الفتاوى الكبرى الفقهية على مذهب الإمام الشافعي

ج / 4 ص -125-        كتاب الانتباه لتحقيق عويص مسائل الإكراه
بسم الله الرجمن الرحيم
أحمد الله على إنعامه وأشكره على إلهامه وأصلي وأسلم على سيدنا محمد وآله وأصحابه في بدء الأمر وختامه صلاة وسلاما دائمين بدوام أفضاله في دار نعيمه وإكرامه.
"وبعد" فهذا كتاب لقبته بالانتباه لتحقيق عويص مسائل الإكراه حملني عليه أني أفتيت في مسألة بما هو الحق إن شاء الله تعالى فتوهم خلاف المراد حتى وقع بعض الانتقاد ثم بعد إمعان النظر في أطراف تلك المسائل وتخريجها على القواعد والدلائل ظهر أن فيها مشكلات لم ينبهوا عليها ومعضلات لم يوجهوا نظرهم إليها فقصدت إلى بيان ما فيها من نقد ورد وإشكال وجواب لينجلي بذلك إن شاء الله تعالى وجه الصواب بأخصر عبارة وأوجز إشارة في ورقات يسيرة وإن كانت مباحتها في نفسها عسيرة والله سبحانه وتعالى أعلم وأسأل الله في الإعانة على تحرير ذلك ويسهل الوعر من تلك المسالك فإنه الجواد الكريم الرءوف الرحيم، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وهو رب العرش العظيم ورتبته على مقدمة ومباحث وتتمة.
"المقدمة"
في بيان أن الإكراه على الطلاق واليمين وعلى تنجيز الطلاق وعلى فعل، أو ترك المعلق عليه فيهما ينقسم إلى إكراه بحق وإلى إكراه بباطل فالإكراه بباطل إذا صحبه عدم قصد من المكره واختيار بأن أتى بعين ما أكره عليه وحده من غير أدنى تغيير ولا تبديل فيه لداعية الإكراه فقط أخبر الشارع صلى الله عليه وسلم عن ربه عز إفضاله وجل نواله بأنه رفع حكمه عن أمته رخصة لهم وخصوصية من خصائصهم بقوله في الحديث الصحيح: "إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه" فجعل فعل المكره الذي وجدت فيه شروط الإكراه المقررة في كتب الفقهاء كلا فعل فكل ما كان الحكم فيه مترتبا على فعل المكلف يكون بسبب الإكراه لغوا بمنزلة المعدوم بخلاف الحكم المترتب على أمر غير فعل المكلف وإن كان ناشئا عن فعله فلا يرتفع ذلك الحكم بسبب الإكراه بل لا إكراه حينئذ؛ لأن موضعه الفعل ولم يترتب عليه شيء وموضع الحكم الانفعال ولم يقع عليه إكراه، فالحاصل أن الشارع قد يرتب الحكم على الفعل، والمراد به هنا ما يشمل الترك والقول وقد يرتبه على الانفعال وهو في الأول من خطاب التكليف الذي رفعه شفقة علينا عند الإكراه نعم إن عظمت المفسدة بحيث زادت على مفسدة الإكراه لم يرتب شيئا، ومن ثم لم يبح القتل ولا

 

ج / 4 ص -126-        الزنا وهذا سبب استثنائهم لهذين من هذا القسم وهو في الثاني من خطاب الوضع والأسباب والعلامات فكيف يرتفع مع أن القصد منه الربط بنحو السبب، أو الشرط، أو المانع من غير نظر إلى فعل ولا إلى فاعل كما يأتي ومن ثم حرم الإرضاع مع الإكراه؛ لأن التحريم فيه منوط بوصول اللبن إلى الجوف ولو أكره على الحدث كان محدثا، أو التحول عن القبلة، أو الفعل الكثير في الصلاة، أو ترك القيام في الفرض بطل، أو على نحو الوقوف بعرفة والرمي والسعي بناء على أنه لا يؤثر فيها الصرف صح، أو على نحو غشيان أمته فحبلت صارت أم ولد ولحقه، أو على وطء زوجته صار محصنا واستقر عليه المهر وأحلها للمطلق ثلاثا، أو على الوطء بشبهة ترتب عليه حرمة المصاهرة ولحوق النسب وانفساخ نكاح نحو أبي الواطئ كمجنون وطئ زوجة أبيه، أو أكره مجوسي على ذبح، أو محرم حلالا على ذبح صيد حل.
وإن جعلنا المكره آلة للمكره؛ لأن ذلك يرجع إلى الشروط ونحوها والخطاب فيها من باب خطاب الوضع الذي لا يؤثر فيه الإكراه كما تقرر؛ لأن الشارع أناط الحكم بوجود ذلك السبب، أو الشرط مثلا من غير نظر إلى فعل ولا إلى فاعل وبما قررته في هذا المحل يتضح لك متفرقات كلامهم المتعارضة ببادئ الرأي فإنهم ألغوا الإكراه تارة واعتدوا به تارة أخرى ألا ترى أن أكثر مسائل القسم الأول أثر فيها الإكراه وإلى أن بعضها لم يؤثر فيه كالقتل والزنا لما مر فيه، والقسم الثاني بالعكس فأكثر مسائله لا يؤثر فيه الإكراه وبعضها قد يؤثر فيه وكل ذلك معلوم مأخذه وملحظه مما تقرر فاستفده فإنه مهم يزول به شبه كثيرة لا يهتدى إلى حلها إلا بعد إمعان النظر كما تقرر وبهذا الذي قررته في القسم الأول أخذا من كلام التاج السبكي يتضح قول الزركشي: لا تأثير للإكراه في المباح والمكروه والمندوب وترك الحرام وإنما يؤثر إن كان على ترك واجب، أو فعل حرام اهـ. ووجهه أن المباح وما بعده لا إثم في فعلها ولا تركها فلا تأثير للإكراه فيها بخلاف الأخيرين فإن فيهما إثما فإذا كانا لداعية الإكراه انتفى عنهما الإثم رخصة من الله سبحانه وتعالى كما مر ونختم الكلام على هذا القسم بفرعين مشكلين: أحدهما لو أكره أحد الشريكين الآخر على وطء الأمة المشتركة فوطئها وأحبلها فهل يلزمه المهر وقيمة الولد لشريكه المكره له أو لا لا لأنه الحامل له قال الزركشي فيه نظر ولم يزد على ذلك وأقول الذي يتجه أنه لا يلزمه له شيء بناء على أن المكره آلة المكره وهو الذي يدل عليه كلامهم في مواضع؛ لأنه نتيجة فعل فكيف يكون فعله المتعدي به من غير ضرورة سببا لأخذه مال الغير من غير إذنه ولا رضاء، وظاهر أن محل التردد حيث لم يكن المكره بفتح الراء أعجميا يرى وجوب طاعة آمره وإلا فهو آلة له لا محالة كما صرحوا به في مواضع ثانيهما: قطع الأصحاب بأنه لا يصح من المكره بباطل عقد ولا حل كبيع وطلاق وغيره ومع ذلك يقع في كلامهم كثيرا في الأيمان والطلاق وغيرهما فيه قولا المكره وهذا غير ما جزموا به وجواب ذلك أن الجزم إنما هو فيما يوقعه المكره منجزا حالة الإكراه، وأما القولان فمحلهما في الإكراه على فعل سبقه

 

ج / 4 ص -127-        تعليق بالطلاق مثلا في حالة الاختيار نحو إلا دخلت الدار فأنت طالق ثم تكره على دخولها فمن نظر إلى اختياره أولا أوقع عليه ومن نظر إلى إكراهه على الدخول لم يحنثه وهذا هو الأظهر؛ لأن الوقوع إنما يستند بالحقيقة القريبة إلى وجود المعلق عليه ووجوده من المكره غير معتد به فلم يقع به شيء وأما الإكراه بحق فإنه كالاختيار إذ كان من حق هذا المكره أن يفعل فإذا لم يفعل أكره، ولم يسقط أثر فعله وكان آثما على كونه أحوج إلى أن يكره وهذا كالمرتد والحربي يكرهان على الإسلام فيصح وإن أكرههما كافر منهما ظاهرا وكذا باطنا إن أذعن له قبلهما ومن ذلك إكراه الإمام مكلفا على القيام بفرض الكفاية ومن نذر عتق عبد أو اشتراه بشرط إعتاقه وامتنع منه أجبر على إعتاقه فيصح ويقع الموقع وإذا امتنع المولى من الطلاق بعد مضي المدة وقام به مانع من الوطء كإحرام ولم يفئ بلسانه بأن يقول إذا زال عذري وطئت فأكرهه القاضي على طلقة واحدة وقع؛ لأنه مكره بحق فإن أكرهه على الثلاث وقلنا القاضي لا ينعزل بالفسق وقعت واحدة فقط ولغا الزائد، وإن قلنا ينعزل وهو الأصح فهو كمن أكرهه ظالم؛ لأن إكراهه إنما لم يمنع الحكم ما دام بالحق فإذا انعزل لم يبق له ولاية فساوى سائر الآحاد حينئذ ولا يرد على هذا القسم نفوذ الطلاق مع عدم الإكراه بحق فيما لو قال لغيره: طلق زوجتي، أو أعتق عبدي، أو بع متاعي وإلا قتلتك مثلا وذلك؛ لأن هذا الإكراه تضمن إذنا فمن هذه الحيثية جاء النفوذ وإن كان من حيث كونه إكراها يقتضي إلغاء التصرف ولحوق الإثم للمكره بالكسر، فالحاصل أن فيه حيثيتين مختلفتين رتب على كل منهما حكمهما لانفكاك الحكمين وعدم التلازم بينهما وبهذا الذي قررته يرد على الوجه الضعيف القائل بعدم وقوع الطلاق مثلا هنا لسقوط حكم اللفظ بالإكراه.
"تنبيه" تعبيري بالإكراه بحق هو ما عبروا به وأقروه لأنه يستلزم الإكراه على حق بخلاف الإكراه على حق فإنه لا يستلزم أن يكون الإكراه بحق والمعتبر إنما هو الإكراه بحق لا عليه ألا ترى أن إكراه الذمي على الإسلام إكراه على حق لا به لحرمة إكراهه عليه لقبولنا عقد الجزية منه المستلزم لعدم التعرض له فلو أسلم لداعية الإكراه لم يصح إسلامه؛ لأنه إكراه بباطل لا يقال قول الشيخين وغيرهما لو قال ولي الدم للقاتل طلق امرأتك وإلا اقتصصت منك لم يكن إكراها يدخل في الإكراه بحق مع نفيهم عنه حقيقة الإكراه من أصلها ويرد على ما تقرر أن الإكراه بحق يستلزم أنه على حق ولا عكس ووجه ذلك أن القصاص المكره به حق المكره والطلاق المكره عليه ليس حقا له فالإكراه بحق لا يستلزم الإكراه على حق خلاف ما ادعيتم؛ لأنا نقول معنى قولنا: الإكراه بحق إن الإكراه نفسه حق ولا يكون حقا إلا إذا كان كل من لازميه المكره به وعليه حقا فخرجت تلك الصورة؛ لأن الإكراه فيها ليس حقا وإن كان المتوعد به حلالا إذ ليس لولي الدم أن يكره به على الطلاق الذي لا حق له فيه بوجه.

 

ج / 4 ص -128-        المباحث
في ذكر الصور التي مرت الإشارة إليها في الخطبة وجه الإشكال فيها أنهم ذكروا في بعضها طبق ما مر في بحث الإكراه بحق من وقوع الطلاق وفي بعضها خلاف ذلك من عدم وقوعه مع أن الإكراه فيه بحق فلم يجروا على سنن واحد مطابق لما استثنوه ومن الوقوع مع الإكراه بحق وعدمه مع الإكراه بباطل، فمن تلك الصور قول الشيخين في الأيمان فيما إذا قال لا أفارقك حتى أستوفي حقي منك أنه لو أفلس الغريم فمنعه الحاكم من ملازمته ففارقه ففيه قولان حنث المكره وإن فارقه باختياره حنث وإن كان تركه واجبا لإعساره كما لو قال لا أصلي الفرض فصلى حنث اهـ. وبه جزم غيرهما والقياس الحنث؛ لأنه إكراه بحق وقولهما كما لو قال الخ يشكل عليه ما قالاه أثناء تعليق الطلاق فيمن قال أنت طالق إلا لم أطأك الليلة فوجدها حائضا أو محرمة من أنها لا تطلق خلافا للمزني فإنه لما حكى عدم الحنث عن الشافعي ومالك وأبي حنيفة رضي الله تعالى عنهم اعترضه وقال بل يحنث؛ لأن المعصية لا تعلق لها باليمين ولهذا لو حلف ليعصين الله سبحانه وتعالى فلم يعصه حنث أي وإن كان تركه المعصية واجبا عليه فما قاله المزني هو نظير ما قالاه في لا أصلي الفرض فلم اعتمد الحنث هناك ولم يعتمد هنا موافقة للمزني مع اتحاد المدرك وقد قال غيرهما: المذهب ما قاله المزني واختاره القفال وقيل على القولين كفوات البر بالإكراه هذا حاصل ما في هذا المبحث من هذين الإشكالين القويين ويجاب عن أولهما بأن محل قولهم إن الإكراه بحق لا يمنع صحة التصرف ما إذا كان المكره عليه تصرفا منجزا كما مر في إكراه القاضي للمولي على الطلاق، ولناذر العتق وشارطه على إيقاعه، ولأحد الرعية على القيام بفرض الكفاية كما في إكراه المرتد والحربي على الإسلام. ففي هذا كله يقع المكره عليه ويصح لما مر من تقصير المكره بفتح الراء بترك ذلك القول، أو الفعل اللازم له في الحال الآثم بتركه حتى أحوج غيره إلى حمله عليه أما إذا كان المكره عليه ليس كذلك وإنما هو فعل شيء علق عليه طلاقا مثلا باختياره فلا فرق حينئذ في إلغاء وجود المعلق عليه لداعي الإكراه بين الإكراه بحق والإكراه بباطل؛ لأن الملحظ في الحنث وجود المحلوف عليه باختياره ولم يوجد ذلك في الإكراه بقسميه.
وما أحسن قول بعض شراح التنبيه في مسألة غريم المفلس السابق فإن فارقه بعد حجر الحاكم عليه فعلى قول المكرهأي فلا يحنث على الأصح؛ لأنه مكره شرعا اهـ. فتأمل تعليله عدم حنثه بمنع الحاكم له من ملازمة غريمه المعسر بأنه مكره شرعا تجده صريحاأي صريح فيما ذكرته من أن وجود المعلق عليه بالإكراه الشرعي كهو بالإكراه الحسي في عدم الحنث ومن ثم علل بعضهم عدم الحنث في هذه أيضا بأن الإكراه الشرعي كالإكراه الحسي، فإن قلت هل لما ذكرته من الفرق في الحكم بين المنجز والمعلق وجه جلي يتضح به ذلك؟ قلت: نعم وذلك؛ لأنهم في المنجز لم ينظروا إلا إلى تقصير المكره بفتح الراء بما أوجب أن إكراهه بحق وإلى عدم تقصيره بما أوجب أن إكراهه بباطل، فقالوا في الأول ينفذ قطعا وفي الثاني لا ينفذ

 

ج / 4 ص -129-        قطعا، وأما في المعلق فلم ينظروا كلهم لذلك وإنما نظر بعضهم إلى ابتداء تعليقه السابق باختياره فأوقعه بفعل المعلق عليه سواء أكان الإكراه عليه بحق أم بباطل وبعضهم إلى فعله حال الإكراه وأنه ليس باختياره فلم يوقع سواء أكان الإكراه عليه بحق أم بباطل نظرا إلى عدم اختياره له فتأمل اختلاف نظرهم وملحظهم في المنجز والمعلق يتضح لك ما ذكرته ومما يوضحه أيضا أن المعلق لم يجعل المعلق عليه موجبا لحنثه إلا إذا قارنه الاختيار والرضا به كما يصرح به ألفاظ التعاليق كلا أفارق، أو إن دخلت ونحوهما، وإكراه الحاكم عليه وإن كان بحق ينافي اختيار المعلق فلم يحنث به وأما التصرف المنجز فلم يسبق من المكره عليه ما يقتضي تقييده باختيار ولا بعدمه ففصل فيه بين الإكراه بحق وعدمه نظرا إلى تقصير المكره بفتح الراء وعدم تقصيره فإن قلت هل يدل على ما ذكرته من التفرقة بينهما فروع أخرى غير مسألة المفلس السابقة قلت: نعم وها أنا أملي عليك منها لتطمئن نفسك إلى ما ذكرته منها ما ذكره في الخادم فيمن ابتلع خيطا وبقي طرفه خارجا ثم أصبح صائما فإن نزعه أفطر وإن تركه لم تصح صلاته قال وطريقه أن يجبره الحاكم على نزعه ولا يفطر؛ لأنه كالمكره.
اهـ. فتأمل قولهم ولا يفطر؛ لأنه كالمكره أي بباطل تعلم أنه ألحق هنا الإكراه بحق كالإكراه بباطل حتى أعطاه حكمه في عدم الفطر به ولم ينظر إلى أن الابتلاع من فعله المتسبب عنه إجبار الحاكم له على نزعه وإنما نظر إلى أنه لما أجبره على نزعه صار غير مختار له فساوى المكره بباطل في عدم الاختيار فلم يفطر حينئذ ومنها ما في حواشي الروضة للجلال البلقيني من أنه لو علق الطلاق على عدم فعل شيء كان فعله ممكنا فمنع منه كأن قال إلا لم أدخل هذه الدار في هذا اليوم فأنت طالق فمنع من الدخول بالإكراه إن كانت ملكه أو بالشرع إن كانت ملك غيره فإنه لا يقع عليه الطلاق لفوات البر بغير اختياره قال وقد سئلت عمن حلف بالطلاق أن يزرع في هذه الأرض في هذه السنة فدانا فمنع بالشرع لكونها ملك الغير من زرعه فظهر لي عدم الوقوع للعلة التي ذكرتهاأي وهي فوات البر بغير اختياره قال ونظيرها والله لآكلن الرغيف غدا فتلف الرغيف قبل الغد أي أو بعده وقبل التمكن ففات البر بغير اختياره ففيه قولان حنث المكرهأي وأصحهما عدم الحنث وقوله: إن لم أدخل أي في المسألة السابقة معناه إن عدم دخولي باختياري فأنت طالق، وإن دخلتها مختارا لم تطلق.
ومعنى قوله أولا، أو بالشرع وثانيا فمنع بالشرع أن الحاكم منعه، وأما مجرد كونه محرما عليه فلا عبرة به كما يأتي بسطه في جواب الإشكال الثاني ومنها ما ذكره الرافعي في الطلاق فيما لو قال إلا أخذت حقك مني فأنت طالق فأكرهه السلطان حتى أعطى بنفسه من أنه على القولين في فعل المكره وقضيته ترجيح عدم الحنث وجزم به غير واحد لما مر ويأتي من أنهم نزلوا الإكراه الشرعي منزلة الإكراه الحسي فكأنه هنا لم يؤخذ منه لما تقرر أنه إنما أعطاه كرها، وفعل المكره هنا كلا فعل ومن ثم كان المعتمد أنه يعتبر في إن أعطيتك حقك فامرأتي طالق اختيار المدين لا الدائن، وأما قول

 

ج / 4 ص -130-        الزركشي عقب ذكر هذه المسألة عن الرافعي كذلك وقضيته ترجيح عدم الحنث والمتجه خلافه؛ لأنه إكراه بحق فهو اشتباه لظنه أن المكره عليه المعلق كالمنجز وليس كذلك بدليل قوله هو إيجاب الشرع منزل منزلة الإكراه فيما لو حلف ليطأن زوجته الليلة فوجدها حائضا لا يحنث كما لو أكره على ترك الوطء أي للحائض في الصورة المذكورة فتأمل قوله كما الخ تجده مصرحا بأن المكره بحق على فعل المعلق عليه لا يحنث بفعله له لداعية الإكراه الذي بحق فهذا تصريحأي صريح فيما ذكرته من أن قوله والمتجه خلافه لخ من باب اشتباه المعلق بالمنجز على أن الزركشي لم ينفرد بهذا الاشتباه بل سبقه إليه شيخه الأذرعي فإنه ذكر قول الشيخين وغيرهما لو قال إلا أخذت ما لك علي فامرأتي طالق فأخذه منه، أو من وكيله ولو بتلصص، أو انتزاعه منه كرها والمال معين في الجميع، أو دين ورضي به المدين في الأخيرتين، أو امتنع من الإعطاء في الأخيرة كما ذكره الإمام والغزالي مثلها الثالثة طلقت لوجود الوصف لا إن أكره الدائن على الأخذ منه فأخذ منه فلا تطلق اهـ. ال أعني الأذرعي محل ما ذكر من عدم الطلاق عند إكراه الدائن على الأخذ من مدينه ما إذا لم يتوجه عليه أخذه منه فإن توجه عليه ذلك كما هو مبين آخر السلم فالظاهر أنها تطلق؛ لأنه إكراه بحق اهـ. فقوله فالظاهر الخ هو مادة الزركشي فيما مر عنه وقد ظهر أن ذاك اشتباه فهذا اشتباه أيضا وعجيب من شيخنا شيخ الإسلام زكريا سقى الله تعالى عهده كيف تبع الأذرعي على هذا الاشتباه الظاهر وكلام ابن الرفعة صريح فيما ذكرته وهو قوله قال الرافعي لو قال لا أفارقك حتى أستوفي حقي منك فاستوفاه من وكيله أو من أجنبي تبرع به، حنث قال ابن الرفعة: وينبغي أن يختص ذلك بما إذا قبضه مختارا أما إذا قبضه جبرا بالحاكم ويتصور في الأجنبي بأن يكون ضامنا فيكون على قولي الإكراه كما إذا أفلس ففارقه وجوابه أنه لا طريق له في دفع الإكراه عند الفلس ولا كذلك هنا فإنه يقدر على دفعه عند بذل الأجنبي بإبرائه من الضمان وبإبراء الموكل وإن حنث به نعم يتخرج على الإكراه على قتل أحد الرجلين اهـ. كلام ابن الرفعة وهو مشتمل على نفائس فقوله أما إذا قبضه جبرا بالحاكم الخ صريح فيما ذكرته من الرد على الأذرعي والزركشي؛ لأنه أعني ابن الرفعة ألحق الجبر من الحاكم هنا بجبره على مفارقة المفلس المصرحين فيها بعدم الحنث كما مر وقوله: وجوابه الخ فيه بيان وجه آخر في الرد على الأذرعي والزركشي وتقريره لو سلمنا أن الإكراه بحق يقتضي الوقوع لم يكن هذا منه؛ لأن من شرط الإكراه أن يكون على شيء بعينه وأن لا يجد المكره مندوحة عما أكره عليه وما هنا ليس كذلك؛ لأن الدائن المكره على الأخذ بسبيل من الإبراء للأجنبي عن الضمان، أو للموكل وإن حنث به أي لأنه فوت البر باختياره وإذا فرض أنه بسبيل من ذلك فهو لم يكره على أخذ لا مندوحة له عنه بل عليه، أو على الإبراء فأشبه الإكراه على قتل هذا، أو هذا أو طلاق هذه أو هذه ومنها لو حلف لا يفطر في رمضان في هذه الليلة فقد أفتى شيخ الإسلام الشرف المناوي بأنه إن أراد أنه لا

 

ج / 4 ص -131-        يفطر من صومه، أو أطلق أفطر بدخول الليل بالغروب ولا حنث كما في أصل الروضة في الأيمان وإن أراد أنه لا يتناول هذه الليلة مفطرا من صوم قاصدا بذلك الوصال فهو آثم بالإمساك من الغروب فإذا لزمه الحاكم بتناول مفطر بعينه فتناوله لم يحنث على أصح قولي حنث المكره نظير ما صرح به في أصل الروضة فيمن حلف لا يفارق غريمه حتى يستوفي حقه منه فأفلس الغريم ومنعه الحاكم من ملازمته فإن لم يعين له الحاكم مفطرا، أو عين له مفطرا فتناول غيره حنث لقرينة الاختيار اهـ. ومنها ما في توسط الأذرعي عن الماوردي من أنه لو حلف لا يعطيه ماله فله أحوال أحدها أن يدفع إليه بنفسه مختارا فيحنث سواء أخذ منه اختيارا أم غير اختيار؛ لأن الحنث يتعلق بالعطاء دون الأخذ وقد وجد العطاء فوقع الحنث ثانيها أن يعطيه لوكيله ولو بأمرهأي إن غاب عنه الموكل كما قيد به الشيخان في باب الخلع ثالثها أن يعطي وكيله دائنه ولو بأمره رابعها أن يعطيه عوضا عنه ولو بحوالة خامسها أن يأخذ السلطان من ماله جبرا فلا يحنث في هذه الأحوال سادسها أن يجبره السلطان على دفعه فيعطيه إياه مكرها ففي حنثه قولان اهـ. ومراده بالقولين القولان المعروفان في وجود المعلق عليه مع الإكراه وأظهرهما لا حنث مع أن الإكراه هنا بحق فهو مما نحن فيه من أن الإكراه على إيجاد المعلق يمنع الحنث به سواء أكان ذلك الإكراه بحق أم بباطل. ومنها لو حلف لا يؤدي دين فلان الذي عليه فحكم عليه حاكم بأدائه فأداه لم يحنث كما أفتى به شيخ الإسلام الجلال البلقيني وتبعه شيخ الإسلام الشرف المناوي وبعض معاصريه تنزيلا للإكراه الشرعي منزلة الإكراه الحسي وأما قول الزركشي ومن تبعه: إنه يحنث هنا أيضا فهو مبني على فهمه السابق قريبا ومما يدل على وهمه ما مر عنه في مسألة نزع الخيط من أن إجبار الحاكم على النزع غير مفطر كالإكراه الحسي وما مر عنه في مسألة من حلف ليطأن زوجته الليلة فوجدها حائضا ومنع عن الوطء لم يحنث، فقد صرح في هذين بأن الإكراه الشرعي منزل منزلة الإكراه الحسي فإن قلت ذكر الأصحاب مسائل تدل لما مر عن الزركشي والأذرعي وغيرهما من أن الإكراه الشرعي لا يمنع الحنث في المعلق عليه كما لا يؤثر في صحة التصرف المنجز قلت: لا شاهد لهم في تلك المسائل كما يعلم من ذكرها والجواب عنها منها قولهم لو حلف لا يحلف يمينا مغلظة فوجب عليه يمين وقلنا بوجوب التغليظأي على الضعيف حلف وحنث فلم ينظروا لكون حكم الحاكم بالتغليظ كالإكراه، ويجاب بأنه لم يوجد هنا حقيقة الإكراه؛ لأن له مندوحة عما أكره عليه بتأدية المدعى به فيندفع عنه حنث اليمين فإذا لم يؤد وحلف حنث لانتفاء شرط الإكراه المستلزم لانتفاء الإكراه من أصله فليست هذه مما نحن فيه ثم رأيت ما قدمته آنفا عن ابن الرفعة وهو صريح فيما ذكرته بخلاف المسائل التي قدمناها فإن حكم الحاكم بما فيها لا مندوحة عنه فمنع الحنث. ومنها قول الشيخين عن ابن الصباغ لو كان له عبد مقيد فحلف بعتقه أن في قيده عشرة أرطال وحلف بعتقه لا يحله هو ولا غيره فشهد عند القاضي

 

ج / 4 ص -132-        عدلان أن في قيده خمسة أرطال فحكم بعتقه ثم حل القيد فوجده عشرة أرطال من أنه لا شيء على الشاهدين؛ لأن العتق حصل بحل القيد دون الشهادة لتحقق كذبهما. اهـ. فالحكم بالعتق متضمن للحكم بالحل ولم ينظروا له ويجاب بعد تسليم اعتماد كلام ابن الصباغ وإلا فكلام الشيخين في الطلاق من عدم حنث الجاهل والناسي يقتضي ضعفه إلا أن يفرق كما بينته في بعض الفتاوى فإن هذا ليس فيه أن الحاكم حكم عليه بحل القيد بعد حكمه بالعتق وإنما المعلق هو الذي حله مختارا لظنه أنه عتق بتلك الشهادة الباطلة وأن الحل قد وجب عليه ثم بان خطأ ظنه وأيضا فكلامنا في حكم صحيح وهذا حكم باطل؛ لأنه بان أن عتقه إنما ترتب على حله وإن لم يعتق بزنة القيد وأن الحكم بعتقه به باطل فوجوب الحل المرتب على هذا الحكم الباطل لاغ، والحاصل أنا لو سلمنا أن الحكم بالعتق متضمن للحكم بالحل فقد بان بطلانه وإنما يلحق بالإكراه حكم القاضي الصحيح لا غير وبهذا يندفع قول الزركشي تعليلا للحنث في هذه المسألة؛ لأنه إكراه بحق فتأمل هذا المبحث وأمعن النظر فيه ليتضح لك متفرقات كلامهم المتعارضة الظواهر في ذلك حتى زلت فيها أقدام الأكابر كما علمت، بل الشخص نفسه يتناقض كلامه فيها كما مر لك عن الزركشي وسبب ذلك أنه في بعض المواضع يستحضر بعض الفروع المقررة فيما سبق أولا فيفهم منها أن الإكراه بحق في المعلق عليه يمنع الحنث كالإكراه بباطل وفي بعضها يستحضر بعض هذه الفروع المتأخرة فيفهم منها أن الإكراه بحق لا يمنع الحنث هنا كهو في المنجز فإذا أمعنت النظر وأنعمته فيما قررته وتأملته حق التأمل ظهر لك أن الحق هو الفرق في الإكراه بحق بين المنجز والمعلق وأن الفروع المصرحة به كثيرة صريحة لا تقبل التأويل بخلاف الفروع الموهمة لخلافه فإنها قليلة والجواب عنها قد ظهر ولله الحمد فلا عذر لمن تمسك بها في خلاف ما قلناه وبيناه وحررناه.
"تنبيه" ظاهر كلام الشيخين وغيرهما أن مجرد الحكم ملحق بالإكراه سواء قدر الحاكم على إكراه المحكوم عليه على فعل المحكوم به أم لا كالظلمة المتمردين وأما ثاني الإشكالين السابقين الذي هو تصريح الشيخين في الأيمان بأنه لو حلف لا يصلي الفرض حنث وفي الطلاق بأنه لو حلف ليطأنها الليلة فوجدها حائضا أو محرمة بنسك لم يحنث خلافا للمزني كما مر مبسوطا فيجاب عنه أيضا بأنه في صورة لا أصلي الفرض وما قيس عليه وهو لا أفارقك السابق قد وجه الحلف إلى النفي العام وجعله هو المقصود بالذات وذلك محرم إذ لا بد له من الصلاة ومن المفارقة عند إعسار الغريم فحيث صلى صلاة صحيحة، أو فارق غريمه باختياره فقد خالف المحلوف عليه صريحا فحنث وأما في مسألة إن لم أطأك ففيه تعليق على انتفاء الوطء المباح وهو مستلزم لحث نفسه عليه فحيث تعذر عليه فعله شرعا لحيض ونحوه كان كتعذره حسا فلم يحنث؛ لأنه لم يخالف المحلوف عليه وهو الوطء المباح باعتبار كونه لازما للتعليق المذكور فعلم بهذا الذي قررته رد اعتراض

 

ج / 4 ص -133-        المزني السابق على الشافعي وغيره؛ لأن صورة ما لو حلف ليعصين الله تعالى ليست كصورة لأطؤها الليلة فوجدها حائضا لما تقرر بل كصورة ما لو حلف لا يصلي الفرض حرفا بحرف؛ لأنه في كل منهما وجه حلفه إلى إيقاع المعصية المحرم فحيث خالفه فقد خالف المحلوف عليه صريحا فحنث لذلك وإن كانت المخالفة واجبة فتأمل هذا الجواب لتفر به من الوقوع في ورطة ذلك الإشكال المستلزم لتناقض كلام الشيخين التناقض الصريح الذي لا تأويل له لولا ما فتح الله تعالى به وله الفضل والمنة من هذا الجواب الظاهر للمتأمل ثم رأيتني فرقت بفرق آخر في بعض التعاليق وعبارته إذا وجد القول أو الفعل المحلوف عليه على وجه الإكراه أو النسيان أو الجهل ففيه قولان أظهرهما عدم الحنث سواء أكان الحلف بالله أم بالطلاق.
وقول القفال: يحنث في الطلاق دون اليمين ضعيف وإن كان هو مذهب أحمد رضي الله تعالى عنه لو قال حلف إلا لم تصومي غدا أو ليطأنها الليلة فحاضت لم تطلق كأن لم تصل اليوم صلاة الظهر فحاضت وقته ولم يمض زمن إمكان الصلاة وقول القاضي في إن لم تصلي الآن، فحاضت طلقت حالا ضعيف كما قاله الروياني وإن قال إلا لم تصومي يوم العيد أو إلا لم تصلي زمن الحيض أو إلا لم تبيعي الخمر فصلت فيه أو صامت أو باعت الخمر لم تطلقأي ولا نظر لفساد ذلك وحرمته؛ لأن المعلق عليه لا يشترط حله ولا صحته فقول بعضهم: هذا مشكل، ليس في محله وقد صرحوا بأنه يبر ويحنث بالقراءة جنبا وإن لم يبر به عن نذره؛ لأن القصد من النذر القربة، والمعصية لا يتقرب بها بخلاف اليمين فإن القصد منها وجود المعلق عليه مع التذكير والاختيار وفارقت هذه ما قبلها في صور الحيض بأن التحريم ثم لما طرأ بعد الحلف كان بمنزلة الحائل الحسي بينه وبين المعلق به فلم يحنث بتركه له لعذره في ذلك وأما عند تجرد يمينه لفعل المعصية فهو قاصد الإثم ومخالفة الشرع فكيف يعد منع الشارع له عذرا في عدم وجود المعلق عليه فهو أعني تعرضه لفعل المعصية وتعليقه عليها كما لو حلف لا يفعل كذا وإن كان مكرها فإنه يحنث بفعله له ولو مع الإكراه لتعرضه في حلفه له وأما الأول أعني الذي قد علق على فعل مباح فطرأ عليه ما أوجب تحريمه قبل تمكنه من فعله على وجه الإباحة فهو كما لو حلف ليفعلن كذا فحال بينه وبينه متغلب وتعذر عليه فعله فإنه لا يحنث لعذره فتأمل هذا الفرق الظاهر أيضا يتضح لك به أيضا الجواب عن ذلك الإشكال وأنه لا تناقض ولا تخالف بين كلام الشيخين في الطلاق والأيمان.
"التتمة" في فوائد تتعلق بالإكراه منها محل إلغاء فعل المكره وقوله حيث لم يقصد وأتى بعين ما أكره عليه من غير تغيير فيه بوجه لداعية الإكراه فحسب كما مر وفي مجموع المحاملي الإكراه يرفع حكم الطلاق والعتق والبيع فلا يلزم شيء معه إلا أن يقر بأنه أراد اللفظ فقط فيصح طلاقه وإن لم يرد الإيقاع؛ لأن المعتبر في وقوع الطلاق أي باللفظ الصريح إرادة اللفظ فقط وحكى الأصحاب فيما لو قصد المكره إيقاع الطلاق قولا بعدم الوقوع

 

ج / 4 ص -134-        لأنه أسقط أثر اللفظ ومجرد النية لا يؤثر والأصح الوقوع إذ لا يبعد اختياره ما أكره عليه ظاهرا فعلى هذا صريح الطلاق كناية عند الإكراه إن نوى وقع وإلا فلا ومنها متى حلف بطلاق أو غيره على فعل نفسه ففعله ناسيا للتعليق أو ذاكرا له مكرها على الفعل أو مختارا جاهلا بالمعلق عليه لا بالحكم خلافا لمن وهم فيه لم يحنث للخبر السابق "إن الله تعالى وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه"أي لا يؤاخذهم بشيء من هذه الثلاثة ما لم يدل دليل على خلافه كضمان المتلف فالفعل مع ذلك كلا فعل وكذا لا حنث إلا علق بفعل غيره المبالي بتعليقه بأن لم يخالفه فيه لنحو صداقة أو حياء أو مروءة وقصد بذلك منعه أو حثه وعلم بالتعليق ففعله ذلك الغير ناسيا أو جاهلا أو مكرها أما إذا لم يقصد منعه ولا حثه أو كان ممن لا يبالى بتعليقه كالسلطان والحجيج، أو لم يعلم به ففعله فإنه يحنث به ولو مع النسيان وقسيمه لأن الغرض حينئذ مجرد التعليق بالفعل من غير قصد منع، أو حث نعم يستثنى من ذلك ما إذا قصد مع الحث، أو المنع فيمن يبالي به أعلامه به، ولم يعلم به فلا تطلق على المعتمد الذي اقتضاه كلام الشيخين وغيرهما ونقله الزركشي عن الجمهور ولو علق بفعله ناسيا أو جاهلا أو مكرها ففعله كذلك حنث؛ لأنه ضيق على نفسه، أو بدخول نحو بهيمة، أو طفل فدخل غير مكره حنث، أو مكرها فلا وفارق ما مر من الوقوع في بعض الصور مع الإكراه بأن فعل البهيمة غير منسوب إليها حال الإكراه فكأنها حينئذ لم تصنع شيئا بخلاف فعل الآدمي فإنه منسوب إليه ولو مع الإكراه ولهذا يضمن به وألحق نحو الطفل هنا بالبهيمة؛ لأنه أقرب شبها بها منه بالمميز وفي الحلف على غلبة ظنه كلام طويل للمتأخرين وغيرهم بينت حاصل المعتمد منه في الفتاوى وهو عدم الوقوع مطلقا فعليك به فإنه نفيس مهم ولكثرة اختلاف الناس في هذه المسألة بأطرافها سكت كثيرون عن الترجيح فيها وامتنع الماوردي وغيره من الإفتاء في ذلك قال: واستعمال التوقي أولى من زلات الأقدام ومن يحتاط في دينه لا يفتي في ذلك في زماننا لكثرة الكذب في دعوى النسيان والجهل من العامة ولا سيما النساء
ومنها قال الأذرعي في توسطه نقلا عن فتاوى البغوي لو قال لرجل لا أدعك تخرج هذا المتاع من هذه الدار وإن فعلت فامرأتي طالق فخرج الحالف ثم ذهب المحلوف عليه بالمتاع قال ينبغي أن يقال إن حفظه حفظ الوديعة فسرقه المحلوف عليه، أو أكرهه حتى أخذه منه فعلى قول الإكراه، وإن لم يحفظه عنه حفظ الوديعة بحيث يصير ضامنا في الوديعة به حنث في الطلاق ولو كان المحلوف عليه بساكنه في الدار فإن حفظه عنه حفظا يقطع بسرقته فكالمكره وإلا فيحنث ومنها أخذت لزوجها دينارا فقال إلا لم تعطني الدينار فأنت طالق وكانت قد أنفقته لم تطلق إلا باليأس من إعطائها له بالموت، فإن تلف الدينار قبل تمكنها من رده إليه فهي كالمكره على الفعل المحلوف عليه فلا تطلق، أو بعد التمكن طلقت ومنها لو قال اللصوص لا نخليك حتى تحلف بالطلاق إنك لا تخبر بنا فحلف كذلك كان إكراها؛ لأنهم أكرهوه على شيء واحد

 

ج / 4 ص -135-        بعينه وهو الحلف المذكور فلم ينعقد فإذا خبر بهم لا حنث عليه على القاعدة في إلغاء فعل المكره بباطل وقوله بخلاف ما لو سأله ظالم عن ماله أو إنسان مثلا أنه يعرف محله فأبى أن يخبره به فحمله وأكرهه على الحلف بالطلاق أنه لا يعلم ذلك فإن هذا غير مكره؛ لأنه لم يكره على الحلف بخصوصه بل لا غرض لمكرهه في حلفه، وإنما غرضه في أن يدله على ما هو سائل عنه فإذا ترك دلالته وحلف كان مختارا للحلف فيحنث كما لو قال متغلب لآخر اقتل هذا أو هذا أو طلق هذه أو هذه فإنه غير إكراه لما فيه من التخيير وكذا في مسألتنا هو مخير بين الحلف والدلالة فإذا آثر الحلف كان مختارا له فيحنث به ويقاس بما تقرر في هذه المسألة نظائرها ومنها لو قال طلقت مكرها فأنكرت زوجته فإن كان هناك قرينة كالحبس صدق بيمينه وإلا صدقت بيمينها كما لو طلق مريض ثم ادعى أنه كان مغمى عليه فإنه إن عهد له إغماء قبل ذلك قبل قوله وإلا فلا وفي الروضة وأصلها عن ابن العباس الروياني أنه لو قال: طلقت وأنا صبي، أو نائم صدق بيمينه زاد في الروضة ما ذكره في النائم نظر اهـ. أي لأنه لا أمارة على النوم بخلاف الصبي ولكن لا مخالفة في دعوى النوم للظاهر فمن ثم كان لما قاله الماوردي نوع اتجاه ولا يرد عليه قولهما في الأيمان لا يصدق مدعي عدم قصد الطلاق والعتق، ظاهر التعلق حق الغير بهما، والفرق أنه هناك تلفظ بصريح الطلاق ثم ادعى صرفه بعدم القصد وأما هنا فالمدعى طلاق مقيد بحالة لا يصح فيها الطلاق فقبل قوله لعدم مخالفة الظاهر كما مر هذا آخر ما قصدته وتمام ما حررته مما آمل أن أكون فيه على صراط مستقيم وسنن قويم، ومع ذلك ففوق كل ذي علم عليم، فمن اجتهد وأصاب فله عشرة أجور ومن اجتهد وأخطأ فله أجر والله سبحانه وتعالى أسأل أن يسبل علي ذيل الستر وأن يمن بإصابة صوب الصواب إنه الكريم الغني الوهاب فله الحمد أولا وآخرا باطنا وظاهرا كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، وأصلي وأسلم على عبده ونبيه سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم صلاة وسلاما دائمين بدوام كرمه وامتنانه وحسبنا الله ونعم الوكيل وإليه أفزع في الكثير والقليل ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم يقول مؤلفه عفا الله سبحانه وتعالى عنه فرغت من تسويده عشية العشرين من شهر ربيع الأول أربع وخمسين وتسعمائة، والحمد لله رب العالمين.
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم قال سيدنا ومولانا وشيخنا الإمام العالم العلامة العمدة الحبر البحر الفهامة جامع أشتات الفضائل بقية الأماثل والأفاضل الحجة في زمانه والقدوة في عصره وأوانه مفتى الحجاز وشيخ الحرمين أدامه الله سبحانه وتعالى نفعا للإسلام والمسلمين الشيخ شهاب الدين أحمد بن حجر، لا زالت كتب العلماء بتقريره في الدروس واضحة البيان، ومسائل الفقهاء بتأييده في الطروس ظاهرة واضحة التبيان حتى يخرق الله سبحانه وتعالى العادة بطول مدته في عافية وينفع الإسلام والمسلمين بعلومه الكمالية الكافية - آمين بعد ما سئل عن مسألة السريجية المشهورة

 

ج / 4 ص -136-        في الدور في الطلاق فأجاب جوابا شافيا كان لكل من أراد الوقوف عليها كافيا: الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة أنجو بها من قبيح العمل الذي لا يحبه سبحانه وتعالى ولا يرضاه وأشهد أن محمدا عبده ورسوله إمام العالمين في ورعه وتقواه صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه الذين لم تأخذهم في الله لومة لائم ولم يخشوا سواه صلاة وسلاما دائمين بدوام ربوبيته وعلاه آمين "أما بعد" فإن مسألة الدور هذه قد كثر فيها اختلاف العلماء قديما وحديثا وأفردها جماعة بالتصنيف منهم أبو سعيد المتولي والغزالي وأبو بكر الشاشي وإلكيا الهراسي وصاحب الذخائر وغيرهم وهي حقيقة ببسط الكلام فيها لا سيما وقد تلقنها بعض العوام من بعض المتفقهة كما تلقنها هذا المفتي المذكور وصاروا يعلمونها لأجلاف البوادي ويتحيلون على أكل أموالهم بتعليمهم لها وأباحوا لهم العمل بها وجرأهم على ذلك وعلى الحلف بالطلاق وتكراره في ألسنتهم حتى صار لهم عادة وصار جراءة لهم على الكذب والباطل، فإن من سمعهم يحلفون بالطلاق يظن صدقهم لظنه أنه لا يتجرأ أحد على الحلف به كاذبا، وكل ذلك وباله على هؤلاء المتفقهة الذين أضلهم الشيطان وأغواهم وصيرهم من أعوانه يضل بسببهم الناس ويلجئهم إلى أقبح المسالك.
فعليهم غضب الله تعالى ومقته وعذابه إن لم يتوبوا من هذه الأحوال القبيحة وكيف لمن لم يعرف فروض الوضوء على وجهها أن يفتي الناس في الأبضاع والفروج والأنساب ويتجرأ على هذا المنصب الخطر، أما علم قوله سبحانه وتعالى:
{وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ ، مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النحل: 116، 117]، وهذا المفتي المذكور وقد ظهر في كلامه كما ستعرفه ما قضى على حاله وحكم على مقاله بالجهل المفرط والغباوة الظاهرة وبأنه عامي صرف لا يهتدي لضار فيجتنبه ولا لنافع فيقصده بل هو كالراكب متن عمياء والخابط خبط عشواء ومن ذا الذي سوغ لمثل هذا أن يفتي، أو أن يرسل من يأمر برد النساء إلى أزواجهن ولو جاء هذا الجاهل من بلاد الأجلاف والهمج التي هو فيها إلى بلادنا بلاد العلم والشرع لأمرنا حكامنا بأن يوجعوه ضربا وتأديبا وبأن يبالغوا في زجره وتعنيفه بالحبس ونحوه مما يناسب جراءته على منصب لا يعرفه وتصديه لرد فتاوى العلماء التي جاءت لتلك البلاد المذكورة في جوابه بأمره برد النساء إلى أزواجهن ظنا منه أنه معتمد لمسألة ابن سريج وليس كما زعم وتوهم؛ لأن لمسألة ابن سريج مع ضعفها نقلا ومعنى كما يأتي بيان ذلك واضحا مبسوطا شروطا لم يحط بها هذا الرجل لما تقرر أنه عامي صرف وإنما حفظ كلمات من بعض المتفقهة في هذه المسألة واعتنى بها دون بقية أبواب الفقه؛ لأنها جلب لحطام من الدنيا وتكون نارا عليه في الآخرة كيف وهو ممن صدق عليه إن استحل ذلك {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ

 

ج / 4 ص -137-        الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [آل عمران: 77]، ما لم يتب ويرجع إلى الله سبحانه وتعالى ويستغفره وتحسن توبته، فمن تلك الشروط ما قاله جماعة من علماء اليمن وأجلائهم الذين ذهبوا إلى تصحيح الدور وهو أنه لا بد أن يصدر ذلك التعليق من عارف بمعناه وما يلزم عليه من المحال الموجب لعدم وقوع الطلاق ومن هؤلاء الإمام الجليل علما وفهما ومعرفة ابن عجيل ذكر ذلك العلامة المحقق أبو بكر ولد الإمام موسى بن الزين الصديقي الرداد شارح الإرشاد في جمعه لفتاوى والده فانظر إلى هذا الشرط الذي شرطوه تجده صريحا في أنه لا يجوز لعامي بل ولا لمتفقه أن يعمل بهذه المسألة عند القائلين بها؛ لأنه لا يعرف حقيقة الدور الموجب لإلغاء الطلاق في هذه المسألة إلا العلماء الراسخون وكفاك دليلا على ذلك أن الغزالي مع جلالته ووصوله إلى مرتبة من مراتب الاجتهاد تناقض كلامه المرة بعد الأخرى، فتارة صحح الدور لظهور معناه عنده وتارة أفسده لفساد معناه، وتارة رجع عن هذا إلى الأول على ما قيل واعتمده الأصبحي لكن كلام الرافعي وغيره الآتي يرده ويصرح بأن الذي استقر أمره عليه إنما هو الرجوع عن صحة الدور إلى بطلانه وعلى كل فقد وقع له من التناقض في ذلك ومن الحكم ببطلانه تارة وبصحته أخرى ما لم يحفظ عنه أنه وقع له نظير ذلك في مسألة من مسائل الفقه وما ذاك إلا لدقة المعنى في هذه المسألة ومزيد خفائه ومن ثم اضطربت فيها أفهام الأصحاب واختلفت وتباينت وخطأ بعضهم بعضا وبالغ بعضهم في الرد على بعض وسيأتي عن المتولي أنه في تصنيفه المفرد في بطلان الدور ألزم القائلين بصحته بتناقضات للأصول ومخالفات للكتاب والسنة والإجماع وغير ذلك مما سنذكر إن شاء الله سبحانه وتعالى بعضه فإذا كانت هذه المسألة على ما وصفت لك من هذا الإشكال العظيم وتقرر أن من شروطها عند القائلين بها أن يصدر التعليق ممن يعرف معناه وما يلزم عليه ونحن نقطع بأن هذا الزهراني المجيب بما مر لا يفهم ذلك ولا يتصوره أدنى تصور بدليل ما ذكره من المجازفات في كلامه وسيأتي بيانه وإيضاحه فضلا عن العوام وفضلا عن أجلاف البوادي فكيف ساغ له الأمر برد النساء إلى أزواجهن والإفتاء لهم بأنهم يقلدون القائلين بالصحة {سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} ومن تلك الشروط ما قاله الإمام البلقيني في تدريبه وناهيك بالكتاب ومصنفه أن تمضي لحظة بعد التعليق تسع الحكم بالوقوع أما لو لم تمض لحظة كذلك بأن أعقب تعليقه بالتنجيز فإنه يقع المنجز حتى عند القائلين بصحة الدور ومنها كما في التدريب أيضا أن لا تطلق بطلبها في الإيلاء والحكمين في الشقاق، أما إذا طلق بطلبها في ذلك فإن الطلاق يقع حتى عند القائلين بصحة الدور أيضا كما يقع الفسخ في إن فسخت بعيبك فأنت طالق قبله ثلاثا ومنها كما فيه أيضا أن يكون ذاكرا للتعليق الموجب لإلغاء الدور عند القائلين بصحته.
أما لو نسيه ثم أوقع الطلاق أو فعل المحلوف عليه وهو ناس له فإنه يقع الطلاق حتى عند القائلين بصحة الدور أيضا وإذا تقرر لك أن القول بصحة الدور على ضعفه مقيد بهذه الشروط الكثيرة فكيف ساغ لهذا

 

ج / 4 ص -138-        الزهراني التجري على الإفتاء بإطلاق صحة الدور من ذكره هذه الشروط جميعها وقد قال النووي في الروضة والمجموع متى أطلق المفتي إفتاءه في محل التفصيل كان مخطئا وبه يعلم خطأ هذا المفتي وأنه عاص آثم وليته اقتصر على مجرد ذكره لكلام الناس في المسألة الذي تلقنه من شيخه الذي ذكره ولم يضم لذلك أمره برد النساء إلى أزواجهن فذلك أخف وأما تصديه للإفتاء وأمره بردهن مع جهله بتلك الشروط فخطأ عظيم وذنب قبيح جسيم على أن شيخه له من ذلك حصة وافرة فإنه إنما ذكر له مجرد تعداد القائلين بصحة الدور ولم يذكر له شيئا من الشروط عندهم، وليس في هذا الإضلال لتلميذه المذكور وللعوام فإنه أطلق لهم أن جماعة من العلماء - وعدد بعضهم - قائلون بصحة الدور ثم أمرهم بتقليدهم حتى لا يقع عليهم طلاق ولم يقل لهم: شرط عدم الوقوع عندهم كذا أو كذا فهل هذا إلا جهل مفرط وضلال بين وإطلال للعوام واتباع لهوى النفس والشيطان وتزيينه ووسوسته إيثارا للعرض الفاني وهو ما أخذه من الرشا والسحت الذي يشتعل عليه نارا في قبره فقبح الله سبحانه وتعالى هذا الرجل الزهراني وشيخه المذكور فإنهما ضلا وأضلا ضلالا مبينا، ومما يدل على الهوى وإيثار الدنيا على الآخرة وغش المسلمين وعدم نصحهم أنه ذكر مجرد تعداد لبعض القائلين بصحة الدور وأن ابن سريج منهم، ولم يذكر لهم أن الأئمة اختلفوا في النقل عن ابن سريج حتى قال أقضى القضاة الماوردي وناهيك به: من نقل عن ابن سريج أنه قال بصحة الدور فقد وهم والظاهر كما قاله الأذرعي وغيره أنه اختلف جوابه فقال مرة بالصحة، وهي التي اشتهرت عنه، وقال مرة بالبطلان وممن صرح باختلاف الرواية عنه الخوارزمي في كافيه وابن الصباغ وإذا اختلفت الرواية ولم يعرف المتأخر من الروايتين وجب القول بتساقطهما والرجوع إلى مرجع آخر، ولا ذكر لهم أيضا قول ابن الصباغ في كتابه الشامل الذي هو من أجل كتب المذهب أخطأ من لم يوقع الطلاق خطأ ظاهرا، وليس هو بمذهب للشافعي رضي الله تعالى عنه ولا ذكر لهم أيضا قول الغزالي في كتابه الذي رجع فيه عن القول بصحة الدور فقد قال في أوله دخلت بغداد سنة أربع وثمانين وأربعمائة وتواترت علي الأسئلة عن دور الطلاق ورأيت أكثرهم قد أطبق على إبطال الدور وتشديد النكير على من يصحح الدور ويحسم به باب الطلاق معولين فيه على اعتراضات ضعيفة قاصرة عن إبطال عمدة القول بالدور فابتدأت في تلك المناظرات لأبطل اعتراضاتهم الفاسدة وصنفت فيه كتابا سميته غاية الغور في نهاية الدور مشتملا على تزييف تلك الاعتراضات ومهيئا للكلام فيه إلى أقصى الغايات ثم انتشر ذلك الكتاب في الأمصار واستطار الفتوى بصحة الدور مني في الأقطار، ثم اتفق لي بعد ذلك فكرة في حقيقة الدور فاطلعت فيه على غور وتغير شبه الاجتهاد ورأيت إيقاع الطلاق بعد الدور أقرب إلى السداد لما سنذكره في الدور من الفساد المانع من الاعتقاد، فلم أجد بدا من إثبات ذلك لنعول عليه لا على ما سبق من الفتوى قبله فذلك على ما قضينا وهذا على ما نقضي وعلى التخمين والاجتهاد تبنى

 

ج / 4 ص -139-        فقهيات المسائل، والرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل فأقول: لفظ العقد إذا اشتمل على محال وجب إلغاؤه، ولفظ الدور مشتمل على محال فيجب إلغاؤه، ثم بين ذلك وأطال فيه فتأمل كلامه هذا تجده مصرحا بأن أكثر علماء بغداد في زمنه وناهيك بهم في ذلك الزمن من كثرة وجلالة على بطلان الدور وبأنه كان ظهر له أولا صحته ثم ظهر له فساده وبأن فساده هو الحق وصحته هي الباطل لقوله: والرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل ولا ذكر لهم أيضا قول المتولي وناهيك بجلالته إن كنت جاهلا بمقادير الرجال في أوائل كتابه الذي صنفه في إبطال الدور ولفظه بعد الخطبة لما ظهر ميل بعض المتأخرين من أصحاب الشافعي رحمهم الله تعالى ورضي عنه إلى مسألة تعرف باليمين الدائرة، وانتشر ذلك بين العوام الهمج فصار يلقف بعضهم بعضا في الأسواق ويفتي بعضهم بعضا أن الطلاق لا يقع بعدها ونسب بعض أصحاب الشافعي في هذه المسألة إلى الرفض لما وقع في لسان العامة أن عند أصحاب الشافعي أن الطلاق لا يقع على النساء، وصار ذلك شناعة في المذهب والذين ذهبوا إلى هذا من قدماء أصحابنا لم يكونوا يظهرون ذلك للعوام لما فيه من الشناعة سألني بعض أصحابي أن أبسط الكلام في المسألة وأكشف عن الشبهة فيها وأظهر الطريق المستقيم فأجبته مستعينا بالله تعالى فإنه خير موفق ومعين ثم ذكر الدور وأطال في بيان بطلانه وما يلزم عليه من مخالفة الإجماع والقياس مما سيأتي إن شاء الله سبحانه وتعالى بعضه، فتأمل قوله - رحمه الله تعالى ورضي عنه وجزاه خيرا وانتشر ذلك بين العوام الهمج، تجده مصرحا بأنه لا يتجاسر على الإفتاء بتصحيح الدور إلا عوام الأسواق الذين لا يعبأ بهم ولا يلتفت إليهم، ولعل هذا الزهراني من أولئك العوام فإن كلام المتولي هذا منطبق عليه وعلى شيخه وتأمل أيضا الفساد الذي انجر إلى بعض أصحاب الشافعي بسبب أولئك العوام فإنهم لما أشاعوا ذلك في الأسواق وغيرها صار الناس يعتقدون في جماعة من أجلاء أصحاب الشافعي أنهم أرفاض؛ لأن إطلاق القول بأن الطلاق لا يقع على النساء إنما يعزى إلى الأرفاض بل إلى النصارى كما يأتي.
فقاتل الله سبحانه وتعالى أولئك العوام ومن فعل فعلهم القبيح كهذا الرجل وشيخه فإنهم سلطوا الخاصة والعامة على الخوض في الاعتراض على الأئمة الأكابر بما هم بريئون منه فمعاذ الله تعالى وهم أهل السنة وفرسان ميدانها أن يتوهم فيهم ذلك لكن الإثم العظيم والعقاب الأليم إنما هو على أولئك العوام ومن تبعهم وشابههم، حيث جعلوا أئمة الدين وعلماء المسلمين هدفا وعرضة لإلحاق النقائص القبيحة بهم وللخوض في أعراضهم الزكية الطاهرة بالثلب والسب، ومن فعل ذلك فهو - بالضرورة التي لا تخفى على أحد - معاد لهم، وقد قال سبحانه وتعالى على لسان نبيه ورسوله صلى الله عليه وسلم: "من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب"، أي أعلمته أني محارب له، ومن حاربه الله سبحانه وتعالى لا يفلح أبدا، بل قال بعض الأئمة: إن ذلك سبب لسوء الخاتمة والعياذ بالله سبحانه وتعالى هذا فيمن عادى وليا فكيف بمن عادى أولياء كثيرين وتأمل أيضا قول المتولي والذين

 

ج / 4 ص -140-        ذهبوا إلى هذا المذهب من قدماء أصحابنا لم يكونوا يظهرون ذلك للعوام لما فيه من البشاعة تجده صريحا أيضا في امتناع إظهار ذلك للعوام ولو عند القائلين بصحة الدور ومما يصرح بهذا أيضا قول الروياني مع أنه من القائلين بصحة الدور ولا وجه لتعليم العوام هذه المسألة لفساد الزمان، ومما يؤيده أيضا قول النووي في شرح المهذب كالروضة يحرم التساهل في الفتوى، ومن عرف به يحرم استفتاؤه فمن التساهل أن لا يتثبت ويسرع بالفتوى قبل استيفاء حقها من النظر والفكر ثم قال: ومن التساهل أن تحمله الأغراض الفاسدة على تتبع الحيل المحرمة أو المكروهة والتمسك بالشبهة طلبا للترخيص لمن يروم نفعه، أو التغليظ على من يريد ضره ثم قال: ومن الحيلة التي فيها شبه ويذم فاعلها الحيلة السريجية في سد باب الطلاق اهـ. فتأمل عبارته هذه تجدها صريحة في منع هذا الزهراني من الإفتاء لو كان فيه أهلية فكيف وهو عامي صرف وذلك أنه أظهر هذه الحيلة للعوام وعلمها لهم وأمرهم برد نسائهم بعد حنثهم فيهن بالثلاث فعليه بسبب ذلك ما يستحقه ولو ذكر ما قدمناه في ذم القول بصحة الدور للعوام لم يتبعه أحد فيها، وممن ذمها أيضا وبالغ في تخطئة القائلين بها العز بن عبد السلام.
وناهيك به جلالة ومن ثم لقب بسلطان العلماء وعبارته كما حكاه تلميذه الإمام القرافي عنه: هذه المسألة لا يصح فيها التقليد والتقليد فيها فسوق؛ لأن القاعدة أن قضاء القاضي ينقض إذا خالف أحد أربعة أشياء: الإجماع، أو النص، أو القواعد، أو القياس الجلي وما لا نقره شرعا إذا تأكد بقضاء القاضي فننقضه فأولى فيه؛ لأن التقليد في غير شرع هلاك، وهذه المسألة مخالفة للقواعد الشرعية فلا يصح التقليد فيها قال القرافي: وهذا بيان حسن ظاهر اهـ. وأقرهما على ذلك الزركشي وغيره وممن بالغ في ذمها أيضا الإمام ابن الصلاح فإنه جعلها في فتاويه مما ود لو محيت من كتب الشافعية، ولما سئل عن اختيار صاحب المهذب فيه صحة الدور تبعا لابن سريج فأجاب بقوله: ابن سريج بريء مما نسب إليه والذي عليه الطوائف من أصحاب المذاهب وجماهير أصحابنا إبطال القول بأنه لا ينسد باب الطلاق بل يقع في كمية الواقع منها وقال الزركشي في الخادم عن بعض المتأخرين: إن القول بانسداد باب الطلاق قول باطل فإن الطلاق أمر مشروع في كل نكاح وما من نكاح إلا ويمكن فيه الطلاق قال وسبب الغلط أنهم اعتقدوا صحة هذا الكلام فقالوا: إذا وقع المنجز وقع المعلق.
وهذا ليس بصحيح فإنه يستلزم وقوع طلقة مسبوقة بثلاث ووقوع طلقة مسبوقة بثلاث ممتنع في الشريعة فإن الكلام المشتمل على ذلك باطل وإذا كان باطلا لم يلزم من وقوع المنجز وقوع المعلق؛ لأنه إنما يلزم ذلك إذا كان التعليق صحيحا قال: وما أدري هل استحدث ابن سريج هذا للاحتيال على وقوع الطلاق، أو قاله من طرق القياس اعتقد صحته واحتال بها من بعده والظاهر الثاني اهـ. وقال في الخادم أيضا: وبالغ السريجي من الحنفية فقال القول بانسداد باب الطلاق يشبه مذهب النصارى أنه لا يمكن الزوج إيقاع طلاق على زوجته مدة عمره إذا تقررت هذه المقدمات

 

ج / 4 ص -141-        فلترجع إلى الكلام على الجواب على هذا الزهراني ونبني على ما وقع له من المجازفات والجهالات والتناقضات الدالة على سوء فهمه وقلة علمه، بل وعلى إفراطه في الجهل والتساهل وغير ذلك من القبائح التي ستتضح فنقول: قوله عن جواب المفتي الذي جاءه من مكة أن فيه من ألقى على زوجته بمسألة الدور أنها تطلق بنفس الإلقاء كلام كذب وبهتان ولا يتوهم هذا من له أدنى إلمام بفقه الشافعية كيف وذلك مصرح به في المختصرات فضلا عن المطولات ومما يدل على جهله قوله عن شيخه مراد النووي ومن تابعه أنه إذا وقع عليها بعد ذلك الطلاق طلقت ولا تطلق بنفس الإلقاء فيقال له: هذا جهل إذ لا يقال المراد كذا إلا إذا دلت العبارة على خلافه وعبارة النووي وغيره صريحة في أن مجرد التعليق لا يقع به شيء وقد صرح بذلك حتى في المنهاج الذي ساق هذا الزهراني عبارته فقوله: فطلقها وقع المنجز فعند ذلك عزلوا النساء عن أزواجهن كذب أيضا؛ لأن الجواب الذي جاءهم فيه أن من علق بمسألة الدور ثم حنث يقع عليه ما أوقعه فكيف يتوهمون منه أن الطلاق يقع بنفس الإلقاء ويعزلون من لم يقع عليهم حنث منهم؟ وقوله: فلما كان بعد ذلك وقعت هذه المسألة على خاطر ابن سريج استظهارا الخ باطل لأمرين أما أولا فمن ذا الذي أخبره أن ابن سريج لم يسبقه أحد بالكلام فيها وأنى له مع جهله بالتجاسر على ذلك؟ وفي متن الأنوار كالعزيز: أن القول بصحة الدور مذهب زيد بن ثابت الصحابي رضي الله تعالى عنه، وأما ثانيا فلدلالة وقعت على خاطر ابن سريج استظهارا على مزيد جهل هذا الزهراني وأنه يتكلم بما لا يفهمه، ولا يدري ما يترتب عليه، وأنه لا خبرة له بشيء من قواعد الفقه، ولا بشيء من أصوله، وأنه يتكلم بالهذيان لكن لا يتعجب إلا إذا صدر ذلك ممن له إلمام بشيء من العلوم، وأما الجاهل بها جملة كافية كهذا الزهراني فلا يتعجب من صدور مثل ذلك منه، وبيان ما في هذه الكلمة من الفساد والتناقض أنه إذا أراد بوقوعها على خاطر ابن سريج أنه لم يسبقه أحد بها، وإنما ألهمها، وأنه لم يقل ذلك مستندا إلى دليل دل عليها، وإنما ألهم حكمها بأن وقع في قلبه ما تبلج له صدره إذ هذا هو حقيقة الإلهام كان خطأ من هذا الزهراني وجهلا وسفاهة؛ لأن ابن سريج نفسه، وغيره من الأئمة مجمعون على أن الإلهامات من غير النبي صلى الله عليه وسلم لا يعمل بها في الأحكام الشرعية إذ هي لا تبنى على الخواطر والإلهامات كما صرح به الأئمة حتى شراح المنهاج في أوائل الطهارة، وإنما أسندت التصريح بذلك إلى هذا الباب؛ لأنه يقرؤه كل متفقه، وهذا مما يدلك على أن هذا الزهراني لم يقرأ، من كتب الفقه باب الطهارة فضلا عما بعده، على أنه يلزمه تناقض آخر فإنه ذكر بعد ذلك أن الشافعي نص عليها فكيف يصح قوله فلما كان بعد ذلك وقعت على خاطر ابن سريج هذا مما يدل على أن هذا الزهراني يكتب ما لا يفهمه، ولا يتصوره إذ لا يجمع بين هاتين العبارتين المتناقضتين تناقضا ظاهرا لا يخفى على متعلم إلا من أفرط جهله وقل عقله، وهما قوله: وقعت على خاطر ابن سريج وقوله: نص عليه الشافعي، وإن أراد بوقوعها على خاطره أنه

 

ج / 4 ص -142-        استنبطها من دليل كان تعبيره بقوله: وقعت على خاطره خطأ إذ لا يقال في الأحكام التي يستنبطها المجتهد من الأدلة إنها وقعت على خاطره، وإنما يقال ذلك في الإلهامات، وقوله استظهارا خطأ منه أيضا إذ الاستظهار طلب ظهور الأمر وانجلائه، ومن ثم كان الفقهاء يعبرون به عن الاحتياط ومعلوم مما قدمته مبسوطا وما يأتي أنه لا احتياط في تصحيح الدور، وإنما الاحتياط في بطلانه إذ هو الذي عليه الطوائف من سائر المذاهب وعليه جماهير أصحابنا كما مر عن ابن الصلاح وغيره، ولو كان في تصحيحه احتياط لم يبالغ العلماء في ذمه وتخطئة القائلين به كما قدمت لك ذلك عنهم مبسوطا ثم جزمه بنسبتها لابن سريج مما يدل على قصور نظره لما مر لك أن الأئمة اختلفوا في نسبة ذلك إليه وأن الماوردي خطأ من نسبها إليه، والحق أن جوابه اختلف فيها فقال مرة بصحة الدور وهو الذي اشتهر عنه عن جماعة، ومرة قال ببطلانه موافقة لجماهير الأصحاب ولعلماء بقية المذاهب، وقوله: وأما من صحح مسألة الدور فهم جمهور العلماء والأكثر فهو - وإن قاله الإسنوي في المهمات ومن تبعه كالفتى في مختصرها وغيره - مردود بل جمهور العلماء والأكثرون حتى من الشافعية على بطلان الدور كما قدمت ذلك عن ابن الصلاح وهو أجل من الإسنوي وجميع من جاء بعده فلا يلتفت لكلام هؤلاء مع كلامه وعبارته كما مر والذي عليه الطوائف من أصحاب المذاهب وجماهير أصحابنا أيضا أنه لا ينسد باب الطلاق بل يقع فتأمل قوله: وجماهير أصحابنا تعلم به بطلان قول الإسنوي ومن تبعه: إن القول بالانسداد هو ما عليه الأكثرون، ومما يبطله أيضا أن ابن يونس في شرح التعجيز نقل القول بوقوع المنجز عن أكثر النقلة وناهيك بابن يونس هذا فإنه قيل فيه: إنه بلغ مرتبة أصحاب الأوجه وله من الإحاطة بكلام الأصحاب ما ليس للإسنوي وغيره وإذا تعارض ناقلان ثقتان في شيء كان الرجوع للأعلم أولى وقد علمت أنه تعارض في النقل عن الأكثرين الإسنوي ومن تبعه مع ابن الصلاح وابن يونس وهما أجل وأدرى وأحفظ وأثبت وأعلم من الإسنوي وغيره فوجب تقديم ما قالاه على ما قاله غيرهما فإن قلت يؤيد ما قاله الإسنوي أن الإمام وناهيك به في النهاية التي هي من أجل أو أجمل كتب المذهب نقل القول بانسداد باب الطلاق عن معظم الأصحاب وفي البيان أنه قول الأكثرين قلت: من تأمل كلام الأئمة في متفرقات تصرفاتهم في غير هذا المحل لم يخف عليه أن الواحد منهم قد ينقل شيئا عن الأصحاب، أو معظمهم، أو الأكثرين ويريد بذلك الأصحاب، أو معظمهم، أو الأكثرين من أهل طريقته كالخراساني ن، أو العراقيين ويؤيد ذلك أن الروياني في البحر نسبه إلى جمهور الخراسانيين فافهم أن بقية الأصحاب ما عدا جمهور الخراسانيين على القول بوقوع الطلاق، ولا شك أن ما عدا جمهور الخراسانيين من الأصحاب أكثر منهم بكثير، نعم وافق جمهور الخراسانيين على ذلك جماعة من العراقيين ومع ذلك فهذا لا يقتضي أن الأكثرين من سائر طرق الأصحاب على القول بصحة الدور، والحاصل أن هذه العبارات التي ذكرتها عن الإمام ومن بعده

 

ج / 4 ص -143-        يمكن تأويلها بنحو ما ذكرناه، وأما قول ابن الصلاح: جماهير أصحابنا على الوقوع وقول ابن يونس أكثر النقلة على الوقوع فلا يمكن تأويلهما؛ لأن هذين الرجلين وأمثالهما من المتأخرين لا طريقة ينفردون بالنقل عن أهلها وإنما يتكلمون على سائر الطرق ينقلون عن أربابها بخلاف المتقدمين من الأصحاب فإن لكل جماعة منهم طريقة منفردة لا يتكلمون على ما سواها ولا ينقلون عن غير أهلها إلا نادرا فكان كلام ابن الصلاح وابن يونس أقرب إلى إرادة الأكثرين في سائر الطرق من كلام الإمام ومن ذكرته معه وإذا كان كلامهما كذلك كما بان وظهر لك وجهه كان أولى بالاعتماد عليه من حيث النقل فإن قلت: الإسنوي وغيره من المتأخرين أيضا قد نقلوا عن الأكثرين صحة الدور فلم لا يعتمد نقلهم سيما وقد قال الأذرعي أن المنسوب للأكثرين في الطريقين صحة الدور قلت: لما عارضهم في النقل عن الأكثرين من هو أجل منهم قدرا وعلما وحفظا وخبرة بالمذهب ودراية بطرقه كان الرجوع إلى الأجل في جميع ذلك أحق وأولى وتأمل قول الأذرعي المنسوب إلى الأكثرين تجده كالمتبري من ذلك على أنا لو سلمنا أن الأكثرين على صحة الدور وصحح الشيخان بطلانه كان الرجوع إليهما واجبا متعينا إذ المدار عليهما في الترجيح والمعول عليهما في التصحيح أمر لازم وقول جازم وكم من مسألة خالفا فيها الأكثرين باتفاق النقلة ومع ذلك يكون الراجح ما قالاه ورجحاه بل يقع لهما في مواضع أنهما ينقلان حكما عن الأكثرين ويصرحان بأن عليه الأكثرين ومع ذلك يخالفانه ويرجحان سواه ويكون الحق ما رجحاه ومن ذلك ما وقع لهما في الإقرار فإنهما نقلا حكما عن الأكثرين ونقلا عن الصيدلاني مقابله ثم قالا: والحق والصواب ما قاله الصيدلاني ووافقهما على ذلك جميع المتأخرين فيما أحسب، إذ ما قاله الأكثرون في ذلك غاية الإشكال لا يفهم له وجه إلا بعد مزيد تأمل وتدبر، وقد أشرت إلى جميع ذلك في أول شرح العباب فإن أردت تحقيق ذلك فعليك به من مظنته ثم وبينت أيضا الرد على الأكثرين من المتأخرين ممن يعترضون على الشيخين بمخالفتهما لكلام الأكثرين بما حاصله أن الاعتراض بذلك عليهما ليس في محله فإنه لا يتقيد بما عليه الأكثرون إلا المقلد الصرف القاصر عن رتبة الترجيح والتصحيح، وأما من وصل لتلك المرتبة فلا يتقيد بذلك وبينت ثم أيضا الرد على صاحب العباب في مخالفته في مواضع من كتابه تبعا للإسنوي وغيره ممن يعترضون عليهما بكلام الأكثرين وقد أشار الزركشي وغيره أيضا إلى الرد على الإسنوي وغيره في الاعتراض عليهما بذلك أن الأكثرين على صحة الدور ورجح الشيخان بطلانه كان الرجوع إليهما حتما لازما فكيف والأكثرون على ما رجحاه كما قدمته لك واضحا مبينا مبسوطا مما لا مزيد عليه في البيان والوضوح ومما يزيده بيانا ووضوحا أني أعدد لك القائلين بكل من القولين بحسب ما رأيت في كتب الشيخين وغيرهما وانظر عدد كل من الطائفتين بعد أن تعلم أن قول هذا الزهراني إن جمهور العلماء على صحة الدور كذب باطل صراح لا سند له فيه ولا سلف إلا تجريه على

 

ج / 4 ص -144-        الكذب والتساهل فإن جمهور العلماء من سائر المذهب غير مذهبنا على فساد الدور وهذا مما لا شك فيه كيف وشنع على القائلين بصحة الدور جماعة من الحنفية والمالكية والحنابلة، ولو كان جمهور العلماء على صحته لم يشنع أحد من علماء المذاهب على القائل بذلك وقد نقل بعض الأئمة عن أبي حنيفة وأصحابه الاتفاق على فساد الدور وإنما وقع الخلاف عنهم في وقوع الثلاث والمنجز وحده، وفي مغني الحنابلة لا نص لأحمد في هذه المسألة، وقال القاضي تطلق ثلاثا، وقال ابن عقيل تطلق بالمنجز لا غير اهـ. فهما متفقان أيضا على فساد الدور على أن قوله: إن عليه الجمهور يكذبه فيه قوله أولا: إن هذه المسألة وقعت على خاطر ابن سريج، وابن سريج إنما جاء بعد أن انقضت أعصر الصحابة والتابعين وبقية السلف رضوان الله تعالى عليهم فكيف مع ذلك يسوغ لهذا الجاهل الغبي أن يقول: إن جمهور العلماء على صحة الدور، {سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} وإذ قد تبين لك بطلان قوله هذا فلنعد إلى تعدد القائلين بكل من هذين القولين فمن القائلين ببطلان الدور ابن القاضي والشيخ أبو زيد المروزي أستاذ القفال وأبو سعيد المتولي وصنف فيه تصنيفا حافلا أطال فيه الرد على القائلين بصحته وبين فيه أنه يلزمهم مخالفة الإجماع في صور كثيرة والشريف ناصر اليعمري والبندنيجي في كتابه الكافي والماوردي ونقله عن ابن أبي هريرة وابن سريج وقال: من نقل عنه القول بصحة الدور فقد وهم لكن مر أنه اختلف جوابه قال الرافعي والغزالي في آخر قوليه وصنف فيه تصنيفا كما قدمت بعضه ومن ثم قال الرافعي: وللغزالي مصنفان في المسألة مطول في تصحيح الدور ومختصر في إبطاله رجع عن تصحيحه واعتذر فيه عما صدر منه.
اهـ. وكذا الإمام وإلكيا الهراسي قال في الأنوار وهو المذكور في شرح اللباب وصاحب الاستقصاء والانتصار وأبو بكر الإسماعيلي وأبو عبد الله الختن وابن الصباغ والشيخ أبو علي والقاضي الحسين وصنف في ذلك تصنيفا والبغوي في تعليقه وابن الصلاح.
فهؤلاء عشرون نفسا قائلون ببطلان الدور وإن اختلفوا في عدد الواقع كما أشرت إليه بقولي وكذا الإمام الخ وقد قال الغزالي في كتابه الغور في الدور إنه رأى أكثر علماء بغداد مطبقين على بطلان الدور ومشددين النكير على من يصححه ومن ثم قال الأذرعي: وبالجملة فقد ذهب خلائق من الأئمة إلى ما اختاره الرافعي من وقوع المنجز فقط وهذا يوافق قول ابن الصلاح والذي عليه جماهير أصحابنا بطلان الدور، وقول ابن يونس عليه أكثر النقلة ومن القائلين بصحة الدور المزني وابن سريج على أحد قوليه وأبو بكر بن الحداد والقفالان والشيخ أبو حامد والقاضي أبو الطيب والشيخ أبو علي في بعض تصانيفه وأبو المحاسن الروياني وأبو يحيى البصري والمحاملي والبيضاوي وصاحب التهذيب والإمام، ومر أنه اختار الأول فلعل كلامه اختلف ككلام الشيخ أبي علي وصاحب الذخائر والقزويني والشاشي وابن أبي الخل.
فهؤلاء هم القائلون بصحة الدور والأولون أكثر عددا من هؤلاء بكثير فكيف مع ذلك يدعي أن الأكثرين على صحة الدور وهذا مما يعلمك بصحة قول ابن

 

ج / 4 ص -145-        الصلاح: إن جماهير أصحابنا على بطلانه وقول ابن يونس: إن أكثر النقلة عليه، وما يرد على الإسنوي ومن تبعه في قولهم: إن الأكثرين على صحة الدور؛ لأن هؤلاء المذكورين هم الذين رأيناهم في كتب الشيخين والمتأخرين وقد جمعت وتقصيت وتفحصت الكتب فلم أر أحدا ذكر غير هؤلاء وبعد أن جمعتهم على حسب الإمكان رأيت القائلين ببطلان الدور أكثر من القائلين بصحته كما بان لك ذلك وظهر من تعدادهم وإنما حمل كثيرا من الناس على اتباع الإسنوي وغيره في دعواه أن الأكثرين على الأول عدم إمعانهم في تفتيش كتب النقلة عن القائلين بكل من القولين ولو فتشوا كما فتشنا لرأوا ما ظهر لنا من أن القائلين ببطلان الدور أكثر من القائلين بصحته فإن قلت: أتباع الشيخ أبي حامد على مقالته وهم كثيرون إذ هو شيخ الطريقتين قلت: أتباع الرجل لا يعدون معه فإنهم تابعون ومقلدون له فيما قاله معه كالرجل الواحد كما أشار لذلك الزركشي في أول الخادم فظهر بما قررته أنا إن قابلنا الرجال بالرجال كان الرجال القائلون ببطلان الدور أكثر، هذا مع قطع النظر عن أن العلماء من سائر المذاهب - إلا من شذ - على بطلانه فكيف إذا انضم العلماء من سائر المذاهب إلى من قال ببطلانه من أصحابنا وانضم لذلك اعتماد الشيخين المعول في الترجيح والتصحيح إنما هو عليهما باتفاق جميع من جاء بعدهما إلا من لا يعبأ به ولا يلتفت إليه وانضم لذلك أيضا اعتماد أكثر المتأخرين ومحققيهم له أيضا كما ستعلمه فهل بقي بعد ذلك في اعتماد القول ببطلان الدور من شبهة اللهم إلا من غلب عليه الجهل وحب الرشا التي يأخذها من العوام، فإنه وإن ظهر له ما ذكرناه لا يعتمده؛ لأنه لو اعتمده لفات عليه بسببه ما يصل إليه من تلك الأموال وما عليه أنها سحت ونار عليه في الدنيا والآخرة، وقوله عن كفاية القاضي النهاري. ولو حلف بالطلاق الثلاث على فعل شيء الخ مما يتعقب النهاري فيه فإنه نقل أن الإلقاء ينفعه في هذه الصورة عند الجمهور وكأنه أخذ ذلك من أن الجمهور على صحة الدور وقد مر لك بطلانه على أنا وإن سلمنا أن الجمهور على صحة الدور، الجمهور ليسوا على صحته في هذه الصورة التي ذكرها النهاري؛ لأن القائلين بصحة الدور اختلفوا في هذه المسألة كما بينه الشيخان وغيرهما فمنهم من قال: إن الإلقاء ينفع فيها، ومنهم من قال لا ينفع الإلقاء فيها؛ لأن عقد اليمين قد صح فلم يملك حله ولقد أطال المتولي - رحمه الله تعالى - في بيان الرد على القائلين بأنه ينفع في أول كتابه الذي صنفه في بطلان الدور فانظره منه إن شئت وقوله: هذا ما نص عليه الشافعي فنسبة ذلك إلى الشافعي منظور فيها؛ لأن الرافعي قال ورأيت في بعض التعليقات أن صاحب الإفصاح حكاه عن نص الشافعي واعترضه جمع بأن بعض الأئمة قال تصفحت كتاب الطلاق من الإفصاح فلم أره ذكر المسألة فإن قلت لا يلزم من ذكر المصنف مضافا إلى تصنيفه أنه ذكر المسألة في ذلك التصنيف قلت: ذلك وإن كان غير لازم إلا أنه غالب على أن قول الرافعي - ورأيت في بعض التعليقات فيه نوع تبر من تلك النسبة - وقول المهمات في نقل البحر عن القاضي أبي الطيب إن الشافعي نص عليه في

 

ج / 4 ص -146-        المنثور ففيه نظر أيضا كما قاله الرافعي فإن العراقيين إنما حكوه عن المنثور على أنه من كلام المزني نفسه لا من كلام الشافعي ومما يوضح الرد على الإسنوي أن ابن الصباغ في الشامل وناهيك به وبكتابه هذا فإنه من أجل كتب الشافعية أنكر نسبة ذلك للشافعي رضي الله تعالى عنه، وقال: قد أخطأ من لم يوقع الطلاق خطأ ظاهرا وليس هذا بمذهب الشافعي.
وقوله: قال ابن النحوي ينبغي أن تكون الفتوى به تقدم ما يبطل هذا ويفسده وكيف ينبغي الفتوى بذلك مع ما مر من قول ابن عبد السلام: إن تقليد القول بصحة الدور هنا فسوق.
وقول ابن الصلاح إنه يود لو محي هذا القول من كتب الشافعية وقول غيرهما إنه قول باطل وإنه يشبه مذهب النصارى وغير ذلك مما بسطت الكلام عليه فيما مر فلا ينبغي بل لا تجوز الفتوى بذلك وكذلك لا يجوز القضاء ولا الحكم به كما سيأتي وقوله واختار النووي وقوع المنجز يقال عليه لم يختره بل رجحه كالرافعي، وفرق بين اختار ورجح لكن هذا الزهراني لا يفهم ذلك فحينئذ يعبر بما جرى على لسانه، وقوله: تعليلا لصحة الدور؛ لأن التضاد حاصل بينهما الخ كأنه توهم أن الأئمة لم يتعرضوا لفساد هذا الدور وليس كما توهم بل أفسدوه بأمور طويلة ليس هذا محل بسطها، ومنها ما مر عن الخادم عن بعض المتأخرين من بيان أن هذه العلة غلط وأن الصواب بطلان هذا الدور، ومنها ما ذكره الغزالي في كتابه الذي رجع فيه إلى بطلان الدور وحاصل ذلك الكتاب أن العقد إذا اشتمل على محال وجب إلغاؤه، ولفظ الدور مشتمل على محال فيجب إلغاؤه فهاتان مقدمتان إذا سلمتا وجب تسليم المطلوب وهو بطلان الدور ثم بين أن المقدمة الأولى متفق عليها بين الفقهاء ووضح ذلك بأنه لا خلاف أن الفضولي إذا قال اشتريت هذه الدار لزيد ولم يكن وكيلا من جهة زيد لا يقع الشراء عن زيد وهل يقع من المشتري فيه خلاف بين العلماء قيل نعم؛ لأن المحال قوله لزيد فيختص الإلغاء به؛ لأنه المحال ويبقى قوله اشتريت صحيحا وقيل لا بل يلغى جميع كلامه؛ لأن الرجل لا يؤاخذ ببعض كلامه قبل إتمامه إذ بقية الكلام شرح لأوله فقد اتفق الطريقان على إلغاء المحال وإنما اختلفوا أنه هل يلغى معه غيره أو لا، وكذلك لو قال أنت طالق إلا لم يشأ الله قيل تطلق إلغاء للشرط فقط؛ لأنه المحال إذ يستحيل وجود الشيء على غير مشيئة الله سبحانه وتعالى وقيل لا تطلق للمحال وما قبله من كلامه؛ لأنه أوقعه بصفة متعذرة فاتفقوا أيضا على أن المحال باطل، فقد حصل البرهان على المقدمة الأولى وبيان المقدمة الثانية وهي أن الدور اشتمل على محال؛ لأن ثلاثا موصوفة بقبلية رابعة محال، وإذا كان محالا فإما أن يلغى أصل كلامه فيقع المنجز فقط، وإما أن يلغى القدر المحال وهو قوله قبله فيقع المنجز وثنتان من المعلق، وقد قال بكل من هذين قائلون كما مر فعلم أن الدور مشتمل على محال قطعا وأن في ذلك ما يبطل الدور اللفظي ويمنع حسم باب الطلاق فإن قيل الاستحالة مخصوصة بالطلاق المعلق إذ هو جزاء وله شرط وهو الزمان الموصوف بالتقدم على الطلاق معقول إذ لا مانع للطلاق في

 

ج / 4 ص -147-        ذلك الوقت في علم الله سبحانه وتعالى، فإذا أوقع لم يقع الطلاق المنجز بعده وإذا لم يقع لم يكن الزمان الموصوف بقبلية الطلاق موجودا في علم الله تعالى فلا يقع وهو معنى الدور فالجواب أن لا نسلم أنه لو أخذ الشرط مفردا، أو أخذ الطلاق مفردا عن الشرط يستحيل ولكن إذا أخذ المجموع استحال، والتعليق اشتمل على المجموع للمحال فيتعين فيه الإبطال فإن المعلق هو طلاق ولكن علق إيقاعه بزمان موصوف بقبلية طلاق آخر إذ لو وقع غير موصوف بهذا الوصف غير ما علقه ووصفه فإن وقع موصوفا بهذا الوصف كان محالا فقد قصد بهذا اللفظ إيقاع ما هو محال على الوجه الذي قصده وأوقعه فوجب أنه يبطل منه القدر المنحل بالإيقاع وهو لفظ القبل اهـ. كلام الغزالي رحمه الله تعالى ملخصا موضحا وهو ما اشتمل عليه من التحقيق والبيان والظاهر حقيق بأن يكون سببا لرجوع الغزالي عما كان معتمده من صحة الدور فكذلك يتعين على غير الغزالي بالأولى والأحرى أن يرجع إلى ذلك وقد حكى التاج السبكي عن والده أن الذي استقر عليه رأيه في المسألة السريجية وعليه مات وصنف فيها تصنيفا أملاه عليه أنه يقع المنجز ومن المعلق تكملة الثلاث وأنه رجع عما كان صنفه قبل ذلك في نصرة قول ابن سريج وابن الحداد وهما تصنيفان سمى أحدهما قطف النور في مسائل الدور وسمى الثاني الغور في الدور اهـ. فوافق ما وقع له ما مر عن الغزالي من حيث الرجوع عن صحة الدور ومنها ما ذكره المتولي في كتابه الذي صنفه في بطلان الدور وقد ساقه برمته الأذرعي في توسطه فمن أراد الإحاطة بذلك الكتاب وما اشتمل عليه من التحقيق والفوائد فعليه به في مظنته المذكورة، فمن ذلك قوله فيه عن بعض مشايخ أصحابنا: إن قوله إن طلقتك فأنت طالق قبله ثلاثا متناقض من جهة اللفظ ومن جهة المعنى وتصور المسألة في صفة لا تؤدي إلى الدور حتى يظهر فسادها كإن دخلت الدار فأنت طالق قبله ثلاثا، أما مناقضته في اللفظ فهو إن دخلت الدار شرط وأنت طالق قبله جزاء، والجزاء يجب أن يكون مرتبا على الشرط فإذا قدم عليه كان باطلا في الأحكام وغيرها كما لو قال من جاءني أكرمته قبل أن يجيئني، أو من رد عبدي فله عشر قبل أن يرده وهذان باطلان فكذا ما نحن فيه، وأما مناقضته من حيث المعنى فهو إن دخلت الدار شرط وأنت طالق جزاء فلا يخلو إما أن يحكم بوقوعه قبل الدخول وهو خطأ لاستحالة وجود المشروط بدون شرطه، أو بعده على معنى أنه يقع بعده في الزمان قبله وهو باطل أيضا؛ لأنه طلاق في زمن ماض والطلاق لا يقع في زمن ماض كما لو قال طلقتك أمس يريد الإنشاء ثم أورد على ذلك أسئلة وأجاب عنها ومن ذلك قوله فيه أيضا قوله إن طلقتك لا خلاف أنه شرط وقوله فأنت طالق جزاء مرتب عليه والجزاء لا يمكن إثباته إلا بعد تحقق الشرط والشرط هنا الطلاق فلا بد أن يحكم بوقوعه وإذا حكمنا بوقوعه فلو رتبنا عليه الجزاء احتجنا أن نبطل ما حكمنا بوقوعه والطلاق وقوعه لا يقبل الرفع فبقي الطلاق الواقع لا يمكن رفعه، فالطلاق المعلق بصفة لا يمكن رده بعد وجود صفته وقد

 

ج / 4 ص -148-        وجدت الصفة فوجب أن لا يرد، ويحكم بوقوعه، قلنا ليس كذلك فإن الطلاق المعلق يقبل الرد وإلا بطل عندكم كما في المسألة السابقة عن النهاري، وأيضا فالإجماع على أن الطلاق المعلق يبطل حكمه بالخلع، وأما الطلاق الواقع فلا سبيل إلى رفعه، ومنها قوله فيه أيضا القول بصحة الدور يؤدي إلى قطع أحكام ثابتة بعضها بنص القرآن وبعضها بنص السنة وبعضها بإجماع الأئمة، فمن ذلك أن الإجماع على استقرار المهر بالوطء فمتى قال لمن لم يدخل بها: متى استقر صداقك علي فأنت طالق قبله ثلاثا بشهر ومضت ثم وطئها فإن قلتم لا يستقر المهر خالفتم الإجماع وإن قلتم يستقر طلقت قبله بشهر وتشطر الصداق وإذا تشطر قبل الدخول لم يستقر به وإذا لم يستقر به لم تطلق وإذا لم تطلق بقي يطؤها مدة ولا يستقر صداقها ومنه أن الإجماع انعقد من الأمة أن المرأة تستحق النفقة بالتمكين فلو قال لها الزوج إذا ثبت لك النفقة علي وطالبتني بها فأنت طالق قبله ثلاثا بشهر، ثم مكنته فوطئها إن قالوا: لا تستحق النفقة فقد خالفوا الإجماع وإن قالوا: تستحقها ولا تطالب بها فمحال لأن الحق ثابت لها بلا تأجيل والمستحق عليه قادر على الإيفاء فالمنع من المطالبة لا وجه له وإن قالوا تستحقها وتطالب بها فإذا طالبته طلقت قبل ذلك ثلاثا بشهر فلا تثبت لها النفقة وإذا لم تثبت لها لم تملك المطالبة وإذا لم تصح مطالبتها لم يقع الطلاق فلزم بقاؤها معه في طاعته مدة من غير نفقة وهو محال ومنه إجماعهم على وجوب القسم بين الزوجتين وعليه يدل ظاهر القرآن فلو قال لإحداها متى ثبت حق القسم فطالبتني به فأنت طالق قبله ثلاثا بشهر ثم بات عند الأخرى فإن قالوا: إن تلك لا تستحق القسم فهو خلاف القرآن والسنة والإجماع وإن قالوا: تستحقه ولا تملك المطالبة فهو محال وإن قالوا: تستحق وتطالبه فإذا طالبت طلقت قبل ذلك ثلاثا بشهر وإذا طلقت قبل ذلك لم تستحق القسم ولم تصح مطالبتها وإذا لم تصح مطالبتها لم يقع الطلاق فتبقى المرأة مع زوجها مدة يبيت عند ضرتها وهي لا تستحق القسم مع عدم تقصير منها وساق من ذلك صورا كثيرة ألزمهم مخالفة الكتاب والسنة والإجماع ثم أورد على نفسه سؤالا من جهتهم وأجاب عنه بما فيه طول ثم أورد لهم أيضا ما أدى ثبوته إلى سقوطه كان ساقطا من أصله كما ذكره الأئمة في دوريات كثيرة في الإقرار والولاء والوصية والصداق وغيرها وأجاب بأنا لا نسلم هذه القاعدة ولكن إنما يؤدي قوله: إن طلقتك فأنت طالق قبله ثلاثا إلى هذا المعنى أن لو صح هذا التعليق فيقتضي وقوع المنجز وقوع المعلق قبله حتى يؤدي ثبوته إلى سقوطه ونحن لا نقول بذلك بل الذي نقوله: إن هذه الصيغة لا تنعقد من أصلها فيقع المنجز ولا يؤدي ثبوته إلى سقوطه ثم أورد على نفسه في هذا المبحث أسئلة وأجاب عنها بما فيه، ثم ذكر لهم سببها وهو أن الزوج يملك الطلاق المعلق والمنجز ملكا واحدا من غير مزية لأحدهما على الآخر وقد اجتمعا ههنا وكل منهما مانع للآخر فتعارضا وتساقطا كما لو نكح أختين معا وكما إذا تعارض بينتان ثم رد عليهم بأن هذا مبني على ما ينفردون به وهو انعقاد هذه

 

ج / 4 ص -149-        الصيغة وأما عندنا فهي غير منعقدة وحينئذ فليس هنا إلا الطلاق المنجز وهذه نبذ مما ذكره وأطال فيه - رحمه الله تعالى ورضي عنه - ولقد قال في آخر كتابه: هذه جملة كافية لمن تحقق وتأمل فيها حقية التأمل وقاطعة للعذر في المخالفة لمن أنصف وبالله تعالى التوفيق اهـ. وهو كما قال وقوله وقال ذلك أيضا الزركشي في مسائل الدور في قواعده وذكر فيها كلام ابن سريج وكلام غيره هذا لا يفيده شيئا فذكر حشوا لا طائل تحته إلا إيهام السامعين أن الزركشي في قواعده قائل بصحة الدور وليس كذلك وقوله: واعترض الشيخ الفتى على النووي إلخ يقال له الفتى تابع للإسنوي وقد مر الرد عليه بأبلغ دليل وأوضحه على أن ذكر الفتى دون من هو أجل بذلك منه يدل على القصور وأنه لم يطلع هو وشيخه من المسألة إلا على كلام جمع من متأخري المتأخرين فقلداهم من غير علم لهم بما في هذه المسألة من الإشكالات والتناقضات والتحقيق الظاهر والأدلة القاطعة لكل مكابر كما بينت لك جميع ذلك فيما مر، وقوله: وإنما بينت هذه المقالات لتعرف الأحكام والمخالفات يقال عليه: لست أهلا لبيان شيء من ذلك لأن أكثر كلماتك في هذا الجواب تدل على جهلك المفرط وغباوتك الظاهرة وإنك حقيق بأن تؤدب على تصديك لما لست أهلا له وليتك تأسيت بما ذكرته عن صاحب المفتاح من عدم تعليم العوام وعدم الحضور معهم في ذلك وإن أحدا إذا أدخلهم في ذلك أمرتهم بالرد إلى غيرك لكن إنما أوجب لك الدخول معهم وتعليمهم وأمرهم برد نسائهم بعد حنثهم فيهن حب الأموال السحت التي تأخذها منهم على ذلك، أو حب الرياسة والشهرة فيما بينهم وقوله: إن أهل اليمن وعلماءهم صححوها وأفتوا بها كذب وافتراء منه عليهم، ألا لعنة الله على الكاذبين، والصواب أنهم منقسمون إلى قسمين: فمنهم القائلون بصحة الدور ومنهم القائلون ببطلانه فمن القائلين ببطلانه الشيخ الإمام الكبير الجليل قمر تهامة وقطبها إسماعيل الحضرمي وصنف في ذلك تصنيفا مختصرا قال فيه بعد الخطبة ما حاصله: المفتون بصحة الدور قسمان: قسم حملهم على الإفتاء به تقليد الشيخ أبي إسحاق والغزالي ولو طولب هؤلاء بإقامة الحجة على أنه لا يقع بعد التعليق بالدور طلاقهم لم يفهموا ذلك بل يرون أن كلام هذين الإمامين كاف في الحجة التي يحصل بها ضعف قول المخالف وليس كذلك فإن أئمة المذهب كثير وجواب هؤلاء أن يقال: قد ذهب جمع من الأئمة المعتبرين إلى بطلان الدور ومنهم ابن الصباغ في كتابه الشامل فإنه قال فيه قد أخطأ في هذه المسألة من لم يوقع الطلاق خطأ كبيرا وكذلك صاحب التتمة فإنه قال: الصحيح أنه يقع وكذلك صاحب الكتاب الجليل التهذيب قال: الصحيح وقوعه وكذلك البندنيجي في كتابه الكافي قطع بأن الطلاق يقع بعده وهذا البندنيجي هو تلميذ الشيخ أبي إسحاق له الكتب المصنفات الجليلة: كتاب المعتمد في الخلاف ليس له نظير وكتاب الكامل في المذهب بحر غزير، وله كتاب الكافي في مذهب الشافعي وقد ذكرناه.
وكذلك الفتوى لبعض الأصحاب قال الصحيح أنه يقع الطلاق وكذلك الغزالي رجع في آخر عمره عما ذكره في وسيطه ووجيزه قال: والرجوع إلى الحق أولى من التمادي في الباطل فهذا جواب القسم

 

ج / 4 ص -150-        الأول وهو مقابلة الكتب بالكتب وأما القسم الثاني وهم الذين يعتقدون في فتياهم ما ذكره الأولون من الحجة على صحة الدور من أنه إذا وقع المنجز لزم وقوع الثلاث المعلقة وإذا وقعت لزم أن لا يقع المنجز وإذا لم يقع لم تقع الثلاث المعلقة فجوابهم أن قولهم: إذا وقعت المنجزة لزم أن يقع الثلاث المعلقة لا يصح بحال؛ لأنه لا يملك ثلاثا بواحدة إلا من يملك أربعا فهذا التعليق محال فلا يصح بل لا يمكن أن يعلق بالطلقة إلا من يملك طلقتين فإذا علق بها ثلاثا قلنا: إما أن يبطل التعليق كله فلا يقع إلا المنجزة، وإما أن يقع من الثلاث طلقتان؛ لأنه لو قال أنت طالق قبله طلقتين وقعت الثلاث، والأول هو الأقيس إذا تم هذا فهذا الذي ذكرناه هو عين ما ذكره الغزالي في رجوعه عن صحة الدور إلى بطلانه وقد ذهب لذلك ابن الصباغ أيضا فقال: من لم يوقع الطلاق فقد أخطأ خطأ ظاهرا وليس ذلك مذهب الشافعي فإن تقدم المشروط على الشرط لا يصح والشرط ههنا هو الواحدة والمشروط الثلاث والمشروط لا يقدم على الشرط اهـ. حاصل كلام الشيخ إسماعيل الحضرمي وما ذكره مشتمل على نفائس نبهت على جميعها مع البسط والإيضاح فيما قدمته قال بعضهم: واستمر الشيخ إسماعيل على ذلك إلى أن توفاه الله سبحانه وتعالى كما صرح به ولده أحمد فقال مات وهو يفتي ببطلان الدور ووقوع الطلاق بعده ثم ذكر مناما يقتضي أنه رجع عنه بعد موته وهذا المنام لا يعتد به، إذ النائم لا يضبط ومن ثم حكى الإجماع على أن من رأى النبي صلى الله عليه وسلم في النوم وهو يقول له غدا من رمضان، أو طلق زوجتك، أو نحو ذلك لم يلزمه العمل به لكن لا لخلل في الرؤية فإنها حق إذ الشيطان لا يتمثل به صلى الله عليه وسلم وبهذا تعلم ما في قول الفقيه عبد الله بن أسعد الوزيري فإنه لما سئل عن طلاق التنافي أي الدور أجاب بقوله: الذي أفتي به وأختاره نصيحة مني للمسلمين أنه يقع الطلاق ويبطل الدور والدليل عليه نص السنة وهو ما أخبرني به الفقيهان الأجلان سليمان ومحمد الهمدانيان قالا: أخبرنا الفقيه يحيى بن أحمد الهمداني سنة تسع عشرة وستمائة قال: رأيت سنة ست وستمائة النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبيه جلوسا مستقبلين أبو بكر عن يمينه وعمر عن يمين أبي بكر فسلمت عليهم فردوا علي السلام من غير قيام فقلت: يا رسول الله القرآن كلام الله غير مخلوق قال: نعم ثم قلت: يا رسول الله طلاق التنافي صحيح أم باطل فقال النبي: "باطل باطل"، مرتين وسكت في الثالثة وذكر بقية المنام ثم قال الوزيري: ونقل الشيخ أبو نصر البندنيجي في المعتمد في الخلاف أن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم بعد موته في المنام معرضا فقال: يا رسول الله ما لي أراك معرضا عني قال: "لأنك تقبل وأنت صائم"، فتلقاه الإمام مالك بالقبول وعمل به وذهب إليه؛ لأنه ناسخ لما ورد في الأخبار في حياته صلى الله عليه وسلم من الرخصة في القبلة للصائم قال الوزيري ولا خلاف بين العلماء والمحدثين أن من رأى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام فقد رآه حقا وكأنما رآه في اليقظة بقوله صلى الله عليه وسلم: "من رآني في المنام فقد رآني حقا فإن

 

ج / 4 ص -151-        الشيطان لا يتمثل في صورتي"، أخرجه البخاري في صحيحه وهذا نص صريح في المسألة والنص لا يعارض بالقياس بإجماع أهل الأصول كيف وقد شرع النبي صلى الله عليه وسلم الأذان برؤيا عبد الله بن زيد وسن وأمر به وكفى به دليلا قاطعا في المسألة ببطلان الدور.
وقد ذهب إلى بطلانه من الفقهاء المتقدمين صاحب الشامل والغزالي في آخر عمره والشيخ أبو زيد وأبو العباس بن سريج وأبو العباس بن القاص اهـ. كلام الوزيري وقد أشرت لك إلى ما فيه من استدلاله بذلك المنام وأن جميع ما ذكره فيه لا يتمشى على قواعد الفقهاء والأصوليين ولكنه مع ذلك لا يخلو عن نوع تقوية واستئناس به للقول ببطلان الدور فمن كان في قلبه أدنى خوف رجع عن العمل بالدور ولا يظن أنه كالاستدلال بالحكاية الآتية فإن بينهما فرقا واضحا كما يعلم مما يأتي الكلام عليها، ومن القائلين ببطلان الدور أيضا العلامة إسماعيل بن المقري وناهيك به جلالة وعلما إذ لم يخرج اليمن في هذه الأعصار المتأخرة فقيها مثله، وكذلك الإمام الكمال بن الرداد شارح الإرشاد وعالم زبيد وأعمالها فإنه ممن اعتمد بطلان الدور في شرحه الكوكب الوقاد وكذلك في فتاويه وتبعه ولده العلامة المحقق في جمعها فمنها أنه سئل: هل يجوز العمل بالإلقاء فقال: لا يجوز العمل به وعلى القول بصحته لا يصح التوكيل فيه، ومنها أنه سئل عما عمت به البلوى في نواحي الحجاز أن الرجل إذا أراد طلاق زوجته فهمت منه عدم الرغبة قالت له: أقر أنه لا إلقاء لك فيقر ثم يشهد عليه ثم يطلقها طلاقا منجزا بائنا ثم إذا بدا له رغبة فيها قال: أنا كاذب في إقراري وجاء لمن عقد الدور صحيح عنده من فقيه، أو حاكم فيحكم له ببقاء الزوجية وببطلان الإقرار وبطلان طلاقه وإن لم يبد له رغبة تزوجت وأجمع على ذلك أكثر متفقهة تلك النواحي زيديهم وشافعيهم وحسموا باب الطلاق فهل تطلق زوجته والصورة هذه وربما كان أكثرهم عوام لا يفهم الدور وهل يجوز الحكم ببقاء الزوجية وببطلان الطلاق بعد هذه الكيفية وماذا يجب على من أقدم على ذلك بعد من أفتاه من يعتقد فقهه بوقوع الطلاق وعدم صحة الإقرار.
اهـ. السؤال فتأمله حتى تتأمل جوابه من هذا الرجل العظيم الذي هو من أجل علماء اليمن وذلك الجواب قوله رحمه الله تعالى المعتمد في الفتوى وقوع الطلاق المنجز وهو المنقول عن ابن سريج وصححه جمع وعليه العمل في الديار المصرية والشامية وهو القوي في الدليل وعزاه الرافعي إلى أبي حنيفة قال وقد قال ابن الصلاح هذه المسألة أود لو محيت وابن سريج بريء مما نسب إليه فيها والذي عليه الطوائف من المذهب وجماهير أصحابنا أنه لا ينسد باب الطلاق، وقال بعض المتأخرين: القول بعدم الوقوع قول باطل فإن الطلاق أمر مشروع في كل نكاح وما من نكاح إلا ويمكن فيه الطلاق قال: وسبب الغلط أنهم اعتقدوا صحة هذا الكلام فقالوا: إذا وقع المنجز وقع المعلق وهذا ليس بصحيح فإنه يستلزم وقوع طلقة مسبوقة بثلاث ووقوع طلقة مسبوقة بثلاث ممتنع في الشريعة والكلام المشتمل على ذلك باطل وإذا كان باطلا لم يلزم من وقوع المنجز

 

ج / 4 ص -152-        وقوع المعلق؛ لأنه إنما يلزم ذلك إذا كان التعليق صحيحا اهـ. وبالغ السروجي من الحنفية فقال القول بانسداد باب الطلاق يشبه مذهب النصارى وقال القرافي في القواعد: كان الشيخ عز الدين بن عبد السلام يقول: هذه المسألة لا يصح فيها التقليد والتقليد فيها فسوق؛ لأن القاعدة أن قضاء القاضي ينقض إذا خالف أحد أربعة أشياء: الإجماع، أو النص، أو القاعدة، أو القياس الجلي وما لا يقر شرعا إذا تأكد بقضاء القاضي بنقضه فأولى إذا لم يتأكد، وإذا لم نقره شرعا حرم التقليد فيه؛ لأن التقليد في غير شرع هلاك وهذه المسألة مخالفة للقواعد الشرعية فلا يصح التقليد فيها، قال القرافي: وهذا بيان حسن ظاهر ثم حكى عن الإسنوي والزركشي ما قدمته عنهما ثم قال الإمام البلقيني: ورجح عدم الوقوع كثير لا في تطليقه بطلبها في الإيلاء والحكمين في الشقاق بل يقع كما يقع الفسخ في إن فسخت بعيبك فأنت طالق قبله ثلاثا ولا في حال نسيان التعليق فيقع قبله تخريجا اهـ. قال: والنقل عن ابن سريج وصححه جمع أنه يقع المنجز وهو المعتمد في الفتوى اهـ. إذا علمت ذلك فالقاضي المقلد لا ينبغي له أن يعمل بالقول بعدم الوقوع لما تقدم عن الشيخ عز الدين بن عبد السلام ولما أطبق عليه المحققون من المتأخرين من العمل بخلافه، وصورة المسألة أن تمضي مدة التعليق ثم ينجز الطلاق فإن أعقب تعليقه بالتنجيز وقع المنجز قطعا ونبه عليه السراج البلقيني وهو ظاهر وأما الإجماع المذكور من متفقهة على التفصيل المذكور فلا يسوغ، وفسقهم بالعمل به ظاهر نسأل الله سبحانه وتعالى العصمة والهداية اهـ. جواب الفقيه الرداد فتأمل حكمه على المتفقهة المذكورين بفسقهم بالعمل بصحة الدور تعلم فسق هذا الزهراني بالعمل به ويتضح لك صحة ما قدمته من شبهه والمبالغة في تفسيقه إذ هو فاسق كما حكم عليه هذا الرجل العظيم، والفاسق - سيما المتجاهر - لا حرمة له ولا توقير ولا مراعاة بل يعامل بالسب والزجر والتغليظ لعله ينزجر ويتوب عن الجراءة على الأحكام الشرعية بالكذب والبهتان ونصب نفسه لمقام الإفتاء الذي ليس هو ولا شيخه الذي ذكره فيه أهلية له بوجه من الوجوه وليس هذا المقام ينال بالهوينا، أو يتسور سوره الرفيع من حفظه وتلقف فروعا لا يهتدي لفهمها ولا يدري مأخذها ولا يعلم ما قيل فيها وإنما يجوز تسور ذلك السور المنيع من خاض غمرات الفقه حتى اختلط بلحمه ودمه وصار فقيه النفس بحيث لو قضى برأيه في مسألة لم يطلع فيها على نقل لوجد ما قاله سبقه إليه أحد من العلماء فإذا تمكن الفقه فيه حتى وصل لهذه المرتبة ساغ له الآن أن يفتي وأما قبل وصوله لهذه المرتبة فلا يسوغ له إفتاء وإنما وظيفته السكوت عما لا يعنيه وتسليم القوس إلى باريها إذ هي مائدة لا تقبل التطفل ولا يصل إلى حومة حماها الرحب الوسيع إلا من أنعم عليه مولاه بغايات التوفيق والتفضل وتأمل أيضا قوله إن المحققين من المتأخرين أطبقوا على العمل ببطلان الدور وتأمل أيضا قوله عن ابن عبد السلام وقدمته عنه أيضا إن التقليد في هذه المسألة للقائلين بصحة الدور حرام وفسوق وهلاك فهل بقي بعد هذا تشديد وتغليظ بل

 

ج / 4 ص -153-        بل جمع ابن عبد السلام الملقب بسلطان العلماء في هذه الكلمات الثلاث ما ينبغي للعاقل بعد أن سمع ذلك أن لا يقلد في هذه المسألة القائل بصحة الدور ولا يعمل بذلك ولا يعول عليه ولا يفتي به لا يعلمه لعامي، ومن خالف ذلك باء بعظيم هذا الإثم وازداد فسوقه وحق هلاكه نسأل الله السلامة والعافية آمين وسئل الكمال الرداد عن ذلك مرة أخرى من فقيه الشجر وعالمه باسرومي بما حاصله: قد أحاط علم سيدي باختلافهم في طلاق الدور والغرض بيان ما يترجح لكم فيه ولو حكم بعض قضاة العصر بصحة طلاق التنافي، أو ببطلانه في امرأة بخصوصها لأجل الترافع عنده فهل ينفذ حكمه أم لا؛ لأنهم ذكروا أن الحاكم لا يجوز له الحكم بخلاف الصحيح من المذهب حتى قال الشيخ تقي الدين السبكي رحمه الله تعالى: إن الحكم بخلاف الصحيح من المذهب مندرج في الحكم بخلاف ما أنزل الله سبحانه وتعالى نعم ذكروا أن الحاكم يجتهد ويحكم بما ظهر له وإن كان خلاف الصحيح ولا شك أن الاجتهاد قد طوي بساطه وقضاة زماننا أمرهم غير خاف لكنهم ذكروا هنا أنه لو حكم حاكم بصحة الدور لم ينقض حكمه ولا يقع الطلاق على الأقوال فهل شرطه بلوغ الاجتهاد، أو لا؟ فأجاب الكمال الرداد رحمه الله تعالى بقوله المعتمد في الفتوى أنه يقع المنجز وقد بسطنا الكلام على ذلك في الشرح، ثم قال بعد ذلك: إن أورد ما قدمته عن التدريب وقول صاحبه الإمام البلقيني: النقل الثاني عن ابن سريج وصححه أنه يقع المنجز فقط وهو المعتمد في الفتوى ولو حكم بعدم الوقوع حاكم من أهل الاجتهاد لم ينقض حكمه أما المقلد للشافعي الذي لم يبلغ رتبة الاجتهاد فحكمه كالعدم؛ لأنه لا ينفذ حكمه بخلاف الصحيح اهـ. المقصود من كلامه وما أشار إليه السائل والمجيب من أن حكم الحاكم المقلد بصحة الدور حكم باطل لا يعتد به ولا يعول عليه هو الصواب الجاري على القواعد فلا محيد عنه ومن فعل ذلك من الحكام فحكم بصحة الدور كان آثما وكان من جملة من قال الله سبحانه وتعالى في حقه {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة: 47]، أشار إلى ذلك الإمام السبكي وما أشار إليه أيضا من أن قولهم: لو حكم بصحة الدور حاكم يراه نفذ حكمه محله في حاكم مجتهد هو الصواب الذي لا يعول على غيره أيضا؛ بدليل كلامهم في باب القضاء ومعلوم كما أشار إليه السائل أن رتبة الاجتهاد قد انقطعت من منذ مئات من السنين فليس لقاض الآن أن يدعي أنه بلغ تلك الرتبة حتى يجوز حكمه بالضعيف بل متى حكم قاض بوجه، أو قول ضعيف رد حكمه عليه وكان ذلك قادحا في ولايته وعدالته إذا تقررت لك هذه المقدمة علمت قبيح ما صنعه هذا الزهراني من تجرئه على الأمر برد النساء وإفتائه أزواجهن بصحة الدور وغير ذلك من قبائحه الشنيعة كقوله: إن علماء اليمن صححوا الدور وأفتوا به وقد ظهر لك بما سقته عن هؤلاء الأئمة من علماء اليمن بطلان هذه الدعوى التي ادعاها وأن علماء اليمن مختلفون كغيرهم وحكايته للشعر الذي ذكره مما يدل على جهله وجهل هذا الشاعر وكذبهما وافترائهما ومبالغتهما في الكذب والافتراء مما لم تخف

 

ج / 4 ص -154-        قباحته وشناعته على أحد، وذلك أن هذا الشاعر قال: قد حكمت بها جميع قضاة الخلق وأفتوا بها وفي هذا من الكذب والجراءة ما يقتضي فسق قائله ومن تبعه كهذا الزهراني لما تقرر أن نواحي مصر والشام وناهيك بهذين الإقليمين العظيمين اللذين هما محل العلماء المعول عليهم في تحرير المذهب وتنقيحه كلهم قاطبة على بطلان هذا الدور وبحمد الله تعالى لم نسمع قط عن أحد من قضاة هذين الإقليمين أنه حكم بصحة الدور ولا عن أحد من علمائهما في هذه الأزمنة المتأخرة أنه أفتى بصحته وإنما كلامهم في كتبهم ناطق ببطلان الدور فمع ذلك كيف ساغ لهذا الشاعر هذا الكذب الصراح أما علم أنه منه كذب ومفسق؟ لكن من هتك عرضه وعدم دينه ومروءته لا يبالي بما يترتب على أفعاله القبيحة وأقواله الباطلة الصريحة وقول هذا الشاعر أيضا: واتبعوا الجمهور وقوله فقلدوها جمهورنا قد مر رده بما يغني عن إعادته هنا وقوله فقد قال بعض العارفين الخ وقول هذا الزهراني: إنها لما وقعت على خاطر ابن سريج الخ يقال عليه هذا مما يعلمك أيضا بجهل هذين الرجلين ويوضح لك ما انطويا عليه من السفاهة والغباوة والجهل بالقواعد والمآخذ والمقاصد وأنهما لا يتأملان ما يقولانه ولا يفهمان ما يترتب عليه وأنهما بالأنوام أشبه، إذ لا يصدر هذا الكلام إلا ممن عدم لبه وزاد جهله واستحكمت غباوته وحقت شقاوته، كيف وهذه الحكاية ربما تؤدي إلى كفر؛ لأنها صريحة في اعتقاد هذا الزهراني أنها نزلت على خاطر ابن سريج فعلمها ولم يعلمها النبي صلى الله عليه وسلم ولا شك أن من اعتقد أن ابن سريج، أو أجل منه علم علما حقا وجهله النبي صلى الله عليه وسلم كان كافرا مهدر الدم؛ لأنه مرتد عن الإسلام فحده القتل إن لم يتب ويجدد إسلامه ومن استمر على هذا الاعتقاد كان كافرا مرتدا محاربا لله سبحانه وتعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم وتأمل عظيم ما في هذه الحكاية من القبيح، وقوله صدق القلم وصدق اللوح فصدق النبي صلى الله عليه وسلم هذه مسألة أنزلتها على لسان أحد علمائي فإن هذا تصريح من هذا الرجل بأن ابن سريج أوحيت إليه هذه المسألة فإنه قال: إن الله سبحانه وتعالى أنزلها على لسانه وظاهر ذلك أنها نزلت على لسانه بالوحي من غير واسطة ملك ولا غيره وهذا الاعتقاد من أقبح أنواع الكفر إذ من اعتقد وحيا من بعد محمد صلى الله عليه وسلم كان كافرا بإجماع المسلمين، والحاصل أن هذه الحكاية قد اشتملت على أنواع من الكفر أشرت لك إلى بعضها ولو جاء هذا الزهراني إلى مكة لعومل بما دل عليه كلامه هذا من الكفر وغيره إن لم يجدد إسلامه ويتب ويرجع إلى الله سبحانه وتعالى من هذه المجازفات وليته اقتصر على المجازفات المقتضية لفسقه؛ لأن إسلامه مع ذلك باق وأما مجازفات تؤدي إلى الكفر والخروج عن دين الإسلام إلى دين أقبح من دين النصارى واليهود والمجوس فلا يطيق من في قلبه أدنى ذرة من الإيمان الصبر على ذلك فأسأل الله سبحانه وتعالى المنان بفضله أن يتوب على هذا الزهراني، أو يطهر الأرض منه ومن أمثاله فإنهم فتنة أشد على العوام من فتنة إبليس وجنوده عاملهم الله سبحانه وتعالى بعدله – آمين وتأمل مزيد جهله وكذبه حيث قال

 

ج / 4 ص -155-        بعد هذه الحكاية فقالت طائفة من العلماء صح هذا الخبر فجعل ما تضمنته هذه الحكاية الشرعية وهذا من أقبح أنواع الكذب والفسق من هذا الرجل فإنه نقل عن طائفة من العلماء أنهم قائلون بصحة هذه الحكاية من الكفر والفسوق وأدنى العلماء بريء من أن يقول في حكاية إنها صحيحة معمول بها مع أنه لا أصل لهؤلاء يعتمد بإجماع المسلمين على مثلها مع ما أدت إليه من أنواع الكفر القبيحة الشنيعة وتأمل أيضا مزيد جهله فإن قضية سياقه بل صريحه أنها لما نزلت على لسان ابن سريج أنكرها عليه سائر العلماء فلما جرت هذه الحكاية تبعه العلماء عليها فلم يتبعوه عليها إلا لهذه الحكاية ولولاها لم يتبعه أحد من العلماء وهذا كلام بالخراف أشبه لكن ننبه أن قائله وصل في الجهل والحمق إلى غاية قبيحة إذ كيف ينسب إلى الأجلاء التابعين لابن سريج أنهم إنما تبعوه لأجل حكاية فيها أنواع الكفر والكذب هذا مع ما قدمته لك أن بعض العلماء المتقدمين على ابن سريج كالمزني وبعض أصحابه على ما قيل قالوا بصحة الدور وهذا مما يزيد لك إيضاح كذب هذه الحكاية وأنه لا أصل لها وأن قائلها والمصدق بها كاذب فاسق فإنها صريحة في أنها لم تنزل إلا على ابن سريج وليس كذلك بل قال بها المزني في المنثور كما مر وقوله: وهذا الذي حضرنا من مبحث مسألة الدور يقال عليه هذا الذي حضرك عرف الناس بقدر مرتبتك في الجهل والفسق وكذا الكفران إن اعتقدت ما دلت عليه حكايتك فليتك سكت اتقاء للسترة على نفسك وكفا لها عما يكون سببا لهلاكها في الدنيا والآخرة وقوله عن شيخه فرددت الجواب إلى مهمات المهمات مما يدل على قصور نظره ومزيد تساهله فإن من يرد من يفتي بخلاف الصحيح من المذهب كيف يقنع بمثل هذا  الكتاب ويعتمد عليه وحده وما درى أن لأصل هذا الكتاب الذي هو المهمات تعقبات وملمات ومعلمات لابن العماد والإمام البلقيني وللبدر ابن شهبة اعترضوا في هذه الكتب أكثر ما في المهمات وردوه وبينوا ما فيه من صحة وفساد وكذلك الأذرعي في توسطه والزركشي في خادمه فجزاهم الله سبحانه وتعالى خير الجزاء وأكمله وقوله: لكن نحن وهم متبعون ومقتدون يقال عليه: كذبت لست متبعا ولا مقتديا فإنك لو كنت كذلك لم تكذب على العلماء المرة بعد المرة ولم تنسب إليهم ما هم بريئون منه كما تقدم كما دل عليه كلامك السابق ونبهت عليه في محاله فأنت مبتدع لا متبع ومعتد لا مقتد، وقوله: الأمر إذا ضاق اتسع والضروريات لها أحكام هذا مما يدل على مزيد جهله أيضا فإن المسألة التي نحن فيها ليست من جزئيات قاعدة إذا ضاق الأمر اتسع باتفاق القائلين بصحتها وإنما غاية هذا الرجل أنه يحفظ كلمات لا يدري ما معناها ولا ما أريد بها فينطلق بها في غير محلها وقوله: والتقليد واجب عند الضرورات هذا كلام أيضا من تغاليه في الكذب والجهل وأن ظاهر كلامه أنه يريد بذلك أن تقليد القائلين بصحة الدور واجب عند الاضطرار ولم يقل بهذا أحد من المسلمين، وإنما غاية الأمر أنه هل يجوز تقليد القائلين بصحة الدور وقد قدمت لك عن أكابر من العلماء أنه لا يجوز التقليد

 

ج / 4 ص -156-        في ذلك وأن التقليد فيه فسوق فإنه لا يجوز لقاض مقلد للشافعي الحكم بصحة الدور وأنه متى حكم بذلك فسق وكان حكمه باطلا فمنع ذلك كيف ساغ لهذا المجازف أن يزعم أن التقليد هذا واجب وليته استحى من الله سبحانه وتعالى حيث لم يستح من الخلق فإنه كذب على الله سبحانه وتعالى وعلى دينه فربما يخشى عليه أنه ممن قال الله سبحانه وتعالى في حقهم: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ} [الزمر: 60]، فإن قلت: قال في الأنوار بعد أن نقل عن الروياني أنه لا وجه لتعليم العوام هذه المسألة لفساد الزمان ويشبه أن يستحب التعليم والعمل به الآن لوجوه حاصلها أن من لا يحلف بالطلاق الآن قليل ومن يحلل زوجته إذا وقع طلاقه معدوم وإن الناس منهمكون على الحلف بالطلاق ويتركون الحلف بأسماء الله سبحانه وتعالى ومن وقع عليه الثلاث لا يسمح بالتحليل فيذهب إلى من لا مسكة له في الدين فيعلمه حيلة لإسقاط التحليل كادعاء فسق الولي، وكأمره بتقليد القول الشاذ المدفوع بصرائح السنة الصحيحة، إن العقد كاف في التحليل وإن الغافل المتساهل ربما علم السوقة وغيرهم أن يقولوا: إن شاء الله تعالى، بعد الحلف بالطلاق حفظا لنكاحهم وحذرا عليهم من الحنث مع جهلهم، بل وجهل ملقنهم بشروط الاستثناء ومعناه فيطلقون ويستثنون ظنا أن لا يقع مع وقوعه عليهم حيث لا يشعرون، فليت شعري أن العمل بقول الجمهور مع نفي هذه المفاسد وبه يخفف الاعتراض على هذا الزهراني قلت: لا حجة لهذا الزهراني في كلام الأنوار المذكور؛ لأن غاية ما فيه أنه بحث استحباب التعليم والعمل فمن قال بوجوب ذلك حتى يتجرأ عليه هذا الزهراني ويفتي به على ما قاله صاحب الأنوار إنما هو شيء ظهر له من بحثه لكنه في مقابلة المنقول، فإن الروياني من القائلين بصحة الدور ومع ذلك قال لا وجه لتعليم العوام هذه المسألة لفساد الزمان وتبعه على ذلك الرافعي والنووي وغيرهما من القائلين بصحة الدور وببطلانه فهم كالمتفقين على ما قاله الروياني من امتناع التعليم فإذا اتفقوا على ذلك وأظهر بعض المتأخرين بحثا مخالفا لاتفاقهم كان ذلك البحث في حيز الطرح والإعراض عنه، وهكذا كل بحث خالف المنقول لا يلتفت إليه وإن جل قائله وظهر دليله هذا مع أن ما استدل به صاحب الأنوار على بحثه هذا يرد بأنه نفسه قد أنكر على من يعلم الناس الاستثناء في الطلاق لما ذكر من جهل المعلمين والمتعلمين كذلك شروطه فإذا أنكر على المعلمين لجهلهم، أو لجهل المتعلمين منهم بذلك مع ظهوره وأنه يحتاج لكبير فطنة ومعرفة فبالأولى أن ينكر عليهم لجهل أكثر المتفقهة فضلا عن العوام بمعنى الدور هنا وببقية الشروط التي ذكرتها أول هذا الجواب، والدليل على جهلهم بذلك تباين اختلاف أفهام العلماء في صحة الدور وبطلانه وتباين آراء الرجل الواحد منهم فإنه يقول تارة بصحته ثم تارة بفساده كما قدمت لك عن الغزالي وسبقه لذلك إمامه والشيخ أبو علي فإذا كانت أفهام العلماء متباينة فيه وفي معناه وما يترتب عليه فكيف تقبله أفهام العوام وشرط العمل بالدور عند القائلين به أن يصدر التعليق ممن يعرف

 

ج / 4 ص -157-        الدور كما مر لك أول هذا الجواب مع بقية شروط أخرى لا يحيط بها أكثر المتفقهة فضلا عن غيرهم فكانت المفاسد المترتبة على تعليم الدور أعظم وأفحش من المفاسد المترتبة على تعليم الاستثناء فكما شنع صاحب الأنوار على المعلمين له فكذلك نشنع نحن على من يعلم مسألة
الدور بعين ما قاله فاندفع بنفس كلامه في الاستثناء بحثه ندب التعليم والتعلم وأما ما ذكره أن من لا يحلف بالطلاق الآن قليل الخ فيرد بأنا إذا غلظنا على العوام وبينا لهم أن الدور فاسد وأنه لا يجوز لأحد تقليده ولا العمل به كما قاله أكابر من العلماء كان ذلك زاجرا لهم عن كثرة الحلف بالطلاق فإنهم على قسمين: قسم يخالطون العلماء، أو من له أدنى معرفة فهؤلاء ينتهون وينزجرون فزجرهم من تعليمهم الدور، وقسم لا يخالطون أحدا ممن له أدنى معرفة وهؤلاء لا يمكن تعليم جميعهم بل إذا أراد أحد أن يعلم واحدا منهم لا يفيده ذلك شيئا فإن زوجته بانت عن عصمته قبل أن يعلمه بزمن طويل فأي فائدة للتعليم حينئذ فاتضح ما قالوه واندفع ما قاله صاحب الأنوار وقوله: ردوا النساء إلى أزواجهن يقال عليه ليس هذا بكثير على ما علم من أحوالك القبيحة وخصالك المذمومة الدالة على مبالغتك في الكذب والجهل والفسق وأنواع الكفر بقيده السابق، ومن تجرأ على الله سبحانه وتعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم فأولى أن يتجرأ على ما سوى ذلك، لكن ما لم يتدارك بعفو من قبل الله سبحانه وتعالى وتوفيق وحسن توبة نصوح وإلا فلك في مقابلة هذا الأمر المتضمن لاستباحة الفروج مزيد العذاب والنكال والفضيحة على رءوس الأشهاد يوم لا ينفع مال ولا بنون، ولا ينفع أعوان ولا أموال وقوله: وقلدوا جمهور العلماء الذين هم ورثة الأنبياء يقال عليه: قاتلك الله وقبحك ما أكذبك وأفسقك فإن جمهور العلماء من سائر المذاهب على بطلان الدور كما قدمت ذلك واضحا مبينا وإنما القائلون بصحته فرقة من الشافعية وأفراد من غيرهم وهؤلاء ليسوا معشار عشر العلماء فكيف ساغ لك أن تجعلهم جمهور العلماء ثم تصفهم بصفة تقتضي أن القائلين ببطلان الدور ليسوا ورثة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام إذ كلامك وإن كنت لا تفهم ولا تدري ما تقول أن الذين هم ورثة الأنبياء وصف للمضاف وهم الجمهور دون المضاف إليه وهم العلماء إذ لو كان وصفا للمضاف إليه لم يناسب مقصودك وهو أنك تبالغ للعوام في مدح القائلين بصحة الدور فجعلت هذا الوصف مدحا لهم حاملا على العمل بما قالوه من صحة الدور وما دريت أنه يفهم منه أن القائلين ببطلان الدور ليسوا ورثة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فإن كنت معتقدا ذلك فيكفيك هذا دليلا على فسقك ومقتك وعظيم وقيعتك في حق العلماء فليحاربنك الله سبحانه وتعالى وليهلكنك، ومن حاربه الله سبحانه وتعالى لا يفلح أبدا وقوله في هذا المبحث: إنما أكثرت فيه ليعلموا أصول هذه المسألة يقال عليه لم يعلم من كلامك في هذه المسألة إلا ما انطويت عليه من الجهل والكذب والفسق والمجازفة لسوق الحكاية المقتضية للكفر في أنواع متعددة منها فإن كانت أصولها كلها مثل هذه الحكاية فقد خسرت صفقتك وضاع عمرك في الضلال والهذيان

 

ج / 4 ص -158-        فتدارك ما بقي منه لعل الله سبحانه وتعالى أن ينفعك في آخر عمرك، وقوله عن شيخه والذي يفتي بها يقلد من قالها ولا جرح ولا إثم يقال عليه هذا مما يدل على جهله وأنه لا يعرف من شروط الإفتاء شيئا وإنما يتكلم من عنده بحسب ما يلقيه الشيطان على لسانه إذ لا يجوز للمفتي المقلد أن يفتي إلا بالصحيح من المذهب والصحيح ما عليه الشيخان من بطلان الدور وقد تبعهما المحققون على ذلك فلا يسوغ الإفتاء بخلافه ومن أفتى بخلافه - لا سيما بصحة الدور - كان آثما فاسقا كما مر ذلك عن ابن عبد السلام وغيره، وقوله: لكن يشترط أن يكون الملقي والمستلقي يعرفان المعنى يقال عليه اشتراطك ذلك في الملقي باطل وإنما هو شرط في المستلقي الذي هو الزوج حتى لو فرض أن عاميا لا يعرف معنى الدور وإنما يعرف لفظه علمه لمن عرف معناه فقاله عارفا معناه صح عند القائلين بصحته وإن كان الملقي جاهلا بمعناه؛ لأن الملقي لا يدار عليه حكم حتى يشترط معرفته لمعنى التعليق، وقوله: إن الطلاق معلق بشرط طلاق بعده يقال عليه هذا أدل دليل على جهلك حتى بهذه المسألة إذ كيف تصورت أن الطلاق معلق بشرط طلاق بعده ولو كان الأمر كذلك لم يلزم عليه رد النسوان ولم يكن ذلك من مسألة الخلاف والظاهر أنك لا تفرق بين قبله وبين بعده وليس ذلك بمستبعد عنك فإن مزيد جهلك وغباوتك يقضي عليك بأنك لا تفهم ذلك ولا ما هو دونه فكان الصواب أن تقول بشرط طلاق قبله على أنك لو قلت ذلك لم يصح كلامك أيضا؛ لأن كونه معلقا بطلاق قبله لا يقتضي الدور وإنما المقتضي للدور كونه معلقا بالطلاق الثلاث قبله اللهم إلا أن يريد غير المدخول بها فلا يحتاج للثلاث إلا أن الظاهر من ذلك أنك لا تعرف الفرق بين المدخول بها وبين غيرها هنا، وقوله: لم يقع المشروط يقال عليه هذا مما يدل أيضا على مزيد جهله وأنه لا يفرق بين الشرط والمشروط، وصواب العبارة أن تقول لم يقع الشرط؛ لأنه إذا قال إن وقع عليك طلاقي فأنت طالق قبله ثلاثا كان الشرط هو قوله وقع عليك طلاقي والمشروط قوله: فأنت طالق قبله ثلاثا وهذا المشروط لا تصح إرادته في عبارته فإنه قال فإن أوقعنا الطلاق قبله لم يقع المشروط ووقوع الطلاق قبله هو المشروط فكيف يقول لم يقع المشروط فتعين أن الصواب لم يقع الشرط الذي هو المنجز وإذا لم يقع المنجز لم توجد الصفة الخ وليته إذ كان جاهلا صرفا أخذ لفظ الدور الذي قاله الأئمة وسطره من غير أن يتصرف فيه وهو قولهم لو وقع الطلاق لوقع ثلاث قبله ولو وقعت ثلاث قبله لما وقع هو وإذا لم يقع هو لم يقع ثلاث؛ لأنه مشروط فيلزم من وقوعه عدم وقوعه وإذا ظهر لك أن هذا الرجل لا يحسن أن يعبر عن الدور بلفظ مطابق له ظهر لك أنه لا يعرف معناه وإذا لم يعرف معناه فكيف يسوغ له الإفتاء بصحته كيف يعلمه للعوام ويأمرهم بتقليد القائل به مع جهله بمعناه وقد قال هو نفسه يشترط أن يكون الملقي والمستلقي عارفين بمعنى الدور فقد قضى هذا الرجل على نفسه بالجهل المفرط والحماقة المجاوزة للحد والغباوة الظاهرة فعليه أن يجدد الأوبة

 

ج / 4 ص -159-        ويخلص التوبة ويرجع إلى الله سبحانه وتعالى عما سلف منه من فرطات الجهل وسقطات اللسان، وعليه وعلى كل أحد ممن له قدرة وشوكة أن يمنع الأزواج الذين حنثوا في أيمانهم عن نسائهم حتى يتحللن لهم تحليلا شرعيا سواء كانوا ألقوا عليهن إطلاق الدور أم لا لما تقرر لك المرة بعد المرة أنه لا يجوز تقليد القائلين به وأن التقليد في ذلك إثم وفسوق وأنه لو حكم بذلك قاض نقض حكمه ورد عليه قوله، وأن القول ببطلان الدور هو الصواب الذي يجب على كل أحد الرجوع إليه، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.