الشرح الكبير على متن المقنع

(باب استقبال القبلة) (وهو الشرط الخامس) لصحة الصلاة لقول الله تعالى (وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره)
أي نحوه، وقال علي رضي الله عنه شطره قبله، وروي عن البراء قال: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى نحو بيت المقدس ستة عشر شهراً ثم أنه وجه إلى الكعبة فمر رجل صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم على قوم من الأنصار فقال أن رسول اله صلى الله عليه وسلم قد وجه إلى الكعبة فانحرفوا إلى الكعبة.
أخرجه النسائي (مسألة) قال (إلا في حال العجز عنه.
والنافلة على الراحلة في السفر الطويل والقصير) وجملة ذلك أن الإستقبال يسقط في ثلاثة مواضع (أحدها) في حال العجز عنه لكونه مربوطاً إلى غير القبلة ونحوه فيصلي على حسب حاله لأنه شرط لصحة الصلاة عجز عنه أشبه القيام (الثاني) إذا إشتد الخوف

(1/482)


كحال التحام الحرب وسنذكره في موضعه إن شاء الله (الثالث) في النافلة على الراحلة ولا نعلم في إباحة التطوع على الراحلة إلى غير القبلة في السفر الطويل خلافا بين أهل العلم.
قال ابن عبد البر: أجمعوا على أنه جائز لكل من سافر سفراً تقصر فيه الصلاة أن يتطوع على دابته حيثما توجهت به يومئ بالركوع والسجود ويجعل السجود أخفض من الركوع، وهل السفر القصير حكم الطويل في ذلك؟ وهو قول الاوزاعي والشافعي وأصحاب الرأي، وقال مالك: لا يباح لأنه رخصة سفر فاختص بالطويل لا القصير ولنا قول الله تعالى (ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله) قال ابن عمر: نزلت هذه الآية في التطوع خاصة حيث توجه بك بعيرك، وعن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسبح على ظهر راحلته حيث كان وجه يومئ برأسه متفق عليه، وللبخاري إلا الفرائض، ولم يفرق بين قصير السفر وطويله ولأن إباحة التطوع على الراحلة تخفيف كيلا يؤدي الى تقليله وقطعه وهذا يستوي فيه الطويل والقصير.
والفطر والقصر تراعى فيه المشقة وإنما توجد غالباً في الطويل.
قال القاضي: الأحكام التي يستوي فيها السفر الطويل والقصير ثلاث: التيمم وأكل الميتة في المخمصة والتطوع على الراحلة وبقية الرخص تختص الطويل وهي القصر والجمع والمسح ثلاثاً (فصل) ويجعل سجوده أخفض من ركوعه.
قال جابر بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم في حاجة فجئت وهو يصلي على راحلته نحو المشرق والسجود أخفض من الركوع.
رواه أبو داود، ويصلي على البعير والحمار وغيرهما، قال ابن عمر: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي على حمار وهو متوجه إلى
خيبر، رواه أبو داود والنسائي، لكن إذا قلنا بنجاسة الحمار فلابد أن يكون تحته سترة طاهرة، فإن كان على الراحلة في مكان واسع كالمنفرد في العمارية يدور فيها كيف شاء ويتمكن من الصلاة إلى القبلة والركوع والسجود بالأرض لزمه ذلك كراكب السفينة وان قدر على الإستقبال دون الركوع والسجود لزمه الإستقبال وأومأ بهما نص عليه.
وقال أبو الحسن الآمدي: يحتمل أن لا يلزمه شئ من ذلك كغيره لأن الرخصة العامة يسوى فيها من وجدت فيه المشقة وغيره كالقصر والجمع، وإن عجز عن ذلك سقط بغير خلاف (فصل) وقبلة هذا المصلي حيث كانت وجهته فإن عدل عنها إلى جهة الكعبة جاز لأنها الأصل وإنما سقط للعذر، وإن عدل إلى غيرها عمداً فسدت صلاته لأنه ترك قبلته عمداً، وإن كان مغلوباً أو نائماً أو ظناً منه أنها جهة سيره فهو على صلاته ويرجع إلى جهة سيره إذا أمكنه فإن تمادى به ذلك

(1/483)


بعد زوال عذره فسدت صلاته لتركه الإستقبال عمداً.
ولا فرق بين جميع التطوعات في هذه النوافل المطلقة والسنن الرواتب والوتر وسجود التلاوة، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يوتر على بعيره متفق عليه (مسألة) (وهل يجوز ذلك للماشي؟) على روايتين (إحداهما) لا يجوز وهو ظاهر كلام الخرقي ومذهب أبي حنيفة لعموم قوله تعالى (وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره) والنص إنما ورد في الراكب فلا يصح قياس الماشي عليه لأنه يحتاج إلى عمل كثير ومشي متتابع ينافي الصلاة فلم يصح الإلحاق (والثانية) يجوز ذلك للماشي نقلها عنه المثنى بن جامع واختاره القاضي، فعلى هذا يستقبل القبلة لإفتتاح الصلاة ثم ينحرف إلى جهة سيره ويقرأ وهو ماش ويركع ثم يسجد بالأرض، وهذا قول عطاء والشافعي لأن الركوع والسجود ممكن من غير إنقطاعه عن جهة سيره فلزمه كالواقف.
وقال الآمدي: يومئ بالركوع والسجود كالراكب قياساً عليه.
ووجه هذه الرواية إن الصلاة أبيحت للراكب كيلا ينقطع عن القافلة في السفر وهو موجود في الماشي ولأنها إحدى حالتي السفر أشبه الراكب (فصل) وإذا دخل المصلي بلداً ناوياً للإقامة فيه لم يصل بعد دخوله إليه إلا صلاة المقيم.
وإن كان مجتازاً غير ناو للإقامة أو نوى الإقامة مدة لا يلزمه فيها إتمام الصلاة إستدام الصلاة مادام سائراً فإذا
نزل فيه صلى إلى القبلة وبنى على ما مضى من صلاته كالخائف إذا أمن في أثناء صلاته.
ولو ابتدأها وهو نازل إلى القبلة ثم أراد الركوب أتم صلاته ثم يركب وقيل يركب في الصلاة ويتمها إلى جهة سيره، كالآمن إذا خاف في صلاته والأولى أولى، والفرق بينهما أن حالة الخوف حالة ضرورة أبيح فيها ما يحتاج إليه من العمل وهذه رخصة من غير ضرورة فلا يباح فيها غير ما نقل ولم يرد بإباحة الركوب الذي يحتاج الى عمل وتوجه إلى غير جهة القبلة ولا جهة سيره سنة فيبقى على الأصل والله سبحانه وتعالى أعلم (مسألة) (فإن أمكنه إفتتاح الصلاة إلى القبلة فهل يلزمه ذلك؟ على روايتين) متى عجز عن إستقبال القبلة في إبتداء صلاته كراكب راحلة لا تطيعه أو جمل مقطور لم يلزمه لأنه عاجز عنه أشبه الخائف إذا عجز عن ذلك، وقال القاضي يحتمل أن يلزمه، وإن أمكنه ذلك كراكب راحلة منفردة تطيعه فهل يلزمه إفتتاح الصلاة إلى القبلة؟ على روايتين (إحداهما) يلزمه لما روي أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا سافر فأراد أن يتطوع استقبل بناقته القبلة فكبر ثم صلى حيث كان وجهة ركابه، رواه الإمام أحمد وأبو داود، ولأنه أمكنه إبتداء الصلاة إلى القبلة فلزمه كالصلاة كلها وهذا اختيار الخرقي (والثانية) لا يلزمه لحديث ابن عمر اختاره أبو بكر ولأنه جزء من أجزاء الصلاة أشبه بقية أجزائها ولأن ذلك لا يخلو من مشقة فسقط، وخبر النبي صلى الله عليه وسلم يحمل على

(1/484)


الفضيلة والندب والله أعلم.
(مسألة) (والفرض في القبلة أصابة العين لمن قرب منها وأصابة الجهة لمن بعد عنها) الناس في القبلة على ضربين (أحدهما) يلزمه إصابة عين الكعبة وهو من كان معايناً لها ومن كان يمكنه من أهلها أو نشأ فيها أو أكثر مقامه فيها أو كان قريباً منها من وراء حائل يحدث كالحيطان والبيوت ففرضه التوجه إلى عين الكعبة وهكذا إن كان بمسجد النبي صلى الله عليه وسلم لأنه متيقن صحة قبلته فإن النبي صلى الله عليه وسلم لا يقر على الخطأ، وقد روى أسامة أن النبي صلى الله عليه وسلم ركع ركعتين قبل القبلة وقال " هذه القبلة " كذلك ذكره أصحابنا، وفي ذلك نظر لأن صلاة الصف المستطيل في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم صحيحة مع خروج بعضهم عن إستقبال عين الكعبة لكن الصف
أطول منها.
وقولهم أنه عليه السلام لا يقر على الخطأ صحيح لكن إنما الواجب عليه استقبال الجهة وقد فعله وهذا الجواب عن الخبر المذكور، وإن كان أعمى من أهل مكة أو كان غريباً وهو غائب عن الكعبة ففرضه الخبر عن يقين أو مشاهدة مثل أن يكون من وراء حائل وعلى الحائل من يخبره أو أخبره أهل الدار أنه متوجه إلى عين الكعبة فلزمه الرجوع إلى قولهم وليس له الإجتهاد كالحاكم إذا وجد النص، قال ابن عقيل: لو خرج ببعض بدنه عن مسامته الكعبة لم تصح صلاته (الثاني) من فرضه إصابة الجهة وهو البعيد عن الكعبة فليس عليه إصابة العين، قال احمد: ما بين المشرق والمغرب قبلة فإن إنحرف عن القبلة قليلاً لم يعد ولكن يتحرى الوسط وهذا قول أبي حنيفة وأحد قولي الشافعي وقال في الآخر: تلزمه إصابة العين لقول الله (وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره) وقياساً على القريب وقد روى ذلك عن أحمد وهو اختيار أبي الخطاب ولنا قوله عليه السلام " ما بين المشرق والمغرب قبلة " رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح ولأنا أجمعنا على صحة صلاة الإثنين المتباعدين يستقبلان قبلة واحدة وعلى صحة صلاة الصف الطويل على خط مستو لا يمكن أن يصيب عين الكعبة إلا من كان بقدرها فإن قيل مع البعد يتسع المحاذي قلنا إنما يتسع مع التقوس وأما مع عدمه فلا (1) والله أعلم (مسألة) (فإن أمكنه ذلك بخبر ثقة عن يقين أو استدلال بمحاريب المسلمين لزمه العمل به وإن وجد محاريب لا يعلم هل هي للمسلمين أو لا لم يلتفت إليها) متى أخبره ثقة عن يقين لزمه قبول خبره لما ذكرنا، وإن كان في مصر أو قرية من قرى المسلمين ففرضه التوجه إلى محاريبهم لأن هذه القبلة ينصبها أهل الخبرة والمعرفة فجرى ذلك مجرى الخبر فأغنى عن الإجتهاد، وإن أخبره مخبر من
__________
1) قال هذا تبعا للمغني وفي اطلاقه والحق القول بالاتساع والتقوس في حال البعد هو الذي يقتضي الخروج عن المحاذاة

(1/485)


أهل المعرفة بالقبلة من أهل البلد أو من غيره صار إلى خبره وليس له الإجتهاد كالحاكم يقبل النص من الثقة ولا يجتهد.
ويحتمل أنه إنما يلزمه الرجوع إلى الخبر وإلى المحاريب في حق القريب الذي يخبر
عن التوجه إلى عين الكعبة، أما في حق من يلزمه قصد الجهة فإن كان أعمى أو من فرضه التقليد لزمه الرجوع إلى ذلك وإن كان مجتهداً جاز له الرجوع لما ذكرنا كما يجوز له الرجوع في الوقت إلى قول المؤذن ولا يلزمه ذلك بل يجوز له الإجتهاد إن شاء إذا كانت الأدلة على القبلة ظاهرة لأن المخبر والذي نصب المحاريب إنما يبني على الأدلة وقد ذكر ابن الزاغوني في كتاب الإقناع قال: إذا دخل رجل إلى مسجد قديم مشهور في بلد معروف كبغداد فهل يلزمه الإجتهاد أم يجزئه التوجه إلى القبلة؟ فيه روايتان عن أحمد (إحداهما) يلزمه الإجتهاد لأن المجتهد لا يجوز له أن يقلد في مسائل الفقه (والثانية) لا يلزمه لأن إتفاقهم عليها مع تكرر الإعصار إجماع عليها ولا يجوز مخالفتها بإجتهاده.
فإذا قلنا يجب الإجتهاد في سائر البلاد ففي مدينة النبي صلى الله عليه وسلم روايتان (إحداهما) يتوجه إليها بلا إجتهاد لأنه عليه الصلاة والسلام لا يداوم عليها إلا وهي مقطوع بصحتها فهو كما لو كان مشاهداً للبيت (والثانية) هي كسائر البلاد يلزمه الإجتهاد فيها لأنها نازحة عن مكة فهي كغيرها (فصل) ولا يجوز الإستدلال بمحاريب الكفار لأن قولهم لا يجوز الرجوع إليه فمحاريهم أولى إلا أن تعلم قبلتهم كالنصارى فإذا رأى محاريبهم في كنائسهم على أنها مستقبلة المشرق فإن وجد محاريب لا يعلم هل هي للمسلمين أو الكفار لم يجز الاستدلالل بها لكونها لا دلالة فيها، وكذلك لو رأى على المحراب آثار الإسلام لجواز أن يكون الباني مشركاً عمله ليغر به المسلمين إلا أن يكون مما لا يتطرق إليه هذا الإحتمال ويحصل له العلم أنه محاريب المسلمين فيستقبله.
(فصل) وإذا صلى على موضع عال يخرج عن مسامته الكعبة أو في مكان ينزل عن مسامتتها صحت صلاته لأن الواجب إستقبالها وما حاذاها من فوقها وتحتها لانها زالت صحت الصلاة إلى موضع جدارها والله أعلم (مسألة) (وإن إشتبهت عليه في السفر إجتهد في طلبها بالدلائل وأثبتها بالقطب إذا جعله وراء ظهره كان مستقبلاً الكعبة) (1) متى اشتبهت القبلة في السفر وكان مجتهداً وجب عليه الإجتهاد في طلبها بالأدلة لأن ما وجب عليه إتباعه عند وجوده وجب الإستدلال عليه عند خفائه كالحكم في الحادثة.
والمجتهد هو العالم بأدلة القبلة وإن جهل أحكام الشرع لأن كل من علم أدلة شئ كان مجتهداً فيه لأنه
__________
1) أي في المدينة المنورة وسورية وامثالهما من البلاد الشمالية كما سيأتي

(1/486)


يتمكن من إستقبالها بدليله والجاهل الذي لا يعرف أدلة القبلة وإن كان فقيهاً وكذلك الأعمى فهذان فرضهما التقليد، وأوثق أدلتها النجوم قال الله تعالى (وبالنجم هم يهتدون) وقال (لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر) وآكدها القطب وهو نجم خفي شمالي حوله أنجم دائرة في أحد طرفيها الجدي وفي الآخر الفرقدان وبين ذلك ثلاثة أنجم من فوق وثلاثة من أسفل تدور هذه الفراشة حول القطب كدوران الرحا حول سفودها في كل يوم وليلة دورة وقريب منها بنات نعش مما يلي الفرقدين تدور حولها والقطب لا يتغير من مكانه في جميع الأزمان وقيل أنه يتغير تغيراً يسيراً لا يؤثر وهو خفي يظهر لحديد النظر في غير ليالي القمر متى استدبرته في الأرض الشامية كنت مستقبلاً للكعبة، وقيل أنه ينحرف في دمشق وما قاربها إلى المشرق قليلاً وكلما قرب إلى المغرب كان إنحرافه أكثر.
وإن كان بحران أو قريباً منها جعل القطب خلف ظهره معتدلاً، وإن كان بالعراق جعل القطب حذاء أذنه اليمنى (1) على علوها ومتى استدبر الفرقدين والجدي في حال علو أحدهما ونزول الآخر على الإعتدال فهو كاستدبار القطب وإن استدبره في غير هذه الحال كان مستقبلاً للجهة فإن استدبر الغربي كان منحرفاً إلى الشرق وبالعكس وإن استدبر بنات نعش فكذلك إلا أن انحرافه أكثر (فصل) والشمس والقمر ومنازلهما وهي ثمانية وعشرون منزلاً، الشرطان، والبطين، والثريا والدبران، والهقعة، والهنعة، والذراع، والنثرة، والطرف، والجبهة، والزبرة، والصدفة، والعواء والسماك، والغفر، والزبانا، والإكليل، والقلب، والشولة، والنعائم، والبلدة، وسعد الذابح، وسعد بلع، وسعد السعود، وسعد الأخبية، والفرع المقدم، والفرع المؤخر، وبطن الحوت، منها أربعة عشر شامية تطلع من وسط المشرق مائلة إلى الشمال قليلاً أولها الشرطان وآخرها السماك، والباقي يمانية تطلع من المشرق مائلة إلى التيامن، أولها الغفر وآخرها بطن الحوت، وينزل القمر كل ليلة بمنزل أو قريبا منه، ثم ينتقل الليلة الثانية الى الذي يليه.
والشمس تنزل بكل منزل منها ثلاثة عشر يوماً فيكون عودها إلى المنزل الذي نزلت به عند تمام سنة شمسية.
وهذه المنازل يكون منها فيما بين طلوع الشمس وغروبها أربعة عشر منزلاً ومثلها من غروبها إلى طلوع وقت الفجر، منها منزلان
وقت المغرب منزل وهو نصف سدس سواد الليل، وكلها تطلع من المشرق عن يسرة المصلي وتغرب
__________
1) وفي مصر بالعكس

(1/487)


عن يمينه في المغرب إلا أن أوائل الشامية وأواخر اليمانية وأول اليمانية وآخر الشامية تطلع من وسط المشرق أو قريبا منه بحيث إذا جعل الطالع منها محاذياً لكتفه الأيسر كان مستقبلاً للكعبة.
والمتوسط من الشامية وهو الذراع وما يليه من الجانبين مطلعه إلى ناحية الشمال، والمتوسط من اليمانية كالبلدة وما هو من جانبها يميل مطلعه إلى التيامن، فاليماني منها يجعله أمام كتفه اليسرى، والشامي يجعله خلف كتفه، وكذلك الغارب عند الكتف الأيمن، وإن عرف المتوسط منها بأن يرى بينه وبين أفق السماء سبعة من الجانبين.
ولكل نجم من هذه المنازل نجوم تقاربه وتقارنه حكمها حكمه ويستدل بها عليه كالنسرين والشعريين والسماك الرامح وغير ذلك، وسهيل نجم كبير يطلع نحواً من مهب الجنوب ثم يسير حتى يصير في قبلة المصلي ويتجاوزها ثم يغرب قريباً من مهب الدبور، والناقة تطلع في المحرم من مهب الصبا وتغيب في مهب الشمال (فصل) والشمس تختلف مطالعها ومغاربها على حسب إختلاف منازلها، تطلع من المشرق وتغرب في المغرب، والقمر يبدأ أول ليلة في المغرب ثم يتأخر كل ليلة منزلاً حتى يكون في السابع وقت المغرب في قبلة المصلي مائلاً عنها قليلاً إلى الغرب.
ثم يطلع ليلة الرابعة عشرة من المشرق وليلة إحدى وعشرين يكون في قبلة المصلي أو قريباً منها وقت الفجر وتختلف مطالعه بإختلاف منازله (مسألة) والرياح الجنوب تهب مستقبلة لبطن كتف المصلي اليسرى مارة إلى يمينه من الزاوية التي بين القبلة والمشرق والشمال مقابلتها تهب إلى مهب الجنوب، والدبور تهب من الزاوية التي بين القبلة والمغرب مستقبلة شطر وجه المصلي الأيمن.
والصبا مقابلتها تهب إلى مهبها، فهذه الرياح التي يستدل بها وتعرف بصفاتها وخصائصها وربما هبت هذه الرياح بين الحيطان والجبال فتدور فلا إعتبار بها، وبين كل ريحين منها ريح تسمى النكباء لتنكبها طريق الرياح المعروفة، فهذا أصح ما يستدل به على القبلة، وقد يهتدي أهل كل بلد على القبلة بأدلة تختص بها من جبالها وأنهارها وغير
ذلك، وذكر أصحابنا الاستدلال بالانهار الكبار وقالوا: كلها تجري عن يمنة المصلي إلى يسرته على إنحراف قليل كدجلة والفرات والنهروان، ولا إعتبار بالأنهار الصغار ولا المحدثة لأنها بحسب الحاجات ما خلا نهرين (أحدهما) العاصي بالشام (والآخر) سيحون بالمشرق، قال شيخنا: وهذا لا ينضبط

(1/488)


فإن الأردن بالشام نحو القبلة وكثير منها يجري نحو البحر يصب فيه والله أعلم (فصل) فإن خفيت الأدلة على المجتهد لغيم أو ظلمة تحرى وصلى وصحت صلاته لأنه بذل وسعه في معرفة الحق مع علمه بأدلته، أشبه الحاكم إذا خفيت عليه النصوص.
وقد روى عبد الله بن عامر ابن ربيعة عن أبيه قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر في ليلة مظلمة فلم ندر أين القبلة فصلى كل رجل منا حياله فلما أصبحنا ذكرنا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فنزل (فأينما تولوا فثم وجه الله) رواه ابن ماجه والترمذي وقال حديث حسن إلا أنه من حديث أشعث السمان وفيه ضعف (مسألة) (وإذا إختلف إجتهاد رجلين لم يتبع أحدهما صاحبه ويتبع الجاهل والأعمى أوثقهما في نفسه) متى إختلف مجتهدان ففرض كل واحد منهما الصلاة إلى الجهة التي يؤديه إليها إجتهاده فلا يسعه تركها ولا تقليد صاحبه وإن كان أعلم منه كالعالمين يختلفان في الحادثة فإن اجتهد أحدهما دون الآخر لم يجز له تقليد من إجتهد حتى يجتهد بنفسه وإن ضاق الوقت كالحاكم لا يسعه تقليد غيره وقال القاضي: ظاهر كلام أحمد في المجتهد انه يسعه تقليد غيره إذا ضاق الوقت عن إجتهاده قال لأن أحمد قال فيمن هو في مدينة فتحرى فصلى لغير القبلة في بيت يعيد لأن عليه أن يسأل.
قال شيخنا: وما استدل به لا دليل فيه وكلام أحمد إنما دل على أنه ليس لمن في المصر الإجتهاد لأنه يمكنه التوصل إلى معرفة القبلة بالخبر وكذلك لم يفرق بين ضيق الوقت وسعته مع الاتفاق على أنه لا يجوز التقليد مع سعة الوقت (فصل) ومتى إختلف إجتهادهما لم يجز لأحدهما أن يؤم صاحبه لأن كل واحد منهما يعتقد خطأ الآخر فلم يجز له الإئتمام به كما لو خرجت من أحدهما ربح واعتقد كل واحد منهما أنها من الآخر.
قال شيخنا: وقياس المذهب جواز ذلك، وهو مذهب أبي ثور، لأن كل واحد منهما يعتقد صحة صلاة
الآخر وإن فرضه التوجه إلى ما توجه اليه فلم يمنع الإقتداء به إختلاف الجهة كالمصلين حول الكعبة وقد نص أحمد على صحة الصلاة خلف المصلي في جلود الثعالب إذا كان يعتقد صحة الصلاة فيها وفارق ما إذا إعتقد كل واحد منهما حدث صاحبه لأنه يعتقد بطلان صلاته بحيث لو بان له يقيناً حدث نفسه أعاد الصلاة بخلاف هذا، وهذا هو الصحيح إن شاء الله تعالى.
فأما إن مال أحدهما يميناً والآخر شمالاً مع إتفاقهما في الجهة فلا يختلف المذهب في صحة ائتمام أحدهما بالآخر لاتفاقهما في

(1/489)


الجهة الواجب استقبالها (فصل) (ويتبع الجاهل والاعمى أو ثقهما في نفسه) متى إختلف مجتهدان وكان معهما أعمى أو جاهل لا يقدر على تعلم الأدلة قبل خروج الوقت ففرضه تقليد أوثقهما في نفسه وأعلمهما وأكثرهما تحرياً لأن الصواب إليه أقرب.
فإن قلد المفضول فظاهر كلامه ههنا أنه لا تصح صلاته لأنه ترك ما يغلب على ظنه أنه الصواب فلم يجز له ذلك كالمجتهد يترك إجتهاده.
والأولى صحتها وهو مذهب الشافعي لأنه أخذ بدليل له الأخذ به لو انفرد فكذلك إذا كان معه غيره كما لو استويا ولا عبرة بظنه فإنه لو غلب على ظنه إصابة المفضول لم يمنع ذلك تقليد الأفضل، فإن استويا قلد من شاء منهما كالعامي مع العلماء في بقية الأحكام (فصل) والمقلد من لا تمكنه الضلاة باجتهاد نفسه، إما لعدم بصره أو بصيرته بحيث لا يمكنه التعلم قبل خروج وقت الصلاة فإن أمكنه التعلم قبل خروج الوقت لزمه، فإن صلى قبل ذلك لم تصح لأنه قدر على الصلاة باجتهاده فلم يجز له التقليد كالمجتهد، ولا يلزم هذا على العامي حيث لم يلزمه تعلم الفقه لوجهين (أحدهما) أن الفقه ليس شرطاً لصحة الصلاة (الثاني) أنه يشق ومدته تطول فإن أخر هذا التعلم والصلاة حتى ضاق الوقت عن التعلم والإجتهاد أو عن أحدهما أحدهما صحت صلاته بالتقليد كالذي يقدر على تعلم الفاتحة فيضيق الوقت عن تعلمها.
وإن كان بالمجتهد ما يمنعه رؤية الأدلة كالرمد والمحبوس في مكان لا يرى فيه الأدلة ولا يجد مخبراً إلا مجتهداً فهو كالأعمى في جواز تقليده (فصل) فإذا شرع في الصلاة بتقليد مجتهد فقال له قائل قد أخطأت القبلة وكان يخبر عن يقين
كمن يقول قد رأيت الشمس ونحوها وتيقنت خطأك لزمه الرجوع إلى قوله لأنه لو أخبر بذلك المجتهد الذي قلده الأعمى لزمه قبول خبره فالأعمى أولى.
وإن أخبره عن إجتهاده أو لم يبين له ولم يكن في نفسه أوثق من الأول مضى على ما هو عليه لأنه شرع في الصلاة بدليل يقيني فلا يزول عنه بالشك وإن كان أوثق من الأول في نفسه وقلنا لا يلزمه تقليد الأفضل فكذلك والارجع إلى قوله كالمجتهد إذا

(1/490)


تغير اجتهاده في أثناء صلاته.
(فصل) ولو شرع مجتهد في الصلاة بإجتهاده فعمي فيها بنى على ما مضى من صلاته لأنه يمكنه البناء على إجتهاد غيره فاجتهاد نفسه أولى فإن استدار عن تلك الجهة بطلت صلاته وإن أخبره مخبر يخطئه عن يقين رجع إليه وإن كان عن إجتهاده لم يرجع إليه لما ذكرنا، وإن شرع فيها وهو أعمى فأبصر في أثنائها فشاهد ما يستدل به على صواب نفسه من العلامات مضى عليه لأن الاجتهادين قد إتفقا وإن بان له خطؤه استدار إلى الجهة التي أداه اجتهاده إليها وبنى كالمجتهد إذا تغير اجتهاده في أثناء الصلاة وإن لم يتبين له صواب ولا خطأ بطلت صلاته واجتهد لأن فرضه الإجتهاد فلم يجز له أداء فرضه بالتقليد كما لو كان بصيراً في ابتدائها وإن كان مقلداً مضى في صلاته لأنه ليس في وسعه إلا الدليل الذي بدأ به فيها (مسألة) (وإذا صلى البصير في حضر فأخطأ أو صلى الأعمى بلا دليل أعاد) متى صلى البصير في الحضر ثم بان له الخطأ أعاد سواء صلى باجتهاده أو غيره لأن الحضر ليس بمحل للإجتهاد لقدرة من فيه على الاستدلال بالمحاريب ونحوها ولأنه يجد من يخبره عن يقين غالباً فلم يكن له الإجتهاد كواجد النص في سائر الأحكام، وإن صلى من غير دليل أخطأ لتفريطه وإن أخبره مخبر فأخطأ فقد تبين أن خبره ليس بدليل، فإن كان محبوساً لا يجد من يخبره فقال أبو الحسن التميمي يصلي بالتحري ولا يعيد لأنه عاجز عن الاستدلال بالخبر والمحاريب أشبه المسافر، وأما الأعمى فهو في الحضر كالبصير لقدرته على الاستدلال بالخبر والمحاريب فإنه يعرف باللمس وكذلك يعلم أن باب المسجد إلى الشمال أو غيرها فيمكنه الاستدلال به فمتى أخطأ أعاد وكذلك حكم المقلد في هذا (مسألة) (فإن لم يجد الأعمى من يقلده صلى وفي الإعادة روايتان) وقال ابن حامد أن أخطأ
أعاد وإن أصاب فعلى وجهين وإذا كان الأعمى والمقلد في السفر ولم يجد مخبراً ولا مجتهداً يقلده فقال

(1/491)


أبو بكر يصلي على حسب حاله وفي الإعادة روايتان (إحداهما) يعيد بكل حال وهو ظاهر كلام الخرقي لأنه صلى بغير دليل فلزمته الإعادة وإن أصاب كالمجتهد إذا صلى بغير إجتهاد (والثانية) الإعادة عليه لأنه أتى بما أمر به أشبه المجتهد ولأنه عاجز عن غير ما أتى به فسقط عنه كسائر العاجزين عن الإستقبال ولأنه عادم للدليل أشبه المجتهد في الغيم، وقال ابن حامد أن أخطأ أعاد لفوات الشرط وإن أصاب فعلى وجهين وجههما كما ذكرنا.
وقد ذكرنا أن هذا حكم المقلد فأما إن وجد من يخبره أو يقلده فلم يفعل أو خالف المخبر أو المجتهد وصلى بطلت صلاته بكل حال وكذلك المجتهد إذا صلى من غير إجتهاد وأداه إجتهاده إلى جهة فخالفها لأنه ترك ما أمر به أشبه التارك التوجه إلى الكعبة مع علمه بها (مسألة) (ومن صلى بالاجتهاد إلى جهة ثم علم أنه أخطأ القبلة فلا إعادة عليه) وكذلك حكم المقلد الذي صلى بتقليده، وبه قال مالك وأبو حنيفة والشافعي في أحد قوليه، وقال في الآخر تلزمه الإعادة لأنه أخطأ في شرط من شروط الصلاة فلزمته الإعادة كما لو صلى ثم بان أنه أخطأ في الوقت أو بغير طهارة ولنا حديث عامر بن ربيعة الذي ذكرناه ولأنه أتى بما أمر فخرج عن العهدة كالمصيب ولأنه صلى إلى غير الكعبة للعذر أشبه الخائف ولأنه شرط عجز عنه أشبه سائر الشروط، وأما المصلي قبل الوقت فإنه لم يأت بما أمره به إنما أمر بالصلاة في الوقت بخلاف مسئلتنا فإنه مأمور بالصلاة بغير شك ولم يؤمر إلا بهذه الصلاة لأن غيرها محرمة عليه إجماعاً وسائر الشروط إذا عجز عنها سقطت كذاههنا، ولا فرق بين كون الأدلة ظاهرة فاشتبهت عليه أو مستورة بغيم أو ما يسترها عنه لما ذكرنا من الحديث فإن الأدلة استترت عنهم بالغيم ولأنه أتى بما أمر في الحالين وعجز عن إستقبال القبلة في الموضعين فاستويا في عدم الإعادة (فصل) وإن بان له يقين الخطأ وهو في الصلاة استدار إلى جهة الكعبة وبنى على ما مضى من

(1/492)


صلاته لأن ما مضى منها كان صحيحاً فجاز البناء عليه كما لو لم يبن له الخطأ.
وإن كانوا جماعة قد قدموا أحدهم ثم بان
لهم الخطأ في حال واحدة استداروا إلى الجهة التي بان لهم فيها الصواب لأن أهل قباء بان لهم تحويل القبلة وهم في الصلاة واستداروا إلى جهة الكعبة وأتموا صلاتهم، وإن بان للإمام وحده أو للمأمومين أو لبعضهم استدار من بان له الصواب ونوى بعضهم مفارقة بعض إلا على الوجه الذي قلنا أن لبعضهم الائتمام ببعض مع إختلاف الجهة، وإن كان فيهم مقلد تبع من قلده وانحرف بإنحرافه وإن قلد الجميع لم ينحرف إلا بإنحراف الجميع لأنه شرع بدليل يقيني فلا ينحرف بالشك إلا من يلزمه تقليد الأوثق فإنه ينحرف بإنحرافه (مسالة) (فإن أراد صلاة أخرى اجتهد لها فإن تغير إجتهاده عمل بالثاني ولم يعد ما صلى بالأول) وجملته أن المجتهد متى صلى بالاجتهاد إلى جهة صلاة ثم أراد صلاة أخرى اجتهد لها كالحاكم إذا إجتهد في حادثة ثم حدث مثلها وهذا مذهب الشافعي، فإن تغير إجتهاده عمل بالثاني ولم يعد ما صلى بالأول كالحاكم لو تغير اجتهاده في الحادثة الثانية عمل به ولم ينقض حكمه الأول وهذا لا نعلم فيه خلافاً، فإن تغير اجتهاده في الصلاة استدار وبنى على ما مضى.
نص عليه أحمد، وقال ابن أبي موسى والآمدي لا ينتقل لئلا ينقض الإجتهاد بالإجتهاد ولنا أنه مجتهد أداه اجتهاده إلى جهة فلم تجز له الصلاة إلى غيرها كما لو أراد صلاة أخرى وليس هذا نقضاً للإجتهاد إنما عمل به في المستقبل كما في الصلاة الأخرى.
وإنما يكون نقضاً للإجتهاد إذا ألزمناه اعادة ما مضى من صلاته، فإن لم يبق إجتهاده وظنه إلى الجهة الأولى ولم يؤده إجتهاده إلى جهة أخرى بنى على ما مضى لأنه لم يظهر له جهة أخرى يتوجه إليها.
وإن شك في إجتهاده لم يزل على جهته لأن الإجتهاد ظاهر فلا يزول عنه بالشك، وإن بان له الخطأ ولم يعرف جهة القبلة كمن كان يصلي إلى جهة فرأى بعض منازل القمر في قبلته ولم يدر أهو في الشرق أم في الغرب واحتاج إلى الإجتهاد بطلت صلاته لأنه لا يمكنه استدامتها إلى غير القبلة وليست له جهة يتوجه إليها فبطلت لتعذر إتمامها والله أعلم