفلان ولا لوارثه ويكون إقرارا باليد قال شارحه أي لصدق اللفظ على ذلك والأصل عدم زيادة عليه وهذا هو قاعدة الباب وهو إلزام اليقين وإطراح الشك ا هـ. وهذا نص ظاهر بل صريح فيما ذكرته من أن قوله مخلفة عن والدتهن لا يقتضي الرجوع للوارث على تركة المقر بشيء لما علمت من أنه ليس فيه إقرار بالملك لا للوالدة ولا لوارثها، والله أعلم.
وسئل: عن شخص أقر في مكتوب وصيته لولديه محمود وعبد الله مثلا بالسوية بملك جميع البستان الكبير الكائن بالحجاز بضيعة كذا وما اشتمل عليه من أرض وبناء وأخشاب وفواكه وسائر حقوقه ملكا شرعيا وأقر أيضا لابنته فاطمة مثلا بملك جميع البستان الصغير الكائن بالحجاز بالضيعة التي بها البستان الكبير المذكور أعلاه بجميع حقوقه من سقية وبناء هذا صورة لفظه في مكتوب وقفه، ثم توفي إلى رحمة الله تعالى ولم يبين قدر سقية كل بستان منهما من قرار الضيعة المسماة أعلاه الكائن بها البستانان المذكوران فإذا كان بيد المقر المذكور سقية معلومة في حال حياته يتصرف فيها بما شاء في البستانين المذكورين هل تقسم بين البستانين بالسوية أم لا. فأجاب بقوله: إذا كان لكل من البستانين سقية معلومة معتادة حال الإقرار نزل الإقرار عليها فلا يستحق مالك كل بستان إلا قدر تلك السقية المعلومة المعتادة فإن لم يكن عادة نزل الإقرار المذكور على ما يكفي كلا من البستانين فلا يستحق صاحب كل بستان إلا قدر ما يكفي بستانه؛ لأن المقر عبر فيهما بقوله وسائر أو جميع حقوقه والحق إنما ينصرف لما ذكرته من التفصيل المذكور تفقها، والله أعلم.

 

ج / 3 ص -48-          وسئل: عن امرأة بغي رميت بابنها بزنا فنفاه لأنه لم يسبق له معها نكاح ولا وطء مثلا ثم بعد مدة قال هذا ولدي جاهلا بما يترتب عليه فهل له الرجوع عن هذا الإقرار لجهله وهل لو قال لمجهول الأب هذا ولدي على سبيل الشفقة يلحقه أو لا. فأجاب بقوله: نفيه الأول لا يمنع من صحة استلحاقه فيلحقه بقوله هذا ولدي حيث وجدت شروط الاستلحاق وإن جهل ما يترتب على ذلك أو ظن أن نفيه الأول يمنع مؤاخذته بإقراره الثاني كما اقتضاه إطلاقهم وحينئذ فرجوعه غير مقبول خلافا لابن أبي هريرة ووفاقا للشيخ أبي حامد والعمراني وصاحب الانتصار والفارقي.
قال الشيخ؛ لأن النسب المحكوم بثبوته لا يرتفع بالاتفاق ونقل الشيخان هاتين المقالتين قبل ولم يفصحا بترجيح وعدم تصريحهما بالترجيح ظاهر لكنهما تركاه للعلم به من كلامهما إذ قياس ابن أبي هريرة ذلك على ما لو أقر له بمال ورجع وصدقه المقر له معلوم ضعفه من كلامهما من أن النسب يحتاط له بخلاف المال ومن نقلهما بعده عن أبي حامد ما مر من الاتفاق وأقراه ومن ثم قال في الروضة لو استلحق صغيرا فكذبه بعد بلوغه لم يندفع النسب؛ لأنه يحتاط له فلا يندفع بعد ثبوته كالثابت بالبينة، ثم قال فعلى هذا لو أراد المقر له تحليفه قال ابن الصباغ ينبغي أن لا يمكن؛ لأنه لو رجع لم يقبل رجوعه فلا معنى لتحليفه.
ا هـ.
فقد أقر الشيخان ابن الصباغ على هذا وقضيته أنه لا أثر لاتفاقهما على ما يخالف
الإقرار وقولهما عن ابن الصباغ ينبغي غير ما في شامله إذ الذي فيه الجزم بذلك وهو ما في الذخائر وغيرها وأنت خبير بأن هذا كله إذا اتفقا على الرجوع فإن انفرد المستلحق لم يقبل جزما وإن ادعى جهلا ونحوه ومن ثم قالوا لو قال هذا أخي وفسره بأخوة الإسلام أو الرضاع لم يقبل؛ لأنه خلاف الظاهر وبه يعلم الجواب عن قول السائل لو قال هذا ولدي على سبيل الشفقة وهو أنه يصير ولده ولا عبرة بدعواه ذلك لما قدمته فإن قلت يشكل على ذلك قول أصل الروضة في اللقيط ولا فرق في ذلك أي: في ثبوت نسب المستلحق بين الملتقط وغيره لكن يستحب أن يقال للملتقط من أين هو لك فربما توهم أن الالتقاط يفيد النسب.
ا هـ.
وظاهر أنه لو قال بعد إقراره في جواب قولنا من أين هو لك هو من الالتقاط لأني أراه يفيد النسب قبول ذلك منه فيلحق به ما إذا قال أقررت به معتقدا أن ولد الزنا يلحق الزاني قلت لا يشكل على ذلك ولا يلحق به ما ذكر وذلك؛ لأن الالتقاط أمر ظاهر يمكن إحالة الأمر عليه ويعتقد كثير أنه يفيد النسب فسن سؤاله ليزال توهم إفادته للنسب ويبطل ما يعتقده من كونه ولده بهذا الإقرار بل نبطله وإن استمر عليه؛ لأنا علمنا استناده إلى أمر ظاهر يقع في اعتقاد كثير مثله بخلاف ما نحن فيه فإنه إذا أقر أن مجهولا ولده ليس هناك قرينة ظاهرة ولا خفية تخالف حقيقة هذا اللفظ حتى يحتمل إسناده إليها فلم يقبل رجوعه مطلقا إعمالا للفظ في حقيقته التي ليس لها معارض ألبتة ودعواه اعتقاد أن ولد الزنا يلحق الزاني لا يقبل منه؛ لأنه لا قرينة تساعده ولا ظاهر يستند إليه فأعملنا اللفظ في حقيقته وبما قررته يعلم أنه حيث علم استناد إقراره إلى الالتقاط قبل

 

ج / 3 ص -49-          رجوعه وزال نسب اللقيط عنه مطلقا فقول الأزرقي كابن عجيل يقبل رجوعه فيما له دون ما عليه حتى إذا مات ورثه اللقيط ولا عكس ضعيف بل الأوجه أنه يقبل مطلقا لما قررته.
وسئل: عن شخص أقر أن الدار ونحوها ملك لشخص بالغ مكلف أو قاصر فهل يملك الشخص المقر له بتصديقه أو القاصر بتصديقه بعد بلوغه أو وليه أو الحاكم الشرعي في حال قصوره بمقتضى هذا الإقرار المجرد عن القبول والإذن في قبضه إذا قلتم أن الإقرار إخبار عن حق سابق أم لا بد من القبول والإذن في حوزه إذا جعلتموه إنشاء. فأجاب بقوله: إذا أقر بالملك في دار لآخر صح الإقرار وإن لم يذكر شيئا من شروطه ولا يحتاج إلى قبول المقر له؛ لأن الشرط عدم تكذيبه.
وسئل: رضي الله تعالى عنه عن شخص اشترى كتابا مثلا من شخص مع علم المشتري أو غلبة ظنه بقرائن الأحوال أن هذا الكتاب موقوف فهل يصح شراء هذا الشخص المذكور إذا قصد بشراء هذا الكتاب استخراجه واستنقاذ الوقف من الاستيلاء عليه واندراسه بتداول الأيدي عليه بالبيع والشراء كما قال الأصحاب في كتاب الإقرار لو اشترى مسلم أسيرا مسلما حرا من كافر صح استنقاذا لا تمليكا وشبهوا ذلك بمن شهد بطلاق امرأة فرد مثلا ثم اختلعها من زوجها فيصح ويلزمه العوض. وكما لو قال في عبد في يد غيره هو حر مثلا ثم اشتراه صح تنزيلا للعقد على قول من صدقه الشرع وهو البائع لكونه ذا يد وكما لو أقر أن عمر أغصب عبدا من زيد، ثم اشتراه من عمر وصح الشراء استنقاذا لملك الغير كما يستنقذ الحر أو لا يصح شراء هذا الشخص المذكور كما لو أقر بأن فلانة أخته فإنه لا يجوز له نكاحها. فأجاب بقوله: إن علم الوقف كان شراؤه افتداء نظير المسائل المذكورة وإن ظنه صح شراؤه ظاهرا وأديرت عليه جميع الأحكام؛ لأن الأصل في اليد الملك فيعمل به حتى يوجد ما يرفعه ومجرد ظن المشتري وإن اعتضد بقرائن لا يرفعه وما ذكرناه أولا لا ينافيه ما قالوه في فلانة أختي من أنه لا ينكحها بل لا تشبه ما نحن فيه عند التأمل، والله تعالى أعلم.
وسئل: عن شخص أقر أن هذا ابنه لكن من زناه مثلا ثم مات المقر فهل يرثه المقر به. فأجاب بقوله: إذا قال هذا ابني ووجدت شروط الاستلحاق المقررة في كتب الفقه لم يقبل قوله بعده من زنا بل يصير ولده يرثه بعد موته؛ لأن ذلك من باب تعقيب الإقرار بما يرفعه وهو أعني ذلك الرفع لا يقبل فهو نظير ما لو قال له علي ألف لكن من ثمن خمر فإنه يعمل بقوله على ألف ويلغو قوله من ثمن خمر فيلزمه الألف فكذا يصير هنا ابنه ويلغو قوله لكن من زنا فإن قلت قد ينافي هذا قولهم لو قال هذا أخي فإن قال منفصلا أردت من الرضاع لم يقبل أو متصلا قبل فهلا جرى هذا التفصيل في صورة السؤال قلت فرق ظاهر بين هذا وصورة السؤال؛ لأن قوله من زنا رافع للإقرار من أصله فلو قبلناه لرفعنا إقراره بكونه ابنه وأبطلناه من أصله فلذلك لم يقبل مطلقا، وأما تفسيره الأخوة بأخوة الرضاع فهو غير رافع

 

ج / 3 ص -50-          للإقرار بل مخصص له فإن الرضاع وإن كان كالنسب لكن لا في كل الأحوال وشأن المخصص للإقرار أنه يقبل إن اتصل لا إن انفصل كما لو قال له علي درهم وفسره بناقص أو رديء، والله أعلم.
وسئل: عن رجل أقر أن فلانا وارثه ليس له وارث سواه ما الحكم. فأجاب: يصح إقراره بشرط أن لا يكذبه الحس ولا الشرع ويقبل حصره الإرث فيه كما أفتى به ابن الصلاح فإنه سئل عن رجل أقر أنه لا وارث له إلا أولاده هؤلاء وزوجته فقال يثبت حصر ورثته فيهم بإقراره وكما يعتمد إقراره في أصل الإرث يعتمد في حصره فإنه من قبيل الوصف له قال هذا هو الظاهر وفي فتاوى القاضي ما يدل عليه. ا هـ. ولا بد من تقييده بما أشرت إليه أولا وهو أن لا يكذبه في الحصر الشرع فلو ثبت نسب ولد منه بنكاح أو وطء شبهة ولم توجد شروط النفي لم يقبل حصره الورثة في غير ذلك الولد كما هو ظاهر، والله أعلم.
وسئل: عما لو أقر لزيد بوقفية ملك في يده لعمرو مثلا ثم أقر بالملك لبكر يؤاخذ بالإقرار الثاني أم لا وما معنى المؤاخذة قال في باب الإقرار ويشترط في المقر به أن لا تكون يده نائبة عن غير جهة وقف أو يتيم وفي حاشية الأنوار الموقوف عليهم لو أقر بعضهم آخذناه بما يخصه للجامع بينهما. فأجاب بقوله: الذي صرح به الأصحاب أنه يشترط في صحة الإقرار والحكم بثبوت ملك المقر له أن يكون المقر به تحت يد المقر وتصرفه حسا أو شرعا وكونه مستقلا باليد فإن لم يكن تحت يده كذلك كان كلامه لغوا؛ لأنه إما دعوى عين للغير بغير إذنه وإما شهادة بغير لفظها لكنه إذا حصل في يده عومل الآن بقضية إقراره ولزمه تسليمه للمقر له فلو أقر أجنبي على ميت بدين، ثم ملك تركته قضى ذلك الدين منها معاملة له بإقراره.
إذا تقرر ذلك علم منه أن من كان تحت يده عين لعمرو وديعة مثلا فأقر بوقفيتها مثلا ثم أقر بأنها ملك لعمرو يكون إقراره الآن لغوا؛ لأنها ليست تحت يده واستقلاله حتى يصح إقراره فيها ويؤاخذ به، ثم إن لم تدخل تحت يده فواضح أنه لا يلزمه شيء وإن دخلت تحت يده بنحو شراء أو هبة لزمه تسليمها للموقوف عليهم وغرم قيمتها لبكر؛ لأنه أحال بينه وبينها بإقراره بوقفيتها قبل إقراره له بملكها فلزمه ذلك كما أفاده كلامهم ومنه قولي في شرح الإرشاد وإن أقر بمثلي أو متقوم كدار في يده لزيد مثلا ثم أقر بها على التراخي أو الفورية لعمرو بعد إقراره لزيد كأن قال هذا لزيد، ثم لعمرو أو بل لعمرو أولا بل لعمرو أو غصبته من زيد ثم أو بل أولا من عمرو أو غصبته من زيد وغصبته من عمرو سلم المقر به لزيد لسبق الإقرار له؛ ولأن الإقرار بحقوق الآدميين لا يرجع عنه كما صرح به أصله وحذفه لفهمه من قوله أول الباب يؤاخذ مكلف وغرم المقر قيمته. ولو مثليا أخذا من التعليل الآتي وإن تلف ذلك المثلي في يد زيد فيما يظهر لاحتمال رده للإقرار فيغرم لعمرو مثله

 

ج / 3 ص -51-          فلم يكن غرم المقر إلا للحيلولة ولو مع التلف لعمرو وإن كان الذي سلم لزيد هو الحاكم أو لم يتعمد أي: المقر ما ذكر بل أخطأ فيه للحيلولة ولو باع عينا لآخر وأقبضها له مثلا ثم أقر بعد خياره أو خيارهما ببيعها لآخر أو بعضها منه لم يبطل بيعه الأول وغرم قيمتها للآخر؛ لأنه فوتها عليه بتصرفه وإقباضه، وقضيته أنه لا غرم عليه قبل الإقباض وهو ظاهر إذ لا حيلولة حينئذ وأنه لا فرق بين قبض الثمن وعدم قبضه وبه صرح القاضي وهو متجه وإن اقتضى كلام الشيخين خلافه ا هـ. المقصود من عبارة الشرح المذكور فإن قلت لا دليل في ذلك كله؛ لأنهم قيدوه بقولهم كدار في يده وما في صورة السؤال ليس كذلك قلت هذه غفلة عما قدمته أول الباب من أن من أقر بشيء ليس في يده مثلا ثم صار في يده صار إقراره السابق كأنه واقع الآن فيعامل به ويكون كمن أقر له وهو في يده وما أشار إليه السائل من قولهم يشترط في المقر أن لا تكون يده نائبة الخ. معناه ما صرحوا به من أنه يشترط في اليد الاستقلال فلو كانت يده نائبة عن غيره بأن أقر بمال لآخر وذلك المال إنما هو تحت يده ليتيم أو جهة وقف مثلا لم يصح إقراره أي: الآن؛ لأن العين المقر بها إلى الآن لم تدخل في يده فإذا دخلت في يده بشراء أو نحوه عومل بذلك الإقرار وسلمت لمن أقر له بها؛ لأنها الآن صارت تحت يده واستقلاله فلا تكفي اليد بدون استقلال ومن ثم لو أقر مفلس بعين في يده لم يصح؛ لأنها وإن كانت في يده لكنها ليست في ولايته فلو اشتراها بعد فك الحجر أخذها المقر له؛ لأنها الآن صارت تحت يده وولايته قال ابن الصلاح: وفيما إذا أقر ناظر الوقف به لآخر مثلا ثم قسمه على الموقوف عليهم لا يغرم قطعا ولا يخرج على قوله الغرم بالحيلولة؛ لأن اليد ليست له كما لو أقر أن الدار التي كانت في يد زيد لعمرو. ا هـ. وفي الروضة في الصلح لو بنى بأرض مسجدا وأقر بها لمدعيها غرم له قيمتها؛ لأنه حال بينه وبينها بوقفها ومراده ببناء مسجد بها أنه وقفها مسجدا أو غيره كما عبر به بعض مختصريها وما ذكره السائل عن حاشية الأنوار معناه أن الموقوف عليه لو أقر بالعين الموقوفة لآخر انتزعت منه وسلمت للآخر مدة استحقاق المقر لا مطلقا؛ لأن إقراره إنما يسري فيما يتعلق بحقه دون حق غيره وهذا موافق لما قدمته من صحة الإقرار والمؤاخذة به إذا صدر فيما تحت يد المقر واستقلاله ولا شك أن العين الموقوفة ما دامت مستحقة للمقر هي تحت يده واستقلاله وإن لم يكن ناظرا وفارق المفلس فيما مر بصحة عبارة الموقوف عليه وإلغاء عبارة المفلس في الأعيان؛ لأنه محجور عليها لحق الغير.
وسئل: رضي الله تعالى عنه عما لو قال إنسان لمال في يده ليس لي في هذا المال شيء لا ينزع منه وله أن يدعيه هل هذا مخصوص بما إذا كان في يده حتى لو كان في يد غيره لم يكن الحكم كذلك بل يكتفي حقيقة بمجرد الإقرار أم لا. فأجاب بقوله: ما ذكر أولا وجهه ظاهر؛ لأن قوله ليس لي في هذا المال شيء إنما ينفي ملكه فقط، وأما كونه في

 

ج / 3 ص -52-          يده وديعة أو عارية أو نحوها فإنه لا ينفيه وإذا تقرر أن هذا معناه فله أن يدعي ملكه بعد ذلك ويثبته بطريقه وإذا كان هذا لا ينفي الملك مع كون الإقرار وهو بيد المقر فبالأولى إذا أقر وهو بيد الغير فله أن يدعيه ويثبت ملكه ومنافعه فإن قلت ما نقله السائل عنهم هل ينافيه قول الروضة وغيرها لو قال بيدي مال لا أعرف مالكه كان مؤداه أنه إقرار بمال ضائع فيكون إقرارا صحيحا قلت لا ينافيه؛ لأنه هنا نفى صريحا أن له عليه ولاية ملك أو استيفاء منفعة أو أمانة فوجب على القاضي نزعه منه، وأما فيما مر فهو لم ينف إلا ولاية الملك دون غيره فلم ينزع منه وبقي تحت يده ومكن من دعوى ملكه بعد ذلك.
وسئل: رضي الله تعالى عنه عمن أقر أن ثمرة بستانه لزيد مثلا ثم قال إنما موضوع إقراري إباحة وأريد أرجع في الإباحة فهل يقبل منه أو لا. فأجاب بقوله: لا يقبل منه ما ذكر؛ لأن قوله ثمرة بستاني لزيد صريح في الإقرار بالملك فدعواه أن مراده به إباحة ذلك مخالفة لصريح لفظه فلا يلتفت إليها ويحكم بملك الثمرة للمقر له وقد أطبقوا على أن تعقيب الإقرار بما يبطله باطل وهذا يشبهه وقد صرحوا بأنه لو قال ليس لي عليك شيء ولكن لي عليك ألف درهم لم تسمع دعواه؛ لأنه قال أولا ليس لي عليك شيء فإن قلت هذا مشكل على ما قالوه من صحة الاستثناء وأنه من النفي إثبات وعكسه قلت لا يشكل؛ لأن قوله ليس لي عليك شيء صريح في نفي جميع الأشياء لا يقبل تأويلا فكان قوله بعده ولكن الخ. مناقضا له من كل وجه فلم يمكن اجتماعهما حقيقة ولا مجازا بخلاف بقية صور الاستثناء فإنه لا تناقض فيها صريحا فصح الاستثناء وعمل به
وسئل: بما لفظه لم لا قيد الإرشاد في باب الإقرار في قوله وألف وألف وألف ثلاثة بلا فصل واختلاف عند قوله إن لم يؤكد الثاني كما قيده في الطلاق. فأجاب بقوله: العبارتان متساويتان في أن كلا منهما تفهم ما تفهمه الأخرى فلا تحتاج الأولى إلى التقييد المذكور كما أشرت إليه في شرح المحلين المذكورين وإيضاحه أن داعي الاختصار لما ألجأه إلى إدخال حكم ألف وألف وألف فيما قبلها أدخلها فيها لكنها تميزت عما قبلها باحتياجها إلى شروط ثلاثة: قصد التوكيد، واتفاق اللفظ، وعدم الفصل قيدها بتلك الثلاث لاستفادتها من قوله إن لم يؤكد الثاني فاحترز بقوله إن لم يؤكد عما إذا قصد الاستئناف أو أطلق لاقتضاء العطف التغاير وبقوله الثاني عما لو أراد تأكيد الأول بالثاني والثالث لعدم اتفاق اللفظ فيهما وتخلل الفصل بينهما في الأخيرة أعني تأكيد الأول بالثالث ومن ثم استفيد من هذا اشتراط عدم الفاصل باللفظ أو بسكتة فوق سكتة التنفس والعي؛ لأن سبب امتناع تأكيد الأول بالثالث شيئان اختلاف اللفظ لزيادة الواو في المؤكد بكسر الكاف، وتخلل الفاصل بينهما بالثاني فظهر أن تلك الشروط الثلاثة التي ذكرها في الطلاق صريحة مستفادة من قوله هنا إن لم يؤكد الثاني فلم تحتج هذه العبارة إلى ما ذكره في الطلاق لاستفادته منها

 

ج / 3 ص -53-          استفادة ظاهرة كما تقرر، وأما حكمة تصريحه بهذه الشروط الثلاثة في الطلاق فهي أنه لم يساعده الاختصار على تكرير اللفظ ثلاثا كما في الإقرار لطول أنت طالق مثلا فضلا عن تكريرها ثلاثا فلما تعذر عليه هذا التكرير احتاج إلى إجمال يشمله فقال وما تكرر عد ولما أتى بهذا لم يمكنه الإشارة إلى شروط العد إذ لا تمكنه الإشارة إلا لو كرر وقال إن لم يؤكد الثاني كما في الإقرار صرح بها فقال بلا فصل واختلاف فخرج بقوله بلا فصل تأكيد الأول بالثالث فتقع الثلاث لتخلل الفاصل وكذا لو فرقها بفوق سكتة التنفس والعي وبقوله واختلاف تأكيد الأول بالأخيرين المقترنين بالعاطف فيقع ثلاثا أيضا؛ لأن كلا من الأخيرين مخالف للأول لاقترانهما بحرف العاطف وتجرده أعني الأول عنه بخلافه في نحو أنت طالق أنت طالق فإن تأكيد الأول بالأخيرين صحيح فتقع واحدة فقط فاتضح بما قررته معنى العبارتين وحكمه الإتيان بهما في المحلين كذلك؛ لأن الأولى ذكرت تلك الثلاثة فيها بطريق الإيماء والإشارة المكتفى بها في مثل الإرشاد، والثانية ذكرت تلك الثلاثة فيها بطريق التصريح فتأمل ذلك تعرف تحقيق صاحب الإرشاد ودقة نظره وجلالة مقصده وكمال حكمته رحمه الله تعالى وإيانا بمنه وكرمه.
وسئل: عن إقرار أحد الشريكين في المشترك ينزل على الشيوع أو الحصر في حصة المقر ويؤخذ جميع المقر به أم من الحصة. فأجاب بقوله: قد اضطرب ترجيح الشيخين في هذه المسألة وأطال المتأخرون الكلام فيها وقد لخصت ذلك في شرح الإرشاد وعبارته ولو أقر أحد شريكين بنصف المشترك انحصر في نصيبه كما في الروضة هنا بخلاف الوارث؛ لأنه خليفة مورثه لكن رجح في العتق الإشاعة واعتمده الأسنوي وغيره أي: لذهاب الأكثرين إليه وضعفوا ما هنا وهذا من إفراد القاعدة المضطرب فيها أعني قاعدة الحصر والإشاعة. والمرجح في الخلع الإشاعة بخلاف البيع والرهن والوصية والصداق والعتق انتهت عبارة الشرح المذكور ومنها يعلم أن المعتمد تنزيل إقرار الشريك على الإشاعة فإذا كان بينهما مائة شركة نصفين فأقر أحدهما بنصفها لثالث نزل إقراره على الإشاعة حتى يبطل في خمسة وعشرين ويصح في خمسة وعشرين وهي نصف حصته وعلى قول الحصر يصح في الخمسين التي هي قدر حقه فيأخذها كلها المقر له فإن قلت ما الفرق بين الإقرار حيث نزل على الإشاعة على ما تقرر وبين البيع والرهن والوصية والصداق والعتق حيث ينزل على الحصر قلت يفرق بأن الإقرار إخبار عن حق سابق فلا بد من تيقن ثبوت ذلك السابق بأن يكون اللفظ الدال عليه صريحا في دخوله تحت مدلوله أو ظاهرا ظهورا متبادرا من ذلك اللفظ فإذا قال أقررت لك بنصف هذا العبد وهو مشترك نصفين بينه وبين غيره لم يكن هذا اللفظ صريحا ولا ظاهرا في أن الإقرار وقع بنصف العبد المختص بالمقر بل هو محتمل لذلك ولكون النص المقر به شائعا بينه وبين شريكه فلا نوجب به إلا المتيقن وهو ربعه لا نصفه لقاعدة الشافعي رضي الله تعالى عنه المشهورة في الإقرار المشار إليها بقوله أصل ما

 

ج / 3 ص -54-          أبني عليه مسائل الإقرار أن ألزم اليقين أي: الظن القوي كما يفيده كلامه في موضع آخر وأطرح الشك أي: ومجرد الظن ولا أستعمل الغلبة أي: ما غلب على الناس؛ لأن الأصل براءة الذمة، وأما البيع وما ذكر بعده فهي من حيز الإنشاءات والإنشاء إذا أطلق في شيء إنما ينصرف للمملوك دون غيره فإذا قال بعتك نصف هذا المشترك بينه وبين غيره انصرف البيع لجميع حصته وانحصر فيها دون حصة شريكه لما علمت أنه إنشاء كما صرحوا به ولما كان القصد من الخلع تخليص العصمة ومن ثم صح بالمغصوب ونحوه ولم يوجد فيه المعنى المقرر في الإنشاءات فمن ثم ألحقوه بالإقرار في تنزيل عوضه على الإشاعة فتأمل ذلك فإنه مهم ولم أر أحدا فرق بين تلك الأبواب وسر تخالف مدارك الأئمة فيها وقد اتضح سبب تخالفها، ولله الحمد.
وسئل: عمن أقر لورثة فلان بشيء فهل يقسم كإرثهم من فلان أو بالسوية. فأجاب بقوله: يقسم بالسوية بينهم كما نص عليه في الأم؛ لأن غالب الاستحقاقات المساواة كالهبة والوصية لهم والوقف عليهم.
وسئل: عمن أقر بأن فلان ابن فلان عمي لا وارث لي غيره ورثه عمه كما قاله القزويني. ا هـ. فهل ذلك إذا بين جهة العمومة لأبوين أو لأب كما في الدعوى والشهادة بها أم يكفي الإطلاق وهل ذلك في معروف العمومة فيكفي الإطلاق فيه دون مجهولها فلا بد من البيان. فأجاب بقوله: ما قاله القزويني صحيح على أنه لم ينفرد به بل ذكره غيره أيضا ولا يحتاج مع قوله لا وارث لي غيره إلى بيان جهة العمومة؛ لأنه حينئذ بمعنى قوله عمي من جهة الأب أو الأبوين مع ما فيه من زيادة اعترافه بانحصار الإرث فيه.
فإن قلت ينافي هذا ما أفتى به القفال أن من قال هذا وارثي ومات قبل بيان جهة الإرث لا يرثه وكذا قال العبادي ومثله في فتاوى القاضي فيمن قال فلان عصبتي أو وارثي إلا لم يكن لي عقب وجرى على ذلك الجلال البلقيني وغيره لكن نقل الأذرعي عن بعضهم أنه إذا قال فلان وارثي قبل قلت لا يخالفه؛ لأنه بين جهة الإرث مع انحصاره فيه بقوله فلان عمي لا وارث لي غيره بخلاف ما في مسألة القفال فإنه لم يبين فيها جهة الإرث فضلا عن انحصاره فيه فإن قلت فما المعتمد من ذلك المذكور عن القفال وغيره قلت قد يؤخذ من كلام الشيخين في الشهادة التي يحتاط فيها ما لا يحتاط في الإقرار كما صرحوا به في مسائل منها أنه لو شهد بأنه ابن عمه أو أخوه لم يقبلا لصدقه بابن العم للأم وهو غير وارث وبأخوة الإسلام بخلاف من أقر بأخوة مجهولة فإنه يقبل وإن كانت الأخوة للأم لا تثبت بالإقرار على خلاف كلام الماوردي الذي اعتمده البلقيني وأبو زرعة كما بينته مع ما فيه في شرح الإرشاد أي: حملا لكلام المقر على ما للإقرار فيه مدخل إذ المكلف يحمل كلامه على الصحة ما أمكن ولا نظر أيضا لاحتماله لأخوة الرضاع والإسلام قالوا؛ لأن المقر يحتاط لنفسه فيما يتعلق به

 

ج / 3 ص -55-          ولا يقر إلا عن تحقق أن كلام القفال ومن وافقه يتعين حمله على أنه لا يرثه قبل البحث عن ورثته وكلام غيرهم على أنه يرثه بعد البحث وبيان ذلك يعلم بسياق كلام الشيخين وغيرهما وحاصله أن دعوى الإرث لا بد لصحتها من ذكر جهة كالأخوة وأن الحكم به أي: حالا لما يعلم مما يأتي لا بد لصحته من ذكر الجهة والإرث بأن يشهد خبيران بباطن حال المورث لصحبة أو جوار حضر أو سفر بأن هذا وارثه وأنهما لا يعرفان له وارثا سواه فتدفع له التركة وإن كان ذا فرض وشهدا له كذلك أعطي فرضه ولا يقدح في شهادتهما قطعهما بأنه لا وارث له سواه وإن أخطآ به لأنهما إنما شهدا بما اعتقداه ولم يقصدا الكذب أما إذا لم يقولا لا نعرف له وارثا سواه أو قالاه ولم يكونا خبيرين بباطن حاله فإن كان سهمه غير مقدر أو مقدرا لكنه ممن يحجب لم يعط شيئا من التركة حالا بل بعد بحث القاضي عن حال الورثة فيما سكنه الميت أو طرقه من المحال مع النداء فيها أن فلانا مات فمن كان له وارث فليأت أو يوكل فإذا غلب على ظنه أنه لا وارث له غيره أعطاه حقه بلا يمين ولم يكن ثقة موسرا أو مقدرا وهو لا يحجب أعطى أقل فرضه عائلا حالا من غير بحث، ثم الباقي بعد البحث وعدم ظهور غيره ولو شهدا أنه ابنه أو أخوه ولم يذكرا كونه وارثا نزع بشهادتهما المال ممن هو بيده وأعطيه بعد البحث كما رجحه ابن الرفعة ونقله عن الجمهور فإذا اكتفوا في الشهادة بأن هذا وارثه وإن لم يقولا لا نعرف له وارثا سواه؛ لأن هذا إنما هو شرط لإعطائه حالا من غير بحث وليس شرطا لصحة الشهادة لإعطائه بعد البحث كما تقرر فأولى أن يكتفي في الإقرار بقوله هذا وارثي لما مر أنه يحتاط للشهادة ما لا يحتاط للإقرار فحينئذ يتعين حمل كلام القفال ومن وافقه على ما ذكرته وإلا فهو ضعيف لمنابذته لكلام الشيخين كالأصحاب في الشهادة كما تقرر فإن قلت كلام الأصحاب هنا مفروض في شهادة بعد ذكر جهة في الدعوى فكانت الجهة مذكورة في الشهادة وحينئذ فهذا لا يلاقي كلام القفال؛ لأن فيه ذكر الجهة والقفال إنما منع الإقرار الخالي عن ذكر الجهة قلت هو مع ذلك ملاقيه لما عرفت أنهم شددوا في الشهادة بما لم يشددوا به في الإقرار فلم يبعد مع ملاحظة ذلك أن يؤخذ منه حمل كلام القفال وغيره على ما قررته، ثم رأيت بعضهم حمل كلام القفال على ما إذا عرف أن مراد المقر جهة معينة وعرف انحصارها في المقر به وما ذكرته أوجه كما يظهر للمتأمل فإن قلت ما أفاده كلام القزويني السابق من ثبوت حصر الورثة بالإقرار هل ذكره غيره قلت نعم ذكره غيره لا سيما الإمام أبا عمرو بن الصلاح فإنه قال في رجل أقر أنه لا وارث له إلا أولاده هؤلاء وزوجته يثبت حصر ورثته فيهم بإقراره فكما يعتمد إقراره في أصل الإرث يعتمد في حصره فإنه من قبيل الوصف له قال هذا هو الظاهر وفي فتاوى القاضي ما يدل عليه فإن قلت ما ذكر من كلام الشيخين وغيرهما في الشهادة بالإرث من أنه لا بد من بيان جهة خصه بعضهم على ما نقل عنه بما إذا لم يقل الشاهدان نشهد أن هذا وارثه لا وارث له غيره فإن قالا ذلك لم يحتج لبيان جهة الإرث واستدل على ذلك بكلام

 

ج / 3 ص -56-          السيد السمهودي والجمال محمد بن أحمد بأفضل الحضرمي فهل ذلك صحيح معتمد أو لا قلت الذي دل عليه كلام الأصحاب والشيخين والمتأخرين أن ذلك غير صحيح ولا يعتمد؛ لأنهم كلهم مطبقون على أن شرط سماع الدعوى ذكر الجهة وعبارتهم ولو ادعى أنه وارث فلان وطلب إرثه وجب بيان جهة إرثه من نحو أخوة فيقول أنا أخوه ووارثه ويبين أنه أخوه لأبويه أو لأب أو لأم؛ لأن شرط صحة الدعوى أن تكون معلومة ولا تعلم إلا بعد بيان ما ذكر، ثم قالوا تقبل الشهادة المطلقة من غير ذكر السبب إلا في مسائل يجب فيها تفصيل الشهادة كالدعوى وذكروا من هذه المسائل المستثناة الشهادة بأن هذا وارث فلان لا بد من جهة الإرث على طبق ما ذكر في الدعوى فإذا تقرر ذلك علم أن الحصر لا يكفي عن ذكر الجهة وإنما فائدته أنه إذا انضم لذكر الجهة من خبيرين بباطن الميت أفاد الحكم بالإرث وإعطاء التركة حالا وإن لم ينضم لذكر الجهة بأن اقتصر الشاهدان عليها أو ضماه وليسا خبيرين لم يفد ذلك فلا يعطي إلا بعد البحث القوي على الظن أن لا وارث آخر فذلك هو فائدة ذكر الحصر، وأما ادعاء أنه يكفي عن ذكر الجهة فهو منابذ لقولهم لا بد من التفصيل في الشهادة بالإرث كالدعوى به فإن قلت لم لم يكف تفصيل الدعوى عن تفصيل الشهادة هنا قلت علته الالتباس على أكثر الناس في جهات الإرث وتميز بعضها عن بعض ومن يحجب ويحجب وغير ذلك فوجب على الشاهد بيان الجهة سواء أضم لذلك الحصر أم لا وهذا أولى بالوجوب مما اعتمد فيه ابن الرفعة كغيره وجوب التفصيل حيث قال: قال ابن أبي الدم: هل للشاهد أن يشهد باستحقاق زيد على عمرو درهما مثلا إذا عرف سببه كأن أقر له به فشهد أن له عليه درهما فيه وجهان أشهرهما لا تسمع شهادته وإن وافق الحاكم في مذهبه؛ لأن الشاهد قد يظن ما ليس بسبب سببا؛ ولأنه ليس له أن يرتب الأحكام على أسبابها بل وظيفته نقل ما سمعه من إقرار أو عقد أو غيره أو ما شاهده من الأفعال، ثم الحاكم ينظر فيه فإن رآه سببا رتب عليه مقتضاه قال ابن الرفعة وهذا ظاهر نص الأم والمختصر ا هـ. فإذا كان الإطلاق في هذا الشيء الظاهر لكل أحد لا يكفي فأولى في مسألتنا فإن قلت قد خالف ابن أبي الدم ابن الصباغ فقال كغيره بعد اطلاعه على النص المذكور أن ذلك يكفي وهو مقتضى كلام الروضة وأصلها قلت هذا بفرض اعتماده لا يؤيد عدم وجوب ذكر جهة الإرث في الشهادة لوضوح الفرق بين الصورتين؛ لأن الاستحقاق بعد نحو الإقرار ظاهر لغالب الناس بخلاف الإرث إذ له أسباب وموانع يعز على أكثر الناس معرفتها مع كثرة الخلاف فيها فوجب بيان جهته مطلقا على أن كلامهم صريح في الفرق فإنهم جعلوا مسألة الإرث مستثناة مما يكفي فيه الإطلاق كما مر فافهم أنه لا بد فيها من التفصيل مطلقا وأن خلاف ابن أبي الدم وابن الصباغ لا يأتي فيها وهو واضح كما تقرر، وأما الاستدلال بكلام السيد السمهودي على ذلك التخصيص السابق عن بعضهم فليس في محله بل كلامهم موافق لكلام الأصحاب ومنزل عليه وبفرض مخالفته له لا يلتفت إليه لكنه مع تأمله غير مخالف له

 

ج / 3 ص -57-          فإن السؤال مات شخص مشهور النسب من قبيلة وادعى كل واحد منهم أنه أقرب من الباقين أو ادعى بعضهم القرب والباقون المساواة ولم يقم مع واحد منهم بينة بما ادعاه فما الحكم فقال الجواب أن من ادعى وراثته منهم لكونه أقرب عصوبة والحالة هذه أو ادعى المساواة لمدعي الأقربية ومشاركته في وراثته فلا يسلم الحاكم لواحد منهم حتى يقيم بينة شرعية من أهل الخبرة بباطن حال الميت في قديم الزمان وحديثه وسفره وحضره أن هذا وارثه وأن هؤلاء ورثته لا يعرفون له وارثا سواه أو سواهم لاحتمال وارث آخر في بعض البلاد فإن لم تكن الشهود من أهل الخبرة الباطنة بحاله أو كانوا من أهلها ولم يقولوا لا نعلم له وارثا فلا يعطي المشهود له شيئا في الحال كما في أصل الروضة بل يبحث القاضي، ثم يعطيه بعد غلبة الظن أن لا وارث له غيره ا هـ. المقصود منه وهو موافق لكلام الشيخين وغيرهما الذي قدمته فإن السؤال مفروض في مشهور النسب من قبيلة وإن بقية القبيلة مختلفون في الأقرب إليه فجهة الإرث وهي بنوة العم لأبوين أو لأب معلومة متفق عليها مذكورة في الدعوى وإنما الخلاف في الأقرب منهم للميت فتقبل البينة بأن هذا وارثه وأن هؤلاء ورثته لا يعرفون له وارثا سواه أو سواهم كما أنه مفروض في ذكر الجهة وأن ذكر الحصر إنما هو شرط للإعطاء حالا لا غير وكلام السيد مصرح بالأمرين كما هو واضح بأدنى تأمل، وأما كلام الجمال الحضرمي في إقرار لا في شهادة وقد مر الفرق بينهما على أن فيه ذكر الجهة وهو قوله عمي واكتفى عن ذكر كونه لأبوين أولأب بقوله لا وارث له سواه كما مر أول الجواب فلا دليل فيه بوجه أيضا والله سبحانه وتعالى الموفق للصواب ومنه الهداية وإليه المآب لا رب غيره ولا مأمول إلا خيره إنه الجواد الكريم الرءوف الرحيم