الروض المربع شرح زاد المستقنع ط المؤيد

[باب القرض]
بفتح القاف وحكي كسرها، ومعناها لغة: القطع، واصطلاحا: دفع مال لمن ينتفع به ويرد بدله، وهو جائز بالإجماع.
(وهو مندوب) لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حديث ابن مسعود: «ما من مسلم يقرض مسلما قرضا مرتين إلا كان كصدقة مرة» ، وهو مباح للمقترض وليس من المسألة المكروهة؛ لفعله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.

(وما يصح بيعه) من نقد أو عرض (صح قرضه) مكيلا كان أو موزونا أو غيرهما؛ لأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - استسلف بكرا، (إلا بني آدم) فلا يصح قرضهم؛ لأنه لم ينقل ولا هو من المرافق، ويفضي إلى أن يقترض جارية يطأها ثم يردها.

(1/361)


ويشترط معرفة قدر القرض ووصفه، وأن يكون المقرض ممن يصح تبرعه ويصح بلفظه وبلفظ السلف وكل ما أدى معناهما، وإن قال: " ملكتك " ولا قرينة على رد بدل، فهبة. (ويملكه) القرض (بقبضه) كالهبة، ويتم بالقبول، وله الشراء به من مقرضه (فلا يلزم رد عينه) للزومه بالقبض (بل يثبت بدله في ذمته) أي: ذمة المقترض (حالا ولو أجله) المقرض؛ لأنه عقد منع فيه من التفاضل، فمنع الأجل فيه كالصرف، قال الإمام: القرض حال وينبغي أن يفي بوعده (فإن رده المقترض) أي: رد
القرض بعينه (لزم) المقرض (قبوله) إن كان مثليا؛ لأنه رده على صفة حقه، سواء تغير سعره أو لا حيث لم يتعيب، وإن كان متقوما لم يلزم المقرض قبوله، وله الطلب بالقيمة، (وإن كانت) الدراهم التي وقع القرض عليها (مكسرة أو) كان القرض (فلوسا فمنع السلطان المعاملة بها) أي: بالدراهم المكسرة أو الفلوس (فله) أي: للمقرض (القيمة وقت القرض) لأنه كالعيب، فلا يلزمه قبولها، وسواء كانت باقية أو استهلكها، وتكون القيمة من غير جنس الدراهم، وكذلك المغشوشة إذا حرمها السلطان، (ويرد) المقترض (المثل) أي: مثل ما اقترضه (في المثليات) لأن المثل أقرب شبها من القيمة، فيجب رد مثل فلوس غلت أو رخصت أو كسدت (و) يرد (القيمة في غيرها) من المتقومات، وتكون القيمة في جوهر ونحوه يوم قبضه وفيما يصح سلم فيه يوم قرضه، (فإن أعوز) أي: تعذر (المثل فالقيمة إذا) أي: وقت إعوازه؛ لأنها حينئذ تثبت في الذمة.

(1/362)


(ويحرم) اشتراط (كل شرط جر نفعا) كأن يسكنه داره أو يقضيه خيرا منه؛ لأنه عقد إرفاق وقربة، فإذا شرط فيه الزيادة أخرجه عن موضوعه، (وإن بدأ به) أي: بما فيه نفع كسكنى داره (بلا شرط) ولا مواطأة بعد الوفاء جاز لا قبله، (أو أعطاه أجود) بلا شرط جاز؛ لأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - استسلف بكرا فرد خيرا منه وقال: «خيركم أحسنكم قضاء» متفق عليه، (أو) أعطاه (هدية بعد الوفاء جاز) لأنه لم يجعل تلك الزيادة عوضا في القرض ولا وسيلة إليه، (وإن تبرع) المقترض (لمقرضه قبل وفائه بشيء لم تجر عادته به) قبل القرض (لم يجز إلا أن ينوي) المقرض (مكافأته) على ذلك الشيء (أو احتسابه من دينه) فيجوز له قبوله؛ لحديث أنس مرفوعا قال: «إذا أقرض أحدكم قرضا فأهدي إليه أو حمله على الدابة، فلا يركبها ولا يقبله إلا أن يكون جرى بينه وبينه قبل ذلك» رواه ابن ماجه وفي سنده جهالة.

(وإن أقرضه أثمانا فطالبه بها ببلد آخر لزمته) الأثمان أي: مثلها؛ لأنه أمكنه قضاء الحق من غير ضرر فلزمه، ولأن القيمة لا تختلف فانتفى الضرر، (و) تجب (فيما لحمله مؤنة قيمته) ببلد القرض؛ لأنه المكان الذي يجب التسليم فيه، ولا يلزمه المثل في البلد الآخر؛ لأنه لا يلزمه حمله إليه (إن لم تكن) قيمته (ببلد القرض أنقص) صوابه أكثر، فإن كانت القيمة
ببلد القرض أكثر، لزم مثل المثلي؛ لعدم الضرر إذا، ولا يجبر

(1/363)


رب الدين على أخذ قرضه ببلد آخر إلا فيما لا مؤنة لحمله مع أمن البلد والطريق، وإذا قال: اقترض لي مائة ولك عشرة صح؛ لأنها في مقابلة ما بذله من جاهه، ولو قال: اضمني فيها ولك ذلك، لم يجز.

[باب الرهن]
هو لغة: الثبوت والدوام، يقال: ماء راهن، أي: راكد، ونعمة راهنة، أي: دائمة.
وشرعا: توثقة دين بعين يمكن استيفاؤه منها أو من ثمنها، وهو جائز بالإجماع، ولا يصح بدون إيجاب وقبول أو ما يدل عليهما. ويعتبر معرفة قدره وجنسه وصفته، وكون راهن جائز التصرف مالكا للمرهون أو مأذونا له فيه.

و (يصح) الرهن (في كل عين يجوز بيعها) لأن القصد منه الاستيثاق بالدين؛ ليتوصل إلى استيفائه من ثمن الرهن عند تعذره من الراهن، وهذا متحقق في كل عين يجوز بيعها (حتى المكاتب) لأنه لا يجوز بيعه، ويمكن من الكسب، وما يؤديه من النجوم رهن معه، وإن عجز ثبت الرهن فيه وفي كسبه، وإن عتق بقي ما أداه رهنا، ولا يصح شرط منعه من التصرف والمعلق عتقه بصفة إن كانت توجد قبل حلول الدين لم يصح رهنه، وإلا صح. ويصح الرهن (مع الحق) بأن يقول: بعتك هذا بعشرة إلى شهر ترهنني بها عبدك هذا، فيقول: اشتريت منك ورهنته؛ لأن الحاجة داعية لجوازه إذا، (و) يصح (بعده) أي: بعد الحق بالإجماع، ولا يجوز قبله؛ لأنه وثيقة بحق، فلم يجز قبل ثبوته؛ ولأنه تابع للحق فلا يسبقه، ويعتبر أن يكون (بدين ثابت) أو مآله إليه حتى على عين مضمونة كعارية ومقبوض بعقد فاسد، وتقع إجارة في ذمة لا على دين كتابة أو دية

(1/364)


على عاقلة قبل الحلول، ولا بعهدة مبيع وثمن وأجرة معينين ونفع نحو دار معينة.

(ويلزم) الرهن بالقبض (في حق الراهن فقط) لأن الحظ فيه لغيره، فلزم من جهته كالضمان في حق الضامن، (ويصح رهن المشاع) لأنه يجوز بيعه في محل الحق، ثم إن رضي الشريك والمرتهن بكونه في يد أحدهما أو غيرهما، جاز، وإن اختلفا جعله حاكم بيد أمين أمانة أو بأجرة. (ويجوز رهن المبيع) قبل قبضه (غير المكيل والموزون) والمذروع والمعدود (على ثمنه وغيره) عند بائعه وغيره؛ لأنه يصح بيعه بخلاف المكيل ونحوه؛ لأنه لا يصح بيعه قبل قبضه، فكذلك رهنه.
(وما لا يجوز بيعه) كالوقف وأم الولد (لا يصح رهنه) لعدم حصول مقصود الرهن منه (إلا الثمرة والزرع الأخضر قبل بدو صلاحهما بدون شرط القطع) فيصح رهنهما مع أنه لا يصح بيعهما بدونه؛ لأن النهي عن البيع لعدم الأمن من العاهة؛ ولهذا أمر بوضع الجوائح، وبتقدير تلفها لا يفوت حق المرتهن من الدين لتعلقه بذمة الراهن، ويصح رهن الجارية دون ولدها وعكسه، ويباعان ويختص المرتهن بما قابل الرهن من الثمن، (ولا يلزم الرهن) في حق الراهن (إلا بالقبض) كقبض المبيع؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283] ولا فرق بين المكيل وغيره، وسواء كان القبض من المرتهن أو من اتفقا عليه، والرهن قبل القبض صحيح وليس بلازم، فللراهن فسخه والتصرف فيه، فإن تصرف فيه بنحو بيع أو عتق بطل، وبنحو إجارة أو تدبير لا يبطل؛ لأنه لا يمنع من البيع.

(1/365)


(واستدامته) أي: القبض (شرط) في اللزوم للآية وكالابتداء، (فإن أخرجه) المرتهن (إلى الراهن باختياره) ولو كان نيابة عنه (زال لزومه) لزوال استدامة القبض، وبقي العقد كأنه لم يوجد فيه قبض، ولو آجره أو أعاره لمرتهن أو غيره بإذنه فلزومه باق، (فإن رده) أي: رد الراهن الرهن (إليه) أي: إلى المرتهن (عاد لزومه إليه) لأنه أقبضه باختياره، فلزم كالابتداء، ولا يحتاج إلى تجديد عقد لبقائه، ولو استعار شيئا ليرهنه جاز، ولربه الرجوع قبل إقباضه لا بعده، لكن له مطالبة الراهن بفكاكه مطلقا، ومتى حل الحق ولم يقضه فللمرتهن بيعه واستيفاء دينه منه، ويرجع المعير بقيمته أو مثله، وإن تلف ضمنه الراهن، وهو المستعير ولو لم يفرط المرتهن.

(ولا ينفذ تصرف واحد منهما) أي: من الراهن والمرتهن (فيه) أي: في الرهن المقبوض (بغير إذن الآخر) لأنه يفوت على الآخر حقه، فإن لم يتفقا على المنافع لم يجز الانتفاع وكانت معطلة، وإن اتفقا على الإجارة أو الإعارة جاز، ولا يمنع المرتهن الراهن من سقي شجر وتلقيح ومداواة وفصد وإنزاء فحل على مرهونه، بل يمنع من قطع سلعة خطرة (إلا عتق الراهن) المرهون (فإنه يصح مع الإثم) لأنه مبني على السراية والتغليب، (وتؤخذ قيمته) حال الإعتاق من الراهن؛ لأنه أبطل حق المرتهن من الوثيقة، وتكون (رهنا مكانه) لأنها بدل عنه، وكذا لو قتله أو أحبل الأمة بلا إذن المرتهن، أو أقر بالعتق وكذبه.

(1/366)


(ونماء الرهن) المتصل والمنفصل كالسمن، وتعلم الصنعة، والولد، والثمرة، والصوف، (وكسبه وأرش الجناية عليه ملحق به) أي: بالرهن، فيكون رهنا معه، ويباع معه لوفاء الدين إذا
بيع. (ومؤنته) أي: الرهن (على الراهن) لحديث سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة، أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يغلق الرهن من صاحبه الذي رهنه، له غنمه وعليه غرمه» رواه الشافعي والدارقطني وقال: إسناده حسن متصل. (و) على الراهن أيضا (كفنه) ومؤنة تجهيزه بالمعروف؛ لأن ذلك تابع لمؤنته، (و) عليه أيضا (أجرة مخزنه) إن كان مخزونا وأجرة حفظه، (وهو أمانة في يد المرتهن) للخبر السابق، ولو قبل عقد الرهن كبعد الوفاء. (وإن تلف من غير تعد) ولا تفريط (منه) أي: من المرتهن (فلا شيء عليه) قاله علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -؛ لأنه أمانة في يده كالوديعة، فإن تعدى أو فرط ضمن.

(ولا يسقط بهلاكه) أي: الرهن (شيء من دينه) لأنه كان ثابتا في ذمة الراهن قبل التلف، ولم يوجد ما يسقطه، فبقي بحاله، وكما لو دفع إليه عبدا ليبيعه ويستوفي حقه من ثمنه. (وإن تلف بعضه) أي: الرهن (فباقيه رهن بجميع الدين) لأن الدين كله متعلق بجميع أجزاء الرهن. (ولا ينفك بعضه مع بقاء بعض الدين) لما سبق، سواء كان مما تمكن قسمته أو لا، ويقبل قول المرتهن في التلف، وإذا ادعاه بحادث ظاهر كلف ببينة بالحادث، وقبل قوله في التلف وعدم التفريط ونحوه.

(وتجوز الزيادة فيه) أي: في الرهن بأن رهنه عبدا بمائة ثم رهنه عليها ثوبا؛ لأنه زيادة استيثاق (دون) الزيادة في (دينه) فإذا رهنه عبدا بمائة لم يصح جعله رهنا بخمسين مع المائة ولو كان يساوي ذلك؛ لأن الرهن أشغل بالمائة الأولى والمشغول لا يشغل.

(1/367)


(وإن رهن) واحد (عند اثنين شيئا) على دين لهما (فوفى أحدهما) انفك في نصيبه؛ لأن عقد الواحد مع اثنين بمنزلة عقدين، فكأنه رهن كل واحد منهما النصف منفردا، ثم إن طلب المقاسمة أجيب إليها إن كان الرهن مكيلا أو موزونا، (أو رهناه شيئا فاستوفى من أحدهما انفك في نصيبه) لأن الرهن متعدد، فلو رهن اثنان عبدا لهما عند اثنين بألف فهذه أربعة عقود، ويصير كل ربع منه رهنا بمائتين وخمسين، ومتى قضى بعض دينه أو أبرئ منه وببعضه رهن أو كفيل فعما نواه، فإن أطلق صرفه إلى أيهما شاء. (ومتى حل الدين) لزم الراهن الإيفاء كالدين الذي لا رهن به.

(و) إن (امتنع من وفائه فإن كان الراهن أذن للمرتهن أو العدل) الذي تحت يده الرهن (في بيعه باعه) لأنه مأذون له فيه، فلا يحتاج لتجديد إذن من الراهن، وإن كان البائع العدل
اعتبر إذن المرتهن أيضا، (ووفاء الدين) لأنه المقصود بالبيع، وإن فضل عن ثمنه شيء فلمالكه، وإن بقي منه شيء، فعلى الراهن (وإلا) يأذن في البيع ولم يوف (أجبره الحاكم على وفائه أو بيع الرهن) ؛ لأن هذا شأن الحاكم، فإن امتنع حبسه أو عذره حتى يفعل، (فإن لم يفعل) أي: أصر على الامتناع، أو كان غائبا أو تغيب (باعه الحاكم ووفى دينه) لأنه حق تعين عليه، فقام الحاكم مقامه فيه، وليس للمرتهن بيعه إلا بإذن ربه أو الحاكم.

[فصل يكون الرهن عند من اتفقا عليه]
فصل (ويكون) الرهن (عند من اتفقا عليه) ، فإذا اتفقا أن يكون تحت يد جائز التصرف صح، وقام قبضه مقام قبض المرتهن، ولا يجوز تحت يد صبي أو عبد بغير إذن سيده، أو مكاتب بغير جعل إلا بإذن سيده، وإن شرط جعله بيد اثنين لم ينفرد أحدهما بحفظه، وليس للراهن ولا للمرتهن إذا لم يتفقا، ولا للحاكم نقله عن يد العدل إلا أن يتغير حاله، وللوكيل رده عليهما لا على أحدهما.

(1/368)


(وإن أذنا له في البيع) أي: بيع \ الرهن (لم يبع إلا بنقد البلد) ؛ لأن الحظ فيه لرواجه، فإن تعدد باع بجنس الدين، فإن عدم فبما ظنه أصلح، فإن تساوت عينه حاكم، وإن عينا نقدا تعين ولم تجز مخالفتهما، فإن اختلفا لم يقبل قول واحد منهما، ويرفع الأمر للحاكم ويأمر ببيعه بنقد البلد، سواء كان من جنس الحق أو لم يكن، وافق قول أحدهما أو لا.

(وإن) باع بإذنهما و (قبض الثمن فتلف في يده) من غير تفريط (فمن ضمان الراهن) ؛ لأن الثمن في يد العدل أمانة، فهو كالوكيل. (وإن ادعى) العدل (دفع الثمن إلى المرتهن فأنكره ولا بينة) للعدل بدفعه للمرتهن (ولم يكن) الدفع (بحضور الراهن ضمن) العدل؛ لأنه فرط حيث لم يشهد، ولأنه إنما أذن له في قضاء مبرئ ولم يحصل، فيرجع المرتهن على راهنه، ثم هو على العدل، وإن كان القضاء ببينة لم يضمن؛ لعدم تفريطه سواء كانت البينة قائمة أو معدومة، كما لو كان بحضرة الراهن؛ لأنه لم يعد مفرطا (كوكيل) في قضاء الدين، فحكمه حكم العدل فيما تقدم؛ لأنه في معناه.

(وإن شرط أن لا يبيعه) المرتهن (إذا حل الدين) ففاسد؛ لأنه شرط ينافي مقتضى العقد، كشرطه أن لا يستوفي الدين من ثمنه أو لا يباع ما خيف تلفه، (أو) شرط (إن جاءه
بحقه في وقت كذا، وإلا فالرهن له) أي: للمرتهن بدينه (لم

(1/369)


يصح الشرط وحده) ؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يغلق الرهن» رواه الأثرم، وفسره الإمام بذلك، ويصح الرهن؛ للخبر. (ويقبل قول راهن في قدر الدين) بأن قال المرتهن: هو رهن بألف، وقال الراهن: بل بمائة فقط. (و) يقبل قوله أيضا في قدر (الرهن) ، فإذا قال المرتهن: رهنتني هذا العبد والأمة، وقال الراهن: بل العبد وحده، فقوله؛ لأنه منكر. (و) يقبل قوله أيضا في (رده) بأن قال المرتهن: رددته إليك، وأنكر الراهن، فقوله؛ لأن الأصل معه، والمرتهن قبض العين لمنفعته، فلم يقبل قوله في الرد كالمستأجر. (و) يقبل قوله أيضا (في كونه عصيرا لا خمرا) في عقد شرط فيه بأن قال: بعتك كذا بكذا على أن ترهنني هذا العصير، وقبل على ذلك وأقبضه له، ثم قال المرتهن: كان خمرا فلي فسخ البيع، وقال الراهن: بل كان عصيرا فلا فسخ، فقوله؛ لأن الأصل السلامة.

(وإن أقر) الراهن (أنه) أي: أن الرهن (ملك غيره) قبل على نفسه دون المرتهن، فيلزمه رده للمقر له إذا انفك الرهن، (أو) أقر (أنه) أي أن الرهن (جنى قبل) إقرار الراهن (على نفسه) لا على المرتهن إن كذبه؛ لأنه متهم في حقه، وقول الغير على غيره غير مقبول، (وحكم بإقراره بعد فكه) أي: فك الرهن بوفاء الدين أو الإبراء منه (إلا أن يصدقه المرتهن) فيبطل الرهن؛ لوجود المقتضى السالم عن المعارض ويسلم للمقر له به.

[فصل انتفاع المرتهن بالعين المرهونة]
فصل (وللمرتهن أن يركب) من الرهن (ما يركب، و) أن (يحلب ما يحلب بقدر نفقته) متحريا للعدل (بلا إذن) راهن؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الظهر يركب بنفقته إذا كان مرهونا، ولبن الدر

(1/370)


يشرب بنفقته إذا كان مرهونا، وعلى الذي يركب ويشرب النفقة» رواه البخاري. وتسترضع الأمة بقدر نفقتها، وما عدا ذلك من الرهن لا ينتفع به إلا بإذن مالكه.

(وإن أنفق على) الحيوان (الرهن بغير إذن الراهن مع إمكانه) أي: إمكان استئذانه (لم يرجع) على الراهن ولو نوى الرجوع؛ لأنه متبرع أو مفرط حيث لم يستأذن المالك مع قدرته عليه، (وإن تعذر) استئذانه وأنفق بنية الرجوع (رجع) على الراهن (ولو لم يستأذن الحاكم)
لاحتياجه لحراسة حقه، (وكذا وديعة وعارية ودواب مستأجرة هرب ربها) فله الرجوع إذا أنفق على ذلك بنية الرجوع عند تعذر إذن مالكها بالأقل مما أنفق أو أنفقه المثل، (ولو خرب الرهن) إن كان دارا (فعمره) المرتهن (بلا إذن) الراهن (رجع بآلته فقط) ؛ لأنها ملكه لا بما يحفظ به مالية الدار وأجرة المعمرين؛ لأن العمارة ليست واجبة على الراهن، فلم يكن لغيره أن ينوب عنه، بخلاف نفقة الحيوان؛ لحرمته في نفسه، وإن جنى الرهن ووجب مال، خير سيده بين فدائه وبيعه وتسليمه إلى ولي الجناية فيملكه، فإن فداه فهو رهن بحاله، وإن باعه أو سلمه في الجناية بطل الرهن، وإن لم يستغرق الأرش قيمته بيع منه بقدره وباقيه رهن، وإن جنى عليه فالخصم سيده، فإن أخذ الأرش كان رهنا، وإن اقتص فعليه قيمة أقل العبدين الجاني والمجني عليه قيمة تكون رهنا مكانه.

(1/371)


[باب الضمان]
مأخوذ من الضمن، فذمة الضامن في ذمة المضمون عنه، ومعناه شرعا: التزام ما وجب على غيره مع بقائه وما قد يجب، ويصح بلفظ ضمين وكفيل وقبيل وحميل وزعيم، وتحملت دينك أو ضمنته أو هو عندي ونحو ذلك، وبإشارة مفهومة من أخرس.

(ولا يصح) الضمان (إلا من جائز التصرف) لأنه إيجاب مال، فلا يصح من صغير ولا سفيه، ويصح من مفلس؛ لأنه تصرف في ذمته، ومن قن ومكاتب بإذن سيدهما، ويؤخذ مما بيد مكاتب، ومما يضمنه قن من سيده. (ولرب الحق مطالبة من شاء منهما) أي: من المضمون والضامن (في الحياة والموت) لأن الحق ثابت في ذمتهما، فملك مطالبة من شاء منهما لحديث «الزعيم غارم» رواه أبو داود والترمذي وحسنه. (فإن برئت ذمة المضمون عنه) من الدين المضمون بإبراء أو قضاء أو حوالة ونحوها (برئت ذمة الضامن) لأنه تبع له (لا عكسه) ، فلا يبرأ المضمون ببراءة الضامن؛ لأن الأصل لا يبرأ ببراءة التبع، وإذا تعدد الضامن لم يبرأ أحدهم بإبراء الآخر، ويبرءون بإبراء المضمون عنه.

(1/372)


(ولا تعتبر معرفة الضامن للمضمون عنه ولا) معرفته للمضمون (له) لأنه لا يعتبر رضاهما، فكذا معرفتهما (بل) يعتبر (رضى الضامن) لأن الضمان تبرع بالتزام الحق، فاعتبر له الرضى كالتبرع بالأعيان.
(ويصح ضمان المجهول إذا آل إلى العلم) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} [يوسف: 72] ، وهو غير معلوم؛ لأنه يختلف. (و) يصح أيضا ما يؤول إلى الوجوب كـ (العواري والمغصوب والمقبوض بسوم) إن ساومه وقطع ثمنه أو ساومه فقط ليريه أهله إن رضوه وإلا رده، وإن أخذه ليريه أهله بلا مساومة ولا قطع ثمن، فغير مضمون.

(و) يصح ضمان (عهدة مبيع) بأن يضمن الثمن إن استحق المبيع أو رد بعيب أو الأرش إن خرج معيبا، أو يضمن الثمن للبائع قبل تسليمه، وإن ظهر به عيب أو استحق فيصح؛ لدعاء الحاجة إليه. وألفاظ ضمان العهدة: ضمنت عهدته أو دركه ونحوها. ويصح أيضا ضمان ما يجب

(1/373)


بأن يضمن ما يلزمه من دين أو ما يداينه زيد لعمرو ونحوه، وللضامن إبطاله قبل وجوبه، (لا ضامن الأمانات كوديعة) ومال شركة وعين مؤجرة؛ لأنها غير مضمونة على صاحب اليد، فكذا ضامنه (بل) يصح ضمان (التعدي فيها) أي: في الأمانات؛ لأنها حينئذ تكون مضمونة على من هي بيده كالمغصوب، وإن قضى الضامن الدين بنية الرجوع رجع، وإلا فلا، وكذا كفيل وكل مؤد عن غيره دينا واجبا غير نحو زكاة.

[فصل في الكفالة]
وهي التزام رشيد إحضار من عليه حق مالي لربه، وتنعقد بما ينعقد به ضمان، وإن ضمن معرفته أخذ به.

(وتصح الكفالة بـ) بدن (كل) إنسان عنده (عين مضمومة) كعارية ليردها أو بدلها، (و) تصح أيضا (ببدن من عليه دين) ولو جهله الكفيل؛ لأن كلا منهما حق مالي، فصحت

(1/374)


الكفالة به كالضمان.

و (لا) تصح ببدن من عليه (حد) لله تعالى كالزنا أو، لآدمي كالقذف؛ لحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعا «لا كفالة في حد» (ولا) ببدن من عليه (قصاص) لأنه لا يمكن استيفاؤه من غير الجاني، ولا بزوجة وشاهد، ولا بمجهول أو إلى أجل مجهول، ويصح إذا قدم الحاج فأنا كفيل بزيد شهرا.
(ويعتبر رضى الكفيل) لأنه لا يلزمه الحق ابتداء إلا برضاه، (لا) رضى (مكفول به) أو له كالضمان، (فإن مات) المكفول برئ الكفيل؛ لأن الحضور سقط عنه، (أو تلفت العين بفعل الله تعالى) قبل المطالبة برئ الكفيل؛ لأن تلفها بمنزلة موت المكفول به، فإن تلفت بفعل آدمي فعلى المتلف بدلها ولم يبرأ الكفيل، (أو سلم) المكفول (نفسه برئ الكفيل) ؛ لأن الأصيل أدى ما على الكفيل أشبه ما لو قضى المضمون عنه الدين، وكذا يبرأ الكفيل إذا أسلم المكفول بمحل العقد وقد حل الأجل أولا بلا ضرر في قبضه وليس ثم يد حائلة ظالمة. وإن تعذر إحضار المكفول مع حياته أو غاب ومضى

(1/375)


زمن يمكن إحضاره فيه، ضمن ما عليه إن لم يشترط البراءة منه. ومن كفله اثنان فسلمه أحدهما لم يبرأ الآخر، وإن سلم نفسه برئا.