الروض المربع شرح زاد المستقنع ط المؤيد

 [كتاب الجنائز]
بفتح الجيم، جمع جنازة بالكسر والفتح، لغة: اسم للميت أو للنعش عليه ميت، فإن لم يكن عليه ميت فلا يقال: نعش ولا جنازة، بل سرير، قاله الجوهري. واشتقاقه من جنز: إذا ستر، وذكره هنا لأن أهم ما يفعل بالميت الصلاة، ويسن الإكثار من ذكر الموت والاستعداد له لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أكثروا من ذكر هادم اللذات» وهو بالذال المعجمة، ويكره الأنين وتمني الموت، ويباح التداوي بمباح وتركه أفضل، ويحرم بمحرم مأكول وغيره من صوت ملهاة وغيره، ويجوز ببول إبل فقط، قاله في " المبدع ". ويكره أن يستطب مسلم ذميا لغير ضرورة، وأن يأخذ منه دواء لم يبين له مفرداته المباحة.

(وتسن عيادة المريض) والسؤال عن حاله للأخبار ويغب بها وتكون بكرة أو

(1/172)


عشيا ويأخذ بيده ويقول: «لا بأس، طهورا إن شاء الله تعالى» لفعله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وينفس له في أجله، لخبر رواه ابن ماجه عن أبي سعيد. فإن ذلك لا يرد شيئا ويدعو له بما ورد. (و) يسن (تذكيره التوبة) لأنها واجبة على كل حال وهو أحوج إليها من غيره (والوصية) لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي به يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده» متفق عليه عن ابن عمر. (وإذا نزل به) أي نزل به الملك لقبض روحه (سن تعاهد) أرفق أهله وأتقاهم لربه (ببل حلقه بماء أو شراب وتندى شفتيه) بقطنة لأن ذلك يطفئ ما نزل به من الشدة وتسهل عليه النطق بالشهادة، (وتلقينه لا إله إلا الله) لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لقنوا موتاكم لا إله إلا الله» رواه
مسلم عن أبي سعيد (مرة ولم يزد على ثلاث) لئلا يضجره (إلا أن يتكلم بعده فيعيد تلقينه) إلى ثلاث ليكون آخر كلامه لا إله إلا الله، ويكون (برفق) أي بلطف ومداراة؛ لأنه مطلوب في كل موضع فهنا أولى. (ويقرأ عنده) سورة (يس) لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اقرأوا على موتاكم سورة يس» رواه أبو داود. ولأنه يسهل خروج الروح ويقرأ عنده الفاتحة، (ويوجهه إلى القبلة) لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن البيت الحرام: «قبلتكم أحياء وأمواتا» رواه أبو داود، وعلى جنبه الأيمن أفضل إن كان المكان واسعا، وإلا فعلى ظهره مستلقيا ورجلاه إلى القبلة، ويرفع رأسه قليلا ليصير وجهه إلى القبلة.

(فإذا مات سن تغميضه) لأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أغمض أبا سلمة وقال: «إن الملائكة يؤمنون على ما تقولون» رواه مسلم ويقول: " بسم الله وعلى وفاة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ويغمض ذات

(1/173)


محرم وتغمضه، وكره من حائض وجنب وأن يقرباه، ويغمض الأنثى مثلها أو صبي، (وشد لحييه) لئلا يدخله الهوام (وتليين مفاصله) ليسهل تغسيله ويرد ذراعيه إلى عضديه ثم يردهما إلى جنبه ثم يردهما ويرد ساقيه إلى فخذيه وهما إلى بطنه ثم يردهما، ويكون ذلك عقب موته قبل قسوتهما فإن شق ذلك تركه، (وخلع ثيابه) لئلا يحمى جسده فيسرع إليه الفساد. (وستره بثوب) لما روت عائشة: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حين توفي سجي ببرد حبرة» متفق عليه. وينبغي أن يعطف فاضل الثوب عند رأسه ورجليه لئلا يرتفع بالريح، (ووضع حديدة) أو نحوها (على بطنه) لقول أنس: ضعوا على بطنه شيئا من حديد لئلا ينتفخ بطنه، (ووضعه على سرير غسله) لأنه يبعد عن الهوام (متوجها) إلى القبلة على جنبه الأيمن (منحدرا نحو رجليه) أي يكون رأسه أعلى من رجليه لينصب عنه الماء وما يخرج منه، (وإسراع تجهيزه
إن مات غير فجأة) لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا ينبغي لجيفة مسلم أن تحبس بين ظهراني أهله» رواه أبو داود، ولا بأس أن ينتظر به من يحضره من وليه أو غيره إن كان قريبا ولم يخش عليه أو يشق على الحاضرين، فإن مات فجأة أو شك في موته انتظر به حتى يعلم موته بانخساف صدغيه وميل أنفه وانفصال كفيه واسترخاء رجليه، (وإنفاذ وصيته) لما فيه من تعجيل الأجر، ويجب الإسراع (في قضاء دينه) سواء كان لله تعالى أو لآدمي لما روى الشافعي وأحمد والترمذي وحسنه عن أبي هريرة مرفوعا: «نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يقضى عنه» ولا بأس بتقبيله والنظر إليه ولو بعد تكفينه.

(1/174)


[فصل في غسل الميت وتكفينه]
فصل (غسل الميت) المسلم (وتكفينه) فرض كفاية لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الذي وقصته راحلته: «اغسلوه بماء وسدر وكفنوه في ثوبيه» متفق عليه عن ابن عباس، (والصلاة عليه) فرض كفاية لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صلوا على من قال: لا إله إلا الله» رواه الخلال والدارقطني وضعفه ابن الجوزي، (ودفنه فرض كفاية) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ} [عبس: 21] قال ابن عباس: معناه: أكرمه بدفنه، وحمله أيضا فرض كفاية واتباعه سنة. وكره الإمام للغاسل والحفار أخذ أجرة على عمله إلا أن يكون محتاجا فيعطى من بيت المال، فإن تعذر أعطي بقدر عمله، قاله في " المبدع ". والأفضل أن يختار لتغسيله ثقة عارف بأحكامه (وأولى الناس بغسله وصيه) العدل لأن أبا بكر أوصى أن تغسله امرأته أسماء، وأوصى أنس أن يغسله محمد بن سيرين (ثم أبوه) لاختصاصه بالحنو والشفقة (ثم جده) وإن علا لمشاركته الأب في المعنى (ثم الأقرب فالأقرب من عصباته) فيقدم الابن ثم ابنه وإن نزل، ثم الأخ لأبوين ثم الأخ للأب على ترتيب الميراث (ثم ذوو أرحامه) كالميراث ثم الأجانب. وأجنبي أولى من زوجة
وأمة، وأجنبية أولى من زوج وسيد، وزوج أولى من سيد، وزوجة أولى من أم ولد (و) الأولى بغسل (أنثى وصيتها) العدل (ثم القربى فالقربى من نسائها) فتقدم أمها وإن علت ثم بنتها وإن نزلت، ثم القربى كالميراث وعمتها وخالتها سواء، وكذا بنت أخيها وبنت أختها لاستوائهما في القرب والمحرمية،

(1/175)


(ولكل واحد من الزوجين) إن لم تكن ذمية (غسل صاحبه) لما تقدم عن أبي بكر، وروى ابن المنذر أن عليا غسل فاطمة؛ ولأن آثار النكاح من عدة الوفاة والإرث باقية، فكذا الغسل ويشمل ما قبل الدخول، وإنها تغسله وإن لم تكن في عدة كما لو ولدت عقب موته، والمطلقة الرجعية إذا أبيحت له (وكذا سيد مع سريته) أي أمته المباحة له ولو أم ولد، (ولرجل وامرأة غسل من له دون سبع سنين فقط) ذكرا أو أنثى لأنه لا عورة له، ولأن إبراهيم ابن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غسله النساء، فتغسله مجردا بغير سترة، وتمس عورته وتنظر إليها، (وإن مات رجل بين نسوة) ليس فيهن زوجة ولا أمة مباحة له يمم، (أو عكسه) بأن ماتت امرأة بين رجال ليس فيهم زوج ولا سيد لها (يمم كخنثى مشكل) لم تحضره أمة له فييمم، لأنه لا يحصل بالغسل من غير مس تنظيف، ولا إزالة نجاسة بل ربما كثرت، وعلم منه أنه لا مدخل للرجال في غسل الأقارب من النساء ولا بالعكس.

(ويحرم أن يغسل مسلم كافرا) أو أن يحمله أو يكفنه أو يتبع جنازته كالصلاة عليه لقول تعالى: {لا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} [الممتحنة: 13] (أو يدفنه) للآية (بل يواريه) وجوبا (لعدم من يواريه) لإلقاء قتلى بدر في القليب، ويشترط لغسله طهورية ماء وإباحته وإسلام غاسل إلا نائبا عن مسلم نواه وعقله ولو مميزا أو حائضا أو جنبا.

(وإذا أخذ) أي شرع (في غسله ستر عورته) وجوبا، وهي ما بين سرته وركبته (وجرده) ندبا لأنه أمكن في تغسيله وأبلغ في تطهيره، وغسل - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في قميص؛ لأن فضلاته طاهرة فلم يخش تنجيس قميصه، (وستره عن العيون) تحت ستر في خيمة أو بيت إن أمكن؛ لأنه أستر له، (ويكره لغير معين في غسله حضوره) لأنه ربما كان في الميت ما لا يجب اطلاع أحد

(1/176)


عليه والحاجة غير داعية إلى حضوره بخلاف المعين، (ثم يرفع رأسه) أي رأس الميت غير أنثى حامل (إلى قرب جلوسه) بحيث يكون كالمحتضن في صدر غيره، (ويعصر بطنه برفق) ليخرج ما هو مستعد للخروج ويكون هناك بخور، (ويكثر صب الماء حينئذ) ليدفع ما يخرج بالعصر، (ثم يلف) الغاسل (على يده خرقة فينجيه) أي يمسح فرجه بها،
(ولا يحل مس عورة من له سبع سنين) بغير حائل كحال الحياة؛ لأن التطهير يمكن بدون ذلك. (ويستحب أن لا يمس سائره إلا بخرقة) لفعل علي مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فحينئذ يعد الغاسل خرقتين إحداهما للسبيلين، والأخرى لبقية بدنه، (ثم يوضئه ندبا) كوضوئه للصلاة لما روت أم عطية أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال في غسل ابنته: «ابدأن بميامنها ومواضع الوضوء منها» رواه الجماعة، وكان ينبغي تأخيره عن نية الغسل كما في " المنتهى " وغيره، (ولا يدخل الماء في فمه ولا في أنفه) خشية تحريك النجاسة، (ويدخل أصبعيه) إبهامه وسبابته (مبلولتين) أي عليهما خرقة مبلولة (بالماء بين شفتيه فيسمح أسنانه وفي منخريه فينظفهما) بعد غسل كفي الميت فيقوم المسح فيهما مقام غسلهما خوف تحريك النجاسة بدخول الماء جوفه، (ولا يدخلهما) أي الفم والأنف (الماء) لما تقدم، (ثم ينوي غسله) لأنه طهارة تعبدية فاشترطت لها النية كغسل الجنابة، (ويسمي) وجوبا لما تقدم، (ويغسل برغوة السدر) المضروب (رأسه ولحيته فقط) لأن الرأس أشرف الأعضاء والرغوة لا تتعلق بالشعر، (ثم يغسل شقه الأيمن ثم) شقه (الأيسر) للحديث السابق (ثم) يغسله (كله) يفيض الماء على جميع بدنه يفعل ما تقدم (ثلاثا) إلا الوضوء، ففي المرة الأولى فقط (يمر في كل مرة) من الثلاث (يده على بطنه) ليخرج ما تخلف، (فإن لم ينق بثلاث غسلات زيد حتى ينقي ولو جاوز السبع)

(1/177)


وكره اقتصاره في غسله على مرة إن لم يخرج منه شيء، فيحرم الاقتصار ما دام يخرج شيء على ما دون السبع، وسن قطع على وتر ولا تجب مباشرة الغسل. فلو ترك تحت ميزاب ونحوه وحضر من يصلح لغسله ونوى وسمى وعمه الماء كفى.
(ويجعل في الغسلة الأخيرة) ندبا (كافورا) وسدرا لأنه يصلب الجسد ويطرد عنه الهوام برائحة، (والماء الحار) يستعمل إذا احتيج إليه (والأشنان) يستعمل إذا احتيج إليه (والخلال يستعمل إذا احتيج إليه) فإن لم يحتج إليها كرهت، (ويقص شاربه ويقلم أظفاره) ندبا إن طالا ويؤخذ شعر إبطيه ويجعل المأخوذ معه كعضو ساقط، وحرم حلق رأسه وأخذ عانة كختن، (ولا يسرح شعره) أي يكره ذلك لما فيه من تقطيع الشعر من غير حاجة إليه. (ثم ينشف) ندبا (بثوب) كما فعل به - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. (ويضفر) ندبا (شعر المرأة) أي الأنثى (ثلاثة قرون ويسدل وراءها) لقول أم عطية: «فضفرنا شعرها ثلاثة قرون وألقيناه خلفها» ، رواه البخاري. (وإن خرج منه) أي الميت (شيء بعد سبع) غسلات (حشي) المحل (بقطن) ليمنع الخارج كالمستحاضة،
(فإن لم يستمسك) بالقطن (فبطين حر) أي خالص لأن فيه قوة تمنع الخارج. (ثم يغسل المحل) المتنجس بالخارج (ويوضأ) الميت وجوبا كالجنب إذا أحدث بعد الغسل، (وإن خرج) منه شيء (بعد تكفينه لم يعد الغسل) دفعا للمشقة، ولا بأس بقول غاسل له: انقلب يرحمك الله ونحوه. ولا يغسله في حمام.

(1/178)


(ومحرم) بحج أو عمرة (ميت كحي يغسل بماء وسدر) لا كافور (ولا يقرب طيبا) مطلقا (ولا يلبس ذكر مخيطا) من قميص ونحوه (ولا يغطى رأسه ولا وجه أنثى) محرمة ولا يؤخذ شيء من شعرهما وظفرهما لما في " الصحيحين " من حديث ابن عباس: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال في محرم مات: " اغسلوه بماء وسدر وكفنوه في ثوبيه، ولا تحنطوه ولا تخمروا رأسه فإنه يبعث يوم القيامة ملبيا» ولا تمنع معتدة من طيب، وتزال اللصوق لغسل واجب إن لم يسقط من جسده شيء بإزالتها فيمسح عليها كجبيرة الحي ويزال خاتم ونحوه ولو ببرده.

(ولا يغسل شهيد معركة) ومقتول ظلما ولو أنثيين أو غير مكلفين؛ لأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في شهداء أحد أمر بدفنهم بدمائهم ولم يغسلهم، وروى أبو داود عن سعيد بن زيد قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «من قتل دون دينه فهو شهيد، ومن قتل دون دمه فهو شهيد، ومن قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون أهله فهو شهيد» وصححه الترمذي. (إلا أن يكون) الشهيد أو المقتول ظلما (جنبا) أو وجب عليهما الغسل لحيض أو نفاس أو إسلام، (ويدفن) وجوبا (بدمه) إلا أن تخالطه نجاسة فيغسلا و (في ثيابه) التي قتل فيها (بعد نزع السلاح والجلود عنه) لما روى أبو داود وابن ماجه عن ابن عباس: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر بقتلى أحد أن ينزع عنهم الحديد والجلود، وأن يدفنوا في ثيابهم بدمائهم» .

(1/179)


(وإن سلبها كفن بغيرها) وجوبا (ولا يصلى عليه) للأخبار لكونهم أحياء عند ربهم، (وإن سقط عن دابته) أو شاهق بغير فعل العدو (أو وجد ميتا ولا أثر به) أو مات حتف أنفه أو برفسة أو عاد سهمه عليه (أو حمل فأكل) أو شرب أو نام أو تكلم أو بال أو عطس (أو طال بقاؤه عرفا غسل وصلي
عليه) كغيره، ويغسل الباغي ويصلى عليه، ويقتل قاطع الطريق، ويغسل ويصلى عليه ثم يصلب.

(والسقط إذا بلغ أربعة أشهر غسل وصلي عليه) وإن لم يستهل لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «والسقط يصلى عليه ويدعى لوالديه بالمغفرة والرحمة» رواه أحمد وأبو داود، وتستحب تسميته، فإن جهل أذكر هو أم أنثى سمي بصالح لهما، (ومن تعذر غسله) لعدم الماء أو غيره كالحرق والجذام والتبضيع (يمم) كالجنب إذا تعذر عليه الغسل، وإن تعذر غسل بعضه ما أمكن ويمم للباقي (و) يجب (على الغاسل ستر ما رآه) من الميت (إن لم يكن حسنا) فيلزمه ستر الشر لا إظهار الخير، ونرجو للمحسن ونخاف على المسيء، ولا نشهد إلا لمن شهد له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ويحرم سوء الظن بمسلم ظاهر العدالة، ويستحب ظن الخير بالمسلم.

[فصل في الكفن]
و (يجب تكفينه في ماله) لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في المحرم: «كفنوه في ثوبيه» (مقدما على دين) ولو برهن (وغيره) من وصية وإرث؛ لأن المفلس يقدم بالكسوة على الدين، فكذا

(1/180)


الميت فيجب لحق الله تعالى وحق الميت ثوب لا يصف البشرة يستر جميعه من ملبوس مثله ما لم يوص بدونه والجديد أفضل، (فإن لم يكن له) أي للميت (مال فـ) كفنه ومؤنة تجهيزه (على من تلزمه نفقته) لأن ذلك يلزمه حال الحياة فكذا بعد الموت، (إلا الزوج لا يلزمه كفن امرأته) ولو غنيا لأن الكسوة وجبت عليه بالزوجية والتمكن من الاستمتاع، وقد انقطع ذلك بالموت، فإن عدم مال الميت ومن تلزمهم نفقته فمن بيت المال، إن كان مسلما فإن لم يكن فعلى المسلمين العالمين بحاله. قال الشيخ تقي الدين: من ظن أن غيره لا يقوم به تعين عليه. فإن أراد بعض الورثة أن ينفرد به لم يلزم بقية الورثة قبوله، لكن ليس للبقية نبشه وسلبه من كفنه بعد دفنه، وإذا مات إنسان مع جماعة في سفر كفنوه من ماله، فإن لم يكن كفنوه ورجعوا على تركته، أو من تلزمه نفقته إن نووا الرجوع.

(ويستحب تكفين رجل في ثلاث لفائف بيض) من قطن لقول عائشة: «كفن
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في ثلاثة أثواب بيض سحولية جدد يمانية، ليس فيها قميص، ولا عمامة أدرج فيها إدراجا» متفق عليه. ويقدم بتكفين من يقدم بغسل، ونائبه كهو، والأولى توليه بنفسه، (تجمر) أي: تبخر بعد رشها بماء ورد أو غيره ليعلق (ثم تبسط بعضها فوق بعض) أوسعها وأحسنها أعلاها؛ لأن عادة الحي جعل الظاهر أفخر ثيابه، (ويجعل الحنوط) وهو أخلاط من طيب يعد للميت خاصة (فيما بينها) لا فوق العليا لكراهة عمر وابنه وأبي هريرة، (ثم يوضع) الميت (عليها) أي اللفائف (مستلقيا) لأنه أمكن لإدراجه فيها (ويجعل منه) أي من الحنوط (في قطن بين أليتيه) ليرد ما يخرج عند تحريكه، (ويشد فوقها خرقة مشقوقة الطرف كالتبان) وهو السراويل بلا أكمام (تجمع أليتيه ومثانته ويجعل الباقي) من القطن المحنط (على منافذ وجهه) عينيه ومنخريه وأذنيه وفمه؛ لأن في جعلها على

(1/181)


المنافذ منعا من دخول الهوام (و) على (مواضع سجوده) ركبتيه ويديه وجبهته وأنفه وأطراف قدميه تشريفا لها، وكذا مغابنه كطي ركبتيه وتحت إبطيه وسرته؛ لأن ابن عمر كان يتبع مغابن الميت ومرافقه بالمسك، (وإن طيب) الميت (كله فحسن) لأن أنسا طلي بالمسك وطلي ابن عمر ميتا بالمسك، وكره داخل عينيه وأن يطيب بورس وزعفران وطيبه بما يمسكه كصبر ما لم ينقل، (ثم يرد طرف اللفافة العليا) من الجانب الأيسر (على شقه الأيمن ويرد طرفها الآخر من فوقه) أي فوق الطرف الأيمن، (ثم) يفعل (بالثانية والثالثة كذلك) أي كالأولى (ويجعل أكثر الفاضل) من كفنه (على رأسه) لشرفه ويعيد الفاضل على وجهه ورجليه بعد جمعه ليصير الكفن كالكيس فلا ينتشر، (ثم يعقدها) لئلا تنتشر (وتحل في القبر) لقول ابن مسعود: " إذا أدخلتم الميت القبر فحلوا العقد " رواه الأثرم، وكره تخريق اللفائف؛ لأنه إفساد لها (وإن كفن في قميص ومئزر ولفافة جاز) «لأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ألبس عبد الله بن أبي قميصه لما مات» ، رواه البخاري. وعن عمرو بن العاص " أن الميت يؤزر ويقمص ويلف بالثالثة " وهذه عادة الحي ويكون القميص بكمين ودخاريص لا يزر.

(وتكفن المرأة) والخنثى ندبا (في خمسة أثواب) بيض من قطن (إزار وخمار وقميص ولفافتين) لما روى أحمد وأبو داود وفيه ضعف عن ليلى الثقفية قالت: «كنت فيمن غسل أم كلثوم بنت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فكان أول ما أعطانا الحقاء ثم الدرع ثم الخمار ثم
الملحفة ثم أدرجت بعد ذلك في الثوب الآخر» . قال أحمد: الحقاء: الإزار، والدرع: القميص، فتؤزر بالمئزر ثم تلبس القميص ثم تخمر ثم تلف بالفافتين، ويكفن صبي في ثوب ويباح في ثلاثة ما لم يرثه غير مكلف، وصغيرة في قميص ولفافتين.

(1/182)


(والواجب) للميت مطلقا (ثوب يستر جميعه) لأن العورة المغلظة يجزئ في سترها ثوب واحد فكفن الميت أولى، ويكره بصوف وشعر ويحرم بجلود، ويجوز في حرير لضرورة فقط، فإن لم يجد إلا بعض ثوب ستر العورة كحال الحياة والباقي بحشيش أو ورق، وحرم دفن حلي وثياب غير الكفن؛ لأنه إضاعة مال، ولحي أخذ كفن ميت لحاجة حر أو برد بثمنه.

[فصل في الصلاة على الميت]
تسقط بمكلف وتسن جماعة وأن لا تنقص الصفوف عن ثلاثة. (والسنة أن يقوم الإمام عند صدره) أي صدر ذكر (وعند وسطها) أي وسط أنثى والخنثى بين ذلك، والأولى بها وصيه العدل فسيد برقيقه فالسلطان فنائبه الأمير فالحاكم، فالأولى بغسل رجل فزوج بعد ذوي الأرحام ومن قدمه ولي بمنزلته لا من قدمه وصي. وإذا اجتمعت جنائز قدم إلى الإمام أفضلهم وتقدم، فأسن فأسبق ويقرع مع التساوي، وجمعهم بصلاة أفضل، ويجعل وسط أنثى حذاء صدر ذكر وخنثى بينهما.

(ويكبر أربعا) «لتكبير النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على النجاشي أربعا» ، متفق عليه. (يقرأ في الأولى) أي بعد التكبيرة الأولى وهي تكبيرة الإحرام (بعد التعوذ) والبسملة (الفاتحة) سرا ولو ليلا لما روى ابن ماجه عن أم شريك الأنصارية قالت: «أمرنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن نقرأ على الجنازة بفاتحة الكتاب ولا نستفتح ولا نقرأ سوره معها» .

(1/183)


(ويصلي على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في)
أي بعد التكبيرة (الثانية كـ) الصلاة في (التشهيد) الأخير لما روى الشافعي عن أبي أمامة بن سهل أنه أخبره رجل من أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن «السنة في الصلاة على الجنازة أن يكبر الإمام ثم يقرأ بفاتحة الكتاب بعد التكبيرة الأولى سرا في نفسه ثم يصلي على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ويخلص الدعاء للميت ثم يسلم» .

(ويدعو في الثالثة) لما تقدم (فيقول: «اللهم اغفر لحينا وميتنا وشاهدنا وغائبنا وصغيرنا وكبيرنا وذكرنا وأنثانا. إنك تعلم منقلبنا ومثوانا وأنت على كل شيء قدير، اللهم من أحييته منا فأحيه على الإسلام والسنة، ومن توفيته منا فتوفه عليهما» رواه أحمد والترمذي وابن ماجه من حديث أبي هريرة لكن زاد فيه الموفق: «وأنت على كل شيء قدير» ، ولفظ السنة «اللهم اغفر له وارحمه وعافه واعف عنه وأكرم نزله» بضم الزاي وقد تسكن وهو القرى «ووسع مدخله» بفتح: الميم مكان الدخول وبضمها الإدخال، «واغسله بالماء والثلج والبرد ونقه من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، وأبدله دارا خيرا من داره وزوجا خيرا من زوجه، وأدخله الجنة وأعذه من عذاب القبر وعذاب النار» رواه مسلم عن عوف بن مالك أنه سمع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول ذلك على جنازة حتى تمنى أن يكون ذلك الميت، وفيه «وأبدله أهلا خيرا من أهله وأدخله الجنة» . وزاد الموفق لفظ " من الذنوب " (وافسح له في قبره ونور له فيه) لأنه لائق بالمحل، وإن كان الميت أنثى أنث الضمير، وإن كان خنثى قال: هذا الميت ونحوه، ولا بأس بالإشارة بالأصبع حال الدعاء للميت.

(وإن كان) الميت (صغيرا) ذكرا أو أنثى أو بلغ مجنونا واستمر (قال) بعد: ومن توفيته منا فتوفه عليهما (اللهم اجعله ذخرا لوالديه وفرطا) أي سابقا مهيئا لمصالح والديه في الآخرة سواء مات في حياة أبويه أو بعدها ( [وأجرا] وشفيعا مجابا. اللهم ثقل به موازينهما وعظم به أجورهما وألحقه بصالح سلف المؤمنين واجعله في كفالة إبراهيم، وقه برحمتك عذاب الجحيم) ، ولا يستغفر له لأنه شافع غير مشفوع فيه ولا جرى عليه

(1/184)


قلم، وإذا لم يعرف به إسلام والديه دعا لمواليه.
(ويقف بعد الرابعة قليلا) ولا يدعو ولا يتشهد ولا يسبح (ويسلم) تسليمة (واحدة عن يمينه) . روى الجوزجاني عن عطاء بن السائب، «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سلم في الجنازة تسليمة واحدة» ويجوز تلقاء وجهه وثانية وسن وقوفه حتى ترفع، (ويرفع يديه) ندبا (مع كل تكبيرة) لما تقدم في صلاة العيدين.

(وواجباتها) أي الواجب في صلاة الجنازة مما تقدم (قيام) في فرضها (وتكبيرات) أربع (والفاتحة) ويتحملها الإمام عن المأموم (والصلاة على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ودعوة للميت والسلام) ويشترط لها النية فينوي الصلاة على الميت ولا يضره جهله بالذكر وغيره، فإن جهله نوى على من يصلي عليه الإمام، وإن نوى أحد الموتى اعتبر تعيينه، وإن نوى على هذا الرجل فبان امرأة أو بالعكس أجزأ لقوة التعيين، قاله أبو المعالي. وإسلام الميت وطهارته من الحدث والنجس مع القدرة وإلا صلى عليه والاستقبال والسترة كمكتوبة، وحضور الميت بين يديه، فلا تصح على جنازة محمولة ولا من وراء جدار.

(ومن فاته شيء من التكبير قضاه) ندبا (على صفته) لأن القضاء يحكي الأداء كسائر الصلوات، والمقضى أول صلاته يأتي فيه بحسب ذلك، وإن خشي رفعها تابع التكبير رفعت أم لا، وإن سلم مع الإمام ولم يقضه صحت لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعائشة: «ما فاتك لا قضاء عليك» ، (ومن فاتته الصلاة عليه) أي على الميت (صلى على القبر) إلى شهر من دفنه، لما في " الصحيحين " من حديث أبي هريرة وابن عباس: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى على قبر» .
وعن سعيد بن المسيب «أن أم سعد ماتت والنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غائب فلما قدم صلى عليها وقد مضى لذلك شهر» رواه الترمذي ورواته ثقات. قال أحمد: أكثر ما سمعت هذا، وتحرم بعده ما

(1/185)


لم تكن زيادة يسيرة. (و) يصلي (على غائب عن البلد) ولو دون مسافة قصر فتجوز صلاة الإمام والآحاد عليه (بالنية إلى شهر) «لصلاته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على النجاشي» ، كما في المتفق عليه عن جابر، وكذا غريق وأسير ونحوهما، وإن وجد بعض ميت لم يصل عليه فككله إلا الشعر
والظفر والسن فيغسل ويكفن ويصلى عليه، ثم إن وجد الباقي فكذلك ويدفن بجنبه، ولا يصلى على مأكول ببطن آكل، ولا مستحيل بإحراق ونحوه ولا على بعض حي مدة حياته.

(ولا) يسن أن (يصلي الإمام) الأعظم ولا إمام كل قرية وهو واليها في القضاء (على الغال) وهو من كتم شيئا مما غنمه، لما روى زيد بن خالد قال: «توفي رجل من جهينة يوم خيبر فذكر ذلك لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: " صلوا على صاحبكم " فتغيرت وجوه القوم فلما رأى ما بهم قال: " إن صاحبكم غل في سبيل الله ففتشنا متاعه فوجدنا فيه خرزا من خرز اليهود ما يساوي درهمين» رواه الخمسة إلا الترمذي واحتج به أحمد، (ولا على قاتل نفسه) عمدا لما روى جابر بن سمرة: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جاءه برجل قد قتل نفسه بمشاقص فلم يصل عليه» رواه مسلم وغيره.
والمشاقص جمع مشقص كمنبر: نصل عريض أو نصل طويل أو سهم فيه ذلك يرمى به الوحش،

(1/186)


(ولا بأس بالصلاة عليه) أي على الميت (في المسجد) إن أمن تلويثه لقول عائشة: «صلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على سهل بن بيضاء في المسجد» رواه مسلم، و " صلي على أبي بكر وعمر فيه " رواه سعيد وللمصلي قيراط وهو أمر معلوم عند الله تعالى وله بتمام دفنها آخر بشرط أن لا يفارقها من الصلاة حتى تدفن.

[فصل في حمل الميت ودفنه]
ويسقطان بكافر وغيره كتكفينه لعدم اعتبار النية. (يسن التربيع في حمله) لما روى سعيد وابن ماجه عن أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود عن أبيه قال: «من اتبع جنازة فليحمل بجوانب السرير كلها فإنه من السنة، ثم إن شاء فليتطوع وإن شاء فليدع» . إسناده ثقات إلا أن أبا عبيدة لم يسمع من أبيه، لكن كرهه الآجري وغيره، وإذا ازدحموا عليها فيسن أن
يحمله أربعة، والتربيع أن يضع قائمة السرير اليسرى المقدمة على كتفه الأيمن ثم ينتقل إلى المؤخرة ثم يضع قائمته اليمنى المقدمة على كتفه اليسرى ثم ينتقل إلى المؤخرة، (ويباح) أن يحمل به كل واحد على عاتقه (بين العمودين) «لأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حمل جنازة سعد بن معاذ بين العمودين» . وإن كان الميت طفلا فلا بأس بحمله على الأيدي، ويستحب أن يكون على نعش. فإن كانت امرأة استحب تغطية نعشها بمكبة لأنه أستر لها، ويروى أن فاطمة صنع لها

(1/187)


ذلك بأمرها، ويجعل فوق المكبة ثوب، وكذا إن كان بالميت حدب ونحوه، وكره تغطيته بغير أبيض، ولا بأس بحمله على دابة لغرض صحيح كبعد قبره.

(ويسن الإسراع بها) دون الخبب لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أسرعوا بالجنازة فإن تك صالحة فخير تقدمونها إليه، وإن تك سوءا فشر تضعونه عن رقابكم» متفق عليه. (و) يسن (كون المشاة أمامها) قال ابن المنذر: ثبت أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبا بكر وعمر كانوا يمشون أمام الجنازة، (و) كون (الركبان خلفها) لما روى الترمذي وصححه عن المغيرة بن شعبة مرفوعا «الراكب خلف الجنازة» ، وكره ركوب لغير حاجة وعود، (ويكره جلوس تابعها حتى توضع) بالأرض للدفن إلا لمن بعد، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من تبع جنازة فلا يجلس حتى توضع» متفق عليه عن أبي سعيد، وكره قيام لها إن جاءت أو مرت به وهو جالس ورفع الصوت معها ولو بقراءة وأن تتبعها امرأة، وحرم أن يتبعها مع منكر إن عجز عن إزالته وإلا وجبت.

(ويسجى) أي يغطى ندبا (قبر امرأة) وخنثى (فقط) ويكره لرجل بلا عذر لقول علي وقد مر بقوم دفنوا ميتا وبسطوا على قبره الثوب فجذبه، وقال: إنما يصنع هذا

(1/188)


بالنساء، رواه سعيد.
(واللحد أفضل من الشق) لقول سعد: «ألحدوا لي لحدا وانصبوا علي اللبن نصبا كما صنع برسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» رواه مسلم. واللحد: هو أن يحفر إذا بلغ قرار القبر في حائط القبر مكانا يسع الميت وكونه مما يلي القبلة أفضل، والشق أن يحفر في وسط القبر كالنهر ويبنى جانباه، وهو مكروه بلا عذر كإدخاله خشبا وما مسته نار ودفن في تابوت، وسن أن يوسع ويعمق قبر بلا حد ويكفي ما يمنع السباع والرائحة. ومن مات في سفينة ولم يمكن دفنه، ألقي في البحر سلا كإدخاله القبر بعد غسله وتكفينه والصلاة عليه وتثقيله بشيء.

(ويقول مدخله) ندبا: «بسم الله وعلى ملة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» لأمره بذلك رواه أحمد عن ابن عمر، (ويضعه) ندبا (في لحده على شقه الأيمن) لأنه يشبه النائم وهذه سنة، ويقدم بدفن رجل من يقدم بغسله وبعد الأجانب محارمه من النساء ثم الأجنبيات، ويدفن امرأة محارمها الرجال فزوج فأجانب. ويجب أن يكون الميت (مستقبل القبلة) لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الكعبة «قبلتكم أحياء وأمواتا» . وينبغي أن يدنى من الحائط لئلا ينكب على وجهه، وأن يسند من ورائه بتراب لئلا ينقلب، ويجعل تحت رأسه لبنة، ويشرج اللحد باللبن ويتعاهد خلاله بالمدر

(1/189)


ونحوه ثم يطين فوق ذلك، وحثو التراب عليه ثلاثا باليد ثم يهال، وتلقينه والدعاء له بعد الدفن عند القبر ورشه بماء بعد وضع كحصباء عليه، (ويرفع القبر عن الأرض قدر شبر) لأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رفع قبره عن الأرض قدر شبر» رواه الساجي من حديث جابر ويكره فوق شبر.

ويكون القبر (مسنما) لما روى البخاري عن سفيان التمار أنه «رأى قبر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مسنما» لكن من دفن بدار حرب لتعذر نقله فالأولى تسويته بالأرض وإخفاؤه، (ويكره تجصيصه) وتزويقه وتحليته وهو بدعة (والبناء عليه) لاصقة أولى لقول جابر: «نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يجصص القبر وأن يقعد عليه وأن يبنى عليه» رواه مسلم، (و) تكره (الكتابة
والجلوس والوطء عليه) لما روى الترمذي وصححه من حديث جابر مرفوعا: «نهى أن تجصص القبور وأن يكتب عليها وأن توطأ» ، وروى مسلم عن أبي هريرة مرفوعا: «لأن يجلس أحدكم على جمرة فتحرق ثيابه فتخلص إلى جلده خير من أن يجلس على قبر» . (و) يكره (الاتكاء إليه) لما روى أحمد «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رأى عمارة بن حزم متكئا على قبر فقال: لا تؤذوه» . ودفن بصحراء أفضل لأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يدفن أصحابه بالبقيع سوى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، واختار

(1/190)


صاحباه الدفن عنده تشرفا وتبركا وجاءت أخبار تدل على دفنهم كما وقع، ويكره الحديث في أمر الدنيا عند القبور والمشي بالنعل فيها إلا خوف نجاسة أو شوك، وتبسم وضحك أشد، ويحرم إسراجها واتخاذ المساجد والتخلي عليها وبينها.

(ويحرم فيه) أي في قبر واحد (دفن اثنين فأكثر) معا أو واحدا بعد آخر قبل بلي السابق لأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يدفن كل ميت في قبر، وعلى هذا استمر فعل أصحابه ومن بعدهم، وإن حفر فوجد عظام ميت دفنها وحفر في مكان آخر (إلا لضرورة) ككثرة الموتى، وقلة من يدفنهم، وخوف الفساد عليهم لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم أحد: «ادفنوا الاثنين والثلاثة في قبر واحد» رواه النسائي.
ويقدم الأفضل للقبلة وتقدم، (ويجعل بين كل اثنين حاجز من تراب) ليصير كل واحد كأنه في قبر منفرد، وكره الدفن عند طلوع الشمس وقيامها وغروبها، ويجوز ليلا، ويستحب جمع الأقارب في بقعة لتسهل زيارتهم قريبا من الشهداء والصالحين لينتفع بمجاورتهم في البقاع الشريفة، ولو وصى أن يدفن في ملكه دفن مع المسلمين، ومن سبق إلى مسبلة قدم ثم يقرع، وإن ماتت ذمية حامل من مسلم دفنها مسلم وحدها إن أمكن وإلا فمعنا على جنبها الأيسر وظهرها إلى القبلة.

(ولا تكره القراءة على القبر) لما روى أنس مرفوعا «من دخل المقابر فقرأ فيها "

(1/191)


يس " خفف عنهم يومئذ، وكان له بعددهم حسنات» ، وصح عن ابن عمر أنه أوصى إذا دفن
أن يقرأ عنده بفاتحة البقرة وخاتمتها، قاله في " المبدع "، (وأي قربة) من دعاء واستغفار وصلاة وصوم وحج وقراءة وغير ذلك (فعلها) مسلم (وجعل ثوابها لميت مسلم أو حي نفعه ذلك) قال أحمد: الميت يصل إليه كل شيء من الخير للنصوص الواردة فيه، ذكره المجد وغيره حتى لو أهداها للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جاز ووصل إليه الثواب.

(ويسن أن يصنع لأهل الميت طعام يبعث به إليهم) ثلاثة أيام لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اصنعوا لآل جعفر طعاما فقد جاءهم ما يشغلهم» رواه الشافعي وأحمد والترمذي وحسنه، (ويكره لهم) أي لأهل الميت (فعله) أي فعل الطعام (للناس) لما روى أحمد عن جرير قال: " كنا نعد الاجتماع إلى أهل الميت وصنعة الطعام بعد دفنه من النياحة " وإسناده ثقات. ويكره الذبح عند القبور والأكل منه لخبر أنس «لا عقر في الإسلام» رواه أحمد بإسناد صحيح، وفي معناه الصدقة عند القبر فإنه محدث وفيه رياء.

(1/192)


[فصل في زيارة القبور]
فصل (تسن زيارة القبور) وحكاه النووي إجماعا لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها» رواه مسلم والترمذي وزاد: «فإنها تذكركم الآخرة» . وسن أن يقف زائرا أمامه قريبا منه كزيارته في حياته، (إلا للنساء) فتكره لهن زيارتها غير قبره - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقبر صاحبيه - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، روى أحمد والترمذي وصححه عن أبي هريرة «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعن زوارات القبور» .
(و) يسن أن (يقول إذا زارها أو مر بها: «السلام عليكم دار قوم مؤمنين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون يرحم الله المستقدمين منكم والمستأخرين، نسأل الله لنا ولكم العافية، اللهم لا تحرمنا أجرهم ولا تفتنا بعدهم واغفر لنا ولهم» للأخبار الواردة بذلك. وقوله: إن شاء الله بكم لاحقون، استثناء للتبرك أو راجع للحوق لا للموت، أو إلى البقاع، ويسمع الميت الكلام ويعرف زائره يوم الجمعة بعد الفجر قبل طلوع الشمس، وفي " الغنية ": يعرفه كل وقت وهذا الوقت آكد، وتباح زيارة قبر كافر.

(وتسن تعزية) المسلم (المصاب بالميت) ولو صغيرا قبل الدفن وبعده لما روى ابن ماجه وإسناده ثقات عن عمرو بن حزم مرفوعا: «ما من مؤمن يعزي أخاه بمصيبة إلا كساه الله من حلل الكرامة يوم القيامة» ولا تعزية بعد ثلاث، فيقال لمصاب بمسلم: أعظم الله أجرك وأحسن عزاءك وغفر لميتك. وبكافر: أعظم الله أجرك وأحسن عزاءك،

(1/193)


وتحرم تعزية كافر، وكره تكرارها، ويرد معزى: باستجاب الله دعاك ورحمنا وإياك، وإذا جاءته التعزية في كتاب ردها على الرسول لفظا.
(ويجوز البكاء على الميت) لقول أنس: «رأيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وعيناه تدمعان وقال: " إن الله لا يعذب بدمع العين ولا بحزن القلب ولكن يعذب بهذا - وأشار إلى لسانه - أو يرحم» متفق عليه، ويسن الصبر والرضى والاسترجاع فيقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم آجرني في مصيبتي واخلف لي خيرا منها. ولا يلزم الرضى بمرض وفقر وعاهة ويحرم بفعل المعصية، وكره لمصاب تغيير حاله وتعطيل معاشه لأجل علامة عليه ليعرف فيعزى وهجره للزينة وحسن الثياب ثلاثة أيام.

(ويحرم الندب) أي تعداد محاسن الميت، كقوله: واسيداه وانقطاع ظهراه، (والنياحة) وهي رفع الصوت بالندب (وشق الثوب ولطم الخد ونحوه) كصراخ ونتف شعر
ونشره وتسويد وجه وخمشه، لما في " الصحيحين «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: " ليس منا من لطم الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية» . وفيهما «أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بريء من الصالقة والحالقة والشاقة» . والصالقة: التي ترفع صوتها عند المصيبة، وفي " صحيح مسلم «أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعن النائحة والمستمعة» .
* * *

(1/194)