الروض
المربع شرح زاد المستقنع ط المؤيد [كتاب الوقف]
يقال: وقف الشيء وحبسه وأحبسه وسبله بمعنى واحد، وأوقفه لغة شاذة، وهو مما
اختص به المسلمون ومن القرب المندوب إليها.
(وهو تحبيس الأصل وتسبيل المنفعة) على بر أو قربة، والمراد بالأصل ما يمكن
الانتفاع به مع بقاء عينه، وشرطه أن يكون الواقف جائز التصرف.
(ويصح) الوقف (بالقول وبالفعل الدال عليه) عرفا (كمن جعل أرضه مسجدا وأذن
للناس في الصلاة فيه) ، أو إذن فيه وأقام، (أو) جعل أرضه (مقبرة وأذن)
للناس (في الدفن فيها) ، أو سقاية وشرعها لهم، لأن العرف جار بذلك، وفيه
دلالة على الوقف.
(وصريحه) أي صريح القول: (وقفت وحبست وسبلت) ، فمتى أتى بصيغة منها صار
وقفا من غير انضمام أمر زائد،
(وكنايته: تصدقت وحرمت وأبدت) ، لأنه لم يثبت لها فيه عرف لغوي ولا شرعي،
(فتشترط النية مع الكناية أو اقتران) الكناية بـ (أحد الألفاظ الخمسة)
الباقية من الصريح والكناية، كتصدقت بكذا صدقة موقوفة أو محبسة أو مسبلة أو
محرمة أو مؤبدة، لأن اللفظ يترجح بذلك لإرادة الوقف، (أو) اقترانها، بـ
(حكم الوقف) كقوله: تصدقت بكذا صدقة لا تباع ولا تورث.
(ويشترط فيه) أربعة شروط:
(1/453)
الأول ـ (المنفعة) أي أن تكون العين ينتفع
بها (دائما مع معين) ، فلا يصح وقف شيء في الذمة كعبد ودار ولو وصفه
كالهبة، (ينتفع به مع بقاء عينه، كعقار وحيوان ونحوهما) من أثاث وسلاح. ولا
يصح وقف المنفعة كخدمة عبد موصى بها، ولا عين لا يصح بيعها كحر وأم ولد،
ولا ما لا ينتفع به مع بقائه كطعام لأكل، ويصح وقف المصحف والماء المشاع.
(و) الشرط الثاني ـ (أن يكون على بر) إذا كان على جهة عامة، لأن المقصود
منه
التقرب إلى الله تعالى، وإذا لم يكن على بر لم يحصل المقصود (كالمساجد
والقناطر والمساكين) والسقايات وكتب العلم، (والأقارب من مسلم وذمي) ، لأن
القريب الذمي موضع القرابة بدليل جواز الصدقة عليه، ووقفت صفية - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهَا - على أخ لها يهودي، فيصح الوقف على كافر معين (غير حربي)
ومرتد لانتفاء الدوام لأنهما مقتولان عن قرب، (و) غير (كنيسة) وبيعة وبيت
نار وصومعة فلا يصح الوقف عليها، لأنها بنيت للكفر، والمسلم والذمي في ذلك
سواء. (و) غير (نسخ التوراة والإنجيل وكتب زندقة) وبدع مضلة، فلا يصح الوقف
على ذلك لأنه إعانة على معصية، وقد «غضب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - حين رأى مع عمر شيئا استكتبه من التوراة وقال: أفي شك أنت يا
ابن الخطاب؟ ألم آت بها بيضاء نقية، ولو كان أخي موسى حيا ما وسعه إلا
اتباعي» ولا يصح أيضا على قطاع الطريق أو المغاني أو فقراء أهل الذمة، أو
التنوير على
(1/454)
قبر أو تبخيره أو على من يقيم عنده أو
يخدمه، ولا وقف ستور لغير الكعبة. (وكذا الوصية) فلا تصح على من لا يصح
الوقف عليه، (و) كذا (الوقف على نفسه) قال الإمام: لا أعرف الوقف إلا ما
أخرجه لله تعالى أو في سبيله، فإن وقفه عليه حتى يموت فلا يموت فلا أعرفه،
لأن الوقف إما تمليك للرقبة أو المنفعة، ولا يجوز له أن يملك نفسه من نفسه،
ويصرف في الحال لمن بعده كمنقطع الابتداء، فإن وقف على غيره واستثنى كل
الغلة أو بعضها أو الأكل منه مدة حياته أو مدة معلومة صح الوقف والشرط لشرط
عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أكل الوالي منها، وكان هو الوالي عليها
وفعله جماعة من الصحابة.
الشرط الثالث ـ ما أشار إليه بقوله: (ويشترط في غير) الوقف على (المسجد
ونحوه) كالرباط والقنطرة (أن يكون على معين يملك) ملكا ثابتا، لأن الوقف
تمليك، فلا يصح على مجهول كرجل ومسجد ولا على أحد هذين، ولا على عبد
ومكاتب، و (لا) على (ملك) وجني وميت (وحيوان وحمل) أصالة، ولا على من
سيولد. ويصح على ولده ومن يولد له ويدخل الحمل والمعدوم تبعا.
الشرط الرابع ـ أن يقف ناجزا فلا يصح مؤقتا ولا معلقا إلا بموت، وإذا شرط
أن يبيعه متى شاء أو يهبه أو يرجع فيه بطل الوقف والشرط، قاله في ((الشرح))
(لا قبوله) أي قبول الوقف، فلا يشترط ولو كان على معين، (ولا إخراجه عن
يده) لأنه إزالة ملك يمنع البيع
فلا يعتبر فيه ذلك كالعتق،
(1/455)
وإن وقف على عبده ثم المساكين صرف في الحال
لهم، وإن وقف على جهة تنقطع كأولاده ولم يذكر مآلا، أو قال: هذا وقف ولم
يعين جهة صح، وصرف بعد أولاده لورثة الواقف نسبا على قدر إرثهم وقفا عليهم،
لأن الوقف مصرفه البر وأقاربه أولى الناس ببره، فإن لم يكونوا فعلى
المساكين.
[فصل وجوب العمل بشرط الواقف]
فصل (ويجب العمل بشرط الواقف) لأن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وقف وقفا
وشرط فيه شروطا، ولو لم يجب اتباع شرطه لم يكن في اشتراطه فائدة (في جمع)
بأن يقف على أولاده وأولاد أولاده ونسله وعقبه، (وتقديم) بأن يقف على
أولاده مثلا يقدم الأفقه أو الأدين أو المريض ونحوه، (وضد ذلك) فضد الجمع
الإفراد، بأن يقف على ولده زيد ثم أولاده، وضد التقديم التأخير، بأن يقف
على ولد فلان بعد بني فلان. (واعتبار وصف وعدمه) بأن يقول: على أولادي
الفقهاء، فيختص بهم أو يطلق فيعمهم وغيرهم، (والترتيب) بأن يقول: على
أولادي ثم أولادهم ثم أولادهم. (ونظر) بأن يقول: الناظر فلان، فإن مات
ففلان، لأن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - جعل وقفه إلى حفصة تليه ما عاشت
ثم يليه ذو الرأي من أهلها؛ (وغير ذلك) كشرط أن لا يؤجر، أو قدر مدة
الإجارة أو أن لا ينزل فيه فاسق أو شرير أو متجوه ونحوه، وإن نزل مستحق
تنزيلا شرعيا لم يجز صرفه بلا موجب شرعي،
(1/456)
(فإن أطلق) في الموقوف عليه (ولم يشترط)
وصفا (استوى الغني والذكر، وضدهما) أي الفقير والأنثى لعدم ما يقتضي
التخصيص، (والنظر) فيما إذا لم يشرط النظر لأحد أو شرط لإنسان ومات
[فالنظر] (للموقوف عليه المعين) لأنه ملكه وغلته له، فإن كان واحدا استقل
به مطلقا، وإن كانوا جماعة فهو بينهم على قدر حصصهم، وإن كان صغيرا أو نحوه
قام وليه مقامه فيه، وإن كان الوقف على مسجد أو من لا يمكن حصرهم كالمساكين
فللحاكم، وله أن يستنيب فيه.
(وإن وقف على ولده) أو أولاده (أو ولد غيره ثم على المساكين فهو لولده)
الموجود حين الوقف (الذكور والإناث) والخناثى، لأن اللفظ يشملهم (بالسوية)
لأنه شرك بينهم وإطلاقها يقتضي التسوية، كما لو أقر لهم بشيء، ولا يدخل
فيهم الولد المنفي بلعان، لأنه لا يسمى ولده، (ثم) بعد أولاده لـ (ولد
بنيه) وإن سفلوا لأنه ولده ويستحقونه مرتبا، وجدوا حين الوقف أو لا، (دون)
ولد (بناته) فلا يدخل ولد البنات في الوقف على الأولاد إلا بنص أو قرينة
لعدم دخولهم في قَوْله تَعَالَى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ}
[النساء: 11] ،
(كما
لو قال: على ولد ولده وذريته لصلبه) أو عقبه أو نسله فيدخل ولد البنين
وجدوا حالة الوقف أو لا دون ولد البنات إلا بنص أو قرينة والعطف بـ ((ثم))
للترتيب، فلا يستحق البطن الثاني شيئا حتى ينقرض الأول، إلا أن يقول: من
مات عن ولد فنصيبه لولده، والعطف بالواو للتشريك،
(ولو قال: على بنيه أو بني فلان اختص بذكورهم) ، لأن لفظ البنين وضع لذلك
حقيقة. قال تعالى {أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ} [الطور: 39]
(إلا أن يكونوا قبيلة) كبني هاشم
(1/457)
وتميم وقضاعة، (فيدخل فيه النساء) لأن اسم
القبيلة يشمل ذكرها وأنثاها (دون أولادهن من غيرهم) ، لأنهم لا ينتسبون إلى
القبيلة الموقوف عليها،
(والقرابة) إذا وقف على قرابته قرابة زيد (وأهل بيته وقومه) ونسبائه، (يشمل
الذكر والأنثى من أولاده و) أولاد (أبيه و) أولاد (جده و) أولاد (جد أبيه)
فقط لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يجاوز بني هاشم
بسهم ذوي القربى، ولم يعط قرابة أمه وهم بنو زهرة شيئا، ويستوي فيه الذكر
والأنثى والكبير والصغير والقريب والبعيد والغني والفقير لشمول اللفظ لهم،
ولا يدخل فيهم من يخالف دينه. وإن وقف على ذوي رحمه شمل كل قرابة له من جهة
الآباء والأمهات والأولاد، لأن الرحم يشملهم، والموالي يتناول المولى من
فوق وأسفل.
(وإن وجدت قرينة تقتضي إرادة الإناث أو) تقتضي (حرمانهن عمل بها) أي
بالقرينة، لأن دلالتها كدلالة اللفظ.
(وإذا وقف على جماعة يمكن حصرهم) كأولاده أو أولاد زيد وليسوا قبيلة (وجب
تعميمهم والتساوي) بينهم، لأن اللفظ يقتضي ذلك وقد أمكن الوفاء به، فوجب
العمل بمقتضاه، فإن كان الوقف في ابتدائه على من يمكن استيعابه فصار مما لا
يمكن استيعابه كوقف علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وجب تعميم من أمكن منهم
والتساوي بينهم، (وإلا) : يمكن حصرهم واستيعابهم كبني هاشم وتميم لم يجب
تعميمهم لأنه غير ممكن. و (جاز التفضيل) لبعضهم على بعض، لأنه إذا جاز
حرمانه جاز تفضيل غيره عليه، (والاقتصار على أحدهم) لأن مقصود الواقف بر
ذلك الجنس وذلك يحصل بالدفع إلى واحد منهم، وإن وقف مدرسة أو رباطا أو
نحوهما على طائفة اختصت بهم، وإن عين إماما أو نحوه تعين، والوصية في ذلك
كالوقف.
(1/458)
[فصل الوقف عقد
لازم بمجرد القول]
فصل (والوقف عقد لازم) بمجرد القول وإن لم يحكم به حاكم، كالعتق لقوله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لا يباع أصلها
ولا يوهب ولا يورث» قال الترمذي: العمل على هذا الحديث عند أهل العلم، فـ
(لا يجوز فسخه) بإقالة ولا غيرها لأنه مؤبد،
(ولا يباع) ولا يناقل به (إلا أن تتعطل منافعه) بالكلية، كدار انهدمت أو
أرض خربت وعادت مواتا ولم تمكن عمارتها، فيباع لما روي أن عمر - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ - كتب إلى سعد لما بلغه أن بيت المال الذي بالكوفة نقب أن
انقل المسجد الذي بالتمارين واجعل بيت المال في قبلة المسجد، فإنه لن يزال
في المسجد مصلى، وكان هذا بمشهد من الصحابة ولم يظهر خلافه فكان كالإجماع.
ولو شرط الواقف أن لا يباع إذن ففاسد؛ (ويصرف ثمنه في مثله) لأنه أقرب إلى
غرض الواقف، فإن تعذر مثله ففي بعض مثله ويصير وقفا بمجرد الشراء، وكذا فرس
حبيس لا يصلح لغزو،
(ولو أنه) أي الوقف (مسجد) ولم ينتفع به في موضعه فيباع إذا خربت محلته
(وآلته) أي ويجوز بيع بعض آلته وصرفها في عمارته، (وما فضل عن حاجته) من
حصره وزيته ونفقته ونحوها (جاز صرفه إلى مسجد آخر) ، لأنه انتفاع به في جنس
ما وقف له، (والصدقة به على فقراء المسلمين) لأن شيبة بن عثمان الحجبي كان
يتصدق بخلقان الكعبة. وروى الخلال بإسناده أن عائشة أمرته بذلك، ولأنه مال
الله تعالى لم يبق له مصرف فصرف إلى المساكين، وفضل موقوف على معين
استحقاقه مقدر بتعين إرصاده؛ ونص فيمن وقف على قنطرة فانحرف الماء يرصد
لعله يرجع؛ وإن وقف على ثغر فاختل صرف في ثغر مثله؛ وعلى قياسه مسجد ورباط
ونحوهما.
(1/459)
ولا يجوز غرس شجرة ولا حفر بئر بالمسجد، وإذا غرس الناظر أو بنى في الوقف
من مال الوقف أو من ماله ونواه للوقف فللوقف، قال في ((الفروع)) : ويتوجه
في غرس أجنبي أنه للوقف بنيته. |