الروض المربع شرح زاد المستقنع ط المؤيد

[باب الحوالة]
مشتقة من التحول؛ لأنها تحول الحق من ذمة إلى ذمة أخرى، وتنعقد بـ: " أحلتك واتبعتك بدينك على فلان ونحوه ".

و (لا تصح) الحوالة (إلا على دين مستقر) إذ مقتضاها إلزام المحال عليه بالدين مطلقا، وما ليس بمستقر عرضة للسقوط، فلا تصح على مال كتابة أو سلم أو صداق قبل دخول أو ثمن مدة خيار ونحوها، وإن أحاله على من لا دين عليه فهي وكالة، والحوالة على ماله في الديوان أو الوقف إذن في الاستيفاء. (ولا يعتبر استقرار المحال فيه) ، فإن أحال المكاتب سيده أو الزوج زوجته صح؛ لأن له تسليمه، وحوالته تقوم مقام تسليمه.

(ويشترط) أيضا للحوالة (اتفاق الدينين) أي: تماثلهما (جنسا) كدنانير بدنانير أو دراهم بدراهم، فإن أحال من عليه ذهب بفضة أو عكسه لم يصح، (ووصفا) كصحاح

(1/376)


بصحاح أو مضروبة بمثلها، فإن اختلفا لم يصح، (ووقتا) أي: حلولا أو تأجيلا أجلا واحدا، فلو كان أحدهما حالا والآخر مؤجلا أو أحدهما يحل بعد شهر والآخر بعد شهرين لم تصح، (وقدرا) فلا يصح بخمسة على ستة؛ لأنها إرفاق كالقرض، فلو جوزت مع الاختلاف لصار المطلوب منها الفضل، فتخرج عن موضوعها. (ولا يؤثر الفاضل) في بطلان الحوالة، فلو أحال بخمسة من عشرة على خمسة أو بخمسة على خمسة من عشرة، صحت؛ لاتفاق ما وقعت فيه الحوالة، والفاضل باق بحاله لربه.
(وإذا صحت) الحوالة بأن اجتمعت شروطها (نقل الحق إلى ذمة المحال عليه وبرئ المحيل) بمجرد الحوالة، فلا يملك المحتال الرجوع على المحيل بحال، سواء أمكن استيفاء الحق أو تعذر؛ لمطل أو فلس أو موت أو غيرها، وإن تراضى المحتال والمحال عليه على خير من الحق أو دونه في الصفة أو تعجيله أو تأجيله أو عوضه، جاز. (ويعتبر) لصحة الحوالة (رضاه) أي: رضا المحيل؛ لأن الحق عليه، فلا يلزمه أداؤه من جهة الدين على المحال عليه. ويعتبر أيضا علم المال، وأن يكون مما يثبت مثله في الذمة بالإتلاف من الأثمان والحبوب ونحوها. و (لا) يعتبر (رضا المحال عليه) لأن للمحيل أن يستوفي الحق بنفسه وبوكيله وقد أقام المحتال مقام نفسه في القبض، فلزم المحال عليه الدفع إليه، (ولا رضا المحتال) إن أحيل (على مليء) ويجبر على اتباعه؛ لحديث أبي هريرة يرفعه «مطل الغني ظلم، وإذا اتبع أحدكم على مليء فليتبع. متفق عليه، وفي لفظ: من

(1/377)


أحيل بحقه على مليء فليحتل» . والمليء القادر بماله وقوله وبدنه، فماله القدرة على الوفاء، وقوله أن لا يكون مماطلا، وبدنه إمكان حضوره إلى مجلس الحاكم. قاله الزركشي.

(وإن كان) المحال عليه (مفلسا ولم يكن) المحتال (رضي) الحوالة عليه (رجع به) أي: بدينه على المحيل؛ لأن الفلس عيب ولم يرض به، فاستحق الرجوع كالمبيع المعيب، فإن رضي بالحوالة عليه فلا رجوع له إن لم يشترط الملاءة لتفريطه.

(ومن أحيل بثمن مبيع) بأن أحال المشتري البائع به على من له عليه دين فبان باطلا فلا حوالة، (أو أحيل به) أي: بالثمن (عليه) بأن أحال البائع على المشتري مدينه بالثمن (فبان البيع باطلا) بأن كان المبيع مستحقا أو حرا أو خمرا (فلا حوالة) ؛ لظهور أن لا ثمن على المشتري؛ لبطلان البيع. والحوالة فرع على لزوم الثمن، ويبقى الحق على ما كان عليه أولا. (وإذا فسخ البيع) بتقايل أو خيار عيب أو نحوه (لم تبطل) الحوالة؛ لأن عقد البيع لم يرتفع، فلم يسقط الثمن، فلم تبطل الحوالة، وللمشتري الرجوع على البائع؛ لأنه لما رد العوض استحق الرجوع بالعوض، (ولهما أن يحيلا) أي: للبائع أن يحيل المشتري على من أحاله المشتري عليه في الصورة الأولى، وللمشتري أن يحيل المحتال عليه على البائع في الثانية، وإذا اختلفا فقال: أحلتك، قال: بل وكلتني، أو بالعكس، فقول مدعي الوكالة وإن
اتفقا على: أحلتك بديني وادعى أحدهما إرادة الوكالة، صدق وإن اتفقا على: أحلتك بدينك، فقول مدعي الحوالة،

(1/378)


وإذا طالب الدائن المدين، فقال أحلت فلانا الغائب، وأنكر رب المال، قبل قوله مع يمينه ويعمل بالبينة.

[باب الصلح]
هو لغة: قطع المنازعة، وشرعا معاقدة يتوصل بها إلى إصلاح بين متخاصمين.

والصلح في الأموال قسمان: على إقرار وهو المشار إليه بقوله: (إذا أقر له بدين أو عين فأسقط) عنه من الدين بعضه (أو وهب) من العين (البعض وترك الباقي) أي: لم يبرأ منه ولم يهبه (صح) ؛ لأن الإنسان لا يمنع من إسقاط بعض حقه، كما لا يمنع من استيفائه؛ لأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كلم غرماء جابر ليضعوا عنه، ومحل صحة ذلك إن لم يكن بلفظ الصلح، فإن وقع بلفظه لم يصح؛ لأنه صالح عن بعض ماله ببعض، فهو هضم للحق، ومحله أيضا (إن لم يكن شرطاه) بأن يقول بشرط أن تعطيني كذا، أو على أن تعطيني أو تعوضني كذا ويقبل على ذلك، فلا يصح؛ لأنه يقتضي المعاوضة، فكأنه عاوض بعض حقه ببعض واسم " يكن " ضمير الشأن، وفي بعض النسخ: إن لم يكن شرطا أي: بشرط، ومحله أيضا أن لا يمنعه حقه بدونه، وإلا بطل؛ لأنه أكل لمال الغير بالباطل. (و) محله أيضا أن لا يكون ممن (لا يصح تبرعه) كمكاتب وناظر وقف وولي صغير ومجنون؛ لأنه تبرع، وهؤلاء لا يملكونه إلا إن أنكر من عليه الحق ولا بينة؛ لأن استيفاء البعض عند العجز عن استيفاء الكل أولى من تركه.

(وإن وضع) رب دين (بعض الدين الحال وأجل باقيه، صح الإسقاط فقط) لأنه أسقط عن طيب نفسه ولا مانع من صحته، ولم يصح التأجيل؛ لأن الحال لا يتأجل، وكذا

(1/379)


لو صالحه عن مائة صحاح بخمسين مكسرة، فهو إبراء من الخمسين ووعد في الأخرى ما لم يقع بلفظ الصلح، فلا يصح كما تقدم. (وإن صالح عن المؤجل ببعضه حالا) لم يصح في غير الكتابة؛ لأنه يبذل القدر الذي يحطه عوضا عن تعجيل ما في ذمته، وبيع الحلول والتأجيل لا يجوز، (أو بالعكس) بأن صالح عن الحال ببعضه مؤجلا، لم يصح إن كان بلفظ الصلح كما تقدم،
فإن كان بلفظ الإبراء ونحوه، صح الإسقاط دون التأجيل وتقدم، (أو أقر له ببيت) ادعاه (فصالحه على سكناه) ولو مدة معينة (كسنة، أو) على أن (يبني له فوقه غرفة) أو صالحه على بعضه، لم يصح الصلح؛ لأنه صالحه عن ملكه على ملكه أو منفعته، وإن فعل ذلك كان تبرعا متى شاء أخرجه، وإن فعله على سبيل المصالحة معتقدا وجوبه عليه بالصلح، رجع عليه بأجرة ما سكن، وأخذ ما كان بيده من الدار؛ لأنه أخذه بعقد فاسد (أو صالح مكلفا ليقر له بالعبودية) أي: بأنه مملوكه لم يصح، (أو) صالح (امرأة لتقر له بالزوجية بعوض لم يصح) الصلح؛ لأن ذلك صلح يحل حراما؛ لأن إرقاق النفس وبذل المرأة نفسها بعوض لا يجوز. (وإن بذلاهما) أي: دفع المدعى عليه العبودية والمرأة المدعى عليها الزوجية عوضا (له) أي: للمدعي (صلحا عن دعواه صح) ؛ لأنه يجوز أن يعتق عبده ويفارق امرأته بعوض، ومن علم بكذب دعواه لم يبح له أخذ العوض؛ لأنه أكل لمال الغير بالباطل.

(وإن قال: أقر لي بديني وأعطيك منه كذا، ففعل) أي: فأقر بالدين (صح الإقرار) ؛ لأنه أقر بحق يحرم عليه إنكاره، و (لا) يصح (الصلح) لأنه يجب عليه الإقرار بما عليه من الحق، فلم يحل له أخذ العوض عليه، فإن أخذ شيئا رده، وإن صالحه عن الحق بغير

(1/380)


جنسه كما لو اعترف له بعين أو دين، فعوضه عنه ما يجوز تعويضه صح، فإن كان بنقد عن نقده فصرف، وإن كان بعوض فبيع يعتبر له ما يعتبر فيه، ويصح بلفظ صلح وما يؤدي معناه، وإن كان بمنفعة كسكنى دار فإجارة، وإن صالحت المعترفة بدين أو عين بتزويج نفسها صح، ويكون صداقا، وإن صالح عما في الذمة بشيء في الذمة، لم يجز التفرق قبل القبض؛ لأنه بيع دين بدين، وإن صالح عن دين بغير جنسه جاز مطلقا، وبجنسه لا يجوز بأقل أو أكثر على وجه المعاوضة، ويصح الصلح عن مجهول تعذر علمه من دين أو عين بمعلوم، فإن لم يتعذر علمه فكبراءة من مجهول.

[فصل في الصلح على الإنكار]
فصل القسم الثاني: صلح على إنكار، وقد ذكره بقوله: (ومن ادعى عليه بعين أو دين فسكت أو أنكر وهو يجهله) أي: يجهل ما ادعى به عليه (ثم صالح) عنه (بمال) حال أو مؤجل (صح) الصلح؛ لعموم قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحا حرم حلالا أو أحل حراما» رواه أبو داود والترمذي وقال: حسن صحيح وصححه الحاكم

(1/381)


ومن ادعي
عليه بوديعة أو تفريط فيها أو قرض، فأنكر وصالح على مال فهو جائز، ذكره في " الشرح " وغيره، (وهو) أي: صلح الإنكار (للمدعي بيع؛ لأنه) يعتقده عوضا عن ماله، فلزمه حكم اعتقاده (يرد معيبه) أي: معيب ما أخذه من العوض. (ويفسخ الصلح) كما لو اشترى شيئا فوجده معيبا، (ويؤخذ منه) العوض إن كان شقصا (بشفعة) لأنه بيع، وإن صالح ببعض عين المدعى به فهو فيه كمنكر، (و) الصلح (للآخر) المنكر (إبراء) لأنه دفع المال افتداء ليمينه وإزالة للضرر عنه لا عوضا عن حق يعتقده، (فلا رد) لما صالح عنه بعيب يجده فيه (ولا شفعة) فيه؛ لاعتقاده أنه ليس بعوض. (وإن كذب أحدهما) في دعواه أو إنكاره وعلم بكذب نفسه (لم يصح) الصلح (في حقه باطنا) لأنه عالم بالحق قادرا على إيصاله لمستحقه، غير معتقد أنه محق، (وما أخذه حرام) عليه؛ لأنه أكل للمال بالباطل، وإن صالح عن المنكر أجنبي بغير إذنه صح ولم يرجع عليه، ويصح الصلح عن قصاص وسكنى دار وعيب بقليل وكثير.

(ولا يصح) الصلح (بعوض عن حد سرقة وقذف) أو غيرهما؛ لأنه ليس بمال ولا

(1/382)


يؤول إليه، (ولا) عن (حق شفعة) أو خيار؛ لأنهما لم يشرعا لاستفادة مال، وإنما شرع الخيار للنظر في الأحظ والشفعة لإزالة الضرر بالشركة، (و) لا عن (ترك شهادة) بحق أو باطل. (وتسقط الشفعة) إذا صالح عنها لرضاه بتركها، ويرد العوض، (و) كذا حكم (الحد) والخيار، وإن صالحه على أن يجري على أرضه أو سطحه ماء معلوما، صح؛ لدعاء الحاجة إليه، فإن كان بعوض مع بقاء ملكه فإجارة وإلا فبيع، ولا يشترط في الإجارة هنا بيان المدة؛ للحاجة. ويجوز شراء ممر في ملكه، وموضع في حائط يجعله بابا، أو بقعة يحفرها بئرا، وعلو بيت يبني عليه بنيانا موصوفا، ويصح فعله صلحا أبدا أو إجارة مدة معلومة. (وإن حصل غصن شجرته في هواء غيره) الخاص به أو المشترك (أو) حصل غصن شجرته في (قراره) أي: قرار غيره الخاص أو المشترك، أي: في أرضه وطالبه بإزالة ذلك (أزاله) وجوبا، إما بقطعه أو ليه إلى ناحية أخرى، (فإن أبى) مالك الغصن إزالته (لواه) مالك الهواء، (إن أمكن، وإلا) يمكن (فله قطعه) ؛ لأنه أخلى ملكه الواجب إخلاؤه، ولا يفتقر إلى حاكم، ولا يجبر المالك على الإزالة؛ لأنه ليس من فعله، وإن أتلفه مالك الهواء مع إمكان ليه ضمنه، وإن صالحه على بقاء الغصن بعوض لم يجز، وإن اتفقا على أن الثمرة بينهما ونحوه صح جائزا، وكذا حكم عرق شجرة حصل في أرض غيره.

(1/383)


(ويجوز في الدرب النافذ فتح الأبواب للاستطراق) لأنه لم يتعين له مالك، ولا ضرر فيه على المجتازين. و (لا) يجوز (إخراج روشن) على أطراف خشب أو نحوه مدفونة في الحائط، (و) لا إخراج (ساباط) وهو المستوفي للطريق كله على جدارين، (و) لا إخراج (دكة) بفتح الدال، وهي الدكان والمصطبة - بكسر الميم - (و) لا إخراج (ميزاب) ولو لم يضر بالمارة إلا أن يإذن إمام أو نائبه ولا ضرر؛ لأنه نائب المسلمين فجرى مجرى إذنهم. (ولا يفعل ذلك) أي: لا يخرج روشنا ولا ساباطا ولا دكة ولا ميزابا (في ملك جار ودرب مشترك) غير نافذ (بلا إذن المستحق) أي: الجار أو أهل الدرب؛ لأن المنع لحق المستحق؛ فإذا رضي بإسقاطه جاز، ويجوز نقل باب في درب غير نافذ إلى أوله بلا ضرر لا إلى داخل إن لم يإذن من فوقه ويكون إعارة، وحرم أن يحدث بملكه ما يضر بجاره كحمام ورحى وتنور، وله منعه، كدق وسقي يتعدى،

(1/384)


وحرم أن يتصرف في جدار جار أو مشترك بفتح طاق أو ضرب وتد ونحوه إلا بإذنه.

(وليس له وضع خشبة على حائط جاره) أو حائط مشترك (إلا عند الضرورة) فيجوز (إذا لم يمكنه التسقيف إلا به) ولا ضرر؛ لحديث أبي هريرة يرفعه «لا يمنعن جار جاره أن يضع خشبة على جداره؛ ثم يقول أبو هريرة: ما لي أراكم عنها معرضين، والله لأرمين بها بين أكتافكم» متفق عليه. (وكذلك) حائط (المسجد وغيره) كحائط نحو يتيم، فيجوز لجاره وضع خشبة عليه إذا لم يمكن تسقيف إلا به بلا ضرر؛ لما تقدم. (وإذا انهدم جدارهما) المشترك أو سقفها (أو خيف ضرره) بسقوطه (فطلب أحدهما أن يعمره الآخر معه أجبر عليه) إن امتنع؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا ضرر ولا ضرار» فإن أبى أخذ حاكم من ماله وأنفق عليه، وإن بناه شريك شركة بنية رجوع رجع، (وكذا النهر والدولاب والقناة) المشتركة إذا احتاجت لعمارة، ولا يمنع شريك من عمارة، فإن فعل فالماء على الشركة، وإن أعطى قوم قناتهم أو نحوها لمن يعمرها وله منها جزء معلوم، صح، ومن له علو لم يلزمه
عمارة سفله إذا انهدم، بل يجبر عليه مالكه، ويلزم الأعلى سترة تمنع مشارفة الأسفل، فإن استويا اشتركا.

(1/385)


[باب الحجر]
وهو في اللغة: التضييق والمنع، ومنه سمي الحرام والعقل حجرا. وشرعا: منع إنسان من تصرفه في ماله، وهو ضربان: حجر لحق الغير كعلى مفلس، [وحجر] لحق نفسه كعلى نحو صغير.

(ومن لم يقدر على وفاء شيء من دينه، لم يطالب به وحرم حبسه) وملازمته؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة: 280] ، فإن ادعى العسرة ودينه عن عوض كثمن وقرض أو لا، وعرف له مال سابق الغالب بقاؤه، أو كان أقر بالملاءة حبس إن لم يقم بينة تخبر باطن حاله وتسمع قبل حبس وبعده، وإلا حلف وخلي سبيله. (ومن له ماله قدر دينه لم يحجر عليه) ؛ لعدم الحاجة إلى الحجر عليه، (وأمر) أي: ووجب على الحاكم أمره (بوفائه) بطلب غريمه لحديث: «مطل الغني ظلم» . ولا يترخص من سافر قبله ولغريم من أراد سفرا منعه من غير جهاد متعين حتى يوثق برهن يحرز أو كفيل ملي. (فإن أبى) القادر وفاء الدين الحال (حبس بطلب ربه) ذلك لحديث: «لي الواجد ظلم يحل عرضه وعقوبته» رواه أحمد وأبو داود وغيرهما. قال الإمام: قال وكيع: عرضه: شكواه، وعقوبته: حبسه، فإن أبى عزره مرة بعد أخرى، (فإن أصر) على عدم قضاء الدين (ولم يبع ماله، باعه الحاكم وقضاه) لقيامه مقامه ودفعا لضرر رب الدين بالتأخير.

(ولا يطالب) مدين (بـ) دين (مؤجل) لأنه لا يلزمه أداؤه قبل حلوله، ولا يحجر عليه من أجله.

(1/386)


(ومن ماله لا يفي بما عليه) من الدين (حالا وجب) على الحاكم (الحجر عليه بسؤال غرمائه) كلهم (أو بعضهم) لحديث كعب بن مالك: «إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حجر على معاذ وباع ماله» رواه الخلال بإسناده.
(ويستحب إظهاره) أي: إظهار حجر المفلس - وكذا السفيه - ليعلم الناس بحاله، فلا يعاملونه إلا على بصيرة، (ولا ينفذ تصرفه) أي: المحجور عليه لفلس (في ماله) الموجود والحادث بإرث أو غيره (بعد الحجر) بغير وصية أو تدبير، (ولا إقراره عليه) أي: على ماله؛ لأنه محجور عليه، وأما تصرفه في ماله قبل الحجر عليه فصحيح؛ لأنه رشيد غير محجور عليه، لكن يحرم عليه الإضرار بغريمه، (ومن باعه أو أقرضه شيئا) قبل الحجر ووجده باقيا بحاله ولم يأخذ شيئا من ثمنه، فهو أحق به؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من أدرك متاعه عند إنسان أفلس فهو أحق به» متفق عليه من حديث أبي هريرة، وكذا لو أقرضه أو باعه شيئا (بعده) أي: بعد الحجر عليه (رجع فيه) إذا وجده بعينه

(1/387)


(إن جهل حجره) لأنه معذور بجهل حاله، (وإلا) يجهل الحجر عليه (فلا) رجوع له في عينه؛ لأنه دخل على بصيرة، ويرجع بثمن المبيع وبدل القرض إذا انفك حجره.

(وإن تصرف) المفلس (في ذمته) بشراء أو ضمان أو نحوهما، (أو أقر) المفلس (بدين أو) أقر بـ (جناية توجب قودا أو مالا، صح) تصرفه في ذمته وإقراره بذلك؛ لأنه أهل للتصرف والحجر متعلق بماله لا بذمته، (ويطالب به) أي: بما لزمه من ثمن مبيع ونحوه وما أقر به (بعد فك الحجر عنه) ؛ لأنه حق عليه، وإنما منعنا تعلقه بماله لحق الغرماء، فإذا استوفى فقد زال العارض. (ويبيع الحاكم ماله) أي: مال المفلس الذي ليس من جنس الدين بثمن مثله أو أكثر، (ويقسم ثمنه) فورا (بقدر ديون غرمائه) الحالة؛ لأن هذا هو جل المقصود من الحجر عليه، وفي تأخيره مطل وهو ظلم لهم.

(ولا يحل) دين (مؤجل بفلس) مدين؛ لأن الأجل حق للمفلس، فلا يسقط بفلسه كسائر حقوقه، (ولا) يحل مؤجل أيضا (بموت) مدين (إن وثق ورثته برهن) يحرز (أو كفيل مليء) بأقل الأمرين من قيمة التركة أو الدين؛ لأن الأجل حق للميت، فورث عنه كسائر حقوقة، فإن لم يوثقوا حل لغلبة الضرر. (وإن ظهر غريم) للمفلس (بعد القسمة) لماله لم تنقض، و (رجع على الغرماء بقسطه) لأنه لو كان حاضرا شاركهم، فكذا إذا ظهر، وإن بقي على
المفلس بقية، وله صنعة أجبر على التكسب لوفائها كوقف وأم ولد يستغنى عنهما. (ولا يفك حجره إلا حاكم) لأنه ثبت بحكمه فلا يزول إلا به، وإن وفى ما عليه انفك الحجر بلا حاكم لزوال موجبه.

(1/388)


[فصل في المحجور عليه لحظه]
(ويحجر على السفيه والصغير والمجنون لحظهم) إذ المصلحة تعود عليهم بخلاف المفلس، والحجر عليهم عام في ذممهم ومالهم، ولا يحتاج لحاكم، فلا يصح تصرفهم قبل الإذن. (ومن أعطاهم ماله بيعا أو قرضا) أو وديعة ونحوها (رجع بعينه) إن بقي؛ لأنه ماله، (وإن) تلف في أيديهم أو (أتلفوه لم يضمنوا) لأنه سلطهم عليه برضاه علم بالحجر أو لا لتفريطه. (ويلزمهم أرش الجناية) إن جنوا؛ لأنه لا تفريط من المجني عليه، والإتلاف يستوي فيه الأهل وغيره. (و) يلزمهم أيضا (ضمان مال من لم يدفعه إليهم) لأنه لا تفريط من المالك، والإتلاف يستوي فيه الأهل وغيره.

(وإن تم لصغير خمس عشرة سنة) حكم ببلوغه؛ لما روى ابن عمر قال: «عرضت على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم أحد، وأنا ابن أربع عشرة سنة فلم يجزني، وعرضت عليه يوم الخندق وأنا ابن خمس عشرة سنة فأجازني» متفق عليه، (أو نبت حول قبله شعر خشن) حكم ببلوغه؛ لأن «سعد بن معاذ لما حكم في بني قريظة بقتلهم وسبي ذراريهم أمر أن يكشف عن مؤتزرهم، فمن أنبت فهو من المقاتلة، ومن لم ينبت فهو من الذرية، وبلغ ذلك النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: لقد حكمت بحكم الله من فوق سبعة أرقعة» متفق عليه. (أو أنزل) حكم ببلوغه؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا بَلَغَ الأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا} [النور: 59] (أو عقل مجنون ورشد) أي: من بلغ وعقل، (أو رشد سفيه زال حجرهم) ؛ لزوال

(1/389)


علته، قال تعالى: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 6] (بلا قضاء) حاكم؛ لأنه ثبت بغير حكمه، فزال لزوال موجبه بغير حكمه.
(وتزيد الجارية) على الذكر (في البلوغ بالحيض) ؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لايقبل الله صلاة حائض إلا بخمار» رواه الترمذي وحسنه. (وإن حملت) الجارية (حكم ببلوغها) عند الحمل؛ لأنه دليل إنزالها؛ لأن الله تعالى أجرى العادة بخلق الولد من مائها، فإذا ولدت حكم ببلوغها من ستة أشهر؛ لأنه اليقين.

(ولا ينفك الحجر) عنهم (قبل شروطه) السابقة بحال ولو صار شيخا. (والرشد: الصلاح في المال) ؛ لقول ابن عباس في قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا} [النساء: 6] أي: صلاحا في أموالهم، فعلى هذا يدفع إليه ماله، وإن كان مفسدا لدينه، ويؤنس رشده (بأن يتصرف مرارا فلا يغبن) غبنا فاحشا (غالبا، ولا يبذل ماله في حرام) كخمر وآلات لهو، (أو في غير فائدة) كغناء ونفط؛ لأن من صرف ماله في ذلك عد سفيها، (ولا يدفع إليه) أي: الصغير (حتى يختبر) ليعلم رشده (قبل بلوغه بما يليق به) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى} [النساء: 6] الآية، والاختبار يختص بالمراهق الذي يعرف المعاملة والمصلحة، (ووليهم) أي: ولي السفيه الذي بلغ سفيها واستمر والصغير والمجنون (حال الحجر: الأب) الرشيد العدل، ولو ظاهرا لكمال شفقته، (ثم وصيه) لأنه نائبه ولو بجعل، وثم متبرع، (ثم الحاكم) لأن الولاية انقطعت من جهة الأب فتعينت للحاكم،

(1/390)


ومن فك عنه الحجر فسفه، أعيد عليه، ولا ينظر في ماله إلا الحاكم، كمن جن بعد بلوغ ورشد، (ولا يتصرف لأحدهم وليه إلا بالأحظ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الأنعام: 152] والسفيه والمجنون في معناه.

(ويتجر) ولي المحجور عليه (له مجانا) أي: إذا اتجر ولي اليتيم في ماله كان الربح كله لليتيم؛ لأنه نماء ماله، فلا يستحقه غيره إلا بعقد، ولا يعقد الولي لنفسه. (وله دفع ماله) لمن يتجر فيه (مضاربة بجزء) معلوم (من الربح) للعامل؛ لأن عائشة أبضعت مال محمد بن أبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، ولأن الولي نائب عنه فيما فيه مصلحته، وله البيع نساء، والقرض برهن، وإيداعه، وشراء العقار وبناؤه لمصلحة، وشراء الأضحية لموسر، وتركه في المكتب بأجرة، ولا يبيع عقاره إلا لضرورة أو غبطة.

(ويأكل الولي الفقير من مال موليه) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 6]
(الأقل من كفايته أو أجرته) أي: أجرة عمله؛ لأنه يستحق بالعمل والحاجة جميعا، فلم يجز أن يأخذ إلا ما وجدا فيه (مجانا) ، فلا يلزمه عوضه إذا أيسر؛ لأنه عوض عن عمله، فهو فيه كالأجير والمضارب.

(ويقبل قول الولي) بيمينه (والحاكم) بغير يمين (بعد فك الحجر في النفقة) وقدرها ما لم يخالف عادة وعرفا، ولو قال أنفقت عليك منذ سنتين، فقال: منذ سنة، قدم قول

(1/391)


الصبي؛ لأن الأصل موافقته، قاله في " المبدع ". (و) يقبل قول الولي أيضا (في وجود الضرورة والغبطة) إذا باع عقاره وادعاهما ثم أنكره. (و) يقبل قول الولي أيضا في (التلف) وعدم التفريط؛ لأنه أمين، والأصل براءته. (و) يقبل قوله أيضا في (دفع المال) إليه بعد رشده؛ لأنه أمين، وإن كان بجعل لم يقبل قوله في دفع المال؛ لأنه قبضه لنفعه كالمرتهن، ولولي مميز وسيده أن يأذن له في التجارة، فينفك عنه الحجر في قدر ما أذن له فيه.

(وما استدان العبد لزم سيده) أداؤه (إن أذن له) في استدانته ببيع أو قرض؛ لأنه غر الناس بمعاملته، (وإلا) يكن استدان بإذن سيده، (فـ) ما استدانه (في رقبته) يخير سيده بين بيعه وفدائه بالأقل من قيمته أو دينه ولو أعتقه، وإن كانت العين باقية ردت لربها (كاستيداعه) أي: أخذه وديعة فيتلفها. (وأرش جنايته وقيمة متلفه) فيتعلق ذلك كله برقبته ويخير سيده كما تقدم، ولا يتبرع المأذون له بدراهم ولا كسوة، بل بإهداء مأكول وإعارة دابة وعمل دعوة بلا إسراف، ولغير المأذون له الصدقة من قوته بنحو رغيف إذا لم يضره، وللمرأة الصدقة من بيت زوجها بذلك ما لم تضطرب العادة أو لم يكن بخيلا وتشك في رضاه.

[باب الوكالة]
[الوكالة] بفتح الواو وكسرها: التفويض، تقول: وكلت أمري إلى الله، أي: فوضته إليه، واصطلاحا: استنابة جائز التصرف مثله فيما تدخله النيابة.

(تصح) الوكالة (بكل قول يدل على الإذن) كـ: افعل كذا، أو أذنت لك في فعله

(1/392)


ونحوه، وتصح مؤقتة ومعلقة بشرط كوصية وإباحة أكل وولاية قضاء وإمارة. (ويصح القبول على الفور والتراخي) بأن يوكله في بيع شيء، فيبيعه بعد سنة أو يبلغه أنه وكله بعد شهر، فيقول: قبلت (بكل قول أو فعل دال عليه) أي: دال على القبول؛ لأن قبول وكلائه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان
بفعلهم، وكان متراخيا عن توكيله إياهم، قاله في " المبدع ". ويعتبر تعيين الوكيل (ومن له التصرف في شيء) لنفسه (فله التوكيل) فيه، (والتوكل فيه) أي: جاز أن يستنيب غيره وأن ينوب عن غيره لانتفاء المفسدة، والمراد فيما تدخله النيابة ويأتي. ومن لا يصح تصرفه بنفسه فنائبه أولى، فلو وكله في بيع ما سيملكه أو طلاق من يتزوجها لم يصح، ويصح توكيل امرأة في طلاق نفسها وغيرها، وأن يتوكل واجد الطول في قبول نكاح أمة لمن تباح له وغني لفقير في قبول زكاة، وفي قبول نكاح أخته ونحوها لأجنبي.

(ويصح التوكيل في كل حق آدمي من العقود) لأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وكل عروة بن الجعد في الشراء، وسائر العقود كالإجارة والقرض والمضاربة والإبراء ونحوها في معناه، (والفسوخ) كالخلع والإقالة (والعتق والطلاق) لأنه يجوز التوكيل في الإنشاء، فجاز في الإزالة بطريق الأولى، (والرجعة وتملك المباحات من الصيد والحشيش ونحوه) كإحياء الموات؛ لأنها تملك مال بسبب لا يتعين عليه، فجاز كالابتياع،

(1/393)


(لا الظهار) لأنه قول منكر وزور، (واللعان والأيمان) والنذور والقسامة والقسم بين الزوجات والشهادة والرضاع والالتقاط والاغتنام والغصب والجنايه، فلا تدخلها النيابة. (و) تصح الوكالة أيضا (في كل حق لله تدخله النيابة من العبادات) كتفرقة صدقة وزكاة ونذر وكفارة؛ لأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يبعث عماله لقبض الصدقات وتفريقها، وكذا حج وعمرة على ما سبق، وأما العبادات البدنية المحضة كالصلاة والصوم والطهارة من الحدث، فلا يجوز التوكيل فيها؛ لأنها تتعلق ببدن من هي عليه، لكن ركعتا الطواف تتبع الحج. (و) تصح في (الحدود في إثباتها واستيفائها) ؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اغد يا أنيس إلى امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها، فاعترفت فأمر بها فرجمت» متفق عليه، ويجوز الاستيفاء في حضرة الموكل وغيبته، (وليس للوكيل أن يوكل فيما وكل فيه) إذا كان يتولاه مثله ولم يعجزه؛ لأنه لم يأذن له في التوكيل ولا تضمنه إذنه لكونه يتولى مثله، (إلا أن يجعل إليه) بأن يأذن له في التوكيل أو يقول اصنع ما شئت. ويصح توكيل عبد بإذن سيده.
(والوكالة عقد جائز) لأنها من جهة الموكل إذن، ومن جهة الوكيل بذل نفع، وكلاهما غير لازم، فلكل واحد منهما فسخها. (وتبطل بفسخ أحدهما وموته) وجنونه المطبق؛ لأن الوكالة تعتمد الحياة والعقل، فإذا انتفيا انتفت صحتها، وإذا وكل في طلاق الزوجة ثم وطئها أو في عتق العبد ثم كاتبه أو دبره، بطلت.

(1/394)


(و) تبطل أيضا بـ (عزل الوكيل) ولو قبل علمه؛ لأنه رفع عقد لا يفتقر إلى رضى صاحبه، فصح بغير علمه كالطلاق، ولو باع أو تصرف فادعى أنه عزله قبله لم يقبل إلا ببينة. (و) تبطل أيضا بـ (حجر السفيه) لزوال أهلية التصرف، لا بالحجر لفلس؛ لأنه لم يخرج عن أهلية التصرف، لكن إن حجر على الموكل وكانت في أعيان ماله بطلت؛ لانقطاع تصرفه فيها.

(ومن وكل في بيع أو شراء لم يبع ولم يشتر من نفسه) لأن العرف في البيع بيع الرجل من غيره، فحملت الوكالة عليه، ولأنه تلحقه تهمة. (و) لا من (ولده) ووالده وزوجته ومكاتبه وسائر من لا تقبل شهادته له؛ لأنه متهم في حقهم، ويميل إلى ترك الاستقصاء عليهم في الثمن لتهمته في حق نفسه، وكذا حاكم وأمينه وناظر وقف ووصي ومضارب وشريك عنان ووجوه.

(1/395)


(ولا يبيع) الوكيل (بعرض ولا نساء ولا بغير نقد البلد) لأن عقد الوكالة لم يقتضه، فإن كان في البلد نقدان باع بأغلبهما رواجا، فإن تساويا خير، (وإن باع بدون ثمن المثل) إن لم يقدر له ثمن، (أو) باع بـ (دون ماقدره له) الموكل صح، (أو اشترى له بأكثر من ثمن المثل) وكان لم يقدر له ثمنا، (أو مما قدره له صح) الشراء؛ لأن من صح منه ذلك بثمن مثله صح بغيره، (وضمن النقص) في مسألة البيع، (و) ضمن (الزيادة) في مسألة الشراء؛ لأنه مفرط، والوصي وناظر الوقف كالوكيل في ذلك، ذكره الشيخ تقي الدين. وإن قال: بعه بدرهم، فباعه بدينار صح؛ لأنه زاده خيرا.

(وإن باع) الوكيل (بأزيد) مما قدره له الموكل صح. (أو قال) الموكل: (بع بكذا مؤجلا، فباع) الوكيل (به حالا) صح، (أو) قال الموكل: (اشتر بكذا حالا، فاشترى به مؤجلا ولا ضرر فيهما) أي: فيما إذا باع بالمؤجل حالا أو اشترى بالحال مؤجلا، (صح) لأنه زاده خيرا، فهو كما لو وكله في بيعه بعشرة فباعه بأكثر منها، (وإلا فلا) أي: وإن لم يبع أو يشتر بمثل ما قدره له بلا ضرر، بأن قال: بعه بعشرة مؤجلة، فباعه بتسعة حالة، أو باعه بعشرة حالة، وعلى الموكل ضرر بحفظ الثمن في الحال، أو قال: اشتره بعشرة حالة، فاشتراه بأحد
عشر أو بعشرة مؤجلة مع ضرر لم ينفذ تصرفه؛ لمخالفته موكله، وقدم في " الفروع " أن الضرر لا يمنع الصحة، وتبعه في " المنتهى " و " التنقيح " في مسألة البيع، وهو ظاهر " المنتهى " أيضا في مسألة الشراء، وقد سبق لك أن بيع الوكيل بأنقص مما قدر له وشراءه بأكثر منه صحيح، ويضمن.

(1/396)


[فصل إن اشترى الوكيل ما يعلم عيبه]
فصل (وإن اشترى) الوكيل (ما يعلم عيبه لزمه) أي: لزم الشراء الوكيل، فليس له رده؛ لدخوله على بصيرة، (وإن لم يرض) به (موكله) فإن رضيه كان له؛ لنيته بالشراء، وإن اشتراه بعين المال لم يصح، (فإن جهل) عيبه (رده) لأنه قائم مقام الموكل، وله أيضا رده لأنه ملكه، فإن حضر الموكل قبل رد الوكيل ورضي بالعيب لم يكن للوكيل رده؛ لأن الحق له، بخلاف المضارب؛ لأن له حقا، فلا يسقط برضى غيره، فإن طلب البائع الإمهال حتى يحضر الموكل، لم يلزم الوكيل ذلك، وحقوق العقد كتسليم الثمن وقبض المبيع والرد بالعيب وضمان الدرك تتعلق بالموكل.

(ووكيل البيع يسلمه) أي: يسلم المبيع؛ لأن إطلاق الوكالة في البيع يقتضيه؛ لأنه من تمامه. (ولا يقبض) الوكيل في البيع (الثمن) بغير إذن الموكل؛ لأنه قد يوكل في البيع من لا يأمنه على قبض الثمن (بغير قرينة) ، فإن دلت القرينة على قبضه مثل توكيله في بيع شيء في سوق غائبا عن الموكل أو موضع يضيع الثمن بترك قبض الوكيل له، كان إذنا في قبضه، فإن تركه ضمنه؛ لأنه يعد مفرطا، هذا المذهب عند الشيخين، وقدم في " التنقيح " وتبعه في " المنتهى ": لا يقبضه إلا بإذنه، فإن تعذر لم يلزم الوكيل شيء؛ لأنه ليس بمفرط؛ لكونه لا يملك قبضه.

(ويسلم وكيل المشتري الثمن) لأنه من تتمته وحقوقه كتسليم المبيع، (فلو أخره) أي: أخر تسليم الثمن (بلا عذر وتلف) الثمن (ضمنه) لتعديه بالتأخير، وليس لوكيل في بيع تقليبه على مشتر إلا بحضرته وإلا ضمن. (وإن وكله في بيع فاسد) لم يصح ولم يملكه؛ لأن الله تعالى لم يأذن فيه؛ ولأن الموكل لا يملكه. (ف) لو (باع) الوكيل إذا بيعا (صحيحا) لم يصح؛ لأنه لم يوكل فيه،

(1/397)


(أو وكله في كل قليل وكثير) لم يصح؛ لأنه يدخل فيه كل شيء من هبة ماله وطلاق نسائه وإعتاق رقيقه، فيعظم الغرر والضرر، (أو) وكله في (شراء ما شاء أو
عينا بما شاء ولم يعين) نوعا وثمنا (لم يصح) ؛ لأنه يكثر فيه الغرر، وإن وكله في بيع ماله كله أو ما شاء منه صح. قال في " المبدع ": وظاهر كلامهم في: بع من مالي ما شئت، له بيع ماله كله.

(والوكيل في الخصومة لا يقبض) ؛ لأن الإذن لم يتناوله نطقا ولا عرفا؛ لأنه قد يرضى للخصومة من لا يرضاه للقبض، (والعكس بالعكس) فالوكيل في القبض له الخصومة؛ لأنه لا يتوصل إليه إلا بها، فهو إذن فيها عرفا. (و) إن قال الموكل: (اقبض حقي من زيد) ملكه من وكيله؛ لأنه قائم مقامه، و (لا يقبض من ورثته) لأنه لم يؤمر بذلك ولا يقتضيه العرف، (إلا أن يقول) الموكل للوكيل: اقبض حقي (الذي قبله) أو عليه، فله القبض من وارثه؛ لأن الوكالة اقتضت قبض حقه مطلقا، وإن قال: اقبضه اليوم لم يملكه غدا، (ولا يضمن وكيل) في (الإيداع إذا) أودع و (لم يشهد) وأنكر المودع لعدم الفائدة في الإشهاد؛ لأن المودع يقبل قوله في الرد والتلف. وأما الوكيل في قضاء الدين إذا كان بغير حضور الموكل ولم يشهد، ضمن إذا أنكر رب الدين، وتقدم في الضمان.

(1/398)


[فصل الوكيل أمين لا يضمن ما تلف بيده بلا تفريط]
فصل (والوكيل أمين لا يضمن ما تلف بيده بلا تفريط) لأنه نائب المالك في اليد والتصرف، فالهلاك في يده كالهلاك في يد المالك ولو بجعل، فإن فرط أو تعدى أو طلب منه المال فامتنع من دفعه لغير عذر، ضمن. (ويقبل قوله) أي: الوكيل (في نفيه) أي: نفي التفريط ونحوه، (و) في (الهلاك مع يمينه) لأن الأصل براءة ذمته، لكن إن ادعى التلف بأمر ظاهر كحريق عام ونهب جيش، كلف إقامة البينة عليه، ثم يقبل قوله فيه. وإن وكله في شراء شيء فاشتراه واختلفا في قدر ثمنه قبل قول الوكيل، وإن اختلفا في رد العين أو ثمنها إلى الموكل، فقول وكيل متطوع، وإن كان بجعل فقول موكل. وإذا قبض الوكيل الثمن حيث جاز فهو أمانة في يده، لا يلزمه تسليمه قبل طلبه، ولا يضمنه بتأخيره، ويقبل قول الوكيل فيما وكل فيه.

(ومن ادعى وكالة زيد في قبض حقه من عمرو) بلا بينة (لم يلزمه) أي: عمرا (دفعه إن صدقه) لجواز أن ينكر زيد الوكالة، فيستحق الرجوع عليه. (ولا) يلزمه (اليمين إن كذبه) لأنه لا يقضي عليه بالنكول، فلا فائدة في لزوم تحليفه، (فإن دفعه) عمرو (فأنكر زيد الوكالة
حلف) ؛ لاحتمال صدق الوكيل فيها (وضمنه عمرو) فيرجع عليه زيد لبقاء حقه في ذمته، ويرجع عمرو على الوكيل مع بقاء ما قبضه أو تعديه، لا إن صدقه وتلف بيده بلا تفريط، (وإن كان المدفوع) لمدعي الوكالة بغير بينة (وديعة أخذها) حيث وجدها؛ لأنها عين حقه، (فإن تلفت ضمن أيهما شاء) لأن الدافع ضمنها بالدفع، والقابض قبض ما لا يستحقه، فإن ضمن الدافع لم يرجع على القابض إن صدقه، وإن

(1/399)


ضمن القابض لم يرجع على الدافع، وكدعوى الوكالة دعوى الحوالة والوصية، وإن ادعى أنه مات وأنا وارثه لزمه الدفع إليه مع التصديق واليمين مع الإنكار على نفي العلم.