الفتاوى الكبرى الفقهية على مذهب الإمام الشافعي

أبواب: تحذير الثقات من أكل الكفتة والقات - التعازير وضمان الولاة - الردة - الصيال - الزنا

ج / 4 ص -195-        كتاب تحذير الثقات من أكل الكفتة والقات
"أما بعد" فهذا تأليف شريف وأنموذج لطيف سميته: "تحذير الثقات من أكل الكفتة والقات" وسببه أنه ورد علي بمكة المشرفة ومن محروستي صنعاء وزبيد أدام الله تعالى لعلمائهما غايات التوفيق والتسديد كتب مصنفة وآراء مختلفة وطلب مني التعريض عليها والتقرير لما فيها من حكم القات تحليلا وتحريما وتخصيصا وتعميما فتصفحتها فإذا هي متسعة الفجاج قوية الحجاج محكمة الإطناب سائحة الإطناب شامخة الذرى رافضة المرى رافلة في حلل الإتقان واضحة الأدلة والبرهان غير متباينة عند التحقيق لاتفاقها على الحكم وإنما اختلف في الطريق كما سيتضح وبه الصدر إن شاء الله سبحانه وتعالى ينشرح لكنه اختلاف استند كل من طرفيه إلى الواقع في التجربة والاختبار والمعول عليه بالمشاهدة والإخبار فلذلك أظلمت هذه الحادثة القلوب وحق لنا أن نفوض حقيقة الأمر فيها إلى علام الغيوب إذ الحجة إما عقلية مثلا أو نقلية مثلا أو مركبة منهما والعقلية لا يعتد بها إلا إن كانت مقدمتها يقينية لأنها حينئذ لا تنتج إلا قطعيا حقا ولازم الحق وهي ما يجزم بها العقل بمجرد تصور طرفيها أو بواسطة، أو الحس، أو كلاهما كالمتواترات والتجريبيات والحدسيات والنقلية ما صح نقله عمن عرف صدقه عقلا وهم الأنبياء عليهم الصلاة وأتم السلام ويفيد العلم وكذا الظن إن صحبها تواتر مع انتفاء الاحتمالات الآتية ولا يفيد غير ذلك لا غيره عند أكثر أهل السنة والمعتزلة والحق أنه قد يفيد العلم ولو مع عدم التواتر بمعونة قرينة شوهدت، أو تواترت تؤذن بنفي الاحتمالات التسعة والمقررة في محلها وهي العلم بعصمة رواة العربية لغة ونحوا وصرفا وعدم النقل وعدم المجاز وعدم الاشتراك وعدم الإضمار وعدم النسخ وعدم التقديم والتأخير وعدم المعارض العقلي الذي لو وجد لقدم على النقلي قطعا فإذا وجدت تلك القرينة المؤذنة بنفي هذه الاحتمالات أورثت العلم بمضمون الخبر النقلي وإلا لم تفد إلا الظن وبالضرورة القطعية العلم بحقيقة هذا النبات متعسر؛ لأنه لا طريق إلى العلم بها إلا خبر الصادق وهو ما يئس منه إلى أن ينزل عيسى على نبينا وعليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين أفضل الصلاة وأزكى السلام أو التجربة وهي معتذرة كما قاله بعض أفاضل الأطباء فإني لما سألته عن هذا النبات قال لي إنه يورث مضارا منها تصفير الوجه وتقليل شهوة الطعام وتفتير الباه وإدامة نزول الودي عقب البول فقلت ما مستندك في ذلك فقال أخبار المستعملين فقلت له ما يكفي وذكرت له ما يأتي من التعارض

 

ج / 4 ص -196-        ثم قلت له لا بد أن تستند إلى حجة لم يقع فيها تعارض ولا نزاع وهي التجربة فقال لا يمكنني؛ لأن التجربة تستدعي مزاجا وزمانا ومكانا معتدلات وعدالة المجرب؛ لأنه يخبر عما يجده من ذلك النبات فلا بد من عدالته حتى يقبل إخباره وذلك كله متعذر في هذه الأقاليم؛ لأنها غير معتدلة وأيضا فوجود عدل يقدم على هذا النبات المجهول ليجربه مستبعد فقلت له فما الذي تظنه في هذا النبات فأخذ منه شيئا وجلس عنده أياما ثم قال الذي تحرر لي أنه مجهول لا يحكم عليه بشيء اهـ. فنتج من هذا كله أنه لا طريق لنا إلى العلم بحقيقته إلا مجرد الخبر المتواتر من متعاطيه بما يجدونه منه ولم يتم لما علمت مما أشرت إليه من الخلاف فيه والاختلاف إذ القائلون بالحل ناقلون عن عدد متواتر أنه لا ضرر فيه بوجه والقائلون بالحرمة ناقلون عن عدد التواتر أن فيه آفات ومفاسد منها أنه مخدر ومغيب، أو مسكر مطرب فأحد الخبرين كاذب قطعا مع رعاية العموم سلبا وإثباتا ولما رأيت هذا التعارض أردت أن أكشف بعض أمره بالسؤال ممن تعاطاه فقال لي إمام الشافعية بمقام خليل الله إبراهيم على نبينا وعليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين أفضل الصلاة والسلام أنه استعمله لما رحل إلى زبيد وتعز من نحو ثلاثين سنة من الآن فلم يجد له ضررا يوجه لا في رطبه ولا في يابسه وكذلك قال بعض مدرسي الشافعية بمكة المشرفة أنه أراد في بداية أمره التجرد فأراد تفتير الشهوة فوصف له يابسه فأكل منه فلم يجد منه تخديرا ولا غيبة ذهن بوجه وقال بعض مدرسي الحنفية زرت بعض متصوفة اليمن بالمسجد الحرام المكي فأعطاني قليلا منه وقال لي تبرك بأكل هذا فإنه مبارك فأكلت منه فوجدت فيه تخديرا فذكرت له كلام ذينك فقال إن عندي معرفة بالطب وبدني معتدل المزاج والطبع فالذي أدركه بواسطة ذلك لا يدركه غيري وقد أدركت منه التخدير ودوران الرأس ولا أعود لأكله أبدا وكذا قال بعض الأشراف إن فيه غيبة عن الحسن وأنه استعمله فغاب مدة طويلة لا يدري السماء من الأرض ولا الطول من العرض وبعضهم قال إن انضم لأكله دسومة لم يؤثر وإلا أثر وبعضهم قال لا يؤثر مطلقا فعند وقوع هذا الاختلاف والتنافي حار الفكر فيه وأحجم العقل عن أن يجزم فيه بتحليل، أو تحريم وغلب على الظن أن سبب ذلك الاختلاف أنه يختلف تأثيره وعدم تأثيره باختلاف الطباع بغلبة أحد الأخلاط والطبائع الأربع عليها وأنه لا يمكن التوفيق بين هذه الأخبار المتناقضة مع عدالة قائلها وبعد كذبهم إلا بأن يفرض أنه يؤثر في بعض الأبدان دون بعض وإذا فرض صدق هذا الظن وأن هذا النبات يختلف باختلاف غلبة بعض الأخلاط فوراء ذلك نظر آخر وهو أن ما يختلف كذلك هل النظر فيه إلى عوارضه اللاحقة له فيحرم على من ضره دون من لم يضره، أو إلى ذاته فإن كان مضرا لذاته حرم مطلقا وإلا لم يحرم مطلقا والأول هو الذي يصرح به كلام أئمتنا في غير هذا من النباتات الضارة فهو المعتمد هنا وفارق الخمر وغيره من كل مسكر مائع بأن العلة في تحريمه إسكاره مع نجاسته فإذا فرض انتفاء إسكاره حرم لنجاسته والحاصل أنه لم يثبت

 

ج / 4 ص -197-        عندنا لهذا النبات وصف ذاتي ولا أغلبي ومن الضرر، أو عدمه ندير الأمر عليه ونحكم بقيمته وإنما الذي تحصلنا عليه من هذا الاختلاف وما قررناه سابقا وهو أنه يتعذر الجمع بين تلك الأخبار إذا قلنا باختلافه باختلاف الطباع وليس هذا أمرا قطعيا كما علمت لتطرق التهم والكذب إلى بعض المخبرين عنه بضرر، أو عدمه وتواتر الخبر في جانب معارض بتواتره في جانب آخر بخلافه فسقط النظر فيه إلى الخبر المتواتر ووجب النظر فيه إلى أنه تعارض فيه أخبار ظنية الصدق والكذب وقد أمكن الجمع بينهما بما قدمته فتعين المصير إليه وأنه يختلف باختلاف الطباع إذ القاعدة الأصولية أنه متى أمكن الجمع لا يعدل إلى التعارض وعلى فرض أنه لا يمكن الجمع بذلك لما مر أن بعض المخبرين سلب الضرر عن هذا النبات سلبا كليا وبعضهم أثبته له إثباتا كليا فيجب الإمعان في ترجيح أحد المخبرين بدلائل وأمارات بحسب استعداد المستدل وتضلعه من العلوم السمعية والنظرية الشرعية والإلهية وهذا شأن كل حادثة لم يسبق فيها كلام المتقدمين كهذا النبات فإني لا أعرف فيه كلاما بعد مزيد التفتيش والتنقير في كتب الشرع والطب واللغة لغير أهل عصرنا ومشايخهم وهم مختلفون فيه كما ستعلمه والظاهر أن سبب اختلافهم وما أشرت إليه من اختلاف المخبرين وإلا ففي الحقيقة لا خلاف بينهم؛ لأن من نظر إلى أنه مضر بالبدن، أو العقل حرمه ومن نظر إلى أنه غير مضر لم يحرمه فهم متفقون على أنه إن تحقق فيه ضرر حرم وإلا لم يحرم فليسوا مختلفين في الحكم بل في سببه فرجع اختلافهم إلى الواقع وحيث رجع الاختلاف إلى ذلك خف الأمر وهان الخطب وعذر من قال بالحرمة لتوهمه الضرر ومن قال بالحل لتوهمه عدمه ومما يزيد في العذر ما قدمته من تعسر التجربة فلم يبق تعويل إلا على مجرد أخبار متعاطيه وقد علمت تباينها وتناقضها ولزم من ذلك تناقض آراء العلماء وتباينها فيه لكن مع ملاحظة القواعد الأصولية لا تعارض ولا تباين كما سأقرره لك لكن بعد ذكر حاصل الآراء المتباينة فيه وحججها وما فيها ثم ذكر ما أختاره فيه وأميل إليه فأقول عنه ويتضح ذلك بذكر مقالاتهم وحججها وما فيها ثم ذكر ما نختاره ونميل إليه زيادة في الإيضاح ومبالغة في النصح فأقول احتج القائلون بالحل بأمور منها أن الإمام الصفي المزجد كان يقول بتحريمه حكي عنه ثم أنه اختبره بأكله شيئا منه فلما لم يؤثر فيه شيء من أسباب التحريم أفتى بحله فقال وأما القات والكفتة فما أظنه يغير العقل ولا يصدر عن الطاعة وإنما يحصل به نشاط وروحنة وطيب خاطر لا ينشأ عنه ضرر بل ربما كان معونة على زيادة العمل فيتجه أن حكمه وإن كان العمل طاعة فتناوله طاعة، أو مباحا فتناوله مباح فإن للوسائل حكم المقاصد اهـ. وكذلك أفتى بحله الفقيه الشهاب البكري الطنبداوي وكان يأكله ويثني عليه فقال وأما القات والكفتة فليسا بمغيبين للعقل ولا مخدرين للبدن وإنما فيهما نشأة وتقوية وطيب وقت فإن قصد بهما التقوي على الطاعة فهما مستحبان لأن للوسائل حكم المقاصد كما اتفق عليه أئمتنا وكذلك أفتى بحله الإمام جمال

 

ج / 4 ص -198-        الدين بن كبن الطبري وله في مدحه أبيات ومنها أن المشاهدة من أحوال آكليه أنه يحدث لهم روحنة وطيب وقت وتقوية على الأعمال ولا يحدث لهم إسكارا ولا تخبيلا ولا تخديرا.
واحتج القائلون بالحرمة بأمور منها قول الفقيه أبي بكر بن إبراهيم المقري الحرازي الشافعي في مؤلفه في تحريم القات كنت آكلها في سن الشباب ثم اعتقدتها من المتشابهات وقد قال صلى الله عليه وسلم:
"من اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه"، ثم إني رأيت من أكلها الضرر في بدني وديني فتركت أكلها فقد ذكر العلماء رضي الله تبارك وتعالى عنهم أن المضارات من أشهر المحرمات فمن ضررها أن آكلها يرتاح ويطرب وتطيب نفسه ويذهب حزنه ثم يعتريه قدر ساعتين من أكله هموم متراكمة وغموم متزاحمة وسوء أخلاق وكنت في هذه الحالة إذا قرأ علي أحد يشق علي مراجعته وأرى مراجعته جبلا وأرى لذلك مشقة عظيمة ومللا وأنه يذهب بشهوة الطعام ولذته ويطرد النوم ونعمته ومن ضرره في البدن أنه يخرج من أكله بعد البول شيء كالودي ولا ينقطع إلا بعد حين وطالما كنت أتوضأ فأحس بشيء منه فأعيد الوضوء وتارة أحس به في الصلاة فأقطعها أو عقب الصلاة بحيث أتحقق خروجه فيها فأعيدها وسألت كثيرا ممن يأكلها فذكروا ذلك عنها وهذه مصيبة في الدين وبلية على المسلمين وحدثني عبد الله بن يوسف المقري عن العلامة يوسف بن يونس المقري أنه كان يقول ظهر القات في زمن فقهاء ولا يجسرون على تحريم ولا تحليل ولو ظهر في زمن الفقهاء المتقدمين لحرموه ودخل عراقي اليمن وكان يسمى الفقيه إبراهيم وكان يجهر بتحريم القات وينكر على آكليه وذكر أنه إنما حرمه على ما وصف له من أحوال مستعمليه ثم أنه أكله مرة أو مرارا لاختباره قال فجزمت بتحريمه لضرره وإسكاره وكان يقول ما يخرج عقب البول بسببه مني ثم اجتمعت به فقلت له نسمع عنك أنك تحرم القات قال نعم فقلت له وما الدليل فقال ضرره وإسكاره فضرره ظاهر وأما إسكاره فهل هو مطرب فقلت نعم فقد قالت الشافعية وغيرهم في الرد على الحنفية في إباحتهم ما لم يسكر من النبيذ النبيذ حرام قياسا على الخمر بجامع الشدة المطربة فقلت له يروون عنك أنك تقول ما يخرج عنه مني وليس فيه شيء من خواص المني فقال إنه يخرج قبل استحكامه وكان عمي أحمد بن إبراهيم المقري وكان له معرفة بالطب وغيره يصرح بتحريمه ويقول إنه مسكر وقد رأيت من أكثر من أكله فجن هذا كله ملخص كلام الحرازي وهذا الرجل العراقي الذي أشار إليه ونقل عنه حرمة القات أخبرني بعض طلبة العلم أنه جاء إلى مكة المشرفة ودرس بها كثيرا وأنه قرأ عليه وزاد في مدحه والثناء عليه ويوافق هؤلاء القائلين بحرمة القات قول الفقيه العلامة حمزة الناشري ممن يعتمد عليه نقلا وإفتاء كما يدل عليه ترجمته المذكورة في تاريخ خاتمة الحفاظ والمحدثين الشمس السخاوي في منظومته المشهورة وقد أخبرني محدث مكة شرفها الله تعالى أنه قرأها على مؤلفها حمزة المذكور وأجازه بها:

ولا تأكلن القات رطبا ويابسا                      فذاك مضر داؤه فيه أعضلا

 

ج / 4 ص -199-                            فقد قال أعلام من العلماء      إن هذا حرام للتضرر مأكلا

وهذا الفقيه إلخ ومنها أنه نهى عن كل مسكر ومفتر قال في النهاية ما معناه إن المفتر ما يكون منه حرارة في الجسد وانكسار وذلك معلوم ومشاهد في القات ومستعمليه كسائر المسكرات وإن كان يحصل منها توهم نشاط، أو تحققه فإن ذلك مما فضل من الانتشاء والسكر الحاصل من التخدير للجسد وكذلك يحصل من الإكثار والإدمان على المسكر حتى الخمر خدر يخرج إلى الرعشة والفالج ويبس الدماغ ودوام التغير للعقل وغير ذلك من المضار لكن القات لم يكن فيه من الطبع إلا ما هو مضرة دينية ودنيوية؛ لأن طبعه اليبس والبرد فلا يصحبه شيء من منافع غيره ومن المسكرات التي أشار إليها الشارع؛ لأن سائر المسكرات فيها شيء من الحرارة واللين فلا يظهر الضرر فيها إلا مع الإدمان عليها وهذا محصل من الضرر في الأغلب ما في الأفيون من مسخ الخلقة وتغير الحال المعتدلة في الخلق والخلق وهو يزيد في الضرر على الأفيون من حيث إنه لا نفع فيه يعلم قط وإن ضرره أكثر وفيه كثرة يبس الدماغ والخروج عن الطبع وتقليل شهوة الغذاء والباه ويبس الأمعاء والمعدة وبردها وغير ذلك ومنها أن جميع الخصال المذمومة التي ذكروها في الحشيشة موجودة في القات مع زيادة حصول الضرر فيما به قوام الصحة وصلاح الجسد من إفساد شهوة الغذاء والباه والنسل وزيادة التهالك عليه الموجب لإتلاف المال الكثير والموجب للسرف ومنها أنه ظن أن فيه نفعا فهو لا يقابل ضرره ومنها أنه شارك كل المسكرات في حقيقة الإسكار وسببه ومن التخدير وإظهار الدم وترقيقه طاهر البشرة مع نبذ الدسوسة من الدماغ والجسد إلى الظاهر وليس فيه حرارة ولين يبدلان ما نبذه من الحرارة واللين إلى ظاهر الجسد بخلاف نحو الخمر والحشيش فلهذا كثر ضرره هذا حاصل تلك الكتب المصنفة التي وردت علينا في القات وقد علمت ما اشتملت عليه حججهم من التناقض في الأخبار عن أحوال آكليه وسببه تناقض أخبار مستعمليه كما قدمته أول الكتاب ولما مر عن الطنبداوي أنه استعمله ووجد فيه غاية الضرر وإنما لم أعول على ما مر عن المزجد أنه استعمله لأن في كلامه السابق ما يدل على أنه لم يستعمله فإنه قال ما أظنه يغير العقل فتعبيره بما أظنه قاض بأنه لم يستعمله إذ لو استعمله لم يعبر بذلك بل كان يجزم بأنه لا يغير العقل؛ لأن الأمور الوجدانية من حيز الضروريات وإذا وقع هذا التناقض فيه فلا يمكن الجزم فيه بتحليل ولا تحريم على الإطلاق وإنما المخلص في ذلك الجاري على القواعد أنه يختلف باختلاف الطباع؛ لأنه لا يمكن الجمع بين تلك الأخبار المتناقضة مع عدالة قائلها إلا بذلك فيتعين المصير إليه كما مر وإذا كان يختلف باختلافها فمن علم من طبعه أنه يضره حرم عليه أكل المضر منه ومن علم أنه لا يضره لم يحرم عليه فإن قلت يعكر على ذلك القاعدة الأصولية أن المثبت مقدم على النافي فإن هذه القاعدة مصرحة بتحريمه لأنه تعارض فيه خبران أحدهما مثبت للضرر والآخر ناف له والمثبت مقدم

ج / 4 ص -200-        لأن مع المثبت زيادة علم فكذلك القاعدة الفقهية فإن الأصل عدم الضرر فالمخبر بالعدم مستند للأصل والمخبر بوجوده مخرج له عن الأصل مقدم على البينة المستصحبة له وأيضا فقد اتفق القائلون بالحل والحرمة على أن فيه نشاطا وروحنة كما مر عن المزجد ونشأة كما مر عن الطنبداوي وطيب وقت كما مر عنهما ثم اختلفوا هل هذا النشاط الذي فيه يؤدي إلى ضرر والقائلون بالحرمة قالوا يؤدي إليه وما قالوه أقرب بالنسبة للواقع فإن من شأن النشاط والنشأة الذاتيين لمطعوم ومشروب دون العارضين له بواسطة إلف، أو نحوه أنهما يؤديان إلى الضرر حالا، أو مآلا فالإخبار بأنه يؤدي للضرر معه قرينة أي قرينة فإنه إذا وقع الاتفاق على أن فيه نشأة ونشاطا احتاج من سلب الضرر عنه إلى حجة تشهد له بذلك ولا حجة له إلا ما احتج به من مشاهدة آكليه وقد تقرر أن هذا لا حجة فيه لأنه عارضه أخبار غيرهم بخلاف ذلك فإن احتج أنه استعمله قلنا عارضك أيضا من استعمله وأخبر بأنه يحصل عنه التخدير وغيره من الضرر فثبت بما تقرر أن فيه نشاطا ونشأة وإن الأصل فيهما بقيدهما السابق تولد الضرر عنهما مع ما مر من تقديم المثبت على النافي فهذا كله يؤيد التحريم وموضح لأدلة من قال به فلم لم تقل به وما الذي أوجب لك العدول عنه مع ظهور أدلته هذه التي قررتها وموافقتها للقواعد الأصولية والفقهية كما تقرر قلت محل القاعدتين السابقتين من تقديم المثبت والمخالف للأصل ما إذا وقع التعارض من غير أن يمكن الجمع بين المتعارضين فحينئذ يقدم المثبت والمخالف للأصل لقوتهما على مقابلهما وأما مع إمكان الجمع بحمل كل من المتعارضين على حاله فلا تقديم؛ لأن تقديم أحدهما يستدعي بطلان الآخر والجمع يستدعي العمل بكل من الدليلين ولا شك أن العمل بالدليلين أولى من إلغاء أحدهما لأن الإلغاء كالنسخ وهو لا يعدل إليه متى أمكن غيره فهذا هو الذي أوجب العدول إلى الجمع بين تلك الأخبار وعدم إلغاء بعضها لتوفر عدالتهم وعدم ظهور تهمتهم وأما النشاط والنشأة فلم يثبت عندي أنهما وصفان ذاتيان لهذا النبات بل يحتمل أنهما عارضان له بواسطة إلف أو نحوه فلم يسعني مع ذلك الجزم بالتحريم فإن قال المحرمون ثبت عندنا أنهما وصفان ذاتيان له قلنا إذا استندتم في ذلك للأخبار فقد مر تناقضها والجمع بينها مع فرض صدقها فلا يصح مع ذلك الاستناد إلى بعضها دون بعض وإن قالوا استندنا إلى التجربة الموجبة للعلم الضروري قلنا لكم ذلك إن وجدت شروط التجربة التي قالها الأطباء من تكرر ذلك تكررا كثيرا بحيث يؤدي عادة إلى القطع بإفادته العلم مع عدالة المجرب واعتدال المزاج والزمن والمكان ويبعد وجود ذلك وتوفره كله في قطر اليمن مثلا؛ لأنه غير معتدل. والحاصل إني وإن لم أجزم بتحريمه على الإطلاق لما علمت مما قررته ووضحته وبينته وبرهنت عليه بالأدلة العقلية والنقلية لكني أرى أنه لا ينبغي لذي مروءة أو دين، أو ورع، أو زهد، أو تطلع إلى كمال من الكمالات أن يستعمله؛ لأنه من الشبهات لاحتماله الحل والحرمة على السواء، أو مع قرينة، أو قرائن تدل لأحدهما وما كان

 

 

ج / 4 ص -201-        كذلك فهو مشتبه أي اشتباه فيكون من الشبهات التي يتأكد اجتنابها بقوله صلى الله عليه وسلم: "ومن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه" وبقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يبلغ العبد درجة اليقين حتى يدع ما لا بأس به مخافة ما به بأس"، رواه ابن ماجه وبقوله صلى الله عليه وسلم: "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك"، رواه النسائي والترمذي والحاكم وصححاه من حديث الحسن بن علي رضي الله تعالى عنهما وبقوله صلى الله عليه وسلم لعدي بن حاتم: "لا تأكله فلعله قتله غير كلبك"، متفق عليه وقال له أيضا في كلبه المعلم: "وإن أكل فلا تأكل فإني أخاف أن يكون إنما أمسك على نفسه" متفق عليه أيضا وروى أحمد من رواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده بإسناد حسن أنه صلى الله عليه وسلم أرق ليلة فقال له بعض نسائه أرقت يا رسول الله فقال: "أجل وجدت تمرة فأكلتها فخشيت أن تكون من الصدقة" وروى الشيخان أنه صلى الله عليه وسلم: "كان إذا أتى بشيء اشتبه عليه أنه صدقة، أو هبة سأل عنه"، وروى الترمذي وحسنه وابن ماجه والحاكم وصحح إسناده من حديث عطية السعدي أنه صلى الله عليه وسلم قال: "لا يكون الرجل من المتقين حتى يدع ما لا بأس به"، الحديث وإذا تقررت لك هذه الأحاديث وعلمت أن غاية أمر هذه الشجرة أنها من المشتبهات تعين عليك إن كنت من الثقات والمتقين أن تجتنبها كلها وأن تكف عنه فإنه لا يتعاطى المشتبهات إلا من لم يتحقق بحقيقة التقوى ولا تمسك من الكمالات بالنصيب الأقوى وزعم أنها تعين على الطاعة إن فرض صدقه غير دافع للوقوع في ورطة الإثم على تقدير صدق المخبرين بوجود الضرر والتخدير فيها فلذلك لا أوافق من قال إنها قد تكون وسيلة لطاعة فتكون مستحبة لأن محل إعطاء الوسائل حكم المقاصد إنما هو في وسائل تمحضت لذلك بأن لم تكن وسائل لشيء آخر وخلت عن أن يقوم بها وصف يقتضي تأكد تجنبها وأكل هذه ليس كذلك؛ لأنه قام بها ما يقتضي التجنب مما أوضحناه وقررناه فالصواب ترك أكلها دائما ولا حاجة بالموفق إلى أن يستعين على طاعته بما قال جماعة من العلماء بحرمته كما نقله عنهم حمزة الناشري وغيره كيف ودرء المفاسد أولى من جلب المصالح كما أطبق عليه أئمتنا رحمهم الله تعالى ولم تنحصر الإعانة على الطاعة في هذه الشجرة بل لها طرق أيسرها وأولاها ما أجمعت الأمة على مدحه والمبالغة في الثناء عليه وهو تقليل الغذاء بحسب الإمكان كما في خبر حسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه وقد نقل إمام العارفين والفقهاء أبو زكريا يحيى النووي قدس الله تبارك وتعالى روحه إنه لما رأى الأقسماء وهي ماء الزبيب تباع في الشام سأل ما حكمة اصطناع الناس هذه فقيل له إنها تهضم الأكل فقال ولم يشبع الناس حتى يحتاجوا إلى هضم فانظر إلى ما أشار إليه من هذه الحكمة اللطيفة على أن في دعوى إنها تعين على الطاعة نظرا لأن إعانتها إن كانت لكونها تهضم فهو مخالف لما اتفقوا عليه من أنها كثيفة باردة يابسة تصفر اللون وتقلل شهوة الطعام والجماع وإن كانت لغير ذلك فهو لأن فيها مفسدة وهذا يساعد من يقول أن فيها ضررا فدعوى استحبابها مع ذلك فيها نظر أي نظر ألا ترى إلى ما في البخاري وغيره أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال:

 

ج / 4 ص -202-        يا رسول الله إني تزوجت امرأة وإن فلانة قالت إنها أرضعتني أنا وإياها فأمره صلى الله عليه وسلم بفراقها وقال: "كيف وقد قيل" وفيه وفي غيره أيضا أنه لما تنازع سعد بن أبي وقاص وعبد الله بن زمعة رضي الله تبارك وتعالى عنهما في ابن وليدة زمعة ألحقه النبي صلى الله عليه وسلم بزمعة لأنه ولد على فراشه ثم لما رأى صلى الله عليه وسلم ما به من الشبه البين لعتبة قال لزوجته أم المؤمنين سودة بنت زمعة: "احتجبي منه يا سودة"، فانظر إلى أمره صلى الله عليه وسلم بالفراق في الصورة الأولى وبالاحتجاب في الصورة الثانية ورعا وخشية من الوقوع في المحرم على تقدير يمكن وقوعه وإن ألغاه الشرع ولم يعتد به تجده صريحا فيما قلناه من أنه يتعين اجتناب هذه الشجرة من باب أولى لأن ما يحتمل الحرمة فيها أولى مما يحتمل الحرمة في تينك لأن ما يحتملها فيهما ملغى شرعا وما يحتملها في مسألتنا غير ملغى شرعا وانظر أيضا إلى أنه صلى الله عليه وسلم لم يفصل في ذلك بين أن يكون البقاء في الأولى وعدم الاحتجاب في الثانية وسيلة لطاعة كعفة الزوج بها مع عدم قدرته على غيرها وكجبر خاطر الولد المتنازع فيه وعدم تأذيه بالاحتجاب عنه وإن لا ومثل هذا له حكم العام لأنها واقعة قولية وقد قال الشافعي رضي الله تعالى عنه وقائع الأحوال إذا تطرق إليها الاحتمال نزلها منزلة العموم في المقال ولا يعارضه قاعدته الأخرى إنه إذا تطرق إليها الاحتمال كساها ثوب الإجمال وسقط بها الاستدلال لأن هذه في الوقائع الفعلية وتلك في الوقائع القولية كما قرر في محله فعلم من ذلك أنه حيث كان الورع في ترك شيء كان الأولى والمتأكد تركه مطلقا سواء أكان وسيلة لطاعة أم لا واعلم أنه لم يمنعنا أن نلحقها بالحشيشة ونحوها مما يأتي إلا أن العلماء من منذ قرون لما حدثت الحشيشة في زمانهم بالغوا في اختبار أحوال آكليها حتى اتفقت أقوالهم على أنها مسكرة، أو مخدرة وكان في تلك الأزمنة العارفون بعلم الطب والنباتات فحكموا فيها بما اقتضته القواعد الطبية والتجريبية فلذا ساغ لهم الجزم فيها بالتحريم وأما نحن فلم نتحصل على شيء من ذلك لتباين الأقوال واختلافها في هذه الشجرة فمستعملوها يختلفون في الأخبار عن حقيقتها وهذا هو منشأ الخلاف بين الفقهاء فيها مع أن الفقهاء في الحقيقة لا خلاف بينهم لأنه إن ثبت أن فيها تخديرا، أو إسكارا فهي محرمة إجماعا وإنما الخلاف بينهم في الواقع فالقائلون بالحل اعتمدوا المخبرين بأنه لا ضرر فيها بوجه والقائلون بالحرمة اعتمدوا المخبرين بأن فيها ضررا وأنت إذا راعيت القواعد لم يجز لك أن تعتمد أحد الطرفين وتعرض عن الآخر إلا إذا ثبت عندك مرجح آخر من نحو وجوه التجربة وشروطها السابقة أو عدد التواتر في أحد الجانبين دون الآخر ولم نظفر بذلك فلذا وجب علينا التوقف في حقيقة هذه الشجرة وأن نقول متى أن ثبت أن فيها وصفا من أوصاف جوزة الطيب، أو الحشيشة المعروفة حرمت وإلا فلا وهذا يستدعي ذكر أوصافهما لتقاس بهما تلك الشجرة فأقول أما جوزة الطيب فقد استفتيت عنها قديما وقد كان وقع فيها نزاع بين أهل الحرمين وظفرت فيها بما لم يظفروا به فإن جمعا من مشايخنا وغيرهم اختلفوا فيها وكل لم يبد ما قاله فيها إلا

 

ج / 4 ص -203-        على جهة البحث لا النقل ولما عرض علي السؤال أجبت فيها بالنقل وأيدته وتعرضت فيه للرد على بعض الأكابر فتأمل ذلك فإنه مهم وصورة السؤال هل قال أحد من الأئمة، أو مقلديهم بتحريم أكل جوزة الطيب، أو لا وهل يجوز لبعض طلبة العلم الأخذ بتحريم أكلها وإن لم يطلع في التحريم على نقل لأحد من العلماء المعتبرين فإن قلتم نعم فهل يجب الانقياد والامتثال لفتياه أم لا فأجبت بقولي الذي صرح به الإمام المجتهد شيخ الإسلام ابن دقيق العيد إنها مسكرة ونقله عنه المتأخرون من الشافعية والمالكية واعتمدوه وناهيك بذلك بل بالغ ابن العماد فجعل الحشيشة مقيسة على الجوزة المذكورة وذلك أنه لما حكى عن القرافي نقلا عن بعض فقهاء عصره أنه فرق في إنكاره الحشيشة بين كونها ورقا أخضر فلا إسكار فيها بخلافها بعد التحميص فإنها تسكر قال والصواب إنه لا فرق؛ لأنها ملحقة بجوزة الطيب والزعفران والعنبر والأفيون والشيكران بفتح الشين المعجمة وهو البنج وهو من المخدرات المسكرات ذكر ذلك ابن القسطلاني في تكريم المعيشة اهـ. فتأمل تعبيره والصواب جعله الحشيشة التي أجمع العلماء على تحريمها لإسكارها وتخديرها مقيسة على الجوزة تعلم أنه لا مرية في تحريم الجوزة لإسكارها أو تخديرها وقد وافق المالكية والشافعية على إسكارها الحنابلة بنص إمام متأخريهم ابن تيمية وتبعوه على أنها مسكرة وهو قضية كلام بعض أئمة الحنفية ففي فتاوى المرغيناني منهم المسكر من البنج ولبن الرماك أي أناثي الخيل حرام ولا يحد شاربه قال الفقيه أبو حفص ونص عليه شمس الأئمة السرخسي اهـ. وقد علمت من كلام ابن دقيق العيد وغيره أن الجوزة كالبنج فإذا قال الحنفية بإسكاره لزمهم القول بإسكار الجوزة فثبت بما تقرر أنها حرام عند الأئمة الأربعة الشافعية والمالكية والحنابلة بالنص والحنفية بالاقتضاء أنها إما مسكرة أو مخدرة وأصل ذلك في الحشيشة المقيسة على الجوزة على ما مر والذي ذكره الشيخ أبو إسحاق في كتابه التذكرة والنووي في شرح المهذب وابن دقيق العيد إنها مسكرة قال الزركشي ولا نعرف فيه خلافا عندنا وقد يدخل في حدهم السكران بأنه الذي اختلط كلامه المنظوم وانكشف سره المكتوم، أو الذي لا يعرف السماء من الأرض ولا الطول من العرض ثم نقل عن العراقي أنه خالف في ذلك فنفى عنها الإسكار وأثبت لها الإفساد ثم رده عليه وأطال في تخطئته وتغليظه وممن نص على إسكارها أيضا العلماء بالنبات من الأطباء وإليهم المرجع في ذلك وكذلك ابن تيمية وتبعه من جاء بعده من متأخري مذهبه والحق في ذلك خلاف الإطلاقين الإسكار إطلاق وإطلاق الإفساد وذلك أن الإسكار يطلق ويراد به مطلق تغطية العقل وهذا إطلاق أعم ويطلق ويراد به تغطية العقل مع نشأة وطرب وهذا إطلاق أخص وهو المراد من الإسكار حيث أطلق فعلى الإطلاق الأول بين المسكر والمخدر عموم مطلق إذ كل مخدر مسكر وليس كل مسكر مخدرا فإطلاق الإسكار على الحشيشة والجوزة ونحوهما المراد منه التخدير ومن نفاه عن ذلك أراد به معناه الأخص وتحقيقه أن

 

ج / 4 ص -204-        من شأن السكر بنحو الخمر أنه يتولد عنه النشأة والطرب والعربدة والغضب والحمية ومن شأن السكر بنحو الحشيشة والجوزة أنه يتولد عنه أضداد ذلك من تخدير البدن وفتوره ومن طول السكوت والنوم وعدم الحمية وبقولي من شأن فيهما يعلم رد ما أورده الزركشي على القرافي من أن بعض شربة الخمر يوجد فيه ما ذكر في نحو الحشيشة وبعض أكلة نحو الحشيشة يوجد فيه ما ذكر من الخمر ووجه الرد أن ما نيط بالمظنة لا يؤثر فيه خروج بعض الأفراد كما أن القصر في السفر لما نيط بمظنة المشقة جاز وإن لم توجد المشقة في كثير من جزئياته فاتضح بذلك أنه لا خلاف بين من عبر في نحو الحشيشة بالإسكار ومن عبر بالتخدير والإفساد والمراد به إفساد خاص هو ما سبق فاندفع به قول الزركشي أن التعبير به يشمل الجنون والإغماء لأنهما مفسدان للعقل أيضا فظهر بما تقرر صحة قول الفقيه المذكور في السؤال إنها مخدرة وبطلان قول من نازعه في ذلك لكن إن كان لجهله عذر وبعد أن يطلع على ما ذكرناه عن العلماء متى زعم حلها، أو عدم تخديرها وإسكارها يعزر التعزير البليغ الزاجر له ولأمثاله بل قال ابن تيمية وأقره أهل مذهبه من زعم حل الحشيشة كفر فليحذر الإنسان من الوقوع في هذه الورطة عند أئمة هذا المذهب المعظم وعجيب ممن خاطر باستعمال الجوزة مع علمه بما ذكرناه فيها من المفاسد والإثم لأغراضه الفاسدة على تلك الأغراض التي يحصل جميعها بغيرها فقد صرح رئيس الأطباء ابن سينا في قانونه بأنه يقوم مقامها وزنها ونصف وزنها من السنبل فمن كان يستعمل منها قدرا ما ثم استعمل وزنه ونصف وزنه من السنبل حصلت له جميع أغراضه مع السلامة عن الإثم والتعرض لعقاب الله سبحانه وتعالى على أن فيها بعض مضار بالرئة ذكرها بعض الأطباء وقد خلى السنبل عن تلك المضار وقد حصل به مقصودها وزاد عليها بالسلامة من مضارها الدنيوية والأخروية والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب اهـ. جوابي في الجوزة وهو مشتمل على نفائس تتعلق بهذا الكتاب بل هو ظاهر في حرمة القات لأن الناس مختلفون في تأثير الجوزة أيضا فبعض آكليها يثبت لها تخديرا وبعضهم لا يثبت لها ذلك فإذا حرمها الأئمة مع اختلاف آكليها في تأثيرها فليحرموا القات ولا نظر للاختلاف في تأثيرها لكن الفرق بينهما أن الجوزة نظر فيها وحرمها من يعتد بنظرهم وبتجربتهم حتى علموا أن التخدير وصف ذاتي لها فلهذا حكموا بأنها مخدرة لذاتها وأعرضوا عمن لم ير منها تخديرا ولو تم ذلك في القات لألحقناه بها لكنه لم يتم كما قدمته ثم هذا الجواب مشتمل على بيان حكم الحشيشة وعلى تنقيح الخلاف في أنها مسكرة، أو مخدرة ومع ذلك فلا بأس بإعادته مع كلام الناس فيها على حدته لتتم فائدته وتعم عائدته فنقول ذكر الحكيم الترمذي في كتاب العلل أن الشيطان حين خرج من السفينة سرق معه شجرة الكرم فزرعها ثم ذبح خنزيرا فسقاها بدمه ثم ذبح كلبا فسقاها بدمه ثم ذبح قردا فسقاها بدمه فحصلت لها النجاسة من دم الخنزير وحصل لشاريها العربدة من دم القرد والحمية والغضب من دم الكلب فمن ثم ترى

 

ج / 4 ص -205-        السكران تأخذه الحمية ويغضب بخلاف السكران بالبنج والحشيش والشيكران وجوزة الطيب والأفيون فإن هذه الأشياء مسكرة ولا يحصل للبدن معها نشاط ولا عربدة بل يعتبر به تخدير وفتور فكل مخدر مسكر من غير عكس فالخمر مسكرة وليست مخدرة والبنج ونحوه مسكر ومخدر وممن نص على أن الحشيشة ونحوها مسكر النووي في شرح المهذب والشيخ أبو إسحاق في كتابه التذكرة في الخلاف والشيخ تقي الدين بن دقيق العيد وبينت في شرح الإرشاد أنه لا خلاف بينهم وبين من قال بأنها مخدرة لأن المراد بالإسكار في كلامهم مجرد التغطية مع قطع النظر عن قيده المتبادر منه وهو التغطية مع نشاط وعربدة وعلى هذا يحمل أيضا قول ابن البيطار أن الحشيش يسكر جدا وهو حجة في ذلك فإنه كان علامة زمنه في معرفة الأعشاب والنبات يرجع إليه في ذلك محققو الأطباء وقد امتحنه بعض معاصريه عند السلطان فجاء إلى السلطان بنبات وقال له إذا طلع إليك فأعطه هذا يشمه من هذا المحل فتبين لك معرفته، أو جهله فلما طلع إليه أعطاه له وأمره بأن يشمه من الموضع الذي عين له فشمه منه فرعف لوقته رعافا شديدا فقلبه وشمه من الجانب الآخر فسكن رعافه لوقته ثم قال للسلطان مر من أعطاه لك يشمه من الموضع الأول فإن عرف أن فيه الفائدة الأخرى فهو طبيب وإلا فهو متشبع بما لم يعط فلما طلع للسلطان أمره بشمه من ذلك الموضع فرعف فقال له اقطعه فحار وكادت نفسه تفتلت فأمره أن يقلبه ويشمه ففعل فانقطع رعافه فمن ثم زادت مكانة ابن البيطار عند السلطان وانقطعت أعداؤه وحساده وغلط صاحب المفتاح في شرحه للحاوي الصغير في أمرين أحدهما قوله: أن الحشيشة نجسة إن ثبت أنها مسكرة مع أنها مسكرة بالاتفاق على ما مر فإن السكر معناه تغطية العقل ومنه قوله تبارك وتعالى: {إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا} [الحجرات: 15]، قال ابن العماد وكأنه توهم أن المخدر لا يكون مسكرا وهو خطأ وهذا الخطأ حصل أيضا للقرافي في القواعد الثاني أنه ادعى أنها نجسة على القول بأنها مسكرة وهذا شيء لا تحل حكايته عن مذهب الشافعي رضي الله تعالى عنه وقد حكى الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد في شرحه لفروع ابن الحاجب الإجماع على أنها ليست نجسة.
وكذلك نقل الإجماع القرافي في القواعد في نظير الحشيش فقال تنفرد المسكرات عن المرقدات والمفسدات بثلاثة أحكام الحد والتنحيس وتحريم القليل فالمرقدات والمفسدات لا حد فيها ولا نجاسة فمن صلى بالبنج والأفيون لم تبطل صلاته إجماعا ويجوز تناول اليسير منها فمن تناول حبة من الأفيون، أو البنج جاز ما لم يكن ذلك قدرا يصل إلى التأثير في العقل والحواس أما دون ذلك فجائز فهذه ثلاثة أحكام وقع بها بين المسكرات والآخرين اهـ. وفي كتاب السياسة لابن تيمية أن الحد واجب في الحشيشة قال لكن لما كانت جامدة وليست شرابا تنازع الفقهاء في نجاستها على ثلاثة أقوال في مذهب أحمد وغيره فقيل نجسة وهو صحيح اهـ. وما ذكره القرافي من حل تناول يسيرها نقله في شرح المهذب عن المتولي في جواز تناول

 

ج / 4 ص -206-        اليسير من الحشيش وهو مأخوذ من قول التنبيه وغيره وكل طاهر لا ضرر في أكله يجوز أكله ويؤيده قول الشيخين عن الإمام وإقراره يجوز أكل السم لمن لا يضره ويجوز بل يجب أكلها عند الإضرار إذا لم يجد غيرها وفارقت الخمر بأن شربها يزيد في العطش وأكل الحشيشة لا يزيد في الجوع وإنما غاية ما فيها إنها تغطي العقل وتغطيته جائزة لدواء، أو نحو قطع عضو متآكل قال الزركشي ويحرم إطعامها للحيوان لأجل إسكاره وبيعها جائز قطعا لأنها قد تنفع لبعض الأمراض كما يأتي ومحله كما هو ظاهر فيما يتعين للتداوي به وفيما يجوز تناوله من اليسير الذي لا يضر وما عدا هذين في صحة بيعه نظر وقضية قول ابن النقيب لا ضمان على متلفها كالخمر عدم صحة بيع ذلك وهو محتمل وقد نقل الإمام أبو بكر بن القطب القسطلاني عن بعض أئمة أهل الشام فيها إنها حارة في الدرجة الثانية يابسة في الأولى تصدع الرأس وتظلم البصر وتعقد البطن وتجفف المني وذكر فيها منافع من نحو طرد الرياح وتحليل النفخ وتنقية الأبرئة من الرأس عند غسله بها والأبرئة مرض يحدث بسطح الرأس وهو قشور بيض والعلة في فعلها لذلك ما اشتملت عليه من الحرارة واليبس فإذا ترجع إلى كونها دواء من جملة الأدوية وتستعمل حيث تستعمل الأدوية عند الاحتياج إليها من الأمراض بمقدار ما يدفع الضرر قال ولا يستعملها الأصحاء بحيث ينشأ عن أكلها السبات والخدر والإساءة والهدر فإن ما كان بهذه المثابة يتعين اجتنابه لما يشتمل عليه من المضار التي هي مبادئ مداعي الهلاك وربما نشأ من تجفيف المني وصداع الرأس وغيرهما مفاسد ومضار تفتقر إلى علاج قال: وقد ذكرها أبو محمد عبد الله بن أحمد المالقي العشاب المعروف بابن البيطار في كتابه الجامع لقوي الأدوية والأغذية فقال ومن القنب الهندي نوع ثالث يقال له القنب ولم أره بغير مصر ويزرع في البساتين ويسمى بالحشيشة أيضا وهو مسكر جدا إذا تناول منه الإنسان يسيرا قدر درهم أو درهمين حتى أن من أكل منه أخرجه إلى حد الرعونة وقد استعمله قوم فاختطفت عقولهم وأدى بهم الحال إلى الجنون وربما قتلت ومما ينفع في مداواتها القيء بسمن وماء سخن حتى تنقى المعدة وشراب الحماض له غاية في النفع قال وهي كما زعم من تعاطاها مدة ثم انقشع عن عينه سحاب العمى عن الهدى خبيثة الطعم كريهة الرائحة ولأجل هذا يتخيل بعض من يتعاطاها على تطييبها بما يسوغ تناولها من السمسم المقشور أو السكر وما كان بهذه الصفة فإن الطبيعة تكرهه لا محالة كما تكره الأدوية وإن كانت تؤمل في تناولها حصول الأشفية وأيضا فالمأكول منحصر في الغذاء والدواء وليست بغذاء لأنها لا تلائم الجسد فهي دواء والدواء إنما يستعمل حيث تدعو الضرورة إليه فلا يستعمله الصحيح لاستغنائه عنه؛ لأنها غير ملائمة للطباع بل منافرة لما عليه المزاج من الأوضاع قال وقد نقل لنا أن البهائم لا تتناولها فما قدر مأكول تنفر البهائم عن تناوله وهي مما يحيل الأبدان ويحلل قواها ويحرق دماءها ويجفف رطوبتها ويصفر الألوان وذكر محمد بن زكريا إمام وقته في الطب أنها تولد

 

ج / 4 ص -207-        أفكارا كثيرة وإنها تجفف المني وتجفيفه إنما يكون من قلة الرطوبة في الأعضاء الرئيسة ومما أنشد فيها:

قل لمن يأكل الحشيشة جهلا                     يا خسيسا قد عشت شر معيشة

دية العقل بدرة فلما ذا                               يا سفيها قد بعتها بحشيشة

قال وقد بلغنا من جمع يفوق حد الحصر إن كثيرا ممن عاناها مات بها فجأة وآخرين اختلت عقولهم وابتلوا بأمراض متعددة من الدق والسل والاستسقاء وإنها تستر العقل وتغمره ومما أنشد فيها أيضا:

يا من غدا أكل الحشيش شعاره                        وعدا فلاح عواره وخماره

أعرضت عن سنن الهدى بزخارف                        لما اعترضت لما أشيع ضراره

العقل ينهى أن يميل إلى الهوى                        والشرع يأمر أن تعدد داره

فمن ارتدى برداء شهوة زهرة                             فيها بدا للناظرين عثاره

ولبعض الفسقة أبيات كثيرة في مدحها حذفتها لما اشتملت عليه من السفه والإطراء والحث عليها وقد أنشد بعضهم في الرد عليه فقال:

لا تصغين لمادح شرب الحشيـ                     ـش فإنه في القول غير مسدد

وانهض بعزمة ماجد في رده                         في قصده بالسوط جنبا واليد

السكر شر كيف كان فلا تمل                       في مدحه لمن اعتدى لم يهتد

من كان ينكر منكرا فليلتزم                         أن لا يحيد عن السبيل الأرشد

ولقد تراه ضاحكا أو باكيا                             أو ناطقا بقبائح لم تشهد 

هيهات أن يأتي بفعل صالح                        من ضل عن سنن الرشاد الأمجد

قد ضل من أفتى بحل شرائها                      فيما عزا للشافعي وأحمد

فيها الإهانة بالنعال وبالعصا                         للراعد المهبول والمتعبد

من كف كف الهم عنه بكفها                        أمسى على كف يروح ويغتدي

من حاكم أو عالم أو ناظر                            أو ناصح في فعله متزهد

من كان يطلب أن يفوز فحقه                       أن لا يجوز عن اهتداء المهتدي

وليطرح قول المبيح لأكلها                           وليقترح يوم السرور إلى غد

والأصل في تحريمها ما رواه أحمد في مسنده وأبو داود في سننه بسند صحيح عن أم سلمة رضي الله تعالى عنها قالت: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كل مسكر ومفتر، قال العلماء المفتر كل ما يورث الفتور والخدر في الأطراف وهذا الحديث فيه دليل على تحريم

 

ج / 4 ص -208-        الحشيش بخصوصه فإنها تسكر وتخدر وتفتر ولذلك يكثر النوم لمتعاطيها وحكى القرافي وابن تيمية الإجماع على تحريمها قال ومن استحلها فقد كفر قال وإنما لم تتكلم فيها الأئمة الأربعة رضي الله تبارك وتعالى عنهم لأنها لم تكن في زمنهم وإنما ظهرت في آخر المائة السادسة وأول المائة السابعة حين ظهرت دولة التتار قال الرافعي رحمه الله تعالى في الأطعمة وفي بحر المذهب أن النبات الذي يسكر وليس فيه شدة يحرم أكله ولا حد على آكله ولا نعرف في ذلك خلافا عندنا وقال في باب الشرب وما يزيل العقل من غير الأشربة كالبنج لا حد في تناوله لأنه لا يلذ ولا يطرب ولا يدعو قليله إلى كثيره اهـ. وقول الماوردي النبات الذي فيه شدة مطربة يجب فيه الحد ضعيف وإنما الواجب فيه التعزير ولا يقاس بالخمر في الحد لأن شرط القياس في الحدود المساواة وهذه الأشياء لا تشبه الخمر في تعاطيها لأنها لا تورث عربدة وغضبا وحمية والشيكران يزيده شدة وعربدة بالسكر بخلاف أكل المخدرات فإنه وإن زال عقله يسكن شره لفتور بدنه وتخديره وكثرة نومه وأيضا الحشيش ونحوها طاهرة والخمر نجسة فناسب تأكيد الزجر عنها بإيجاب الحد وأيضا الخمر يحرم تعاطي قليلها للنجاسة بخلاف الحشيش فإنه لا يحرم أن يتعاطى منها ما لا يسكر فبطل القياس ونقل القرافي عن بعض فقهاء عصره أنها بعد التحميص والغلي نجسة لأنها تغيب العقل حينئذ قال وسألت جماعة ممن يعانيها فمنهم من سلمه ومنهم من قال تؤثر مطلقا اهـ. قال ابن الهمام والصواب أنها تؤثر مطلقا لأنها في ذلك ملحقة بجوز الطيب والزعفران والعنبر والأفيون والشيكران بفتح الشين المعجمة وهو البنج وهو من المسكرات المخدرات ذكر ذلك الشيخ ابن القطب القسطلاني اهـ. قال بعضهم وفي أكل الحشيش مائة وعشرون مضرة دينية ودنيوية منها أنها تورث الفكرة وتجفف الرطوبات وتعرض البدن لحدوث الأمراض وتورث النسيان وتصدع الرأس وتقطع النسل والمني وتجففه وتورث موت الفجأة واختلال العقل وفساده والدق والسل والاستسقاء وفساد الفكر وإفشاء السر وذهاب الحياء وكثرة المراء وعدم المروءة وكشف العورة وعدم الغيرة وإتلاف الكسب ومجالسة إبليس وترك الصلاة والوقوع في المحرمات والجذام والبرص وتوالي الأسقام والرعشة ونتن الفم وسقوط شعر الأجفان واحتراق الدم وصفرة الأسنان والبخر وثقب الكبد وغشاء العين والكسل والفشل وتجعل الأسد كالعجل وتعيد العزيز ذليلا والصحيح عليلا إن أكل لا يشبع وإن أعطى لا يقنع وإن كلم لا يسمع تجعل الفصيح أبكم والصحيح أبلم وتذهب الفطنة وتحدث البطنة وتورث اللعنة والبعد عن الجنة ولنختم هذا الكلام بقاعدتين إحداهما أن كل شراب أسكر كثيره حرم قليله وحد شاربه والثانية كل مسكر مائع نجس.
وأورد عليها الأفيون قبل أن يجمد فإنه مسكر مائع وليس بنجس قطعا ولا يحرم يسيره بقيده السابق وبيع نحو الحشيش لأكلها ولو ظنا حرام كبيع العنب لعاصر الخمر خلافا للشيخ أبي حامد رحمه الله تعالى وقوله لأنه قد يتوب الله سبحانه

 

ج / 4 ص -209-        وتعالى عليه يجاب عنه بأن الأصل بقاؤه على حاله فلا نظر لتوهم وقوع ما يصرفه عن ذلك ولذلك يحرم زرعها لاستعمال ما لا يحرم منها ونص الشافعي رضي الله تبارك وتعالى عنه على وجوب الاستيفاء على من شرب خمرا وإن لم يتعد بشربها وسبب الوجوب قيل مخافة السكر بها وقيل نجاستها ويرد الثاني نص الشافعي رضي الله تبارك وتعالى عنه على أن من أكل حراما طاهرا لزمه استقاءته فدل على أن النجاسة وصف طردي فالمعتمد العلة الأولى وحينئذ فمن أكل من نحو الحشيش القدر المسكر لزمه استقاءته يدل له قول المجموع والتحقيق من أكل حراما طاهرا لزمه استقاءته وكأن علته أن الحرام يورث قسوة القلب وفي الحديث الصحيح: "لحم نبت من حرام النار أولى به"، نسأل الله سبحانه وتعالى بخاصته من خلقه أن يبعدنا عنها وعن أسبابها إنه جواد كريم رءوف رحيم والحمد لله أولا وآخرا باطنا وظاهرا والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه وأزواجه وذريته وأهل بيته الطيبين الطاهرين صلاة وسلاما دائمين بدوام رب العالمين عدد معلوماته ومداد كلماته كما يجب له ويرضى تحيتهم فيها سلام وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما دائما أبدا إلى يوم الدين.

 

ج / 4 ص -210-        باب التعازير وضمان الولاة
"وسئل" رضي الله تعالى عنه أنه لو ضرب أو لطم بنعله مثلا شريف خسيسا أو عكسه ما كيفية تعزيره وإذا رأى القاضي تعزير الفاعل بيد المفعول به المثل فعله به هل يجوز وإذا قلتم لا وكانت الفتنة لا تسكن إلا بذلك ما الحكم؟ "فأجاب" بقوله رضي الله تعالى عنه المرجع في التعزير إلى اجتهاد الإمام فيما يراه زاجرا للفاعل بحسب جراءته وقبح معصيته ثم إن كان التعزير بنحو ضرب لم يجز للحاكم أن يفوضه للمستحق لئلا يزيد في الإيلام وإن كان بنحو وقع عمامة جاز له تفويض ذلك للمستحق إذ لا يخشى منه محذور وهذا التفصيل ظاهر مما ذكروه في الجنايات وإن لم أر من ذكره في التعزير ولو تيقن الحاكم إثارة فتنة إن لم يفوض استيفاء التعذير للمستحق لم يبعد حينئذ جواز تفويضه؛ لأن عدم إثارة الفتنة مقدم على خشية الزيادة في الإيلام، والله سبحانه وتعالى أعلم.
"وسئل" نفع الله سبحانه وتعالى بعلومه قال في العباب فائدة صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه لما لد في مرضه بغير رضاه أمر بلد الحاضرين فاقتضى جواز التعزير بمثل ما تعدى به اهـ..
ما اللدد ومن لده صلى الله عليه وسلم ومن الحاضرون وبم استحق الحاضرون اللد وكم عددهم وهل كان في مرض موته صلى الله عليه وسلم، أو في مرض آخر وهل كان اللدد من الأدوية أم لا؟ "فأجاب" رحمه الله تعالى بقوله اعلم أنه صلى الله عليه وسلم كان من شدة وجعه في مرض موته يغشى عليه ثم يفيق وأغمي عليه مرة فظن الصحابة رضوان الله سبحانه وتعالى عليهم أن وجعه ذات الجنب فلدوه فجعل يشير إليهم أن لا يلدوه فقالوا إنما أشار إلى المنع من اللد لكراهية المريض للدواء أي إنما نهيتنا عن ذلك لأنه دواء ونفس المريض تكرهه فقال: "
لا يبقى أحد في البيت إلا لد وأنا أنظر إلا العباس فإنه لم يشهدكم" رواه البخاري.
واللدد هو ما يجعل في جانب الفم من الدواء فأما ما يصب في الحلق فيقال له الوجور ففي الطبراني من حديث العباس رضي الله تبارك وتعالى عنه إنهم أذابوا قسطا بزيت ولدوه به قيل وإنما كره اللدد مع أنه صلى الله عليه وسلم كان يتداوى لأنه تحقق أنه يموت في مرضه ومن تحقق ذلك كره له التداوي ونظر فيه بأن الظاهر أن ذلك كان قبل أن يخير صلى الله عليه وسلم بين الحياة والموت وعندي في هذا نظر لأنه وقع تخييره قبل هذا كما أشار إليه صلى الله عليه وسلم في حديث البخاري ومسلم وهو أنه صلى الله عليه وسلم جلس على المنبر فقال:
"إن عبدا خيره الله تبارك وتعالى بين أن يؤتيه من زهرة الدنيا ما شاء وبين ما عنده"،

 

ج / 4 ص -211-        وهو يقول – أي أبو بكر - فديناك بآبائنا وأمهاتنا فكان رسول الله هو المخير وكان أبو بكر أعلمنا به الحديث قال الحافظ ابن رجب وهذه الخطبة كانت في ابتداء مرضه صلى الله عليه وسلم الذي مات فيه فإنه خرج كما رواه الدارمي وهو معصوب الرأس بخرقة حتى أهوى إلى المنبر فاستوى عليه فقال: "والذي نفسي بيده إني لأنظر إلى الحوض من مقامي هذا"، ثم قال: "إن عبدا عرضت عليه الدنيا"، إلخ ثم هبط عنه فما رئي عليه حتى الساعة وذكر الواحدي بسند وصله لعبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال أنعى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه قبل موته بشهر  وكأن ذلك المعترض أراد التخيير الأخير فقد صح عن عائشة رضي الله تبارك وتعالى عنها كان صلى الله عليه وسلم يقول: "إنه لم يقبض نبي قط حتى يرى مقعده من الجنة ثم يحيا أو يخير"، فلما اشتكى وحضره القبض ورأسه على فخذي غشي عليه فلما أفاق شخص بصره نحو سقف البيت ثم قال: "اللهم الرفيق الأعلى"، فقلت إذا لا يختارنا فعرفت أنه حديثه الذي كان يحدثنا وفهمها هذا نظير فهم أبيها السابق حين بكى رضي الله تعالى عنهما فعلم أنه خير مرتين وحينئذ فلا يصح التنظير السابق فالأولى رد تلك المقالة بأن سبب إنكار التداوي أنه كان غير ملائم لدائه؛ لأنهم ظنوا أن به ذات الجنب فداووه بما يلائمها ولم يكن فيه ذلك كما هو ظاهر في سياق الخبر ويؤيد ذلك حديث ابن سعد قال كانت تأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الخاصرة فاشتدت به فأغمي عليه فلددناه فلما أفاق قال: "كنتم ترون أن الله يسلط علي ذات الجنب ما كان الله ليجعل لها علي سلطانا والله لا يبقى أحد في البيت إلا لد" ولددنا ولدت ميمونة رضي الله تعالى عنها وهي صائمة، وروى أبو يعلى بسند ضعيف فيه ابن لهيعة من وجه آخر عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنه صلى الله عليه وسلم مات من ذات الجنب وجمع بين هذا والذي قبله بأن ذات الجنب تطلق على شيئين ورم حار يعرض في الغشاء المستبطن وريح يحتقن بين الأضلاع فالأول هو المنفي هنا وقد وقع في رواية الحاكم في المستدرك ذات الجنب من الشيطان والثاني هو الذي أثبت هنا وليس فيه محذور كالأول ومما تقرر علم معنى اللدد وإن الذين لدوه هم أهل بيته ولم نر تعيين عددهم وإن ذلك كان في مرض موته وإنه كان في الأدوية وأما قول السائل بم استحق الحاضرون اللد فيعلم مما يأتي وقول صاحب العباب فاقتضى جواز التعزير بمثل ما تعدى به هو ما سبقه إليه غيره لكن عبارته وفيه مشروعية القصاص فيما يصاب به الإنسان اهـ..
لكنه مردود بأن الجميع لم يتعاطوا لده صلى الله عليه وسلم وإنما الذي تعاطاه بعضهم فكيف يقتص من الجميع؟ ولأجل هذا الاعتراض جعل ذلك من باب التعزير دون القصاص لتركهم امتثال نهيه عما نهاهم عنه ولكن رد بأنهم كانوا متأولين كما أشاروا لذلك بقولهم كراهية المريض للدواء والمتأول المعذور في تأويله لا يعزر فالوجه أنه أراد بذلك تأديبهم لئلا يعودوا فلم يكن فيه اقتصاص ولا انتقام وبه يندفع قول العباب فاقتضى إلخ لما علمت أنهم لم يتعمدوا وإنما خشي صلى الله عليه وسلم أن يبنوا على ظنهم ذلك العود إلى مثل فعلهم الأول وظهر له أنهم لا ينتهون

 

ج / 4 ص -212-        بنهيه لتأويلهم المذكور فلم يرد أفعالهم إلا أن يفعل بهم كفعلهم وهو ليس فيه كبير إيذاء لأن شرب القسط بالزيت نافع للأصحاء دون المرضى بمرض لا يكون ذلك دواء له فهم أذوه لكنهم متأولون وهو صلى الله عليه وسلم لم يؤذهم وإنما قصد بذلك عدم عودهم وأما قول ابن العربي أراد أن لا يأتوا يوم القيامة وعليهم حقه فيقعوا في خطيئة عظيمة فقد علمت رده بأنهم لم يرتكبوا خطيئة فضلا عن كونها عظيمة لأنهم ظنوا الإصلاح وهم معذورون في ذلك الظن ومن ثم لم ينتهوا بنهيه لأنهم أولوه بأنه ناشئ عن كراهية المريض للدواء ثم رأيت بعضهم رد عليه بأنه كان يمكن أن يقع العفو وبأنه كان لا ينتقم لنفسه اهـ..
وفيه تسليم لما قاله فالوجه ما قلته في رده من منع كون ذلك خطيئة فضلا عن كونها عظيمة، والله سبحانه وتعالى أعلم.
"وسئل" رضي الله تبارك وتعالى عنه عما إذا قال شخص لآخر لعن الله والديك فهل يعزر القائل مثلا أو لا لأنه لم ينطق باللعن؟ "فأجاب" نفع الله تعالى بعلومه المسلمين بقوله الظاهر كما أفتى به بعضهم أنه يعزر لأن ذلك اشتهر في ألفاظ العوام بمعنى اللعن ولا يفهمون ولا يقصدون منه إلا ذلك وقد صرح أصحابنا في القذف والعتق وغيرهما أنه لا عبرة بتأنيث المذكر وعكسه لأن المراد من ذلك اللفظ يفهمه كل أحد ولو مع تأنيث المذكر وعكسه فكذا هنا المراد من هذا اللفظ يفهمه كل أحد فليجب التعزير بحسب ما يراه الحاكم لائقا ولا يجوز له تعدي اللائق ومن ثم حكى ابن دقيق العيد أنه لما ولي القضاء الأكبر بمصر منع نوابه من الضرب بالدرة قال؛ لأنه سبب لتعيير الشخص وتعيير ذريته بذلك على الدوام وظاهر أن الكلام فيمن لا يليق به الضرب بها لا في نحو السفلة الذين لا يبالون بها ولا بما هو أقبح منها، والله سبحانه وتعالى أعلم.
"وسئل" رحمه الله تبارك وتعالى بما لفظه كثيرا ما يتخاصم اثنان فيعير أحدهما الآخر بالفقر، أو رعي الغنم مثلا فيقول الآخر الأنبياء كانوا فقراء ويرعون الغنم، أو نحو ذلك مما هو معروف عند العامة مألوف فما حكم ذلك؟ "فأجاب" عفا الله تبارك وتعالى عنه بقوله هذا مما ينبغي أن يفطم عنه الناس غاية الفطم؛ لأنه يؤدي إلى محذورات لا يتدارك خرقها ولا يرتقع فتقها وكيف وكثيرا ما يوهم ذلك العامة إلحاق نقص له صلى الله عليه وسلم ببعض صفاته التي هي من كماله الأعظم وإن كان بعضها بالنسبة إلى غيره صلى الله عليه وسلم نقيصة في ذاته كالأمية، أو باعتبار عرف العوام الطارئ كالفقر ورعي الغنم فتعين الإمساك عن ذلك وتأكد على الولاة والعلماء منع الناس من الإلمام بشيء من تلك المسالك فإنها في الحقيقة من أعظم المهالك وقد بالغ الحافظ الجلال السيوطي شكر الله تبارك وتعالى سعيه فأفتى بوجوب التعزير البليغ على من عير ولده برعي المعزى فقال مستدلا على أن ذلك ليس بنقص الأنبياء رعوا المعزى؛ لأن مقام الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أجل من أن يضرب مثلا لآحاد الناس ولم يبال في هذا الإفتاء باعتراض علماء عصره عليه بأن مقتضى المذهب أي بل صريحه كما صرح به بعض

 

ج / 4 ص -213-        أكابر أصحابنا أنه حيث لم يقصد بذلك محذورا من تنقيص، أو نحوه وإنما قصد مجرد الاستدلال على أن هذه الصفة ليست بنقص لأنه صلى الله عليه وسلم لا يتحلى إلا بما هو الغاية في الكمال لا إثم عليه ولا تعزير وأن الإثم والتعزير في ذلك إنما يوافق قواعد الإمام مالك رحمه الله تعالى وأصوله التي بسط الكلام فيها صاحب الشفاء حيث قال أما ملخصه الوجه الخامس أن لا يقصد نقصا ولا يذكر عيبا ولا سبا ولكنه ينزع بذكر بعض أوصافه أو يستشهد ببعض أحواله عليه الصلاة والسلام الجائزة عليه في الدين على طريق ضرب المثل والحجة لنفسه، أو لغيره أو على التشبه به، أو عند هضمة نالته، أو غضاضة لحقته ليس على طريق التأسي وطريق التحقير بل على قصد الترفيع لنفسه أو لغيره، أو سبيل التمثيل وعدم التوقير لنبيه صلى الله عليه وسلم أو مع قصد الهزل كقول بعضهم إن قيل في سوء، أو كذبت أي بالتشديد، أو أذنبت فقد وقع ذلك للأنبياء عليهم الصلاة والسلام، أو قد صبرت كما صبر أولو العزم وكما وقع في أشعار المتعجرفين في القول المتساهلين في الكلام كالمتنبي والمعري وابن هانئ الأندلسي بل خرج كثير من كلامهم إلى حد الاستخفاف والكفر وقد بينا حكمه وغرضنا الآن بيان ما سقنا أمثلته فإن هذه كلها وإن لم تتضمن سبا ولا أضافت للنبي صلى الله عليه وسلم نقصا ولا قصد قائلها إزراء، أو غضا فما وقر النبوة ولا عظم الرسالة حين شبه من شبه في كرامة نالها، أو معرة قصد الانتفاء عنها أو ضرب مثل لتطييب مجلسه أو إغلاء في وصف لتحسين كلامه ممن عظم الله سبحانه وتعالى خطره وشرف قدره وألزم توقيره وبره ونهى عن جهر القول له ورفع الصوت عنده فحق هذا إن درئ عنه القتل الأدب والسجن وقوة تعزيره بحسب شنعة مقاله ومقتضى قبح ما نطق به ومألوف عادته لمثله، أو قرينة كلامه، أو ندمه على ما سبق منه ولم يزل المتقدمون ينكرون مثل هذا ممن جاء به ثم نقل عن مالك رضي الله تبارك وتعالى عنه أنه قال في رجل عير بالفقر فقال تعيروني بالفقر وقد رعى النبي صلى الله عليه وسلم الغنم أرى أن يؤدب لأنه عرض بذكره صلى الله عليه وسلم في غير موضعه وعن سحنون أنه كره أن يصلى عليه صلى الله عليه وسلم عند التعجب إلا على طريق الاحتساب تعظيما له كما أمرنا الله سبحانه وتعالى وعن الفاسي أنه قال فيمن قيل له اسكت فإنك أمي فقال أليس كان النبي صلى الله عليه وسلم أميا فكفره الناس إطلاق الكفر عليه خطأ لكنه مخطئ في هذا الاستشهاد إذ الأمية فيه صلى الله عليه وسلم آية له وفي هذا القائل نقيصة وجهالة لكنه إذا استغفر وتاب ترك لأن ما طريقه الأدب فطوع فاعله بالندم عليه يوجب الكف عنه وعن بعض مشايخه إنه قال فيمن نقصه غيره فقال إنما يريد نقصي بذلك أنا بشر وجميع البشر يلحقهم النقص، حتى النبي - صلى الله عليه وسلم -، يطال سجنه وأدبه لأنه لم يقصد السب وعن غيره إنه قال يقتل هذا حاصل كلام الشفاء وهو صريح فيما أفتى به الجلال من وجوب تعزير ذلك المستدل في مثل ذلك المقام الذي يخرج اللفظ عن موضوعه إلى إيهام النقص ونحوه نظرا إلى أنه مقام خصام وتبر من نقص نسب إليه هو أو غيره بخلافه في مقام تدريس أو إفتاء، أو تأليف، أو تقرير للعلم بحضرة أهله فإنه لا حرج فيه إذ لا إيهام فيه حينئذ بوجه ولكل مقام

 

ج / 4 ص -214-        مقال ثم قال القاضي ما حاصله أيضا الوجه السابع أن يذكر ما يجوز عليه صلى الله عليه وسلم، أو يختلف في جوازه، أو ما يمكن إضافته إليه من الأمور البشرية، أو ما امتحن به من أعدائه وصبر عليه في ذات الله سبحانه وتعالى، أو ابتداء حاله وما لقيه من بؤس زمنه، أو مر عليه من معاناة عيشه صلى الله عليه وسلم كل ذلك على طريق الرواية وإفادة العلم وهذا ليس فيه نقص ولا غمص ولا إزراء لا في ظاهر اللفظ ولا في مقصد اللافظ لكن يجب عليه أن يكون الكلام فيه مع أهل العلم وفهماء طلبة الدين ويجنب ذلك من عساه لا يفهمه، أو يخشى به فتنة اهـ. ولما اعترض على الجلال بأن ذلك القائل لم يصدر منه ما يقتضي عيرة ولا تعزيرا قال للمعترض إن أردت ما وقع في نحو درس، أو مذاكرة علم فمسلم وليس هذا صورة واقعتنا وإن أردت عين تلك الواقعة التي هي سباب وخصام في سوق بحضرة طعام يطلقون ألسنتهم بما قد يوجب سفك دمائهم فمعاذ الله وحاشا المفتين أن يقولوا ذلك ثم قال من قال التعزير في هذه المسألة خلاف المذهب لأن الأصحاب لم ينصوا عليها أقول له فهل نص الأصحاب على أنه لا تعزير فيها حتى يقدم على القول به وينسب إلى مذهب الشافعي ثم تنزل وأجاب عمن قال له إنما أفتيت في هذه المسألة بمذهب مالك فإن ابن الصلاح سئل عن مسألة لا نص فيها للأصحاب فأجاب فيها بمذهب أبي حنيفة وقرر النووي رحمه الله تعالى في شرح المهذب مسألة لا نقل فيها عندنا وأجاب فيها بمذهب الحسن البصري وقال إنه ليس في قواعدنا ما ينفيه وسئل البلقيني عن مسألة لا نقل فيها فأجاب بما ذكره القاضي عياض في المدارك وذكر في الخادم مسح الخف للمحرم وقال لا نقل في ذلك عندنا وأجاب بالمنقول في مذهب مالك ثم قال نص أئمة المالكية على التعزير في هذه المسألة ولم ينص أصحابنا على خلافه ولا في قواعد مذهبنا ما ينفيه فوجب الوقوف عنده والعمل به ثم قال رعي الغنم لم يكن صفة نقص في الزمن الأول لكن حدث العرف بخلافه ولا يستنكر ذلك فرب حرفة هي نقص في زمان دون زمان وفي بلد دون بلد ويشهد لذلك كلام الفقهاء في الكفاءة في النكاح وفي المروءة في الشهادات ثم قال تعريضا بالمعترضين عليه المماراة في مثل هذا الموضع والتدليس وقصد الانتقام بالضغائن الباطنة لا يضر إلا فاعله ولا يصيب المشنع عليه من ضرره شيء والحق للأنبياء وقد ذكر السبكي أن تارك الصلاة يخاصمه كل صالح لأن لكل صالح فيها حقا حيث فيها السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين وكذلك المدلسون في هذه المسألة يخاصمهم كل الأنبياء يوم القيامة وعدتهم مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا وقد قيل ليحيى بن معين أما تخشى أن يكون هؤلاء الذين تركت حديثهم خصماءك عند الله سبحانه وتعالى فقال لأن يكونوا خصمائي أحب إلي من أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم خصمي يقول لي لم لم تذب الكذب عن حديثي؟ وكذلك أقول لأن يكون كل أهل العصر في هذه المسألة خصمائي أحب إلي من أن يخاصمني نبي واحد فضلا عن جميع الأنبياء.
"وسئل" نفع الله تبارك وتعالى بعلومه المسلمين هل ورد أن ذوي الهيئات لا يعزرون

 

ج / 4 ص -215-        وما المراد بهم؟ "فأجاب" نفع الله بعلومه المسلمين بقوله قال العز بن عبد السلام في قواعده من ظن أن الصغيرة تنقص الولاية فقد جهل وقال إن الولي إذا وقعت منه الصغيرة فإنه لا يجوز للأئمة والحكام تعزيره عليها وقد نص الشافعي على أن ذوي الهيئات لا يعزرون للحديث وفسرهم بأنهم الذين لا يعرفون بالشر فيزل أحدهم الزلة فيترك وفسرهم بعض الأصحاب بأنهم أصحاب الصغائر دون الكبائر وبعضهم بأنهم الذين إذا وقع منهم الذنب تابوا وندموا اهـ. وتفسير الشافعي رضي الله تبارك وتعالى عنه أظهر وأمتن والحديث المشار إليه جاء من طرق كثيرة من رواية جماعة من الصحابة بألفاظ مختلفة منها "أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم إلا الحدود" أخرجه أحمد والبخاري في الأدب وأبو داود والنسائي والطبراني في الكبير ومنها "تجاوزوا عن زلة ذوي الهيئة" أخرجه النسائي ومنها "تجافوا عن عقوبة ذوي المروءة إلا في حد من حدود الله تبارك وتعالى" أخرجه الطبراني في الصغير ومنها "تجافوا عن ذنب السخي فإن الله تبارك وتعالى آخذ بيده كلما عثر" رواه الطبراني في الأوسط والكبير وأبو نعيم في الحلية.

باب الردة
"وسئل" رحمه الله تعالى ورضي عنه هل يحل اللعب بالقسي الصغار التي لا تنفع ولا تقتل صيدا بل أعدت للعب الكفار وأكل الموز الكثير المطبوخ بالسكر وإلباس الصبيان الثياب الملونة بالصفرة تبعا لاعتناء الكفرة بهذه في بعض أعيادهم وإعطاء الأثواب والمصروف لهم فيه إذا كان بينه وبينهم تعلق من كون أحدهما أجيرا للآخر من قبيل تعظيم النيروز ونحوه فإن الكفرة صغيرهم وكبيرهم وضعيفهم ورفيعهم حتى ملوكهم يعتنون بهذه القسي الصغار واللعب بها وبأكل الموز الكثير المطبوخ بالسكر اعتناء كثيرا وكذا بإلباس الصبيان الثياب المصفرة وإعطاء الأثواب والمصروف لمن يتعلق بهم وليس لهم في ذلك اليوم عبادة صنم ولا غيره وذلك إذا كان القمر في سعد الذابح في برج الأسد وجماعة من المسلمين إذا رأوا أفعالهم يفعلون مثلهم فهل يكفر، أو يأثم المسلم إذا عمل مثل عملهم من غير اعتقاد تعظيم عيدهم ولا افتداء بهم أو لا؟ "فأجاب" نفع الله تبارك وتعالى بعلومه المسلمين بقوله لا كفر بفعل شيء من ذلك فقد صرح أصحابنا بأنه لو شد الزنار على وسطه، أو وضع على رأسه قلنسوة المجوس لم يكفر بمجرد ذلك اهـ. فعدم كفره بما في السؤال أولى وهو ظاهر بل فعل شيئا مما ذكر فيه لا يحرم إذا قصد به التشبيه بالكفار لا من حيث الكفر وإلا كان كفرا قطعا فالحاصل أنه إن فعل ذلك بقصد التشبيه بهم في شعار الكفر كفر قطعا، أو في شعار العبد مع قطع النظر عن الكفر لم يكفر ولكنه يأثم وإن لم يقصد التشبيه بهم أصلا ورأسا فلا شيء عليه ثم رأيت بعض أئمتنا المتأخرين ذكر ما يوافق

 

ج / 4 ص -216-        ما ذكرته فقال ومن أقبح البدع موافقة المسلمين النصارى في أعيادهم بالتشبه بأكلهم والهدية لهم وقبول هديتهم فيه وأكثر الناس اعتناء بذلك المصريون وقد قال صلى الله عليه وسلم: "من تشبه بقوم فهو منهم"، بل قال ابن الحاج لا يحل لمسلم أن يبيع نصرانيا شيئا من مصلحة عيده لا لحما ولا أدما ولا ثوبا ولا يعارون شيئا ولو دابة إذ هو معاونة لهم على كفرهم وعلى ولاة الأمر منع المسلمين من ذلك ومنها اهتمامهم في النيروز بأكل الهريسة واستعمال البخور في خميس العيدين سبع مرات زاعمين أنه يدفع الكسل والمرض وصبغ البيض أصفر وأحمر وبيعه والأدوية في السبت الذي يسمونه سبت النور وهو في الحقيقة سبت الظلام ويشترون فيه الشبث ويقولون إنه للبركة ويجمعون ورق الشجر ويلقونها ليلة السبت بماء يغتسلون به فيه لزوال السحر ويكتحلون فيه لزيادة نور أعينهم ويدهنون فيه بالكبريت والزيت ويجلسون عرايا في الشمس لدفع الجرب والحكة ويطبخون طعام اللبن ويأكلونه في الحمام إلى غير ذلك من البدع التي اخترعوها ويجب منعهم من التظاهر بأعيادهم اهـ.
"وسئل" رحمه الله تعالى عن شخص حضرته الوفاة فأوصى بوصايا لوجوه الخير وأبواب البر وعين ورثته ونحو ذلك مما يدل على كمال عقله ووفور رأيه ثم إنه صدر منه في أثناء ذلك وبعده كلام يوجب إما الارتداد مثلا أو الاختلاط وذلك بأن قال لبعض الحاضرين أنت النبي، أو أنت الله فهل يجعل ذلك اختلاطا منه فتلغى به الوصية أم يجعل ارتدادا أم يحسن الظن به ويؤول كلامه وما الحكم في ذلك؟ "فأجاب" نفعنا الله تعالى بعلومه بقوله الذي صرح به أئمتنا رحمهم الله تبارك وتعالى أن من تكلم بمحتمل للكفر لا يحكم عليه به حتى يستفسر وإن للشاهد اعتماد ما دلت عليه القرائن القوية وحينئذ فإن دلت قرينة على تقدير استفهام أي أأنت كذا حتى يؤخذ بقولك من غير تردد ولا تلعثم لم يحكم عليه بكفر ولا باختلاط فتنفذ وصيته وإن لم تدل قرينة على ذلك فإن ظهر للشاهدين من حاله ما يقتضي الجزم باختلاطه فلا ردة ولا وصية إن قارنها الاختلاط أيضا، أو بعقله حكم بردته وبطلت وصيته إن استمر على ارتداده إلى موته، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.

باب الصيال
"وسئل" رحمه الله تبارك وتعالى عما إذا نطحت بهيمة بهيمة أخرى فهلكت مثلا أو تلف منها عضو ما الحكم في ذلك؟ "فأجاب" نفع الله سبحانه وتعالى بعلومه بقوله إذا نطحت بهيمة بهيمة أخرى فإن كانت الناطحة مع مالكها، أو نحو مستأجرها، أو مستعيرها ضمن فعلها مطلقا ليلا، أو نهارا راكبا كان، أو سائقا، أو قائدا وكذا لو كانت مع غاصب وإن لم يكن معها أحد

 

ج / 4 ص -217-        ضمن من هي تحت يده ما أتلفته ليلا لا نهارا إن تعودوا الإرسال فيه فقط فإن تعودوه فيهما فلا ضمان مطلقا، أو لم يتعودوه فيهما ضمن مطلقا وإن تعودوه ليلا فقط لم يضمن فيه وضمن في النهار، والله سبحانه وتعالى أعلم.
"وسئل" رحمه الله تبارك وتعالى عما إذا أمرا بنتيهما الصغيرتين برعي بقرتين لهما فنطحت إحداهما الأخرى فقتلتها فمن يضمنها وعن العمراني وجوب الضمان في هذه الحالة ولم يقيده باعتياد الناطحة للنطح وقيده ابن عجيل به قال ففي المرة الأولى لا ضمان وتبعه بعضهم فأفتى به بل شرط ابن عجيل لضمان مالك الناطحة اعتيادها النطح وعلم مالكها به منها وعدم حفظه لها وعن العمراني أيضا أن محل الضمان إذا أمكن من هي بيده دفعها وخالفه غيره فقال يضمن وإن غلبته لكونها تحت يده وهل الضمان حيث وجب في مال المالك، أو الراعي سواء المال والآدمي؟. "فأجاب" نفع الله سبحانه وتعالى بعلومه وبركته المسلمين بقوله ذكروا فيما إذا أركب صغيرين أجنبي وتلف بسبب ركوبهما شيء أنه يضمن بخلاف ما إذا كان المركب الولي فإنه إن كان لمصلحتهما مع ضبطهما للمركوب فكما لو ركبا بأنفسهما فالضمان عليهما فكذا يقال هنا إذا أمكن الوليان الصغيرين من الرعي الذي لهما فيه مصلحة لكونه بأجرة أو لملكهما نفسهما وهما ممن يضبط لمثل ما في أيديهما ضمنت راعية الناطحة المنطوحة لتمكنها من ردها ومن ثم لو انفلتت منها وعجزت عن ردها فأتلفت حينئذ شيئا لم تضمنه الراعية لخروجها عن يدها ويشهد لذلك قولهم لو انفلتت البهيمة فلا ضمان بخلاف ما لو ركبت رأسها وعجز عن ضبطها فإنه يضمن متلفها لأنها في يده فهو المقصر بركوب ما لا يضبطه وكأن من اشترط اعتياد النطح أخذه مما قالوه في الهرة أنها إذا اعتادت الإتلاف وجب ضبطهما وضمن متلفها ليلا ونهارا بخلاف ما إذا لم تعتد ذلك لا ضمان مطلقا لأن العادة حفظ الطعام عنها ولا دليل في هذا على أن البهيمة كذلك فالأوجه ما اقتضاه إطلاقهم أنه لا فرق في ضمان البهيمة التي في يده بين المتعودة للنطح وغيرها وحيث وجب ضمان فهو في مال الضامن إن كان المتلف غير آدمي وإلا فعلى العاقلة.
"وسئل" رحمه الله تبارك وتعالى بما صورته ذكر ابن العماد مسائل تتعلق بالهر فما حاصلها؟ "فأجاب" نفعنا الله سبحانه وتعالى بعلومه وبركته بقوله الحاصل في ذلك أنه لا يجوز قتل الهر وإن أفسد على المنقول المعتمد بل يجب على دافعه أن يراعي الترتيب والتدريج في الدفع بالأسهل فالأسهل كما يراعيه دافع الصائل وقال القاضي حسين رحمه الله تبارك وتعالى يجوز قتله ابتداء إذا عرف بالإفساد قياسا على الفواسق الخمسة نعم يجوز قتله على الأول المعتمد في صورة وهي ما إذا أخذ شيئا وهرب وغلب على الظن أنه لا يدركه فله رميه بنحو سهم ليعوقه عن الهرب وإن أدى إلى قتله

 

ج / 4 ص -218-        ومحله إن لم يكن أنثى حاملا وإلا لم يجز رميها مطلقا رعاية لحملها إذ هو محترم لم يقع منه جناية فلا يهدر بجناية غيره وأما تخريج البغوي لذلك في فتاويه على تترس المشتركين بالمسلمين فيجاب عنه بأن تلك حالة ضرورة يترتب عليها فساد عام فلا يقاس عليها ما نحن فيه لأن فساده خاص والأمور العامة يغتفر لأجلها ما لا يغتفر لأجل الأمور الخاصة قال العلماء ويستحب تربية الهر لقوله صلى الله عليه وسلم: "إنها من الطوافين عليكم والطوافات"، ويصح بيع الهر الأهلي والنهي عن ثمن الهر محمول على الوحشي ويجوز أكل الهر على وجه ضعيف ويستحب إكرامه ويجب على مالكه إطعامه إن لم يستغن بخشاش الأرض وسؤره طاهر فإن أكل نجاسة ففي وجه اختاره الغزالي أنه يعفى عنه وا لأصح المنع فعليه لو غاب واحتمل طهر فمه بشربه من ماء كثير، أو قليل جاز، أو مكدر بتراب إن أكل نجاسة مغلظة لم ينجس ما ولغ فيه لكن فمه باق على نجاسته عملا بالأصل فيه وفيما ولغ فيه لما قررته في شرحي الإرشاد والعباب ولو صاد نحو حمامة وجب تخليصه منه لحرمة روحه إذ يحرم قتله بغير الذبح ولو صاد هر مملوك بنفسه لم يدخل ما صاده في ملك صاحبه إلا بعد أن يأخذه منه فقبله يملكه من أخذه بخلاف قنه إذا احتطب، أو احتش، أو صاد لأن له قصدا صحيحا ويده كيد سيده فملك ما صاده مطلقا ولا يجوز للضيف أن يطعم الهر إلا أن أذن له المالك، أو ظن رضاه أو كان الهر مضطرا ولا يجب عليه تنفيره لو أكل لأنه لم يلتزم الحفظ ولو وجد نحو لحمة مع هر لم يجز انتزاعها منه إن علم أن مالكها تبرع بها عليه أو لم يعلم واعتيد أن مثلها يرمى له وإلا كدجاجة ورغيف سن أخذه منه ويكون لقطة فيجب تعريفه وكذا الحكم في نحو الكلب وكل ما يطعمه الإنسان لهر أو حيوان آخر يثاب عليه للحديث الصحيح في ذلك وفسر الحسن البصري رحمه الله تبارك وتعالى المحروم في الآية بالكلب ويجوز حبس الهر وإطعامه ولا نظر لما في الحبس من العقوبة لأنها يسيرة محتملة وكذا الطائر وفي شرح التعجيز لابن يونس إن القفص للطائر كالإصطبل للدابة ودليل جواز حبسهما خبر البخاري وغيره "أن امرأة دخلت النار في هرة حبستها فلا هي أطعمتها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض" فأفهم أنها لو حبستها وأطعمتها جاز ولم يدخل النار بسببها وخبره أيضا أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل دار خادمه أنس بن مالك رضي الله تبارك وتعالى عنه لزيارة أمه رضي الله تبارك وتعالى عنها يقول لولدها الصغير: "يا أبا عمير ما فعل النغير"، يمازحه عن طير كان يلعب به ويحبسه عنده وفي الحديث الأول دليل على أن قتل الهر كبيرة للتوعد الشديد عليه نعم اختلفوا في إسلام تلك المرأة والذي رواه أبو نعيم والبيهقي عن عائشة رضي الله تبارك وتعالى عنها أنها كانت كافرة والخشاش مثلث الأول وهو ما يستتر من صغار الحيوان بالشقوق كالفأر.

 

ج / 4 ص -219-        "باب الزنا"
"وسئل" رضي الله تبارك وتعالى عنه في معنى قوله عليه الصلاة والسلام: "الغيبة أشد من الزنا"، وقوله: صلى الله عليه وسلم: "الغيبة أشد من ثلاثين زنوة في الإسلام"، مع أنها صغيرة والزنا كبيرة وهل الزنا من الذنوب التي بين العبد وبين ربه عز وجل فلا يحتاج في التوبة منه إلى استحلال من أحد، أو هو من الذنوب المتعلقة بالآدميين فيحتاج إلى استحلال من قرابة المزني بها ومن زوجها إن كانت متزوجة وما ضابط الذنب المتعلق بالله سبحانه وتعالى والذنب المتعلق بالآدمي أفتونا بجواب واضح مبسوطا أثابكم الله سبحانه وتعالى الجنة بمنه وكرمه آمين.
"فأجاب" رحمه الله تبارك وتعالى بقوله حديث جابر وأبي سعيد رضي الله تبارك وتعالى عنهما
"إياكم والغيبة فإن الغيبة أشد من الزنا"، رواه ابن أبي الدنيا في الصمت وابن حبان في الضعفاء وابن مردويه في التفسير ورواه الطبراني والبيهقي وغيرهما بلفظ: "الغيبة أشد من الزنا"، وله طريق أخرى تبين معناه وهي ما رواه ابن أبي الدنيا وأبو الشيخ عن جابر وأبي سعيد رضي الله تبارك وتعالى عنهما أيضا "إياكم والغيبة فإن الغيبة أشد من الزنا إن الرجل قد يزني فيتوب الله عز وجل عليه وإن صاحب الغيبة لا يغفر له حتى يغفر له صاحبه" فعلم منه أن أشدية الغيبة على الزنا ليست على الإطلاق بل من جهة أن التوبة الباطنة المستوفية لجميع شروطها من الندم من حيث المعصية والإقلاع وعزم أن لا يعود مع عدم الغرغرة وطلوع الشمس من مغربها مكفرة لإثم الزنا بمجردها بخلاف الغيبة فإن التوبة وإن وجدت فيها هذه الشروط لا تكفرها بل لا بد من أن ينضم إليها استحلال صاحبها مع عفوه فكانت الغيبة أشد من هذه الحيثية لا مطلقا كما شهد به هذا الحديث وليست صغيرة مطلقا بل إن كانت في نحو حملة العلم والقرآن فهي كبيرة وإلا فهي صغيرة على نزاع طويل فيها وقد نقل القرطبي الإجماع على أنها كبيرة مطلقا وعلم من هذا الحديث أيضا أن الزنا لا يحتاج في التوبة منه إلى استحلال وهو ما يصرح به كلام الروضة وأصلها وغيرهما وصرح به الغزالي في منهاج العابدين وستأتي عبارته وكذا صرح به بعض المتأخرين فقال التوبة الباطنة التي بين الله تبارك وتعالى وبين العبد الماحية للإثم تنقسم إلى توبة عن ذنب لا يتعلق به حق آدمي وإلى توبة عن ذنب يتعلق به حق آدمي فالضرب الأول كمباشرة الأجنبية فيما دون الفرج وتقبيلها من الصغائر والزنا وشرب الخمر من الكبائر فتحصل التوبة فيه بالندم على ما مضى والعزم على أن لا يعود إليه والإقلاع عنه في الحال إن كان متلبسا به في الحال اهـ. ثم عدم اشتراط الاستحلال في الزنا لا يدل على أنه ليس من الحقوق المتعلقة بالآدمي مطلقا ومعنى قولهم السابق لا يتعلق به حق آدمي أي من المال ونحوه وإلا فقد اتفقوا على أنه جناية على الأعراض والأنساب قالوا ولذا اختص بالرجم من بين سائر المعاصي وكانت عقوبته أشد العقوبات فهذا صريح في أن فيه حقا لأقارب المزني بها ولزوجها، أو سيدها ويؤيد ذلك قولهم إنما لم يفوض استيفاء حد

 

ج / 4 ص -220-        الزنا لأولياء المزني بها لأنهم قد لا يستوفونه خوفا من العار فعلم أن فيه حقا لآدمي لكنه ليس من الحقوق المقتضية لوجوب الاستحلال لما يترتب على ما ذكر من زيادة العار والظن الغالب فإن نحو الزوج أو القريب إذا ذكر له ذلك يبادر إلى قتل الزاني، أو المزني بها أو إلى قتلهما معا فلما ترتب على ذكره هذا لم يكن القول باشتراطه وقد صرح بنحو ذلك الغزالي في منهاجه فقال إن الذنوب التي تكون بين العباد قد تكون في المال وفي النفس وفي العرض وفي الحرم وفي الدين فأما المال فيجب رده عند المكنة فإن عجز عنه لفقره استحله منه فإن عجز عن استحلاله لغيبته أو موته وأمكن التصدق عنه فعل وإلا فليكثر من الحسنات ويرجع إلى الله تبارك وتعالى ويتضرع إليه في أن يرضيه عنه يوم القيامة وأما النفس فيمكنه أو وليه من القصاص فإن عجز رجع إلى الله تبارك وتعالى في إرضائه عنه يوم القيامة وأما العرض فإن اغتبته، أو شتمته، أو بهته فحقك أن تكذب نفسك بين يدي من فعلت ذلك عنده وأن تستحل من صاحبه إن أمكنك هذا إذا لم تخش زيادة غيظ وتهييج فتنة في إظهار ذلك وتجديده فإن خشيت ذلك فالرجوع إلى الله سبحانه وتعالى ليرضيه عنك وأما الحرم فإن خنته في أهله، أو ولده أو نحوه فلا وجه للاستحلال والإظهار لأنه يولد فتنة وغيظا بل تتضرع إلى الله سبحانه وتعالى ليرضيه عنك ويجعل له خيرا كثيرا في مقابلته فإن أمنت الفتنة والهيج وهو نادر فتستحل منه وأما في الدين فإن كفرته أو بدعته، أو ضللته فهو أصعب الأمور فتحتاج إلى تكذيب نفسك بين يدي من قلت له ذلك وأن تستحل من صاحبك إن أمكنك وإلا فالابتهال إلى الله سبحانه وتعالى جدا والندم على ذلك ليرضيه عنك اهـ. وسكت عليه الزركشي وغيره بل قال الأذرعي إنه في غاية الحسن والتحقيق قال الأذرعي في موضع آخر ويشبه أنه يحرم الإخبار أي بالحسد إذا غلب على ظنه أنه لا يحلله وأن يتولد منه عداوة وحقد وأذى للمخبر ثم قال ويجوز أن ينظر إلى المحسود فإن كان حسن الخلق بحيث يظن أنه يحلله تعين إخباره ليخرج من ظلامته بيقين وإن غلب على ظنه أن إخباره يجر شرا وعداوة حرم إخباره قطعا وإن تردد فالظاهر ما ذكره النووي رحمه الله تعالى من عدم الوجوب والاستحباب فإن النفس الزكية نادرة وربما جر ذلك حقدا وشرا وإن حلله بلسانه اهـ. فإذا كان هذا في الحسد مع سهولته عند أكثر الناس وعدم مبالاتهم به ومن ثم أطلق النووي رحمه الله تبارك وتعالى فيه عدم الإخبار فقال المختار بل الصواب أنه لا يجب إخبار المحسود بل لا يستحب ولو قيل يكره لم يبعد اهـ. فما بالك بالزنا المستلزم أن الزوج والقريب يقتل فيه بمجرد التوهم فكيف مع التحقق وكل إثم لا ضرر يلحق الآدمي بسببه هو المتعلق بالله سبحانه وتعالى وضده هو المتعلق بالآدمي وأما خبر "الغيبة أشد من ثلاثين زنية في الإسلام"، فلم أر له ذكرا في كتب الحديث طويلها ومختصرها والظاهر أنه لا أصل له وقول السائل زنوة صوابه زنية كما عبرت به، والله سبحانه وتعالى أعلم.

 

ج / 4 ص -221-        "وسئل" رحمه الله تبارك وتعالى عن قول التاج السبكي رحمه الله تبارك وتعالى:

وخمسة من زناة الناس خامسهم                         ما ناله بالزنا شيء من الضرر

والقتل والرجم والجلد الأليم كذا                            التغريب وزع في الباقين فاعتبر

"فأجاب" نفع الله تبارك وتعالى بعلومه المسلمين بقوله صوره الناظم بقوله قيل إن محمد بن الحسن سأل الشافعي رضي الله تعالى عنهما عن خمسة زنوا بامرأة فوجب على واحد القتل وآخر الرجم، والثالث الجلد والرابع نصفه ولم يجب على الخامس شيء فأجاب الشافعي رضي الله تبارك وتعالى عنه بأن الأول ذمي زنى بمسلمة فانتقض عهده فيقتل والثاني محصن والثالث بكر والرابع عبد والخامس مجنون.
"وسئل" عمن روى حديث
"من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوه" الفاعل والمفعول؟. "فأجاب" نفع الله تبارك وتعالى بعلومه المسلمين بقوله رواه كثيرون عن ابن عباس رضي الله تبارك وتعالى عنهما وصححه الحاكم وابن الجارود والضياء في المختارة وابن لكنه ضعفه آخرون واعترض ومن ثم قال شيخ الإسلام في تخريج أحاديث الرافعي إنه مختلف في ثبوته أي ومع ذلك ليس قدحا في ثبوته وإنما هو إشارة إلى أن الصحيح قد يكون متفقا عليه.
وقد يكون مختلفا فيه وهذا قد يكون فيه شذوذ، أو غرابة ونحوهما ومن ثم قال الحاكم الصحيح من الحديث ينقسم عشرة أقسام خمسة متفق عليها وخمسة مختلف فيها وهي مبينة في محلها من كتب الحديث ونظير ذلك أن بعضهم رأى قول الترمذي في بعض النسخ في حديث "أنا دار الحكمة وعلي بابها"، هذا حديث منكر فظن أنه أراد أنه باطل، أو موضوع وليس كذلك بل المنكر قسم من أقسام الضعيف كما صرح به الأئمة رضي الله تعالى عنهم ومن ثم اعترض الذهبي إطلاق الخطيب المنكر على الباطل ووصف الذهبي عدة أحاديث في الكتب المعتمدة حتى الصحيحين بالنكارة لأنها قد ترجع إلى الفردية ولا يلزم منها ضعف متن الحديث فضلا عن بطلانه وروى حديث السؤال عن جماعة عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه وصححه الحاكم وغيره ونوزع فيه وأجيب عنه ورواه جماعة عن جابر وفي بعض رواياته سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول على المنبر:
"من عمل عمل قوم لوط فاقتلوه"، ورواه ابن جرير عن علي رضي الله تعالى عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يرجم من عمل عمل قوم لوط أحصن، أو لم يحصن"، وصح عن عثمان رضي الله تعالى عنه أنه أشرف على الناس فقال أما علمتم أنه لا يحل دم امرئ مسلم إلا بأربعة وفي رواية لا يجب القتل إلا على أربعة رجل كفر بعد إسلامه، أو زنى بعد إحصانه، أو قتل نفسا بغير حق، أو عمل عمل قوم لوط وقوله: أما علمتم دليل على اشتهار ذلك عندهم، والله سبحانه وتعالى أعلم.