الفتاوى الكبرى الفقهية على مذهب الإمام الشافعي

أبواب: المسابقة والمناضلة - الأيمان - النذر - القضاء - الحاق القائف - القسمة

 "باب المسابقة والمناضلة"
"وسئل" رحمه الله تعالى عما يقع بين أهل مليبار من اللعب بنحو السيوف المحددة والتضارب بها اعتمادا على حراستهم بالترس والغالب السلامة وقد يقع الجرح وقد يقع الهلاك فهل هو جائز لأن القصد به التمرين حتى ينفع في الحرب أو لا لدخوله في الإشارة على مسلم بالسلاح وحمله عليه وقد عمت البلوى بذلك؟. "فأجاب" نفعنا الله سبحانه وتعالى بعلومه بقوله يجوز ذلك كما صرح به أصحابنا حيث قالوا يجوز ولو بعوض المسابقة على التردد بالسيوف وإدارتها والرماح لأنه ينفع في الحرب ويحتاج إلى معرفة وحذق ويجوز بلا عوض المراماة بأن يرمي كل واحد الحجر أو السهم إلى الآخر وإنما لم يجز بعوض لأنها لا تنفع في الحرب. اهـ. فعلم منه ما قلناه ولأن التردد بالسيوف والرماح، ومراماة الأحجار والسهام قد يقع فيها جرح وهلاك ومع ذلك لم ينظروا إليه لغلبة السلامة وكونه نافعا في الحرب ليس هو العلة في التجويز مطلقا وإنما هو علة في التجويز بعوض ألا ترى إلى تجويزهم المراماة بالسهام والأحجار بلا عوض مع عدم نفعها في الحرب وليس علة ذلك إلا غلبة السلامة فيها فكذا ما في السؤال يجوز لغلبة السلامة فيه وإن فرض أنه غير نافع في الحرب وليس هذا من الإشارة على مسلم بالسلاح المنهي عنها لأن محل النهي في إشارة مخيفة أو يتولد عنها الهلاك قريبا غير نادر كما هو ظاهر.
"سئل" رحمه الله تعالى كيف عد الأصحاب الرمي بنية الجهاد سنة مع قوله تعالى:

 

ج / 4 ص -248-        {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال: 60]، والأمر للوجوب والقوة مفسرة في الأحاديث بالرمي؟ "فأجاب" بقوله استندوا في ذلك إما لقول بعض الصحابة: الآية منسوخة وإذا نسخ الوجوب بقي الجواز الشامل للندب الدال عليه كثرة الأحاديث في كثرة ثواب الرمي والترغيب فيه وإما احتمال أن الأمر للإرشاد ولا ترد عليه تلك الأحاديث نظرا إلى أن الأمر الإرشادي لا ثواب فيه لأن هذا إنما هو من حيث ذاته وإما بالنظر لما يقترن به فقد يعظم ثوابه بخلاف الأمر الشرعي فإن الثواب عليه من حيث ذاته من غير اعتبار أمر آخر يقترن به وهذا الفرق وإن لم أره إلا أنه قد يومئ إليه بعض الفروق من الكراهة الشرعية والإرشادية وإما أنهم نظروا إلى عموم ما المفسرة بقوة وذلك شامل للرمي وغيره كالسيف والسلاح والحصون وذكور الخيل كما قاله كثير من الصحابة والتابعين ولفظ سعيد بن المسيب هي القوس إلى السهم فما دونه وأما الحديث الصحيح وهو قوله صلى الله عليه وسلم: "ألا إن القوة الرمي"، فهو من باب الحج عرفة، كما قاله مكحول وعلى هذا فالأمر في الآية للوجوب لأن التهيؤ لجهاد العدو والاستعداد لملاقاته بدخول جيشنا إلى داره كل سنة أو بعمارة الثغور ونحوها حتى لا يبقى له سبيل إلى دخول دارنا واجب على الكفاية وحينئذ إذا نظرنا للرمي من حيث ذاته قلنا إنه سنة أو من حيث دخوله تحت الأمر الموضوع حقيقة للوجوب قلنا هو من بعض جزئيات المفروض ونظيره العتق مثلا في الكفارة المخيرة فهو من حيث إنه أفضلها مندوب ومن حيث تأدي الواجب به واجب ولعل هذا التقرير أولى من قول بعضهم القول بوجوب الرمي أخذا من الأمر في الآية ليس معناه أنه واجب لعينه بل إنه من باب إيجاب شيء لا بعينه كما قاله الفقهاء في خائف العنت أنه يجب عليه التعفف ولا يقال إن النكاح في حقه واجب على معنى أنه واجب لعينه بل على معنى أن السعي في الإعفاف واجب إما بالنكاح وإما بالتسري فإيجاب النكاح عليه من باب إيجاب شيء لا بعينه وما كان من هذا القبيل إذا حكم عليه بعينه قيل إنه سنة وكذلك هنا الواجب إعداد ما ينتفع به في القتال ويدفع به العدو أما الرمي أو غيره وإذا حكم على الرمي بعينه قيل إنه سنة، والله تعالى أعلم.

"باب الأيمان"
"وسئل" رحمه الله عن رجلين مر بهما رجل فحلف أحدهما أن هذا ولد فلان وحلف الآخر أنه ولد فلان غير الذمي الذي يعنيه صاحبه وهما جميعا يظنان أنهما على الصواب فهل يحنثان أو لا وهل إذا حلفا يمينا بالطلاق يحنثان أو لا كما إذا حلف ظانا أنه صادق فبان خلافه؟ "فأجاب" بأنه لا يحنث واحد منهما، والله تعالى أعلم.
"وسئل" رحمه الله تعالى عمن حلف لا يراجع زوجته فوكل هل يحنث؟ "فأجاب" نفعنا

 

ج / 4 ص -249-        الله به بقوله نعم يحنث أخذا من قولهم لو حلف لا ينكح حنث بعقد وكيله والرجعة وإن كانت استدامة في كثير من الصور إلا أنهم نزلوا فعل الوكيل في باب النكاح كفعل الموكل.
"وسئل" رحمه الله تعالى عمن حلف لا يخاف فلانا فهل يحنث مطلقا أو لا؟ "فأجاب" نفعنا الله سبحانه وتعالى بعلومه وبقوله الخوف من الأمور القلبية التي لا اطلاع عليها إلا من جهته فيلزمه العمل بما عنده فإن خافه حنث وإلا فلا وإن دلت القرائن على خوفه منه إذ لا عبرة هنا بالقرائن فإنه قد يكون عنده فرط هجوم وإقدام فلا يخاف من قويت شوكته ونفذت كلمته وظهرت دولته وهذا يشاهد كثيرا أعني أن بعض من لهم قوة جراءة قد يقدمون على الأشياء المهولة جدا المؤدية إلى القتل فورا عادة من غير أن يكون عندهم خوف منها ومن ثم كانت الشجاعة الحقيقية المورثة لعظيم الإقدام أو خوض المهالك نسيان العواقب فمن نسي أوقع نفسه في كل مهلكة ومخوفة من غير تقديم خوف ولا فزع وإنما أطلت في هذا ردا لقول بعضهم لو قال لا أخاف ودل الحال على خلاف قوله إما بقوة شوكة المحلوف عليه أو شدة بأسه أو فرط هجومه فالظاهر وقوع الطلاق اهـ. فعلم أن ظاهره في غاية الخفاء فلا يعول عليه، والله أعلم.
"وسئل" رحمه الله تعالى بما لفظه قال السراج البلقيني أفضل الصيغ للحمد الحمد لله رب العالمين هل هو المعتمد؟ "فأجاب" نفعنا الله به بقوله المعتمد في المذهب أن أفضل صيغة الحمد لله حمدا يوافي نعمه ويكافئ مزيده ولي فيه بحث وهو أن الذي دل عليه المعنى ودلت عليه السنة أن أفضلها يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك وما قاله اختيار له بأنها أول كتاب الله العزيز وآخر دعوى أهل الجنة في الجنة ولو ضم إليها ما ذكرته ليصير الحمد لله رب العالمين كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه لزاد اتضاحه ولم يمكن رده وهذا أولى من قول ولده علم الدين ينبغي الجمع بين ما قاله وما قالوه ليصير الحمد لله رب العالمين حمدا يوافي نعمه ويكافئ مزيده وعلى كل فينبغي الجمع بين ما قلته وما قاله وما قالوه وهو الحمد لله رب العالمين حمدا يوافي نعمه ويكافئ مزيده كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه.
"وسئل" رضي الله عنه عن شخص حلف بالطلاق أنه لا يؤجر ولا يسكن فلانا داره فأجره الدار جاهلا الحلف أو عامدا فهل يحنث أو لا وإذا قلتم لا فهل الحيلة في عدم الحنث أن يرفع إلى حاكم يأمره بالإسكان الذي هو من لوازم الإجارة أو كيف الحال؟ "فأجاب" رحمه الله بقوله إذا أجره ناسيا الحلف لم يحنث أو ذاكرا له حنث وجهل الحكم ليس بعذر خلافا لمن زعمه وإذا لم يحنث وصح إيجاره فرفعه المحلوف عليه لحاكم فألزمه بتمكينه من السكن فسكن لم يحنث لأن الإكراه الشرعي كالإكراه الحسي كما صرحوا به.
"وسئل" عن شخص حلف بالطلاق الثلاث أنه لا يضرب زوجته فكالمته ثم حذفته

 

ج / 4 ص -250-        بنعلها فحذفها بنعله فأصابها فهل يقع عليه طلاق أم لا كما مال إليه بعض مشايخ العصر وعلله بأن حقيقة الضرب غير حقيقة الحذف فيما يظهر من كلام اللغويين واستعمال أهل العرف قال فكان حقيقة الضرب صدم المضروب بالآلة مع اتصالها بالضارب والمضروب وفي الحذف يحصل الصدم بعد الانفصال عن الحاذف فافترقا وأورد أنهم ألحقوا الوكز بالضرب والوكز في القاموس هو الدفع والطعن والضرب بجمع الكف وقد صرح الشيخ زكريا رحمه الله تعالى في شرح الروض بوقوع الطلاق بالوكز بمعنى الدفع والدفع ليس فيه الاتصال الذي شرط في الضرب فليكن الحذف مثله أو هو نوع من الدفع قلت إنما وقع الحنث بالوكز الذي هو الضرب بجمع الكف لأنه فرد من أفراد الضرب ولا يلزم من كونه مشتركا بين ذلك وبين الدفع أن يقع الحنث بالدفع وقد اقتصر الإسنوي على تفسير الوكز بالضرب بجمع الكف ولم نجد تفسيره بالدفع فيما يقع به حنث الحالف على الضرب إلا في كلام الشيخ زكريا وفيه نظر ظاهر لأنه ليس من أفراد الضرب على أنه لا بد في الدفع إذا سلمنا وقوع الحنث به في الصدم المعتبر في حقيقة الضرب وهو غير معتبر في المعنى اللغوي فيما يظهر فلو دفع الشخص إنسانا فأماله ولم يصدم شيئا صح أن يقال وكزه ولا يقع به حنث أصلا فظهر أن الوكز بهذا المعنى غير مراد فيما يقع به الحنث اهـ. كلامه فهل توافقونه على جميعه أو بعضه أو تخالفونه فما سند المخالفة حققوا ذلك وابسطوا لنا القول فيه فإن المسألة واقعة حالا والسائل ينتظر الجواب فيها أثابكم الله سبحانه وتعالى الجنة؟ "فأجاب" نفعنا الله سبحانه وتعالى ببركته بقوله عرضت علي هذه المسألة وأنا مشغول ببعض المهمات فتوقفت فيها ولم أجزم فيها بشيء وإن كان ميلي إلى الحنث إذا أصابها المحذوف به إصابة لها وقع مع إيلام أو عدمه بناء على التناقض الشهير في التعليق بالضرب ثم تجاذبت البحث فيها مع جماعة من المشايخ فلم يميلوا إلا إلى عدم الحنث لنحو ما ذكر في السؤال ولم ينقدح عندي غير الحنث واستمريت على ذلك مع التردد فيه أياما إلى أن رأيت من كلام الفقهاء واللغويين ما اقتضى الجزم بالحنث وبيان ذلك بأمور وقبلها لا بد من ذكر مقدمة هي أن الأصحاب إلا الإمام والغزالي يقدمون الوضع اللغوي على الوضع العرفي وفي ذلك كلام وتقييدات مبسوطة في محلها وقد بينت حاصلها في شرح المنهاج وغيره الأمر الأول أن أبا هريرة رضي الله تعالى عنه لا يشك أنه من أكابر العرب الذين يحتج بكلامهم وتثبت اللغة بقوله ويقدم على غيره ممن لم يكن في مرتبته وقد صح أنه سمى الحذف ضربا ففي الحديث الصحيح في قصة رجم ماعز رضي الله تعالى عنه أن أبا هريرة رضي الله تعالى عنه قال ما لفظه فأخرج إلى الحرة فرجم بالحجارة فلما وجد مس الحجارة فر يشتد حتى مر برجل معه لحي جمل فضربه به وضربه الناس حتى مات والذي وقع من ذلك الرجل ومن الناس إنما هو الرجم كما صح عن جابر في هذه القصة ولفظه فلما أذلقته الحجارة فر فأدرك فرجم حتى مات فهذا جابر مصرح بأن الذي وقع منهم بعد

 

ج / 4 ص -251-        الإدراك هو الرجم الموافق لما أمرهم به النبي صلى الله عليه وسلم وقد سمى أبو هريرة رضي الله تعالى عنه ذلك الرجم ضربا فهو صريح أي صريح في أن الرجم الذي هو الحذف يسمى ضربا وإلا لم يصح قول أبي هريرة رضي الله تعالى عنه فضربه به وضربه الناس فإن قلت يحتمل أن الصادر منهم بعد الإدراك إنما هو الضرب وأن جابرا رضي الله تعالى عنه هو الذي تجوز فعبر عنه بالرجم مجازا وأن بعضهم ضربه وبعضهم رجمه قلت كل من هذين حجة لنا على التقرير بالأولى لأن الذي أمرهم به النبي صلى الله عليه وسلم إنما هو الرجم فانتقالهم جميعهم أو بعضهم عنه إلى الضرب تصريح منهم بأن الرجم يصدق على الضرب وإلا لم يفهموه منه على أن الحمل على المجاز لا يعدل إليه لاستدعائه إلى قرينة تصرفه عن الحقيقة ولا قرينة هنا فوجب إبقاء كل من لفظ أبي هريرة وجابر رضي الله تعالى عنهما على حقيقتهما وظهر بذلك ظهورا لا يشك فيه منصف أن الرجم الذي هو الحذف يسمى ضربا وإذا تقرر أن الحذف يسمى ضربا لغة كما علم من كلام أبي هريرة رضي الله تعالى عنه الذي هو من أجلاء أهل اللسان المرجوع إليهم فيه فليحنث به الحالف على عدم الضرب لأنه أتى بما يسمى ضربا وحينئذ اندفع ما في السؤال من أن حقيقة الدفع غير حقيقة الضرب فيما يظهر من كلام اللغويين واندفع تفسير الضرب بأنه صدم المضروب بالآلة مع اتصالها بالضارب والمضروب وكيف يتأتى هذا التفسير مع تسمية أبي هريرة رضي الله تعالى عنه للرجم بالضرب كما علمت على أن عبارة الروضة وغيرها في تفسير الضرب يدفع ذلك أيضا فليكن منك على ذكر الثاني أن الأصمعي من أكابر اللسان أيضا فسر الوكز الذي هو من جزئيات الضرب كما صرح به أئمتنا بالدفع باليد لا بغيرها وتبعه أئمة اللغة على ذلك كصاحب الصحاح وغيره ولا شك أن الدفع يصدق بدفع المحلوف عليه ودفع الآلة إليه وإن انفصلت عن الدافع وهذا هو الحذف وإذا صدق الوكز الذي هو من أنواع الضرب بالحذف صدق به الضرب وأما تفسير الإسنوي وغيره للوكز بأنه الضرب بجمع الكف فهو تفسير قاصر لأن المدار في ذلك على تفسير أئمة اللغة وقد تقرر عنهم تفسيره بالدفع من غير تقييد فوجب الرجوع إليه وهذا ملحظ شيخنا خاتمة المحققين فيما نقل عنه في السؤال من تفسيره بالدفع من غير قيد وإعراضه عما وقع في كلام الإسنوي وغيره من التقييد وبهذا الذي قررته اندفع ما في السؤال عن بعض المشايخ من التنظير في كلام شيخنا وكيف ينظر فيه مع تصريح أئمة اللغة وتصريح أئمة الفقه بأن الوضع اللغوي مقدم على الوضع العرفي وبأن الوكز ضرب وإذا وقع اختلاف في الوكز رجع فيه لأئمة اللغة والمقرر عندهم كما عرفت أنه يشمل الدفع من غير تقييد بيد ولا بغيرها فاتضح كلام الشيخ وأنه لا غبار عليه ولا نظر فيه بوجه وأنه عين كلام أئمة الفقه واللغة وأن قول بعض المشايخ لم نجد تفسيره بالدفع إلخ هو الذي فيه النظر الظاهر فتأمله وأما قوله على أنه لا بد في الدفع إلخ فهو بتقدير تسليمه لا يرد منه شيء على الشيخ لأن اعتبار هذا المفهوم اللغوي أخذه الفقهاء بناء على اعتماده من

 

ج / 4 ص -252-        قرينة المقام إذ المقصود من الحلف على الضرب الإيذاء ومن ثم اشترط الشيخان في موضع كونه مؤلما مع أن الإيلام ليس من حقيقة الضرب اللغوي ومن لم يشترط الإيلام قال لا بد فيه من نوع إيذاء حتى لا يكفي ضربه بأصبعه اتفاقا فاشتراطهم لهذا الأمر الزائد على المفهوم اللغوي أخذوه من قرينة المقام الدال عليها الحلف على الضرب على أنا لا نسلم اعتبار الصدم في الدفع وإنما المعتبر أن يكون فيه نوع إزعاج للمدفوع وإن لم يكن فيه إيلام عرفا سواء أصدم شيئا أم لا هذا ما دل عليه كلامهم وتصرفاتهم فتأمله ومما يوضح ذلك أن صاحب الصحاح فسر الحذف بالضرب في بعض المواد نحو حذف رأسه بالسيف وإن كان غيره فسره في هذه المادة بالقطع لأنه مشترك فإطلاقه على القطع لا يمنع إطلاقه على الضرب على أنه لو حلف لا يضربه فضربه بسيف فقطع يده أو رقبته حنث كما هو جلي الثالث أن الشيخين رحمهما الله تعالى قالا عن الإمام بعد كلام ساقاه عنه وكان المعتبر في إطلاق اسم الضرب الصدم بما يؤلم أو يتوقع منه إيلام وجرى على ذلك الحجازي في مختصر الروضة فقال ولا يكفي إيلام وحده بأن وضع عليه حجرا ثقيلا ولا الصدم وحده كبأنملة فالمعتبر الصدم بما يؤلم أو يتوقع منه إيلام اهـ. وعبارة الشرح الصغير وشرط بعضهم أن يكون فيه إيلام ولم يشترطه الأكثرون واكتفوا بالصدمة التي يتوقع منها الإيلام انتهت وهذا كما ترى ظاهر في شمول الضرب للرمي بحجر أو نحوه لأنه يصدق عليه أنه صدم بما يؤلم أو يتوقع منه إيلام وحينئذ وافق كلام الفقهاء كلام اللغويين في صدق اسم الضرب بالرمي والحذف فلم يبق عذر لبعض المشايخ فيما حكي عنه في السؤال من أن الرمي لا يسمى ضربا الرابع أن أئمتنا صرحوا باتحاد الضرب والحذف حيث قالوا لو زنى بكرا ثم ثيبا دخل الجلد في الرجم لاتحاد جنسهما أي من حيث إطلاق اسم الضرب عليهما لا الحد وإلا لدخل الجلد في قطع السرقة ولم يقولوا به فعلمنا أن مرادهم باتحاد جنسهما ما قلناه من شمول اسم الضرب لهما وأن كلا منهما يطلق على الآخر وأما ما توهم من أن المراد باتحاد جنسهما أن كلا منهما يسمى زنا فهو خيال باطل إذ الزنا سبب لا جنس كما هو واضح ولا يلزم من اتحاد السبب اتحاد المسبب ولا تعدده وإنما المراد بالجنس ما يدخلان تحت مسماه كما هو شأن سائر الأجناس والأنواع فتعين أن المراد به هنا الضرب لا غير لا يقال يحتمل أنه الإيذاء لأنه يشمل ما لا يجزئ في الحد فلم يتضح أن يكون مرادا فتأمله إذا تقرر ذلك فهذا أيضا نص في الحنث في مسألتنا بالحذف ويوافقه قول بعض الشارحين في تعليل عدم إجزاء مرة بعثكال في لأضربنه مائة مرة أو ضربة لأن الجميع يسمى ضربة واحدة بدليل ما لو رمى في الجمار السبع دفعة واحدة فإنه يسمى رمية واحدة اهـ. فاستدلاله بذلك قاض بأن بين الضرب والرمي اتحادا حتى يستدل بما قالوه في أحدهما على ما قالوه في الآخر الخامس أن الرافعي وغيره فرقوا بين عدم اشتراط الإيلام في لأضربنه أي بناء على ما وقع له في موضع من أنه لا يشترط فيه الإيلام وبين اتفاقهم في

 

ج / 4 ص -253-        الحدود والتعزيرات على أنه لا بد فيها من الإيلام بأن القصد من الحد الزجر وهو لا يحصل إلا بالإيلام واليمين تتعلق بالاسم وهو صادق مع عدم الإيلام ولهذا يقال ضربه فلم يؤلمه وهذا أيضا قاض بأن كل ما كفى في الجلد أو التعزير أو الرجم كفى في اليمين إذ لا يتصور أن بينهما اتحادا غير اشتراط الإيلام إلا إذا كان ما يكفي في الأخص وهو الحد يكفي في الأعم وهو اليمين ولما أتممت ذلك ظفرت بعون الله تعالى وقوته وفضله ومعونته بأن المسألة منقولة كما قلته فقد صرح بها الخوارزمي على جهة نقل المذهب الذي كافيه من أجل المصنفات فيه وعبارته في التعليق بالضرب كما في توسط الأذرعي عنه ولو رفسها برجله أو رماها بحجر طلقت قال الأذرعي إذا أصابها الحجر اهـ. وهذا هو مراد الكافي بلا شك كما هو واضح فتأمل هذه العبارة تجدها عين المسألة وبها يندفع جميع ما مر عن بعض المشايخ ويتضح ما رددت به عليه وتأمل ما قدمته عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه وأئمة اللغة تجده دليلا ظاهرا لها فالحمد لله الذي ألهمنا موافقة أئمتنا في الحكم قبل الاطلاع عليه وهدانا لما هداهم إليه وأمدنا بأن ذكرنا لما قالوه ووافقناهم فيه أدلة ظاهرة واضحة جلية لائحة لا يمتري فيها منصف ولا يقدر على ردها معاند ولا متعسف فله الحمد كما يحب ويرضى سبحانه لا نحصي ثناء عليه هو كما أثنى على نفسه، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
"وسئل" رحمه الله تعالى عمن حلف بالطلاق ما أبيع كذا وأفصله لنفسي بعد أن قالت له زوجته أنت تأخذ هذا تبيعه فهل لو فصله غيره بغير إذنه يحنث أو لا؟ "فأجاب" بقوله الظاهر في الواو في وأفصله أنها للاستئناف ويدل عليه القرينة وهي قول الزوجة خطابا له أنت تأخذ هذا تبيعه وحينئذ فالحلف إنما هو على نفي البيع فلا يحنث بتفصيل غيره مطلقا وإنما قبل منه ادعاء الاستئناف لدلالة السياق والقرينة عليه فإن لم ينو الاستئناف فتارة ينوي الحلف على كل منهما وحده ويمضي بعد اليمين زمن يمكنه أن يفصله لنفسه فلم يفعل فيحنث بتفصيل غيره مطلقا أما في الأخيرة فواضح لأن الحنث فيها إنما يكون بالبيع وتلفه بعد تمكنه منه ولم يوجد ذلك وأما في حالة الإطلاق فلأن الاجتماع هو مفاد الواو والمتبادر منها فحمل الإطلاق عليه.
"وسئل" عن شخص قال يشهد الله لا أجيب إلى كذا عازما على عدم الإجابة فلو تغير عزمه بعد ذلك وأجاب ماذا يلزمه؟ "فأجاب" بقوله الذي يتجه من كلامهم أنه لغو لأنه لم يسند لنفسه شيئا يتضمن الحلف فليس كأقسم أو أشهد بالله على أنهم فرقوا بينهما بأن الأول اشتهر في اليمين فانعقدت به وإن أطلق بخلاف الثاني فلم تنعقد به إلا إن نواها وقالوا في أشهد بالله في اللعان إنه صريح فاقتضى كلامهم أن الكلام في إسناد الشهادة إلى نفسه وما في السؤال لم يسندها إليه فلتكن لغوا وأيضا فكلامهم ناطق في اللعان بأنه لو قال يشهد الله أني لمن الصادقين الخ يكون لغوا وأيضا فصرحوا في أقسم من غير ذكر صلته ومثله أشهد

 

ج / 4 ص -254-        بالأولى لما تقرر من انعقاد اليمين بذلك عند الإطلاق بخلاف هذا بأنه لغو فإذا كان أشهد لغوا لعدم ذكر الصلة مع إسناده إلى النفس فيشهد الله كذلك وأولى ومما ترجم به الجم الغفير أن من قال يعلم الله ما فعلت كذا وكان فعله كفر لأنه نسب إلى الله سبحانه وتعالى العلم على الخلاف الواقع وظاهر تقييده بالعالم المتعمد لذلك فمحضوه للإخبار لا للإنشاء وهو في الماضي يتحقق فيه الكذب فحكم على قائله بالكفر بخلافه في المستقبل فإنه محض إخبار عما سيقع وهو لا يتحقق فيه كذب فلا شيء فيه عند إخلافه هذا ما تيسر الآن والمسألة تحتمل أكثر من ذلك، والله سبحانه وتعالى أعلم.
"وسئل" رحمه الله تعالى عن رجل استأجر دارا وأقر بأنه رأى وتسلم ثم أنكر الرؤية وطلب يمين المؤجر أنه رأى فهل يجاب؟ "فأجاب" نفع الله تعالى بعلومه المسلمين بقوله أفتى الجلال السيوطي رحمه الله تعالى بأنه لا يجاب لذلك لأنه صدر منه ما يكذبه وهو إقراره بوقوع الرؤية وليست هذه كما لو أقر بالقبض ثم قال إن ذلك إنما كان على رسم القبالة لأن تأخير القبض عن الإقرار به كثير متعارف لا يترتب عليه فساد عقد فسمعت الدعوى به للتحليف وأما تأخير الرؤية عن عقد الإجارة فهو مبطل لها ولم يعتد عرفا ولا شرعا تأخر الرؤية عنها كسائر العقود المشترطة فيها فلا يتصور فيها رسم قبالة فلم يسمع طلبه للتحليف لأن إقراره بها لم يعارض بخلافه في مسألة رسم القبالة فإن العرف قاض بالإشهاد على وجوده قبل وجوده ولا كما لو أقر بعقد إجمالي ثم أنكر بعض شروطه أو لوازمه أو صفاته واعتذر بأنه لم يعلم أنه يفسد العقد فتقبل دعواه للتحليف لعذره ولأنه لم يقر بشيء معين بخصوصه ثم أنكره بخلافه في مسألة الرؤية ويجري ذلك فيما لو أقر بالبيع والرؤية ثم قال لم أر فلا تسمع دعواه لتحليف ولا لغيره، والله سبحانه وتعالى أعلم.

"باب النذر"
"وسئل" عمن نذر بجميع أملاكه أو باعه إلى من هو تحت يده وقهره وأبرأه من الثمن في الصورة الثانية، لولا ذكر التحتية والقهرية والغلبة على ذلك وعدم القدرة على انتزاع ذلك من يده لم ينذر ولم يبع فما الحكم حينئذ مع أن في فتاوى ابن كبن فيمن امتنع أن يقسم لأخته من مخلف أبيها وصار يتصرف في جميع التركة ببيع وغيره مدة ثم طلب منها أن تبيعه نصيبها بدون ثمن المثل بقدر لا يتغابن بمثله فباعته بما أراد ولولا عدم قدرتها على انتزاعه لم تبعه وجرى منها هذا البيع وهي تحت حجره وقهره بأنه لا يصح البيع والحالة هذه.
"فأجاب" نفعنا الله تبارك وتعالى بعلومه بأن البيع والإبراء فيهما صحيحان ولا نظر لما ذكر في السؤال لأن حقيقة الإكراه التي ذكرها الأئمة لم توجد هنا وإذا علم انتفاء حقيقة الإكراه فيصح النذر أيضا إن وجدت بقية شروطه ولا يعارض ذلك ما نقلتموه عن ابن كبن رحمه

 

ج / 4 ص -255-        الله تعالى لأن في السؤال وهي تحت حجره وقهره كما ذكرتموه فإذا كانت تحت حجره فكيف يصح بيعها له فالفساد إنما جاء من كونها تحت حجره لا من جهة الإكراه على أن جمعا قالوا ببطلان بيع المصادر فيحتمل أن ابن كبن تبعهم في ذلك لكن المعتمد صحة بيعه كما صرحوا به وبأنه غير مكره فكذلك من ذكر في السؤال غير مكره كالمصادر بل أولى وهذا جميعه يتضح به صحة البيع أيضا في مسألة البيع للغاصب وهي العشرون لأنه لا إكراه فيها والبائع فيها وفي التي قبله اهـ. والمقصر بالبيع لأنه يمكنه التخلص بالسلطان ونحوه فإن فرض عجز السلطان أو بعده بحيث لا يمكن أن يخلصه هو ولا أحد من نوابه ممن تحت يده تلك العين فهذا نادر فلا يدار عليه حكم كما صرحوا به في مواضع كالفلس والنفقات وأشار بذلك إلى مسألة مرت في البيع من جملة مسائل سئل عنها جاءت إليه من علماء حضرموت مشتملة على إشكالات ونوادر وغرائب ولذا اختلفت في كثير منها الأجوبة ولم يبسط أحد فيها بمثل ما بسط في هذه الفتاوى، والله سبحانه وتعالى أعلم.
"وسئل" رحمه الله تبارك وتعالى فيما لو نذر مجذوم أو هرم بجميع أملاكه لآخر على أن يقوم بمؤنته مدة حياته ما حكمه"؟ فأجاب" نفع الله تعالى ببركته المسلمين بأن الذي يتجه عدم صحة النذر فيها لأنه قربة بشرط أخرجه عن كونه قربة ففات لشرط النذر.
"وسئل" عما لو نذر بجميع أملاكه وهو محتاج إليها لمؤنته أو لمؤنة ممونه أو قضاء دين ما هو المعتمد في ذلك؟ "فأجاب" رحمه الله تعالى بأن الذي صرح به جمع متأخرون أنه لا يصح النذر بما يحتاج إليه لدين لا يرجو له وفاء أو لنفقة ممونه أو لنفسه وهو لا يصير على الإضافة لأن التصدق إما حرام أو مكروه وكلاهما لا يصح نذره لا يقال الحرمة والكراهة لأمر خارج فلا ينافي صحة النذر كما يؤخذ من كلامهم في مواضع ومن ثم صحت هبة الماء الذي يحتاجه بعد دخول الوقت كما في المجموع لأنا نقول ليست الحرمة ولا الكراهة لأمر خارج من كل وجه فكانتا منافيتين لصحة النذر ويفرق بين النذر والهبة بأن الهبة تصح بما لا قربة فيه بخلاف النذر.
"وسئل" رحمه الله تعالى في شخص قال نذرت هذه العين للنبي صلى الله عليه وسلم أو للشيخ عبد القادر مثلا نفعنا الله تبارك وتعالى به فهل تصرف قيمتها في مصالح المسجد النبوي أو لأولاد السيدة فاطمة رضي الله تعالى عنها وأولاد أولادهم وإن سفلوا إذا قلتم إن أولاد ابنته أولاده صلى الله عليه وسلم ويكون ذلك من خصوصياته صلى الله عليه وسلم كما صرح به البغوي فإذا كان الأمر كذلك فيستوعب الذكور والإناث في سائر البلدان وهذا مستحيل كما لا يخفى على عملكم الكريم أو يستوعب من كان معهم ببلد الناذر إن أمكن وإلا يدفع لأقل الجمع ثلاثة وإذا كان النذر للشيخ المذكور فيصرف في مصالح تربته أو لأولاده ويكون الحكم كما ذكر يستوعب أو لا؟ "فأجاب" نفع الله تعالى ببركته وعلومه المسلمين بقوله نذر شيء للنبي صلى الله عليه وسلم أو لغيره

 

ج / 4 ص -256-        كالشيخ المذكور نفعنا الله تعالى به يحمل حيث لم يعرف قصد الناذر على ما اطرد به العرف في ذلك النذر فإن اطرد بصرفه لمصالح قبره الشريف أو لمصالح مسجده أو لأهل بلده عمل بذلك العرف في هذا النذر كما يفيده كلام الشيخين وغيرهما في النذر للقبر أو للفقير المشهور بجرجان فإن لم يكن عرف أو كان وجهله الناذر فللزركشي فيه تردد والذي يتجه البطلان فإن عرف قصده فالذي يتجه أنه يأتي فيه قول الأذرعي في النذر للمشاهد المبنية على قبر ولي أو نحوه من أن الناذر إن قصد تعظيم البقعة أو القبر أو التقرب إلى من دفن فيها أو من تنسب إليه وهو الغالب من العامة لأنهم يعتقدون أن لهذه الأماكن خصوصيات لأنفسهم ويرون أن النذر لها مما يندفع به البلاء فلا يصح النذر في صورة من هذه الصور لأنه لم يقصد به التقرب إلى الله سبحانه وتعالى بخلاف ما إذا قصد به التصدق على من يسكن تلك البقعة أو من يرد إليها فإنه يصح لأن هذا نوع قربة وبما تقرر علم أن أولاد المنذور له وأولادهم لا حق لهم في النذر من حيث كونهم ورثة له نعم إن اطرد العرف بأن المنذور لأبيهم يصرف لهم عمل به فيهم وصرف لهم لا من حيث كونهم ذريته بل للعرف إذ لو اطرد بالصرف لأجانب مخصوصين صرف إليهم، والله سبحانه وتعالى أعلم.
"وسئل" عما إذا نذر البائع للمشتري بمثل ثمرة الشجرة المبيعة أو بمثل أجرة الأرض المبيعة إلا خرج المبيع مستحقا فهل هذا نذر لجاج لأن نذر اللجاج هو المعلق بأمر مرغوب عنه لا فيه أو هو نذر معلق على شرط يجب الوفاء به إذا وجد شرطه وما الفرق بينهما فإن كلا منهما فيه تعليق وهل يرجع إلى قول الناذر قصدي كذا مطلقا أو ما لم يقض الشرع بكفايته وعما لو كان لشخص دين معلوم على آخر فطالب رب الدين المدين بدينه فقال المدين ما عندي في هذا الوقت شيء فقال رب الدين أنذر لي بثلاثة آصع طعام في ذمتك إذا خرج الشهر ولم توفني ديني فنذر له بذلك كذلك هل هذا نذر لجاج أو معلق على شرط فإن قلتم لجاج فلو قال له قل إذا خرج الشهر المذكور ولم أوفك دينك ودعوت لي بالعافية أو بما تيسر فلك كذا فقال ذلك فهل يلزمه ما التزمه ويخرج بهذا عن نذر اللجاج أو لا؟ "فأجاب" نفع الله تعالى بعلومه المسلمين بقوله الذي نقله الشيخان عن الغزالي وأقره أن النذر في الصورة الأولى لغو ووجهه أن هذا مباح وهو لا يلزم بالنذر ولا نظر لكونه متضمنا لنحو الصدقة وذلك قربة لأنه على هذا الوجه الخاص أعني تعليقه وجعله في مقابلة ما ذكره ليس قربة ولا محرما فكان مباحا واعترض بأن القياس أنه نذر لجاج وقد يجاب بأن البائع لا يقصد بذلك إلا ترويج سلعته فمن جعلوه لغوا نظروا لمعاني العقود دون صيغتها وهي قاعدة شهيرة تارة يغلبون فيها النظر إلى الصيغ وهو الأكثر وتارة يغلبون فيها النظر إلى المعنى إذا قوي بعاضد كموافقة الغالب هنا فإفتاء بعضهم بأن ذلك نذر لجاج لعله أخذه من الاعتراض المذكور وقد بان الجواب عنه وأما النذر في الصورة الثانية فالظاهر أنه لغو أيضا لأنه علقه على حرام أو مباح وكل منهما لا

 

ج / 4 ص -257-        يصح نذره لأنه إذا قال إن خرج الشهر ولم أوفك دينك فعلي كذا كان معلقا على خروج الشهر وعدم وفاء الدين وعدم وفائه مع وجود شيء يوفي منه حرام لأن أداء الدين واجب على الموسر بعد الطلب ومع عدم ذلك مباح وضمه إلى ذلك الدعاء لا يقلبه صحيحا لأنه علقه على شيئين أحدهما باطل فبطل وإنما لم يصح فيما يصح ويبطل فيما يبطل لأن التعليق الواحد لا يتبعض، والله سبحانه وتعالى أعلم.
"وسئل" رحمه الله تعالى بما صورته وصل ما تفضل به سيدي فجزاه الله تعالى عنا وعن المسلمين خير الجزاء والقائل بأن ذلك نذر لجاج في الصورة الأولى هو الفقيه عبد الله بن الحاج فضل صاحب المختصر الذي شرحتموه ووجه ما ذكرتموه ظاهر وما وجه القائل بأن ذلك تعليق بصفة وهو أيضا من أكابر فقهاء الجهة لكن الحق أحق أن يتبع وما الفرق بين هذا وما قبله فإن كلا منهما تعليق بصفة وما ذكره سيدي في الصورة الثانية واضح فجزاكم الله تعالى خيرا لكن هل للدائن سبيل على حث المدين على وفاء الدين بصورة نذر يلتزمها المدين بغير صورة لجاج ويلزمه ما التزمه أو لا؟ "فأجاب" نفع الله تبارك وتعالى به بقوله الحيلة في ذلك أن يتفقا على زمن لقضاء الدين ثم يقول المدين للدائن إذا جاء الزمن الفلاني فلله علي لك كذا فتعلق بمضي الزمن فقط، والله سبحانه وتعالى أعلم.
"وسئل" في عادة اطردت عند قضاة الحجاز وهو أن المستأجر أو المشتري إذا خاف من إظهار فتنة أو منازع آخر يقولون للبائع قل نذرت إلا قام قائم شرعي على المشتري بنذر له بنظير ما يقام به عليه ومقصودهم إذا أخذت منه الأرض بوجه شرعي يرجع المشتري بمثل ما أخذ منه من الأرض ويحكم بذلك النذر حاكم البيع من جملة الحكم هل يصح ذلك النذر أم لا؟ "فأجاب" نفعنا الله سبحانه وتعالى به بقوله النذر المذكور باطل فلا يجوز الحكم به، والله سبحانه وتعالى أعلم.
"وسئل" رحمه الله تعالى في رجل نذر سكنى المدينة فهل يكون نذره قربة فتلزمه وإذا قلتم باللزوم فهل يجزئه سكنى مكة قياسا على الاعتكاف وإذا قلتم بالقياس فما الجامع بينهما وإذا قلتم بعدمه فما الفرق أو يكون قياس نذر سكنى المدينة كقياس نذر المشي إلى البيت الحرام يلزم مع كون الركوب أفضل وما القياس فيه والفرق وهل الأفضل في سكنى المدينة، أو الاعتكاف في مسجدها إتمام ما التزمه أو تكون مكة مجزئة مع الأفضلية؟ "فأجاب" نفعنا الله سبحانه وتعالى بعلومه بقوله سكنى المدينة سنة إن أمن من الوقوع في محذور وحينئذ فيصح نذرها كما أفهمه كلامهم في باب النذر وأفهم كلامهم فيه أنه لا يجزئ عنها سكنى مكة وإن كانت أفضل كما لو نذر المشي لا يجوز الركوب وكما لو نذر التصدق بالدراهم لا يجوز بالذهب لأن المشي فيه مشقة مقصودة للشارع لا توجد في الركوب وكذا الدرهم فيها ما لا يوجد في الذهب مع مخالفة الجنس وكذلك سكنى المدينة

 

ج / 4 ص -258-        فيها من المشقة وغيرها ما لا يوجد في مكة ويؤيد ذلك قولهم لو نذر جهادا وعين له جهة في نذره أجزأه غيرها إن ساوتها مسافة ومؤنة وإلا فلا فأفهم ذلك أن سكنى مكة لا يجزئ عن سكنى المدينة وإن كانت أفضل لأنهما غير مستويين في ذلك وغيره ويفرق بين السكنى والاعتكاف بأنه منوط بالمسجد من حيث ذاته فلم يختلف الغرض باختلاف ذوات المساجد غير الثلاثة وأما هي فالاختلاف بينهما إنما جاء في أمر تابع هو مجرد الفضيلة فأجزأ الفاضل عن المفضول ولا عكس وأما المشقة ونحوها فالثلاثة مستوية فيها بخلاف السكنى كما مر والحاصل أن نفس الاعتكاف لم يختلف باختلاف المحال إلا في الأفضلية فحسب والسكنى مختلفة باختلاف المحال في الأفضلية وغيرها ومتى وقع الاختلاف في غير الأفضلية لم يجز أحدهما عن الآخر وحيث عين في نذره شيئا فالأولى فعله وإن قلنا بأن غيره الأفضل يجزئ عنه، والله سبحانه وتعالى أعلم.
"وسئل" رحمه الله تعالى في حقيقة نذر التبرر وما الفرق بينه وبين نذر اللجاج فقد ذكر في الأنوار ما معناه أن نذر التبرر تعليق قربة على حصول نعمة أو اندفاع نقمة فهل هو مقصور على ذلك أو ما يظهر منه الحث والمنع لجاج والباقي تبرر ويظهر ذلك فيما لو قال إن سقط هذا الجدار فعلي أن أتصدق بكذا وكذا أو إن استحق منك يا فلان هذا المال بدعوى من فلان أو من أحد فنذر علي أن أتصدق عليك بكذا فهل هذا نذر لجاج أو تبرر وأما قوله إن دخل فلان الدار أو لم يدخل فلله علي كذا فظاهر أنه لجاج فبينوا لنا حقيقة ذلك جزاكم الله تبارك وتعالى خيرا؟ "فأجاب" نفعنا الله سبحانه وتعالى بعلومه بقوله النذر إما تبرر أو لجاج والتبرر إما مجازاة أو ملتزم ابتداء فالمجازاة هو تعليق التزام قربة في مقابلة حدوث نعمة أو اندفاع نقمة كما لو قالوه أو كل ما يجوز أن يدعوا الله تعالى به وأن يسأله إياه كما قاله الصيمري وطرده القاضي في كل مباح قال في الكفاية وهو أفقه وأوضح فالحاصل أنه تعليق التزام القربة في مقابلة ما يرغب فيه سواء أكان حصوله على ندور أم لا وغير المجازاة كلله علي أن أصلي مثلا ولا يشترط في القسمين الإضافة إلى الله سبحانه وتعالى خلافا للقاضي وأما نذر اللجاج فهو تعليق القربة بما يرغب عنه وهو معنى قول الشيخين هو أن يمنع نفسه من شيء أو يحثها عليه بتعليق التزام قربة وقد يكون لتحقيق خبر أيضا كأن لم يكن كما قلت فلله علي كذا ثم الصيغة إن كانت نصا في التبرر أو اللجاج فظاهر ولا يحتاج هنا إلى قصد وإن احتملتهما اشترط قصد الناذر فإن قصد شيئا عمل به فإذا قال إن دخلت الدار فمالي صدقة كان نذر لجاج لأنه مفهوم منه فكان كقوله علي أن أتصدق بمالي فإما أن يتصدق بكله وإما أن يكفر كفارة يمين ولتبادر اللجاج من هذه الصيغة لم يحتج لقصده كما أفهمه إطلاقهم بخلاف التبرر فإن هذه الصيغة وإن احتملته لكنه غير متبادر منها فاحتيج إلى قصده فإذا أراد بها إن رزقني الله سبحانه وتعالى دخول الدار بأن رغب دخولها كانت نذر تبرر وكذا يقال في إن سقط هذا الجدار فعلي أن أتصدق بكذا فهو نذر

 

ج / 4 ص -259-        لجاج إلا أن يريد إن رزقني الله تعالى سقوطه بأن يكون سقوطه مرغوبا فيه فيكون نذر تبرر لما تقرر أن المرغوب فيه تبرر والمرغوب عنه لجاج وضبط ذلك الأئمة بأن الفعل إما طاعة أو معصية أو مباح والالتزام في كل منهما تارة يتعلق بالإثبات وتارة يتعلق بالنفي فالإثبات في الطاعة كأن صليت فعلي كذا يحتمل التبرر يريد إن وفقني الله تبارك وتعالى لصلاة فعلي كذا واللجاج بأن يقول له صل فيقول لا أصلي وإن صليت فعلي كذا والنفي في الطاعة كأن يمنع من الصلاة فيقول إن لم أصل فعلي كذا لا يحتمل غير اللجاج إذ لا بر في ترك الطاعة والإثبات في ترك المعصية كأن يؤمر بشرب الخمر فيقول إن شربتها فعلي كذا لا يحتمل غير اللجاج أيضا لما تقرر والنفي فيها كأن لم أشربها فعلي كذا يحتملها التبرر بأن يريد إن عصمني الله تعالى من شربها واللجاج بأن يمنع من شربها فيقول إن لم أشربها والمباح نفيا وإثباتا يحتملها فالتبرر في النفي كأن لم آكل كذا فعلي كذا بقصد إن أعانني الله على كسر شهوتي فتركته فعلي كذا وفي الإثبات كإن أكلت كذا بقصد إن يسره الله تبارك وتعالى لي وللجاج في النفي كقوله وقد منع من أكل الخبز إن لم آكله فعلي كذا وفي الإثبات وقد أمر بأكله إن أكلته فعلي كذا وبما تقرر علم أن قوله إن استحق منك يا فلان هذا المال إلخ يتصور أن يكون تبررا بأن يكون الناذر ادعاه لنفسه وأراد إثباته لها لأنه علقه بمرغوب فيه حينئذ وأن يكون لجاجا بأن يترتب على استحقاقه ضرر الناذر مثلا لكونه كان تحت يده فيكون طريقا في الضمان مثلا لكونه مرغوبا عنه حينئذ وقول الشيخين نقلا عن الغزالي وأقره لو قال البائع للمشتري إن خرج المبيع مستحقا فلله علي أن أهبك ألفا كان لغوا اعترضه كثيرون بأن الوجه انعقاد النذر وغايته أنه لجاج وأجبت عنه في شرح العباب بأن البائع لا يقصد بذلك غالبا بل دائما إلا ترويج سلعته فمن ثم جعلوه لغوا نظرا لمعاني العقود دون صيغها وإن كان النظر للصيغ أكثر وقول السائل في إن دخل أو لم يدخل الظاهر أنه لجاج ليس على إطلاقه لما تقرر أن ذلك يحتمل التبرر واللجاج لأنه قد يريد إن وفقه الله سبحانه وتعالى للدخول أنه كأكل الخبز وقد علمت أنه يتصور فيه نذر اللجاج والتبرر نفيا وإثباتا كما صرحوا به وأنهم لم يخصوا ذلك بالدخول بل أجروه في كل مباح ومنه الدخول فكلامهم مصرح بأن الدخول نفيا وإثباتا يحتمل النذرين بالمعاني التي قررناها فكيف مع ذلك يقال فظاهر أنه لجاج، والله سبحانه وتعالى أعلم.
"وسئل" رحمه الله تعالى هل يصح النذر على بعض أولاده دون بعض وإذا أراد النذر على جميعهم فنذر على الأول ثم الثاني إلى آخرهم ما حكمهم بينوا ذلك؟ "فأجاب" نفعنا الله سبحانه وتعالى بعلومه بقوله واختلف المتأخرون من أهل اليمن في النذر على بعض الأولاد فقال جماعة منهم كالفتى وتلميذه الكمال الرداد والجمال بن حسين القماط واقتضاه كلام البدر بن شهبة أنه باطل لأن شرط النذر القربة ولا قربة في ذلك بل هو مكروه كما صرح به النووي في تنقيح الوسيط وقول الوسيط كان تاركا للأحب عبارة ناقصة

 

ج / 4 ص -260-        والصواب ما قاله الأصحاب فإن الحديث مصرح بشدة كراهيته بل صرح ابن حبان في صحيحه بعدم جوازه وأطنب فيه لخبر الصحيحين بأن أبا النعمان بن بشير نحله شيئا دون إخوته فطلب من النبي صلى الله عليه وسلم الإشهاد على ذلك فقال: "فلا تشهدني إذا فإني لا أشهد على جور" والحرمة مذهب، وقال أكثر العلماء بالكراهة فقط لقوله صلى الله عليه وسلم: "فأشهد على هذا غيري"، ولو كان محرما لم يأذن له في إشهاد غيره عليه والجور الميل والمكروه مائل عن سنن الاستقامة فلا دليل للحديث في الحرمة وقال آخرون يصح النذر منهم الشيخ نجم الدين يوسف المقري والفقيه عبد الله بن أحمد بامخرمة وهذا هو الذي يتجه ترجيحه لأن الذي دل عليه كلامهم في باب النذر أن مرادهم وبقولهم لا ينعقد نذر المكروه المكروه لذاته بخلاف المكروه لمعنى خارج عن ذاته بأن تكون ذاته قربة وإنما اقترن بها أمر خارج عنها صيره مكروها فهذا ينعقد نذره كما صرحوا به في مسائل منها صوم الدهر فقد أطلق في الروضة انعقاد نذره مع أنه قد مر في باب الصوم كراهته في بعض الصور وأبلغ من ذلك قوله في شرح المهذب لا خلاف في انعقاد نذره ولزوم الوفاء به وكلام الرافعي صريح في صحة نذره وإن قلنا بكراهته على توقف فيه وعبارته إذا نذر صوم الدهر انعقد نذره وقد ذكرنا في آخر الصيام أن منهم من أطلق القول بكراهته ولا يبعد أن يتوقف على ذلك التقدير في صحته لأن النذر تقرب والمكروه لا يتقرب به والمذهب انعقاده اهـ.فتأمل قوله والمذهب انعقاده بعد ذكره التوقف وعليه فقد أجاب المحقق الشمس الجوجري في شرح الإرشاد عن ذلك بكلام حسن فقال فإن قلت فهل للتوفيق بين ما في الروضة والمجموع والشرح هنا من إطلاق الانعقاد وبين ما ذكرناه في صوم التطوع من الكراهة إما مطلقا أو على التفصيل الذي نقل وجه أم لا قلت يمكن أن يقال في وجه التوفيق أن ما ذكر هنا لأجل أن الصوم في نفسه قربة وطاعة فصح التزامه بالنذر ووجب الوفاء به مطلقا من غير تفصيل ما ذكر هنا من الكراهة ليس راجعا إلى الصوم من حيث ذاته بل باعتبار ما يعرض له من خوف الضرر والفوت فالمكروه في الحقيقة هو التفويت والتعرض للضرر لا نفس الصوم ويؤيد ما ذكرته أن البغوي صرح بالكراهة وبانعقاد النذر وحينئذ فقول المطلق أن كلام التنبيه صريح في عدم الصحة لأنه قال لا يصح النذر إلا في قربة غير ظاهر ومثل عبارة التنبيه في ذلك عبارة الحاوي النذر التزام قربة فلا يقتضي تخصيص ذلك بالتنبيه اهـ. فتأمله تجده صريحا في صحة النذر في مسألتنا وإن أعطى بعض الأولاد صدقة وهي من حيث ذاتها قربة وإنما كرهت في هذا الفرد الخاص لما يترتب عليها من التخصيص المؤدي إلى العقوق فحينئذ الصدقة والصوم قربتان في ذاتهما وقد يعرض لهما ما يصيرهما مكروهين لأمر خارج عنهما فإذا قالوا بانعقاد صوم الدهر وإن قلنا بكراهته فليقولوا بانعقاد النذر في صورتنا ولا نظر إلى الكراهة كما علمت وبما تقرر يندفع ميل الأذرعي الآخذ بقضية توقف الرافعي وتعجبه من جمع البغوي بين القول بالكراهة وانعقاد النذر وإن تبعه

 

ج / 4 ص -261-        غيره على ذلك وأطالوا فيه وقد بسطت الكلام على ذلك في شرح العباب وبينت رد ما وقع للزركشي وغيره هنا مما يؤيد ما قلناه ثم هو أصرح في المراد مما سبق تصريحهم بانعقاد نذر صوم الدهر من المرأة المزوجة بغير إذن زوجها ومن الرقيق بغير إذن سيده ولم ينظروا إلى حرمة الصوم عليهما بغير إذن الزوج والسيد لأن الحرمة ليست لذات الصوم لما عرض من تفويت حق الزوج والسيد فإذا كانت الحرمة العارضة للعبادة غير مانعة من انعقاد نذرها فأولى أن تكون الكراهة العارضة لها غير مانعة من انعقاد نذرها فاتضح ما ذكروه من انعقاد نذر صوم الدهر وما ذكرناه من انعقاد نذر إعطاء بعض الأولاد وأصرح مما قلناه في انعقاد صوم الدهر مع كراهته تصريح الشيخين بصحة نذر صوم يوم الجمعة مع كراهته فإنهما وغيرهما صرحوا بأنه لو نسي اليوم المعين من الأسبوع صام الجمعة وعللوه بأنه آخر الأسبوع فإن كان اليوم المعين غيره فهو قضاء وإن كان هو المعين فهو أداء فقولهم فهو أداء صريح في صحة نذره وإذا صح نذره مع كراهته لأنها لمعنى خارج عن ذات الصوم وهو الإضعاف عما فيه من الوظائف الدينية فكذلك يصح إعطاء بعض الأولاد مع كراهته وإذا تأملت ما ذكرته من كلامهم في هذا ظهر لك أن ما مر عن الأذرعي وغيره من النزاع في انعقاد نذر صوم الدهر إذا قلنا بكراهته غفلة عن كلامهم هذا أعني الذي ذكروه في انعقاد نذر صوم الجمعة مع كراهته وكذلك ظهر لك أيضا أن من قال في نذر إعطاء بعض الأولاد بالبطلان غفل عما قالوه في صوم الدهر وصوم الجمعة ونظر إلى مجرد قولهم لا يصح نذر المكروه فتأمل ذلك ولا تغتر بغيره ومحل الخلاف فيما إذا لم يكن للمنذور إعطاؤه من الأولاد صفة تقتضي تميزه كفقر وصلاح واشتغال بعلم وإلا انعقد نذر إعطائه اتفاقا إذ لا كراهة فيه حينئذ وعلى ما رجحته فلا فرق إذا أراد النذر لجميعهم بين أن ينذر للكل معا أو واحدا بعد واحد، والله سبحانه وتعالى أعلم.
"وسئل" رحمه الله تعالى عما لو تواطآ على أنه إلا أقرضه مالا معلوما نذر عليه بعد صحة الإقراض بمال معلوم القدر في ذمته في عين كل سنة مدة بقاء الدين ثم حققا ذلك هل هذا النذر صحيح أم لا فقد رأيت جوابا لبعض علماء زبيد ببطلانه ولآخر بصحته وأطال فيه الكلام وشرط فيه شروطا كون الدين حالا وعجز المدين عنه بحيث لو طولب به لأدى إلى فقره ومسكنته أو إخراجه من داره أو أخذ ضيعته التي مؤنته منها وأن يقيد النذر بقوله إلى أن يوسر وبسط فيه كثيرا فما التحقيق في ذلك الذي لا يعتمد في الفتيا على غيره؟ "فأجاب" نفعنا الله سبحانه وتعالى بعلومه بقوله إذا تواطآ على أن يقرضه مالا وينذر كل سنة بشيء معين فأقرضه ثم نذر المقترض لمقرضه بدينار مثلا كل سنة ما دام هذا المال في ذمته فالذي يتجه لي في هذه المسألة أنه إن أتى بهذا النذر على قصد الوفاء بما تواطآ عليه لم يصح لأن المواطأة المذكورة مكروهة فالوفاء بها مكروه والمكروه لا يصح نذره والدليل على كراهة تلك المواطأة قولهم لو تواطأ العاقدان على نحو الطلاق قبل

 

ج / 4 ص -262-        النكاح ثم عقدا بذلك القصد بلا شرط كره كما قاله الماوردي وغيره خروجا من خلاف من أبطله ولأن كل ما لو صرح به أبطل إذا أضمره كره فكراهة العقد بهذا القصد صريحة في كراهة النذر بذلك القصد وحيث كره النذر والمنذور به فلا يمكن الانعقاد وقد بان بما قررته كراهة النذر والمنذور به إذا قصد به الوفاء بما تواطآ عليه وفي هذه الحالة لا فرق بين أن يكون الناذر فقيرا والدين حالا وأن يكون بخلاف ذلك وإن قصد به محض القربة والتصدق أو الإهداء إلى المقرض كل سنة من غير أن يجعله في مقابلة مواطأة ولا غيرها صح النذر لأنه حينئذ قربة كالمنذور به وإن قصد به جزاء شكر نعمة الصبر عليه ولو لإعساره مع حلول الدين صح أيضا أخذا من قول القاضي حسين في آخر الأيمان لو شفي مريضه فقال لله علي عتق رقبة لما أنعم علي من شفاء مريضي لزمه الوفاء بالمنذور قولا واحدا كما لو علق بشفائه قال البلقيني وكأنه نظر إلى أن هنا جزاء شكر النعمة فأنزله منزلة المجازاة المعلقة قبل الحصول وهذا كلام حسن معتمد اهـ. وقال الزركشي إنه قياس سجود الشكر اهـ. ويؤيده أيضا قولهم في نذر المجازاة هو أن يعلق التزام المال على حصول نعمة يرجوها من مال أو جاه أو ولد أو اندفاع نقمة يحذرها كنجاة من هلكة وضبطه الصيمري بأن يعلق القربة على حصول ما يجوز أن يدعو الله تبارك وتعالى به وأن يسأله إياه فإذا حصل لزمه الوفاء بنذره. اهـ. ولا شك أن المقترض بعد أن افترض ولزم الدين ذمته إذا نذر لمقرضه كل سنة بكذا انحل هذا النذر إلى أن المراد به نذرت لك علي بكذا كل سنة إن صبرت علي فجعل هذا النذر مجازاة لصبره عليه وصبره عليه فيه نعمة لرفقه بذلك المال واندفاع نقمة عنه من نحو مطالبته وحبسه وإضراره فدخل حينئذ هذا النذر بهذا القصد في كلامهم فاتضح صحته ولزوم الوفاء به وإن أطلق الناذر نذره ولم ينو به شيئا فهو محل التردد لأنه يحتمل المعنى المبطل وهو الحالة الأولى السابقة والمعنى المصحح وهو الأحوال الثلاثة التي بعدها والذي يفهمه قولهم السابق في مسألة النكاح ثم عقدا بذلك القصد الصحة هنا في حال الإطلاق وهو متجه إذ الصيغة بوضعها صحيحة وإنما أبطلها قصد الوفاء بالمواطأة المكروهة ونحوه فإذا خلت عن ذلك القصد المبطل لزم الحكم بصحتها إذ لم يقترن بها حينئذ مبطل ظاهرا ولا باطنا ومما يدل لتأثير القصد في صحة النذر المحتملة بحث الأذرعي في امرأة نذرت الجهاد أنها إن أرادت به القتال ومكافحة الأبطال لم ينعقد نذرها وإن قصدت به مداواة الجرحى ونحو ذلك من القيام بمصالح المجاهدين انعقد نذرها فقد كن في الصدر الأول يخرجن لتلك اهـ. بل قد صرح الشيخان كجماعة بنحو ذلك فقالوا قد تتردد الصيغة فتحتمل نذر التبرر وتحتمل نذر اللجاج فيرجع فيه إلى قصد الشخص وإرادته وفرقوا بينهما بأنه في نذر التبرر يرغب في السبب وهو شفاء المريض مثلا بالتزام المسبب وهو القرابة المسماة وفي نذر اللجاج يرغب عن السبب لكراهته الملتزم اهـ. وإذا تأملت فرقهم المتضمن لحد نذر التبرر المتعين الوفاء

 

ج / 4 ص -263-        به بما ذكر علمت أن النذر في مسألتنا من أقسام نذر التبرر إلا في الحالة الأولى وهي ما قصد الوفاء بالمواطأة وفي غير هذه الحالة لا فرق بين أن يكون المقرض فقيرا أو غنيا فقد صرح القاضي حسين بصحة النذر للغني لأن التصدق عليه قربة فجاز التزامه بالنذر وفي فتاوى الولي أبي زرعة ما يؤيد ما قدمته فإنه سئل عمن نزل لآخر عن أرض يستحق منفعتها بالإقطاع فالتزم المنزول له بالنذر الشرعي أنه إذا خرج له منشور إقطاعها بمقتضى ذلك النزول دفع له كذا فوجدت الصفة فهل يصح هذا النذر فأجاب بصحته وأنه نذر مجازاة ولا ينافيه ما نقله الشيخان عن فتاوى الغزالي وأقراه من أن البائع لو قال للمشتري إن خرج المبيع مستحقا فلله علي أن أهب منك مائة دينار لم يصح لأنه مباح وذلك لأن هذا نذر لجاج إذ ليس للبائع غرض في أن يخرج المبيع مستحقا وإنما يفعل ذلك تحقيقا لزعمه ودفعا لقول قائل ليس هذا ملكه بخلاف المنزول له فإن له غرضا في أن يصير الإقطاع له وهي نعمة فيشكر الله عليها بما يدفعه للناذر فإن قبل لم يستند الغزالي في البطلان إلى كونه نذر لجاج وإنما استند إلى أنه مباح فنذر اللجاج في صورته وصف طردي قلنا صورة الغزالي صرح فيها بأن المدفوع هبة وأما هذه فلم يصرح فيها به فيجوز أن يكون صدقة قصد بها ثواب الآخرة وبتقدير أن لا يقصد به الصدقة فهو مندوب لكونه مكافأة ليد سبقت من النازل بسبب نزوله والمكافأة على الإحسان مطلوبة شرعا وهذا منتف في صورة الغزالي اهـ. فتأمل قوله وبتقدير أن لا يقصد به الصدقة فهو مندوب إلخ تجده صريحا فيما ذكرته من الصحة في مسألتنا في الأحوال الثلاثة وبما قررته يعلم الرد على من أطلق البطلان فيها وعلى من قيد الصحة فيها بتلك الشروط ويعلم أيضا أن الوجه ما قلناه من التفصيل المصرح به في كلامهم فتأمل ذلك فإنه مهم، والله سبحانه وتعالى أعلم.
"وسئل" رحمه الله تبارك وتعالى عمن نذر لعمرو بمال ومراده إلا لم يبع بكر داره من عمرو ومراده أن بكرا لا يترك البيع بل يخالف في ذلك ما حكم النذر وعمن قال لآخر تعلم كذا وكذا إن معك حولا ضيعة نفيسة فقال كالمازح هي نذر عليك ما الحكم وإذا قال أردت غيرها ما الحكم؟ "فأجاب" نفعنا الله سبحانه وتعالى بعلومه بقوله النذر لعمرو في صورته المذكورة يحتمل اللجاج والتبرر وقد مر الفرق بينهما بأنه في نذر التبرر يرغب في السبب وهو شفاء المريض مثلا بالتزام المسبب وهو القربة المسماة وفي نذر اللجاج يرغب عن السبب لكراهته الملتزم فعدم بيع بكر داره من عمرو وإن أحبه الناذر ورغب فيه لغرض صحيح له فيه كان النذر تبررا فيلزمه ما التزمه لعمرو وإن كرهه الناذر أو لم يرغب فيه كان نذر لجاج فيتخير بين أن يعطي عمرا ما التزمه له وبين كفارة يمين وينعقد النذر بقوله هي نذر عليك وإن كان مازحا على أن الصيغة تحتمل الإقرار وهو صحيح مع المزح أيضا ولا يقبل قوله أردت غيرها لأن كلامه صريح فيها، والله سبحانه وتعالى أعلم.

 

ج / 4 ص -264-        "وسئل" عمن عليه دين لرجل فنذر على آخر بجميع أملاكه أو وقفها عليه ما الحكم وإن كان الناذر أو الواقف هو الضامن هل حكمه حكم الأصيل؟ "فأجاب" نفعنا الله تبارك وتعالى بعلومه بقوله من عليه دين يستغرق ماله وليس له جهة ظاهرة يرجو الوفاء منها فنذر التصدق بجميع ماله لم ينعقد ذلك النذر كما بحثه الأذرعي وتبعه الزركشي وغيره لأن الأولين قيدا لزوم التصدق بكل المال في قول الأصحاب لو نذر ماله لسبيل الله لزمه التصدق بكله على الغزاة فقالا ومحل لزوم التصدق بكل ماله فيما تقرر ما إذا لم يكن عليه دين لا يرجو له وفاء أو ليس له من يلزمه مؤنته وهو محتاج إلى صرفه له فإن كان كذلك لم ينعقد نذره لذلك لعدم تناوله له لأنه يحرم عليه التصدق بما يحتاج إليه لذلك اهـ. وبه علم انعقاد النذر الذي يحتاج إليه لما ذكر لأنه حيث لم يرج الوفاء من جهة ظاهرة لدينه كان ما يحتاج إليه للوفاء به متعينا للوفاء فلم يتناوله النذر وبهذا يفرق بين عدم انعقاد النذر هنا وانعقاده لبعض الأولاد وإيضاحه أن المنذور به هنا متعين الصرف إلى الدين أو العيال أو النفس إذا لم يصبر على الإضافة وحيث تعين صرفه لذلك لم يتناوله النذر لأنه إنما يتناول القربة الذاتية وإن اقترن بها حرمة أو كراهة لأمر خارج والتصدق بالمحتاج إليه لما ذكر ليس قربة مطلقا لا لذاته ولا لأمر عارض وأما إعطاء بعض الأولاد فهو من جزئيات الصدقة المندوبة والكراهة فيه إنما هي لأمر خارج فلم يمنع انعقاد النذر ويدل على أنها لأمر خارج قولهم لا يكره تخصيص بعض الأولاد لنحو فقر أو علم وأما المحتاج إليه لما مر فالحرمة بالتصدق به أمر ذاتي لا يمكن انفكاكه عنه فاتضح فرقان ما بين المسألتين فإن قلت يمكن زوال الحرمة برضا الدائن أن يتصدق به قلت إذا وجد رضاه خرجت المسألة عن فرضها الذي الكلام فيه وهو أن يحتاج إلى صرف المنذور به في الدين ومع الرضا لا احتياج فلم توجد صورة المسألة فلا يرد ذلك على ما نحن فيه وبعد أن تقرر لك ذلك في النذر واتضح فلا يخفى عليك إلحاق الوقف بالنذر إذ هما من واد واحد من حيث إن كلا قربة وإنه لا ينعقد في مكروه ولا محرم فلو كان لمدين أرض متعينة الصرف إلى قضاء دينه الذي لا يرجو له الوفاء من جهة ظاهرة غيرها فوقفها لم ينعقد وقفه ثم رأيت الأصبحي أطلق في فتاويه صحة وقف المديون في صحته قبل الحجر عليه ويتعين حمله على ما ذكرته بأن يكون له جهة ظاهرة يرجو الوفاء منها فحينئذ يصح وقفه وإن كان مدينا والذي يدل عليه كلامهم في باب الضمان أن الدين المضمون ثابت في ذمة الضامن كما أنه ثابت في ذمة المضمون عنه إذ حقيقة الضمان ضم ذمة إلى ذمة وإذا ثبت لزوم الدين لزمته فيكون نذره ووقفه بما يحتاج إليه ما ذكر في غير الضامن فلا يصح منه نذر ولا وقف له لما ذكرنا، والله سبحانه وتعالى أعلم.
"وسئل" رحمه الله تعالى عن شخص نذر على آخر بقطعة من داره ثم منع الناذر المنذور عليه من المرور في الدار إلى القطعة هل له ذلك أو لا؟ "فأجاب" نفعنا الله تبارك وتعالى به

 

ج / 4 ص -265-        بقوله: الجواب عن هذه المسألة يحتاج إلى مقدمة وهي أنهم صرحوا بأن بيع الإنسان لقطعة من أرض محفوفة بملكه من سائر الجوانب صحيح وللمشتري الممر من كل جانب وإن لم يقل بعتكها بحقوقها لتوقف النفع عليها فهو كبيعها بحقوقها فإن شرط الممر من جانب ولم يعينه أونفاه لم يصح البيع لتعذر الانتفاع بالمبيع حالا وإن أمكن تحصيل ممر له بعد وشرط البغوي عدم إمكان تحصيله وحيث اشترى ما يلي ملكه أو الشارع مر في أحدهما لا في ملك البائع إلا أن قال بحقوقها ومن باع دارا واستثنى لنفسه بيتا منها مر منها إليه ما لم يتصل البيت بملكه أو شارع كما ذكره القاضي حسين فإن نفى الممر ولم يمكن تحصيله لم يصح البيع كبيع ذراع من ثوب ينقص بالقطع وصرحوا أيضا بأن ما جاز بيعه جازت هبته وما لا فلا غالبا فيهما ومن غير الغالب نحو حبتي الحنطة فتجوز هبتهما وإن امتنع بيعهما ذكره في المنهاج واعتمده الأذرعي وغيره إذ لا محذور في التصديق بتمرة أو بشقها فكذا في الهبة لكن قال ابن النقيب إن ما في المنهاج سبق قلم أو وهم لما في الرافعي من أن ما لا يتمول لحبة حنطة أو زبيبة لا يباع ولا يوهب اهـ. والذي يتجه أنه لا خلاف بل الأول محمول على ما إذا أراد بهبته نقل اليد عنه كما مال إليه الإمام والثاني محمول على ما إذا أراد تمليكه لتعذر تمليكه إذا تقرر ذلك فنذر قطعة الأرض المذكورة يحتمل تخريجه على بيعها فيأتي في نذرها ما ذكرناه في بيعها فيصح النذر بها وإن احتفت بملك الناذر من سائر الجوانب وللمنذور له الممر من كل جانب وإن لم يقل الناذر بحقوقها ويبطل إن شرط له الممر من جانب مبهم أو نفاه وإذا نذر له بما يلي ملكه أو الشارع مر في أحدهما لا في ملك الناذر إلا أن قال بحقوقها ومن نذر بدار واستثنى لنفسه بيتا منها مر منهما إليه ما لم يتصل البيت بملكه أو بشارع فإن نفى الممر ولم يكن تحصيله لم يصح النذر هذا كله ما يقتضيه قياس النذر على البيع بجامع أن كلا يقتضي الملك وإن افترقا من وجوه كثيرة ويحتمل تخريجه على هبتها فيأتي في نذرها ما ذكرناه في هبة ما لا يتمول فعلى ما في المنهاج يصح نذرها مطلقا وللمنذور له الممر إليها ما لم يتصل بملكه أو بالشارع لأنه حينئذ لا حاجة به إلى المرور في ملك الغير وأما على ما قلناه من الحمل فلا يأتي ذلك إلا إن أراد بالنذر بها في الصورة التي لا ينتفع بها فيها بأن شرط الناذر عدم الممر إليها من ملكه ولا يمكن تحصيل ممر آخر لها نقل اليد عنها لا تمليكها وأما على ما في الرافعي وكذا على ما بحثناه إن أراد بالنذر بها في الصورة المذكورة تمليكها فلا يصح النذر بها والذي يتجه من الاحتمالين هو الثاني أعني قياس النذر على الهبة لا على البيع لأن بين البيع والنذر تجانسا أعم وهو مطلق إفادة الملك وبين النذر والهبة تجانسا أخص وهو إفادة ذلك مع كون كل منهما قربة بذاته ولا شك أن التشابه الأخص أولى رعاية من التشابه الأعم فكان إلحاق النذر بالهبة أولى وأحق وحينئذ فيصح نذر القطعة المذكورة مطلقا حتى في الصورة التي لا يصح بيعها فيها بناء على ما مر عن المنهاج وكذا على ما مر عن غيره إن أراد نقل اليد لا

 

ج / 4 ص -266-        التمليك وللمنذور له الممر من ملك الناذر إليها ما لم يتصل بملكه أو بشارع هذا ما ظهر لي في هذه المسألة ولم أر فيها نقلا، والله سبحانه وتعالى أعلم.
"وسئل" رحمه الله تعالى هل نذرت عليك بكذا صيغة صحيحة أو لا وكيف كيفية الصيغة التي لا خلاف فيها لمن أراد النذر بمال على آخر؟ "فأجاب" نفعنا الله تعالى بعلومه وبركته بقوله المعتمد أن نذرت من صرائح النذر لكن قال بعضهم محله حيث كان الملتزم قربة أو أضيف لما يتقرب به كنذرت للفقراء بخلاف نذرت لفلان بكذا قال فهذه محتملة للنذر وغيره فيظهر أنها كناية اهـ.وكلام الأنوار قد يدل لما قاله ومع ذلك فالأوجه أنها صريح مطلقا لشهرتها وورود أصلها ولا فرق بين نذرت لك ونذرت عليك بكذا والأولى لمن أراد أن ينذر لغيره بمال أن يقول لله علي أن أعطيك أو أتصدق عليك به أو بكذا أو نحو ذلك، والله سبحانه وتعالى أعلم.
"وسئل" رحمه الله تعالى عما إذا أراد الشخص أن ينذر بمال على مسجد أو مشهد صالح كيف الصيغة وإذا أراد أن يقف قطعة من الأرض ليحصل من غلتها زاد ويصرف على المحتاجين في مسجد معين أو مشهد صالح معين أو أراد أن يقفها ليشتري من غلتها شمعا أو نحوه ليسرج فيهما أو في أحدهما كيف كيفية الصيغة؟ "فأجاب" بقوله كيفية صيغة ما ذكر في السؤال أن يقول لله علي كذا لهذا المسجد أو لمصالحه أو لمصالح هذا المشهد أو المقيمين به أو نحوهم أو أن يقول وقفت هذا على المحتاجين بمحل كذا ليشتري من غلته زادا ويصرف إليهم أو وقفت هذا على أن يشتري من غلته شمعا أو نحوه ليسرج في محل كذا ومر أن صحة الوقف على السراج نحو الشمع مقيدة بما إذا كان هناك من ينتفع بالوقود ولم يقصد التقرب إلى من في القبر ولا التنوير عليه، والله سبحانه وتعالى أعلم.
"وسئل" عن حكم النذر للكافر؟ "فأجاب" بقوله يجوز النذر للكافر لأن الصدقة عليه قربة كما يجوز للغني لذلك.
"وسئل" عن الشخص إذا نذر لولده شيئا فهل له الرجوع فيه أم لا أفتى الفقيه جمال الدين الوصي المشهور بالبصال وغيره بأنه ليس له الرجوع وأفتى بعضهم بأن له الرجوع قال الأزرقي في شرح التنبيه والأول أقوم ففي الروضة الصدقة المذكورة كالزكاة والدين على المشهور وكما لا يرجع فيما دفعه إليه من لحم الأضحية فما الأرجح من ذلك؟ "فأجاب" نفعنا الله تبارك وتعالى بعلومه بقوله إن مأخذ من أفتى بالرجوع إلحاق النذر في الحكم بالصدقة مسلوكا به مسلك جائز الشرع وقد قال في الهبة من أصل الروضة أنه لو تصدق على ولده فله الرجوع على الأصح المنصوص لأن الصدقة نوع من الهبة وقد أطلق في الحديث الرجوع في الهبة لكن صحح الرافعي في الشرح الصغير منع الرجوع قال: لأن قصد المتصدق الثواب في الآخرة وهو موجود به فعلى ما في الشرح الصغير لا

 

ج / 4 ص -267-        وجه للإفتاء بالرجوع في مسألة النذر وأما على ما في الكبير والروضة وهو الأرجح فله وجه لكن أوجه منه مفارقة النذر للصدقة من حيث الوجوب بالنذر فالراجح منع منه الرجوع فيه حيث وجدت صيغة نذر صحيحة، والله سبحانه وتعالى أعلم.
"وسئل" رحمه الله تعالى عن شخص نذر للآخر بربع ماله مثلا معلقا بشيء كقبل مرض موته بيوم إن مات بمرض وساعة إن مات فجأة ثم توفي فهل يتناول النذر المعلق المذكور ما حدث من مال الناذر ولو بعد النذر وقبل وجود الصفة أو لا يتناول إلا ما كان موجودا حال تلفظه بالنذر وهل هو كالوصية في ذلك أو لا وهل لصاحب النذر المعلق بصفة التصرف في شيء عينه للنذر بالبيع وغيره قبل وجود الصفة أو لا وما المعتمد المفتى به في ذلك فقد اضطرب في ذلك فتاوى المتأخرين؟ "فأجاب" بقوله كلامهم إن ما حدث بعد النذر وقبل وجود الصفة لا يتناوله النذر ففي الجواهر وغيرها أن من نذر بنخلة إن شفى الله تعالى مريضه مثلا لم تدخل ثمرتها الحادثة قبل وجود الشرط وهو الشفاء في صورتنا بخلاف الحادثة بعد الشرط فإنها تتبع الأصل قال بعضهم وقضية كلام الجواهر أن ثمرة النخل الموجودة قبل وجود الشرط لا تتبع الأصل تأبر أو لا وفيه نظر اهـ. ومادة نظره النظر إلى ما في البيع من التفصيل بين المؤبر وغيره ويجاب بأن البيع أقوى من النذر فاقتضى استتباع غير المؤبر بخلاف النذر فإنه قبل وجود شرطه ضعيف لاحتمال أن لا يوجد شرطه فيكون لغوا من أصله فلم يقتض الاستتباع قبل وجود الشرط مطلقا وهذا فرق ظاهر لا غبار عليه وسيأتي قريبا ما يعلم منه فرق آخر وإذا علمت ذلك علمت منه ما ذكرته لأن الثمرة المتولدة من غير المال المنذور بعد النذر وقبل الشرط إذا لم تدخل فيه فأولى أن لا يدخل فيه ما حدث له من مال لم يكن حال النذر هو ولا أصله فإن قلت يمكن الفرق بأن ما حدث من المال يشمله قوله بربع مالي فليدخل فيه بخلاف الثمرة المذكورة فإنها لا تدخل في مسمى النخلة المنذورة قلت نفي عدم دخولها مطلقا ممنوع بل تدخل في مسماها في بعض الصور ولذا قال بعتك هذه الشجرة دخلت ثمرتها غير المؤبرة وقد علمت أنها لا تدخل هنا مطلقا فعلمنا أنه ليس الملحظ في عدم دخولها شمول الاسم لها أو عدمه وإنما الملحظ في ذلك إلحاقهم النذر بالطلاق والإعتاق في تقييده بالمملوك وإلغائه في غيره للخبر الصحيح لا نذر إلا فيما تملك فهذه القاعدة لم يدخل في ماله المنذور بربعه ما حدث بعد النذر لأنه لو دخل لم يكن سبب دخوله إلا النذر والنذر غير صالح لأن يتناول غير المملوك عند صيغته فتعذر دخول ما حدث فيه سواء أكان تابعا أو مستقلا وكذا الثمرة الحادثة بعده وقبل الشرط غير مملوكة عنده فلم يشملها ولم تتبع أصلها في ذلك لما تقرر فاستوت الصورتان أعني نذره بربع ماله ونذره بهذه الشجرة في هذا المعنى الظاهر الذي قررته وبه ظهرت أيضا أولوية عدم دخول المال الحادث لأن الثمرة التبعية فيها للشجرة أقوى منها في المال الحادث بالنسبة إلى الموجود حال النذر بل عنده التحقيق لا تبعية هنا

 

ج / 4 ص -268-        لأن كلا من الحادث والموجود مستقل بنفسه غير متوقف وجوده على وجود غيره ثم رأيت ابن الصلاح ذكر ما يؤيد الفرق الذي ذكرته فإنه سئل عن نذر التصدق بثلثي ما يحصل من غلة أرض وقفها في سبيل الله هل يلزم الوفاء به فأجاب بأنه لا يلزم لأنه لم يكن حال النذر مالكا لما يتحصل له من المغل قياسا على عدم صحة الطلاق والعتق فيما لا يملكه للخبر الصحيح ثم ذكر أن في التتمة ما يتوهم منه خلاف هذا وإن الأظهر عنده التفصيل بين أن يعلق زوال ملكه عن المغل بحصوله أي يصير صدقة بذلك فهذا ونحوه لا يصح كما ذكر وبين أن يلتزم أن يتصدق به حينئذ فيصح اهـ. والفرق بين صورتيه هاتين أن الأولى فيها نذر التصدق بمعين قبل ملكه وهو باطل بخلاف الثانية فإنه ليس فيها إلا التزام التصدق في الذمة وهو صحيح ثم رأيته في الروضة ذكر ما يصرح بهذا الفرق حيث قال يشترط في نذر القرب المالية كالصدقة أن يلتزمها في الذمة أو يضيف إلى معين يملكه فإن قلت فما الفرق بين النذر والوصية فإنها تتناول ما حدث وأيضا فقد ألحق بها في صحته بالمجهول ففي نفائس الأزرق النذر بالمجهول كالوصية به ذكره بعض الفقهاء وهو قويم فقد أفتى الفقيه أحمد بن حسن الحلي بأنه يصح النذر بحمل البهيمة وفي فتاوى ابن الصلاح أنه لو نذر بثلثي غلة ستحصل له صح نذره أي بتفصيله السابق اهـ. وأفتى القاضي بما هو صريح في ذلك أيضا حيث قال لو قال إن شفى الله تعالى مريضي فلله علي أن أتصدق بخمس ما يحصل لي من المعشرات فشفي لزمه التصدق بذلك ومما هو صريح فيه أيضا قول الأصحاب له نذر الهدية أو الصدقة لزمه ما يقع عليه الاسم وقول الأنوار لو نذر أن يتصدق بأحد الشيئين أو يعتق أحد العبدين فتلف أحدهما لزمه التصدق بالباقي أو إعتاقه وفي الكفاية ما يخالف ذلك والأول أوجه كما ذكرته في شرح العباب وبينت فيه أن البغوي أفتى بذلك ويوافق ذلك أيضا إفتاء البلقيني بصحة النذر بثمرة بستانه قلت الفرق بين النذر والوصية في تناولها ما حدث بخلافه ظاهر فإن الإلزام والالتزام فيه في الحال بخلافها فإن ذلك لا يكون إلا بعد الموت ولهذا كانت عقدا جائزا يجوز الرجوع فيها بخلاف النذر وقال كثيرون بصحتها من السفيه وببطلانه منه فناسب كون الإلزام والالتزام فيه حالا اعتبار وجود ما علق النذر به حال النذر وعدم تعديه إلى ما حدث بعده لانقضاء الالتزام فيه بانقضاء صيغة النذر وأما الوصية فلما أنيط الالتزام فيها بالموت لم يعتبر المال الموجود عندها بل عند ما نيطت به وهو الموت ومن الفرق الواضح بينهما أيضا أن الوصية تصح بالموجود والمعدوم والطاهر والنجس ولا كذلك النذر فعلم أنهم توسعوا فيها ما لم يتوسعوا فيه فإن قلت فما باله ألحق بها في صحته بالمجهول قلت الجامع بينهما أن كلا لا معاوضة فيه وإنما هو محض تبرع فساواها من هذه الحيثية وصح بالمجهول لأن الجهل إنما يؤثر فيما فيه معاوضة ونحوها حذرا من الغرر المنهي عنه ولا يلزم من تساويهما في هذا الحكم لظهور الجاه بينهما فيه تساويهما في حكم آخر غيره سيما مع ظهور الفارق

 

ج / 4 ص -269-        بينهما فيه فتأمل ذلك فإنه مهم وإن لم أر من صرح به، وأما المسألة الثانية فالكلام فيها ينبني على رفع الخلاف فيها بين الأصحاب وهي ما لو علق شفاء مريضه بعتق عبد معين له ثم علقه أيضا بقدوم غائبه فالقاضي يقول كما فهمه عنه الأذرعي في توسطه بعدم انعقاد النذر الثاني ويعتق عن الأول الذي هو الشفاء وإن سبقه القدوم لأنه بان بالشفاء أن العتق لا يكون إلا عنه لسبقه والعبادي يقول بانعقاد النذر الثاني كالأول ويعتق بالسابق منهما فإن وجدا معا أقرع بينهما وثمرة الإقراع وإن اتحد الزمن في عتقه حينئذ بيان وقوعه عمن خرجت القرعة له من أحد النذرين وإن كنا لا نوجب للآخر شيئا كما في السبق هذا ما نقله في الروضة عن فتاوى القاضي عن العبادي وأقره وجزم به ابن المقري في روضه واعترض بأن الذي في فتاوى القاضي عن العبادي غير ذلك وهو أن النذر الثاني موقوف فبالشفاء قبل القدوم أو معه يتبين أن الثاني لم ينعقد والعبد مستحق العتق عن الأول وإن مات انعقد الثاني وعتق العبد عنه وهذا هو الذي ارتضاه البغوي وجرى عليه في فتاويه لكن خصه بما إذا قال إن شفي مريضي فلله علي أن أعتق هذا ثم قال إن قدم غائبي فلله علي أن أعتقه وشبهه بما إذا أعتق عبدا وقال هذا عن كفارة قتل إن كان علي كفارة قتل وإلا عن كفارة اليمين فعتقه عن اليمين موقوف فإن بان أنه كفر عن القتل وقع عن اليمين وإلا فعن القتل وقال فيما إذا أبدل فعلي أن أعتق بقوله فعبدي هذا حر أو فعلي عتقه أنهما حصلا ولا عتق للعبد عنه وإن وقعا معا عتق ولظهور عدم الفرق فيما نحن فيه بين فعلي أن أعتق وعلي عتق وعبدي هذا حر وإن اقترفا من حيث إن الصيغة الأولى أن يقول من إنشاء عتق بخلاف نحو عبدي حر قال القمولي ومن تبعه الظاهر أن الصورة الأولى أن يقول إن شفى الله تعالى مريضي فعلي أن أعتقه وإلا فإن قدم غائبي فعلي أن أعتقه ويدل له التشبيه الذي ذكره وحينئذ اتضح الوقف في الأولى لأن قوله وإلا إلخ ظاهر في الترتيب ما بعد الأعلى عدم الشفاء فإن لم يوجد الشفاء نفذ الثاني وإن لم يوجد لم ينفذ وهذا عين الوقف الذي سبق بخلاف مع إسقاط إلا فإنهما يكونان تعليقين مستقلين فكل واحد منهما وجد أولا عمل عمله فاتضح كلام البغوي وتفرقته المذكورة وعليه فكأنه لما رأى شيخه القاضي أطلق إلغاء النذر الثاني والعبادي على ما في الروضة أطلق انعقاده وعلى ما في غيرها أطلق وقفه أراد أن يجمع بين الإطلاقين بحمل كل على حاله مما ذكر عنه باعتبار تأويل كلامه بما مر هذا ما في هذه المسألة للأصحاب ويتخرج عليها مسألتنا فعلى ما مر عن القاضي تكون التصرفات في النذر المعلق قبل وجود المعلق به باطلة لأن القاضي إذا قال هنا ببطلان التعليق الثاني حتى لو وجد القدوم أو لا لم يقع العتق المعلق به فأولى أن يقول ببطلان التصرف في المنذور ببيع أو نحوه ووجه الأولوية أن الشارع متشوف إلى العتق ومع ذلك لم يقل به فيما إذا وجد القدوم أولا لما تقرر من أن تعليقه باطل لوجوده بعد استحقاق المنذور العتق بالنذر الأول المعلق بالشفاء ولو قلنا بصحة الثاني لزم في صورة تقدم القدوم إلغاء الأول

 

ج / 4 ص -270-        كما أنا لو قلنا بصحة نحو البيع لزم إلغاء العتق مثلا فإذا لم يسمح بما يوجب بطلان الأول وإن كان مثله في ترتيب العتق عليه أيضا بل قد يكون الترتيب عليه ناجزا وقطعيا في صورة تقدم القدوم فأولى أن لا يسمح بما يوجب بطلان المنذور لا إلى خلف بالكلية وهو البيع ونحوه وهذا كله بناء على كلام القاضي وأما على كلام العبادي الذي في الروضة فيصح التصرف في المنذور المعلق وإن أدى إلى بطلان النذر ما لم يلاحظ الفرق الآتي وعلى كلام البغوي الذي وافق عليه العبادي على ما مر يكون التصرف موقوفا فإن وجد الشرط المعلق عليه بأن بطلان ذلك التصرف وإلا فلا فإن قلت فما الراجح من هذه الأوجه الثلاثة في مسألة الأصحاب حتى نعرف الراجح في صورة السؤال قلت الراجح ما مر عن الروضة وإن اعترض بما سبق فقد صرح في المجموع وغيره بما يؤيده من أنه لو قال إن قدم زيد فلله علي أن أصوم تالي قدومه وإن قدم عمرو فعلي صوم أول خميس بعد قدومه فقدما معا يوم الأربعاء صار الخميس من أول نذريه لسبق وجوبه وقضى يوما للنذر الثاني لتعذر صومه وإذا علم أن الراجح هو ما في الروضة علم أن الراجح في صورة السؤال عند من لم يلحظ ما سنقرره من الفرق الواضح بينهما صحة التصرف وكان هذا مستند إفتاء الشيخ الفتى بصحة التصرف في صورة السؤال وتبعه تلميذه الكمال الرداد فقال حين سئل عما لو علق النذر على صفة ثم باع العين المنذور بها قبل وجود الصفة هل يصح البيع إن في شرحه على الإرشاد في الإيلاء الجزم بالصحة وأنه أفتى به مرارا وكذا شيخه التقي الفتى وأنه وجد في فتاوى القاضي والبغوي خلافه ثم أطال الكلام لكن بما فيه أنظار شتى لا تخفى على المتأمل ولولا الإطالة لبينتها وأفتى بذلك جماعة آخرون وقاسوه على المعلق عتقه بصفة فإنه لا يجوز التصرف فيه بالبيع ونحوه فإن قلت هل يمكن فرق بين صورة الأصحاب والمعلق عتقه بصفة وبين صورة السؤال حتى يتوجه كلام القائلين في صورة السؤال ببطلان التصرف ولا يتخرج على مسألة الأصحاب قلت نعم وهو أن صورة الأصحاب إنما جرى فيها هذا الخلاف لأن التعليق الثاني لا يضاد الأول من كل وجه بل يوافقه من وجه وهو أنه عتق مثله فلم يفت على المعلق عتقه شيء بالتعليق الثاني فلذا صح ويخالفه من وجه وهو أن العتق قد يترتب على الأول دون الثاني كما أنه قد يترتب على الثاني دون الأول فلذا جرى فيها الخلاف السابق بسطه وأما صورة السؤال فالبيع ونحوه يضاد النذر ويبطل ما استحقه المنذور من كل وجه فكان ينبغي بطلانه وإن قلنا بما مر عن الروضة في مسألة الأصحاب من صحة التعليق الثاني ويفرق بين ما نحن فيه وجواز التصرف في المعلق عتقه بصفة بأن صورة السؤال أعني النذر المعلق بنحو الشفاء من شأنه أنه فيه مقابلة وشوب معاوضة لأن الناذر جعل العتق مثلا في مقابلة الشفاء مثلا فاقتضت تلك المقابلة العائد نفعها على الناذر المعلق غالبا تأكد ثبوت حق المنذور فلذا امتنع التصرف فيه لأنه يشبه المكاتب لأن عتقه وإن كان في الحقيقة معلقا على صفة إلا أن فيه معاوضة

 

ج / 4 ص -271-        ومقابلة فكما امتنع التصرف في المكاتب نظرا لما فيه من المعاوضة والمقابلة فكذا يمتنع في المنذور المذكور نظرا لتلك الشائبة التي فيه بخلاف المعلق عتقه بصفة من غير نذر ولا كتابة فإنه لم يثبت له ذلك التأكد لأن التعليق هنا محض تبرع أي من شأنه ذلك فناسب أن لا يضيق على المتبرع بسببه حتى يمنع من التصرف فيه وهذا فرق واضح كما أن الفرق السابق بين صورتنا وصورة الأصحاب واضح وبه اتضح أن للقائلين بامتناع التصرف في صورة السؤال وجها وجيها من حيث المعنى والقياس على المكاتب المذكورين وإن تخريج صورة السؤال على مسألة الأصحاب السابقة أو على مسألة المعلق عتقه بصفة لم يتم لما علمت من وضوح الفرقين المذكورين، والله سبحانه وتعالى أعلم.
"وسئل" رحمه الله تعالى عما في الإسعاد في باب الزكاة عند قوله أي الإرشاد وما جعل نذرا أو أضحية مما يدل على أنه لو قال إلا شفى الله مريضي فهذا المال صدقة لله زال ملكه بهذا القول وامتنع تصرفه فيما عينه للصدقة إذا حصل هذا الشفاء فهل يؤخذ من ذلك عدم جواز تصرف المشتري الناذر بعد إيقاع الإقالة إذا رد البائع مثل ثمنه أم لا؟ بينوا ذلك "فأجاب" نفعنا الله سبحانه وتعالى بعلومه بقوله ما أفاده كلام الإسعاد من زوال ملك المنذور المعين بالشفاء فيمتنع تصرف الناذر فيه بعد الشفاء صحيح فقد صرحوا بأنه لو قال علي أن أتصدق بهذا المال أو بهذه الدراهم تعين ذلك للصدقة ولو لم يقل لله وزوال ملكه عنها بمجرد قوله ذلك بخلاف ما لو نذر عتق عبد بعينه فإنه وإن تعين عتقه لكن لا يزول ملكه عنه إلا بعتقه لأن الملك فيه لا ينتقل بل ينفك عن الملك بالكلية وفيما مر ينتقل إلى المساكين ولهذا لو أتلف وجب تحصيل بدله بخلاف العبد لأنه المستحق للعتق وقد تلف ومستحقو ما ذكر باقون ولو التزم بنذر أو غيره التصدق بدراهم في ذمته ثم عين عنها دراهم لم تتعين وألحق بها كل ما لا يصلح للأضحية والعتق وذلك لأن تعيين كل من نحو الدراهم عما في الذمة ضعيف فلم يؤثر في زوال الملك بخلاف ما لو التزم أضحية أو عتقا ثم عين عن ذلك شاة أو عبدا فإنه يتعين كما لو عين ابتداء هذا ما يتعلق بما في الإسعاد وأما ما أراد السائل نفع الله تعالى به أن يأخذ منه بقوله فهل يؤخذ من ذلك إلخ فلم يظهر من عبارته ما الذي أراده بذلك فليتبين مراده حتى يعرف فيبين حكمه فإذا أراد أن المشتري نذر التصدق بعين المبيع إن شفي مريضه فشفي ثم أراد التقابل فيه هو والبائع فهل يجوز ذلك قلنا نعم تجوز الإقالة حينئذ وإن كان المبيع قد زال ملكه عنه بالشفاء كما لو أتلف المبيع أو تلف فإنها تجوز بعد تلفه ويلزم البائع رد عين الثمن إن بقي وإلا فرد بدله ويلزم المشتري رد بدل ولا تقاس الإقالة على امتناع التصرف فيه بعد الشفاء لأنها ليست تصرفا فيه بل في بدل كما علمت من أنها إذا وقعت بعد الشفاء تصح وفائدتها رجوع البائع عليه ببدله من مثل أو قيمة وإن أراد أن المشتري الناذر ما مر أراد أن يتصرف فيه قبل الشفاء فهل يجوز له ذلك قلنا هذا السؤال لا يتقيد بالمشتري وإنما يجري في أصل المسألة فيقال من

 

ج / 4 ص -272-        نذر التصدق بعين مال إن شفى الله تعالى مريضه هل له أن يتصرف فيه قبل الشفاء لأنه إلى الآن لم يزل ملكه أو ليس له التصرف فيه لتعلق حق النذر بعينه والذي صرحوا به هو الثاني حيث قالوا إن تعلق النذر بعينه يمنعه من التصرف فيه وإن أراد غير ذلك فليبينه وعبارته على غلاقتها التامة لا يمكن أن يتخيل منها غير ما ذكرته.
"وسئل" رحمه الله تعالى عمن نذر متى استحق مبيعك أو ادعي عليك أو ما أشبه ذلك فلك علي كذا فهل يصح النذر أم لا؟ "فأجاب" نفعنا الله تعالى بعلومه بقوله المنقول المعتمد أنه لا يصح ذلك كما ذكرته بما فيه في شرح الإرشاد وعبارته أفتى الغزالي بأن قول البائع للمشتري إن خرج المبيع مستحقا فعلى أن أهبك ألفا لغو ما لم يحكم بصحته حاكم يراه بمذهب معتبر وأقره الشيخان لأن الهبة وإن كانت قربة إلا أنها على هذا الوجه كالمباحة ونظر فيه بما قال إن فعلت كذا فله علي أن أصلي ركعتين وقد يجاب بأن الالتزام في هذه يصدق بوجه صحيح وهو إن وفقني الله سبحانه وتعالى لفعله كما يعلم مما يأتي في نذر اللجاج وفي مسألتنا لا يحتمل كذلك لأنه علق بخروج المبيع مستحقا وهو لا يتصور فيه ذلك ونحوه مما يأتي ثم فتفصيل بعضهم بين أن يكون الموهوب له ممن يقصد التقرب بالهبة له كالعالم والصالح فيلزم وبين غيره فلا يرد بما تقرر انتهت عبارة الشرح المذكور ثم قلت فيه بعد ذلك واعلم أن الأذرعي قال إن كلامهم ناطق بأن النذر المعلق بالقدوم نذر شكره على نعمة القدوم فلو كان قدوم فلان لغرض فاسد للناذر كأجنبية أو أمرد فالظاهر أنه لا ينعقد كنذر المعصية ورده شيخنا أي زكريا رحمه الله تعالى بأنه سهو منشؤه اشتباه الملتزم بالمعلق به والذي يشترط كونه قربة الملتزم لا المعلق به والملتزم هنا الصوم وهو قربة فيصح نذره سواء أكان المعلق به قربة أم لا اهـ. وفيه نظر بل هو السهو كيف وكلامهم مصرح بما ذكره الأذرعي فقد نقلوا عن الروياني وأقروه أنه لو قال إن هلك مال فلان أعتقت عبدي لم ينعقد لأنه حرام وكما إن طلب هلاك مال الغير حرام كذلك طلب قدوم من مر فالمسألتان على حد سواء وقد ضبط الصيمري ما يكون النذر في مقابلته بأنه ما يجوز الدعاء به وفي كلام ابن الرفعة ما يصرح بأن كون المعلق عليه في النذر أمرا مباحا متفق عليه وإنما الخلاف في أنه هل يكفي مطلق المباح أو يختص بمباح يقصد ويندر حصوله فالحاصل أنه يشترط في المعلق عليه أن لا يكون قربة فهما يفترقان من هذه الحيثية ويتحدان من حيثية انتفاء المعصية عن كل منهما والذي ذكره الأذرعي إنما هو اشتراط انتفاء المعصية من المعلق عليه لا اشتراط كونه قربة فالقضاء عليه حينئذ بالسهو هو السهو لما تقرر فاستفده انتهت عبارة الشرح المذكور واعتمدت أيضا في شرح العباب كلام الغزالي فإني لما نقلته عنه فيه وقلت وجه جعل الغزالي هذا من المباح مع أن الهبة قربة كما صرح به كثيرون أنها وإن كانت قربة إلا أنها على هذا الوجه الخاص أعني تعليقها وجعلها في مقابلة ما ذكره ليست قربة ولا محرمة فكانت مباحة والملتزم بالنذر لا يكون إلا

 

ج / 4 ص -273-        قربة كما مر وأما توجيهه أيضا بأن مراده ما إذا كان الموهوب له ممن لا يقصد بالهبة له التقرب إلى الله تعالى كهبة الفقير للغني أو بأن هذا فيه تعليق للنذر بغير مقصود وشرط النذر المعلق أن يكون مقصودا على ما في الحاوي الصغير ففيه نظر أما الأول فلما قررته قبله وأما الثاني فلأن إطلاق اشتراط كونه مقصودا غير صحيح كما يعلم مما مر ويأتي انتهت عبارة شرح العباب، والله سبحانه وتعالى أعلم.
"وسئلت" عمن نذر على آخر بثواب طاعاته ما حكمه؟ "فأجبت" بقولي الذي دل عليه كلامهم بطلان النذر بثواب طاعاته لأن شرط المنذور كونه قربة غير واجبة وهذا ليس كذلك بل لا يسمى نذرا بالكلية فإن النذر لغة الوعد بخير أو شر أو التزام ما ليس بلازم أو نحو ذلك وأما شرعا فهو التزام قربة غير واجبة ونذر الثواب لا التزام فيه ولا وعد فإن الإنسان إنما يعد أو يلتزم بماله أو يقدر عليه وأما ما ليس له ولا يقدر عليه فلا يتصور الوعد به ولا التزامه على أن الثواب غير محقق الحصول لأنه مشروط بشروط منها الموت على الإسلام وأنى لإنسان أن يتحقق ذلك من غير أن يخبره به معصوم بل سبيله الخشية ومزيد الخوف من سوء الخاتمة والعياذ بالله سبحانه وتعالى وهذا هو الذي آل بكثير من السلف إلى ما أثر عنهم من استيلاء سلطان الخوف عليهم حتى أذاب قواهم وطهر سرهم ونجواهم ومنها موافقة ظاهر الأمر لباطنه فقد يظن الإنسان صحة عباداته لظنه استيفاء شروطها مع أن بعضها قد يكون مفقودا في نفس الصلاة كخبث أو تحول عن عين الكعبة لا يعلمه ومن صلى صلاة فاسدة في نفس الأمر صحيحة في ظنه لا يثاب عليها من حيث كونها صلاة وإن أثيب على ما فيها من نحو ذكر وقرآن وعلى كل تقدير فالثواب ليس قابلا للنذر به بوجه فكان الوجه عدم صحة نذره، والله تعالى أعلم.
"وسئل" رحمه الله تعالى عن امرأة نذرت لزوجها بجميع ما تملكه وهي مريضة ثم توفيت ولم يعلم هل توفيت بذلك المرض أو به مع غيره أو بمرض آخر ما حكم نذرها؟ "فأجاب" نفعنا الله تعالى به بقوله النذر للزوج بذلك وصية لوارث فيتوقف على إجازة بقية الورثة بناء على أن النذر في مرض الموت للأجنبي يحسب من الثلث وهو ما نقله ابن الرفعة عن الفوراني واعتمده البلقيني في فتاويه فقال العمل على أنه يحسب من الثلث لأنا لو قلنا يحسب من رأس المال لكان للمريض مرض الموت أن ينذر الصدقة بماله كله فيضيع على الوارث حقه بطريق لا يقدر الوارث على نقضه فالمعتمد الحساب من الثلث وفي كلام غير الفوراني ما يقتضيه وفي البحر للروياني إشارة إلى ما ذكره الفوراني فقال بعد أن حكى القولين في الحجة المنذورة أهي من رأس المال أم من الثلث أن بعض الأصحاب بخراسان قال إن محل القولين فيما إذا صدر النذر في الصحة أما إذا صدر النذر في مرض الموت فإنه يكون من الثلث قولا واحدا وما ذكره الروياني عن بعض الأصحاب بخراسان يشير به

 

ج / 4 ص -274-        للفوراني وقد صرح الإمام في النهاية بما قررناه فقال والنذر الذي يصدر من المريض في مرضه المخوف من الثلث لا خلاف فيه وكذا الكفارات التي تجري أسبابها في المرض وما ذكره الإمام في الكفارة فيه وقفة وقد يرجح أنه من رأس المال بأن مثل ذلك لا يقصد به حرمان الوارث بخلاف النذر ومما يدل على أن النذر في مرض الموت يحسب من الثلث في حق الأجنبي أنه لو نذر أن يتصدق على بعض ورثته بشيء وكان النذر في مرض الموت أنه لا اعتراض لبقية الورثة عليه وهذا لا سبيل إليه بل لبقية الورثة رده وإن خرج من الثلث لئلا يلزم أن يزيد بعض الورثة على بعض وهو ممنوع منه اهـ. وأفتى أيضا فيما لو نذر من به مرض مخوف أو نحوه بصدقة بأن ذلك يحسب من الثلث وأطال في بيانه وذكر ما مر عن الإمام وتعقب قوله السابق في الكفارات بأنه بعيد قال والقياس أنها من رأس المال اهـ. وبما تقرر أن المنقول المعتمد بل المتفق عليه كما مر عن الإمام أن النذر في المرض يحسب من الثلث إن كان للأجنبي ويتوقف على إجازة بقية الورثة إن كان لوارث وحيث اتصل الموت بالمرض الواقع فيه النذر أضيف الموت إلى ذلك المرض وكان النذر أو التبرع الواقع فيه محسوبا من الثلث ولا عبرة باحتمال حدوث مرض آخر مخوف لأن الأصل عدم ذلك فلا يراعى ولا ينظر إليه، والله سبحانه وتعالى أعلم.
"وسئل" رحمه الله تعالى عمن نوى أو نذر أن يعمر مسجدا معينا أو يبني مسجدا في موضع معين فلم يتيسر له ذلك فهل له أن يعمر بذلك مسجدا آخر في موضع آخر أو لا وهل يفرق في ذلك بين الموضع الذي يجتمع الناس فيه غالبا أو لا؟ "فأجاب" نفعنا الله تعالى به بقوله النية في ذلك لا يجب بها شيء فله البناء في الموضع المعين وغيره مطلقا وأما نذر بناء مسجد في محل معين يحل البناء فيه فصحيح سواء أجتمع الناس ثم غالبا أم نادرا وخرج يحل بناؤه في مقبرة مسبلة فإنه حرام فلا ينعقد نذره وهل يلحق به بناؤه في المحل المكروه كبنائه على قبر لم يندرس في أرض مملوكة واتخاذه في المحال التي تكره الصلاة فيها ومنها الأراضي الملعونة أو التي نزل بها عذاب هذا إن بقي المعنى الذي كرهت الصلاة لأجله كالمقبرة المملوكة بخلاف اتخاذ حمام مسجدا فإن الوجه زوال الكراهة لزوال علتها كما بينته في شرح العباب ردا على ابن العماد أو لا يلحق بذلك بل لا يصح نذر بنائه ولو في المحل المكروه للنظر في ذلك مجال وكلامهم في باب النذر صريح في صحة نذر المكروه لكن لا لذاته بل لغيره كصوم يوم الجمعة وما هنا الظاهر أنه لذاته لأن الكراهة إنما جاءت من حيث كونه مسجدا وحينئذ فالظاهر أنه لا يصح نذر بناء المسجد في المحل المكروه المذكور ثم إذا صح نذر بنائه في محل معين فالقياس أنه لا يجوز له إبداله بغيره مطلقا لاختلاف الأغراض باختلاف المحال فقد يكون المحل المعين للبناء أحل أو أبعد عن المؤذيات بمن به أو نحو ذلك وبهذا يفرق بين ما ذكرته من التعيين هنا وعدمه في مسائل كالاعتكاف والصلاة في غير المساجد الثلاثة ومما يؤيد ما ذكرته أيضا قولهم لو

 

ج / 4 ص -275-        نذر التصدق بدرهم فضة لم يجز له التصدق بدله بدينار أي لاختلاف الأغراض باختلاف الأعيان.
"وسئل" رحمه الله تعالى عن شخص نذر على نفسه نذرا وكتبه بخطه فقال أشهد على نفسه مسطر هذه الأحرف فلأن أني نذرت على نفسي نذر قربة وتبرر أن أنفق على عيال ابن عمي فلان مدة حياته الموجودين والمتجددين في كل يوم ثلاث قطع فضة سليمانية وهذا خطي شاهد علي وكفى بالله شهيدا وأشهد على نفسه بمضمون ذلك جماعة عدولا فهل يلزم هذا النذر أو لا وإذا قلتم يلزم ولم ينفق هل يصير دينا عليه أو لا وإذا قلتم يصير فمن الذي يطالبه به أهو ذو العيال أم العيال أنفسهم وإذا ادعى الإنفاق وأنكر ذو العيال فمن المصدق أفتونا مأجورين."فأجاب" نفعنا الله سبحانه وتعالى بعلومه بقوله وقد كثر اختلاف المتأخرين في نذرت هل هو صريح أو كتابة أو إقرار فقال بكل جمع وانتصروا له والمعتمد كما بينته في شرح العباب وغيره أنه صريح مطلقا واشتراط ذكر الله في الصراحة بعيد وحينئذ فالنذر المذكور صحيح لازم وإذا مضت عليه أيام ولم ينفق فيها صارت حصة الماضي دينا عليه وإن أعسر أخذا مما لو نذر التصدق على فلان كل يوم بدرهم وأعسر فإنه يستقر في ذمته حصة ما أعسر عنه على المنقول المعتمد خلافا لما وقع في جامع المختصرات في الصوم والمطالب هو المنذور له إن كان كاملا وإلا فوليه والمصدق في عدم الإنفاق هو المنذور له أو وليه فعلى الناذر البينة لأنه أدى المنذور به إلى المنذور له إن كان كاملا وإلا فإلى وليه وقوله والمتجددين اختلف فيه المتأخرون فقال بعضهم إنه مبطل للنذر تنزيلا له منزلة الهبة وفرق بينه وبين الوقف بأن العين الموقوفة موجودة وإنما للموقوف عليهم المنفعة فيمكن أن يصل من سيوجد إلى المنفعة بخلاف النذر فإنه إذا صح على الموجودين نفذ تصرفهم في العين المنذور بها بما يزيل الملك فإذا تصرفوا فيها بذلك لم يدرك من سيوجد شيئا من ذلك وقال بعضهم يصح النذر على الموجودين بالقسط خاصة لا على غيرهم فعلى هذا إن حدث لابن عمه عيال صح على الموجودين بالقسط وإن لم يحدث له عيال وأيس من حدوثهم صح النذر على الموجودين بالنصف وبطل في النصف إذ هو بمنزلة إذا أوصى لأولاده الموجودين والمعدومين الذين يمكن وجودهم فإن مقتضى القواعد الفقهية الصحة في النصف وكأن الموجود شيء والمعدوم شيء ولا ينافيه قول أهل السنة: المعدوم الممكن وجوده خارجا ليس بشيء ولا ثابت ولا موجود لأن ذاك اصطلاح لهم فروا به من ضلالة وقع فيها غيرهم وإلا فمقتضى اللغة إطلاق الشيء على المعدوم على أن ما نحن فيه قد صرح فيه بالمعدم الممكن وجوده فليس هو من مبحث الأصوليين المختلفين فيما ذكر وفي هذه إمكان حدوث عيال بوقف المنذور وقف تبين ثم يترتب الحكم على ما ذكرناه ولا يشكل على ما مر قولهم لو أوصى لحملها فأتت بحي وميت فالكل للحي والميت كالمعدوم لأنه هنا لم ينص على المعدوم وفيما نحن فيه نص عليه صريحا وأطلق

 

ج / 4 ص -276-        بعضهم صحة النذر للموجودين في النصف كالوصية بجامع أنها تمليك ولا يصح تمليك المعدوم وأفتى بعضهم بصحة النذر وإعطاء الموجودين الكل ويشاركهم من حدث كما لو قسمت التركة بين الورثة ثم حدث وارث هذا حاصل ما للناس في هذه المسألة وقد يرجح الأخير لا لما نظر به قائله لوضوح الفرق بين ما هنا والإرث فإن الوارث لا بد أن يكون موجودا عند الموت وهو لا يقول بنظير ذلك في مسألتنا وإنما الذي يوجه به ذلك القياس على الوقف والفرق السابق لا يجدي عند تأمله وقولهم تمليك المعدوم لا يصح يحمل على تمليكه استقلالا إما تبعا فإنه يصح وقد يرجح والذي قبله قياسا على الوصية كما ذكره قائل ذلك وعليه فيفرق بين ما هنا والوقف بأن القصد من الوقف الدوام على البطون والطبقات المتجددة بعد إن لم تكن فلم يضر ذكر المعدوم فيه تبعا لأنه تصريح يقتضيه بخلاف الوصية والنذر فإنه ليس القصد منهما إلا تمليك عين الموصى به والمنذور لموجود فإن أضاف إليه معدوما صار كأنه جمع بين ما يصح أحد ذينك عليه وما لا يصح وحينئذ فيصح في النصف على الرأي الثالث أو بالقسط تارة وفي النصف أخرى على الرأي الثاني والقول ببطلان النذر من أصله بعيد جدا فالحاصل أن الأقرب القياس على الوصية لا الوقف، والله سبحانه وتعالى أعلم.
"وسئل" رحمه الله تعالى عمن نذر لولده فهل له أن يرجع كالهبة؟ "فأجاب" رحمه الله تعالى بقوله أفتى بعضهم بأنه ليس له الرجوع بخلاف الهبة ولم يفرق بينهما بشيء وفي إطلاقه نظر ولو قيل إنه في نذر التبرر يرجع لأنه كالهبة بخلاف نذر المجازاة لا يرجع لأنه كالمعاوضة لم يبعد.
"وسئل" رحمه الله تبارك وتعالى هل يصح النذر مع التأقيت وبما لا يقدر على تسليمه وبالنجس؟ "فأجاب" بقوله إن وقع التأقيت في النذر للمنفعة فظاهر أنه يصح كالوصية بها بتفصيلها أو للعين فإن كان بمدة حياة المنذور له كنذرت لك بهذا عمرك فظاهر أنه يصح أيضا قياسا على الهبة على صورة العمرى فيملكها المنذور له وورثته من بعده ولا تعود للناذر مطلقا أو لا بمدة حياة المنذور له فالأوجه كما أفتى به بعضهم أنه لا يصح لأنه ليس لنا عين تملك بصيغة مدة ثم ترجع إلى المملك بعد انقضاء تلك المدة من غير رجوعه لا بالوصية وغيرها وإذا امتنعت الوصية بها كذلك مع أنها أوسع من النذر فالنذر أولى وأيضا فالتوقيت بغير عمر المتبرع عليه لم يعهد في الأعيان بل في المنافع ويصح بمغصوب ونجس يقتنى كالوصية.
"وسئل" رحمه الله تعالى بما لفظه اتفقا على بيع شيء ثم قال المشتري إلا لم أوفك الثمن فعلي مائة دينار نذرا ثم أبى الشراء فهل تلزمه؟ "فأجاب" نفعنا الله تعالى بعلومه بقوله لا تلزمه المائة إذ يحتمل أن يقال إن النذر لم ينعقد لأنه نذر إن لم يوف الثمن وبامتناعه عن

 

ج / 4 ص -277-        الشراء لم يوجد الثمن بل صار غير ممكن الوجود وبه فارق قوله في نذر اللجاج إن كلمته فعلي كذا لأنه ممكن الوجود ويحتمل أن يقال إنه منعقد لأن الشراء ممكن ولو بعد الامتناع وعليه فهو نذر لجاج فيتخير بين ما التزمه والكفارة.
"وسئل" رحمه الله تعالى عمن نذر لمقرضه بكذا إلا اعتاض عما في ذمته فهل ينعقد أم لا؟ "فأجاب" نفعنا الله تعالى بعلومه بقوله نعم ينعقد لكنه يحتمل اللجاج والتبرر كما صرحوا به في نظيره فإن كان الاعتياض مرغوبا له لما فيه من الرفق فنذر تبرر وإلا فلجاج.
"وسئل" رحمه الله تعالى بما لفظه نذر لاثنين من غلة أرضه كل سنة بكذا فمات أحدهما فهل ينتقل نصيب الميت لوارثه أم لصاحبه؟ "فأجاب" بقوله ينتقل لوارثه لما يأتي في الجواب عن مسألة ما إذا قال لآخر في حال صحته نذرت لك إلخ ويفرق بين هذا والوقف على اثنين ثم على ثالث بأن الوقف لا يقتضي الانتقال للوارث بخلاف النذر وأيضا فثم شرط في الانتقال لمن بعدهما موتهما فانتقلت حصة الميت لصاحبه الموجود عملا بشرط الواقف، والله سبحانه وتعالى أعلم.
"وسئل" هل يملك المنذور بمجرد اللفظ قهرا فلا يرتد بالرد وهل للمنذور له التصرف فيه قبل القبض وهل يصح بالمعدوم كما ستحمله هذه الدابة وبالمرهون وإذا نذر بدين لغير من هو عليه من يطالب الناذر أو المنذور له وهل يبرأ الناذر بمجرد قبض المنذور له؟ "فأجاب" بقوله إن كان نذر تبرر ملكه بمجرد اللفظ أو نذر مجازاة لم يملكه إلا بعد وجود الشرط ولا يملك قهرا كما يصرح به قول الروضة لو نذر لغيره ولم يقبل بطل ومراده بلم يقبل أنه رد لا أنه سكت لأن الشرط عدم الرد لا خصوص القبول للمسامحة في النذر كالوصية ومن ثم صح بالمجهول وبغير ما يملكه إن علقه بملكه كإن ملكت هذا فعلي عتق بخلاف علي عتق هذا وهو ملك غيره فإنه لغو ومثله الوصية في ذلك كما ذكره الرافعي في الكتابة وعليه يحمل قول الروضة في الوصايا تصح الوصية بملك غيره أي بأن يقول إن ملكت هذا فقد أوصيت به لفلان وله التصرف قبل القبض فيما قبله أي لم يرده كما مر سواء في ذلك الأعيان والديون إذ هبة الدين وبيعه لغير من هو عليه جائزان على المعتمد في الروضة بشروطه المقررة في محله فكذا نذره بل أولى لأن النذر يتسامح به في البيع وغيره ويصح النذر بالمعدوم كالوصية كما قاله كثير من معاصري مشايخنا وغيرهم وهو أوجه من قول آخرين لا يصح فقد قال بعض الأولين إنه وجد الصحة مصرحا بها في كلام بعض المتقدمين ويصح أيضا بالمرهون لكن إن علقه بالفكاك كما هو ظاهر لتعلق حق الغير به نعم إن كان المنذور العتق تأتى، فيه تفصيل عتق المرهون ومتى حكمنا بملك المنذور له كان هو المطالب به سواء الدين والعين وقول بعضهم لا يتولى قبض الدين إلا الناذر مطلقا بعيد.

 

ج / 4 ص -278-        "وسئل" رحمه الله تعالى بما لفظه ما حاصل أحكام النذر لقبور الأولياء وللمساجد وللنبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته وما حاصل ما يجب في قسمة ذلك النذر هل هو على سكان مشهد المنذور له مع التسوية بينهم ومن سبق منهم وأخذ النذر يفوز به أو يشاركه فيه الباقون؟ "فأجاب" نفعنا الله سبحانه وتعالى بعلومه بقوله النذر للولي إنما يقصد به غالبا التصدق عنه لخدام قبره وأقاربه وفقرائه فإن قصد الناذر شيئا من ذلك أو أطلق صح وإن قصد التقرب لذات الميت كما يفعله أكثر الجهلة لم يصح وعلى هذا الأخير يحمل إطلاق أبي الحسن الأزرق عدم صحة النذر للميت وفي العزيز في النذر لقبر جرجان ما هو صريح فيما ذكر وحذفه في الروضة لإيهامه صحة النذر للقبر مطلقا لكن مراد الرافعي كما في الخادم أن العرف اقتضى أن يتصدق به على فقراء جيران مشهده أو خدمته والنذر للمسجد صحيح لأنه حر يملك وحينئذ يصرف لمصالحه كالوقف عليه فلا يعطي خدمته منه شيئا إلا إن صرح الناذر بأنه قصدهم وحيث صح النذر للقبر عمل في قسمة المنذور على الفقراء والخدام والأقارب وغيرهم بالعادة المطردة في ذلك وقت النذر إن علمها الناذر أخذا من كلامهم في باب الوقف من أنه يعمل فيه بالعادة بهذه الشروط ومن ثم قالوا في العادة الموجود فيها هذه الشروط أنها بمنزلة شرط الواقف فكذا نقول هنا العادة المذكورة بمنزلة شرط الناذر فيعمل بجميع ما حكمت به فلو اعتيد أن من خرج وسبق إلى الناذر وأخذ منه فاز به عمل بذلك على ما أفتى به بعضهم قال السيد السمهودي رحمه الله تبارك وتعالى بعد ذكره نحو ما قدمته وكذا القول فيمن نذر به للنبي صلى الله عليه وسلم فإن قصد الناذر خدامه أو جيرانه صلى الله عليه وسلم عمل به وإن لم يعلم قصده واطرد العرف بشيء من ذلك حمل النذر عليه اهـ. ولم يقيد هو ولا غيره ذلك بما قدمته أن شرط العمل بالعادة أن يعرفها الناذر حين النذر ولابد من ذلك لما علمته من كلامهم في الوقف فإن علم من حال الناذر أنه لا يعرف تلك العادة المطردة في وقت أو شك في ذلك فالذي يظهر في حالة الشك حمله على العدة لأن الظاهر أن الناذر أحاط بها وأما في حالة العلم بعدم معرفته بها فيتردد النظر فيه ولا يبعد أن يقال ينظر لعرف أهل بلد الناذر في نذرهم للقبور فإن لم يعرف بلده أو لم يكن لهم عرف في ذلك اعتبرت العادة التي يقصدها أغلب الناس.
"وسئل" رحمه الله تبارك وتعالى عمن قال لآخر في حال صحته نذرت لك بصاع مثلا من أرضي كل سنة مدة حياتك ثم مات المنذور له فهل يبطل النذر أو يسلمه لورثته؟ "فأجاب" نفعنا الله تعالى بعلومه بقوله لا يبطل النذر بموته بل يسلمه لورثته كل سنة لأنه لما نذر له بذلك من أرضه وصح النذر صار ذلك حقا للمنذور له متعلقا بعين تلك الأرض فينتقل لورثته كما أفتى به البلقيني وبحث بعض متأخري اليمن أنه بعد الموت يعتبر المنذور به من الثلث فينفذ فيه إن خرج منه وإلا فبالحصة مردود بأنه خلاف ما أطلقه الأصحاب من أن الوصية إنما تعتبر من الثلث إذا علقها بالموت أو وقعت في المرض وأما التصرف في

 

ج / 4 ص -279-        الصحة فهو نافذ من رأس المال اهـ. وفي هذا الرد نظر بل الوصية معتبرة من الثلث وإن وقعت في الصحة لأن الاستحقاق فيها إنما يوجد بالموت فلا يقاس ما نحن فيه بها وإنما غاية ما لمحه ذلك الباحث أن الناذر علق بتلك الأرض استحقاقا في صحته واستحقاقا في مرضه وبعد موته فما في صحته أمره واضح وما في مرضه وبعد موته غايته أنه كالوصية في صحته وقد صرحوا فيها بأنها تعتبر من الثلث فكذا فيما نحن فيه ويحتمل الفرق بأن الوصية وقعت معلقة بالموت ابتداء وقصدا وفيما نحن فيه إنما وقع التعليق بما بعد الموت تبعا وفي الأثناء يغتفر في التابع والواقع في الأثناء ما لا يغتفر في المقصود والواقع في الابتداء.
"سئل" رحمه الله تبارك وتعالى هل يجوز النذر بدين السلم أو لا كالحوالة؟ "فأجاب" نفعنا الله سبحانه وتعالى بعلومه بقوله مشى جمع متأخرون على الجواز لمن هو عليه وغير من هو عليه لأنه عقد تبرع وقربة ولا معاوضة بخلاف نحو بيعه، والله سبحانه وتعالى أعلم.
"وسئل" رحمه الله تعالى هل يصح النذر لأحد الرجلين أو لأحد هؤلاء الجماعة أو لا؟ "فأجاب" نفعنا الله تعالى به بقوله لا يصح النذر لأحد الرجلين كالوصية بل أولى لأنه يغتفر فيها ما لا يغتفر فيه.
"وسئل" رحمه الله تعالى بما لفظه ما تقولون فيما قالوه من أنه لو نذر التصدق في زمن معين أنه لا يتعين لكن يخالفه ما نصوا عليه في الوقف من أنه لو خصص الصرف بزمن كالجمعة ورمضان مثلا أنه يتبع تخصيصه فما الفرق بينه وبين النذر؟ "فأجاب" نفع الله سبحانه وتعالى بعلومه المسلمين بقوله الفرق بين النذر والوقف واضح وهو أن الغالب في النذر أنه يسلك به مسلك الواجب من جنسه وهو هنا الزكاة وهي يجوز تقديمها على وقتها لا تأخيرها عنه على ما فصلوه فيها فألحق النذر بها في ذلك فهذا هو المراد من قولهم المحكي في السؤال وأما الوقف فأحكامه مستقلة بنفسها فاتبع فيه تعيين الواقف إذ لا موجب للخروج عنه، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.
"وسئل" هل يصح النذر مؤقتا؟ "فأجاب" بقوله نعم يصح مؤقتا في المنفعة كالوصية لا في العين لأنه لا يمكن توقيت الملك ثم عوده نعم إن قيده بمدة عمره صح لأنه لا توقيت فيه في الحقيقة.
"وسئل" هل يجوز النذر للحجرة الشريفة على الحال بها أفضل الصلاة والسلام وللأولياء والصلحاء مطلقا أو على تفصيل وما مصرفه وما محصل كلام الرافعي في الوصية لقبر جرجان وهل الوقف على الحرمين يصرف لساكنهما أو لمصالحهما وتصح الوصية لعمارة دار بخلاف الوقف فما الفرق؟ "فأجاب" بقوله عبارة الرافعي وفي التهذيب وغيره

 

ج / 4 ص -280-        لو نذر أن يتصدق بكذا على أهل بلد عينه وجب أن يتصدق به عليهم ومن هذا القبيل ما لو نذر بعثه إلى القبر المعروف بجرجان فإن ما يجتمع به على ما يحكى يقسم على جماعة معلومين. اهـ. قال الإسنوي وغيره أسقط من الروضة الأولى والثانية مع الاحتياج للثانية وغرابتها اهـ. ومراده غرابتها من حيث النقل لا من حيث الحكم وإلا فقد اتفقت الأئمة كما قاله الإمام وغيره على أن العادة منزلة منزلة شرط الواقف ومثله الناذر في وقفه صريحا والعادة هنا جارية بأن المجتمع يقسم على جماعة معلومين فصار النذر للقبر نذرا لأولئك الجماعة عملا بالعادة ومن ثم نقل القمولي كلام الرافعي وأقره ولا ينافي ذلك ما ذكره الأذرعي في نذر الشموع حيث قال وأما النذر للمشاهد الذي بنيت على قبر ولي أو نحوه فإن قصد به الإيقاد على القبر ولو مع قصد التنوير فلا وإن قصد به وهو الغالب من العامة تعظيم البقعة أو القبر أو التقرب إلى من دفن فيها أو نسبت إليه فهذا نذر باطل غير منعقد فإنهم يعتقدون أن لهذه الأماكن خصوصيات لا تفهم ويرون أن النذر لها مما يدفع البلاء قال وحكم الوقف كالنذر فيما ذكرناه اهـ. ووجه عدم المنافاة أن من الواضح الفرق بين نذر ما يوقد ونذر غيره فما يوقد إن قصد به الإيقاد على القبر وحده أو مع التنوير أو تعظيم البقعة أو التقرب لمن فيها بطل لفساد هذا القصد بخلاف ما إذا قصد به مجرد التنوير وكان هناك من ينتفع بذلك النور فإن هذا قصد صحيح فيلزم وأما نذر الدراهم فلا يتأتى فيه هذا التفصيل جميعه فإن أمكن أن يتأتى فيه أنه قصد بهذا النذر التقرب لمن في القبر بطل لأن القرب إنما يتقرب بها إلى الله تعالى لا إلى خلقه على أن محل هذا كله حيث لا عرف مطردا في زمن الناذر أو الواقف أما حيث اطرد العرف بأن الشموع والأموال التي تأتي لهذا القبر تصرف في مصالحه أو مصالح المسجد أو أهل البلد الذي هو فيه أو طائفة منهم ولم يقصد بالنذر التقرب لمن في القبر فإن ذلك صحيح ولا يسع الأذرعي ولا غيره المخالفة في ذلك ويصرف لمن اعتيد صرفه له والأذرعي إنما قال فيما ذكره الرافعي في قبر جرجان هذا كلام مضلة لأنه فهم أن الرافعي يقول بالصحة وإن قصد التقرب للقبر وليس ذلك بل كلام الرافعي مصرح بأن الناذر لم يقصد ذلك بل إما أن يكون أطلق فتكون العادة الجارية مخصصة لهذا الإطلاق ومفيدة له عملا بقول الأئمة السابق وإما أن يكون نوى الصرف إلى من اعتيد الصرف إليهم وعلى كل تقدير فالذي ينبغي في المسألة اعتماد التفصيل الذي ذكرته أخذا من كلامهم من أن الناذر أو الواقف حيث علم بعادة اطردت في ذلك القبر الذي نذر له أو وقف عليه صح وعمل في المنذور والموقوف بما اطردت به العادة وحيث لا عادة فإن كان له مصالح يقصد الصرف فيها كعمارة مسجد هو فيه ونحو ذلك وجب الصرف لها وإن لم يكن له مصالح ولا عادة أو قصد التقرب بذلك إلى صاحب القبر وإن كان نبيا لم يصح مطلق اهـ. ذا إن كان المنذور أو الموقوف غير شمع أو زيت وإلا اشترط مع ذلك أن يكون أحد ينتفع بإيقاده هناك وإلا لم يصح أيضا هذا ما ظهر لي والعلم عند الله سبحانه

 

ج / 4 ص -281-        وتعالى وبما تقرر علم الجواب عن النذر للحجرة الشريفة وأنه يصرف لمصالحها ما لم يقصد صرفه إلى أناس معينين ويكون الناذر أو الواقف من أهل ذلك يقصد صرفه إلى أناس معينين ويكون الناذر أو الواقف من أهل ذلك العرف وأما الجواب عن الثاني فقد صرحوا بأنه لو نذر الذبح بمصر مثلا ولم يتعرض لتفرقة اللحم على أهلها بلفظ ولا نية لم ينعقد نذره خلافا للمزني وأبي إسحاق فإن ذكر لفظ التصدق أو نواه أو لفظ الأضحية تعين الذبح بها وتفرقته على فقرائها وبأنه لو نذر أن يهدي مالا معينا للحرم كدراهم وغيرها لزمه ما سمى ويجب صرفه إلى مساكينها أو لغير الحرم فإن صرح بصرفه في عمارة مسجد هناك أو قربة أخرى أو نوى صرفه فيه صرف لمساكينه المقيمين أو الواردين وقد أفتى الولي العراقي فيمن وقف على الحرمين الشريفين وأطلق هل يصرف لمصالحهما من الحصر والقناديل أو للفقراء المجاورين بها وملخص جوابه اختلف أصحابنا فيما لو وقف على مسجد من غير تعيين كبقية الصرف فيه فقيل لا يصح فعليه، الوقف المسئول عنه باطل والمعتمد الصحة وعليه قال البغوي هو كما لو وقف على عمارة المسجد وحينئذ فلا حق في هذا الوقف للفقراء والمساكين المجاورين بالحرمين الشريفين وإنما يصرف ذلك في عمارة الجدران والتجصيص الذي فيه إحكام ونحو ذلك إلى آخر ما ذكره ثم قال آخر كلامه وظهر مما ذكرناه أنه يصرف في الصورة المسئول عنها إلى عمارة الحرمين الشريفين وإلى المكانس ونحوها وإلى الفراشين والأئمة والمؤذنين ولا يجوز لفقرائهما اهـ. وهذا كله مبني على أن المراد بالحرمين الشريفين المسجدان بأن علم من الواقف ذلك أما لو أطلق وأراد بالحرمين الأعم من المسجدين فالذي يتجه من كلامهم أنه يتعين الصرف إلى مساكينهما المقيمين والواردين ثم رأيت عن نص الشافعي رضي الله عنه التصريح بذلك وهو ما صرح به في الخادم في باب النذر في نذر التصدق وعبارته وقال صاحب الذخائر إن عين قوما تعينوا وإن لم يعين فلم أر للأصحاب فيه شيئا ويحتمل أن يقال يصرف إلى من تصرف إليه الزكاة سوى العاملين بناء على أن مطلق النذر يحمل على الواجب الشرعي أو على أقل ممكن هذا في غير الحرم فأما إن نذر للحرم فنص الشافعي رضي الله عنه على تعيين مساكينه اهـ.فظهر أن ما بحثته منصوص عليه من صاحب المذهب فلله أتم الحمد وأكمله على ذلك وغيره من نعمه المتواترة وأما الجواب عن الثالث فالفرق بين الوصية والوقف أنها أوسع منه بدليل صحتها للحمل بشرطه بخلاف الوقف ووجهه أن الوقف يستلزم الخروج عن الملك حالا بخلاف الوصية وبدليل صحتها للعبد سواء أطلق أو قصد تمليكه بخلاف الوقف فإنه إذا قصد تمليكه بطل وجهه أن الاستحقاق هنا منتظر فقد يعلق قبل موت الموصي فيستحق أو لا فلمالكه بخلافه ثم فإنه ناجز وليس العبد أهلا للملك وحينئذ فقد يفرق بين صحة الوصية على عمارة دار زيد دون الوقف فإنه لا يصح إذا كانت غير موقوفة بأن الوقف عليها إذا صح يكون وقفا على مالها فيكون الموقوف عليه غير مقصود

 

ج / 4 ص -282-        وإنما المقصود غيره والوقف لا يقبل النقل بخلاف الوصية فإنها تقبل ومما يؤيد ذلك أن الوصية لها هل يتعين صرفها فيها قياسا على علف الدابة أو يفرق بأن علف الدابة يقصد التقرب به لأن ذاته قربة بخلاف عمارة الدار كل محتمل فإن قلت فما الفرق بين العمارة وعلف الدابة إذا قصده قلت الفرق ما مرت الإشارة إليه من أن العلف قربة ذاتية فصح قصده وإن كان هو الموقوف عليه بخلاف العمارة فإنها غير مقصودة وإنما المقصود غيره وذلك ممتنع.
"وسئل" عن النذر للأولياء هل يصح ويجب تسليم المنذور إليهم إن كانوا أحياء أو لأي فقير أو مسكين كان وإذا كان الولي ميتا فهل يصرف لمن في ذريته أو أقاربه أو لمن ينهج منهجه أو يجلس في حلقته أو لفقيره أو كيف الحال وما حكم النذر بتجصيص قبره أو حائطه فهل يصح أو لا؟ "فأجاب" بقوله النذر للولي الحي صحيح ويجب صرفه إليه ولا يجوز صرف شيء منه لغيره وأما النذر لولي ميت فإن قصد الناذر الميت بطل نذره وإن قصد قربة أخرى كأولاده وخلفائه أو إطعام الفقراء الذين عند قبره أو غير ذلك من القرب المتعلقة بذلك الولي صح النذر ووجب صرفه فيما قصد الناذر وإن لم يقصد شيئا لم يصح إلا إن اطردت عادة الناس في زمن الناذر بأنهم ينذرون للميت ويريدون جهة مخصوصة مما ذكرناه وعلم الناذر بتلك العادة المطردة المستقرة فالظاهر تنزيل نذره عليه أخذا مما ذكروه في الوقف من أن العادة المستقرة المرادة في زمن الواقف تنزل منزلة شرطه والنذر للتجصيص المذكور باطل نعم يؤخذ من كلام الأذرعي والزركشي وغيرهما أنه يصح ذلك في قبور الأنبياء والأولياء والعلماء وكذا لو كان القبر بمحل لا يؤمن على الميت الذي فيه من السبع أو سرقة الكفن أو إخراج نحو مبتدعة أو كفار له إلا بالتجصيص فحينئذ يجوز بل يندب ويصح نذره لما فيه من المصلحة كما تصح الوصية به.
"وسئل" عما إذا نذر مدين لدائنه كل يوم بكذا ما دام دينه في ذمته أو رهنه بدينه أرضا ونذر له بمنفعتها مادام الدين باقيا بذمته هل يصح النذر ويلزم؟ "فأجاب" بقوله أفتى جماعة من متأخري المصريين واليمنيين بالصحة وخالفهم آخرون لأن النذر حينئذ شبيه بالمعاوضة أو فيه شائبة معاوضة والنذر يصان عن المعاوضة إذ هو التزام قربة وأجاب بعض الأولين بأنه لا دلالة على تلك المشابهة من لفظ الناذر بل من قصده النذر بذلك في مقابلة صبره عليه وذلك شبيه بالقرائن والمواطأة في العقود ومذهب الشافعي رضي الله عنه عدم اعتبار تلك القرائن والمواطأة كما هو معلوم من كلامهم في البيوع والنكاح وغيرهما وإذا دار الأمر بين دلالة الألفاظ ودلالة القرائن غلبت الأولى فإن قلت صرحوا بأن القصد يصير العقد مكروها في نحو حيل الربا ونكاح المحلل فقياسه إن قصد ذلك بالنذر يصير مكروها ونذر المكروه لا ينعقد قلت إطلاق أن النذر المكروه لا ينعقد غير صحيح فقد

 

ج / 4 ص -283-        صرحوا بنذر صوم الجمعة مع كراهته وأخذت منه في شرح العباب وغيره أن المكروه على قسمين مكروه لذاته ومكروه لعارض مع كونه قربة والأول هو الذي لا ينعقد نذره بخلاف الثاني ثم على الصحة قال بعض الأولين في صورة الأرض إن النذر لا يبطل بموت الناذر بل يبقى لورثته ويحسب من الثلث وقد مر بسط نظير ذلك في جواب قبل هذا واعترض بعضهم عدم بطلانه بموته فإن تأخير قضاء الدين بعد موت المدين حرام مع الطلب ومكروه مع عدمه وكل من الحرام والمكروه لا يصح نذره قال فالذي نجزم به البطلان بموت الناذر وكان نذره اشتمل على قربة وغيرها فصح في القربة وبطل في غيرها قال وقد رأيت لبعض علماء اليمن ما هو صريح في ذلك اهـ. وفيه نظر لأن النذر وقع خاليا عن ذكر ذلك الحرام والمكروه وإنما كل منهما شيء طرأ بعد انعقاد النذر ولزومه فلا يبطل النذر فيه لأنه أمر تابع لا مقصود.
"وسئل" عمن لا يصبر على الإضافة يحرم عليه التصدق بما يحتاجه لنفسه وكذا يحرم عليه التصدق بما يحتاج إليه وحينئذ فكيف يعرف من يصبر ومن لا يصبر ولو نذر أو تصدق بجميع ماله على شخص ثم ادعى أنه لا يصبر يقبل بيمينه أو بشاهدين أو لا يقبل مطلقا؟ "فأجاب" بقوله نذر التصدق بجميع المال وعليه دين أو له عيال حرام فلا ينعقد نذره وكذا المكروه لذاته لا لعارض كصوم يوم الجمعة فيصح نذره كما صرحوا به في باب النذر خلافا لمن وهم فيه أما لو نذر بما فضل عن قضاء دينه وكفاية عياله وعن حاجة نفسه أو كان يصبر على الإضافة فيصح نذره والمراد بالكفاية ما يكفي لنفقة يوم وليلة وكسوة فصل ولا يقبل دعوى ناذر أو متصدق في عدم صبره بل يصدق المنذور له بيمنه أخذا بقاعدة تصديق مدعي الصحة غالبا والظاهر أنه لا تقبل بينته على أنه لا يصبر لأن ذلك لا يعرف إلا منه فلا اطلاع للبينة عليه بخلاف الإعسار لأنه يتعلق بالظاهر فيمكن علمه بخلاف الصبر وعدمه فإنه متعلق بالقلب وهو لا يمكن الاطلاع عليه وبفرض أن لنا اطلاعا عليه بقرائن أحواله كالإعسار فهو كما لو باع شيئا ثم ادعى أنه غير ملكه أو وقف لا تقبل دعواه على تفصيل فيه وبهذا اندفع قول بعضهم لو أقام شاهدين أو شاهدا وحلف معه أنه لا يصبر على الإضافة عمل بذلك وانتزع المال من المنذور له خصوصا إذا ادعى الجهل بعدم الصحة لأن المقصود المال فيقبل منه ويعتمد الشاهد في الإضافة قرائن الأحوال فإنه إذا كان له صديق ملازم لا يخفى عليه صبره وعدم صبره على المشقة فيشهد حينئذ على ما ظهر له من عدم صبره على الإضافة حيث عرف منه ذلك اهـ. وكله مردود بما قدمته فتأمله فإنه مهم.
"وسئل" إذا نذر شخص نذرا للنبي صلى الله عليه وسلم هل يملكه صلى الله عليه وسلم ويرصد لمصالح حجرته أو لمصالح مسجده أو لأهله فإذا صرف فهل يصرف لبني الحسنين أو لبني هاشم وبني المطلب أو لخدام حجرته أو لخدام مسجده أو لسكان بلده أم لا وإذا أخذ نذره أحد هؤلاء

 

ج / 4 ص -284-        المذكورين جاز له ذلك والتصرف فيه أم لا؟ "فأجاب" الذي يؤخذ من مجموع كلام الرافعي وابن عبد السلام والأذرعي والزركشي وغيرهم أن من نذر شيئا للنبي صلى الله عليه وسلم فإن قصد صرفه في قربة تتعلق بمسجده صلى الله عليه وسلم أو بجيرانه أوبغيرهما صح نذره وعمل فيه بقصده وإن لم يقصد شيئا فإن اطرد العرف بصرف ما ينذر له صلى الله عليه وسلم لجهة مخصوصة وعلم الناذر بذلك العرف وقت النذر صح النذر أيضا ووجب صرفه لتلك الجهة المذكورة وإن لم يطرد بشيء أو جهله الناذر ولا قصد له كما تقرر فالذي يتجه أنه لا يصح النذر لأنه لم يقصد به قربة ولم يوجد عرف ينزل عليه وإذا خرج النذر عن هذين ولم يكن لفظه موضوعا للقربة كان باطلا.
"وسئل" عن النذر لولي من الأولياء والوقف عليه هل يصح أو لا؟ "فأجاب" بقوله إن النذر أو الوقف لمشاهد الأولياء والعلماء صحيح إن نوى الناذر أو الواقف أهل ذلك المحل أو صرفه في عمارته أو مصالحه أو غير ذلك من وجوه القرب وكذا إن لم يقصد شيئا ويصرف في هذه الحالة لما ذكر من مصالح ذلك المحل بخلاف ما لو قصد بذلك التقرب إلى من دفن هناك أو ينسب إليه ذلك المحل فإن النذر حينئذ لا ينعقد وقد ذكر الأذرعي وغيره في نذر نحو الشمع ووقفه على ذلك ما يفيد ما ذكرته وحاصله أن من نذر أو وقف ما يشتري من غلته الإسراج للمسجد أو غيره صح إن كان قد يدخله ولو على نذور من ينتفع به من مصل أو نائم وإلا لم يصح وكذا إذا قصد بالنذر أو الموقوف من ذلك على المشاهد التنوير على من يسكن البقعة أو يرد إليها لأن هذا نوع قربة أما إذا قصد الإيقاد على القبر ولو مع قصد التنوير فلا يصح وكذا إذا قصد به وهو الغالب من العامة تعظيم البقعة أو القبر أو التقرب إلى صاحبه فلا ينعقد لأنهم يعتقدون أن لهذه الأماكن خصوصيات ويرون أن النذر لها مما يندفع به البلاء.

"باب القضاء"
"وسئل" بلد بادية وصاحبها فيه الخير ويحب إقامة الشرع وليس له معاند فهل إذا نصب عليهم أحدا يقيم لهم أحكام الشريعة ينفذ حكمه ويتولى العقود وحلها أو لا فيزوج من وليها تارك الصلاة ويتولى ما يجوز للقاضي المنصوب من جهة الإمام؟ "فأجاب" إذا كانت البلد المذكورة ليست تحت ولاية السلطان ولا أحد من نوابه وكان هذا الرجل المذكور نافذ الأمر فيها وليس عليه يد ولا حكم لأحد كانت جميع أمورها متعلقة به فيجب عليه أن يقيم الشريعة المطهرة بها بأن يولي عليهم رجلا عدلا ذا معرفة ومروءة وعفة وصيانة وفقه نفس فإذا وجدت هذه الشروط أو معظمها في رجل وولاه عليهم القضاء والحكم بينهم نفذت ولايته وجميع أحكامه التي تنفذ من القاضي من جهة السلطان فيسمع الدعوى ويحكم ويزوج من لا ولي لها أو لها ولي فاسق بترك الصلاة أو بغيره ويتولى مال الأيتام والسفهاء

 

ج / 4 ص -285-        ويقيم عليهم من يحفظه ويتصرف فيه بالغبطة والمصلحة ويفعل جميع ما تفعله القضاة، والله سبحانه وتعالى أعلم.
"وسئل" رحمه الله تبارك وتعالى عن قول المنهاج والأظهر أنه يقضي بعلمه إلا في حدود الله سبحانه وتعالى قال الزين بن الحسين في تكملته يعني وأظهر القولين أن القاضي يقضي بعلمه كما إذا علم صدق المدعي لأنه يقضى بشاهدين وهو يفيد الظن فالقضاء بالعلم أولى ومنهم من قطع به وعن الربيع كان الشافعي رضي الله تعالى عنه لا يبوح به لقضاة السوء وعلى هذا يقضي بعلمه بالتواتر من باب أولى إلى آخر كلام ابن الحسين الذي يحيط علمكم به فهل يا شيخ الإسلام بل إمام أئمة الأنام المحكم كالحاكم وإن قلتم لا فما الفرق وإن قلتم نعم فما هو العلم الذي يحكم به الحاكم أو المحكم بينوا لنا فإنا رأينا كلاما للأئمة لم نفهم الراجح منه؟. "فأجاب" نفعنا الله سبحانه وتعالى بعلومه بأن الذي أفهمه كلام الأذرعي في توسطه أن المحكم لا يقضي بعلمه وعبارته هل للمحكم أن يحكم بعلمه بناء على المرجح أم لا لانحطاط رتبته لم أر فيه شيئا فيحتمل أن يجري فيه خلاف مرتب أولى بالمنع ويحتمل أن يقطع بالمنع انتهت وظاهرها بل صريحها ما تقرر من أنه لا يقضي بعلمه ومن ثم جزم بذلك بعض المتأخرين ولم يعزه للأذرعي كشيخنا في شرح الروض وغيره كصاحب العباب وعليه فالفرق بين المحكم والحاكم ما أشار إليه الأذرعي بقوله لانحطاط رتبته ووجهه أن الحكم المستند إلى القضاء أقوى من الحكم المستند إلى التحكيم فالقاضي أعلى رتبة من المحكم فلا يلزم من إلحاقه به في جواز الحكم المستند إلى السبب المتفق عليه من البينة أو الإقرار إلحاقه به في جواز الحكم المستند إلى السبب المختلف فيه وهو علمه وإن كانت العلة المجوزة للقاضي الحكم بعلمه من أنه إذا جاز استناد حكمه إلى البينة التي لا تفيد إلا الظن فلأن يجوز استناد حكمه إلى العلم الذي يفيد اليقين من باب أولى جارية بعينها في المحكم على أن هذه العلة فيها نظر إذ اليقين في القاضي ليس بشرط وإنما الشرط غلبة الظن كما صرح به الشيخان حيث قالا المراد بالعلم الظن المؤيد بقرينة تمثيلهم للقضاء به بما إذا ادعى عليه مالا وقد رآه القاضي أقرضه ذلك أو سمع المدعى عليه أقر بذلك إذ رؤية الإقرار وسماع الإقرار لا يفيد العلم بثبوت المحكوم به وقت القضاء فقول الإمام إنما يقضي بالعلم فيما يستيقنه اختيار له مخالف للمذهب وبما تقرر علم أن للقاضي الحكم بعلمه المستفاد من الخبر المتواتر بالأولى لأنه يفيد العلم القطعي وبذلك صرح الإمام واعتمده ابن الرفعة وكذا ابن أبي الدم قال بعد نقله عن النهاية وهو في غاية الحسن ووجه علو مرتبة القاضي على الحكم أن القاضي له الحبس والترسيم واستيفاء ما يحكم به من العقوبات وحد القذف والمحكم ليس له شيء من ذلك لأن ذلك يخرم أبهة الولاة ومن ثم لم يجز له أن يهيئ حبسا لأنه حينئذ يكون مضاهيا للقاضي وهو ممنوع من مضاهاته وأيضا فلا يجوز أن يحكم في حدود الله سبحانه وتعالى

 

ج / 4 ص -286-        وتعازيره وألحق بها الماوردي الولايات على الأيتام ولا يجوز تحكيمه إلا إن تأهل للقضاء بالنسبة لجميع الوقائع لا لتلك الواقعة فقط فإن لم يتأهل لذلك لم يجز تحكيمه مع وجود القاضي فإن قلت لنا صورة ينفذ فيها قضاء المحكم دون القاضي فيكون أقوى منه على العكس مما مر وهي أنه يجوز له الحكم لنحو ولده وعلى عدوه على ما رجحه الزركشي لرضاء المحكوم عليه بذلك قلت ما رجحه فيه نظر ومن ثم جزم غيره بامتناع حكمه في الصورتين قال شيخنا في شرح الروض وهو القياس لأنه لا يزيد على القاضي وعلى تسليم ما ذكره الزركشي فهو لا يقتضي علو مرتبة المحكم على القاضي لأن ذلك إنما جاز له لأن المحكوم عليه بسبيل من عزل المحكم قبل تمام الحكم فرضاه بحكمه إلى فراغه يقتضي أنه وثق منه بأنه لا تهمة منه تقتضي رد حكمه بخلافه في الحاكم فإنه يلزم الخصم حكمه وإن لم يرض به فاشترط أن لا يكون هناك تهمة إذ لو وجدت لم يكن للمحكوم عليه سبيل إلى دفعها فاشترط انتفاؤها في القاضي دون المحكم فتفارقهما في ذلك لا يرجع لقوة مرتبتهما وإنما يرجع إلى حال المحكوم عليه كما تقرر فإن قلت يجوز التحاكم إلى اثنين فلا ينفذ حكم أحدهما حتى يجتمعا ولا يجوز تولية قاضيين بشرط اجتماعهما على الحكم وهذا يقتضي تميز المحكم قلت لا يقتضيه لأن ذلك إنما امتنع في القاضيين دون المحكمين لنحو ما تقرر من أن اجتماعهما على الحكم لا يلحق المحكوم عليه منه ضرر لأنه بسبيل من عزلهما قبل تمام الحكم بخلاف القاضيين لو جوزنا اجتماعهما فإنهما ملزمان وقد يختلف رأي كل أو رأي مقلده ومع ذلك لا يمكن إبراز الحكمين أو أحدهما دون الآخر فيؤدي ذلك إلى تعطيل الأحكام والإضرار بالمدعين وكأن هذا الفرق هو الذي أشار إليه ابن الرفعة بقوله يجوز أن يتحاكما إلى اثنين فيجتمعان لا تولية قاضيين يجتمعان لظهور الفرق واعلم أن شرط نفوذ قضاء القاضي بعلمه أن يكون أهلا للقضاء لانتفاء التهمة حينئذ ومن ثم قال الأذرعي إذا نفذنا أحكام القاضي الفاسق للضرورة كما مر فينبغي أن لا ينفذ قضاؤه بعلمه بلا خلاف إذ لا ضرورة إلى تنفيذ هذه الجزئية النادرة مع فسقه الظاهر وعدم قبول شهادته بذلك قطعا اهـ. ويؤيده أن الشيخ عز الدين في القواعد شرط كون الحاكم ظاهر التقوى والورع قال الزركشي ولا بد منه ويؤخذ منه أنا لو نفذنا أحكام القاضي الفاسق للضرورة لا ينفذ قضاؤه بعلمه ولا ينبغي أن يجيء فيه خلاف الغزالي السابق في تنفيذ أحكامه لأنه علله بالضرورة ولا ضرورة في تنفيذ هذه الجزئية مع ظهور فسقه اهـ.والله سبحانه وتعالى أعلم.
"وسئل" رحمه الله تعالى قال الأصحاب لو ثبت دين على غائب فعلى القاضي عند طلب المدعي قضاؤه من ماله الحاضر أي بمحل ولايته دون الغائب وإن كان بمحل ولايته وبعضهم اعتبر كون الغائب أي الشخص بمحل الولاية وإن غاب ماله فما المعتمد من ذلك وما الدليل على ذلك؟ "فأجاب" بأن الذي صرح به أصحابنا أن من وليها القاضي لو أراد أن

 

ج / 4 ص -287-        يزوجها وهي في محل ولايته صح أو في غير محل ولايته لم يصح وإن كان الزوج حاضرا كما يأتي مبسوطا وبه يعلم أن المعتمد فيما في السؤال أن من يثبت عنده دين على غائب جاز له أن يقضيه من ماله الحاضر بالبلد والغائب عنها لكن يشرط أن يكون في محل ولايته دون ما إذا كان خارجا عنها فإنه ليس له أن يحكم بقضاء حقه منه وإلا لما كان لكتاب القاضي إلى القاضي كبير فائدة وعبارة الروضة لا تفهم خلاف ذلك لأن مراده بالحاضر فيها وفي أصلها من هو بمحل ولايته وفي الخادم التقييد بالحاضر يقتضي أن ماله إذا كان عائبا لا يجب الإذن في التوفية منه وذلك لا يتجه إذا كان الغائب غير خارج عن محل عمله أما الخارج فموضع نظر فيحتمل أن لا يأذن في ذلك وينهي الحال إلى حاكم بلد الناحية ويشهد له قول الرافعي قد يكون للغائب مال حاضر يمكن توفية الحق منه وقد لا يكون فيسأل المدعي القاضي إنهاء الحكم إلى قاضي بلد الغائب اهـ. كلام الخادم قال بعضهم وفي الاستشهاد بما ذكره نظر اهـ. ويرد بأنه استدلال صحيح لأن الرافعي لما قال حاضر يمكن توفية الحق منه أن المراد بالحاضر أن يكون في محل ولايته لأن كل ما فيها يمكن توفية الحق منه ولما قال وقد لا يكون فيسأل إلخ فهم منه أنه لا يحكم فيه حينئذ وإنما ينهى إلى قاضي بلد الغائب وما ذكر عن بعضهم غير صحيح بل لا بد أن يكون ما يوفي القاضي منه في محل ولايته سواء أكان المدين المحكوم عليه في محل ولايته أم لا هذا إن كان المراد من الحكم التوفية من مال الغائب أما إذا أراد الحكم بإلزام شيء لذمته فيحكم عليه وإن كان بغير محل ولايته كما صرحوا به في قولهم لا يزوج القاضي إلا من هي بمحل حكمه حال التزويج وإن كان الزوج خارجه قال القاضي لأن حكمه بمحل ولايته نافذ في أقطار الأرض أما إذا كان الزوج بمحل ولايته دونها فلا يزوجها له وإن أذنت له قبل أن تنتقل من محل ولايته لأن الولاية عليها لا تتعلق بالخاطب فلم يكتف بحضوره بخلاف الحكم لحاضر على غائب لتعلق الحكم به اهـ. ثم رأيتني ذكرت المسألة في شرح الإرشاد وعبارته وإذا حكم له قضى أي وفي الحاكم وكيله أي وكيل الغائب الحق الذي ثبت له ولو من مال غائب حكم عليه إن كان لذلك الغائب المدعى عليه هناك مال لأنه نائبه وما أفهمه كلام الشيخين وغيرهما من أنه لا يعطيه إن لم يكن له هناك مال بل يكتب إلى قاضي بلد الخصم بسؤال المحكوم له معناه إن لم يكن في محل ولايته إذ المتجه كما قاله التاج السبكي أنه حيث كان له مال في محل ولايته أعطاه منه ولأجل ذلك حذف المصنف تقييد أصله المال الذي يقضي منه بقوله إن حضر لكن في إطلاقه نظر لشموله ما ليس في محل ولايته وبما تقرر يعلم رد تمسك الإسعاد بظاهر عبارة الشيخين وظاهر ما نقله عن التوشيح من أن العبرة بكون المحكوم عليه الغائب في محل عمله لا بماله والوجه ما مر من أن العبرة بماله لا به إذ المتصرف فيه هو المال فكان المدار عليه لا على مالكه وما بينه من أن بيع بعض القضاة بمحل ولايته توهما من مسألة في فتاوى القاضي وأن الأمر ليس

 

ج / 4 ص -288-        كما توهم فإن مسألة الفتاوى في حاضر محكوم عليه ممتنع من الأداء ظاهر لا غبار عليه فإن الحاضر بنفسه أو بوكيله لا ينظر في الحكم عليه إلى محل ماله بخلاف الغائب انتهت عبارة الشرح المذكورة وممن صرح بما ذكرته فيها من أن العبرة بماله لا به ابن قاضي شهبة فإنه سئل هل يبيع الحاكم مال الغائب لقضاء دينه إذا كان المال في محل ولاية غيره فأجاب يمتنع البيع وطريقه أن يثبت على الغائب بطريقه ويكتب به إلى قاضي بلد الغائب ليخلصه منه وعبارة التوشيح التي أخذ منها الإسعاد ما ذكرته عنه ورددته وذلك أي الوفاء من ماله الغائب لا يتجه إذا كان الغائب غير خارج عن حد عمله أما الخارج فموضع نظر ولم أجد فيه صريح نقل والأرجح في نظري أنه لا يأذن ولكن ينهي الحال إلى حاكم بلد الناحية وكلام الرافعي في أوائل الركن الثالث في كيفية إنهاء الحاكم إلى القاضي الآخر يدل عليه وسياق عبارته وتبعه على ذلك الشرف الغزي وجعلاه فيما إذا كان غائبا في محل ولايته كما لو كان حاضرا وامتنع وكما لو كانت المرأة في محل ولايته وأذنت له أن يزوجها برجل في غير محل ولايته فإنه يجوز وعلله القاضي بأن حكم الحاكم في ولايته نافذ على من بأقطار الأرض وفيما إذا كان في غير محل ولايته قياسا على تزويج المرأة المذكور ووضوح الفرق بينهما فإن تزويج القاضي جرى فيه خلاف هل هو بالولاية أو بالنيابة والأوجه أنه بنيابة اقتضتها الولاية ولا تقضيها الولاية إلا حيث كانت المرأة في محل عمله بخلاف ما إذا كانت في غير محل عمله فإنه لا علقة بينه وبينها حتى يجوز له تزويجها بخلاف مسألتنا فإن كون العين المبيعة في محل عمله اقتضى ولايته عليها وحيث اقتضى ذلك جاز له بيعها وإن كان مالكها في غير محل عمله فمالكها نظير الزوج وهو لا يشترط كونه في محل عمله ووجه كونها نظيرتها أن العين محكوم عليها بالتصرف فيها بما تصير به ملكا للغير وكذلك الزوجة محكوم عليها بتزويجها بما تصير به مستحقة للزوج فاتضح الفرق بين الزوج ومالك العين وبان أن الزوجة والعين على حد سواء وبهذا يندفع إطالة بعضهم في الاستدلال على أنه لا يشترط في العين أن تكون بمحل عمله كما لا يشترط في المحكوم عليه أن يكون بمحل عمله واستدلاله بتصريح الإمام والغزالي بأنه لا فرق في العقار المقضي به بين أن يكون في محل ولاية القاضي الكاتب أو في غيرها قال الإمام فإن قيل يقضي ببقعة ليست في محل ولايته قلنا هذه غفلة عن القضاء فكما أنه يقضي على رجل ليس في محل ولايته فيقضي ببقعة ليست في محل ولايته وعن هذا قال العلماء بحقائق القضاء قاض في قرية ينفذ قضاؤه في دائرة الآفاق ويقضي على أهل الدنيا ثم إذا ساغ القضاء على غائب فالقضاء بالدار الغائبة قضاء على غائب والدار مقضي بها اهـ. لا ينهض له لأن الكلام في قاض يكتب وينهي كما صرحا به في قولهما الكاتب والذي يكتب وينهي لا يشترط أن تكون العين المكتوب بها في محل ولايته لأن ما يفعله ليس حكما بتا وإنما هو موقوف على ما ينضم إليه مما يفعله القاضي المكتوب إليه بخلاف ما نحن فيه فإنه

 

ج / 4 ص -289-        في بيع عين ليست في محل ولايته هذا تصرف منه مستقل ليس سببه إلا الولاية وهذه العين ليست في محل ولايته فلا يتجه مع ذلك نفوذ تصرفه حينئذ لأنه لا مسوغ له وبعبارة الإمام المذكورة يعلم الرد على التاج السبكي ومن تبعه في اشتراط أن يكون الغائب المحكوم عليه في محل ولايته ومما يرد عليهما أيضا أن البيع عليه إذا كان في غير محل ولايته قضاء على غائب وهو جائز بل واجب بطلب الغريم وأيضا فالقاضي نائب الغائبين كما صرح به الأصحاب والنائب كالمنوب عنه وهو لو كان حاضرا وجب عليه البيع فكذا نائبه وأيضا فكل ما وجب على الشخص مما يقبل النيابة إذا امتنع أو غاب قام القاضي مقامه فيه وأيضا فلو لم يجب على القاضي البيع لما وجب عليه إذا حضر وامتنع وقد اتفقا على أنه إذا حضر يجب عليه البيع فكذا في غيبته، والله سبحانه وتعالى أعلم.
"وسئل" رضي الله تبارك وتعالى عنه إذا اختلف الحاكم والشاهدان في شاهدي الحكم فقال الحاكم شهدتم عندي بكذا وحكمت به وقال الشاهدان ما شهدنا عندك إلا بكذا يعني بخلاف ما حكمت به فما الحكم في ذلك صحة الحكم أو لا وما لو ورد كتاب على حاكم فيه حكمت على فلان بكذا بشهادة فلان وفلان فأحضر شاهدي الحكم فقالا لم نشهد بهذا الحكم وما نشهد إلا بكذا بخلاف الحكم أو أنكرا أصل الشهادة أو أنكرا الحضور عند الحاكم الأول أو قالا نشهد بصورة الأمر لا بحكم الحاكم هل يكون ذلك رجوعا منهم ويغرمون ما أخذ بالحكم أو لا فيكون رجوعا ويبطل الحكم ولا يغرم الحاكم أم يصح الحكم وإذا صح الحكم فعلى من الغرم وما يكون إذا لم تصح شهادة الشهود وكان الحاكم مصرا بالحكم.
وقد عمت البلوى من الحكام أنهم ربما يحكمون بغيبة الخصم والشهود عافانا الله تعالى من ذلك وربما ينكر الشهود أصل الشهادة وهم كاذبون لأجل فساد الزمان وما لو أن المحكوم له صادق الشهود الذين شهدوا بخلاف الحكم وأقروا بأن ما شهد به الشاهدان بخلاف ما حكم به الحاكم؟ "فأجاب" نفعنا الله تعالى به عن المسألة الأولى والثانية بقوله إن الحاكم متى حصر مستند حكمه في شاهدين معينين فأنكرا الشهادة عنده بذلك ولم تقم عليهما بينة بالشهادة عنده به كان الحكم به غير معتد به لبطلان سببه بإنكارهما هذا ما ظهر لي من كلامهم وأما ما اقتضاه قول السبكي في الحلبيات في مسألة ما لو ادعي على القاضي جور أو نحوه وقضية كلام الغزالي رحمه الله تعالى أن لا تسمع عليه وهو صحيح لأنه نائب الشرع فقوله أصدق من البينة من مخالفة ما قررته فغير منظور إليه لأنه رأي له ضعيف مخالف لكلام الشيخين وغيرهما كما في التوسط وغيره والكلام في قاض أمين ظاهر العدالة والديانة محمود السيرة كان ذلك في محل ولايته فإن اختل شرط من ذلك فلا تردد عندي في إلغاء حكمه وفساد دعواه ويأتي ما ذكر فيما لو قال في كتابه الحكمي أشهدت على حكمي فلانا وفلانا فأنكرا فلا يعتد بحكمه وإذا تقرر ذلك علم أن ما ذكره الشاهدان غير رجوع فلا غرم عليهما لفساد الحكم سواء أوافقهما المحكوم له أم لا؟.

 

ج / 4 ص -290-        "وسئل" رضي الله تبارك وتعالى عنه إذا حكم حاكم بشهادة شاهدين ونفذ عند حاكم آخر وتبين بطلان إشهاد الحاكم به الأول أو إبطال الحاكم الأول حكمه بقوله ما حكمت بهذا هل يبطل التنفيذ أو لا؟ "فأجاب" رحمه الله تعالى بقوله إن التنفيذ مبني على صحة الحكم الأول فمتى بان فساد الأول بان فساد التنفيذ نعم قول الحاكم ما حكمت بهذا لا يعتد به إذا شهدت عليه بينة بأنه حكم به، والله سبحانه وتعالى أعلم.
"وسئل" نفع الله تعالى بعلومه إذا حكم حاكم في كتاب وجيئ بالكتاب إلى حاكم آخر على خلاف معتقده هل ينفذ أم لا بينوا لنا ذلك؟ "فأجاب" رحمه الله تعالى بقوله إنه ينفذ وإن خالف معتقده كما حكى الشيخان تصحيحه عن السرخسي قالا وعليه العمل لكنهما حكيا قبل ذلك عن ابن كج عن النص أنه يعرض عنه فلا ينفذه ولا ينقضه لأن ذلك إعانة على ما يعتقده خطأ والمعتمد الأول كما أشارا إليه بقولهما وعليه العمل إذ هي صيغة ترجيح كما حققه بعض المتأخرين هذا كله إن كان ذلك الحكم مما لا ينقض فيه قضاء القاضي وإلا أعرض عنه جزما ونقضه بطريقه.
"وسئل" رحمه الله تعالى إذا حكم حاكم في واقعة فهل يترتب كل ما يتولد من تلك الواقعة على حكم الحاكم الأول أم كل حاكم على ما يقتضيه مذهبه كما إذا وكل وكيل في صلح أو بيع ثم باع أو صالح بمائة وما أظهر منها إلا أربعين ثم إنه استبرأ من الموكلين من وكيلهم فقال قد أبرأتموني من كل قليل وكثير وقد اتهمتموني بالمائة وأبرأتموني منها وقالوا لم نعلم أنها مائة إلا كنا متهمين وأبرأنا من شيء لا نعلمه والآن علمنا ولا نرضى تلك البراءة في هذا الزائد فقال الحاكم قد حكمت بالبراءة مما كان وما لم يكن حتى إنه لو ظهر زيادة كانت للوكيل فهل يكون كذلك لأنه يقول هذا يترتب على حكمي أم لا يكون إلا على معتقد الحاكم الآخر الذي قامت عنده البينة بالمائة وتكون للموكلين ابسطوا الجواب؟ "فأجاب" نفعنا الله سبحانه وتعالى بعلومه بقوله إن الحكم بالصحة أو الموجب يستتبع جميع الآثار المترتبة على ذلك الحكم وقته وحينئذ يتعين الرجوع في صورة السؤال إلى مذهب الحاكم المالكي ولا يجوز للحاكم أن يحكم فيها بما يخالف مذهب مالك رضي الله تبارك وتعالى عنه، والله سبحانه وتعالى أعلم.
"وسئل" رضي الله تعالى عنه عما لو دفع المستفتي والمتزوج إلى مجيبه أو ملفظه درهما أو دينارا أو أقل أو أكثر ما حكمه وما حكم الوقف على القاضي؟ "فأجاب" نفعنا الله تعالى بعلومه وبركته بقوله يجوز للمفتي أن يأخذ ما دفعه إليه المستفتي تبرعا وله أن يقول لا تلزمني الكتابة لك فإن أردتها فاستأجرني عليها فإذا استأجره لشيء ودفعه جاز له أخذه لكن الأولى التنزه عن ذلك اتباعا لأكابر السلف والخلف في ذلك ويجوز لمن علم آخر كيف يتلفظ بعقد نكاح أو نحوه أن يأخذ من المتعلم ما يعطيه له تبرعا أو بأجرة كما مر في المفتي

 

ج / 4 ص -291-        وبما ذكرته في المفتي صرح السبكي فقال فإن قلت العالم الذي تعين عليه تعليم العلم أو وجب فرض كفاية ولم يتعين هل يجوز له قبول الأجرة أو الهدية عليه قلت هذا مما اختلف العلماء فيه والأولى التنزه عنه.ولا يظهر التحاقه في التحريم بالقاضي فإن القاضي فيه وصفان أحدهما الوجوب والثاني كونه نائبا عن الله تعالى والعالم ليس فيه إلا الأول فقط ولا يجوز للقاضي أن يأخذ شيئا مما يتعاطاه من العقود والفروض والفسوخ وإن لم تكن هذه الأشياء أحكاما بمعنى أنها ليست تنفيذا لما قامت به الحجة بل إنشاء تصرفات مبتدأة ولكن الأخذ عليها ممتنع كالحكم لأنه نائب فيها عن الله تعالى كما هو نائب عنه في الحكم اهـ. قال غيره وللمفتي قبول هدية لا رشوة من السائل ليفتيه بمراده ويجوز الوقف على القاضي كما صرح به السبكي في الحلبيات بل اقتضى كلامه الاتفاق عليه وذلك أن الأذرعي قال في سؤاله عن الصدقة على القاضي من أهل عمله ممن لا حكومة له ولا غرض إلا التقرب إلى الله تعالى بذلك وقع فيه نزاع والقلب إلى التحريم أميل لئلا يتخذ ذلك وسيلة إلى الرشا ويفوت المعنى الذي حرمت لأجله الهدية وهو ميل النفس هذا كلام الأذرعي في السؤال وتبعه شيخنا زكريا رحمه الله تعالى في شرح الروض على التحريم كالهدية وأجاب السبكي فقال ما حاصله الذي يظهر لي جواز ذلك أي الصدقة وليس عندي فيه نقل فالأولى التنزه عنه بقدر الإمكان ثم فرق بين الصدقة والهدية بأن الصدقة يقصد بها وجه الله تعالى فالمتصدق في الحقيقة دافع لله تعالى صدقته أي تقع في يد قبوله وثوابه قبل أن تقع في يد الفقير فهو آخذ منه لا من المتصدق والهدية يقصد بها التودد والميل ووجه المهدى إليه والميل هو المحذور في القاضي فافترقا وكل من هذا والهبة مندوب يثاب عليه إذا قصد به وجه الله تعالى فلا مميز للصدقة عنهما إلا ما مر وحينئذ فاللام في تصدق لله للملك وفي أهدى أو وهب لله تعالى للتعليل فالمتصدق مملك لله سبحانه وتعالى كما أن الوقف ينتقل إلى الله سبحانه وتعالى والمهدي مملك للمهدى إليه.
وقد يكون لأجل الله وحينئذ فلا منة على المتصدق عليه للمتصدق إذ لا تمليك منه له ولا يد له عليه وميله له بسبب ذلك لأن القلوب جبلت على حب من أحسن إليها بخلاف الهدية فإنها تستدعي الثواب عليها عادة إما بمال أو بغيره وأطال في ذلك ثم قال ولو حرمنا على القاضي الصدقة حرمنا عليه الوقف لأنه صدقة اهـ فأفهم أن الوقف لا نزاع فيه ولا تردد في حله وإنما النزاع في الصدقة أي والأوجه فيها ما مر عن الأذرعي وشيخنا من الحرمة كالهدية لأن المعنى الذي حرمت الهدية لأجله موجود في الصدقة بتمامه وفرق السبكي المذكور بينهما لا يجدي شيئا مما نحن فيه لأنه على فرض تسليمه باعتبار ما في نفس الأمر والنظر إلى الحقائق والتقديرات البعيدة عن أفهام الناس ومثل ذلك لا يلتفت إليه في ربط الأحكام به لأنها إنما تربط بالأمور الظاهرة المتبادرة للأفهام مع قطع النظر عن تلك الحقائق والتقديرات البعيدة ولا شك أن المتبادر من الهدية والصدقة شيء واحد هو الميل

 

ج / 4 ص -292-        فكما حرمت الهدية لذلك فلتحرم الصدقة له أيضا ثم رأيت الزركشي والجوجري وابن أبي شريف وغيرهم رجحوا أن الصدقة كالهدية وبحث أبو زرعة في التحرير وشرح البهجة جواز أخذه الزكاة قطعا وأنه لو وفى عنه إنسان دينه بغير إذنه جاز قطعا وبإذنه بشرط عدم الرجوع لا يجوز قطعا اهـ. ورد قطعه بحل أخذ الزكاة بتصريحهم بمنع أخذه من سهم العامل وعللوه بما يقتضي المنع حيث قالوا لا يدخل في العامل الإمام والوالي والقاضي إذ لا حق لهم في الزكاة بل رزقهم في خمس الخمس المرصد للمصالح العامة قال بعضهم نعم يظهر أخذه من سهم الغارم إذا أذن للإصلاح ومن سهم الغازي المتطوع وقد عمت البلوى في قضاة العصر بأخذهم الزكاة مطلقا وهو خطأ مطلقا اهـ. فإن قلت فأي فرق بين الصدقة والوقف مع أنه صدقة قلت الوقف لا صنع فيه من القاضي إن قلنا بما قاله جمع متقدمون واختاره النووي رحمه الله تعالى في الروضة في السرقة ونقله في شرح الوسيط عن نص الشافعي رضي الله تعالى عنه أنه لا يشترط القبول من الموقوف عليه وعلله ابن الصلاح بأن الملك فيه يزول إلى الله تعالى كالعتق يعني ينفك عن اختصاص الآدميين فعلى هذا الفرق بين الوقف والصدقة ظاهر وأما على مقابله من أن الموقوف عليه لا بد من قبوله وهو ما رجحه في المنهاج كأصله ونقله الشيخان عن جمع متقدمين فيفرق بينهما بأن الميل في الصدقة أعظم منه في الوقف لأنها تقتضي الملك التام المقتضي للتصرف في العين بما أراد المتصدق عليه بخلاف الوقف فإنه إنما يقتضي استباحة منفعة مقيدة بما شرطه الواقف فهو محجور عليه فيما عدا ذلك وفرق ظاهر بين عقد يقتضي استقلاله وعدم الحجر عليه بوجه وهو الصدقة والهدية وعقد لا يقتضي ذلك بل عكسه وهو الوقف فلم يظهر إلحاقه بهما وإن كان محتملا نظرا إلى أنه يفضي إلى ميل مثلهما وإن اختلف الميل لكن لو كان النظر لمطلق الميل حرمت الهدية إليه ولو ممن اعتادها قبل التولية فلما جوزوا ذلك له علمنا أنه لا تعويل إلا على ما يستدعي ميلا قويا مع عدم ظهور قرينة بضعف ما أشعر به من الميل ثم رأيت الزركشي قال في خادمه أهمل الرافعي الوقف كما لو أراد واحد من أهل ولايته الوقف عليه ويظهر أنه كالهدية إن شرطنا القبول في الوقف على المعين وإلا فينبغي الصحة كما لو كان له على القاضي دين فأبرأه منه وأما إذا كان من غير أهل ولايته فلا يتخيل فيه منع وأما لو شرط الواقف في المدرسة أن تكون تدريسا للقاضي وكان للتدريس معلوم قال بعض المتأخرين أي السبكي ينبغي أن تتخرج صحة هذا الشرط على أنه لو رزق أهل الولاية أو واحد منهم أو الإمام من خاص نفسه القاضي بذلك يجوز والأصح المنع فيحتمل بطلان هذا الشرط ويحتمل أن يقال إن طلب القاضي التدريس من غير معلوم أجيب إليه ويصح الشرط لأنه قد يجتمع الفقهاء عنده أكثر وهذا غرض صحيح ويحتمل أن يقال إنه يجاب ويأخذ المعلوم لأنه ليس متعينا فلا يكون في معنى الهدية وهذا في حياة الواقف أما بعد موته فلا يتخيل فيه منع اهـ. وحاصل كلامه في الموقوف عليه

 

ج / 4 ص -293-        المعين أنه موافق على ما قدمته من صحة الوقف على القاضي بعينه إذا لم يشترط قبول الموقوف عليه المعين ومخالف للاحتمال الذي رجحته فيما إذا شرطنا قبوله ولكل من الاحتمالين وجه كما قدمته وما قاله الزركشي أحوط على أنه ليس من عنده فقد نقله أبو زرعة عن تفسير السبكي وحينئذ ففي كلام السبكي شبه تناف لأن ما قدمته عنه في الحلبيات يقتضي صحة الوقف مطلقا وكلامه في التفسير فيه التفصيل المذكور إلا أن من قواعدهم حمل الإطلاق على التفصيل ويؤيد ما قاله من المنع إذا شرطنا القبول بحث الأذرعي ومن تبعه من
أن استعارة القاضي لغير كتب العلم كالهدية إذ المنافع كالأعيان فهذا على تسليمه يدفع ما فرقت به بين الهدية والصدقة وبين الوقف من أنه يقتضي ملك منفعة فقط بخلاف ذينك فإذا ثبت أن المنافع كالأعيان لم يكن فرق بين الوقف والهدية فليلحق بها إذا قلنا باشتراط القبول لكنه ضعيف عند كثيرين من المتأخرين إذ المعتمد عندهم أنه لا يشترط مطلقا وقد مر صحة الوقف على القاضي مطلقا على هذا باتفاق ثم هذا كله يقتضي ترجيح الاحتمال الأخير من الاحتمالات الثلاث التي حكاها الزركشي وغيره عن السبكي في شرط التدريس للقاضي ووجه الصحة وإعطائه المعلوم أنه لا يجب عليه القبول في هذه الصورة فهي أولى بالصحة فيما إذا وقف عليه بخصوصه ولم يشترط القبول، والله سبحانه وتعالى أعلم.
"وسئلت" هل خط القاضي يكفي لمن أراد أن ينيبه من غير إشهاد على تلفظ القاضي بالإذن وهل يجب عليه القبول لفظا وإذا قال النائب في التزويج لتضجر لا أزوج أحدا أو لا أعقد النكاح لأحد هل ينعزل بذلك؟ "فأجبت" بقولي لا يكفي مجرد خط القاضي بالاستنابة وأما اشتراط القبول فنقل الشيخان عن الماوردي أنه إن خاطبه بالتولية اشترط القبول لفظا وإن كاتبه أو راسله لم يشترط قبوله إلا عند بلوغ الخبر ثم تعقباه فقالا سبق في الوكالة خلاف اشتراط القبول وأنه إذا اشترط فالأصح أنه لا يعتبر فيه الفور فليكن هكذا هنا اهـ. وهذا منهما صريح في أنه لا يشترط القبول هنا لفظا كما في الوكالة ويؤيد ذلك قول الأنوار قال الماوردي يشترط القبول لفظا وقال الرافعي لا كالوكالة اهـ. ففهم من كلام الرافعي أنه مصرح بخلاف ما قاله الماوردي وهو كذلك كما قررناه ومجرد امتناع النائب في التزويج منه لا يكون عزلا له إذ لا دلالة فيه على رد الإذن له فيه بخلاف قوله عزلت نفسي أو نحوه.
"وسئلت" هل لمن قرأ كتابا أو أكثر ولم يبلغ درجة الفتوى أن يفتي العامي في واقعته أو يتركه في حيرته وإذا لم يجد المسألة مسطرة ووجد لها نظير هل له أن يفتيه بحكم واقعته حملا على النظير وهل للمتبحر في الفقه حد معلوم وهل للمفتي إذا وجد فتيا أخرى في مسألة فرضية في المناسخات أن يصحح عليه من غير اختياره ولو حضر لفرضي من يريد

 

ج / 4 ص -294-        استفتاء في مسائل عويصة في المناسخات تستغرق عليه زمنا طويلا فهل له أن يقول للسائل لا أصرف هذه المدة في تصحيح سؤالك إلا بأجرة معلومة وإذا لم يصح منه الاستئجار لجهله بالعمل المستأجر له فما حيلته مع أن المفتي ليس له ما يكفيه "فأجبت" بقولي ليس لمن قرأ كتابا أو كتبا ولم يتأهل للإفتاء أن يفتي العامي إلا فيما علم من مذهبه علما جازما لا تردد فيه كوجوب النية في الوضوء ونقضه بلمس الذكر أو بلمس الأجنبية ونحو ذلك مما لا مرية فيه بخلاف مسائل الخلاف فإنه لا يفتي فيها نعم إن نقل له الحكم عن مفت آخر غيره أو عن كتاب موثوق به وكان الناقل عدلا جاز للعامي اعتماد قوله لأنه حينئذ ناقل لا مفت وليس لغير أهل الإفتاء الإفتاء فيما لم يجده مسطورا وإن وجد له نظيرا أو نظائر والمتبحر في الفقه هو الذي أحاط بأصول إمامه في كل باب من أبواب الفقه بحيث يمكنه أن يقيس ما لم ينص إمامه عليه على ما نص عليه وهذه مرتبة جليلة لا توجد الآن لأنها مرتبة أصحاب الوجوه وقد انقطعت من أربعمائة سنة ومن طلب منه إفتاء من مناسخة مكتوبة لم يجز له الإقدام عليه إلا بعد الامتحان والاختبار وللفرضي أن يمتنع من التأصيل والتصحيح إلا أن يجعل له أجرة في مقابلة ذلك وإلا فطريقه أن يجعل له على ذلك جعل معلوم.
وسئل" رحمه الله تعالى عن مسألة سئل عنها أبو الحسن الأصبحي وعن جوابه فيها وجواب غيره وهي إذا عدم في قطر ذو شوكة وحاكم ولم يوجد للمرأة ولي ولا للأطفال وصي ونحوه فهل لجماعة من أهل البلاد تنصيب فقيه يتعاطى الأحكام في الأبضاع والأموال فأجاب الأصبحي رحمه الله تعالى بقوله نعم إذا لم يكن رئيس يرجع أمرهم إليه اجتمع ثلاثة من أهل الحل والعقد ونصبوا قاضيا صفته صفة القضاة ويشترط في الثلاثة صفة الكمال كما في نصب الإمام اهـ. قال الإمام السيد السمهودي رحمه الله تعالى في فتاويه ووجهه أن الميسور لا يسقط بالمعسور فحيث تعذر الإمام وأمكن نصب القاضي وجب لأن الضرورة داعية إليه فيأثم أهل تلك البلاد بتركه وقوله صفته صفة القضاة أي التي يمكن وجودها في زمانهم فكما يجوز للإمام تولية المقلد للضرورة يتعين على هؤلاء توليته فإذا اجتمع جماعة من أهل الحل والعقد والموصوفين بصفة الكمال على نصب مقلد قاضيا تم ذلك ونفذ حكمه فيحكم بينهم بما يعلمه من مذهب إمامه وبالجملة فالتمادي على ترك إقامة قاض في قطر من الأقطار معصية تعم أهله وقد علمت أن إقامته ليست متوقفة على وجود الإمام الذي يعسر عليهم ولا على المجتهد بل الضرورة مقتضية لما ذكرناه اهـ. كلام السمهودي رحمه الله تعالى وقوله وبالجملة فالتمادي على ترك إقامة قاض في قطر من الأقطار معصية تعم أهله يؤيده قول المقدسي رحمه الله تعالى في القضاء من الإشارات إذا اجتمع أهل بلد على أن لا يلي أحد فيهم القضاء أثموا لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"إن الله لا يقدس أمة ليس فيهم من يأخذ للضعيف حقه"، اهـ. قال الشيخ الإمام ابن ناصر في

 

ج / 4 ص -295-        بعض أجوبته إن البلد الذي لا حاكم فيه تجب الهجرة منه لقولهم في باب الإمامة لا بد للناس من حاكم يأخذ على يد الظالم للمظلوم وينصف الناس بعضهم من بعض والله سبحانه وتعالى أعلم وقد سئل القاضي جمال الدين بن ظهيرة رحمه الله تعالى عما إذا كانت قرية من القرى وأهلها يملك كبارهم الحل والعقد فيها دون غيرها فهل يصح نصبهم لرجل يمضي بينهم بعض ما يمضي الحاكم وقد أظهروا له الطاعة فيما يقربهم من الله سبحانه وتعالى وبايعوه على ذلك وهو معتقد منهم عدم الوفاء ثم لم يفوا بأكثر أو بالجميع هل ينفذ منه ما ينفذ من الحاكم من تزويج المجنونة وبيع مال المديون لحق الغرماء وحفظ أموال اليتامى والبيع لهم والشراء بالمصلحة وأشباه ذلك وما يشترط فيه في نفسه وما لا يشترط فأجاب رحمه الله تعالى بأنه يجوز للكبار المذكورين أن يولوا قاضيا في القرية المذكورة يحكم بين الناس وإذا فعلوا ذلك صح ونفذت أحكامه وصح تزويجه للمجنونة وغيرها وبيع مال المديون عند امتناعه ويحفظ مال اليتيم ويتصرف فيه ويحفظ أموال الغائبين ويتولى جميع ما يتولاه الحكام وكذا لو كان للقرية شيخ يرجعون إليه في أمورهم ويقدمونه عليهم على عادة العرب فله أن ينصب حاكما يحكم بين أهل القرية كما ينصبه الإمام ونائبه ولا يشترط في الشيخ المذكور أن يكون عدلا بل لو لم يكن لأهل القرية شيخ ولا كبير يرجعون إليه فلهم أن ينصبوا قاضيا يقضي بينهم ويصح ذلك منهم وتنفذ أحكامه عليهم وقد أفتى بذلك كله الشيخ الإمام العالم العلامة الولي الكبير السيد الشهير أبو العباس أحمد بن موسى ابن عجيل اليمني رحمه الله تعالى فيما وقفت عليه له وهو ظاهر ويشترط في المنصوب المذكور ما يشترط في القاضي والشروط المعتبرة مفقودة في هذا الزمان بل من قبله بدهر طويل وقد ذكر الغزالي في وسيطه وحكاه عنه الرافعي في الشرح وجزم به في المحرر أن من ولاه ذو الشوكة نفذ حكمه وإن كان جاهلا أو فاسقا للضرورة وهذا هو اللائق بهذا الزمان ولهذا قال في الحاوي الصغير وإن تعذر فمن ولاه ذو الشوكة والله سبحانه وتعالى أعلم اهـ. ما قاله القاضي جمال الدين وأفتى ولده الشيخ شهاب الدين أحمد بأنه إذا قلد أهل الاختيار قاضيا جاز إذا أمكنهم نصرته وتنفيذ أحكامه والذب عنه وإلا فلا وكذا قال نحوه الماوردي والله سبحانه وتعالى أعلم اهـ. وعبارة الماوردي رحمه الله تعالى في الحاوي إذا خلا بلد عن قاض وخلا العصر عن إمام فقلد أهل الاختيار أو بعضهم برضا الباقين واحدا وأمكنهم نصرته وتقوية يده جاز تقليده ولو انتفى شيء من ذلك لم يجز تقليده. اهـ. كذا قاله ابن الرفعة في الكفاية وتبعه ابن النقيب وسئل بعض المتأخرين عن رجل في بلاد ليس فيها سلطان هل يجوز حكمه إذا حكمه الخصمان أو لا؟ فأجاب رحمه الله تعالى بقوله إذا حكمه الخصمان ورضيا بحكمه وكان أهلا للحكم جاز ونفذ حكمه والله سبحانه وتعالى أعلم. وسئل بعضهم أيضا عما إذا لم يكن في البلد إمام مولى ورضيت العامة بأحكام رجل عدل عندهم يلزم حكمه أم لا بد من التولية لأن الشرع مبني على

 

ج / 4 ص -296-        الحاكم فإذا لم يكن حاكم هناك من جهة السلطان ولا أمينه هل يلزم أحكام من رضوا به؟ فأجاب رحمه الله تعالى فقال إذا لم يكن في البلد قاض وكان فيها رجل عالم أو عدل ثقة مرضي به عند عدم الحاكم وتراضى به أهل البلد ونصبوه بإجماع عشرة عدول وكان عالما بالشرع أو غير عالم إلا أنه يستفتي من يثق بفتواه ويحكم بها فأحكامه وتصرفاته في ذلك نافذة والله سبحانه وتعالى أعلم ويؤيد هذا الجواب مسائل منها قول الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه لا يجوز لأحد أن يحكم إلا أن يكون فقيها كذا قال الماوردي في الحاوي وأقره الإمام الإسنوي والإمام الأذرعي في باب محرمات الإحرام من شرحي المنهاج قال الإمام الأزرق في القضاء من شرح التنبيه قال بعضهم ليس من شرط المحكم أن يكون فقيها في جميع الأحكام بل فيما حكم فيه كالقاسم قال وهو القياس كما في عامل الزكاة اهـ. قال الإمام الأذرعي في محرمات الإحرام من شرح المنهاج من حكمناه في باب اعتبر أن يكون فقيها فيه لا غير قال في القضاء منه وهو الأقرب قال الولي العراقي وشاهدت ذلك بخط الجلال البلقيني وفي غير هذا ما يدل لكلامه رحمه الله تعالى مصرحا بذلك فليكتف به اهـ.كلامه ومنها قول الشيخ محيي الدين النووي رحمه الله تعالى في الأقضية من شرح مسلم قالوا من ليس أهلا للحكم لا يحل له الحكم فإن حكم فلا أجر له بل هو آثم ولا ينفذ حكمه سواء أوافق الحق أو لا لأن إصابته اتفاقية ليست صادرة عن أصل شرعي فهو عاص في جميع أحكامه وافق الصواب أم لا وهي مردودة كلها ولا يعذر في شيء من ذلك وقد جاء في الحديث في السنن "القضاة ثلاثة قاض في الجنة واثنان في النار قاض عرف الحق فقضى به فهو في الجنة وقاض عرف الحق وقضى بخلافه فهو في النار وقاض قضى على جهل فهو في النار " اهـ. ما قاله الإمام النووي رحمه الله تعالى ومنها قول الإمام ابن الأنصاري والكمال الدميري والإمام المراغي المدني في شروحهم على المنهاج إذا تحاكم رجلان إلى رجل لا يصلح للقضاء لم ينفذ حكمه بالاتفاق والله سبحانه وتعالى أعلم ومنها ما ذكر في الكافي أن المتغلب على إقليم لو نصب فاسقا أو جاهلا وتعذر رفعه ففي نفوذ أحكامه من التزويج والتصرف في أموال الأيتام احتمال وجهين فعلى المنع أن طريق الناس التحاكم إلى من هو أهل فإن تعذر نفذت أحكامه للضرورة وقال بعض المتأخرين يتعين على السلطان في هذه الأزمنة أن يولي من اتصف بصفة العلم بمذهب إمام والله سبحانه وتعالى أعلم اهـ. ما قاله في الكافي كذا قال في مفتاح ابن كبن فهل ما ذكر صحيح أم لا؟ "فأجاب" نفعنا الله تعالى بعلومه بقوله ما ذكر في هذه الأجوبة صحيح جار على القواعد لما علمت أنه مذكور في حاوي الماوردي وأقره ابن الرفعة وغيره ويوافقه كلام صاحب الكافي وكفى باعتماد هؤلاء المفتين له وهو اللائق بقاعدة أن المشقة تجلب التيسير وأن الضرورات تبيح المحظورات وغيرهما فإذا خلت بلد أو قطر عن نفوذ أوامر السلطان فيها لبعدها وانقطاع أخبارها عنه وعدم انقياد أهلها لأوامره

 

ج / 4 ص -297-        لو بلغتهم فلم يرسل لهم قاضيا وجب على كبراء أهلها أن يولوا من يقوم بأحكامهم ولا يجوز لهم أن يتركوا الناس فوضى لأن ذلك يؤدي إلى ضرر عظيم فإذا ولوا عدلا نفذت جميع أحكامه وصار في حقهم كالقاضي ولا يشترط فيه اجتهاد لأن غايته أنه كالمحكم والمحكم لا يشترط فيه الاجتهاد إلا مع وجود القاضي وأما مع فقده فيجوز تحكيم العدل لكن لا بد من معرفته للأحكام التي يحتاج إليها ولو باستفادتها من غيره وما ذكره السائل عن جمع مما يخالف ذلك محمول على هذا التفصيل وأما ما ذكره الأصبحي رحمه الله تعالى من قوله صفته صفة القضاة فهو مؤول بما قاله السيد السمهودي رحمهما الله تعالى وما ذكر من تأثيم جميع أهل الحل والعقد بترك نصب حاكم يحكم بين الناس في بلادهم متجه وما ذكر من وجوب الهجرة من بلد لا حاكم فيه يؤيده قول الغزالي لا تجوز الإقامة ببلد لا مفتي فيه ويفهم من كلام الماوردي في الحاوي أنه لا بد أن يتفق على نصبه أهل الحل والعقد حيث قال فقلد أهل الاختيار أو بعضهم واحدا برضا الباقين وبه ينظر في قول الأصبحي ثلاثة من أهل الحل والعقد وقول السمهودي جماعة من أهل الحل والعقد لكن ما قاله هو القياس في نصب الإمام فإنه لا يشترط فيه اتفاق جميع أهل الحل والعقد بل صرحوا بأنه لو انحصر الحل والعقد في واحد مطاع كفى وكذا يقال به هنا وللماوردي أن يفرق بأن تلك ولاية عامة فلو اشترطنا حضور جميع أهل الحل والعقد لتعسر أو تعذر وفات المقصود وعظم الخطب ولم يتيسر نصب إمام لبعد اجتماعهم على واحد فاقتضت الضرورة المسامحة ثم بالاكتفاء بمن تيسر منهم وأما هنا فهذه ولاية خاصة على قوم مخصوصين فاشترط رضا جميع أهل الحل والعقد بها إذ لا عسر في ذلك ولا مشقة وهذا هو الذي يتجه ترجيحه، والله سبحانه وتعالى أعلم.
"وسئلت" عن شخص اشترى من آخر حصة مشاعة من صهريج وحفرة ثم استأجر البائع الحصة الشائعة المذكورة من المشتري ولم يكتب الموثق في حجة التبايع والتآجر ثبوتا ولا حكما ثم اتصل مضمون الحجة المذكورة بحاكم شافعي وكتب بخطه في طرتها ثبت ذلك عندي ولم يتعرض للحكم فهل يكون هذا اللفظ متضمنا للحكم بصحة التبايع والتآجر أو أحدهما أم لا يكون متضمنا للحكم وهل إذا رفعت هذه القضية إلى حاكم مخالف يكون هذا اللفظ مانعا له عن العمل في ذلك بقاعدة مذهبه أم لا؟. "أجبت" بقولي الثبوت المجرد ليس بحكم بالثابت على الأصح عندنا وعند المالكية والحنابلة وقال آخرون إنه حكم واختار السبكي التفصيل بين أن يثبت الحق أو سببه فإن ثبت سببه كقوله ثبت عندي أن زيدا وقف هذا فليس بحكم لأنه يتوقف بعد ذلك على نظر آخر وهو أن الوقف صحيح أو لا وإن ثبت الحق كقوله ثبت عندي أن هذا وقف على زيد فهو في معنى الحكم لأنه يتعلق به حق الموقوف عليه ولا يحتاج إلى نظر آخر وإن لم توجد صورة الحكم فيه فعلى الأول الأصح ليس قول القاضي ثبت ذلك عندي متضمنا للحكم بصحة بيع ولا إجارة فللمخالف

 

ج / 4 ص -298-        الحكم فيه بقضية مذهبه وعلى الثاني هو متضمن لذلك وعلى اختيار السبكي إن قال ثبت عندي أن زيدا باع هذا لم يكن حكما وللمخالف نقضه وإن قال ثبت عندي أن هذا مبيع من زيد كان حكما يمتنع نقضه، والله سبحانه وتعالى أعلم.
"وسئل" رحمه الله تعالى عن ولي الأمر إذا ولى شخصا على بلدة وفوض أمرها إليه بأن يعزل وينصب ويحكم بل فوض أمورها إليه وحكم بحرية إنسان هل ينقض ذلك الحكم أو لا؟ "فأجاب" نفعنا الله تعالى به بقوله لا ينقض حكمه المذكور إلا بسبب مقتض له كأن قامت بينة برق ذلك المحكوم بحريته فإن بينة الرق مقدمة على بينة الحرية، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
"وسئل" رحمه الله تعالى سؤالا صورته ما معنى قولهم في تكبير العيد وفي الشهادات الأشهر كذا والعمل على خلافه وكيف يعمل بخلاف الراجح؟ "فأجاب" نفعنا الله تعالى به بقوله إن الترجيح تعارض لأن العمل من جملة ما يرجح به وإن لم يستقل حجة فلما تعارض في المسألة الترجيح من حيث دليل المذهب والترجيح من حيث العمل لم يستمر الترجيح المذهبي على رجحانيته لوجود المعارض فساغ العمل بما عليه العمل.
"وسئل" رحمه الله تعالى عن ملك ليتيم احتيج لبيعه فقامت بينة بأن قيمته مائة ثم باعه القيم وحكم بصحة البيع استنادا للبينة المذكورة ثم قامت بينة أخرى بأن قيمته حينئذ مائتان فهل ينقض الحكم ويحكم بفساد البيع أو لا؟ "فأجاب" نفعنا الله تعالى به بقوله أفتى ابن الصلاح بعد التمهل أياما بأنه ينقض ووجهه أنه إنما حكم بناء على البينة السالمة عن المعارضة ببينة مثلها أو أرجح وقد بان خلاف ذلك وتبين استناد ما يمنع الحكم إلى حالة الحكم فهو كما قطع به صاحب المهذب من أنه لو حكم الحاكم للخارج على صاحب اليد ببينة فانتزعت العين منه ثم أتى ببينة فإن الحكم ينقض للعلة المذكورة بخلاف ما إذا رجع الشاهد بعد الحكم فإنه لم يتبين استناد مانع إلى حالة الحكم لأن قوله متعارض ولا مرجح.
"وسئل" عما يفتي به المفتون هل يقال إنه مذهب الشافعي رضي الله تعالى عنه سواء أعلم كونه منصوصا له أم لا يقال ذلك إلا فيما علم نصه عليه وغيره يقال فيه إنه مقتضى مذهبه؟ "فأجاب" نفعنا الله تعالى به بقوله لا يجوز أن يقال في حكم هذا مذهب الشافعي إلا إن علم كونه نص على ذلك بخصوصه أو كونه مخرجا من نصوصه على الخلاف في نسبة المخرج إليه فقد قال التقي السبكي رحمه الله تعالى في جواب المسألة التاسعة والثلاثين من المسائل الحلبية.
وأما من سئل عن مذهب الشافعي رضي الله تعالى عنه ويجيب مصرحا بإضافته إلى مذهب الشافعي رضي الله تعالى عنه ولم يعلم ذلك منصوصا للشافعي رضي الله تعالى عنه ولا مخرجا من منصوصاته فلا يجوز ذلك لأحد بل اختلفوا فيما هو مخرج هل يجوز نسبته إليه،

 

ج / 4 ص -299-        واختار الشيخ أبو إسحاق أنه لا يجوز هذا في القول المخرج وأما الوجه فلا يجوز نسبته إليه بلا خلاف نعم هو مقتضى مذهبه أو من مذهبه بمعنى أنه من قول أهل مذهبه والمفتي يفتي به إذا ترجح عنده لأنه من قواعد الشافعي رضي الله تعالى عنه ولا ينبغي أن يقال قال الشافعي رضي الله تعالى عنه إلا في منصوص له قال به أصحابه أو أكثرهم بخلاف ما خرجوا عنه بتأويل أو غيره لأن تجنبهم له يدل على ريبة في نسبته إليه وما اتفقوا عليه وقالوا ليس بمنصوص يسوغ تقليدهم فيه ولكن لا يطلق أنه مذهب الشافعي رضي الله تعالى عنه بل مذهب الشافعية فإن لم يعلم هل هو منصوص أو لا سهلت نسبته إليه لأن الظاهر من اتفاقهم أنه قال به اهـ. ملخصا، والله سبحانه وتعالى أعلم.
"وسئل" رحمه الله تعالى عن القاضي بناحية هل ينفذ حكمه في البحار والبراري التي يترددون فيها من محل ولايته إليها؟ "فأجاب" نفعنا الله تعالى بعلومه بقوله قال ابن كبن القياس نفوذه في سواحل محل حكمه وجزائره لا في سفره وبحره.
"وسئل" رحمه الله تعالى سؤالا صورته ادعى عليه عينا فقال هي لرجل لا أعرفه أو لابني الطفل أو لمسجد كذا أو وقف على الفقراء فأراد المدعي تحليفه فنكل فهل يحلف ويستحق العين أم لا؟ "فأجاب" نفعنا الله تعالى بعلومه بقوله نعم يحلف اليمين المردودة ويستحق العين في الأولى دون الثانية حتى يقيم بينة بأن العين له وبحث إلحاق ما بعد الثانية بها.
"وسئل" رحمه الله تعالى عن قول الإمام لآخر وليتك القضاء ونويا محلا معينا فهل يكفي؟ "فأجاب" نفع الله تعالى به بقوله ظاهر قولهم التعيين شرط لصحة الولاية أنه لا يكفي ولا أثر لكون ولاية القضاء تحصل بالكناية لأنه ثم أتى بلفظ محتمل تؤثر فيه النية بخلافه هنا ولا فرق في ذلك بين أن يكون ولاية ذلك المولى مقصورة على بلد واحد أو لا.
"وسئل" عمن استأجر دارا سنة ثم مات المؤجر في أثنائها فجاء المستأجر لشافعي وادعى على ورثة المؤجر أن مؤجرهم أجره كما ذكر وهم يمنعونه استيفاء ما بقي من سنته فأنكروا فأقام بينته بذلك وطلب من القاضي الحكم له بلزوم الإجارة فهل يحكم له بذلك أم لا؟ "فأجاب" نفعنا الله تعالى به بقوله بحث بعضهم أنه لا يجوز الحكم بذلك لأن باقي المدة انتقل استحقاق منفعتها لولا الإجارة إلى الوارث وهو منكر استحقاق المستأجر لذلك والبينة وردت عليه غير متعرضة لسوى ذلك بل إنما يحكم بصحة الإجارة وصحتها لا تمنع الحنفي من الحكم بانفساخها بالموت قال نعم إن ادعى الوارث على المستأجر أنه استأجر من مورثه كذلك ومات وقد بطلت الإجارة بموته وسأل تسليم الدار فللقاضي الحكم حينئذ بلزوم الإجارة وإن مات المؤجر لكن بعد طلب المدعى عليه اهـ. ويوجه ما ذكره أولا من عدم الحكم باللزوم بأن الاختلاف بين المستأجر والوارث إنما وقع في وجود

 

ج / 4 ص -300-        العقد فوجب صب الحكم عليه بأن يحكم بوجوده وصحته وأما اللزوم فأمر أخص من الوجود ولم يقع تعرض له في الدعوى فكيف يحكم به بخلافه في المسألة الأخيرة فإن الدعوى منصبة على عدم اللزوم بعد اعتراف المتداعيين بوجود العقد فساغ حينئذ الحكم باللزوم.
"وسئل" رحمه الله تعالى عن قاضي الضرورة هل تنفذ جميع أحكامه أو يستثنى منها شيء؟ "فأجاب" نفعنا الله تعالى به بقوله ظاهر كلامهم نفوذها كلها لكن قال الأذرعي وغيره لا يجوز له أن يحكم بعلمه قال الحضرمي ولا يجوز له حفظ مال الطفل بل يتركه عند عدل ولا يجوز أن يكتب إلى قاض آخر فإنه كالشاهد قال البلقيني ولا يستحق جامكية في بيت المال.
"وسئل" رحمه الله تعالى عما إذا سافر القاضي سفرا طويلا بغير إذن الإمام ولم يستنب أحدا مع أنه مأذون له في ذلك فهل ينعزل بترك ذلك؟ "فأجاب" بقوله بحث الأذرعي انعزاله بذلك وليس ببعيد حيث ترك ذلك إعراضا لا لضرورة أو خشية محذور.
"وسئل" رحمه الله تعالى سؤالا صورته وهب لطفل شخص شيئا لزمه قبوله هل يشمل ذلك القاضي؟ "فأجاب" نفعنا الله تعالى بعلومه بقوله قضية كلامهم شموله له فإذا وهب لطفله شيء لزمه قبوله لكن بحث بعض المتأخرين استثناءه قال وإلا فهو فتح باب للرشوة اهـ. وفيه نظر فإنه إذا قبله لموليه صار ملكا للمولى وامتنع على الولي التصرف فيه إلا بالحظ له ولا يتصور رجوعه إليه إلا بنحو بيعه للمصلحة فكيف يتصور فيه الرشوة، والله سبحانه وتعالى أعلم.
"وسئل" رضي الله تعالى عنه هل يلزم الدائن تسليم كتاب دينه بعد الاستيفاء أو الإشهاد عليه بذلك وكذلك البائع هل يلزمه كتاب شرائه بعد الإشهاد عليه بالشراء أو القبض؟ "فأجاب" بقوله لا يلزمه دفع ذلك لأنه ملكه والإشهاد عليه كاف في دفع ما بيده لو ادعى به.
"وسئل" رحمه الله تعالى هل للقاضي قبض أموال الغائبين أعيانا كانت أو ديونا؟ "فأجاب" بقوله هذه المسألة ذكرها الشيخان في مواضع متفرقة بينهما في المهمات في التفليس فقالا في السرقة ولا يطالب بماله وفي التفليس لا يستوفي أموال الغائبين في الذمم وإنما يحفظ أعيان أموالهم وفي استيفاء القصاص قال ابن الصباغ ليس له أخذ مال الغائب المغصوب وفي كلام الإمام وغيره ما ينازع فيه ويشعر بأنه يأخذه له ويحفظه وفي اللقطة لو أخذ القاضي المغصوب من الغاصب ليحفظه للمالك هل يبرأ الغاصب من الضمان فيه وجهان ظاهر النص منهما البراءة وعبارة الروضة أقيسهما البراءة لأن يد القاضي نائبة عن يد المالك فإن قلنا لا يبرأ فللقاضي أخذه وإن قلنا يبرأ فإن كان المال متعرضا للضياع

 

 

ج / 4 ص -301-        والغاصب بحيث لا يبعد أن يفلس أو يغيب فكذلك وإلا فوجهان وليس لآحاد الناس أخذ المغصوب إذا لم يكن في معرض الضياع وكذا إن كان لأن القاضي نائب عن الغائبين اهـ. قيل وينبغي حمل ما أطلقاه في بقية المواضع على هذا التفصيل الذي اعتمده النشائي وحاصله راجع إلى رعاية الحظ والمصلحة في ذلك للغائب ونقل في المهمات عن الفارقي أن محل الخلاف حيث كان المديون ثقة مليا وإلا وجب على الحاكم قبضه بلا خلاف وحيث ثبت له قبض حقه كان له نصب من يدعى به عند جحوده لأنه وسيلة إليه كما ذكره الغزي وفي القوت عن القفال في القضاء على الغائب ما يؤيد ذلك وزيادة فانظره فإنه مهم ومحل جواز قبض الحاكم حيث قيل به ما إذا لم يخش استيلاء نحو ظالم عليه أو ضياعه من وجه آخر إذ لا حظ للغائب حينئذ.
"وسئل" رضي الله تبارك وتعالى عنه هل يجب تقليد الأعلم الأورع من المجتهدين أم يتخير؟ "فأجاب" نفعنا الله تبارك وتعالى به بقوله الأصح عند الجمهور كما في أصل الروضة أنه يتخير أخذا مما كان عليه الصحابة ومحله كما قاله الغزالي ما لم يعتقد أن أحدهما أعلم وإلا لم يجز تقليد غيره وإن كان لا يلزمه البحث عن الأعلم ورجحه في زوائد الروضة بقوله المختار إذ هو فيها بمعنى الراجح بعد أن نظر فيه ونقله عن غيره أي كابن الصلاح ثم قال فعلى هذا يلزمه تقليد أورع العالمين وأعلم الورعين وإن تعارضا قدم الأعلم على الأصح اهـ. واعترض بأن الأصح أنه لو اختلف عليه اجتهاد مجتهدين في القبلة تخير وإن اعتقد أحدهما أفضل وبأن كلام المجموع في مقدمته وأصل الروضة فيما إذا اختلف عليه مفتيان يقتضي التخيير مطلقا وبأن قياس ذلك على وجوب تقديم أرجح الدليلين وأوثق الروايتين غير صحيح لأن المخاطب به هو المجتهد الذي يجب عليه البحث عن ذلك بخلاف غيره فإنه لا يجب عليه البحث عن الأعلم وبأن العامي لا عبرة باعتقاده إذ قد يعتقد المفضول فاضلا إذ لا تمييز له وبأن الكمال المحقق ابن الهمام صرح بأنه لا فرق ويجاب بأن أمارة القبلة ظاهرة يستوي في معرفتها الأفضل وغيره ولو سلمنا عدم استوائهما فالتفاوت بينهما فيها غير كبير بخلاف الأحكام فإن التفاوت فيها بين العلماء قد كثر وانتشر والأعلم أدرى بها فوجب تقليده وبأن اقتضاء ما ذكر في اختلاف المفتيين إما أن يقال إنه صحيح ويفرق بأن الابتداء يحتاط له أكثر لأن فيه التزام الأخذ بقوله في سائر الأحكام بخلاف ما إذا اختلف عليه مفتيان فإنه في مسألة واحدة فوسع فيه أكثر أو يقال وهو الأقرب هو مقيد بذلك أيضا وأهملوه فيها لعلمه من تلك المسألة وبأنا وإن سلمنا فساد القياس المذكور فذلك لا يقتضي ضعف كلام الغزالي المذكور على أن القياس صحيح إذ صورته أن المجتهد اعتقد الأرجحية والمقلد كذلك فتساويا حينئذ ولا نظر إلى أن ذاك يجب عليه البحث دون هذا إذ لا يصح فارقا وبأن دعوى عدم الاعتبار باعتقاد العامي في محل المنع بل هو في محل النزاع.

 

ج / 4 ص -302-        "وسئل" رحمه الله تعالى بما صورته قال الشيخان الناس كالمجمعين اليوم على أنه لا مجتهد اليوم هل لهما مستند في ذلك مع ما يلزم عليه من تعطل فرض الكفاية وتأثيم الناس والمفتين غير المجتهدين؟ "فأجاب" بقوله سبقهما إلى ذلك الفخر الرازي وغيره بل قال بعض الأصوليين منا لم يوجد بعد عصر الشافعي رضي الله تعالى عنه مجتهد مستقل أي من كل الوجوه فلا ينافيه قول كثيرين من أصحابنا اتبعنا الشافعي رحمه الله تعالى دون غيره لأنا وجدنا قوله أرجح لا أنا قلدناه أي في كل ما ذهب إليه بل وافق اجتهادنا اجتهاده في كثير من المسائل ومن ثم قال النووي رحمه الله تعالى كابن الصلاح رحمهما الله تعالى ودعوى انتفاء التقليد عنهم مطلقا لا يستقيم ولا يلائم المعلوم من حالهم أو حال أكثرهم لكن نازعهم ابن دقيق العيد واختار قول الحنابلة لا يخلو العصر عن مجتهد ومال إليه في الخادم قال والد ابن دقيق العيد وعزة المجتهد في هذه الأعصار ليس لتعذر حصول آلة الاجتهاد بل لإعراض الناس عن الطريق المفضية إليه وظاهر كلامه هذا تأثيم كل الناس من عصر الشافعي رضي الله تعالى عنه إلى الآن لأن من فروض الكفايات أن يكون في كل عصر من يصلح للقضاء وقد قال النووي كابن الصلاح رحمهما الله تعالى ومن دهر طويل يزيد على ثلاثمائة سنة عدم المجتهد المستقل ولقولهم ظاهر كلام الأصحاب أن فرض الكفاية لا يتأتى بأصحاب الوجوه لكن قال ابن الصلاح ويظهر تأدي الفرض به في الفتوى وإن لم يتأد في إحياء العلوم التي منها استمداد الفتوى لأنه قام مقام المستقل وعلى تسليم ما ذكره فقد تعطل فرض الكفاية بالمعنى الثاني الذي ذكره فالذي يجب الجزم به أن عزة المجتهد إنما هو لتعذر حصول آلة الاجتهاد لا للإعراض عن طريقه لأن أصحابنا وغيرهم بذلوا جهدهم فوق ما يطلق كما يعلم لمن تأمل أخبارهم ومع ذلك فلم يظفروا برتبة الاجتهاد المطلق كما مر وأيضا فقد ذكر الفقهاء أن فرضية ما مر إنما يخاطب بها من جمع الشروط التي ذكروها وإذا تأملت جميع أهل الأعصار المتأخرة لم تجدهم جمعوا تلك الشروط فلا إثم عليهم إذ من تلك الشروط الذكاء والمراد به كما هو ظاهر ذكاء يوصل إلى رتبة الاجتهاد لمن بذل جهده وأفنى عمره في اقتناص شوارد العلوم وأصحابنا وغيرهم قد بذلوا جهدهم وأفنوا عمرهم ولم يظفروا بذلك فعلمنا أنهم لم يتصفوا بالذكاء المذكور فلا وجوب عليهم وكذا يقال في أعصارنا التي خلت عن المجتهد بجميع أقسامه حتى مجتهد الفتوى فلا إثم عليهم في تعطل الفرض بالمعنيين المذكورين في كلام ابن الصلاح السابق فإن قلت ما وجه التعطل عن مجتهد الفتوى قلنا لأنهم ذكروا أن الشيخين وغيرهما ممن لم يبلغ رتبة أصحاب الوجوه كالغزالي وإمامه على نزاع في ذلك إنما هم مجتهدون في الفتوى لا في المذهب ولا مجتهدون منشئون وإذا كانوا هؤلاء الأئمة كذلك فأنى لك في مثل هذه الأعصار المتأخرة أن تجد مثل أقلهم ويدل لما ذكرته قول الجلال المحلي عقب حكايته القول بجواز إفتاء المقلد وإن لم يكن قادرا على التفريع والترجيح لأنه ناقل لما

 

ج / 4 ص -303-        يفتي به عن إمامه وإن لم يصرح بنقله عنه وهذا هو الواقع في الأعصار المتأخرة وقول النووي كابن الصلاح رحمهما الله تبارك وتعالى بعد أن ذكر المنتسب ومجتهد المذهب: الثالثة أن لا يبلغ مرتبة أصحاب الوجوه لكنه فقيه النفس حافظ مذهب إمامه إلى أن قال وهذه صفة كثير من المتأخرين إلى أواخر المائة الرابعة الصنف الذين رتبوا المذهب وحرروه وصنفوا فيه تصانيف منها معظم اشتغال الناس اليوم ولم يلحقوا الذين قبلهم في التخريج ثم قال: الرابعة أن يقوم بحفظ المذهب وفهمه ولكن عنده ضعف في تقرير أدلته وتحرير أقيسته ثم قال وما لم تجده منقولا إن وجد في المنقول معناه بحيث يدرك بغير كبير فكر أنه لا فرق بينهما جاز إلحاقه به في الفتوى وكذا ما يعلم اندراجه تحت ضابط ممهد في المذهب وما ليس كذلك يجب إمساكه ومثل هذا يقع نادرا في حق المذكور إذ يبعد كما قال إمام الحرمين أن تقع مسألة لم ينص عليها في المذهب ولا هي في معنى المنصوص ولا مندرجة تحت ضابط فانظر جعله من بعد المائة الرابعة ليس من مجتهدي المذهب الدال لما قدمته ثم كلام الجلال المحلي المذكور يفهم اعتماده لذلك القول وهو قريب لئلا يلزم عليه تأثيم كثير من المتأخرين بإفتائهم مع قصورهم عن درجة المذكورين في كلام النووي رحمه الله تعالى وأما قوله عقب الأقسام الأربعة وكل صنف منها يشترط فيه حفظ المذهب أي معظمه مع التمكن من الوقوف على الباقي على قرب كما ذكره قبل ذلك وفقه النفس فمن تصدى للفتيا وليس بهذه الصفة فقد باء بأمر عظيم {أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ ، لِيَوْمٍ عَظِيمٍ} فهو محمول على ما إذا وجد هناك متصف بأحد الأقسام الأربعة التي ذكرها بقرينة قوله بعد ذلك فإن قيل من حفظ كتابا أو أكثر في المذهب وهو قاصر لم يتصف بصفة أحد ممن سبق ولم يجد العامي في بلده غيره فهل له الرجوع إلى قوله فالجواب إن كان في غير بلده مفت يجد السبيل إليه وجب التوصل إليه بحسب إمكانه فإن تعذر ذكر مسألته لذلك القاصر فإن وجدها بعينها في كتاب موثوق بصحته وهو ممن يقبل خبره نقل له حكمها بنصها وكان العامي فيها مقلدا صاحب المذهب قال ابن الصلاح وهذا وجدته في ضمن كلام بعضهم والدليل يعضده اهـ. قال ابن الصلاح عقب ذلك ثم لا يعد هذا القاصر بأمثال ذلك من المفتين ولا من الأصناف المستعار لهم سمة المفتين وأما ما قطع به الحليمي والجويني والروياني وغيرهم من تحريم إفتاء المقلد بما هو مقلد فيه فهو محمول كما قاله ابن الصلاح على ما إذا ذكره بصورة من يقوله من عند نفسه ثم قال فعلى هذا من عهدناه من المفتين المقلدين ليسوا مفتين حقيقة لكن لما قاموا مقامهم وأدوا عنهم عدوا معهم وسبيلهم أن يقولوا مثلا مذهب الشافعي رضي الله تعالى عنه كذا ونحو هذا ومن ترك الإضافة فقد اكتفى بالمعلوم من الحال عن التصريح به اهـ.
"وسئل" رحمه الله تعالى هل يجوز الاعتماد على النقل من الكتب في الأحاديث والفقه وغيرهما؟ "فأجاب" نفعنا الله تعالى به بقوله: مقتضى كلام النووي رحمه الله تعالى في

 

ج / 4 ص -304-        مقدمة شرح المهذب بل صريحه جواز الاعتماد على الكتب الموثوق بصحتها وصرح به أيضا ابن الصلاح ثم قال ما حاصله ويحصل له الثقة في غير الموثوق بصحتها بأن يجده في عدة من أمثالها وفي الموثوق بصحتها بأن يراه كلاما منتظما وهو فطن لا يخفى عليه غالبا محل الإسقاط والتغيير وإن لم يثق به وكان موافقا لأصول مذهبه وهو أهل لتخريج مثله فله الإفتاء به ولا يحكيه عن إمامه إلا بصيغة وجدت عنه كذا أو نحوها وغير الأهل لا يجوز له ذلك ولا ذكره بلفظ جازم مطلق وله ذكره في غير مقام الفتوى مفصحا بحاله ك وجدت عن فلان أو في نسخة من كتابه كذا ونقل الزركشي في جزء جمعه عن الأستاذ أبي إسحاق الإسفراييني الإجماع على جواز النقل من الكتب المعتمدة ولا يشترط اتصال السند إلى مصنفها وقال إلكيا الطبري من وجد شيئا في كتاب صحيح جاز له أن يرويه ويحتج به ومنعه قوم من أصحاب الحديث لأنه يسمعه وهو غلط اهـ.
"وسئل" رحمه الله تعالى هل يجوز العمل والإفتاء والحكم بأحد القولين أو الوجهين وإن لم يكن راجحا سواء المقلد البحت والمجتهد في الفتوى وغيره؟ "فأجاب" نفعنا الله تعالى بعلومه بقوله في زوائد الروضة إنه لا يجوز للمفتي والعامل أن يفتي أو يعمل بما شاء من القولين أو الوجهين من غير نظر قال وهذا لا خلاف فيه وسبقه إلى حكاية الإجماع فيهما ابن الصلاح والباجي من المالكية في المفتي وقد يؤخذ من قول الروضة بغير نظر أن محل ما ذكره بالنسبة للعامل إن كان من أهل النظر بخلاف غيره فإنه يجوز له مطلقا وهو متجه ويدل عليه ما صححه فيها من أن العامي لا يلزمه أن يتمذهب بمذهب معين بل له تقليد من شاء وكلام القرافي أول أحكامه وعند السؤال الثاني والعشرين دال على أن المجتهد والمقلد لا يحل لهما الحكم والإفتاء بغير الراجح لأنه اتباع للهوى وهو حرام إجماعا وإن محله في المجتهد ما لم تتعارض الأدلة عنده ويعجز عن الترجيح وإلا فقيل تسقط وقيل يختار واحدا وليس اتباعا للهوى لأنه بعد بذل الجهد والعجز عن الترجيح وإن لمقلده حينئذ الحكم بأحد القولين إجماعا وهذا لا يخالف كلام الروضة باعتبار ما دل عليه كلامها بعد ما قدمناه عنها ويلتزم أن يقال بقضية كلامه الأخير فإذا وجد قولين أو وجهين في مسألة ولم يعلم الراجح منهما وعجز عن طريق الترجيح جاز له العمل بأيهما أحب فقول السبكي فإن قلت إذا استوى عنده القولان فهل يجوز أن يفتي أو يحكم بأحدهما من غير ترجيح كما إذا استوى عند المجتهد أمارتان يتخير على قول قلت الفرق بينهما أن تعارض الأمارتين قد يحصل حكم التخيير من الله تعالى وأما قول الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه مثلا إذا تعارضا ولم يحصل بينهما ترجيح ولا تاريخ يمتنع أن يقال مذهبه كل واحد منهما أو أحدهما لا بعينه حتى يتخير فليس إلا التوقف إلى ظهور الترجيح مناف لكلام القرافي الذي نقل عليه الإجماع ثم مقتضى قول الروضة أيضا وإذا اختلف متبحران في مذهب لاختلافهما في قياس أصل إمامهما ومن هذا يتولد وجوه الأصحاب فبقول أيهما

 

ج / 4 ص -305-        يأخذ العامي فيه ما في اختلاف المجتهدين أي فيكون الأصح التخيير لأنه يجوز تقليد الوجه الضعيف في العمل ويؤيده إفتاء البلقيني بجواز تقليد ابن سريج في الدور وإن ذلك ينفع عند الله تعالى فما في الجواهر عن ابن عبد السلام من امتناعه أخذا من قول ابن الصباغ أنه خطأ غير متجه ويؤيده أيضا قول السبكي في الوقف من فتاويه يجوز تقليد الوجه الضعيف في نفس الأمر أو القوي بالنسبة للعمل في حق نفسه لا الفتوى والحكم فقد نقل ابن الصلاح الإجماع على أنه لا يجوز اهـ. فكلام الروضة السابق محمول بالنسبة للعمل على وجهين لقائل واحد أو شك في كونهما لقائل أو قائلين كما في قولي الإمام لأن المذهب منهما لم يتحرر للمقلد بطريق يعتمده أما إذا تحقق كونهما من اثنين خرج كل واحد منهما من هو أهل للتخريج فيجوز تقليد أحدهما كما يصرح به قول أصل الروضة السابق إذ لا يمكن حمله إلا على هذه الحالة ثم رأيت بعضهم حمل كلام ابن عبد السلام السابق على ما إذا كان أصحاب المذهب اختار كل واحد منهم قولا ثم قال فإن ما كان كذلك التخيير فيه ظاهر لتضمن اختيار كل قول من بعض المذهب ترجيحه فهو كالوجهين لقائلين ثم ذكر عنه جواز تقليد القول الأول وإن رجع عنه قائله ووجهه أن رجوعه عنه إنما هو لأرجحية الثاني عليه فالرجوع لا يقتضي رفع الخلاف السابق كما في أوائل الخادم وحكى الأصوليون في اجتماع أهل العصر بعد اختلافهم قولين في ارتفاع الخلاف فما لم يقع فيه اجتماع أولى وحاصل ما مر الجواز عند ابن عبد السلام في مسألة القولين مطلقا وهو وإن كان له وجه إذ القول الذي قلده إما أن يكون في مسألة غير مولدة فذلك الإمام مسبوق به فيجوز تقليده وإما في مولدة فالرجوع لا يرفع الخلاف كما تقرر لكن المعتمد عند الشيخين وغيرهما ما مر ومقتضى كلام السبكي أن ما مر عن الروضة في المفتي محله في المتعنت فإنه قال: نعم المفتي على مذهب إذا أفتى يكون الشيء واجبا أو مباحا أو حراما على مذهبه حيث يجوز للمقلد الإفتاء ولا يحسن أن يقال ليس له أن يقلد غيره ويفتي بخلافه لأنه حينئذ محض تشبه اللهم إلا أن يقصد مصلحة دينية فنعود إلى ما قدمناه ونقول بجوازه اهـ. ومقتضى كلامه أيضا أن ما مر عنها في الخادم محله في غير من له أهلية الترجيح بخلاف من له ذلك فإنه متى رجح قولا منقولا بدليل جيد جاز ونفذ حكمه به وإن كان مرجوحا عند أكثر الأصحاب ما لم يكن بعيدا شاذا أو يخرج عن مذهبه وإلا جاز إن ظهر له رجحانه وهو من أهله ولم يشترط عليه التزام مذهب بلفظ كوليتك على مذهب فلان أو عرف وأفتى السبكي أيضا بأنه يجوز تقليد القول بصحة بيع الغائب لأنه قول الأكثر والدليل يعضده ولاحتياج أكثر الناس إليه في أكثر ما يراد شراؤه.
"وسئل" رحمه الله تعالى هل لولي الأيتام أن يقسم بينهم وحده؟ "فأجاب" بقوله لا يجوز استقلاله بذلك بل لا بد من قاسم آخر معه إن كانت القسمة إفرازا فإن كانت بيعا فلا بد من الحاكم أو منصوبه.

 

ج / 4 ص -306-        "وسئل" رحمه الله تعالى هل يجب بعد تدوين المذاهب التزام أحدها وهل له الانتقال عما التزمه؟ "فأجاب" بقوله الذي نقله في زيادات الروضة عن الأصحاب وجوب ذلك وأنه لا يفعله بمجرد التشهي ولا بما وجد عليه أباه بل يختار ما يعتقده أرجح أو مساويا إن اعتقد شيئا من ذلك وإلا فهو لا يجب عليه البحث عن أقوم المذاهب كما لا يجب عليه البحث عن الأعلم ثم قال والذي يقتضيه الدليل أنه لا يلزمه التمذهب بمذهب بل يستفتي من شاء أو من اتفق لكن من غير تلقط الرخص فلعل من منعه لم يثق بعدم تلقطه اهـ. وظاهره جواز الانتقال وإن اعتقد الثاني مرجوحا وجواز تقليد إمام في مسألة وآخر في أخرى وهكذا من غير التزام مذهب معين أفتى به العز بن عبد السلام والشرف البارزي وفي الخادم عن ابن أبي الدم في باب القدوة ما يؤيده وإن كان مردودا من جهة أخرى كما يعرف بتأمله وعبارة الغزالي في فتاويه لا يجوز لأحد أن ينتحل مذهب إمام رأسا إلا إذا غلب على ظنه أنه أولى الأئمة بالصواب ويحصل له غلبة الظن إما بالتسامع من الأفواه أو بكون أكثر الخلق تابعين لذلك الإمام فصار قول العامي أنا شافعي أنا حنفي لا معنى له لأنه لا يتبع إماما عن غلبة الظن بل يجب أن يقلد في كل حادثة من حضر عنده من العلماء في تلك الساعة ثم اشتراط عدم تتبع الرخص هو المعتمد وتبعه المحقق الكمال بن الهمام من الحنفية وعلى الأول فهل يفسق بالتتبع وجهان أوجههما أنه لا يفسق كما يقتضيه كلام النووي في فتاويه وقول بعضهم إن ابن حزم حكى الإجماع على الفسق محمول على متتبعها من غير تقليد وإلا فقد أفتى ابن عبد السلام بجوازه وقال: إن إنكاره جهل وهل المراد بالرخص هنا الأمور السهلة أو التي ينطبق عليها ضابط الرخصة عند الأصوليين محل نظر ولم أر من نبه عليه ومقتضى تعبير أصل الروضة بالأهون عليه الأول وليس ببعيد ثم شرط الانتقال أن لا يعمل بمذهب في واقعة مع بقائه على تقليد إمام آخر في تلك الواقعة وهو يرى فيها خلاف ما يريد العمل به وأن يكون ذلك الحكم مما ينقض فيه قضاء القاضي قاله ابن عبد السلام وتابعه عليه ابن دقيق العيد وألحق بما ينقض ما خالف ظاهر النص بحيث يكون التأويل مستكرها وزاد شرطين آخرين كما في الخادم أحدهما أن لا تجتمع صورة يقع الإجماع على بطلانها كما إذا افتصد ومس الذكر وصلى الثاني انشراح صدره للتقليد وعدم اعتقاده لكونه متلاعبا بالدين لحديث: "الإثم ما حاك في نفسك"، قال بل أقول إن هذا شرط جميع التكاليف وهو أن لا يقدم إنسان على ما يعتقده مخالفا لأمر الله عز وجل وبالأول جزم القرافي ومثله بمن قلد مالكا في عدم النقض باللمس بلا شهوة فلا بد أن يكون قلد مالكا في تلك الطهارة التي مس فيها ويمسح جميع رأسه وإلا فصلاته باطلة عند الإمامين ونقله عنه الإسنوي وأقره وذكر من فروعه ما لو نكح بلا ولي ولا شهود فإنه يحد كما قاله الرافعي لاتفاق أبي حنيفة ومالك على بطلان النكاح وأما الثالث كالذي وافق عليه ابن عبد السلام فنظر فيهما بأن العامي لا يستقل بذلك ولا وثوق بما في ظنه وبأنهما مبنيان على وجوب البحث والعمل بما يترجح

 

ج / 4 ص -307-        عنده ويميل قلبه إليه والمعتمد خلافه نعم إن علم ذلك ممن له أهلية فيمكن القول بما ذكره ابن عبد السلام ويؤيده إيجابهم الحد على من وطئ أمة بإذن مالكها وإن قلد عطاء وطاوسا في إباحة ذلك وأما ما زاده ابن دقيق العيد فبعيد جدا كما قاله بعض المتأخرين إذ ما من مذهب إلا وهو مشتمل على مثل ذلك ولا يخفى ما فيه من المشقة المنافية للرخص للعوام في تقليد من شاءوا وما ذكره من التلاعب بالدين ممنوع لأنه لا يتأتى مع فعل ما خير فيه شرعا وكذا دعواه اعتقاد المخالفة إذ من قلد الشافعي واعتقد أرجحيته يرى جواز تقليد الحنفي بناء على جواز التخيير وعدم لزوم التقييد بالراجح وهو الأصح فمتى قلده لا يقال إنه أقدم على ما يعتقده مخالفا لأمر الله تعالى بل ما يعتقد موافقته له وفي صحيح مسلم: "الإثم ما حاك في نفسك وكرهت أن يطلع عليه الناس"، فلا دليل فيه ومعنى حاك تردد حتى حصل في القلب شك وخوف كونه ذنبا أو رسخ فيه واستقر كونه ذنبا أو خرج جوابا لفطن حاذق الفهم دون ضعيف الإدراك وعلى كل فلا دليل فيه وشرط ابن السبكي تبعا للآمدي وابن الحاجب أن لا يعمل بقول إمامه في واقعة قالا فمتى عمل به في واقعة فليس له الرجوع عنه اتفاقا كذا نقل عنهما غير واحد لكن في تمهيد الإسنوي عن ابن الحاجب إثبات الخلاف ولكنه فرضه فيمن التزم مذهبا معينا وكلام ابن الحاجب دال عليه لكن يلزم عليه حكاية الاتفاق على المنع فيمن لم يلتزم مذهبا معينا وإثبات خلاف في الملتزم وما أبعده إذ العكس أولى لأن التزامه ملزم له كما لو التزم مذهبه في حكم حادثة معينة على أن السبكي في فتاويه منع دعوى الاتفاق حيث قال ما حاصله السابعة أن يعمل بتقليده الأول كالحنفي يدعي شفعة الجوار فيأخذها بمذهبه ثم تستحق عليه فيريد تقليد الشافعي رضي الله تعالى عنه فيمنع لأنه مخطئ إما أولا أو ثانيا وهو شخص واحد مكلف أي والقضية واحدة بخلاف ما لو اشترى هذا الحنفي عقارا آخر فإن له تقليد الشافعي رضي الله تعالى عنه في امتناع شفعة الجوار قال وقول الآمدي وابن الحاجب يجوز قبل العمل لا بعده بالاتفاق دعوى الاتفاق فيها نظر وفي كلام غيرهما ما يشعر بإثبات خلاف بعد العمل أيضا وكيف يمتنع إذا اعتقد صحته ولكن وجه ما قالاه أنه بالتزامه مذهب إمام يكلف به ما لم يظهر له غيره والعامي لا يظهر له الغير ولا بأس به لكن أرى تنزيله على الصورة التي ذكرتها ثم استشهد لما اختاره بما فيه طول ويجوز الانتقال مطلقا أفتى العز بن عبد السلام وهو مقتضى كلام النووي وقد صرح في مجموعه بأن ما شمله إطلاق الأصحاب في حكم المنقول فلا يعتد بمخالفة بعضهم له وتبعه على ذلك الإسنوي والولي العراقي والجلال البلقيني ويؤيد ما مر من الإطلاق ما في الخادم عن القاضي أبي الطيب من أنه هم بالتحرم فذرق عليه طير فقال أنا حنبلي وأحرم ومعلوم أنه كان يتجنب ذرق الطيور لنجاسته عنده وفي المجموع يسن لمن نسي النية في رمضان أن ينوي أول النهار لإجزائه عند أبي حنيفة فيحتاط بالنية فنيته حينئذ تقليد له وإلا كان متلبسا بعبادة فاسدة في اعتقاده وذلك حرام.

 

ج / 4 ص -308-        "وسئل" رحمه الله تعالى هل يجوز تقليد الصحابة رضوان الله تعالى عليهم أم لا فما الدليل عليه؟ "فأجاب" نفعنا الله تعالى بعلومه بقوله نقل إمام الحرمين عن المحققين امتناعه على العوام لارتفاع الثقة بمذاهبهم إذ لم تدون وتحرر وجزم به ابن الصلاح وألحق بالصحابة التابعين وغيرهما ممن لم يدون مذهبه وبأن التقليد متعين للأئمة الأربعة فقط قال لأن مذاهبهم انتشرت حتى ظهر تقييد مطلقها وتخصيص عامها بخلاف غيرهم ففيه فتاوى مجردة لعل لها مكملا أو مقيدا لو انبسط كلامه فيها لظهر خلاف ما يبدو منه فامتنع التقليد إذا لتعذر الوقوف على حقيقة مذاهبهم اهـ. والقول الثاني جواز تقليدهم كسائر المجتهدين قال ابن السبكي وهو الصحيح عندي.غير أني أقول لا خلاف في الحقيقة بل إن تحقق مذهب لهم جاز وفاقا وإلا فلا اهـ. ويؤيده ما نقله الزركشي عن جمع من العلماء المحققين أنهم ذهبوا إلى جواز تقليدهم واستدل له ثم قال وهذا هو الصحيح إن علم دليله وصح طريقه ولهذا قال ابن عبد السلام في فتاويه إذا صح عن صحابي ثبوت مذهب جاز تقليده وفاقا وإلا فلا؛ لا لكونه لا يقلد بل لأن مذهبه لم يثبت كل الثبوت اهـ. كلام الزركشي فتأمله مع قول ابن عبد السلام وفاقا يتضح لك اعتماد ما ذكره ابن السبكي ومقتضى قول المجموع فعلى هذا أي وجوب التمذهب بمذهب معين يلزم أن يجتهد في إثبات مذهب إلى أن قال وليس له التمذهب بمذهب أحد من الصحابة رضي الله تعالى عنهم وبسط دليله وبين أن مذهب الشافعي رضي الله تعالى عنه أقوم المذاهب إن ذلك مفرع على القول الضعيف ويدل له قول ابن برهان تقليد الصحابة مبني على جواز الانتقال في المذاهب فمن منعه منع تقليدهم لأن فتاويهم لا يقدر على استحضارها في كل واقعة حتى يمكن الاكتفاء بها فيؤدي إلى الانتقال ومذاهب المتأخرين تمهدت فيكفي المذهب الواحد المكافئ طول عمره اهـ. وهو حسن بالغ وبه يعلم جواز تقليدهم في مسائل إذ لا يجب التمذهب بمذهب معين خلافا للحنفية.
"وسئل" رحمه الله تعالى عن مسألة فيها قولان بالحل والحرمة كشرب النبيذ فشربه من غير تقليد القائل بالحل فهل يأثم أو لا لأن إضافته لأحدهما ليست بأولى من إضافته للآخر؟ "فأجاب" بقوله أجاب عن ذلك ابن عبد السلام بما حاصله أن علم المكلف بما هو ملابس له فرض عين فيجب على المتلبس بشرب النبيذ النظر قبل ذلك فيمن أحله أو حرمه ليقدم أو يترك فهو عاص بترك ذلك وكذا بالشرب أخذا من قول الشافعي رضي الله تعالى عنه من باع بيع النجش أثم وإن لم يبلغه النهي لأن الخيانة قد علم تحريمها من الدين بالضرورة فإثمه لتقصيره بخلاف من باع على بيع أخيه فحاصله أن ما فعله إن اشتهرت حرمته في الشرع أثم وإلا فلا وأنه لا فرق بين أن يكون متفقا على حكمه أو مختلفا فيه وقلد القائل بالحرمة أم لم يقلد وهو متجه وهو ظاهر إن علم أن في المسألة خلافا وإلا فإن عذر بجهله لم يأثم كما يقتضيه ما في مقدمة المجموع عن ابن الصلاح وإن رده الأذرعي

 

ج / 4 ص -309-        بأنه إذا لم يجد من يعلمه مطلقا كانت الأشياء على الإباحة كما قبل ورود الشرع وإن لم يعذر أثم من حيث ترك التعلم اتفاقا وكذا من حيث الشرب على ما اقتضاه كلام ابن عبد السلام ويحتمل خلافه وفي الحجر من الخادم عن الماوردي أن الصبي إذا كان شافعيا وبلغ وهو يشرب النبيذ فسق وعن ابن أبي هريرة رحمه الله تعالى لا يفسق ثم بحث طرد ذلك في كل ما اختلف فيه من هذا الجنس ورد غيره ما ذكر ابن أبي هريرة بأنه فرعه على ما يراه من جواز تتبع الرخص وفيه نظر لأن محله ما إذا نوى تقليد القائل بالحل وفي هذه إذا نوى ذلك لا يفسق لأن هذه مسألة واحدة فالتقليد فيها لا يقال إنه تتبع للرخص فالوجه أنه جعل الاختلاف في الحل مانعا للفسق وكلامهم يرده، والله سبحانه وتعالى أعلم.
"وسئل" رحمه الله تعالى هل للشافعي الأخذ بشفعة الجوار إذا قضى له بها حنفي والشهادة بها وبنحوها كالتعريض بالقذف عنده وإذا أمر الإمام جلادا شافعيا بقتل مسلم بكافر هل يحل امتثال أمره أم لا؟ "فأجاب" نفع الله تعالى به بقوله أما المسألة الأولى فيحل الأخذ فيها ظاهرا وباطنا كما رجحه الشيخان في باب القسامة حيث نقلاه عن ميل الأئمة ونقلاه في الدعاوى عن الأكثرين والقاضي والإمام عن الجمهور فهو المعتمد وإن خالف فيه جماعة من أصحابنا واعتمده السبكي ومال إليه كلام الشيخين في موجبات الضمان كما قيل على نظر فيه لاستغنائهما بما صرحا به في مواضع ويشهد له ما حكاه ابن أبي الدم عن الأصحاب من أن الحنفي لو خلل خمرا بما لا يطهر به عند الشافعي فأتلفها فرفعه لحنفي فقضى على الشافعي بضمانها لزمه قولا واحدا حتى لو لم يكن للمدعي بينة وطالبه بعد بأداء قيمتها لم يجز له أن يحلف أنه لا يلزمه شيء وفرضه كون المدعي حنفيا ليس بقيد بل لو كان شافعيا كان كذلك وما في فتاوى ابن الصلاح من جواز بيع الوقف على النفس باطنا وإن حكم به حنفي ونفذه شافعي فمبني على مقابل كلام الشيخين وأما الثانية فصحح في زيادة الروضة فيها قبول الشهادة وظاهره أنه لا فرق بين أن يقول أشهد أن فلانا جار فلان أو أنه يستحقها عليه بسبب الجوار أو أنه يستحق عليه الشفعة والأولى ظاهرة والثانية كذلك وإن تردد فيها الأذرعي والثالثة لا تقبل كما رجحه الهروي لاختلاف الناس فيما يستحق فيه الشفعة وبم تستحق وحكى في أصل الروضة وجهين في باب الشهادة في جواز الأداء وحكى بعده وجهين في جواز التحمل وحكى عن الصيمري ترجيح الجواز ومنه يعلم ترجيح جواز الأداء بالأولى بل وجوبه لأنه حيث جاز التحمل وتحمل لزمه الأداء كما اقتضاه كلامهم وظاهر ما تقرر أنه لا فرق بين أن يقلد الشاهد القائل بذلك أو لا لكن في فتاوى ابن عبد السلام لا يجوز لشافعي أن يحضر عقد حنفي على صغيرة لا أب لها ولا جد ولا الشهادة على الصبية بإذنها في التزويج في ذلك إلا إذا قلد الحنفي اهـ. وفي عمومه نظر والأوجه ما قاله السبكي في فتاويه فيمن حضر عقد نكاح يخالف مذهبه من أن له أن يشهد بجريانه وإن لم يقلد فإن أراد أن يشهد بالزوجية لم يجز إلا إن قلد وكذا لا يجوز أن يتسبب

 

ج / 4 ص -310-        فيه ويتعاطى ما يعين عليه إلا إن قلد وإنما يجوز عند عدم التقليد الشهادة بجريانه إذا اتفق حضوره وطلب منه الأداء فلا يمتنع ونقل الدميري عنه أنه لا يحل للشافعي أن يشهد بالكفر أو بالتعريض بالقذف أو بموجب التعزير عند من يعلم أنه لا يقبل التوبة ويحد بالتعزير ويعزر بما ينتهي إلى القتل وفرق بينه وبين مسألة الشفعة بأن الأموال أخف ويؤيده قول ابن سراقة ليس له أن يشهد عند حنفي على مسلم بقتل كافر لأنه يقتله به وأما المسألة الثالثة فحيث لم يقلد الجلاد أبا حنيفة رحمه الله تعالى حرم عليه وقتل به وضمنه كما نقله في أصل الروضة عن قطع البغوي وغيره وفرق بينه وبين مسألة الشفعة بأن الذي يستفيد الحل هو المحكوم له بثبوت القصاص دون الجلاد فيؤاخذ بما عمله مما يخالف عقيدته وإن أذن له الإمام ما لم يوكله المستحق على الأوجه.
"وسئل" رحمه الله تعالى عن يمين الاستظهار هل ترد كما أفتى به بعض فقهاء جهتنا أخذا من كلام في فتاوى السبكي والسمهودي أو لا كما أفتى به بعضهم مدعيا أن كلام السبكي لا يؤخذ منه ذلك؟ "فأجاب" بقوله رد يمين الاستظهار الواجبة من غير طلب الخصم لا يتصور لأنها إنما تجب على مدع على غائب أو طفل أو مجنون أو ميت بلا وارث خاص فإذا أقام المدعي على واحد من هؤلاء بينة كاملة أو شاهدا وحلف معه وجب عليه حينئذ يمين الاستظهار فإن حلفها استحق وإن نكل عنها لم يستحق شيئا ولا يتصور في واحدة من هذه الصور ردها لأن المدعى عليه لا يتصور حلفه أما الغائب والصبي والمجنون فواضح ووليهما لا يمكنه الحلف عنهما وأما الميت فالفرض كما قررناه أنه لا وارث له خاص بل وارثه بيت المال ووليه لا يمكن حلفه أيضا لأن الولي إنما يحلف فيما يتعلق بمباشرته على ما فيه من التناقض المشهور وليس هنا شيء يتعلق بمباشرته أما يمين الاستظهار الواجبة بالطلب كما لو كان للميت وارث خاص فإنه يعتبر في وجوب حلف المدعي يمين الاستظهار طلب الوارث لأن الحق له في التركة فإذا طلبها تصور فيها الرد عليه من المدعي كما هو ظاهر إذ لا مانع منه ووجوبها أصالة في جانب المدعي لا يمنع ردها، ألا ترى أن أيمان القسامة واجبة أصالة في جانب المدعي ومع ذلك له ردها على المدعى عليه فإن قلت نقل الزركشي عن جمع وأقره أنه لو كان للصبي أو المجنون نائب خاص اعتبر في وجوب اليمين طلبه فعليه هل يتصور الرد قلت الوجه خلاف ما نقله وارتضاه بل تجب يمين الاستظهار لهما وإن كان لهما نائب خاص وإن لم يطلبها لأن فيها حقا لله تعالى وحق هذين آكد من حق غيرهما فلا تسقط بعدم طلب فتأمل هذا التفصيل تعلم به الحق في المسألة وأن إطلاق الرد وإطلاق عدمه غير صحيح ولم يتيسر لي الآن إلا الوقوف على شرحي للإرشاد دون فتاوى السبكي وغيرها مما ذكر في السؤال، والله سبحانه وتعالى أعلم.

 

ج / 4 ص -311-        "وسئل" عن يمين الاستظهار أنها شرط في الحكم فلا يحكم الحاكم حتى يحلف البالغ أو الصبي بعد بلوغه فكيف يدفع المال لولي الصبي قبل وجود الشرط والحكم على الأصح فلو مات الصبي هل يحلف وارثه ويستحق المال أو يدفع المال لمن كان تحت يده أولا بعد حلفه كنكوله أو يكون في مستودع الحكم وإذا جن الصبي بعد بلوغه قبل الحلف وطال جنونه وأيس منه بقول الأطباء مثلا ما الحكم فيه وهل للولي أن يتصرف في المال للصبي بالمصلحة إلى حين بلوغه وحلفه أوضحوا لنا ذلك؟ "فأجاب" نفعنا الله تعالى بعلومه وبركته بقوله: يمين الاستظهار فيما لو ادعى قيم طفل أو مجنون على قيم طفل أو مجنون وأقام بينة اختلفوا في وجوبها فالذي جرى عليه الشيخان أنها واجبة وهو المعتمد وعليه ف لا يسلم المدعى به لولي المدعى له حتى يكمل ويحلف فهو باق بملك المدعى عليه ظاهرا فلوليه التصرف فيه نعم لا يبعد أن يأتي فيه قولهم لو أقام شاهدين ولم يعدلا أو شاهدا ولم يعدل طولب خصمه بكفيل حتى يعدلا أو يعدل فإن امتنع حبس للامتناع لا لثبوت الحق بل لو ادعى عليه ولم يحلفه وطلب منه كفيلا حتى يأتي بالبينة وخيف تغيبه لزمه أن يأتي بكفيل كما صرح به الإمام وعليه حمل ما اعتاده القضاة من إلزامهم المدعى عليه بالكفيل بمجرد الدعوى أما إذا لم يخف تغيبه فلا يجوز إلزامه بذلك. وقيل ذلك إلى رأي الحاكم فإذا ألزم هناك بالكفيل بمجرد خشية تغيبه ولم تقم عليه بينة فأولى أن يلزم القيم المدعى عليه بذلك في مسألتنا لقيام البينة وقبولها فيها وإنما بقي متمم الحجة وهو اليمين فإن قلت ذكروا أنه لو استمهله الخصم ليجرح الشهود أو ليثبت البراءة أو نحو ذلك أمهل ثلاثة أيام فلو طلب المهلة ليخرج إلى بلد أي بعيدة المسافة ليأتي ببينة دافعة لم يمهل بل يؤمر بالوفاء ثم إن ثبت خلافه استرد قاله الرافعي فهلا كانت مسألتنا كذلك قلت فرق واضح بينهما فإن الحق في هذه وجود شرط ثبوته وجميع ما يعتبر فيه والأصل عدم ما ادعاه فأمر بالوفاء ثم إن صدقت دعواه استرد له وإلا فلا وأما في مسألتنا يوجد جميع شروط ثبوت الحق لأن من جملتها اليمين وهي الآن متعذرة فلم يمكن الأمر بالتسليم لاستحالته قبل ثبوت الحق فإن قلت ذكر الشيخان بعيد ما مر عنهما في مسألتنا من انتظار البلوغ لتعذر الحلف أنه لو ادعى ولي صبي مالا على آخر فادعى أنه أتلف عليه عينا بدلها من جنس دينه وقدره حكم عليه بتسليم الحق ثم يحلف له الصبي إذا كمل فلم لم يقولوا بذلك في مسألتنا قلت هذا من الشيخين رحمهما الله تعالى دليل واضح لما قررته أنه في مسألتنا لا يؤمر بالتسليم بخلافه في هذه وقد استشكل الإسنوي وغيره بتلك ثم أجابوا بما حاصله أن اليمين الواجبة هنا لا تتعلق بالدعوى الأولى بل بالدعوى الثانية وهي أجنبية عن الدعوى الأولى فعملنا بقضية الإقرار في الأولى لغير المتوقف على يمين وألزمنا المقر بالتسليم لتمام الحجة وهي إقراره الذي لا يحتاج إلى انضمام يمين إليه وأما دعواه أن الصبي أتلف له ما ذكر فهو خصومة ودعوى أخرى لا تعلق لها بالأولى فوقفنا الأمر فيها إلى كمال الصبي وأما في

 

ج / 4 ص -312-        مسألتنا فالحجة لم تتم كما قررناه أولا فلم يمكن القضاء فيها بالتسليم وخشية الفوات منتفية بما ذكرته من الكفيل هذا كله بناء على وجوب اليمين فيما ذكر وهو المعتمد كما تقرر فلا يسلم إليه المال أما على مقابله وممن اعتمده ابن عبد السلام والسبكي ومن تبعهما وهو قول من يقول لو أقام ولي طفل بينة على بالغ أو ولي طفل آخر لم ينتظر بلوغ المدعى له ليحلف بل يقضى له بالبينة فلا إشكال حينئذ وبهذا يعلم الجواب عن قول السائل نفع الله تعالى به فكيف يدفع المال لولي الصبي قبل وجود الشرط والحكم على الأصح ووجهه أنا حيث قلنا إنها واجبة فلا نسلم المال للولي وحيث قلنا بأنها مندوبة سلم إليه فلم يلزم على واحدة من المقالتين التسليم قبل وجود الشرط الذي توهمه السائل وإذا مات الصبي المدعى له انتقل الحق لوارثه فإن حلف استحق وإلا فلا لأنه خليفة مورثه وهو لا يستحق إلا باليمين على المعتمد السابق فكذا وارثه وظاهر كلامهم انتظار اليمين وإن طال الجنون وأيس من الإفاقة ولا محذور في ذلك لأنه مندفع بأخذ الكفيل الذي قدمته ومر أن المعتمد أن ولي المدعى له لا يسلم المال فلا يتأتى منه تصرف فيه إلا على الضعيف السابق أنه يسلم إليه.
"وسئل" رحمه الله تعالى عما إذا كانت مسألة ذات قولين أو وجهين أو طريقين ولم يصحح أحد من علماء المذهب أحدهما هل يجوز لغير المجتهد العمل بأيهما شاء أو بهما إذا لم يجد أهلا للتصحيح أولا ولو لم يوجد نقل في مسألة فهل يجوز الإقدام عليها عملا بالإباحة الأصلية أم لا؟ "فأجاب" نفعنا الله تعالى به بقوله إن عدم المفتي في بلده وغيره لم يؤاخذ بما فعل في المسألتين وإن وجده بغير بلده لزمه التوصل إلى سؤاله بأي وجه قدر عليه ولا يجوز له العمل في واحدة من المسألتين بشيء قبل ذلك وتحرم عليه الإقامة ببلد لا مفتي بها إلا إن سهلت عليه مراجعة مفت ببلد آخر وقول بعضهم لا تحرم إقامته المذكورة يتعين حمله على ما إذا كان ببلده من يعرف الأحكام الظاهرة التي يعم وقوعها أما بلد ليس فيها من يعرف الأحكام الظاهرة التي يلزم العامة تعلمها فحرمة إقامته بها واضحة وعلى هذا التفصيل يحمل إطلاق حرمة الإقامة بمحل لا مفتي به وإطلاق عدم حرمته وكلا العبارتين وقع لبعض الأئمة فيتعين حمل كل منهما على ما ذكرته.
"وسئل" هل يحل أخذ الأجرة على إيجاب النكاح أو لا فإن قلتم لا فإذا لم يجر شرطها حالة العقد ولكن جرت العادة بإهداء شيء بعده هل يجوز أخذه وإذا كان العاقد قاضيا وليس له وظيفة ولا رزق من بيت المال فهل يحل له الأخذ بشرط أو طلب؟ "فأجاب" نفعنا الله تعالى بعلومه بقوله لا يجوز أخذ الأجرة لقاض ولا لغيره على مجرد تلقين إيجاب النكاح لأنه غير متعب فلا يقابل بأجرة فإن طلب منه الزوج تعليم قبوله أو إيجابه وكان في تعليم أحدهما تعب يقابل عرفا بأجرة جاز له الاستئجار حينئذ ويستحق الأجرة قاضيا كان المعلم أو غيره وإذا جرت العادة في ناحية باطراد الهدية للعاقد جاز له إن كان

 

ج / 4 ص -313-        غير قاض أخذها بشرط أن يعلم أن المهدي أهدى إليه لا لحياء ولا لخوف مذمة أو عار لو ترك فإن علم أو ظن أنه أهدى إليه استحياء أو خوف مذمته أو مذمة غيره أو أن يعيره لو لم يهد حرم قبول هديته كما أفاده الغزالي وغيره في نظائر لذلك وعلم مما قررته حكم أخذ القاضي الأجرة على العقد وأما أخذه على الحكم ففيه تفصيل حاصله أن له أن يقول للخصمين لا أحكم بينكما حتى تجعلا لي جعلا بشرط أن يكون فقيرا أو أن ينقطع بالحكم بينهما عن كسبه وأن يعلما به قبل الترافع وأن يكون عليهما معا وأن يأذن الإمام أو يعجز عن رزقه أو يفقد متطوع بالقضاء ولم يضر بالخصوم ولا جاوز قدر حاجته واشتهر قدره وساوى بين الخصوم فيه إن استوى وقت نظره وإلا جاز التفاوت، والله سبحانه وتعالى أعلم.
"وسئل" رحمه الله تعالى هل للمحكم أن يزوج المحكمة له وإن بعد مكانها فوق مرحلتين وهل المحكم كالقاضي في تحريم الرشوة وغيرها؟ "فأجاب" نفعنا الله تعالى به بقوله المحكم كالقاضي إلا في مسائل معروفة فلا بد في المحكمة له أن تكون حاضرة ويحرم عليه ما يحرم على القاضي من الرشوة وغيرها، والله سبحانه وتعالى أعلم.
"وسئل" رحمه الله تعالى ما مراد القضاة بقولهم في النصب وشرطت النظر لفلان وما الذي يفعل وكذلك الواقف يشرط النظر لمعين ما حكمه وما الذي يفعل؟ "فأجاب" بقوله إذا أناب القاضي إنسانا في واقعة بشرطه وشرط النظر عليه لشخص معين جاز ووجب عليه مراجعته ذلك الناظر فيها وكذلك الواقف إذا شرط النظر لفلان وشرط عليه أن يراجع فلانا عند تصرفه فيصح ذلك الشرط ويلزمه مراجعته أخذا مما قالوه في الوصي إذا جعل عليه مشرفا، والله سبحانه وتعالى أعلم.
"وسئل" رحمه الله تعالى هل للقاضي أن يستنيب في مجلسه من يزوج من لا ولي لها غيره أو يسمع دعوى؟. "فأجاب" نفعنا الله سبحانه وتعالى بعلومه بقوله: للقاضي ذلك وهو ظاهر، والله سبحانه أعلم.
"وسئل" رحمه الله تعالى عن قول العباب ولو لم يرزق أي القاضي من المصالح فله أخذ عشر ما يتولاه من أموال اليتامى والوقوف للضرورة والعشر مثال ويتعين النظر إلى كفايته وقدر المال والعمل اهـ. فهل المراد أنه لا يأخذ إلا أجرة عمله في المال المذكور وما المراد بالعمل المذكور هل هو الأمر بحفظه وتنميته وهو مشكل إذ مجرد ذلك لا يقابل بأجرة لأنه كلمة لا تعب فيها أو المراد غير ذلك فما هو ثم قال لو قال القاضي للخصمين لا أحكم بينكما حتى تجعلا لي كذا رزقا وهو فقير جاز وشرط للجواز شروطا منها إذن الإمام فإذا تعذر الإذن منه لترفعه عن المراجعة في مثل ذلك ما الحكم ومنها قوله واشتهر قدره أي الجعل كيف يشتهر قدره عند الابتداء بينوا لنا جميع ذلك بعبارة واضحة جلية أثابكم الله تعالى الجنة بمنه وكرمه آمين؟ "فأجاب" نفعنا الله تعالى بعلومه بقوله أما قوله

 

ج / 4 ص -314-        ولو لم يرزق أي القاضي إلخ فهو ما ذكره الرافعي في الشرح الكبير وأسقطه من الروضة وعبارة الشرح المذكور حكى ابن كج عن جماعة من الشافعية والحنفية أنه إذا لم يكن للقاضي شيء من بيت المال فله أن يأخذ عشر ما يتولاه من أموال اليتامى والوقوف للضرورة قال ثم بالغ في إنكاره ومن قال به فكأنه ذكر العشر تمثيلا وتقريبا ولا بد من النظر إلى كفايته وقدر المال والعمل اهـ. وقد أشار الرافعي رحمه الله تعالى إلى أن هذه المقالة ضعيفة بقوله عن ابن كج إنه بالغ في إنكاره وكان هذا هو السبب في حذف النووي لها في الروضة ثم على فرض اعتمادها لا نظر إلا لما أشار إليه الرافعي من أن ذلك العشر مثال وتقريب وأنه لا بد من النظر إلى كفايته وقدر المال والعمل ويوجه بأن ما أبيح للضرورة يتقدر بقدرها فأنيطت بكفايته إن نقصت كفايته عن أجرة عمله فإن زادت على قدر أجرته لم يأخذ أكثر من أجرته ويظهر أن المراد بكفايته أقل ما يكفيه بالنسبة إلى الأمر اللائق به وبعياله اللازم له نفقتهم وأن المراد بالعمل في تلك الأموال تعهدها وحفظها وصونها عن المفسدين بالذهاب إليها والقيام عليها صباحا ومساء وإعطاؤها لمن يعمل فيها وتفقد أمرهم فيها وحسابهم على مصاريفها وغير ذلك من الأمور الشاقة وهذه كلها تقابل بأجرة لها وقع كثير فينظر في الأقل من كفايته وأجرته ويعطاها وبهذا يندفع قول السائل وهو مشكل الخ وإذن الإمام شرط على مقالة الماوردي المجوز للقاضي الأخذ على الحكم بشروط تسعة فإن فرض تعذره لم يجز للقاضي الأخذ على هذه المقالة لأن تلك الشروط إنما أباحت الأخذ عند القائلين بإباحته للضرورة كما صرحوا به وما جاز للضرورة فيقدر بقدرها كما مر ولا ضرورة إلى اغتفار إذن الإمام وإن ترافع لأن من الواضح أن المراد بالإمام في ذلك كل من له تولية القاضي من الإمام الأعظم أو نائبه ومراجعة أحدهما غير متعذرة فلا بد على تلك المقالة لجواز الأخذ من مراجعة أحدهما وإذنه والمراد باشتهار القدر علم المتداعيين به لأنه على هذه المقالة لا يجوز له الأخذ من أحدهما للتهمة وإنما يأخذ منهما فاشترط علمهما به قبل المحاكمة إليه بأن يبينه لهما على وفق ما شرطه الماوردي وغيره عليه وهو أن يكون غير زائد على قدر حاجته وقال غيره أن يكون غير زائد على أجرة عمله قال بعضهم والظاهر أن كلا منهما شرط اهـ. وحينئذ فالظاهر أنه لا بد أن يكون بقدر الأقل من حاجته وأجرة مثله فلا يجوز له أن يأخذ بقدر حاجته والحال أن أجرة مثله أقل ولا أن يأخذ بقدر أجرة مثله والحال أن حاجته أقل وأن يكون ذلك الأقل الذي يأخذه قدرا معلوما يتساوى فيه جميع الخصوم وإن تفاضلوا في المطالب فإن فاضل بينهم لم يجز إلا إن تفاضلوا في الزمان فإذا تقرر ذلك علم أنه لا فرق بين الابتداء والدوام لأنا جوزنا له الأخذ وأراد أن يبتدئه قلنا له أول متداعيين يأتيان إليك أعلمهما أن ما تريد أخذه عليهما ثم عينه لهما بحيث لا يزيد على قدر الأقل من كفايتك وأجرة مثلك فإذا وجد منك ذلك مع بقية الشروط جاز لك الأخذ هذا في أول مرة وأما فيما بعدها فيلزمك أن كل من جاءك بعد

 

ج / 4 ص -315-        الأولى أن تجعل عليهما كما في الأولى ولا تزيد عليهما إلا إن زاد زمان مخاصمتهما على زمان الأولى فلك حينئذ الزيادة بقدر طول الزمان لأنه إذا طال كانت الأجرة المقابلة له أكثر، والله سبحانه وتعالى أعلم.
"وسئل" رحمه الله تعالى هل للمحكم تعزير من أساء في مجلسه من المتحاكمين إليه؟ "فأجاب" نفعنا الله تعالى به بقوله ليس له ذلك وإنما ذلك للحاكم، والله سبحانه وتعالى أعلم.
"وسئل" عن دين الطفل على الطفل يستوفى أم يوقف ليمين الاستظهار بعد بلوغ الصبي؟ "فأجاب" بقوله الذي جرى عليه الشيخان وغيرهما أنه لو ادعى قيم طفل أو مجنون وأقام بما ادعاه بينة انتظر بلوغ أو إفاقة المدعى له لتعذر تحليف غيره عنه وخالف في ذلك السبكي كابن عبد السلام فقال لا ينتظر بلوغ ولا إفاقة حتى يحلف بعدهما بل يقضى له بالبينة فإذا كمل حلف.
"وسئل" هل يجوز ما يعتاده القضاة من إقامة بينة على حاضر بالبلد أنه أقر بمبلغ دراهم لآخر أو ببيع أو لا يجوز لقولهم لا يجوز سماع بينة لغرض التسجيل مع خلاف القفال؟ "فأجاب" بقوله لا يجوز ذلك وبعضهم يجعل لذلك حيلة كأن ينذر إنسان لآخر بكذا إن ثبت إقرار فلان بكذا فيدعي المنذور له على الناذر بموجب نذره فينكر فيقيم البينة بأن فلانا أقر بكذا فيثبت القاضي إقراره حتى يثبت ويلزم الناذر وهذه الحيلة إنما تتم إن قلنا بصحة النذر في نحو ذلك وقد ذكر الغزالي رحمه الله تعالى أن قول البائع للمشتري إن خرج المبيع مستحقا فعلي أن أهبك ألفا لغو وأقره الشيخان وخالفه فيه آخرون فيأتي ذلك في النذر الواقع في الحيلة المذكورة لأنه نظير مسألة الغزالي إلا أن يفرق بأن البائع مروج بذلك سلعته فانتفت القربة عن نذره فلغا بخلافه في صورة الحيلة إذ لا ترويج فيها فصح النذر فيها ثم هذه الحيلة مأخوذة من حيلة ذكرها ابن الصلاح في إثبات براءة حاضر من دين غائب بأن يدعي إنسان على الحاضر أن الغائب أحاله بدينه عليه ويذكر شروط الحوالة فيدعي المدين عدم استحقاق المحتال بمقتضى أن محيله أبرأه من الدين أو أقر بأنه لا حق له عليه ويقيم البينة على ذلك فيقبلها الحاكم ويثبت الإبراء أو الإقرار وإن كان المحيل حاضرا بالبلد وظاهره أن المدين الذي هو المحال عليه يبرأ من دين دائنه الذي هو المحيل وإلا لم يكن لهذه الحيلة فائدة قال الشرف الغزي كلام ابن الصلاح صحيح في دفع المحتال أما إثبات البراءة من دين المحيل فلا بد من إعادتها في وجه المحيل ثم المتجه أن للمحتال الرجوع بدينه على المحيل إلا إذا استمر على تكذيب المحيل اهـ. وإنما يتجه ما ذكره في حوالة صحيحة بدليل ما ذكره آخرا أما إذا جعلت الحوالة حيلة إلى سماع بينة الحاضر ببراءته من دين الغائب عن مجلس الحكم فلا حاجة إلى إعادتها في وجه المحيل

 

ج / 4 ص -316-        لأن حجته من الدفع في البينة باقية لا تبطل بغيبته فغاية ما في الباب أنه إذا حضر وادعى تذكر له البينة ويقال إن كان لك دافع فيها فأظهره وإلا فالحكم قد تم فتمكنه من الطعن فيها مغن عن إعادتها في وجهه ويوجه سماعها والحكم بها بالنسبة إلى حقه مع حضوره بأنهما لم يقعا بطريق القصد وإنما وقعا بطريق التبع ويغتفر في الشيء تابعا ما لا يغتفر فيه مقصودا ويأتي ذلك في حيلة النذر السابقة.
"وسئل" رحمه الله تعالى بما صورته ذكر الإمام النسفي الحنفي في المصفى أنه يجب علينا إذا سئلنا عن مذهبنا ومذهب مخالفنا في الفروع أن نجيب بأن مذهبنا صواب يحتمل الخطأ ومذهب مخالفنا خطأ يحتمل الصواب أي بناء على أن المصيب في الفروع واحد وغيره مخطئ مأجور فهل صرح أصحابنا بمثل ذلك وهل منعهم الاقتداء بالمخالف حيث ارتكب مبطلا مقتض لذلك وهل يسوغ للمفتي أن يفتي بمذهب مخالفه وذلك بأن يفتي الحنفي بعدم وجوب الزكاة في مال موليه أو ليس له ذلك بل ولا بالوجه الضعيف المرجوح عند الشيخين ويقال إن بيان الحكم للمستفتي المخالف بنحو ذلك إنما هو من الرواية وحكاية مذهب الغير لا الإفتاء المتوقف على الاعتقاد تفضلوا ببيان ذلك وبسط الكلام ونقل ما لهم فيه تصريحا وتلويحا فإن المقام قد يخفى على كثير حتى توهم بعض المتفقهة أن القول بخطإ المخالف واعتقاد بطلان صلاته مناف لكونه على هدى من ربه عز وجل "فأجاب" نفعنا الله تعالى به بقوله: نعم صرح أصحابنا بما يفهم ذلك لا بقيد الوجوب الذي ذكره ففي العدة لابن الصباغ كان أبو إسحاق المروزي وأبو علي الطبري يقولان إن مذهب الشافعي رضي الله تعالى عنه وأصحابه أن الحق في واحد إلا أن المجتهد لا يعلم أنه مصيب وإنما يظن ذلك اهـ. وإذا كان المجتهد لا يعلم الإصابة وإنما يظنها فمقلده أولى ومعلوم أن الظن يقابله الوهم وهو احتمال الخطإ فنتج أن المجتهد يظن إصابته ويجوز خطؤه وأن مقلده كذلك وحينئذ يلزم ما ذكر عن النسفي ومما يصرح بذلك أيضا مراعاة الشافعي رضي الله تعالى عنه وأصحابه خلاف الخصوم في مسائل كثيرة فذلك تصريح منهم بأنهم إنما يظنون إصابة ما ذهب إليه إمامهم وأنهم لا يقطعون بخطإ مخالفيه وإلا لم يراعوا خلافهم فلما راعوه علم أنهم يجوزون إصابته الحق وإن كان الأغلب على ظنهم أن الحق هو ما ذهب إليه إمامهم وما أحسن قول الزركشي قد راعى الشافعي رضي الله تعالى عنه وأصحابه خلاف الخصم في مسائل كثيرة وهذا إنما يتمشى على القول بأن مدعي الإصابة لا يقطع بخطإ مخالفه وذلك لأن المجتهد لما كان يجوز خلاف ما غلب على ظنه ونظر في متمسك خصمه فرأى له موقعا راعاه على وجه لا يخل بما غلب على ظنه وأكثره من باب الاحتياط والورع وهذا من دقيق النظر والأخذ بالحزم قال القرطبي ولذلك راعى مالك رضي الله تعالى عنه الخلاف قال وتوهم بعض أصحابه أنه يراعي صورة الخلاف وهو جهل أو عدم إنصاف وكيف هذا وهو لم يراع كل خلاف وإنما راعى خلافا لشدة قوته

 

ج / 4 ص -317-        فإن قلت: هذا لا حجة فيه لأن ابن الأنباري استشكل ندب الخروج من الخلاف بأنه إحداث قول لم يقل به أحد فيما إذا اختلفت الأمة على قولين التحريم والإباحة قال فالقول بأن الترك متعلق الثواب والفعل جائز قول لم يقل به أحد اهـ. قلت يجاب عن إشكاله هذا وإن نقله الأصوليون ولم يجيبوا عنه بأنه إنما يلزم ما زعمه أن لو كان الندب الذي قلنا به من الجهة التي اختلف بسببها في إباحته وحرمته وليس كذلك وإنما الترك فيه له جهة أخرى خارجة عن ذلك اقتضى تحذيره صلى الله عليه وسلم عن الشبهات وتأكيده في طلب ما لا شبهة فيه أنه أعني الترك أولى من هذه الجهة وإن كان واجبا من جهة أخرى كمفسدة أدركها القائل بالحرمة أو جائزا من جهة أخرى لكون القائل به لم يدرك تلك المفسدة ولقد قالوا ردا على من زعم أنه ما من مباح إلا ويتحقق به ترك حرام فيكون واجبا: إن كلامنا ليس في تلك الجهة التي نظر إليها ذلك القائل ثم أشاروا إلى أن الخلاف لفظي أي لأن من نظر لتلك الجهة حكم بأنه واجب ومن لم ينظر إليها حكم بأنه مباح فعلمنا أن الكلام مختلف باختلاف النظر إلى الجهات الناشئة هي عنها فكذا في مسألة الخروج من الخلاف فلا يلزم عليها ما زعمه ابن الأنباري فتأمله فإنه مهم ومما يصرح بذلك أيضا قول المزني جاء عن أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه أنه حكم بين خصمين في طست ثم غرمه للمقضي عليه قال المزني فلو كان يقطع بأن الذي قضى به هو الحق لما تأثم من الحق الذي ليس عليه غيره ولا غرم للظالم ثمن طسته في حكم الله تعالى أنه ظالم بمنعه إياه من صاحبه قال ولكنه عندي خاف أن يكون قضى عليه بما أغفل عنه وظلمه من حيث لا يعلم فتورع باستحلال ذلك منه وغرمه له وكان غرمه له مع استيفائه أنه ليس عليه طلبا للثواب فحسب لما خفي عليه أن إعطاءه لمحتاج أعظم لأجره اهـ. فتأمل ذلك من المزني رحمه الله تعالى تجده صريحا فيما في السؤال عن النسفي وكان هذا المذكور عن أبي حنيفة أو نحوه هو مستند النسفي فيما ذكره وإلا فالذي عليه أكثر الحنفية أن كل مجتهد في الفروع مصيب ومقالة النسفي المذكورة لا تتأتى إلا على ما عليه الشافعي رضي الله تعالى عنه وأصحابه ونقل عن أبي حنيفة ومالك رضي الله تعالى عنهما وغيرهما وفي ذلك وتحريره خلاف طويل الذيل وليس هذا محل بسطه أن المصيب واحد ثم رأيت أن ما قاله النسفي بعينه هو أحد وجهين لأصحابنا وأن القاضي أبا الطيب منهم رجح خلافه.
فقال أعلم إصابتنا وأقطع بخطإ من خالفنا ومنعه من الحكم باجتهاده غير أني لا آثمه اهـ وبما قدمته عن ابن الصباغ عن الأصحاب وعن الشافعي رضي الله تعالى عنه والأصحاب رحمهم الله تعالى في ندب الخروج من الخلاف وعن المزني تعلم أن الأصح غير ما قاله القاضي أبو الطيب وإن قال الزركشي إنه الأصح وقد يحمل كلام القاضي على المسائل التي يقول فيها بنقض حكم الحاكم فهذه نقطع فيها بخطإ المخالف لأنه خالف الدليل القطعي إذ لا نقول ذلك أعني النقض إلا فيما دليله قطعي لا يقبل التأويل بخلاف غيره ومن ثم اختلف أئمتنا في النقض في مسائل كثيرة ومنشأ

 

ج / 4 ص -318-        اختلافهم أن المخالف هل خالف دليلا قطعيا لا يؤول أم لا والأصح في أكثرهم أنه لا نقض لأن المخالف لم يخالف إلا بحجة متماسكة ويؤيد هذا الحمل الذي ذكرته قول الشيخ عز الدين بن عبد السلام في قواعده من صوب المجتهدين شرط في ذلك أن لا يكون مذهب الخصم مستندا إلى دليل ينقض الحكم المستند إليه قال ولهذا لم يكن شرب النبيذ للحنفي مباحا وإن بتصويبهم اهـ. فإذا استثنى الشيخ هذا على القول بتصويب المجتهدين فما بالك به على القول بأن المصيب واحد ومما يدل على ضعف كلام القاضي قوله لا يجوز للشافعي أن يفوض القضاء لحنفي في مسألة يعتقد المفوض أن مذهب أبي حنيفة غير صحيح لأنه يعين على ما يعتقد تحريمه قال ولكن يجوز أن يفوض إليه الحكم فيها لاحتمال أن يتغير اجتهاده فيوافق الشافعي فلا يكون المفوض معينا على ما يعتقد منعه اهـ. ووجه دلالة هذا على أنه ضعيف أنه مخالف لما أطبقوا عليه بعد انقضاء عصر المجتهدين من أن الشافعي يولي الحنفي وغيره وإن لم يكونوا مجتهدين ولا احتمل تغيرهم عن مذهبهم في مسائل عامة وخاصة لا يراها المولي بل كثيرا ما يولون المخالف في مسألة خاصة ليحكم بها على مذهبه فوقوع الإجماع الفعلي على ذلك من منذ مئات من السنين يدل على جوازه وأنه لا إعانة في ذلك على معصية ألبتة.
ومما يدل على ضعف كلام القاضي أيضا قول إمام الحرمين في النهاية من فروع مسألة أن المصيب واحد أو الكل: اقتداء الشافعي بالحنفي والأصح فيه الصحة إلا أن يتحقق خلافه بما يشترطه أو يوجبه لأنا لا نقطع بالمخالفة حينئذ فتأمل قوله لا نقطع بالمخالفة حينئذ مع جعله ذلك من فروع أن المصيب واحد أو الكل تجده صريحا في رد كلام القاضي وبكلام الإمام هذا يعرف الجواب عن قول السائل نفع الله تعالى به وهل منعهم الاقتداء بالمخالف إلخ وما قدمته عن قواعد الشيخ عز الدين صرح به في فتاويه أيضا لكن بزيادة فقال فإن خالفت فتوى إمامه حديثا صحيحا فإن خالف مخالفة ينقض بها حكمه أن لو حكم به لم يجز تقليده فيما ذهب إليه لأنه مخطئ وليس في الخطإ قدوة ولا في الباطل أسوة ثم قال وله أن ينتقل من تقليد إمام إلى تقليد إمام آخر في جميع ما يذهب إليه بشرط أن لا ينقض بمثله لأنا إذا قلنا بتصويب المجتهدين فلا ينكر على أحد أن ينتقل من صواب إلى صواب آخر وإن قلنا المصيب واحد فهو غير معين اهـ. وتبعه تلميذه الإمام المجتهد ابن دقيق العيد فاشترط في جواز التقليد أن يكون ما قلد فيه بحيث لا ينقض لو قضى به قاض وأقره الزركشي وغيره وبه يتضح ما قدمته أن محل الوجهين السابقين فيما لا ينقض لو حكم به حاكم أما هو فيعتقد خطأ المخالف فيه يقينا من غير خلاف في ذلك وأما ما زاده ابن دقيق العيد على شيخه بقوله بعد ما مر عنه موافقة لشيخه لا يشترط كون الحكم مما ينقض فيه قضاء القاضي بل يكفي في عدم جواز تقليد القائل به كونه مخالفا لظاهر النصوص بحيث يكون التأويل مستكرها فالظاهر أنه غير معتمد والذي دل عليه كلام الشيخين وغيرهما جواز التقليد حينئذ ثم رأيت بعض المتأخرين قال عقب

 

ج / 4 ص -319-        كلامه هذا وهو بعيد جدا وما من مذهب إلا وهو مشتمل على مثل ذلك ولا يخفى ما في تكليف العوام الاجتناب عن ذلك من المشقة التي لا تليق برخصة جواز التقليد لهم وكأنه فرعه على الضعيف أنه يجب البحث والعمل بما يترجح عند المقلد ويميل إليه قلبه والأصح أنه مخير في تقليد من شاء ولو مفضولا عنده مع وجود الأفضل ما لم يتتبع الرخص بل وإن تتبعها على ما قاله بعض أصحابنا واعتمده الشيخ عز الدين وأطال في الاستدلال له وهنا دقيقة ينبغي التفطن لها وكثيرا ما يغفل عنها وهي أن ما قاله النسفي وقلناه من كلام أصحابنا واختلافهم وأن الأرجح هو الموافق لما قاله النسفي إنما يتأتى ذلك على الضعيف أنه يجب تقليد الأعلم ولا يجوز تقليد غيره مع وجوده فحينئذ إذا فقد الأعلم هل يقطع بأن مذهبه صواب ومذهب غيره خطأ أم يظن ذلك ولا يقطع به فيه الخلاف السابق والأصح منه هو الثاني كما تقرر أما إذا قلنا بالأصح المنقول في الروضة وغيرها عن الجمهور واعتمدوه أنه يتخير في تقليد أي من شاء من المجتهدين ولو مفضولا مع وجود فاضل وإن اعتقده كذلك أخذا مما في مقدمة المجموع ومما فيه وفي غيره في التقليد في القبلة واختيار الروضة لخلافه إنما هو من حيث المدرك عنده لا من حيث النقل فلا يلزم اعتقاد ذلك بل لا يتصور منه لأنه مع اعتقاده أن إمامه مفضول لا يمكن أن يقطع بل ولا يظن بأنه على الصواب وغيره على الخطإ وإنما غاية أمره أنه يجوز موافقته للصواب وهذا كاف في حق العامي لأنا إن قلنا كل مجتهد مصيب وهو ما عليه كثيرون من الشافعية وغيرهم بل نقله غير واحد عن أكثر العلماء وللشافعي رضي الله تعالى عنه عبارات تقتضيه وعبارات تمنعه ومن ثم كثر اختلاف أصحابه في فهم عباراته في ذلك وغلط بعضهم بعضا ولتحرير ذلك محل يليق به غير هذا فالأمر واضح وإن قلنا إن المصيب واحد وغيره مأجور على اجتهاده وقصده الحق وهو المعتمد فذلك الواحد مبهم فيكفي اعتقاد العامي أنه يحتمل أن إمامه صادف ذلك الحق فبان بما قررته أن المقلد لا يلزمه أن يعتقد إلا أن ما ذهب إليه إمامه يحتمل أنه الحق عند الله سبحانه وتعالى وأما ظنه لذلك أو القطع به فلا وكيف يتصور من العامي حقيقة ظن ذلك أو القطع به وهي أعني تلك الحقيقة إنما تنشأ عن النظر في الدليل على وجهه وذلك لا يتصور إلا للمجتهد والكلام إنما هو في المقلد فبهذا عرف أن من عبر بالظن أو القطع فيما مر لم يرد بذلك إلا الصورة دون الحقيقة لاستحالة وجودها لغير المجتهد فتأمل ذلك وما قبله فإن كلا منهما دقيق غامض ثم رأيت محقق الحنفية الكمال بن الهمام صرح بما يؤيد ما ذكرته في كلام النسفي منهم حيث قال إن أخذ العامي بما يقع في قلبه أنه أصوب أولى وعلى هذا إذا استفتى مجتهدين فاختلفا عليه فالأولى أن يأخذ بما يميل إليه قلبه منهما وعندي أنه لو أخذ بقول الذي لا يميل إليه جاز لأن ميله وعدمه سواء والواجب عليه تقليد مجتهد وقد فعل اهـ. وقد توسع ابن عبد السلام فيما مر من منع التقليد فيما ينقض الحكم به فقال لا يجوز التقليد في تصحيح الدور في المسألة السريجية وإن ذلك مما ينقض فيه

 

ج / 4 ص -320-        قضاء القاضي لمخالفته للقواعد الشرعية اهـ. وما علل به ممنوع بل كثير من القواعد الشرعية يشهد لتصحيح الدور بل ليس على بطلانه حجة صحيحة إلا ما فيه من سد باب الطلاق المعلوم من الظواهر عدم قبوله للسد وهذا وحده غير كاف في منع التقليد وجواز النقض فالوجه ما قاله البلقيني من جواز التقليد فيه وإنه لا عقاب على من قلد في ذلك لأن الفروع الاجتهادية لا عقاب فيها أي لمن قلد فيها لا مطلقا خلافا لبعضهم وقول ابن الصباغ إن تصحيحه خطأ ليس مذهبا للشافعي لا يقتضي منع تقليده لأنه شخص من الأصحاب تفرد بمقالة باعتبار ما عنده فلا يكون حجة على غيره ممن يقول بصحته لا سيما وهم الأكثرون على ما فيه مما بينته في كتابي الأدلة المرضية على بطلان الدور في المسألة السريجية وقول السائل نفع الله تعالى به وهل يسوغ للمفتي إلخ جوابه نعم يسوغ له الإفتاء بمذهبه وخلاف مذهبه إذا عرف ما يفتي به على وجهه وأضافه إلى الإمام القائل به لأن الإفتاء في العصر المتأخرة إنما سبيله النقل والرواية لانقطاع الاجتهاد بسائر مراتبه من منذ أزمنة كما صرح به غير واحد وإذا كان هذا هو سبيل المفتين اليوم فلا فرق بين أن ينقل الحكم عن إمامه أو غيره بل لو فرض أن شخصا له قوة اجتهاد الفتوى في مذهبه وغيره جاز له الإفتاء بما تقتضيه قواعد المذهبين لكن مع بيان ذلك ونسبة كل رأي إلى الإمام القائل به وهذا هو ملحظ ما وقع لغير واحد من الأئمة أنه كان يفتي على مذهبين كالعارف الإمام عبد القادر الجيلي رحمه الله تعالى كان يفتي على مذهب الشافعي وأحمد رضي الله تعالى عنهما وكابن دقيق العيد قيل كان يفتي على مذهب الشافعي ومالك رضي الله تعالى عنهما فإن قلت لم لا نقول بتفصيل السبكي في ذلك الذي أشار إليه بقوله للمفتي على مذهب إمام إذا أفتى بكون الشيء واجبا أو مباحا أو حراما على مذهبه حيث يجوز للمقلد الإفتاء يحسن أن يقال ليس له أن يقلد غيره ويفتي بخلافه لأنه حينئذ محض تشبه اللهم إلا أن يقصد مصلحة دينية فيعود إلى ما قدمناه ونقول بجوازه كما روي عن ابن القاسم أنه أفتى ولده في نذر اللجاج بمذهب الليث والخلاص بكفارة يمين وقال إن عدت لم أفتك إلا بقول مالك يعني بالوفاء على أنا حملنا قول ابن القاسم هذا على أنه كان يرى التخيير فله أن يفتي بكل منهما إذا رآه مصلحة والمقلد لا يمتنع عليه ذلك وإن لم ير التخيير إذا قصد مصلحة دينية وأما بالتشهي فلا اهـ. قلت كلامه رحمه الله تعالى في غير ما قررناه لأنه في منتقل إلى مذهب غير مذهبه ليعتقده ويفتي به بدليل فرضه لكلامه فيمن أفتى بحل شيء مثلا تقليدا لإمام ثم أراد أن يقلد من قال بحرمته ويفتي به فليس له ذلك بمجرد التشهي وأما ما قررناه فإنه ليس في ذلك بل في ملتزم بالنسبة لعلمه مذهبا معينا ثم أفتى غيره بحكم في مذهب إمام آخر فله ذلك مطلقا إذ لا تشهي هنا بوجه على أن ما قاله السبكي إنما يتأتى على الضعيف أنه يجب تقليد من اعتقده أفضل ولا يجوز الانتقال عنه إلا لمصلحة دينية أما على الصحيح وهو التخيير مطلقا وجواز الانتقال إلى أي مذهب من المذاهب المعتبرة

 

ج / 4 ص -321-        ولو بمجرد التشهي ما لم يتتبع الرخص بل وإن تتبعها على ما مر فله وإن أفتى بحكم أن ينتقل إلى خلافه بأن يقلد القائل به ويفتي به ما لم يترتب على ذلك تلفيق التقليد المستلزم بطلان تلك الصورة باجتماع المذهبين بل وإن لزم عليه ذلك على ما اختاره محقق الحنفية الكمال بن الهمام وأطال في الاستدلال له وما نقله السبكي عن ابن القاسم لا ينافي ما قلناه بل ولا يشهد لما قاله لأن كلامه في المقلد بدليل قوله حيث يجوز للمقلد الإفتاء وابن القاسم مجتهد بدليل قول السبكي على أنه كان يرى التخيير فتأمل ذلك لتعلم به الرد على من نقل كلام السبكي هذا واعتمده وجعله مقيدا لكلام له آخر دال على ما قررته وهو قوله إذا حكم القاضي بقول ضعيف لم ينفذ لأنه قاض بشيء لم يعلمه فيكون في النار بنص الحديث فعلم أنه متى أقدم القاضي على حكم وهو لا يعتقده كان حكما بغير ما أنزل الله وقاضيا بشيء لا يعلمه فلا يحل للقاضي أن يحكم بشيء حتى يعتقد أنه الحق هذا في المجتهد وكذا المقلد بالنسبة للفتوى والحكم أما بالنسبة لعمله في حق نفسه فله تقليد الوجه الضعيف وقد نقل ابن الصلاح الإجماع على أنه لا يجوز الإفتاء والحكم بالضعيف فإن استوى عنده قولان لإمام لزمه التوقف حتى يظهر ترجيح أحدهما وإنما يخير المجتهد إذا استوى عنده أمارتان لأنه حيث استويا عنده قد يحصل له حكم التخيير من الله سبحانه وتعالى وأما قولا الإمام المتعارضان فيمتنع أن كلا مذهبه ونسبة أحدهما إليه على التعيين دون الآخر ترجيح من غير مرجح فليس إلا التوقف وللحاكم الآهل للترجيح الحكم بما ترجح عنده وإن خالف أكثر أهل المذهب ما لم يخرج عنه وغيره ليس له إلا اتباع ما عرف ترجيحه في المذهب ولو لم يشترط على الآهل للترجيح التزام جاز له الحكم بما ترجح عنده وإن خرج عن مذهبه بخلاف ما إذا شرط عليه ذلك لفظا أو عرفا والذي أقوله في هذه الأعصار أن من أطلق السلطان توليته للقضاء يحكم بمشهور مذهبه إن كان مقلدا أو بما يراه إن كان مجتهدا فإن ولاه على مذهب فلان لم يتجاوز مشهور مذهبه إن كان مقلدا وإن كان مجتهدا في مذهب فله الحكم بما ترجح عنده بدليل قوي وليس له مجاوزة ذلك المذهب مقلدا كان أو مجتهدا وليس له الحكم بالشاذ البعيد في مذهبه جدا جدا وإن ترجح عنده لأنه كالخارج عن المذهب اهـ. حاصل كلام السبكي رحمه الله تعالى وهو تحقيق وعن الغزالي للحاكم أن لا يحكم بمذهب غير مقلده بناء على أن للعامي تقليد من شاء أي وهو الأصح كما مر وما نقل عن ابن الصلاح من أن المفتي كالحاكم فيما ذكر إجماعا إنما هو في مفت معروف بالإفتاء وعلى مذهب إمام فهذا ليس له الإفتاء بالضعيف عند أهل ذلك المذهب وإن فرض أنه من أهل الترجيح وترجح عنده لأنه إنما يسأل عن الراجح في مذهب ذلك الإمام لا عن الراجح عنده وحده ولهذا كان القفال إذا سئل عن مسألة بيع الصبرة يقول تسألونني عن مذهبي أو عن مذهب الشافعي فتأمل استفساره المستفتي تعلم أن المنع الذي حكى ابن الصلاح الإجماع عليه إنما هو فيمن ذكرته ولقد سئل السبكي عن

 

ج / 4 ص -322-        مسألة بيع الغائب فأفتى بالصحة فيها بناء على القول الضعيف فيه فقال بيع النحل في الكوارة وخارجها بعد رؤيته صحيح وقبل رؤيته يخرج على قولي بيع الغائب وبيع الغائب قد صححه أكثر العلماء وأتباعهم ومثل هذا للفقير لا بأس به لأنه قول الأكثر ولأن له دليلا يعضده ولا يحتاج غالب الناس إليه في أكثر الأموال التي يحتاج إلى شرائها من المأكول والملبوس والأمر في ذلك خفيف إن شاء الله تعالى والأمور إذا ضاقت اتسعت ولا يكلف عموم الناس بما يكلف به الفقيه الحاذق النحرير اهـ. قال السيد السمهودي وقد كان شيخنا العلامة ولي الله شهاب الدين أحمد الإبشيطي رحمه الله تعالى كثيرا ما يفتي الناس في المحرم إذا احتاج لتكرير لبس المخيط بعدم تكرر الفدية إذا نوى تكرر اللبس ابتداء تقليدا لمذهب مالك رحمه الله تعالى لما في مذهبنا من المشقة في ذلك اهـ. وفي شرح المهذب عن ابن الصلاح أن القول بمنع المقلد العاجز عن الترجيح والتفريع من الإفتاء محله إن ذكر ذلك على صورة من يقوله من عند نفسه أما إذا أضافه إلى القائل به فلا منع من ذلك وهذا ظاهر فيما قدمته أن المفتي حيث أضاف ما أفتى به إلى إمام جاز له الإفتاء لأنه في الحقيقة راو وناقل فلا وجه لمنعه من ذلك بخلاف ما إذا عرف بالإفتاء في مذهب وأفتى بغيره ولم يسنده إلى أهله لما فيه من التغرير بالمستفتي وإيقاعه فيما لم يرده ولم يحط به وفي أصل الروضة ما يصرح بذلك وهو قول العامي إذا عرف حكم تلك المسألة بل في الحقيقة ذلك القيد مأخوذ من تقييد الرافعي بالمعرفة إذ لا يتصور إلا حيث لا يشك أن هذا من مسائل ذلك المذهب الذي يفتي به وعلم من قول الرافعي فأخبر به أن هذا ليس من الإفتاء في شيء وإنما هو محض رواية وإذا كان هذا شأن غير المجتهد في مذهب إمامه فكذا شأنه في مذهب غير إمامه لاستواء المذهبين حينئذ بالنسبة إليه في أنه إن عرف منهما أو من أحدهما حكما قطعيا جاز له الإفتاء به على جهة الإخبار والرواية المحضة فإذا لم يعرف ذلك كذلك امتنع عليه وبما قررته يعلم أن قول الروضة ليس للمفتي والعامل على مذهب الشافعي رحمه الله تعالى في المسألة ذات الوجهين أو القولين أن يفتي أو يعمل بما شاء منهما من غير نظر وهذا لا خلاف فيه بل عليه في القولين أن يعمل بالمتأخر منهما إن علمه وإلا فبالذي رجحه الشافعي رحمه الله تعالى فإن لم يكن رجح أحدهما ولا علم السابق لزمه البحث عن أرجحهما فيعمل به إلى آخر ما ذكره هذا كله في مفت لمريد العمل بالراجح في مذهب الشافعي رضي الله تعالى عنه أما من سأل عن قول الشافعي رحمه الله تعالى في مسألة كذا ليعرف أن له وجودا فيعمل به عند من جوز العمل بالقول الضعيف وكذا الوجه الضعيف فللمسئول أن يفتيه أن للشافعي رحمه الله في مسألة كذا قولا وأن جمعا منهم ابن عبد السلام جوزوا العمل بالضعيف وإن ثبت رجوع قائله عنه بناء على أن الرجوع لا يرفع الخلاف السابق والمسألة طويلة الذيل ليس هذا محل تحريرها وبسطها وقول جماعة من أكابر أصحابنا يحرم على المقلد أن يفتي بما هو مقلد فيه معناه كما قاله

 

ج / 4 ص -323-        ابن الصلاح ما إذا ذكره على صورة من يقوله من عند نفسه أما من يضيفه لإمامه الذي قلده فلا منع منه قال فعلى هذا من عهدناه من المفتين الذين ليسوا مفتين حقيقة لكن لما قاموا مقامهم وأدوا عنهم عدوا معهم وسبيلهم أن يقولوا هكذا قال الشافعي رحمه الله تعالى كذا ونحو هذا ومن ترك الإضافة فقد اكتفى بالمعلوم من الحلال والتصريح به اهـ. ثم رأيت الإمام مجد الدين ابن الإمام تقي الدين بن دقيق العيد صرح بما يؤيد ما قدمته من جواز الإفتاء بمذاهب متعددة على جهة الرواية مع بيان أرباب تلك المقالات حيث قال ونقله عنه الزركشي وأقره توقف الفتيا على حصول المجتهد يفضي إلى حرج عظيم أو استرسال الخلق في أهويتهم فالمختار أن الراوي عن الأئمة المتقدمين إذا كان عدلا متمسكا من فهم كلام الإمام ثم حكى للمقلد قوله فإنه يكفي لأن ذلك مما يغلب على ظن العامي أنه حكم الله تعالى عنده وقد انعقد الإجماع في زماننا على هذا النوع من الفتيا اهـ. ورأيت القفال قال بعض ما قدمته وخالفه الشيخ أبو محمد وعبارة الزركشي قال الجويني من حفظ نصوص الشافعي رحمه الله تعالى وأقوال الناس بأسرها غير أنه لا يعرف حقائقها ومعانيها لا يجوز له أن يجتهد ويقيس ولا يكون من أهل الفتوى ولو أفتى به لا يجوز وكان القفال يقول إنه لا يجوز ذلك إذا كان يحكي مذهب صاحب المذهب لأن له أي المستفتي كما هو ظاهر تقليد صاحب المذهب وقوله ولهذا كان أحيانا يقول لو اجتهدت فأدى اجتهادي إلى مذهب أبي حنيفة فأقول مذهب الشافعي كذا ولكني أقول بمذهب أبي حنيفة لأنه جاء ليعلم ويستفتي عن مذهب الشافعي رضي الله تعالى عنهما فلا بد أن أعرفه بأني أفتي بغيره.
قال الجويني وهذا ليس بصحيح واختار الأستاذ أبو إسحاق خلافه ونص الشافعي رحمه الله تعالى يدل عليه وذلك أنه إذا لم يكن عالما بمعانيه فيكون حاكيا مذهب الغير والغير ميت لا يلزمه القبول لأنه لو كان حيا وأخبره عنه بفتواه أو مذهبه في زمان لا يجوز له أن يقلده ويقبله كما أن اجتهاد المفتي يتغير في كل زمان ولهذا قلنا إنه لا يجوز لعامي أن يعمل بفتوى مفت لعامي مثله فإن قلت أليس خلافه لا يموت بموته فدل على بقاء مذهبه قلنا كما زعمتم لكن هذا الرجل لم يقلده إنما يقلد قول هذا الرجل الأمر فيه كيت وكيت فينبغي أن يكون عالما بمصادره وموارده ويدل على فساد ما قاله أي القفال أنه لو صح فتواه من غير معرفة حقيقة معناه لجاز للعامي الذي جمع فتاوى المفتين أن يفتي ويلزمه مثله ولجاز أن يقول هو مقلد صاحب المقالة ولكن اتفق القائلون به على الامتناع من هذا أما إذا أفتى بمذهب غيره فإن كان متبحرا فيه جاز وإلا فلا قال وكان ابن سريج يفتي أحيانا بمذهب مالك رحمه الله تعالى وكانوا يأتونه بمسائل يسألونه تخريجها على أصل مالك رحمه الله تعالى فيخرجها على أصله فدل على أن من كان بهذه الصفة يجوز له وإلا فيمتنع وهكذا كل من كان في مذهب نفسه لا يعرف إلا يسيرا ليس له أن يفتي اهـ. وإذا تأملت في هذا الذي قاله الجويني وشنع به على القفال وأطال فيه علمت أنهما لم يتواردا

 

ج / 4 ص -324-        على شيء واحد لأن كلام القفال فيمن يروي لمستفتيه على مذهب أبي حنيفة رحمه الله تعالى أن مذهبه كذا لا من حيث استنباطه هو ولا من حيث فهمه له من كلامه وإنما هو ناقله عن أئمة مذهبه العارفين والمتبحرين فيه وإذا حمل كلام القفال على هذا لم يرد عليه شيء مما قاله الجويني لأن كلامه فيمن يفتي على مذهب غير إمامه استنباطا فلا بد من تبحره في ذلك المذهب كما لو أراد أن يفتي في مذهبه كذلك وكلام الجويني وحكايته عن ابن سريج ما صرح به صريح فيما ذكرته فتدبره فإن هذا المقام قد يشكل ويظن أن القفال والجويني تواردا على محل واحد وليس الأمر كذلك كما بينته وحققته ثم رأيت لبعض الأصوليين ما يصرح بما ذكرته وهو قوله لا يجوز للمفتي أن يفتي بحكاية قول غيره إلا إذا سئل عن حكاية قول غيره لا مطلقا وإلا لجاز للعامي أن يفتي بما في كتب الفقهاء اهـ. فقوله إلا إلخ مصرح بما ذكرته وقوله وإلا إلخ محله كما علم مما مر ما إذا كان يفتي بما في كتب الفقهاء لا مع بيانه بل على صورة أنه من عند نفسه وعلى ما تقرر يحمل أيضا قول الأستاذ أبي منصور الموافق لما مر عن الجويني لا يجوز للعالم أن يفتي بقول بعض السلف وهو لا يعرف علته خلافا لأصحاب الرأي ثم قول السائل نفع الله تعالى به حتى توهم بعض المتفقهة إلخ جوابه أن ما توهمه حق إن أريد أنا نعتقد خطأه وبطلان صلاته من سائر الوجوه ولا قائل بهذا لأنا إن قلنا إن كل مجتهد مصيب فواضح أنهم كلهم على هدى من ربهم وإن قلنا إن المصيب للحق الذي عند الله تعالى وفي نفس الأمر واحد مبهم فكذلك لأنهم لم يكلفوا إصابة ذلك إلا بحسب ظنونهم فحسب وكل منهم مصيب له بحسب ظنه فهو على هدى من هذه الحيثية وإن فرض خطؤه بالنسبة إلى ما في نفس الأمر لأن هذا من الخطإ المرفوع بل مع ذلك هو مثاب مأجور لكن على اجتهاده وقصده الحق فقط إذا تقرر ذلك فإن سئلت عن صلاة مخالف فيها مبطل يراه مقلدك دون مقلده فلا يسعك أن تطلق القول بأنها باطلة إلا مع إرادتك أو تصريحك بأن بطلانها إنما هو بالنسبة لاعتقاد مقلدك فمقلدوه لو فعلوها كانوا آتين بصلاة باطلة فيعاملون بأحكامها من نحو الفسق والتعزير وغيرهما وأما بالنسبة لاعتقاد غيره فهي صحيحة فمقلدوه آتون بصلاة صحيحة في الثواب والعدالة وغيرهما فاختلاف الأحكام في ذلك من الأمور النسبية التي لا يطلق القول فيها بشيء واحد بل يجب رعاية ما ذكرناه من النسب والإضافات ولا بدع في كون الشيء الواحد تختلف أحكامه باعتبار محاله وجهاته وإضافاته هذا بالنسبة للاعتقادات وأما بالنسبة لما عند الله تعالى فذلك غيب عنا لا ينكشف لنا إلا في الآخرة إذ الذي صرح به البغوي وتبعوه أن من صلى صلاة باطلة في نفس الأمر وصحيحة في اعتقاده لا يثاب إلا على نحو أذكارها مما لا تتوقف صحته على الصلاة كقصده لها وسعيه في حصولها وأما على الصلاة نفسها فلا يثاب نعم إن قلنا كل مجتهد مصيب فينبغي أنه يثاب عليها مطلقا كما هو ظاهر وفي كلام البغوي شيء ذكرته في شرح العباب وغيره فراجعه والمسألة تحتمل بسطا

 

ج / 4 ص -325-        طويلا لكن ضاق المحل عن استيفائه، والله سبحانه وتعالى أعلم.
"وسئل" رحمه الله تعالى عن المعصية الكبيرة القلبية إذا علم الإنسان أنه متصف بها هل يجوز له أن يقدم على الولايات والشهادات أو لا؟ "فأجاب" رحمه الله تعالى بقوله إن من ارتكب فسقا باطنا مجمعا عليه أو مختلفا فيه وهو مقلد للقائل بأنه فسق لا يجوز له أن يتولى ولاية شرطها العدالة لأنه يوقع نفسه في ورطات العقود الفاسدة والقضايا الباطلة ويجر إلى نفسه من غوائل تلك القبائح ومهلكاتها ما يعجز عن حمل معشار عشرها وأما الشهادات فإن علم شيئا علما يقينيا ولم يطلع أحد على فسقه فله أن يشهد به بين يدي حاكم موافق له في المذهب أو مخالف لأن القصد حينئذ تخليص الحق ممن هو عليه على وجه الحق وبشهادته الموافقة للواقع يحصل ذلك من غير أن يترتب عليه مفسدة أصلا فاتضح جواز ذلك وأنه لا وجه لامتناعه بخلاف الأول، والله سبحانه وتعالى أعلم.
"وسئل" رحمه الله تعالى هل يجوز للقاضي أخذ رزق من الخصمين ومما يتولى من أموال اليتامى والأوقاف أم لا فإن جاز فبكم يقدر المأخوذ وهل يقيد جواز الأخذ في الصورتين بشرط وما قولكم فيما جرى عادة في قطرنا ولم يكن فيه بيت المال من أنه يجتمع وجوه أهل ولاية قاض فقير ويقولون كل من يشتري في محل ولايته متاعا من أنواع كذا أو يجلب إليه متاعا من أنواع كذا أو ينقل منه متاعا من أنواع كذا أو يمر به متاعا من أنواع كذا من المسلمين أهل ولايته وغير أهل ولايته فليدفع إلى القاضي مقدار كذا من المتاع مقدار كذا من المال رزقا له هل يجوز لهم تقدير رزق القاضي على المسلمين على هذه الصورة وهل يحل له بتقديرهم هذا أخذ المال من المسلمين مع أن الدافع لا يدفع له غالبا إلا بالطلب أو الإلحاح معه أو خشية منع نقل المتاع من محل الولاية أو تعطيل القاضي النظر في القضايا أو تأخيره الخطبة إلى آخر الوقت لو لم يدفع وربما يدفع بعد المنع أو التعطيل أو التأخير فإن لم يحل فمن أين يأخذ رزقه وقد شغله النظر في القضايا عن الكسب أو لم يكن له كسب لائق ولم يكفه ما أخذه من الخصمين ومما يتولاه من الأموال إن جاز أفتونا مأجورين؟ "فأجاب" نفعنا الله تعالى به بقوله الذي صرح به النووي رحمه الله تعالى أنه لا يجوز للقاضي أن يأخذ رزقا من خالص مال الأيتام وغيره من الآحاد وإن لم يكن لهما خصومة عنده لأن ذلك يورث فيه ريبة وميلا وفارق المفتي بأن القاضي أجدر بالاحتياط منه وأما الرافعي رحمه الله تعالى فصرح هنا بما ذكر وفي الكلام على الرشوة بجواز الأخذ قيل وهو تناقض ورد بأن المنع محمول على الغني والجواز محمول على المحتاج نعم لمن لا رزق له في بيت المال ولا في غيره وهو غير متعين للقضاء وكان عمله مما يقابل بالأجرة أن يقول للخصمين لا أحكم بينكما إلا بأجرة أو رزق فيجوز له ذلك على ما جزم به جمع متقدمون كالشيخ أبي حامد وابن الصباغ والجرجاني والروياني لكن الذي

 

ج / 4 ص -326-        اعتمده الزركشي تبعا للسبكي أن هذه مقالة ضعيفة وأن الذي ينبغي ترجيحه تحريم ذلك أيضا وبه جزم شريح الروياني في روضته، وجعل الأول وجها ضعيفا قال شيخنا زكريا رحمه الله تعالى والأول أقرب والثاني أحوط وشرط الماوردي لجواز أخذه رزقا من الخصمين عشرة شروط أحدها أن يكون فقيرا ثانيها أن يقطعه النظر في القضاء عن كسبه ثالثها أن يكون أجره على الخصمين بالسوية بينهما لأنه لو أخذه أو الأكثر من أحدهما تطرقت إليه التهمة والريبة رابعها أن يأذن له السلطان في الأخذ منهما فإن لم يأذن له امتنع عليه الأخذ خامسها: أن لا يوجد متطوع بالقضاء فإن وجد امتنع على هذا الأخذ لأنه لا ضرورة إليه سادسها أن يعجز الإمام عن القيام برزقه من بيت المال فمتى أمكن الإمام القيام به من بيت المال لم يجز له أن يأخذ من الخصمين شيئا سابعها أن يكون ما يأخذه غير مضر بالخصمين فمتى أضر بهما المأخوذ لم يجز له أن يأخذ منهما شيئا ثامنها أن يكون المأخوذ بقدر حاجته الناجزة حال الحكومة فيما يظهر وقال غير الماوردي أن لا يزيد على أجرة عمله قال بعضهم والظاهر أن كلا منهما شرط اهـ. ومراده أنه يجب عليه الاقتصار على أخذ الأقل منهما فإن كانت أجرة عمله أقل ويحتاج لأكثر لم يجز له أخذ الزائد على أجرته وإن كانت حاجته أقل وأجرته أكثر لم يجز له أخذ الزائد على حاجته تاسعها أن يعلم الخصمان قبل التحاكم إليه أن من عادته الأخذ من الخصوم فإن لم يعلما ذلك إلا بعد الحكم لم يجز له أن يأخذ منهما ولا من أحدهما شيئا عاشرها أن يكون قدر المأخوذ معلوما يتساوى فيه جميع الخصوم وإن تفاضلوا في المطالب فإن فاضل بينهم لم يجز إلا أن يتفاضلوا في الزمان قال أعني الماوردي وفي هذا معرة على المسلمين أي حيث أحوجوا القاضي إلى الأخذ من الخصمين ولم يرزقه إمامهم من بيت المال أو يرزقوه من أموالهم أي بناء على ما مر عن الرافعي قال الماوردي وإن جاز ذلك في الضرورة فواجب على الإمام والمسلمين أن يزال هذا إن أمكن إما بأن يتطوع بالقضاء من هو من أهله وإما بأن يقام لهذا بالكفاية لأنه من الفروض فلو اجتمع أهل البلد عند إعواز بيت المال على أن يجعلوا للقاضي رزقا من أموالهم جاز وكان أولى من أخذه من الخصوم. اهـ. وإذا تأملت ما تقرر علمت أن جواز أخذ القاضي من الخصمين إنما هو وجه ضعيف بناء على ما مر عن شريح واعتمده السبكي والزركشي ومع كونه وجها مرجوحا لا بد فيه من تلك الشروط الكثيرة المشقة فمن أراد البراءة لدينه والخلوص من ورطة هذا الخلاف وهذه التشديدات العظيمة فليترك القضاء أو يتطوع به والله سبحانه وتعالى يرزقه من حيث لا يحتسب كما أخبرنا بذلك في كتابه العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه بقوله تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} وأما من يتولى القضاء ليتأثل به الأموال على اختلاف أنواعها فهو الذي أخبر عنه صلى الله عليه وسلم بأنه في النار وبأنه ذبح بغير سكين وبغير ذلك من المصائب والمعائب التي تلحقه

 

ج / 4 ص -327-        في الدنيا والأخرى {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} وأما أخذ القاضي من أموال الأيتام والأوقاف التي لم يشترط له فيها شيء فمشهور المذهب أنه حرام مطلقا ومن ثم أسقط حكاية حل ذلك من الروضة مع أنه في أصلها فإنه نقل أن ابن كج حكى عن جماعة من الشافعية والحنفية أنه إذا لم يكن له شيء من بيت المال فله أن يأخذ عشر ما يتولاه من أموال اليتامى والوقف للضرورة قال ثم بالغ ابن كج في إنكار هذا المحكي وأنه ليس من مذهب الشافعي وعلى هذا المحكي فذكر العشر تمثيل وتقريب والقياس أنه لا بد من النظر إلى كفايته وقدر المال والعمل وما جرت به العادة في القطر المذكور في السؤال فهو شبيه بالمكس بل هو عينه فإذا أخذ القاضي منه شيئا على ذلك الوجه فهو مكاس لا قاض وشتان ما بين الوصفين وبعيد ما بين المرتبتين مرتبة القضاء التي هي أجل المراتب الدينية بعد الإمامة العظمى، ومرتبة أخذ المكس التي هي أسفل القبائح وأشنع الخصال وأبشع الفعال وأقرب أنواع الفسق إلى الكفر لأن أهلها كثيرا ما يقعون في الكفر في الساعة الواحدة كما هو مشاهد منهم فعلى القاضي الدين الموفق الخائف من ربه عز وجل وسطوة عذابه وأليم عقابه ونار غضبه وقطيعة هجره أن لا يأخذ من ذلك شيئا مطلقا لأنه حرام بإجماع المسلمين وإذا كان حراما كذلك فكيف يسوغ للقاضي أخذ شيء منه فعليه تركه والتوبة الصحيحة مما أخذه قبل وإلا فليستعد لجواب ذلك غدا بين يدي الله عز وجل حين {لا يُغْنِي مَوْلىً عَنْ مَوْلىً شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ} جعلنا الله سبحانه وتعالى من الأغنياء به ووفقنا لما ينجينا من كل فتنة ومحنة وشر آمين.
"وسئل" رحمه الله تعالى بما لفظه ما الفرق بين الثبوت المجرد وغيره في الصحيح وغيره وما فائدته وبين الحكم المجرد وغيره؟ "فأجاب" نفعنا الله به بقوله معنى الثبوت سماع البينة وثبوت عدالتها عنده ثم إن لم ينضم إليه حكم بالمدعى سمي ثبوتا مجردا وفائدته أنه يجوز للشاهد الرجوع عن شهادته وإنما قلنا وثبوت عدالتها عنده لأنه لم يثبت عند القاضي غير عدالته بخلاف نفي العداوة والتهمة ونحوهما فإن ذلك لم يثبت عنده، وإن انضم إليه حكم بالمدعى سمي ثبوتا غير مجرد ومن فوائد الفرق بينهما أنه يجوز نقل الحكم ولو في البلد بخلاف الثبوت ومعنى الثبوت في الفاسد أنه إذا أراد الحاكم إبطال عقد اشترط ثبوته عنده حتى يمكنه الحكم بفساده وإذا أراد الحكم بصحة عقد احتاج لثلاثة أشياء أو بموجبه احتاج لشيئين كما هو مقرر في محله وهذا يسمى حكما مجردا أي الحكم بالصحة.
"وسئل" رحمه الله تعالى عن قاض في محل ولايته والمحكوم به كالعقار وعليه وله خارجون عن محل ولايته فهل ينفذ قضاؤه حينئذ كما يقتضيه كلام القوت والأزرق في شرح التنبيه في باب الفلس أو لا كما يقتضيه كلام الجواهر والأصفوني وأفتى به ابن قاضي

 

ج / 4 ص -328-        شهبة؟ "فأجاب" رحمه الله تعالى بقوله في ذلك تفصيل لا بد منه وهو أنه إن كان الغائب بمحل ولايته والعقار كذلك فيبيعه في دين مدع حضر إن عرفه وإلا أناب من يبيعه عنه وإن لم يكونا بمحل ولايته لم ينفذ حكمه فيه كما قاله التاج السبكي وغيره وإن كان المال به دون الغائب قضى كما صرحوا به وإن كان الغائب به دون المال قضى أيضا كما ذكره السبكي قيل وهو الحق لا ما أفهمه كلام الروضة ومفهوم كلام الإرشاد يوافق الأول فإنه قال ولو من مال غائب بالإضافة أي يقضى من مال الغائب سواء أكان المال المقضي منه بمحل ولايته أم لا وأخذ بعضهم بعمومه فقال يجوز قضاؤه ببيع مال غائب في غير محل ولايته وإن خرج المال عنه أيضا واستشهد لذلك بأنه يقضى بالعقار الغائب المعين للمدعي على غائب اهـ. ورد بأن الحق ما قاله السبكي كما تقرر والفرق أنه ليس في القضاء بالعقار المعين تصرف فيما ليس في محل ولايته بخلاف بيع العقار الذي ليس بمحل ولايته فإنه تصرف في شيء ببلد لا ولاية له عليها ومن المعلوم أنه لا ولاية له على شيء ليس بمحل ولايته.
"وسئل" رحمه الله تعالى عن الخصم الغائب بولاية القاضي هل يحضره مطلقا أو فيه تفصيل؟ "فأجاب" نفعنا الله تعالى به بقوله فيه تفصيل وهو أنه إن كان فوق مسافة العدوى بمحل ولاية القاضي وثم من يتوسط بينهما لم يحضره وإلا أحضره على المنقول عند العراقيين وظاهره أنه لا تسمع الدعوى والبينة عليه وهو المفهوم من كلام الروضة وأصلها وفي المحرر والمنهاج أنه تسمع الدعوى لما في تكليفه الحضور من المشقة بل قد تبعد المسافة فيحتاج لمؤن الحضور أضعاف قيمة المدعى به ومن ثم مال إليه السبكي وأشار البلقيني إلى الجمع بحمل الأول على ما إذا لم يكن للمدعي بينة فيحضره وإن بعدت المسافة وإلا ضاع حق المدعي والثاني على ما إذا كان له بينة فتسمع الدعوى على المدعى عليه لأنه غائب ويحكم ويكتب إلى أهل الستر وهم الرؤساء وأهل المكارم ليلزموا الخصم المدعى به وإن كان دون مسافة العدوى وثم نحو قاض حرم إحضاره من غير محل ولايته وطريقه أن تسمع الدعوى والبينة ويحكم ولو مع قرب المسافة كما صرحوا به وينهيه لقاضي بلد الخصم ليلزمه بذلك فإن كان بمحل ولايته وثم نائب فمفهوم الإرشاد وجوب إحضاره كما إذا كان بالبلد ومفهوم الحاوي والتنبيه أنه لا يحضره لاستغنائه بسماع البينة والحكم ثم الإنهاء إلى نائبه لإلزام الخصم، ورجح لعدم الاحتياج إلى إحضاره.
"وسئل" رحمه الله تعالى هل تقبل بينة الجرح والتعديل من غير حضور الخصم؟ "فأجاب" نفعنا الله تبارك وتعالى به بقوله الذي أفتى به الكمال الرداد الصديقي شارح الإرشاد القبول في الجرح ومثله التعديل واعترض عليه بقولهم لا تسمع البينة ولا يحكم بغير حضوره إلا لتواريه أو تعززه بتعليلهم اشتراط الحضور بأنه ربما طعن أو امتنعوا من الكذب

 

ج / 4 ص -329-        عليه لحياء أو نحوه وبأن غيره أفتى بأنه لا بد من حضور المدعى عليه الحاضر بالبلد مجلس الحاكم بالتزكية وانتصر للكمال بعض تلامذته بأن في كل من الجرح والتعديل حقا مؤكدا لله سبحانه وتعالى ولهذا تسمع شهادة الحسبة في الجرح والتعديل من غير حضور خصم فيهما لما فيهما من الحق المؤكد لله سبحانه وتعالى هكذا صرحوا به وهو شاهد قوي لقبول الشهادة مع الغيبة. ومما يدل على ذلك أنهم جعلوا أمر التزكية والجرح إلى القاضي فيحكم فيهما بعلمه ولا ينافي ذلك ما ذكر في السؤال عنهم لأنه فيما ليس فيه حق مؤكد لله سبحانه وتعالى. اهـ. على أنه وإن وقع جرح أو تعديل في غيبته هو متمكن من تداركه بإقامة ما يبطله فلم يتحقق عليه ضرر في ذلك لا يمكن تداركه، والله سبحانه وتعالى أعلم.
"وسئل" رحمه الله تعالى هل يمكن حيلة يتوصل بها إلى التسجيل والحال أن العين المحكوم بها في يد المدعي وما الفائدة في المسجل له بذلك وهل الحيلة بذلك تفيد بين يدي من ليست العين بمحل ولايته وهل الثبوت غير الكتاب بسماع البينة فيما لا يؤمن اشتباهه أم الثبوت هو نفس السماع؟. "فأجاب" بقوله الذي ذكره الأصحاب كما في أوائل أدب القضاء أنه لا يشترط للدعوى إلا وجود صورتها ظاهرا فتقبل وإن لم يكن لها حقيقة في نفس الأمر وفي فتاوى القاضي حسين أن الحيلة في إقامة البينة بالبراءة من الدين قبل الدعوى أن ينصب مسخرا يدعي على من عليه الدين بأن له على فلان كذا ولفلان عند فلان هذا كذا فمره بتسليمه إلي فيقيم البينة بالإبراء حقيقة اهـ. وهذا إنما يتأتى له على ضعيف وهو سماع الدعوى على غريم الغريم وقياسه أنه لو أراد إثبات ملك شيء بيده ولا منازع فيه الآن فالحيلة أن يدعي من بيده العين أني مالكها ويحضرها أو يصفها بمميزها وأن هذا غصبها مني وأطالبه بتسليمها وأسألك أن تأمره بتسليمها إلي أو بجوابه عن دعواي فيجيبه بالإنكار فيقيم البينة عليها قال في أدب القضاء واصطلح الحكام على هذا مع ما فيه من كذب المدعي والمدعى عليه وعلم القاضي بذلك. لكن قال القاضي حسين هذا كذب محطوط إذا علم أن القصد به التوصل إلى إثبات الحقوق بما لا ضرر فيه وليس القصد منه إلا ترويج إثبات الأحكام والتسجيل على الحكام.
اهـ. وقال بعضهم كأنهم جوزوا ذلك مع ما فيه من التلبيس فإن من بيده العين يصير نفسه خارجا ويجعل اليد للمدعى عليه كذبا لغرض التسجيل وإثبات الحقوق ولا نظر إلى أنه يمكن التحرز بالدعوى على من يخاف منه المنازعة إن غاب ويقيم البينة لما في هذه من يمين الاستظهار وقد يكون له غرض في التنزه عن اليمين ففي إلزامه بهذه الحيلة مشقة عليه بخلاف الحيلة الأولى فإنه لا يمين فيها لأن الدعوى فيها على حاضر فكانت أسهل وأرفق وفي فتاوى ابن الصلاح ما يؤيد سماع الدعوى على الغائب كما ذكر لكن ظاهر كلام الجواهر خلافه فإنه قال لو ادعي على الغائب أنه ابتاع منه العين أو اتهبها وخشي جحوده فطلب سماعها لم يتسمع لأن سماعها إنما يكون بعد إنكاره اهـ. وهذا هو الظاهر وعليه فالحيلة الأولى متعينة لا يمكن التحرز منها بالدعوى

 

ج / 4 ص -330-        على الغائب والفرق بين الثبوت والسماع أن بينة السماع يسمعها القاضي ليبعث القاضي المكتوب إليه بالعين إلى القاضي الكاتب ليشهد على عينها في بلد الكاتب وبينة الثبوت أعم من أن ينقل إلى قاض آخر أو لا إذ هي ما لم يتصل بها حكم ومن ثم جاز رجوعها بخلاف ما إذا اتصل بها حكم.
"وسئل" رحمه الله تعالى عن شخص حلف مع شاهده بعد ثبوت عدالته عند القاضي وكان المدعى به يقبل فيه شاهد ويمين فجرح الشاهد بعد يمينه جرحا شرعيا فهل يعتد بهذه اليمين مع إقامة شاهد آخر أو لا بد من يمين أخرى مع الشاهد الآخر؟ "فأجاب" رحمه الله تعالى بقوله لا بد من يمين أخرى لأن اليمين الأولى بطلت بتبين فسق الشاهد إذ لا يعتد بها إلا بعد شهادة الشاهد وثبوت عدالته فإذا بان بطلان شهادته بان بطلانها.
"وسئل" رحمه الله تعالى عن رجل ولي قضاء بلد ليس فيها وظيفة ولا فيها سلطان مسلم ولا بيت مال ولا هناك متبرع يقوم بكفايته سوى أن أهل الحل والعقد في تلك القرية عينوا على كل حمل من الحبوب والأدهان وغيرهما مما يجيء به أهل البوادي شيئا معلوما ثم إنهم يصرفون ما يحصل من ذلك المعين للقاضي وأئمة المساجد والمؤذنين وإصلاح المساجد هل يجوز للقاضي وغيره قبول ذلك منهم وإذا تورع القاضي عن قبول ما ذكر تصير القرية معطلة عن الحدود فهل يجوز أخذه والحالة هذه أو لا وهل يحل للقاضي قبول النذر والهبة المطلقة والحضور في الطعام الذي يصنع لمولد النبي صلى الله عليه وسلم؟ "فأجاب" بقوله لا يجوز قبول ذلك مطلقا لأنه مكس حقيقة من غير تأويل ولا شبهة فقاتل الله تعالى مخترع ذلك ومؤسسه والدين القيم والشريعة الواضحة الغراء البيضاء غنية عن أن يحتاج في القيام بها إلى أمثال هذه القبائح المهالك زاد الله تعالى تنزيه القائمين بها عن هذه الأدناس والقاذورات ووفق للقيام بها في هذا القطر تبرعا لله سبحانه وتعالى بعض أهل الدين والمروآت بمنه وكرمه ولا يجوز للقاضي قبول ما نذر له أو لولده الصغير ولا قبول هبة أو هدية بتفصيلها المعروف في محلها وقد استوفيته أتم استيفاء وبسطته أحسن بسط وضبطته أكمل ضبط في كتابي الذي ألفته في ذلك لما جاءني أسئلة كثيرة من اليمن وسميته إيضاح الأحكام لما يأخذه العمال والحكام وللقاضي حضور الولائم والأولى له التنزه عنها.
"وسئل" عن قاض من قضاة المسلمين يشدد على الناس ولا يحكم إلا بالقول الصحيح ولا يزوج من انقطع حيضهن إلى بلوغ سن اليأس ولا يسلك بالناس مسلك التخفيف والتيسير وقد قال صلى الله عليه وسلم:
"اللهم من ولي من أمر أمتي شيئا فشق عليهم فاشقق عليه ومن ولي من أمر أمتي شيئا فرفق بهم فارفق به"، رواه مسلم وقال أيضا: "يسروا ولا تعسروا"؟ "فأجاب" رحمه الله تعالى بقوله ما ذكر عن هذا القاضي إنما يعد من محاسنه لا من مساويه فجزاه الله تعالى عن دينه وأمانته خيرا فإنه عديم النظير الآن وكيف وأكثر قضاة هذا العصر

 

ج / 4 ص -331-        وما قبله بأعصار صاروا خونة مكسة لا يحرمون حراما ولا يجتنبون آثاما بل قبائحهم أكثر من أن تحصر وأظهر من أن تشهر حتى قال الأذرعي عن قضاة زمنه إنهم كقريبي العهد بالإسلام فإذا كان هذا في قضاة تلك الأزمنة فما بالك بقضاة هذا الزمن الذي عطلت فيه الشعائر وغلبت فيه الكبائر وقل فيه الصالحون وكثرت فيه المفسدون فقيام هذا القاضي حينئذ بقوانين مذهبه وعدم التفاته إلى الترخيص للناس بما لا تقتضيه قواعد إمامه يدل على صلاحه ونجاحه وفلاحه وعجيب من السائل كيف يورد في مثله حديث مسلم المذكور فإن ذلك يدل على عدم فهمه للحديث وإحاطته بشيء من معناه فإنه لم يرد به مثل هذا القاضي بل مثل القضاة الذين شرحنا شيئا من حالهم وبينا قبيح فعالهم إذ المراد بكونه شق عليهم أنه جار في حكمه بينهم بغير الحق وكلفهم بما لم يأذن له فيه الشارع وأما من التزم معهم أمر الشرع وعدل فهو مدعو له لا عليه وهذا أمر واضح لا غبار عليه ومعنى "يسروا ولا تعسروا" النهي عن التعسير على الناس بما لم يأذن فيه الشارع وأما من عمل بمذهب إمامه فهو غير داخل في ذلك، والله سبحانه وتعالى أعلم.
"وسئل" عما إذا اختلف ترجيح المتأخرين والشيخين ما المعتمد عليه في ذلك؟ "فأجاب" رحمه الله تعالى بقوله لما كنا مجاورين سنة خمسين بطيبة المنورة على مشرفها أفضل الصلاة والسلام سألنا بعض أكابرها وفضلائها عن نحو ذلك وأطال في الاحتجاج والانتصار لاعتماد ترجيح المتأخرين فأجبته بجواب مبسوط متكفل لرد جميع أدلته وفي الانتصار لاعتماد ترجيح الشيخين والإعراض عما سواه ثم قرئ ذلك الإفتاء بحضرة فضلاء المدينة المشرفة فلم يمكن أحدا منهم أن يبدي فيه شيئا بل وافقوه وعلموا أنه الحق وقد بسطت الكلام في ذلك أيضا في خطبة شرح العباب وبينت فيه أن الحق ما درج عليه مشايخنا ومشايخهم وهلم جرا من اعتماد ترجيح كلام الشيخين في الإفتاء وغيره وأنه لا يعترض عليهما بكلام الأكثرين ولا بالنص ولا بغير ذلك وبينت فروعا اعترضوا فيها عليهما بالنص ثم لما أمعنت التفتيش رأيتهما استندا لنص آخر وفروع أخرى وهي الأكثر اعترضوا عليهما فيها بكلام الأكثرين مع أنهما صرحا في مواضع بأنهما لا يتقيدان بكلام الأكثرين بل بما يترجح عندهما من قوة المدرك أو من أن ذلك في الحقيقة ليس عليه الأكثرون فإن من يعترض بكلام الأكثرين ربما عدد جملا ترجع إلى واحد من الأصحاب أو اثنين مثلا ألا ترى أن أصحاب الشيخ أبي حامد شيخ الطريقين قد بلغوا من الكثرة مبلغا عظيما. فمن رأى كتبهم وفتاويهم متفقة على شيء واحد يظن أن الأكثرين عليه وفي الحقيقة ذلك إنما هو رأي رجل واحد لأن الغالب من أحوال الأصحاب أن كل أهل طريقة لا يخالفون إمام طريقهم بل يكونون تابعين له في تفريعه وتأصيله فتفطن لهذا فإنه راج على كثيرين اعترضوا على الشيخين بمخالفتهما لكلام الأكثرين وفي الحقيقة لم يخالفا ذلك وبفرضه وتسليمه فقد بان أنهما لا يتقيدان إلا بقوة المدرك فوجب اتباع ترجيحهما لأنهما

 

ج / 4 ص -332-        اللذان أجمع من جاء بعدهما على أنهما مبالغان في التحري والاحتياط والحفظ والتحقيق والولاية والمعرفة والتحرير والتنقير مبلغا لم يبلغه أحد ممن جاء بعدهما فكان اعتماد قولهما هو الأحرى والأحق والإعراض عن مخالفيه هو الأولى بكل شافعي لم يصل لمرتبة من مراتب الاجتهاد ولقد بينت في شرح العباب رد قوله خلافا للشيخين في كل موضع وقع له ذلك وأنه إنما قلد في ذلك بعض المتأخرين وأن الصواب ما قاله الشيخان أو أحدهما والحاصل أن المعتمد عليهما إن اتفقا وإلا فعلى النووي رحمهما الله تعالى ما لم يجمع المتأخرون على أنهما وقعا في سهو أو غلط فحينئذ يعرض عما قالاه وأين تجد موضعا اتفق المتأخرون على ذلك بل كل محل وجدته تجد من المتأخرين من يعتمد ما قالاه ومنهم من يخالفه ومن تأمل إطباق أكثر المتأخرين على تغليطهما فيما قالاه أن النفقة لا تصير دينا إلا بفرض القاضي مبلغا وأنصار الشمس الجوجري لهما في ذلك ورده على أكابر المتأخرين علم أنه يعز أن يوجد محل أطبق المتأخرون كلهم على إلغاء ترجيحهما فيه فالصواب الاعتماد عليهما دون غيرهما، والله سبحانه وتعالى أعلم.
"وسئل" رحمه الله تعالى عن شافعي يحرص على صبي مميز في التزام مذهب أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه والتمسك به ويدرس له كتب الحنفية وإذا سئل شافعي عن التقليد بمذهب فهل عليه الأمر بالتزام مذهب إمامه أو يدله إلى مذهب آخر؟ "فأجاب" نفعنا الله سبحانه وتعالى بعلومه بقوله الشافعي وأبو حنيفة ومالك وأحمد وسائر أئمة المسلمين على هدى من ربهم فجزاهم الله تعالى عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء وأكمله وحشرنا في زمرتهم وإذا كانوا كلهم على هدى من الله سبحانه وتعالى فلا حرج على من أرشد غيره إلى التمسك بأي مذهب من المذاهب الأربعة وإن خالف مذهبه واعتقاده لأنه أرشده إلى حق وهدى تدريس الشافعي لكتب غير مذهبه لا يسوغ له إلا إن قرأ ذلك الذي يدرسه على عالم موثوق به من أئمة ذلك المذهب هذا إن أريد به تدريس المعتمد في ذلك المذهب وأما إن أريد منه مجرد فهم العبارة وتفهيمها فهذا لا محذور فيه.
"وسئل" عن تقليد العامي لأحد الأئمة المجتهدين غير الأربعة بعد تقرر مذاهبهم واشتهارها بما هو معلوم هل يجوز ذلك أم لا وإذا قلتم بعدم الجواز ماذا يلزم المقلد لذلك المجتهد وما حكم عبادته على مقتضى ذلك الاجتهاد هل هي صحيحة أم لا وإذا قلتم بعدم صحة عبادته هل يكون عاصيا في ذلك حتى يجب عليه القضاء على الفور أم لا وإذا قلتم بجواز التقليد لغير الأئمة الأربعة هل يشترط أن يوافق اجتهاده أحد الأئمة حتى يكون التقليد له كأنه تقليد لأحدهم أم لا وهل يشترط نقل مذهب ذلك المجتهد متواترا أم لا وهل يشترط أن يكون مدونا أم يكفي نقله على الألسنة وأيضا ظاهر جمع الجوامع جواز التقليد لكل مجتهد من غير اشتراط شيء سوى اعتقاد المقلد كون مذهب مقلده راجحا أو مساويا فهل البناء على

 

ج / 4 ص -333-        هذا الظاهر كاف في الحكم بجواز تقليد كل مجتهد أم الأمر على خلافه بينوا ذلك "فأجاب" نفعنا الله تعالى بعلومه وبركته بقوله الذي تحرر أن تقليد غير الأئمة الأربعة رضي الله تعالى عنهم لا يجوز في الإفتاء ولا في القضاء وأما في عمل الإنسان لنفسه فيجوز تقليده لغير الأربعة ممن يجوز تقليده لا كالشيعة وبعض الظاهرية ويشترط معرفته بمذهب المقلد بنقل العدل عن مثله وتفاصيل تلك المسألة أو المسائل المقلد فيها وما يتعلق بها على مذهب ذلك المقلد وعدم التلفيق لو أراد أن يضم إليها أو إلى بعضها تقليد غير ذلك الإمام لما تقرر أن تلفيق التقليد كتقليد مالك رحمه الله تعالى في عدم نجاسة الكلب والشافعي رضي الله تبارك وتعالى عنه في مسح بعض الرأس فممتنع اتفاقا بل قيل إجماعا وإذا وجدت شروط التقليد التي ذكرناها وغيرها مما هو معلوم في محله فعبادات المقلد ومعاملته المشتملة على ذلك صحيحة وإلا فلا ويأثم بذلك فيلزمه القضاء فورا ولا يشترط موافقة اجتهاد ذلك المقلد لأحد المذاهب الأربعة ولا نقل مذهبه تواترا كما أشرت إليه ولا تدوين مذهبه على استقلاله بل يكفي أخذه من كتب المخالفين الموثوق بها المعول عليها وكلام جمع الجوامع محمول على ما تقرر على أنه عند التحقيق لا يخالفه، والله سبحانه وتعالى أعلم.
"وسئل" رحمه الله تعالى بما صورته من عبد الباسط بن إبراهيم بن عيسى بن أبي غرارة الشافعي إلى سيدنا ومولانا العلامة الحجة الفهامة عالم الحجاز أحمد بن حجر الشافعي رضي الله تعالى عنه إنا في أرض بجيلة وليس عندنا سلطان ولا قاض منصوب من جهة السلطان وأهل بجيلة وناصرة وزهران وغامد وغيرهم من القبائل يردون أمورهم وأحكامهم وفتواهم إلينا ويرفعون إلينا قضاياهم العرفية والشرعية ويرونا نصلح لذلك فهل يا شيخ الإسلام إذا اجتمع بعض شيوخهم ونصبونا نحكم بينهم بحكم الله سبحانه وتعالى الذي لا عوج فيه ولا محيد عنه يجوز لنا ذلك وينفذ منا ما ينفذ من القاضي من جهة السلطان من تزويج المجنونة وبيع مال المديون لحق الغرماء وحفظ أموال الأيتام والسعي لهم والشراء بالمصلحة وإنكاح من عضل وليها وغير ذلك مما يفعله القاضي أم لا يجوز لنا في ذلك المسئول منكم بيان ذلك فقد نقل جدي رحمه الله تعالى عن فتاوى الأصبحي عما إذا عدم في قطر ذو شوكة وحاكم ولم يوجد للمرأة ولي ولا للأطفال وصي ونحوه فهل لجماعة من أهل البلاد نصب فقيه يتعاطى الأحكام في الأموال والأبضاع فأجاب بقوله نعم إذا لم يكن رئيس يرجع أمرهم إليه اجتمع ثلاثة من أهل الحل والعقد ونصبوا قاضيا صفته صفة القضاة ويشترط في الثلاثة صفة الكمال كما في نصب الإمام قال الإمام السيد السمهودي رحمه الله تعالى ووجهه أن الميسور لا يسقط بالمعسور فحيث تعذر الإمام وأمكن نصب القاضي وجب لأن الضرورة داعية إليه فيأثم أهل تلك البلاد بتركه وقوله صفته صفة القضاة أي التي يمكن وجودها في زمانهم فكما يجوز للإمام تولية المقلد للضرورة يتعين على هؤلاء توليته فإذا اجتمع جماعة من أهل الحل والعقد الموصوفين بصفة الكمال على نصب

 

ج / 4 ص -334-        مقلد قاضيا تم ذلك ونفذ حكمه فيحكم بينهم بما يعلمه من مذهب إمامه وبالجملة فالتمادي على ترك إقامة قاض في قطر من الأقطار معصية تعم أهله وقد علمت أن إقامته ليست متوقفة على وجود الإمام الذي يعسر عليهم ولا على المجتهد بل الضرورة مقتضية لما ذكرناه. اهـ. كلام السمهودي قال جدي ويؤيده قول المقدسي في القضاء من الإشارات إذا اجتمع أهل بلد على أن لا يلي أحد فيهم القضاء أثموا لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله لا يقدس أمة ليس فيهم من يأخذ للضعيف حقه" اهـ. قال الشيخ ابن ناصر في بعض أجوبته إن البلد الذي لا حاكم فيه تجب الهجرة منه لقولهم في باب الإمامة لا بد للناس من حاكم يأخذ على يد الظالم للمظلوم وينصف الناس بعضهم من بعض قال جدي وقد سئل القاضي جمال الدين بن ظهيرة عما إذا كانت قرية من القرى وأهلها يملك كبارهم الحل والعقد فيها دون غيرها فهل يصح نصبهم لرجل يمضي فيهم ما يمضي الحاكم وقد أظهروا له الطاعة فيما يقربهم من الله سبحانه وتعالى وبايعوه على ذلك وهو معتقد منهم عدم الوفاء ثم لم يفوا بالأكثر أو بالجميع هل ينفذ منه ما ينفذ من الحاكم من تزويج المجنونة وبيع مال المديون لحق الغرماء وحفظ أموال اليتامى والبيع والشراء بالمصلحة وأشباه ذلك وما يشترط فيه في نفسه وما لا يشترط فأجاب بأنه يجوز للكبراء المذكورين أن يولوا قاضيا في القرية المذكورة يحكم بين الناس وإذا فعلوا ذلك صح ونفذت أحكامه وصح تزويج المجنونة وغيرها وبيع مال المديون عند امتناعه ويحفظ مال اليتيم ويتصرف فيه ويحفظ أموال الغائبين ويتولى جميع ما يتولاه الحكام وكذا لو كان للقرية شيخ يرجعون إليه في أمورهم ويقدمونه عليهم على عادة العرب فله أن ينصب حاكما يحكم بين أهل القرية كما ينصبه الإمام ونائبه ولا يشترط في الشيخ المذكور أن يكون عدلا بل لو لم يكن لأهل القرية شيخ ولا كبير يرجعون إليه فلهم أن ينصبوا قاضيا يقضي بينهم ويصح ذلك منهم وتنفذ أحكامه عليهم وقد أفتى بذلك كله الشيخ أحمد بن موسى بن عجيل اليمني فيما وقفت عليه له وهو ظاهر ويشترط في المنصوب المذكور ما يشترط في القاضي والشروط المعتبرة مفقودة في هذا الزمان بل من قبله بدهر طويل وقد ذكر الغزالي في وسيطه وحكاه عنه الرافعي في الشرح وجزم به في المحرر أن من ولاه ذو شوكة نفذ حكمه وإن كان جاهلا أو فاسقا للضرورة وهذا هو اللائق بهذا الزمان ولهذا قال في الحاوي الصغير وإن تعذر من ولاه ذو شوكة والله سبحانه وتعالى أعلم اهـ. قال جدي رحمه الله تعالى وعبارة الماوردي في الحاوي إذا خلا بلد عن قاض وخلا العصر عن إمام فقلد أهل الاختيار أو بعضهم برضا الباقين واحدا وأمكنهم نصرته وتقوية يده جاز تقليده ولو انتفى شيء من ذلك لم يجب تقليده كذا قاله ابن الرفعة قال جدي رحمه الله تعالى وسئل بعض المتأخرين عن رجل في بلاد ليس فيها سلطان هل يجوز حكمه إذا حكمه الخصمان فأجاب إذا حكمه الخصمان ورضيا بحكمه وكان أهلا للحكم جاز ونفذ حكمه وسئل أيضا بعض

 

ج / 4 ص -335-        علماء مكة المشرفة عما إذا لم يكن في البلد إمام مولى ورضيت العامة بأحكام رجل عندهم أيلزم حكمه أم لا بد من التولية الشرعية لأن الشرع مبني على الحاكم فإذا لم يكن في البلد حاكم من جهة السلطان ولا أمينه هل تنفذ أحكام من رضوا به أم لا؟ فأجاب بقوله إذا لم يكن في البلد قاض وكان فيها رجل عالم أو عدل ثقة مرضي به عند عدم الحاكم وتراضى به أهل البلد ونصبوه وهو عالم بالشرع فأحكامه وتصرفاته في ذلك نافذة وأن يكون عدلا لا يظلمهم اهـ. جوابه؟ "فأجاب" نفعنا الله سبحانه وتعالى به بقوله إذا تأملت هذه الأجوبة وجدت فيها شروطا لا توجد فيك ولا في المولين فلا حاجة بك إلى الدخول في ورطة ذلك فإن الذين يولونك ليسوا أهل شوكة ولا يقدرون على تنفيذ أحكامك وإنما يأخذون منها ما وافق أغراضهم وما لا يوافقها أعرضوا عنه ويستحيل فيهم بمقتضى العادة اجتماعهم على كلمة الحق كما هو مشاهد من أهل بجيلة ونواحيها فالحذر أن تدخل في أمورهم إلا دخول السلامة بأن تكون مصلحا أو يحكمك الخصمان في أمر ظاهر معلوم من المذهب بالضرورة فلا بأس بحكمك بينهم حينئذ وأما ما عدا ذلك فاحذر الدخول فيه إن أردت السلامة لدينك والله سبحانه وتعالى يوفقنا وإياك لمرضاته آمين.
"وسئل" رحمه الله تعالى عما إذا كان أهل ناحية الأزواج بها والأولياء لا يحسنون عقد الأنكحة فيما بينهم ولا يهتدون إلى اللفظ الموصل إلى حل المناكحة ولا يعرفون الشرائط والأركان ونصب القاضي بتلك الناحية عليهم منصوبا يلفظ الزوج والولي عند إرادة التناكح الألفاظ الموصلة إلى حل المناكحة ويسمع بينة من ادعت طلاقا من زوج معين ويحلف من ادعت أنها خلية من الزوج والعدة إلى غير ذلك من المصالح الدينية ونهى أن يتعاطى أحد من الناس ذلك غير منصوبه لأن فيه نوع ولاية من حيث سماع البينة والتحليف وغيرهما فهل يجوز لبعض الآحاد من المتفقهة وغيرهم مجاهرة القاضي بالمخالفة وتعاطي ذلك استبدادا منهم بعد علمهم بالنهي وهل يجوز للقاضي أن يعزر من فعل هذه الأفعال للإيذاء والمجاهرة ولأنه تعاطى شيئا لم يجز له تعاطيه كما جاز تعزير من خالف تسعير الإمام وهل يكون هذا أولى بالتعزير من مخالف التسعير لأن في هذا مصلحة عامة للمسلمين ولا يتعاطى مثله إلا بولاية من حيث سماع البينة والتحليف ولم يكن فيه أيضا تضييق على أحد بخلاف مخالف التسعير فإنه جاز تعزيره للمجاهرة بالمخالفة مع أن التسعير حرام وفيه نوع تضييق على الناس في أموالهم.
"فأجاب" نفعنا الله تعالى بعلومه بقوله إن تعاطى ذلك المتفقه أو غيره عقد من لا ولي لها أو عقد من يتوقف عقدها على بينة أو حلف من غير إذن القاضي أو السلطان عزر على ذلك التعزير البليغ وإن لم ينهه القاضي عن ذلك أو عقد من لها ولي ولا يتوقف عقدها على بينة ولا حلف فإن نهاه السلطان أو القاضي وقد أذن له السلطان في النهي عن ذلك عزر أيضا وإن أذن له الولي أو أذنت له المولية وإن لم ينه السلطان ولا أذن للقاضي في النهي عن ذلك لم يعتبر نهي القاضي لأن القاضي متعد

 

ج / 4 ص -336-        بالنهي حينئذ وليس في مخالفته شق للعصا ولا خشية فتنة فليس هو في معنى الإمام في ذلك حتى يلحق به فيه وهذا ظاهر بأدنى تأمل ودعوى أن أهل تلك الناحية لا يحسنون العقد لا يفيد لأن الكلام في متفقه يحسن ذلك وقد وكله الولي في العقد بشرطه أو لقن كلا من الولي والزوج اللفظ الواجب في العقد وإذا كان هذا هو فرض المسألة فنهي القاضي مثل هذا عما ذكر حرام عليه يأثم به ولعل سببه ما اعتيد الآن من جهلة القضاة أنهم يرتبون على العقود دراهم يأخذونها من الزوج ومعلوم إجماعا أن مثل ذلك يفسق به القاضي وينعزل به ولقد بحث بعض مشايخنا أن القاضي إذا كان كذلك جاز للزوجة التي لا ولي لها وللزوج أن يحكما عدلا يزوجها به ولو مع وجود القاضي المذكور وأن وجوده كفقده وإن هذا ليس هو محل الخلاف في المسألة المشهورة.
"وسئل" رحمه الله تعالى عن قوله صلى الله عليه وسلم:
"من طلب قضاء المسلمين حتى يناله فغلب عدله جوره فله الجنة"، قضى له عليه الصلاة والسلام بأغلب حاليه والفقهاء رضي الله تعالى عنهم لم يقضوا للشخص بأغلب حاليه إلا في الصغائر وأما غيرها فقالوا إن القاضي ينعزل بالفسق بالمرة الواحدة وظاهر الحديث يخالف ذلك فإنه يفهم منه العموم وقريب من الحديث أو في معناه قول ابن الصلاح رحمه الله تعالى وقد تكفر الصلاة وصيام رمضان وصلاة الجمعة والوضوء بعض الكبائر إذا لم تجد صغيرة وكذلك العباب في الشهادات قال خاتمة قد تمحى الصغائر بلا توبة بل بصلاة الخمس وصوم رمضان والاستغفار واجتناب الكبائر وقد يمحو نحو الصلاة بعض الكبائر إذا لم يجد صغيرة بأن كفرها غيرها وغيرهما من الفقهاء لا يرى ذلك بل يقول إن الكبيرة لا يكفرها إلا التوبة منها ولا تعود العدالة إلا بعد الاستبراء بسنة وإن غلبت الطاعات؟ "فأجاب" نفع الله تعالى بعلومه المسلمين بقوله الحديث المذكور لم أر له أصلا ولا سندا في كتب الأحاديث التي عليها المعتمد بل في الأحاديث الكثيرة ما يدل على شدة عذاب الجائر وقبيح فعاله وعظمة عقابه سواء أغلب جوره عدله أم لا وحينئذ فلا يرد ما ذكره السائل لأنه بناه على أن للحديث الذي ذكره أصلا صحيحا وليس كذلك، والله سبحانه وتعالى أعلم.
"وسئل" رحمه الله تعالى عن شخص ولاه صاحب مصر المولى من قبل السلطان المفوض إليه إعطاء المناصب منصبا ثم ولى السلطان آخر في ذلك المنصب فمن المقدم مع أن السلطان لم يصرح بعزل الأول وهل إذا كان العرف إلا تأخر تاريخ من ولاه السلطان يقتضي تقدمه يعمل به أو لا؟ "فأجاب" بقوله إذا اطردت العادة بأن ذلك المنصب لا يولى فيه إلا واحد كانت التولية الثانية رافعة للأولى وإن اتحد المولي سواء أصرح بعزل الأول أم لا وإن لم تطرد بذلك عادة أو اطردت بأن من ولاه السلطان مقدم على من ولاه غيره قدم من ولاه السلطان، والله سبحانه وتعالى أعلم.

 

ج / 4 ص -337-        "وسئل" رحمه الله تعالى بالمدينة المشرفة على مشرفها أفضل الصلاة والسلام ثاني شوال سنة تسع وخمسين وتسعمائة عن امرأة عامية تزعم أنها شافعية تزوجت بمحلل وذكرت أن أحد شهود عقدها قال حالة العقد زوجي نفسك منه على كذا كذا دينارا على مذهب أبي حنيفة وأنها علمت ذلك واعتقدته ورضيت به فزوجت نفسها منه وقبل وعند غيبوبة الحشفة حصل بعض انتشار له وذكرت ذلك للشهود وذهل الشهود عن استحضار ذكر ما ذكرته من أن أحدهما ذكره لها فهل القول قولها ويكتفى بعلمها بما عقد عليه من كون العقد على المذهب المذكور وإن لم يصرح لها بلفظ التقليد ولم تعلم شروطه وهل تقليد العوام إلا هذا وهل يضر ذهول الشهود عما ذكرته مع جزمها باستحضاره وسماعه ويكتفى بيسير الانتشار وتحل للزوج مع انقضاء عدتها بما ذكر أو لا؟ "فأجاب" نفعنا الله تعالى بعلومه بقوله إذا قصدت هي والزوج العمل بذلك على مذهب أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه كان ذلك تقليدا له فحينئذ يعتبر وجود شروط العقد في مذهبه وكذا شروط وطء المحلل وتوابعه فإذا وجدت كلها وإن لم تعلم أنها شروط حلت لزوجها الأول إن قلدا أبا حنيفة رضي الله تعالى عنه أيضا ويلزمه الاستمرار على تقليده ما دامت هذه المرأة في عصمته ويلزم أيضا رعاية عدم التلفيق حتى لو طلقها ثانيا لم تحل له وإن كان شافعيا أختها ولا أربع سواها حتى تنقضي عدتها منه وعلى هذا المثال يقاس ما أشبهه، والله سبحانه وتعالى أعلم.
"وسئل" رحمه الله تعالى عن جماعة تحت أيديهم مدرسة من مدارس زبيد يباشرون وظائفها ويقبضون غلاتها فجاء من نازعهم في ذلك فتداعوا بين يدي بعض القضاة الشافعية فادعوا بأن هذه المدرسة بناها فلان الفلاني ووقف عليها هذه الأراضي وجعل النظر والوظائف لفلان وذريته وهو جد هؤلاء الجماعة الذين بيدهم المدرسة؟ فأجاب المنازع لهم بالإنكار فأثبتوا بالطريق الشرعي مدعاهم بالبينة العادلة التي شهدت لهم على وفق دعواهم بين يدي ذلك القاضي واستندوا في ذلك إلى الشهرة والاستفاضة لكون الوقف المذكور قديم العهد معدوم الرسم فكتب القاضي المذكور لهم سجلا حكميا بذلك وحكم لهم بما فيه وأشهد جماعة مجلسه على ذلك فجاء هذا المنازع ببعض كتب التواريخ وفيه أن بين موت الواقف وموت الموقوف عليه وعلى ذريته فرقا كبيرا وذلك بأن المؤرخ نقل أن الواقف توفي في أثناء سبعمائة والموقوف عليه توفي في أثناء سنة ثمانمائة فأراد القاضي المذكور أن ينقض حكمه السابق بمجرد ما نقل عن ذلك المؤرخ فهل يسوغ له ذلك أم لا وهل يعارض أخبار التواريخ البينات العادلة وتترجح عليها أم لا؟ بينوا لنا ذلك "فأجاب" نفعنا الله سبحانه وتعالى به بقوله الكلام على هذه الواقعة يستدعي تحريرا فإن ما ذكر فيها من أن المدعى عليهم هم واضعو اليد وأن الخارج أجاب بالإنكار عجيب إذ كيف يتصور من ذي اليد أن تسمع له دعوى على خارج لا يد له بما ذكر مع أن شرط الدعوى أن تكون ملزمة

 

ج / 4 ص -338-        ولا إلزام هنا وفرض مصحح لدعواهم بأن يقولوا إنه يلازمنا ويمنعنا من اشتغالنا لا يتأتى هنا مع ما ذكر في السؤال أن الخارج أجاب بإنكار استحقاقهم على أن قولهم هذا دعوى أخرى فإذا أنكرها قبل قوله ولم تسمع منهم بينة باستحقاق لأنها غير محتاج إليها الآن بل لا يطابق دعواهم فعلم أن الواقع إن كان كما ذكر أو لا من دعوى واضعي اليد فالدعوى باطلة.
وما ترتب عليها من الحكم كذلك فتبقى الأرض بيد من هي بيده وإن كان الأمر بخلاف ذلك بأن ادعى خارج على ذي اليد بأنه المالك للرقبة أو المستحق للمنفعة الآن بمقتضى كذا وطالبهم برفع أيديهم فأجابوا بأنهم المستحقون للمنفعة فأنكر فأقاموا بينة وشرط الواقف النظر والاستحقاق لجدهم وذريته وبأنهم من تلك الذرية ولم تذكر البينة أن مستندها الاستفاضة أو ذكرت ذلك على وجه الجزم لا الشك على خلاف فيه فحكم القاضي بها صح حكمه ولم يجز له ولا لغيره نقضه لشيء وجده مخالفا في كتب التواريخ وفي الروضة كالإحياء أن كتب التواريخ لا تنفع في الدنيا ولا في الآخرة والعجب من توهم هذا القاضي ذلك إذ هذا لا يصدر إلا ممن لم يشم لكلام الشافعية رائحة وكانت أمارات الجهل والتساهل في الدين عليه لائحة وكيف يتوهم ذلك متوهم مع اتفاق أئمته على أن الخط لا يعمل به ولا يقضى بما فيه حتى لو شهد إنسان في واقعة ودونها بخطه وحفظه عنده حفظا تاما بحيث يقطع بأنه لا يمكن تزوير شيء فيه عليه لم يجز له أن يشهد معتمدا على خطه حتى يتذكر الواقعة أي لأن دلالة الخط ضعيفة محتملة فلا يجوز اعتمادها في الشهادات ونحوها مع قوله صلى الله عليه وسلم: "على مثل هذه فاشهد"، فيا لله العجب ممن عرف ذلك من مختصرات مذهبه التي بأيدي المبتدئين فضلا عن غيرها كيف يتوهم أن حكما صح لاستيفاء شروطه ينقض لشيء وجد مخالفا له لا يقاومه ولا يعارضه تالله لا يتوهم ذلك إلا غبي غلب عليه هواه وضعف عقله وتقواه على أنا لو تنزلنا وقلنا إن تلك التواريخ يعمل بها في ذلك لم يعمل بها في هذه الواقعة جزما لأنها لا تنافي ما حكم به القاضي لأن غاية ما بين تاريخ وفاة الواقف ووفاة الموقوف عليه مائة سنة ونحو سنة وهذا لا يقتضي أن ولادة الموقوف عليه تأخرت عن وفاة الواقف لاحتمال أن الموقوف عليه عاش مائة سنة وسنتين وهذا كثير بل قد رأينا من جاوز المائة والعشرين ومنهم جدي أبو أبي وشيخنا ولي الله ذو الكرامات الباهرة محمد بن أبي الحمائل وشيخنا شيخ الإسلام زكريا سقى الله تعالى عهده جاوز المائة بل في الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين جماعة كثيرون عاشوا مائة وستين سنة بل سلمان الفارسي رضي الله تعالى عنه جاوز المائتين وخمسين سنة اتفاقا على ما نقله أبو الشيخ وإنما اختلفوا في الزائد على ذلك حتى قيل إنه عاش ستمائة سنة وقول الذهبي لم يجاوز الثمانين فيما ظهر له مردود عليه وقد رأينا بمكة من منذ سنين رجلا هنديا يزعم أن سنه ثلاثمائة وخمسون سنة وأنه من خدمة رتن الهندي المدعى أنه من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وأنه حمل النبي صلى الله عليه وسلم وحمله حتى جاوز به سبيلا قريب جدة وأنه وفد عليه مرتين مرة بمكة

 

ج / 4 ص -339-        ومرة بالمدينة وانتصر له بعض المتأخرين زاعما عن نفسه أنه تابعي لاجتماعه بهذا الصحابي لكن بالغ غيره من الأئمة قبله وبعده في تكذيب رتن في دعواه تلك وإذا تقرر أنه لا استحالة ولا بعد في أن الشخص يعيش مائة سنة وسنة فأكثر لم يكن ما في تلك التواريخ منافيا لذلك الحكم ولا معارضا له بوجه فتوهم القاضي أن ما ذكر عن تلك التواريخ ينافي حكمه ويقتضي نقضه ذهول عجيب وتغفل مريب هذا كله إذا تنزلنا وقلنا بما لا يقول به شافعي أن ما في التواريخ يعارض أحكام القضاة الصحيحة بالبينات العادلة سواء في ذلك الحكم بالصحة والحكم بالموجب فإن قلت كيف يطلق النووي في الروضة أن علم التاريخ لا ينفع في الدنيا ولا في الآخرة مع قول الثوري رحمه الله تعالى وناهيك به جلالة وتقدما لما استعمل الرواة الكذب استعملنا لهم التاريخ وقول حسان بن يزيد لم يستعن على الكذابين بمثل التاريخ.
وروى ابن جرير من طريق ابن شهاب أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة وقدمها في شهر ربيع الأول أمر بالتاريخ وقول المحدثين إن التاريخ فن عظيم الوقع جليل النفع وضعناه لنختبر به من جهلنا لما كثر الكذابون حتى ظهر به كذبهم وبطل قولهم الذي يروجون به على من لا علم له بالتاريخ كما وقع لجماعة أنهم زعموا لقاء الأكابر وأخذوا عنهم فبحث عن سن مولدهم ووفاة أولئك فرئي بينهما بون بائن فافتضحوا بذلك على رءوس الأشهاد وقول بعض المتأخرين ولع بعض من لا يعبأ به بكلام الروضة والإحياء في ذم مطلق التاريخ فأخطأ بل هو واجب إذا تعين طريقا للوقوف على اتصال الخبر وشبهه قلت هذا كله في واد وكلام الفقهاء في واد آخر وذلك لأنهم اتفقوا بل أجمعوا على أن باب الرواية أوسع من باب الشهادة والقضاء فلا يلزم من استدلالهم بما في التواريخ المعتمدة المتواترة عن مؤلفيها الأئمة الحفاظ المتصلة بالأسانيد الصحيحة من تكذيب راو في دعواه أو جرحه أو تعديله أو تدليسه أو انقطاعه أو إرساله أو غير ذلك من فنون الرواية أن يستدل بما فيها على بطلان حكم قاض ببينة شرعية عادلة تعلق بها حق المحكوم له ونفذ الحكم له بذلك ظاهرا مطلقا وباطنا كذلك عند جمع مجتهدين ويشترط أن يوافق باطن الأمر ظاهره عندنا فلا يرفع إلا بما يعادل ذلك كبينة أخرى مستوفية لشروط البينات والتعارض شهدت بما يقتضي بطلان ذلك الحكم فهذا هو الذي يرفعه وأما مجرد شيء يوجد في تاريخ أو تواريخ فذلك ليس من قبيل البينات في شيء ألبتة وإنما هو شيء يستأنس به في تقوية سند أو ضعفه أو عدالة أو جرح أو نحوها وكل هذه للقرائن فيها مدخل لأن مدارها ومبناها ليس إلا على القرائن كما لا يخفى ذلك على من له أدنى إلمام بمعلوم الحديث واصطلاح المحدثين الذين هم أهل التاريخ والمستدلون به وأما الفقهاء فلا مدخل للاستدلال به في قواعدهم المقررة في أحكام القضاة والشهود ونحوهما وقول الروضة والإحياء السابق من الواضح أنه مفروض في تواريخ ليس فيها إلا مجرد ذكر حوادث ووقائع لا يرتبط بها نفع في الدين ولا في الدنيا وأما تواريخ المحدثين التي فيها ذكر نحو الجرح والتعديل ووفيات الرواة

 

ج / 4 ص -340-        ورحلاتهم ونحو ذلك فهي من أجل الكتب النافعة في الدين والدنيا كما صرح به المحدثون والنووي رحمه الله تعالى منهم بل من أجلهم كما شهد بذلك تقريبه وغيره فإن قلت قد استدل بالتاريخ في مثل قضيتنا فقد حكى الخطيب في تاريخه أن بعض يهود خيبر أظهر صحيفة فيها إسقاط الجزية عنهم وفيها شهادة بعض الصحابة رضي الله تعالى عنهم على النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فنظر الأئمة في حال أولئك الشهود فوجدوا بعضهم قد مات قبل فتح خيبر كسعد بن معاذ رضي الله تعالى عنه وبعضهم ما أسلم إلا بعد فتح خيبر فأبطلت تلك الصحيفة قلت شتان ما بين هذه وقضيتنا لأن هذه من باب الرواية عنه صلى الله عليه وسلم أنه أسقط الجزية عنهم وقد تقرر أنه يعمل في باب الرواية بمثل هذه القرائن وقضيتنا من باب الشهادة فلا جامع بينهما على أنا لا نسلم أن بطلان الصحيفة لمجرد ذلك.
وإنما حكي هذا لأنه قرينة فقط وأما أصل بطلانها فإنما هو لأصول أخرى منها مخالفتها للقطعي وهو الإجماع على عموم أخذ الجزية من اليهود والنصارى من غير استثناء ومن ثم كانت صحيفتهم باطلة وإن فرض أن تلك القرينة لم توجد فبان أنها مقوية فقط ومما يبطلها أيضا أنه لو فرض أن لا إجماع أن إسقاطها عن هؤلاء بخصوصهم تخصيص للقرآن وهو لا يكون إلا بقاطع عند جماعة وعلى مقابل الأصح أنه يكون بالسنة ولو ظنية يشترط في تلك السنة أن يرويها العدل عنه صلى الله عليه وسلم بسند متصل عرفت رجاله وعدالتهم وعدم علة قادحة فيهم أو في مروءتهم كما هو مقرر في علوم الحديث وهذه الصحيفة لم يوجد فيها شيء من هذه الشروط فكيف يتوهم من له أدنى مسكة أن بطلانها يتوقف على تلك القرينة حتى تجعل القرينة هي المبطلة لها ثم يقيس عليها في ذلك بطلان الحكم في قضيتنا لا يتوهم ذلك إلا غبي جاهل على أنه صحت نصوص تبطلها أيضا فقد صح من طرق أنه صلى الله عليه وسلم نص على إجلائهم من خيبر بل من الحجاز وعمل بها عمر رضي الله تعالى عنه فأجلاهم وأخذ منهم الجزية ووافقه الصحابة رضي الله تعالى عنهم على ذلك وتدبره ليظهر لك أن ما حكي عن ذلك القاضي إن صح عنه دل على فرط جهله وقلة دينه واقتضى أنه يجب على علماء بلده السعي في عزله ما أمكن وإلا لزمهم الإعلام بحاله حتى لا يغتر به الجاهلون وتولية مثل هذا غير عجيب فقد قال الأذرعي في قضاة زمنه إنهم كقريبي عهد بالإسلام فالامتحان بالجهلة قديم، والله سبحانه بكل شيء عليم.
"وسئل" عما إذا أمر السلطان بأمر موافق لمذهب معتبر من غير أن يعلم بذلك المذهب فضلا عن تقليده فهل يتعين تنفيذ أمره بذلك؟ "فأجاب" بقوله نعم يتعين ذلك كما صرح به البلقيني وعبارته إذا أمر السلطان بأمر موافق لمذهب معتبر من مذاهب الأئمة المعتبرين فإنا ننفذه ولا يجوز لنا نقضه ولا نقول يحتاج إلى أن يعلم بالخلاف كغيره من الحكام لأن الخوض في مثل ذلك يؤدي إلى فتن عظيمة ينبغي سدها انتهت.

 

ج / 4 ص -341-        "وسئل" رحمه الله تعالى عمن أجاب بجواب معترضا على جواب غيره هل يجوز له تخطئته والتشنيع عليه بألفاظ قبيحة كما يفعله البعض سواء أظهر الخطأ بظهور النص أم كان اعتراضه بحسب فهمه أم يجوز في حال دون حال وما هو وفي الروضة كلام لا يخفى على شريف علمكم حققوه أثابكم الله سبحانه وتعالى بثوابه الجزيل؟ "فأجاب" نفع الله سبحانه وتعالى بقوله إن كان المجيب الأول ليس أهلا للإفتاء أو صدر منه ما يدل على استعجاله وتقصيره في استبانة الحكم فالمعترض عليه معذور وإن أتى من ألفاظ التنفير عن تلك المقالة بما أتى لأن بيان الحق ودفع غير أهله عن التعرض لما ليسوا له بأهل واجبان على متأهل لذلك وإن كان أهلا للإفتاء متثبتا فيما أفتى به لم يعذر المعترض عليه إلا إن بين سبب الخطإ بالنص الصريح من كلام الشافعي رضي الله تعالى عنه أو الأصحاب رضي الله تعالى عنهم ومع ذلك يتعين عليه الأدب معه فلا يبرز انتقاصا له في ذاته أصلا وأما إذا أراد التنفير عن تلك المقالة فواسع له أن يقول عنها هذه خطأ أو باطل أو لا يجوز لشافعي العمل بها أو نحو ذلك من الألفاظ المنفرة عن المقالة لا غير هذا كله إن تأهل المعترض وإلا منع من الكلام من أصله وعلى ما ذكرته من التفصيل يحمل ما وقع للأصحاب بعضهم مع بعض وما وقع للمتأخرين مع الشيخين ومع بعضهم من أنه ليس المراد بالألفاظ الغليظة التي يأتون بها إلا التنفير عن تلك المقالة لا غير ومع ذلك الأولى توفية اللسان ما أمكن وما في الروضة إن فرض شموله لمسألتنا محمول على ما ذكرته فتأمله.
"وسئل" رحمه الله تعالى بما لفظه أطلق بعض المفتين أن من استعمل الحشيشة كفر فهل ينكر عليه إطلاق هذه المقالة؟ "فأجاب" نفع الله تعالى به بقوله استفتي عن ذلك الجلال السيوطي فقال لا ينكر عليه هذا الإطلاق لأن مثل هذا يجوز أن يقال فيه في معرض الزجر والتغليظ كقوله صلى الله عليه وسلم:
"من ترك الصلاة فقد كفر"، فيكون مؤولا على المستحل أو يكون المراد كفر النعمة لا كفر الملة والعالم إذا أفتى بمثل هذه العبارة إنما يطلقها متأولا على ما ذكرناه.
"وسئل" رحمه الله تعالى ما المراد بالمقلد الذي لا يصح إيمانه عند كثير من المتكلمين؟ "فأجاب" نفعنا الله تعالى بعلومه بقوله المراد به من نشأ بقلة جبل ولم يرزق فطنة حتى يستدل بهذا العالم على أن له موجدا ومدبرا فمر عليه شخص فقال له ذلك فاعتقده وجزم به تقليدا له من غير أن يتفطن لذلك الاستدلال وهذا نادر جدا وأما من قال يلزم على القول بعدم صحة إيمان المقلد تكفير العوام فإنما يتمشى كلامه على أن المراد بالمقلد من لم يتقن الدليل على قواعد الاستدلال وهذا بعيد جدا فإنه صلى الله عليه وسلم اكتفى من كثيرين من أجلاف الأعراب والنساء بما هو في طبع كل أحد حتى العجائز والصبيان من الاستدلال بالنجوم والسماء والأرض والأنهار والأشجار والزروع على أن لها خالقا ومدبرا وعلى هذا لا تجد عاميا مقلدا أصلا.

 

ج / 4 ص -342-        "وسئل" رحمه الله تعالى في شخص يقرأ ويطالع الكتب الفقهية بنفسه ولم يكن له شيخ يقرر له المسائل الدينية والدنيوية ثم إنه يسأل عن مسائل دينية ودنيوية فيفتيهم ويعتمد على مطالعته في الكتب ولم يتوقف فيما يسأل عنه هل يجوز له ذلك وإذا قلتم بعدم الجواز فماذا يستحقه من قبل الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم؟ "فأجاب" نفع الله تعالى به بقوله لا يجوز لهذا المذكور الإفتاء بوجه من الوجوه لأنه عامي جاهل لا يدري ما يقول بل الذي أخذ العلم عن المشايخ المعتبرين لا يجوز له أن يفتي من كتاب ولا من كتابين بل قال النووي رحمه الله تعالى ولا من عشرة فإن العشرة والعشرين قد يعتمدون كلهم على مقالة ضعيفة في المذهب فلا يجوز تقليدهم فيها بخلاف الماهر الذي أخذ العلم عن أهله وصارت له فيه ملكة نفسانية فإنه يميز بين الصحيح من غيره ويعلم المسائل وما يتعلق بها على الوجه المعتمد به فهذا هو الذي يفتي الناس ويصلح أن يكون واسطة بينهم وبين الله تعالى وأما غيره فيلزمه إذا تسور هذا المنصب الشريف التعزير البليغ والزجر الشديد الزاجر له ولأمثاله عن هذا الأمر القبيح الذي يؤدي إلى مفاسد لا تحصى، والله سبحانه وتعالى أعلم.
"وسئل" رحمه الله تعالى عن وظيفة شغرت بموت صاحبها فأقام من له ولاية الإقامة شخصا في الوظيفة المذكورة فباشرها نحوا من سنة فأنهى في خلال ذلك شخص آخر إلى ولي الأمر أن الوظيفة المذكورة شاغرة بسبب وفاة صاحبها الأول من غير تعرض لذكر من أقيم فيها فأقامه فيها ولي الأمر من غير تصريح بعزل من أقيم فيها أولا فهل الولاية الثانية تبطل الأولى أم هما صحيحتان فيشتركان؟ "فأجاب" بقوله إذا صرح المولي بترتيب التولية على إنهاء الشغور الحقيقي كانت باطلة فيقدم المتولي أولا مباشرة ومعلوما من غير مشاركة له في ذلك وإن لم يصرح بذلك ولا بعزل الأول ولا دلت على عزله قرينة اشترك فيها الأول والثاني فإن قلت ينافي ذلك ما في أصل الروضة أن الإمام لو أخبر بموت القاضي أو فسقه فولى قاضيا ثم بان خلافه لم يقدح في تولية الثاني قال في الخادم ومقتضاه الجزم بانعزال الأول أي وإن كان فيه وجهان فيكون ترجيحا للوجه القائل بانعزال الأول ثم استشكله الزركشي بأنه بناء على ظن غير مطابق ثم أجاب بأن للإمام العزل من غير موجب أي لمن لم يتعين قال ونظيره ما لو قال لمن يظنها أجنبية أنت طالق فبانت زوجته وقع الطلاق قلت إذا تأملت قولي إذا صرح إلخ وقول الزركشي إنه بناه على ظن وبتنظيره المذكور ظهر لك عدم المنافاة وأن كلام الشيخين فيما إذا ولى ظانا صحة الخبر بالموت أو الفسق وحينئذ فهو لم يقع منه تصريح بترتيب التولية على صحة الخبر فصحت لأنها وجدت مساغا هو أن للإمام التولية مع سبق التولية لأنها كالمعلقة بشرط لم يوجد فإن قلت ما الفرق بين الظن والتصريح مع أن كلا فيه الترتيب على ما بان خلافه قلت الفرق بينهما واضح فإن الولاية من الأمور المتوقفة على اللفظ وما توقف عليه كالبيع والطلاق إنما يؤثر فيه التصريح لا الظن وقولي ولا دلت على عزله قرينة أخذته من قول الماوردي رحمه

 

ج / 4 ص -343-        الله تعالى إذا قلد آخر فإن اقترن بتقليده شواهد عزل الأول كان وإلا فهو باق على ولايته.
"تنبيه" ذكر أجلاء المتأخرين أن هذا في الأمور العامة قالوا أما الوظائف الخاصة كالإمامة والخطابة والتدريس فلا يجوز عزل متوليها من غير سبب ولا ينفذ واستدلوا بكلام الروضة وغيره ويتعين تقييده بما إذا كان المولي غير الإمام أو الإمام ولم يخش منه فتنة أما إذا كان المولي هو الإمام وخشي من عدم نفوذ توليته فتنة فينبغي صحتها مطلقا كما هو واضح، والله سبحانه وتعالى أعلم.
"وسئل" رضي الله تعالى عنه عما إذا استناب السلطان شخصا بقرية مخصوصة نيابة خاصة أو عامة فأخرب السلطان المذكور القرية المذكورة هل ينعزل النائب بخراب موضع التولية أم لا كما لا ينعزل بموته؟ "فأجاب" نفعنا الله تعالى بعلومه بقوله الذي يظهر في ذلك إنه إذا قيد التولية بتلك القرية بأن قال وليتك بقرية كذا لم ينعزل إلا بخرابها خرابا مستأصلا لها بحيث صارت لا تسمى قرية كذا لزوال ما أناط التولية به بخلاف ما إذا لم تصر كذلك لبقاء ما ولي فيه فتبقى التولية ببقائه وليس هذا كموته إذ لا جامع بينهما كما هو جلي هذا كله إن لم يمنع السلطان الناس من سكناها وإلا كان ذلك عزلا لقاضيها عن الحكم فيها وإن بقي اسمها كما هو واضح، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.

"باب الحاق القائف"
"وسئل" رضي الله تعالى عنه رجل وطئ جارية له ثم تركها بلا وطء نحو شهرين فظن أنها حاضت فزوجها من عبده فولدت بعد ستة أشهر ونحو عشرة أيام من دخول الزوج عليها فهل الولد لاحق بالسيد أو بالزوج والنكاح صحيح أو لا؟ "فأجاب" حيث لم يثبت حيضها وهي من ذوات الحيض فالنكاح باطل لكن الوطء وطء شبهة والولد ممكن منهما فيعرض على القائف فإن ألحقه بأحدهما لحقه وإلا وقف أمره حتى يكلف فيلزم ولو بالحبس بالانتساب إلى أحدهما إن وجد ميلا إليه وإلا وقف إلى أن يجده، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.

"باب القسمة"
"وسئل" رضي الله تعالى عنه لو أردنا قسمة حلي مغشوش من ذهب أو فضة بين أيتام أو أردنا أن نبتاع لهم ذلك فما الطريق في صحة القسمة والبيع هل يجزئ في ذلك التبايع بعرض احتيالا للصحة حيث اقتضته المصلحة للأيتام كما لو جرى ذلك بين رشد أو لا وهل لهم طريق في الشرع سوى ذلك أم لا فإن في سد الباب عليهم من الحرج ما لا

 

ج / 4 ص -344-        يخفى. "فأجاب" نفع الله تعالى بعلومه المسلمين بأن الحلي إما أن تستوي أجزاؤه أو لا فإن استوت أجزاؤه جازت قسمته حيث لم تنقص قيمته بالقسمة لأن الصحيح في هذه القسمة أنها إفراز للحق لا بيع ولا ينافي ذلك جعلهم الغش مقصودا في باب القسمة كالزكاة والربا بخلاف المعاملة بالمغشوشة لأن الغش لا ينظر إليه في باب القسمة إلا حيث جعلت بيعا وأما حيث كانت إفرازا فلا ينظر إليه كما يعلم مما يأتي عن الشيخين وإن اختلفت أجزاؤه امتنعت قسمته لأنها حينئذ بيع وبيع بعض المغشوش ببعضه لا يجوز لأنه من قاعدة مد عجوة وقد ذكر الشيخان ما يدل على ما ذكرته فإنهما قالا وحيث قلنا القسمة بيع اشترط في قسمة الربوي التقابض في المجلس وامتنعت في الرطب والعنب وما عقدت النار أجزاءه قال غيرهما ونحو ذلك وما نحن فيه من نحو ذلك وحيث قلنا هي إفراز جازت قسمة ذلك أي ومن ثم جازت قسمة الرطب والعنب على القول بأن القسمة إفراز وامتنعت على القول بأنها بيع وحيث امتنعت قسمة الحلي المذكور إما لكونها بيعا أو لكونها تنقص قيمته بالكسر باعه ولي الأيتام أو أولياؤهم بذهب إن كان فضة أو عكسه لا بعرض إلا لمصلحة وقسموا ثمنه بينهم على حسب شركتهم في المبيع هذا إن كان البيع أحظ من إيجاره وإبقائه لمن يستعمله بأجرة المثل فأكثر.
أما إذا استوى البيع والإيجار المذكوران في الحظ فيتخير الولي أو الأولياء وأما إذا كان الإيجار أحظ من البيع فيجب فعله واعلم أن آنية القنية التي للمحجور إذا كانت من صفر ونحوه كالعقار فيما ذكروه في بيع الولي له من أنه لا يباع إلا لخوف تلفه أو لحاجة نحو نفقة ما لم يجد قرضا ينتظر معه غلة تفي بالقرض أو لغبطة ظاهرة كبيعه بزيادة على ثمن مثله وهو يجد مثله ببعضه أو خيرا منه بكله وإذا كانت آنية نحو الصفر كالعقار فيما ذكر كما نقله ابن الرفعة عن البندنيجي واعتمده فليكن الحلي المذكور كالعقار فيما ذكرنا بالمساواة أو الأولى فلا يجوز بيعه إلا لأحد الأقسام الثلاثة المذكورة الخوف أو الحاجة أو الغبطة واعلم أيضا أنه لا يجوز لولي الأيتام أن يتولى القسمة بينهم بنفسه وحده قلنا إنها بيع سواء أكان فيها تقويم أم لا وكذا إن قلنا إنها إفراز أو كان فيها تقويم لقولهم حيث كان في القسمة تقويم فلا بد من اثنين يشهدان بالقسمة وكذا إن لم يكن فيها تقويم كما في فتاوى الأصبحي، والله سبحانه وتعالى أعلم.
"وسئل" رحمه الله تعالى لو كان بينهما أي بين شخصين أرض واحدة فيها بناء أو شجر فأراد أحدهما قسمة البناء أو الشجر دون الأرض أو بالعكس مع المساواة بالتعديل فهل يجبر الممتنع أو لا ولو كان البناء أو الشجر لأجنبي وأراد الشركاء قسمة الأرض أو بالعكس فهل يختلف الحكم أم لا؟ "فأجاب" نفعنا الله سبحانه وتعالى بعلومه بأن كلام الماوردي والروياني صريح في أنه لا يجبر الممتنع في الصورة الأولى في السؤال بقسميها وذلك لأنهما صرحا بأنه لو كان بينهما أرض واحدة فيها بناء أو شجرة فأراد أحدهما قسمة الأرض دون البناء والشجر لا يجبر الآخر فإن تراضيا دخل في الأرض قسمة الإجبار ما داما على

 

ج / 4 ص -345-        هذا الاتفاق وقسمت بينهما إجبارا بالقرعة فإذا رجع أحدهما عن الاتفاق زالت قسمة الاتفاق اهـ. وجزم به في الأنوار حيث قال ولو كان بينهما أرض مزروعة وأراد قسمة الأرض وحدها جاز وأجبر الممتنع بخلاف البناء والشجر اهـ. فقوله بخلاف البناء والشجر هو مسألتنا بعينه ومما يصرح بذلك قوله في الأنوار أيضا تبعا للشيخين في الروضة وأصلها ولو كانت الشركة لا ترتفع بالقسمة إلا عن بعض الأعيان كعبدين بين اثنين قيمة أحدهما مائة والآخر مائتان وطلب أحدهما القسمة ليختص من خرجت له قرعة الخسيس به وبربع النفيس فلا إجبار. اهـ. وعبارة الشيخين الأصح لا إجبار لأن الشركة لا ترتفع بالكلية وهذا منهما صريح في أن محل الإجبار إذا ارتفعت الشركة بينهما بالكلية وإلا فلا إجبار فيكون نصا في مسألتنا أنه لا إجبار في مسألتنا ومما يصرح بذلك أيضا قول الدارمي إذا كان العلو مشتركا فتراضوا على قسمته جاز وإن طلبوا الإجبار يجوز وقال ابن القطان لا يجوز اهـ. قال الأذرعي وكأن الصورة فيما إذا كان العلو مشتركا فقط والسفل لأحدهما أو لغيرهما اهـ. وإذا كانت الصورة كذلك كان كلام ابن خيران ضعيفا لما علمت أن ما قاله ابن القطان حينئذ يشهد له كلام الماوردي والروياني وكلام الشيخين السابق ويؤيده أيضا اشتراط الماوردي في قسمة الجدار المشترك بين المالكين تفريعا على القول بالإجبار أن تكون الأرض لهما ولا يشكل على ذلك قولهم في الأرض المزروعة إذا طلب أحدهما قسمتها دون الزرع أجبر الممتنع لأن للزرع أمدا ينتظر بخلاف البناء والغراس وكأن السبكي لم يطلع على ذلك حيث توقف في الإجبار فيما لو كان بين اثنين شركة في أنشاب وبساتين وبئر والأرض مستأجرة لهما فإنه قال لا إجبار في البئر المحتكرة ولا في الأنشاب إن اختلف نوعها أو جنسها أو قيمتها بحيث لا يمكن التعديل وإن اتحد النوع وأمكن التعديل فعندي فيه توقف. اهـ. وقد علمت أن المنقول يقتضي هنا عدم الإجبار أيضا لبقاء الشركة بينهما في الأرض فلم توجد فائدة القسمة وأما الصورة الثانية بقسميها فواضح أنه يجبر الممتنع من القسمة فيها والفرق بينها وبين الأولى أن القسمة هنا تزيل ضرر الشركة بالكلية ولا تبقي بينهما تعلقا بعدها بخلافها في الأولى فإن التعلق المؤدي إلى المنازعة والمضارة باق بينهما بعد القسمة فلم يجبر الممتنع منهما لانتفاء فائدتها من إزالة ما هو سبب للمنازعة والمضارة بين الشريكين ثم رأيت بعض المتأخرين وجه بذلك أيضا حيث قال وقد صرح الماوردي بأن قسمة البناء والشجر دون أرضه لا تجوز جبرا وتجوز اختيارا ووجهه أن قسمة التعديل في غير هذه الصورة تقطع العلق بينهما واعتراض أحدهما على الآخر وهو المقصود الأعظم من القسمة وههنا لو أجبرنا لم تنقطع العلق والاعتراضات بينهما لبقاء الشركة في المنفعة فلو أراد أحدهما أن يعوض عن شجره الذي اقتلع لاعتراضه الآخر اهـ.
"وسئل" في قسمة النخل هل يجبر عليها الممتنع إذا اتحد النوع والقيمة من غير رد كما أفتى به إسماعيل الحيائي أو الشرط اتحاد الجنس فقط كما أفتى به أبو شكيل اليمانيين فما

 

ج / 4 ص -346-        المعتمد من ذلك؟ "فأجاب" نفعنا الله تعالى بعلومه بأن المعتمد في ذلك كما يعلم مما يأتي عن الشيخين وكلام السبكي السابق أنه لا يجبر الممتنع من قسمة النخل إذا اختلف نوعها أو جنسها أو قيمتها إذا لم يمكن التعديل ودعوى أبي شكيل أن الشرط اتحاد الجنس فقط ممنوعة ولعله أراد أن ذلك شرط لصحة القسمة دون الإجبار عليها على أن في إطلاق هذا نظرا أيضا ففي الروضة وأصلها والمشترك الذي يعدل بالقيمة منه ما يعد شيئا واحدا كأرض تختلف قيمة أجزائها بحسب قوة الإنبات وكذا بستان بعضه نخل وبعضه عنب ودار بعضها مبني بآجر وبعضها مبني بخشب وطين هذا إن لم يمكن قسمة الجيد وحده والرديء وحده وإلا فلا إجبار ومنه ما يعد شيئين فصاعدا ولا إجبار فيه ثم قالا والعبيد والدواب والشجر والثياب ونحوها إذا كانت من نوع واحد وأمكن التسوية عددا وقيمة أجبر على القسمة وإن لم تمكن التسوية أو كانت الأعيان أجناسا أو أنواعا فلا إجبار وكذا لو اختلطت الأنواع وعسر التمييز كتمر جيد ورديء اهـ. ملخصا وعبارة الأنوار كما يجري الإجبار إذا اختلفت الصفات يجري إذا اختلف الجنس كالبستان الواحد بعضه نخل وبعضه عنب والدار المبني بعضها بالآجر وبعضها بالطين والخشب وهذا إذا لم تمكن قسمة الجيد وحده والرديء وحده وإلا فلا يجبر على قسمة التعديل ثم قال وإن لم يكن عقارا كالعبيد والدواب والأشجار ونحوها فإن كانت نوعا واحدا وأمكنت التسوية عددا وقيمة أجبر الممتنع وإلا فلا وكأن أبا شكيل توهم ما ذكر عنه من مسألة البستان المذكورة وليس كما توهم فإن اختلاف الجنس فيها ألغي لأن المقسوم بالقصد هو أرض البستان فلا نظر لاختلاف جنس ما فيها بخلاف مسألتنا فإن المختلف الجنس هو المقسوم من غير تبع لشيء ومن ثم ذكر الشيخان في الأشجار المنفردة أنه لا بد من اتحاد نوعها وإمكان تسويتها عددا وقيمة فلا تلتبس عليك إحدى الصورتين بالأخرى كما وقع فيه أبو شكيل إن صح ما نقل عنه.
"وسئل" رحمه الله تعالى في الربويات كالرطب والعنب هل تصح قسمتها كيلا مع اتحاد نوعه واختلافه أو لا بد من اتحاد النوع ولو اقتسماه بدون كيل بل بامتحان باليد أو دونه هل يقوم مقام الكيل وهل يقدح في الصحة اختلاف حباته كبرا وصغرا أو اختلافه رطبا وبلحا أو لا وكذلك قسمة الحب في سنبله بكيل أو دونه وهل يجوز ذلك أو لا؟ "فأجاب" نفعنا الله تعالى به بأن الذي صرح به الشيخان وغيرهما أنا حيث جعلنا القسمة بيعا فاقتسما ربويا وجب التقابض في المجلس ولم تجز قسمة المكيل وزنا وعكسه ولا قسمة رطب وعنب وما عقدت النار أجزاءه ولا قسمة ثمر على شجر خرصا وحيث جعلناها إفرازا وهو المعتمد جاز كل ذلك وإنما يفوت إمكان القسمة فقط نعم الثمار على الشجر غير الرطب والعنب لا تجوز قسمتها خرصا وكذلك سائر الزروع وأما التمر والعنب فيجوز قسمتها خرصا على المعتمد عند الشيخين واختار السبكي قول جمع لا يجوز خرصها وإن قلنا إنها إفراز

 

ج / 4 ص -347-        قال لأن الخرص ظن لا يعلم به نصيب واحد على الحقيقة وفي الزكاة جوز للحاجة مع كون شركة المساكين ليست بشركة حقيقة بدليل أنه يجوز أداء حقهم من موضع آخر ويجاب بأن الظن المستفاد من خرص الرطب والعنب قائم مقام المحقق شرعا في باب الزكاة والعرايا فكذا هنا لأن قسمة الإفراز فيها أنواع من المسامحة يجعل هذا منها وصرح الشيخان أيضا بأنهما لو أراد قسمة أرض مزروعة مع ما فيها وقد اشتد الحب أو كان بذرا بعد لم يجز وإن كان فصيلا جاز أو قسمة ما فيها وحدها يأتي فيه هذا التفصيل ولا فرق بين أن تجعل القسمة هنا إفراز أو بيعا أما في الزرع وحده فلأنه مجهول وأما في الزرع مع الأرض وهو بذر أو قد بدا صلاحه فلأنها على الإفراز قسمة معلوم ومجهول وعلى البيع بيع طعام وأرض بطعام وأرض إذا تقرر ذلك علم أنه لا يصح قسمة الحب في سنبله مطلقا وأنه تصح قسمة الرطب والعنب كيلا ووزنا مع اتحاد النوع واختلافه ولو رطبا وبلحا ومع اختلاف الحبات لأن الشرط في قسمة الإفراز تعديل السهم بما يعلم به نصيب كل واحد على الحقيقة كالكيل أو الوزن أو الزرع ومن ثم علم أنه لا يكفي عن الكيل مثلا الامتحان باليد ثم ما ذكر في الرطب والعنب إنما يأتي إذا قلنا إنهما مثليان وهو ما صححه الشيخان في القصب وصحح في المجموع ما عليه الأكثرون تبعا للنص أنهما متقومان ومن ثم قال الإسنوي إنه المفتى به لكن القائل بالأول يحمل النص القائل بوجوب قيمتها على ما إذا فقد المثل وعلى القول بأنهما متقومان تكون قسمتهما قسمة تعديل فلا بد فيها من شروطها السابقة في الجواب الذي قبل هذا.
"وسئل" في قسمة اللحم نيئا ومشويا بدون نزع العظام ودون وزن اللحم كما عليه عمل الناس من غير نكير أو لا يصح ذلك كذلك وما طريق الصحة في جميع ذلك فلو ضحى جماعة ببدنة أو بقرة وقلتم إن لهم قسمة اللحم فهل يجب أن يتصل كل منهم بنصيبه من الكبد والقلب والكرش والشحم واللحم وهي أجناس أو يجوز أن يختص بعضهم ببعضها وغيره بالبعض الآخر؟. "فأجاب" بقوله إن اللحم النيء مثلي فتكون قسمة إفراز وحينئذ فتصح بشرط نزع عظمه الذي يمنع معرفة مقادير الأنصباء لما مر في الجواب الذي قبله أن شرط قسمة الإفراز تعديل السهام بما يعلم به نصيب كل واحد على الحقيقة ولا يتيسر ذلك في نحو اللحم إلا بوزنه فلا تصح قسمته جزافا لأنها لا تكون إلا قسمة تعديل وهو بيع وبيع الربوي الذي دخل النار بعضه ببعض لا يجوز وإذا ضحى جمع ببدنة فلا بد من قسمة كل من أجزائها كالكبد والطحال على حدته لأن قسمتها تعديلا باطلة لأنها بيع وهو ممتنع في الربويات المختلفة الجنس لأنه يصير من قاعدة مد عجوة كما علم مما قدمته في الجواب الذي قبل هذا في تقدير بطلان قسمة الزرع مع الأرض وقد بدا صلاحه أو كان بذرا بعد والكلام حيث لم يرضوا بتخصيص بعضهم بشيء منها على وجه الهبة مثلا أما إذا رضوا بذلك فلا مانع منه، والله سبحانه وتعالى أعلم.

 

ج / 4 ص -348-        "وسئل" رحمه الله تعالى عن قول الروضة وأما الأقرحة الأراضي فإن كانت متفرقة فهي كالدور وإن كانت متجاورة ففي الشامل أن أبا إسحاق جعلها كالقراح الواحد المختلف الأجزاء وأن غيره قال إنما تكون كالقراح الواحد إذا اتحد الشرب والطريق فإن تعدد فهو كما لو تفرقت قال وهذا أشبه بكلام الشافعي رضي الله تعالى عنه فما صورة الاتحاد في الشرب والطريق هل هو في الشرب ما إذا كانت الأقرحة المتجاورة تشرب من ثقبة واحدة دون ما إذا تعددت لكل أرض ثقبة تخصها من النهر أو كيف صورة الاتحاد ولو أن أحد الأقرحة أسفل من الآخر وبينهما حاجز وفيه ثقب يمر الماء فيها من الأعلى إلى الأسفل بلا سد وقد يسد بحيث لا يرسل إلى الأسفل إلا بعد ري الأعلى فهل يجري الإجبار في الصورتين أم في الصورة الأولى فقط وهل ما ثبت فيه الإجبار بالقسمة يثبت في خلطة الجوار أم الحكم مختلف؟ أفتونا مأجورين "فأجاب" بأن المعتمد ما رجحه الشيخان من أنه لا بد مع اتحاد الأقرحة من اتحاد مشربها وطريقها بأن يكون النهر الذي تشرب منه واحدا وتكون طريقها التي يصل فيها ماء النهر إليها واحدة سواء وصل إليها من ثقبة واحدة أو من ثقب بخلاف ما إذا اختلف النهر أو اتحد لكن اختلفت طرقها إليه فإنه لا إجبار حينئذ لاختلاف الأغراض باختلاف الأنهار وباختلاف القرب إليه باختلاف الطريق مع تلاصقها كما هو فرض المسألة يختلف قربها وبعدها منه فامتنع الإجبار حينئذ بخلاف ما إذا تلاصقت واتحد النهر واتحدت طريقها إليه فإن الأغراض حينئذ لا تختلف باختلاف أعيانها فمن ثم دخلها الإجبار حينئذ وبما تقرر علم أنه لا إجبار فيما ذكره السائل بقوله ولو أن أحد الأقرحة أسفل من الآخر إلخ لأن الطريق حينئذ إلى النهر لم تتحد بل اختلفت قربا وبعدا ومن لازم اختلافها كذلك اختلاف الأغراض بأعيانها ومع اختلاف الأغراض كذلك يمتنع الإجبار وواضح أن خلطة الجوار لا شركة فيها فكيف يتصور فيها القسمة فضلا عن أن يتصور فيها إجبار أو عدمه، والله سبحانه وتعالى أعلم.
"وسئل" رحمه الله تعالى فيما ذكره الأئمة أن الشيء الذي لا تتأتى قسمته إجبارا ولم يرض الشركاء فيه بالمهايأة أن الحاكم يؤجره وهل للحاكم أن يؤجره لبعض الشركاء أم لا فإن قلتم لا فهل إجارته صحيحة أو فاسدة ولو أن بعض الشركاء طلبه بأكثر من أجرة المثل هل يجاب أو لا؟ "فأجاب" نفعنا الله تعالى بعلومه وبركته بقوله قضية قولهم في امتناع الشركين من المهايأة إن الحاكم يؤجره عليهما وتوزع الأجرة بينهما أنه لا يجوز له أن يؤجره لأحدهما ووجهه ظاهر لأنه بامتناعهما صار نائبا عنهما شرعا إذ تصرفه عليهما إنما هو بنيابة اقتضتها الولاية أخذا مما قالوه في الحاكم إذا زوج بعضل الولي أو غيبته مثلا وإذا كان نائبا عنهما فكيف يؤجر أحدهما لأنه حينئذ يكون متصرفا مع مستنيبه فيما هو نائب فيه وهو ممتنع لاستلزامه أن المالك يستأجر ماله من نائبه بل لو قلنا إن القاضي ليس نائبا عنهما وإنما يتصرف في ذلك بحكم الولاية الشرعية كان الامتناع واضحا أيضا لأنه ولي على

 

ج / 4 ص -349-        المستأجر منه في حصته والولي لا يجوز له أن يتصرف مع المولى عليه فيما هو ولي عليه فيه فإن قلت يمكن توجيه الصحة بأن أحدهما إذا رضي بالاستئجار صار القاضي غير نائب عنه لأنه إنما ينوب عن ممتنع وغير مولى عليه كذلك أيضا وحينئذ فلا يتأتى ما ذكرته في توجيه الامتناع قلت هذا وإن أمكن أن يتخيل إلا أنه عند التأمل واضح الفساد لأن الحاكم لا يؤجره عليهما إلا إذا لم يتراضيا بالمهايأة وإذا لم يتراضيا بها فولاية الحاكم أو نائبه مستمرة عليهما وإن رضي أحدهما بأن يستأجره لأن رضاه باستئجاره غير رضاه بالمهايأة فلا يكون رضاه بالاستئجار مبطلا لولاية الحاكم ولا لنيابته لوجود السبب المقتضي لها وهو امتناعهما من المهايأة وبما تقرر علم أن إيجار الحاكم لأحدهما فاسد ولو بأكثر من أجرة المثل لأن ملحظ الفساد ما تقرر وهو موجود مع استئجاره بأجرة المثل أو بأكثر منها ثم رأيت ابن عبسين أفتى بخلاف ذلك وفيما قررته رد لجميع كلامه فتأمله.
"وسئل" بعض الناس عن رجل مات وخلف خمسة أولاد ذكور داود وأحمد وعمر وعليا وعبد الرحمن مات عمر عن ولد اسمه إدريس ثم مات إدريس عن غير ولد وخلف أربعة أعمام ثم مات أحمد عن غير ولد وانحصر إرثه في إخوته الثلاثة الباقين ثم مات داود وخلف ولدين ذكرين هما عبد الله ويوسف وبنتا هي فاطمة ثم مات عبد الله وخلف ولدا ذكرا اسمه إدريس ثم مات إدريس المذكور عن غير ولد وخلف عما له وهو يوسف المذكور وعمة له هي فاطمة المذكورة ثم غاب على المذكور في السفر وجهل مكانه وله مدة ستين سنة لم يعلم أهو حي أم ميت وترك ولدا له اسمه شكر وانحصر الآن إرث عبد الله الجد في ولده عبد الرحمن وفي أولاد ولده داود وفي ولد ولده على الغائب شكر المذكور وللجد عبد الله أراض ومزارع باليمن فوضع يده عليها عمهما عبد الرحمن المذكور وقسم لأولاد داود وأولاد علي المذكورين قطعتين من الأراضي المذكورة في بيتين من ثلث الأراضي المتروكة ومسك الثلثين بيده وغلب على أولاد إخوته فماذا يخص كل واحد من هؤلاء الأولاد وأولادهم من هذه الأراضي بحكم الفريضة الشرعية فأجاب بقوله حصة عبد الرحمن ثلث وعلي ثلث ويوسف أربعة أخماس ثلث وفاطمة خمس ثلث وعلى الغائب ستين سنة إذا مضت مدة يغلب على الظن أنه لا يعيش فوقها فيجتهد القاضي ويحكم بموته ويعطي ماله من يرثه وقت الحكم والقسمة المذكورة من عبد الرحمن إن كانت بطلب الشركاء بإذن الحاكم أم لا وهم بالغون رشداء ولم يحصل حيف في القسمة فالقسمة صحيحة إلا في حصة على الغائب لأنه لا يحكم بموته إلى الآن وإن كان عبد الرحمن هو القاسم باختياره فكل أحد من الورثة على حصته المتقدمة من كل أرض ومزرعة اهـ. والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب فرفع هذا السؤال إلى شيخنا - فسح الله تعالى في مدته ورضي عنه وقمع به جراءة متهجم على العلم قبل دريته والتمس منه تبيين الصواب عما به - هذا المفتي أجاب؟ "فأجاب" نفع الله تبارك وتعالى بعلومه المسلمين بقوله: قول المجيب

 

ج / 4 ص -350-        والقسمة المذكورة من عبد الرحمن إلى آخر جوابه غير صحيح لأمور منها أن المصرح به في السؤال والجواب أن القاسم هو عبد الرحمن وحيث تولى بعض الشركاء القسمة بنفسه فالقسمة باطلة وإن أذن له الباقون لأنه وكيل عنهم فلا يحتاط لهم كنفسه ومنها أنه حيث كان في الشركاء غائب فلا يقسم عنهم إلا القاضي بشرطه وإلا فالقسمة باطلة من أصلها وهذان كافيان في بطلان جميع ما ذكره هذا المفتي فالصواب أن هذه القسمة باطلة من أصلها مطلقا وأن ما ذكره هذا المفتي من هذا التفصيل باطل لا يعول على شيء منه، والله سبحانه وتعالى أعلم.
"وسئل" رحمه الله تعالى عن شخص هلك وخلف بنتا وأختا لأب وأختا لأم ما الجواب عن ذلك فإن في بلدنا من لا يسأل عن دينه إلا من لا يعلم أفتونا كيف يقسم الميراث مع أن أهل العلم قالوا إن الولد للأب يمنع الأخ للأم من الميراث وكذا قالوا الأخوات مع البنات عصبات؟ "فأجاب" نفعنا الله تعالى به بقوله للبنت النصف وللأخت للأب النصف الباقي ولا شيء للأخ للأم لأنه محجوب بالبنت لا بالأخت ولم يقولوا إن ولد الأب يمنع الأخ للأم من الميراث خلافا لما ذكره السائل، والله سبحانه وتعالى أعلم.
"وسئل" رحمه الله تعالى عن شخص مات وخلف بنتا وابنا لعتيقه أو بنت معتقه وقبيلة ينسب إليهم من غير تحقيق بل يقال إنه منهم فجاء رجل من الأرض التي هو بها فقال الميراث بين البنت وابن العتيق نصفان هل ما فعل هذا عن حقيقة أو جاهل فنعرفه فإن قبل وإلا رفعنا أمره أم يكون النصف للبنت والنصف للعصبة إذا تبين له عصبة وحيث لا بيت مال فهل يحكم بالرد على البنت أم يرصد إذا رجا أنه يكون من حي من أحياء العرب؟ "فأجاب" نفعنا الله تعالى بعلومه وبركته بقوله أما أولاد العتيق فلا يرثون من المعتق شيئا مطلقا سواء كانوا ذكورا أو إناثا وأما بنت المعتق فلا ترث من عتيق أبيها شيئا وحينئذ فتستحق بنت الميت النصف ثم إن ثبت انحصار الإرث فيها بأن لم يكن له وارث غيرها فإن كان بيت المال منتظما في تلك الأراضي أخذ المتولي عليه النصف الباقي وإن لم يكن منتظما أخذت البنت النصف الباقي أيضا وأما إذا لم يثبت انحصار الإرث فيها فتعطى النصف فقط والباقي يحفظ بأن يجعل تحت يد قاض أمين فإن لم يكن ثم قاض أمين اتفق أهل تلك البلد على وضعه عند من يرضون بأمانته وديانته إلى أن يظهر مستحقه، والله سبحانه وتعالى أعلم.
"وسئل" رحمه الله تعالى سؤالا صورته أيس من صاحب دين فهل يتعلق بتركة المديون مع ذلك؟ "فأجاب" نفعنا الله تبارك وتعالى بعلومه بقوله صرح الإسنوي رحمه الله تعالى في طرازه في باب القسمة بعدم تعلقه لئلا يؤدي إلى دوام حجر التركة به لا إلى غاية وتبعه الدميري وزاد عليه أنه لا يحجر بدين اللقطة إذا تملكها الميت ولم يعرف مالكها وجرى

 

ج / 4 ص -351-        عليه الزركشي رحمه الله تعالى في صورة اللقطة وعلله بما ذكر وإطلاق الأصحاب ينازع في ذلك كله وما عللوا به ممنوع فإنه إذا أيس من مالكه صار من أموال بيت المال فيتولى ناظر بيت المال قبضه وبه ينفك الحجر فلم يلزم دوام الحجر، والله سبحانه وتعالى أعلم.
"وسئل" رضي الله تعالى عنه سؤالا صورته زيد وشقيقته فولدت الشقيقة بنتا وولدت البنت ولدا فماتت الشقيقة والبنت فزعم ابن البنت أن البنت الشقيقة تقدم موتها قبل البنت فالوارث للشقيقة البنت والأخ الذي هو زيد فزعم الأخ الذي هو زيد أن بنت الشقيقة تقدم موتها على موت أمها التي هي الشقيقة فالوارث للشقيقة هو أي الأخ الذي هو زيد وحده فمن المرجح منهما وسواء في هذه الواقعة إذا كان المال في يدهما أو في يد أحدهما أو في يد غيرهما؟ "فأجاب" نفعنا الله تعالى بعلومه بقوله إن زيدا الأخ يستحق النصف على كل تقدير ثم النصف الثاني هو يزعم أن له أيضا وابن البنت يزعم أنه لأمه فإذا لم يكن لأحدهما بينة وقف حتى يتبين أو يصطلحا كما شمل ذلك قولهم متى علم تقدم موت أحد متوارثين على الآخر ونسي وقف ميراث كل إلى البيان أو الصلح وإنما لم نقل بالوقف في جميع مال الشقيقة لأن إرث أخيها النصف منه محقق تقدمت على بنتها أو تأخرت فلا مسوغ للوقف فيه إذ لا مسوغ له إلا الشك في الاستحقاق وهو في هذه الصورة في النصف الثاني فقط.
"وسئل" رحمه الله تعالى عن شخص قتل أباه وللقاتل ولد وليس للمقتول وارث سوى القاتل فإن قلتم لا يرث القاتل فهل يرث ولده أم لا فإذا قلتم يرثه كيف يرث وهو بعض القاتل كأنه هو وهو ممنوع؟ "فأجاب" نفعنا الله تعالى بعلومه بقوله قيام مانع الإرث بشخص يصيره كالعدم فالقاتل حينئذ كأنه لم يوجد فيرث ولده بالقرابة التي بينه وبين الميت لما تقرر أن قتل أبيه صيره كالميت.
"وسئل" رحمه الله تعالى عن شخص مات وخلف بني عمة وخالا وابن خالة وقلنا بتوريث ذوي الأرحام فمن الوارث من هؤلاء؟ "فأجاب" نفعنا الله تعالى به بقوله لبني العمة الثلثان والثلث الآخر بين الخال وابن الخالة أثلاثا للخال ثلثاه ولابن الخالة ثلثه هذا ما يظهر من مذهب أهل التنزيل لأنا إذا نزلنا كل فرع منزلة أصله كان بنو العمة بمنزلة العمة وهي بمنزلة الأب والخال بمنزلة الأم وابن الخالة بمنزلة أمه التي هي بمنزلة الأم فيقدر الخال والخالة كأنهما ورثا أختهما فيكون للخال الثلثان وللخالة الثلث ومالها يأخذه ولدها ومن ثم جعلنا كأن الأم والأب موجودان فما للأب وهو الثلثان يكون لبني العمة وما للأم وهو الثلث يكون لمن بمنزلتها وهما الخال وابن الخالة أما الخال فواضح وأما ابن الخالة فلتنزيله منزلة أمه في المساواة للخال فلم يحجب به فإن قلت القياس حجب الخال له لأنه أقرب منه إلى الوارث المنزلين منزلته وهو الأم قلت إنما يتأتى هذا على مذهب أهل القرابة أما على مذهب أهل التنزيل فلا لأنا على مذهبهم ننزل الفرع منزلة أصله ثم نعتبر حينئذ السبق

 

ج / 4 ص -352-        إلى الوارث وأما اعتبار السبق إليه قبل التنزيل فغير مقيس على مذهب المنزلين ثم رأيت ابن الصلاح سئل عمن ترك خالا وابني خالة من يرث منهما؟ فأجاب رحمه الله تعالى بقوله يصرف ميراثه إلى من يورثه المورثون لذوي الأرحام وهذا الجواب مجمل إذ لم يتبين منه أن الخال يحجب ابني الخالة أم لا ثم سئل عمن تركت زوجا وعمة وابنتي أخ شقيق فأفتى بعد الاستخارة بأن للزوج النصف والباقي بين الثلاث أثلاثا إلا أن تكون العمة للأم فحسب فيكون الباقي بين بنتي الأخ ووجه ذلك بقوله وذلك أني وجدت العمة تترجح بأن أكثر أهل التنزيل نزلوها أبا وقالوا بتقديمها على ابنة الأخ التي هي منزلة منزلة الأخ عند أهل التنزيل أجمعين ووجدت ابنة الأخ تترجح أيضا من جهة أن أهل القرابة كالبغوي والمتولي قالوا بتقديم بنت الأخ ووافقهم بعض أهل التنزيل ومنهم من نزل العمة عما فقدموا ابنة الأخ عليها، كما يقدم الأخ على العم فرأيت أن لا أسقط إحدى الجهتين بالأخرى ووجدتهما متعادلتين فسويت بين الثلاث وهو مذهب بعض أهل التنزيل ومنهم من نزل العمة لغير الأم بمنزلة الجد ثم قال بعد حكاية مذهب أن إعطاء ذوي الأرحام على سبيل المصلحة لا الإرث فرأيت والحال على ما وصفت الإفتاء بالجمع والتسوية بينهن أقرب الوجوه وأعدل المذاهب وأرعاها للجهات فاستخرت الله سبحانه وتعالى في المصير إليه كلامه ملخصا ثم قال في بنتي أخ وابن بنت اجتهدت أياما وأفتيت على مذهب أهل التنزيل بأن لابن البنت النصف ولبنتي الأخ النصف بينهما ورأيت الميل إلى التنزيل أقرب في هذا الباب لأنه مذهب الأكثرين وأقوى اهـ. وما ذكره في هذه الأخيرة ظاهر وأما ما ذكره في التي قبلها بقياس مذهب أهل التنزيل أن المال كله للعمة لأنها منزلة منزلة الأب وبنتا الأخ منزلتان منزلة الأخ والأب يحجب الأخ فكذا المدلي بالأب يحجب المدلي بالأخ تنزيلا لكل فرع منزلة أصله والحاصل أن فيما ذكره من عدم حجب العمة تعارض فيها مذهب أهل التنزيل والقرابة فالأولون يورثونها وحدها وأهل القرابة يورثون بنتي الأخ وحدهما فلتعادل المذهبين عنده قال باشتراك الثلاث وفي مسألة السؤال مذهب أهل القرابة حجب الخال لابن الخالة فكذا مذهب أهل التنزيل على ما يتبادر منه ببادي الرأي لأن الخال أقرب إلى الوارث فلا جامع بين ما ذهب إليه ابن الصلاح وما قدمته في صورة السؤال بل ما ذكرته في رده من حجب العمة لبنت الأخ يؤيد حجب الخال لابن الخالة إلا أن يفرق بأن العمة تدلي إلى غير من تدلي إليه بنت الأخ لما مر أن العمة تدلي إلى الأب وبنت الأخ تدلي إلى وارث آخر غيره وهو الأخ ولا كذلك في مسألتنا لأن الخال يدلي إلى الأم وابن الخالة لا يدلي لوارث غير الأم بل إنما يدلي لها أيضا بعد تنزيله منزلة أمه الذي هو طريقة أهل التنزيل فاستويا هنا في الإدلاء إلى وارث فلم يحجب أحدهما الآخر وأما العمة وبنت الأخ فلم يستويا في ذلك بل أدليا بوارثين مختلفين فنظرنا لحجب أحدهما الآخر وعملنا بذلك فقلنا بحجب العمة لبنت الأخ فإن قلت يؤيد حجب الخال لابن الخالة قول الصدر في كافيه

 

ج / 4 ص -353-        بنت خال وخالة أم المال لخالة الأم لأنك إذا نزلتها درجة صارت جدة وبنت الخال إذا نزلتها درجة صارت خالا ولم تصل إلى الوارث قلت الفرق بين هذه وصورة السؤال ظاهر لأن بنت الخال بعد تنزيلها منزلة أصلها لا تساوي خالة الأم في درجتها بل هي بعد التنزيل أعلى منها بدرجة فلذلك نزلنا خالة الأم منزلة الجدة فلا تسبقها بنت الخال بدرجة بعد تنزيلها منزلة أبيها وهو الخال وأما في مسألتنا فابن الخالة بعد تنزيله منزلة أمه يساوي الخال في درجته وحينئذ فيلزم استواء كل منهما في القرب إلى الأم فلم يبق مسوغ لحجب الخال لابن الخالة فلذلك قلنا باستوائهما ويؤيده قول صاحب الكافي بناء على مذهب أهل التنزيل بعد أن ذكر إنك تنزل كلا منهم منزلة من يدلي به فإن استويا في درجة فإنك تورث كل واحد ميراث من يدلي به وإن سبق بعضهم إلى وارث بدرجة انفرد بجميع المال وإن كان فيه من يحجب حجبته كما تعمل في مسائل الصلب فتأمل كونه اعتبر الاستواء في الدرجة والسبق إلى الوارث بعد تنزيل الفرع منزلة أصله لا قبله تجده شاهدا لما ذكرته من عدم حجب الخال لابن الخالة لاستوائهما بعد تنزيل ابن الخالة منزلة أمه والحاصل أن المسألة مشكلة وأن في كلامهم ظواهر تقتضي حجب الخال لولد الخالة وظواهر تقتضي عكسه وأن الأول أقرب من مداركهم ببادي الرأي فتأمله، والله سبحانه وتعالى أعلم.
"وسئل" رحمه الله تعالى قدر بعضهم مدة للمفقود بسبعين سنة فهل تتقدر بذلك أم كيف الحال أفتونا؟ "فأجاب" نفعنا الله تعالى به وبعلومه بقوله المنقول المعتمد أنها لا تتقدر بشيء وإنما المدار على مضي مدة يغلب على ظن الحاكم أن المفقود لا يعيش إليها وقد يظهر له بقرائن الأحوال موته في أقل من سبعين سنة نعم التقدير بها وجه ضعيف لبعض أصحابنا أخذا من قوله صلى الله عليه وسلم:
"أعمار أمتي ما بين الستين والسبعين"، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.