الروض المربع شرح زاد المستقنع ط المؤيد

[باب الشفعة]
[الشفعة] بإسكان الفاء، من الشفع، وهو الزوج؛ لأن الشفيع بالشفعة يضم المبيع إلى ملكه الذي كان منفردا.

(1/430)


(وهي استحقاق) الشريك (انتزاع حصة شريك ممن انتقلت إليه بعوض مالي) كالبيع والصلح والهبة بمعناه، فيأخذ الشفيع نصيب البائع (بثمنه الذي استقر عليه العقد) ؛ لما روى أحمد والبخاري عن جابر «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قضى بالشفعة في كل ما لم يقسم» ، فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة، (فإن انتقل) نصيب الشريك (بغير عوض) كالإرث والهبة بغير ثواب والوصية، (أو كان عوضه) غير مالي بأن جعل (صداقا أو خلعا أو صلحا عن دم عمد فلا شفعة) ؛ لأنه مملوك بغير مال أشبه الإرث؛ ولأن الخبر ورد في البيع، وهذه ليست في معناه.

(ويحرم التحيل لإسقاطها) قال الإمام: لا يجوز شيء من الحيل في إبطالها ولا إبطال حق مسلم، واستدل الأصحاب بما روى أبو هريرة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل» .
4 - (وتثبت) الشفعة (لشريك في أرض تجب قسمتها) ، فلا شفعة في منقول كسيف ونحوه؛ لأنه لا نص فيه ولا هو في معنى المنصوص، ولا فيما لا تجب قسمته كحمام ودور صغيرة؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا شفعة في فناء ولا طريق ولا منقبة» رواه أبو عبيد

(1/431)


في " الغريب "،
والمنقبة: طريق ضيق بين دارين لا يمكن أن يسلكه أحد، (ويتبعها) أي: الأرض (الغراس والبناء) فتثبت الشفعة فيهما تبعا للأرض إذا بيعا معها لا إن بيعا منفردين (لا الثمرة والزرع) إذا بيعا مع الأرض، فلا يؤخذان بالشفعة؛ لأن ذلك لا يدخل في البيع، فلا يدخل في الشفعة كقماش الدار (فلا شفعة لجار) ؛ لحديث جابر السابق.

(وهي) أي: الشفعة (على الفور وقت علمه، فإن لم يطلبها إذن) أي: وقت علم الشفيع بالبيع (بلا عذر بطلت) ؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الشفعة لمن واثبها» وفي رواية: «الشفعة كحل العقال» رواه ابن ماجه، فإن لم يعلم بالبيع فهو على شفعته ولو مضى سنون، وكذا لو أخر لعذر بأن علم ليلا فأخره إلى الصباح، أو لحاجة أكل أو شرب أو طهارة، أو إغلاق باب، أو خروج من حمام، أو ليأتي بالصلاة وسننها، وإن علم وهو غائب أشهد على الطلب بها إن قدر.

(وإن قال) الشفيع (للمشتري: بعني) ما اشتريت، (أو صالحني) سقطت لفوات الفور، (أو كذب العدل) المخبر له بالبيع، سقطت؛ لتراخيه عن الأخذ بلا عذر، فإن كذب فاسقا لم تسقط؛ لأنه لم يعلم الحال على وجهه، (أو طلب) الشفيع (أخذ البعض) أي: بعض الحصة المبيعة (سقطت) شفعته؛ لأن فيه إضرارا بالمشتري بتبعيض الصفقة عليه والضرر لا يزال بمثله، ولا تسقط الشفعة إن عمل الشفيع دلالا بينهما، أو توكل لأحدهما أو أسقطها قبل البيع.

(1/432)


(والشفعة لـ) شريكين (اثنين بقدر حقيهما) ؛ لأنها حق يستفاد بسبب الملك، فكانت على قدر الأملاك، فدار بين ثلاثة ونصف وثلث وسدس، فباع رب الثلث، فالمسألة من ستة والثلث يقسم على أربعة، لصاحب النصف ثلاثة، ولصاحب السدس واحد، (فإن عفا أحدهما) أي: أحد الشفيعين (أخذ الآخر الكل أو ترك) الكل؛ لأن في أخذ البعض إضرارا بالمشتري، ولو وهبها لشريكه أو غيره لم يصح، وإن كان أحدهما غائبا فليس للحاضر أن يأخذ إلا الكل أو يترك، فإن أخذ الكل ثم حضر الغائب قاسمه.
(وإن اشترى اثنان حق واحد) فللشفيع أخذ حق أحدهما؛ لأن العقد مع اثنين بمنزلة عقدين، (أو عكسه) بأن اشترى واحد حق اثنين صفقة، فللشفيع أخذ أحدهما؛ لأن تعدد البائع كتعدد المشتري، (أو اشترى واحد شقصين) بكسر الشين أي: حصتين (من أرضين صفقة واحدة، فللشفيع أخذ أحدهما) ؛ لأن الضرر قد يلحقه بأرض دون أرض.

(وإن باع شقصا وسيفا) في عقد واحد، فللشفيع أخذ الشقص بحصته من الثمن؛ لأنه تجب فيه الشفعة إذا بيع منفردا، فكذا إذا بيع مع غيره، (أو تلف بعض المبيع، فللشفيع أخذ الشقص بحصته من الثمن) ؛ لأنه تعذر أخذ الكل، فجاز له أخذ الباقي، كما لو أتلفه آدمي، فلو اشترى دارا بألف تساوي ألفين فباع بابها أو هدمها فبقيت بألف، أخذها الشفيع بخمسمائة. (ولا شفعة بشركة وقف) ؛ لأنه لا يؤخذ بالشفعة، فلا تجب به؛ لأن مستحقه غير

(1/433)


تام الملك، (ولا) شفعة أيضا بـ (غير ملك) للرقبة (سابق) بأن كان شريكا في المنفعة كالموصي له بها، أو ملك الشريكان دارا صفقة واحدة، فلا شفعة لأحدهما على الآخر؛ لعدم الضرر، (ولا) شفعة (لكافر على مسلم) ؛ لأن الإسلام يعلو ولا يعلى عليه.

[فصل التصرف في الشقص المشفوع بالوقف والهبة ونحوه]
فصل (وإن تصرف مشتريه) أي: مشتري شقص ثبتت فيه الشفعة (بوقفه أو هبته أو رهنه) أو صدقة به (لا بوصية، سقطت الشفعة) ؛ لما فيه من الإضرار بالموقوف عليه والموهوب له ونحوه؛ لأنه ملكه بغير عوض. ولا تسقط الشفعة بمجرد الوصية به قبل قبول الموصى له بعد موت الموصي؛ لعدم لزوم الوصية. (و) إن تصرف المشتري فيه (ببيع فله) أي: الشفيع (أخذه بأحد البيعين) ؛ لأن سبب الشفعة الشراء، وقد وجد في كل منهما، ولأنه شفيع في العقدين، فإن أخذ بالأول رجع الثاني على بائعه بما دفع له؛ لأن العوض لم يسلم له، وإن أجره فللشفيع أخذه، وتنفسخ به الإجارة، هذا كله إن كان التصرف قبل الطلب؛ لأنه ملك المشتري، وثبوت حق التملك للشفيع لا يمنع من تصرفه، وأما تصرفه بعد الطلب فباطل؛ لأنه ملك الشفيع إذا.

(1/434)


(وللمشتري الغلة) الحاصلة قبل الأخذ، (و) له أيضا (النماء المنفصل) ؛ لأنه من ملكه والخراج بالضمان، (و) له أيضا (الزرع والثمرة الظاهرة) أي: المؤبرة؛ لأنه ملكه، ويبقى إلى الحصاد والجذاذ، لأن ضرره لا يبقى ولا أجرة عليه، وعلم منه أن النماء المتصل كالشجر إذا
كبر، والطلع إذا لم يؤبر يتبع في الأخذ بالشفعة كالرد بالعيب، (فإن بنى) المشتري (أو غرس) في حال يعذر فيه الشريك بالتأخير، بأن قاسم المشتري وكيل الشفيع، أو رفع الأمر للحاكم، فقاسمه أو قاسم الشفيع لإظهاره زيادة في الثمن ونحوه، ثم غرس أو بنى، ( [فللشفيع] تملكه بقيمته) دفعا للضرر، فتقوم الأرض مغروسة أو مبنية ثم تقوم خالية منهما، فما بينهما فهو قيمة الغراس والبناء.
(و) للشفيع (قلعه ويغرم نقصه) أي: ما نقص من قيمته بالقلع لزوال الضرر به، فإن أبى فلا شفعة، (ولربه) أي: رب الغراس أو البناء (أخذه) ولو اختار الشفيع تملكه بقيمته (بلا ضرر) يلحق الأرض بأخذه، وكذا مع ضرر، كما في " المنتهى " وغيره؛ لأنه ملكه، والضرر لا يزال بالضرر. (وإن مات الشفيع قبل الطلب بطلت) الشفعة؛ لأنه نوع خيار للتمليك أشبه خيار القبول، (و) إن مات (بعده) أي: بعد الطلب ثبتت (لوارثه) لأن الحق قد تقرر بالطلب؛

(1/435)


ولذلك لا تسقط بتأخير الأخذ بعده. (ويأخذ) الشفيع الشقص (بكل الثمن) الذي استقر عليه العقد؛ لحديث جابر: «فهو أحق به بالثمن» رواه أبو إسحاق الجوزجاني في " المترجم "، (فإن عجز عن) الثمن أو (بعضه سقطت شفعته) ؛ لأن في أخذه بدون دفع كل الثمن إضرارا بالمشتري، والضرر لا يزال بالضرر، وإن حضر رهنا أو كفيلا لم يلزم المشتري قبوله، وكذا لا يلزمه قبول عوض عن الثمن، وللمشتري حبسه على ثمنه، قاله في " الترغيب " وغيره؛ لأن الشفعة قهري والبيع عن رضى، ويمهل إن تعذر في الحال ثلاثة أيام.

(و) الثمن (المؤجل يأخذ) الشفيع (المليء به) ؛ لأن الشفيع يستحق الأخذ بقدر الثمن وصفته والتأجيل من صفته، (وضده) أي: ضد المليء وهو المعسر، يأخذه إذا كان الثمن مؤجلا (بكفيل مليء) دفعا للضرر، وإن لم يعلم الشفيع حتى حل فهو كالحال. (ويقبل في الحلف) في قدر الثمن (مع عدم البينة) لواحد منهما (قول المشتري) مع يمينه؛ لأنه العاقد،
فهو أعلم بالثمن، والشفيع ليس بغارم؛ لأنه لا شيء عليه، وإنما يريد تملك الشقص بثمنه بخلاف الغاصب ونحوه، (فإن قال) المشتري: (اشتريته بألف، أخذ الشفيع به) أي: بالألف، (ولو أثبت البائع) أن البيع (بأكثر) من الألف مؤاخذة للمشتري بإقراره، فإن قال: غلطت أو كذبت أو نسيت، لم يقبل؛ لأنه رجوع عن إقراره، ومن ادعى على إنسان شفعة في شقص فقال: ليس لك ملك في شركتي فعلى الشفيع إقامة البينة بالشركة، ولا يكفي مجرد وضع اليد،

(1/436)


(وإن أقر البائع بالبيع) في الشقص المشفوع (وأنكر المشتري) شراءه (وجبت) الشفعة؛ لأن البائع أقر بحقين؛ حق للشفيع وحق للمشتري، فإن أسقط حقه بإنكاره ثبت حق الآخر، فيقبض الشفيع من البائع ويسلم إليه الثمن، ويكون درك الشفيع على البائع، وليس له ولا للشفيع محاكمة المشتري، (وعهدة الشفيع على المشتري، وعهدة المشتري على البائع) في غير الصورة الأخيرة، فإذا ظهر الشقص مستحقا أو معيبا رجع الشفيع على المشتري بالثمن أو بأرش العيب، ثم يرجع المشتري على البائع، فإن أبى المشتري قبض المبيع أجبره الحاكم، ولا شفعة في بيع خيار قبل انقضائه ولا في أرض السواد ومصر والشام؛ لأن عمر وقفها، إلا أن يحكم ببيعها حاكم أو يفعله الإمام أو نائبه؛ لأنه مختلف فيه، وحكم الحاكم ينفذ فيه.

[باب الوديعة]
من ودع الشيء: إذا تركه؛ لأنها متروكه عند المودع. والإيداع توكيل في الحفظ تبرعا، والاستيداع توكل فيه كذلك، ويعتبر لها ما يعتبر في وكالة، ويستحب قبولها لمن علم أنه ثقة قادر على حفظها، ويكره لغيره إلا برضى ربها.

و (إذا تلفت) الوديعة (من بين ماله ولم يتعد ولم يفرط لم يضمن) ؛ لما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من أودع وديعة فلا ضمان عليه» رواه ابن ماجه، وسواء ذهب معها شيء من ماله أو لا.

(ويلزمه) أي: لمودع (حفظها في حرز مثلها) عرفا كما يحفظ ماله؛ لأنه تعالى أمر بأدائها، ولا يمكن ذلك إلا بالحفظ، قال في " الرعاية ": من استودع شيئا حفظه في حرز مثله عاجلا مع القدرة، وإلا ضمن، (فإن عينه) أي: الحرز (صاحبها فأحرزها بدونه،

(1/437)


ضمن) سواء
ردها إليه أو لا؛ لمخالفته له في حفظ ماله، (و) إن أحرزها (بمثله أو أحرز) منه (فلا) ضمان عليه؛ لأن تقييده بهذا الحرز يقتضي ما هو مثله فما فوقه من باب أولى. (وإن قطع العلف عن الدابة) المودعة (بغير قول صاحبها ضمن) ؛ لأن العلف من كمال الحفظ، بل هو الحفظ بعينه؛ لأن العرف يقتضي علفها وسقيها، فكأنه مأمور به عرفا، وإن نهاه المالك عن علفها لم يضمن؛ لإذنه في إتلافها، أشبه ما لو أمره بقتلها، لكن يأثم بترك علفها إذا لحرمة الحيوان. (وإن عين جيبه) بأن قال: احفظها في جيبك (فتركها في كمه أو يده ضمن) ؛ لأن الجيب أحرز، وربما نسي فسقط ما في كمه أو يده، (وعكسه بعكسه) ، فإذا قال: اتركها في كمك أو يدك فتركها في جيبه، لم يضمن؛ لأنه أحرز، وإن قال: اتركها في يدك، فتركها في كمه أو بالعكس، أو قال: اتركها في بيتك فشدها في ثيابه وأخرجها، ضمن؛ لأن البيت أحرز.

(وإن دفعها إلى من يحفظ ماله) عادة كزوجته وعبده، (أو) ردها لمن يحفظ (مال ربها لم يضمن) لجريان العادة به، ويصدق في دعوى التلف والرد كالمودع، (وعكسه الأجنبي والحاكم) بلا عذر فيضمن المودع بدفعها إليهما؛ لأنه ليس له أن يودع من غير عذر. (ولا يطالبان) أي: الحاكم والأجنبي بالوديعة إذا تلفت عندهما بلا تفريط (إن جهلا) جزم به في " الوجيز "؛ لأن المودع ضمن بنفس الدفع والإعراض عن الحفظ، فلا يجب على الثاني ضمان؛ لأن دفعا واحدا لا يوجب ضمانين، وقال القاضي: له ذلك، فللمالك مطالبة من شاء منهما، ويستقر الضمان على الثاني إن علم، وإلا فعلى الأول، وجزم بمعناه في " المنتهى ".

(وإن حدث خوف أو) حدث للمودع (سفر ردها على ربها) أو وكيله فيها؛ لأن في ذلك تخليصا له من دركها، فإن دفعها للحاكم إذن ضمن؛ لأنه لا ولاية له على الحاضر، (فإن غاب) ربها (حملها) المودع (معه) في السفر سواء كان لضرورة أو لا، (إن كان أحرز) ولم ينهه عنه؛ لأن القصد الحفظ وهو موجود هنا، وله ما أنفق بنية الرجوع، قاله

(1/438)


القاضي، (وإلا) يكن السفر أحفظ لها، أو كان نهي عنه، دفعها إلى الحاكم؛ لأن في السفر بها غررا؛ لأنه عرضة للنهب وغيره، والحاكم يقوم مقام صاحبها عند غيبته. فإن أودعها مع قدرته على الحاكم ضمنها؛ لأنه لا ولاية له، فإن تعذر حاكم (أودعها أهل ثقة) لفعله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما أراد أن يهاجر، أودع الودائع التي كانت عنده لأم أيمن - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، ولأنه موضع حاجة، وكذا حكم من حضره الموت.
(ومن) تعدى في الوديعة بأن (أودع دابة فركبها لغير نفعها) أي: علفها وسقيها، (أو) أودع (ثوبا فلبسه) لغير خوف من عث أو نحوه، (أو) أودع (دراهم فأخرجها من محرز ثم ردها) إلى حرزها، (أو رفع الختم) عن كيسها أو كانت مشدودة فأزال الشد، ضمن، خرج منها شيئا أو لا؛ لهتك الحرز، (أو خلطها بغير متميز) كدراهم بدراهم وزيت بزيت من ماله أو غيره، (فضاع الكل ضمن) الوديعة؛ لتعديه، وإن ضاع البعض ولم يدر أيهما ضاع ضمن أيضا،

(1/439)


وإن خلطها بتميز كدراهم بدنانير لم يضمن، وإن أخذ درهما من غير محرزه ثم رده فضاع الكل، ضمنه وحده، وإن رد بدله غير متميز ضمن الجميع، ومن أودعه صبي وديعة لم يبرأ إلا بردها لوليه، ومن دفع لصبي ونحوه وديعة يضمنها مطلقا ولعبده، ضمنها بإتلافها في رقبته.

[فصل قبول قول المودع في رد الوديعة لربها]
فصل (ويقبل قول المودع في ردها إلى ربها) ، أو من يحفظ ماله (أو غيره بإذنه) بأن قال: دفعتها لفلان بإذنك، فأنكر مالكها الإذن أو الدفع قبل قول المودع كما لو ادعى ردها على مالكها. (و) يقبل قوله أيضا (في تلفها وعدم التفريط) بيمينه؛ لأنه أمين، لكن إن ادعى التلف بظاهر، كلف به ببينة ثم قبل قوله في التلف، وإن أخر ردها بعد طلبها بلا عذر ضمن، ويمهل لأكل ونوم وهضم طعام بقدره، وإن أمره بالدفع إلى وكيله، فتمكن وأبى، ضمن، ولو لم يطلبها وكيله، (فإن قال: لم تودعني، ثم ثبتت) الوديعة (ببينة أو إقرار، ثم ادعى ردا أو تلفا سابقين لجحوده لم يقبلا ولو ببينة) ؛ لأنه مكذب للبينة، وإن شهدت بأحدهما ولم تعين وقتا لم تسمع، (بل) يقبل قوله بيمينه في الرد والتلف (في) ما إذا أجاب بـ (قوله: مالك عندي شيء ونحوه) ، كما لو أجاب بقوله: لا حق لك قبلي أو لا تستحق علي شيئا،

(1/440)


(أو) ادعى الرد أو التلف (بعده) أي: بعد جحوده (بها) أي: بالبينة؛ لأن قوله لا ينافي ما شهدت به البينة ولا يكذبها، (وإن) مات المودع و (ادعى وارثه الرد منه) أي: من وارث المودع لربها (أو من مورثه) وهو المودع (لم يقبل إلا ببينة) ؛ لأن صاحبها لم يأتمنه عليها بخلاف المودع، (وإن طلب أحد المودعين نصيبه من مكيل أو موزون ينقسم) بلا ضرر (أخذه) أي: أخذ نصيبه فيسلم إليه؛ لأن قسمته ممكنة بغير ضرر ولا غبن، (وللمستودع والمضارب والمرتهن والمستأجر) إذا غصبت العين منهم (مطالبة غاصب العين) ؛ لأنهم مأمورون بحفظها، وذلك منه، وإن صادره سلطان أو أخذها منه قهرا لم يضمن، قاله أبو الخطاب.
[باب إحياء الموات]
بفتح الميم والواو (وهي) مشتقة من الموت، وهو عدم الحياة، واصطلاحا: (الأرض المنفكة عن الاختصاصات وملك معصوم) ، بخلاف الطرق والأقنية ومسيل المياه والمحتطبات ونحوها، وما جرى عليه ملك معصوم بشراء أو عطية أو غيرهما، فلا يملك شيئا من ذلك بالإحياء، (فمن أحياها) أي: الأرض الموات (ملكها) لحديث جابر يرفعه: «من أحيا أرضا ميتة فهي له» رواه أحمد والترمذي وصححه، وعن عائشة مثله، رواه مالك وأبو داود،

(1/441)


وقال ابن عبد البر: هو سند صحيح متلقى بالقبول عند فقهاء المدينة وغيرهم (من مسلم وكافر) ذمي مكلف وغيره؛ لعموم ما تقدم، لكن على الذمي خراج ما أحيى من موات عنوة (بإذن الإمام) في الإحياء (وعدمه) ؛ لعموم الحديث؛ ولأنها عين مباحة فلا يفتقر ملكها إلى إذن (في دار الإسلام وغيرها) ، فجميع البلاد سواء في ذلك، (والعنوة) كأرض مصر والشام والعراق (كغيرها) مما أسلم أهله عليه أو صولحوا عليه، إلا ما أحياه مسلم من أرض كفار صولحوا على أنها لهم ولنا الخراج.

(ويملك بالإحياء ما قرب من عامر إن لم يتعلق بمصلحته) ؛ لعموم ما تقدم وانتفاء المانع، فإن تعلق بمصالحه كمقبرة وملقى كناسته ونحوهما لم يملك، وكذا موات الحرم وعرفات لا يملك بإحياء، وإذا وقع في الطريق وقت الإحياء نزاع فلها سبعة أذرع، ولا تغير بعد وضعها، ولا يملك معدن ظاهر كملح وكحل وجص بإحياء، وليس للإمام إقطاعه وما نصب عنه الماء من الجزائر لم يحي بالبناء؛ لأنه يرد الماء إلى الجانب الأخر فيضر بأهله وينتفع به بنحو زرع،

(1/442)


(ومن أحاط مواتا) بأن أدار حوله حائطا منيعا بما جرت العادة به فقد أحياه، سواء أرادها للبناء أو غيره؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من أحاط حائطا على أرض فهي له» رواه أحمد وأبو داود عن جابر، (أو حفر بئرا فوصل إلى الماء) فقد أحياه، (أو أجراه) أي: الماء (إليه) أي: إلى الموات (من عين ونحوها أو حبسه) أي: الماء (عنه) أي: عن الموات إذا كان لا يزرع معه (لزرع فقط أحياه) ؛ لأن نفع الأرض بذلك أكثر من الحائط، ولا إحياء بحرث وزرع.
(ويملك) المحيي (حريم البئر العادية) بتشديد الياء أي: القديمة، منسوبة إلى عاد ولم يرده عادا بعينها (خمسين ذراعا من كل جانب) إذا كانت انطمت وذهب ماؤها، فجدد حفرها وعمارتها أو انقطع ماؤها فاستخرجه، (وحريم البدية) المحدثة (نصفها) خمسة وعشرون ذراعا؛ لما روى أبو عبيد في " الإموال " عن سعيد بن المسيب قال: " السنة في حريم القليب العادي خمسون ذراعا، والبدي خمسة وعشرون ذراعا " وروى الخلال والدارقطني نحوه مرفوعا. وحريم شجرة: قدر مد أغصانها وحريم دار من موات حولها مطرح تراب وكناسة وثلج وماء ميزاب، ولا حريم لدار محفوفة بملك، ويتصرف في كل منهم بحسب العادة، ومن تحجر مواتا بأن أدار حوله أحجارا ونحوها، لم يملكه وهو أحق به ووارثه من بعده، وليس له بيعه، (وللإمام إقطاع موات لمن يحييه) ؛ لأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أقطع بلال بن الحارث العقيق، (ولا يملكه) بالإقطاع، بل هو أحق من غيره، فإذا أحياه ملكه.

وللإمام أيضا إقطاع غير موات تمليكا وانتفاعا للمصلحة،

(1/443)


(وله إقطاع الجلوس) للبيع والشراء (في الطريق الواسعة) ورحبة مسجد غير محوطة (ما لم يضر بالناس) ؛ لأنه ليس للإمام أن يأذن فيما لا مصلحة فيه فضلا عما فيه مضرة. (ويكون) المقطع له (أحق بجلوسها) ولا يزول حقه بنقل متاعه منها؛ لأنه قد استحق بإقطاع الإمام، وله التظليل على نفسه بما ليس ببناء بلا ضرر، ويسمى هذا إقطاع إرفاق، (ومن غير إقطاع) للطرق الواسعة والرحبة غير المحوطة الحق (لمن سبق بالجلوس ما بقي قماشه فيها وإن طال) جزم به في " الوجيز "؛ لأنه سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم، فلم يمنع، فإذا نقل متاعه كان لغيره الجلوس، وفي " المنتهى " وغيره: فإن أطاله أزيل؛ لأنه يصير كالمالك، (وإن سبق اثنان) فأكثر إليها وضاقت (اقتراعا) ؛ لأنهما استويا في السبق والقرعة، مميزة ومن سبق إلى مباح من صيد أو حطب أو معدن ونحوه فهو أحق به، وإن سبق إليه اثنان قسم بينهما. (ولمن في أعلى الماء المباح) كماء مطر (السقي وحبس الماء إلى أن يصل إلى كعبه ثم يرسله إلى من يليه) فيفعل كذلك وهلم جرا، فإن لم يفضل عن الأول أو من بعده شيء فلا شيء للآخر؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اسق يا زبير ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر» متفق عليه، وذكر عبد الرزاق عن
معمر عن الزهري قال: نظرنا إلى قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر» فكان ذلك إلى الكعبين، فإن كان الماء مملوكا قسم بين الملاك بقدر النفقة والعمل، وتصرف كل واحد في حصته بما شاء.

(وللإمام دون غيره حمى مرعى) أي: أن يمنع الناس من مرعى (لدواب المسلمين) التي يقوم بحفظها كخيل الجهاد والصدقة (ما لم يضرهم) بالتضييق عليهم؛ لما روى عمر «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حمى النقيع لخيل المسلمين» ، رواه أبو عبيد، وما حماه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليس

(1/444)


لأحد نقضه، وما حماه غيره من الأئمة يجوز نقضه، ولا يجوز لأحد أن يأخذ من أرباب الدواب عوضا عن مرعى موات أو حمى؛ لأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شرك الناس فيه، ومن جلس في نحو جامع لفتوى أو إقراء فهو أحق بمكانه ما دام فيه أو غاب لعذر وعاد قريبا، ومن سبق إلى رباط أو نزل فقيه بمدرسة أو صوفي بخانقاه لم يبطل حقه بخروجه منه لحاجة.