الشرح الكبير على متن المقنع

{باب القرض} وهو نوع من السلف وهو جائز بالسنة والإجماع، أما السنة فروى أبو رافع أن النبي صلى الله عليه وسلم استسلف من رجل بكرا فقدمت على النبي صلى الله ليه وسلم إبل الصدقة فأمر أبا رافع أن يقضي الرجل بكره فرجع إليه أبو رافع فقال يا رسول الله لم أجد فيها إلا خياراً رباعياً، فقال " أعطه فإن خير الناس أحسنهم قضاء " رواه مسلم، وعن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " ما من مسلم يقرض مسلماً قرضاً مرتين إلا كان كصدقة مرة " وعن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " رأيت ليلة أسري بي على باب الجنة مكتوباً الصدقة بعشر أمثالها، والقرض بثمانية عشر فقلت يا جبريل ما بال القرض أفضل

(4/352)


من الصدقة؟ قال " لأن السائل يسأل وعنده والمستقرض لا يستقرض إلا من حاجة " رواهما ابن ماجة وأجمع المسلمون على جواز القرض {مسألة} (وهو من المرافق المندوب إليها في حق المقرض) لما روينا من الأحاديث ولما روي عن أبي الدرداء أنه قال: لأن أقرض دينارين ثم يردان ثم أقرضهما أحب إلي من أن أتصدق بهما.
ولأن فيه تفريجاً عن أخيه المسلم وقضاء لحاجته فكان مندوباً إليه كالصدقة وليس بواجب قال أحمد لا أثم على من سئل فلم يقرض وذلك لأنه من المعروف أشبه صدقة التطوع وهو مباح للمقترض وليس مكروهاً.
قال أحمد ليس القرض من المسألة يريد أنه لا يكره لأن
النبي صلى الله عليه وسلم كان يستقرض وقد ذكرنا حديث أبي رافع ولو كان مكروهاً كان أبعد الناس منه، قال ابن أبي موسى لا أحب أن يتحمل بأمانته ما ليس عنده يريد ما لا يقدر على وفائه، ومن أراد أن يستقرض فليعلم المقرض بحاله ولا يغره من نفسه إلا الشئ اليسير الذي لا يتعذر مثله، وقال أحمد إذا اقترض لغيره ولم يعلمه بحاله لم يعجبني وقال ما أحب أن يقترض بجاهه لاخوانه، قال القاضي إذا كان من يقترض له غيره معروف بالوفاء لكونه تغريرا بمال المقرض واضراراً به، وأما إذا كان معروفاً بالوفاء لم يكره لكونه اعانة له وتفريجاً لكربته (فصل) ولا يصح إلا من جائز التصرف كالبيع وحكمه في الإيجاب والقبول على ما مضى ويصح بلفظ السلم والقرض لورود الشرع بهما وبكل لفظ يؤدي معناهما نحو قوله ملكتك هذا على أن ترد

(4/353)


علي بدله أو توجد قرينة دالة على إرادته وإن لم يذكر البدل ولم توجد قرينة فهو هبة.
فإن اختلفا فالقول قول الموهوب له لأن الظاهر معه لأن التمليك من غير عوض هبة ولا يثبت فيه خيار لأن المقرض دخل على بصيرة أن الحظ لغيره والمقترض متى شاء رده وذلك يغنيه عن ثبوت الخيار {مسألة} (ويصح في كل عين يجوز بيعها إلا بني آدم والجواهر ونحوهما مما لا يصح السلم فيه في أحد الوجهين فيهما) يجوز قرض المكيل والموزون بغير خلاف، قال إبن المنذر أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن استقراض ماله مثل من المكيل الموزون والأطعمة جائز، ويجوز قرض كل ما يثبت في الذمة

(4/354)


سلما غير بني آدم، وبه قال الشافعي، وقال أبو حنيفة لا يجوز قرض المكيل والموزون لأنه لا مثل له أشبه الجواهر.
ولنا أن النبي صلى الله عليه وسلم استسلف بكراً وليس بمكيل ولا موزون، ولأن ما يثبت سلما يملك بالبيع ويضبط بالوصف فجاز قرضه كالمكيل والموزون، وقولهم لا مثل له خلاف أصلهم فإن عند أبي حنيفة لو أتلف ثوباً ثبت في ذمته مثله ويجوز الصلح عنه بأكثر من قيمته، فأما مالا يثبت في الذمة سلما كالجواهر وشبهها فقال القاضي يجوز قرضها ويرد المستقرض
القيمة لان مالا مثل له يضمن بالقيمة والجواهر كغيرها في القيم، وقال أبو الخطاب لا يجوز لأن القرض يقتضي رد المثل وليس لها مثل، ولأنه لم ينقل قرضها ولا هي في معنى ما نقل القرض فيه لكونها ليست من المرافق ولا تثبت في الذمة سلما فيجب ابقاؤها على المنع، ويمكن بناء هذا الخلاف على الوجهين في الواجب في بدل غير المكيل والموزون، فإذا قلنا يجب رد المثل لم يجز قرض الجواهر ولا مالا يثبت في الذمة سلما لتعذر رد مثلها وإن قلنا الواجب رد القيمة جاز قرضه لإمكان رد القيمة، ولأصحاب الشافعي وجهان كهذين (فصل) فأما بنو آدم فقال أحمد أكره قرضهم فيحتمل كراهة التنزيه ويصح قرضهم وهو قول ابن جريج والمزني لأنه مال يثبت في الذمة سلما فصح قرضه كسائر الحيوان، ويحتمل صحة قرض العبيد دون الإماء وهو قول مالك والشافعي إلا أن يقرضهن من ذوي محارمهن لأن الملك بالقرض

(4/355)


ضعيف فإنه لا يمنعها من ردها على المقرض فلا يستباح به الوطئ كالملك في مدة الخيار، وإذا لم يبح الوطئ لم يصح القرض لعدم القائل بالفرق ولأن الإبضاع مما يحتاط لها ولو أبحنا قرضهن أفضى إلى أن الرجل يستقرض أمة فيطؤها ثم يردها من يومه ومتى احتاج إلى وطئها استقرضها فوطئها ثم ردها كما يستعير المتاع فينتفع به ثم يرده ولنا أنه عقد ناقل للملك فاستوى فيه العبد والامة كسائر العقود ولا نسلم ضعف الملك فإنه مطلق كسائر التصرفات بخلاف الملك في مدة الخيار، وقولهم متى شاء المقترض ردها ممنوع فإننا إذا قلنا الواجب رد القيمة لا يملك المقترض رد الأمة وإنما يرد قيمتها وإن سلمنا ذلك، لكن متى قصد المقترض هذا لم يحل له فعله ولا يصح اقتراضه كما لو اشترى أمة ليطأها ثم يردها بالمقايلة أو بعيب فيها وإن وقع هذا بحكم الاتفاق لم يمنع الصحة كما لو وقع ذلك في البيع وكما لو أسلم جارية في أخرى موصوفة بصفاتها ثم ردها بعينها عند حلول الأجل، ولو ثبت أن القرض ضعيف لا يبيح الوطئ لم يمنع منه في الجواري كالبيع في مدة الخيار وعدم القائل بالفرق ليس بشئ على ما عرف في مواضعه وعدم نقله ليس بحجة فإن أكثر الحيوانات لم ينقل قرضها وهو جائز.
(فصل) ولو اقترض دراهم أو دنانير غير معروفة الوزن لم يجز لأن القرض فيها يوجب رد المثل فإذا لم يعرف القدر لم يمكن القضاء وكذلك لو اقترض مكيلا أو موزونا جزافا لم يجز كذلك ولو قدره بمكيال بعينه أو صنجة بعينها غير معروفين عند العامة لم يجز لأنه لا يأمن تلف ذلك فيتعذر رد المثل فأشبه السلم وقد قال أحمد في ماء بين قوم لهم نوب في أيام مسماة فاحتاج بعضهم إلى أن يستقي في غير نوبته

(4/356)


فاستقرض من نوبة غيره ليرد عليه بدله في يوم نوبته فلا بأس وإن كان غير محدود كرهته فكرهه إذا لم يكن محدوداً لأنه لا يمكن رد مثله وإن كانت الدراهم يتعامل بها عدداً ويرد عدداً وإن استقرض وزناً رد وزناً، وهذا قول الحسن وابن سيرين والاوزاعي واستقرض أيوب من حماد بن زيد دراهم بمكة عددا وأعطاء بالبصرة عدداً ولأنه وفاه مثل ما اقترض فيما يتعامل به الناس فأشبه مالو كانوا يتعاملون بالوزن فاقترض وزناً ورد وزنا {مسألة} (ويثبت الملك فيه بالقبض) لأنه عقد يقف التصرف فيه على القبض فوقف الملك عليه كالهبة {مسألة} (ولا يملك المقرض استرجاعه) وجملة ذلك أن القرض عقد لازم من جهة المقرض جائز في حق المقترض فلو أراد المقرض الرجوع في عين ماله لم يملك ذلك، وقال الشافعي له ذلك لأن كل ما يملك المطالبة بمثله يملك أخذه إذا كان موجوداً كالمغصوب والعارية، ولنا أنه زال ملكه عنه بعقد لازم من غير خيار فلم يكن له الرجوع فيه كالبيع ويفارق المغصوب والعارية فإنه لم يزل ملكه عنهما ولأنه لا يملك المطالبة بمثلهما مع وجودهما وفي مسئلتنا بخلافه {مسألة} (وله طلب بدله في الحال) لأنه سبب يوجب رد المثل في المثليات فأوجبه حالا كالإتلاف ولو أقرضه تفاريق ثم طالبه بها جملة فله ذلك لأن الجميع حال فأشبه ما لو باعه بيوعاً حالة ثم طالبه بثمنها جملة وإن أجل القرض لم يتأجل وكل دين حل أجله لم يصر مؤجلاً بتأجيله، وبه قال الأوزاعي والشافعي وابن المنذر وقال مالك والليث يتأجل الجميع بالتأجيل لقول النبي صلى الله عليه وسلم " المؤمنون عند شروطهم " ولأن المتعاقدين يملكان التصرف في هذا العقد بالإقالة والإمضاء فملكا الزيادة فيه كخيار المجلس، وقال أبو حنيفة
في القرض وبدل المتلف كقولنا وفي ثمن المبيع والأجرة والصداق وعوض الخلع كقولهما لأن الأجل يقتضي جزءاً من المعوض والقرض لا يحتمل الزيادة والنقص في عوضه وبدل المتلف يجب فيه المثل من غير زيادة ولا نقص فلذلك لم يتأجل وبقية الأعواض يجوز الزيادة فيها فجاز تأجيلها، ولنا أن الحق يثبت حالا والتأجيل تبرع ووعد فلا يلزم الوفاء به كما لو اعاره شيئاً وهذا لا يقع عليه اسم الشرط ولو سمي فالخبر مخصوص بالعارية فيلحق به ما اختلفنا فيه لأنه مثله، ولنا على أبي حنيفة أنها زيادة بعد استقرار العقد فأشبه القرض، وأما الإقالة فهي فسخ وابتداء عقد آخر بخلاف مسئلتنا وأما خيار المجلس فهو بمنزلة ابتداء العقد بدليل أنه يجري القبض لما يشترط قبضه والتعيين لما في الذمة {مسألة} (فإن رده المقترض عليه لزمه قبوله ما لم يتعيب أو يكن فلوساً أو مكسرة فيحرمها

(4/357)


السطان فيكون له القيمة وقت القرض) يجوز للمقترض رد ما اقترضه على المقرض إذا كان على صفته لم ينقص ولم يحدث به عيب ويلزم المقرض قبوله لأنه على صفة حقه أشبه ما لو أعطاه غيره وقياساً على المسلم فيه وسواء تغير سعره أو لم يتغير ويحتمل أن لا يلزم المقرض قبول غير المثلي لأن القرض فيه يوجب رد القيمة على أحد الوجهين فإذا رده بعينه لم يرد الواجب عليه فلم يجب قبوله كالبيع (فصل) فإن تعيب أو تغير لم يجب قبوله لأن عليه في قبوله ضرراً لأنه دون حقه فأشبه مالو نقص وكذلك إن كان القرض فلو سا أو مكسرة فحرمها السلطان وتركت المعاملة بها لأنه كالعيب فلا يلزمه قبولها ويكون له قيمتها وقت القرض سواء كانت باقية أو استهلكها نص عليه أحمد في الدراهم المكسرة فقال يقومها كم تساوي يوم أخذها ثم يعطيه؟ وسواء نقصت قيمتها قليلاً أو كثيراً وذكر أبو بكر في التنبيه أنه يكون له قيمتها وقت فسدت وتركت المعاملة بها لأنه كان يلزمه رد مثلها ما دامت نافعة فإذا فسدت انتقل إلى قيمتها حينئذ كما لو عدم المثل.
قال القاضي هذا إذا اتفق الناس على تركها فأما إن تعاملوا بها مع تحريم السلطان لها لزمه أخذها، وقال مالك والليث والشافعي ليس له إلا مثل ما أقرضه لأن ذلك ليس بعيب حدث فيها فجرى مجرى رخص سعرها
ولنا أن تحريم السلطان منع انفاقها وأبطل ما ليتها فأشبه كسرها أو تلف أجزائها وأما رخص السعر فلا يمنع سواء كان قليلاً أو كثيراً لأنه لم يحدث فيها شئ إنما تغير السعر فأشبه الحنطة إذا رخصت أو غلت وكذلك يخرج في المغشوشة إذا حرمها السلطان {مسألة} (ويجب رد المثل في المكيل والموزون والقيمة في الجواهر ونحوها وفيما سوى ذلك وجهان) لا نعلم خلافاً في وجوب رد المثل في المكيل والموزون، قال إبن المنذر أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن من أسلف سلفاً مما يجوز أن يسلف فرد عليه مثله أن ذلك جائز وإن للمسلف أخذ ذلك ولأن المكيل والموزون يضمن في الغصب والإتلاف بمثله فكذا ههنا فإن أعوز المثل لزمته قيمته يوم الاعواز لأنها حينئذ تثبت في الذمة ويرد القيمة في الجواهر ونحوها إذا قلنا بجواز قرضها لأنها من ذوات القيم ولا مثل لها لأنها لا تنضبط وفيما سوى ذلك وجهان (أحدهما) يرد القيمة لأن ما أوجب المثل في المثليات أوجب القيمة فيما لا مثل له كالإتلاف (والثاني) يجب رد مثله لأن النبي صلى الله عليه وسلم استسلف من رجل بكرا فرد مثله ولأن ما ثبت في الذمة في السلم ثبت في القرض كالمثلي ويخالف الإتلاف فإنه لا مسامحة فيه فوجبت القيمة لأنها أحصر والقرض أسهل ولهذا جازت النسيئة فيما فيه الربا ويعتبر مثل صفاته تقريباً فإن حقيقة المثل إنما توجد في المكيل والموزون فإن تعذر المثل فعليه قيمته يوم التعذر وإذا قلنا تجب القيمة وجبت حين القرض لأنها حينئذ تثبت في الذمة،

(4/358)


{مسألة} (ويثبت العوض في الذمة حالا وإن أجله) لأن التأجيل في الحال عدة وتبرع فلم يلزم الوفاء به وفيه اختلاف ذكرناه فيما مضى وينبغي أن يفي له بما وعده.
{مسألة} (ويجوز شرط الرهن والضمين به) لأن النبي صلى الله عليه وسلم رهن درعه على شعير أخذه لأهله متفق عليه.
(فصل) ويجوز قرض الخبز ورخص فيه أبو قلابة ومالك ومنع منه أبو حنيفة، ولنا أنه موزون فجاز قرضه كسائر الموزونات وإذا أقرض بالوزن رد المقترض مثله بالوزن وإن استقرضه عدداً رده
عدداً وقال الشريف أبو جعفر فيه روايتان (إحداهما) لا يجوز كسائر الموزونات (والثانية) يجوز وقال ابن أبي موسى إذا كان يتحرى أن يكون مثلا بمثل فلا يحتاج إلى وزن والوزن أحب إلي ووجه الجواز ما روت عائشة قالت قلت يا رسول الله إن الجيران يقترضون الخبز والخمير ويردون زيادة ونقصاناً فقال " لا باس أن ذلك من مرافق الناس لا يراد به الفضل " رواه أبو بكر في الشافي بإسناده وروى أيضاً بإسناده عن معاذ بن جبل أنه سئل عن استقراض الخبز والخمير فقال " سبحان الله انما هذا من مكارم الأخلاق فخذ الكبير واعط الصغير وخذ الصغير واعط الكبير خيركم أحسنكم قضاء سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ذلك.
ولأن هذا مما تدعو الحاجة إليه ويشق اعتبار الوزن فيه وتدخله المسامحة فأشبه دخول الحمام والركوب في سفينة الملاح من غير تقدير أجرة فإن شرط أن يعطيه أكثر مما أقرضه أو أجود كان ذلك حراما وكذلك إن أقرضه صغيراً قصد أن يعطيه كبيراً لأن الأصل تحريم ذلك وإنما أبيح لمشقة إمكان التحرز منه فإذا قصد أو شرط أو أفردت الزيادة فقد أمكن التحرز منه فحرم بحكم الأصل كما لو فعل ذلك في غيره

(4/359)


{مسألة} (ولايجوز شرط ما يجر نفعاً نحو أن يسكنه داره أو يقضيه خيراً منه أو في بلد آخر ويحتمل جواز هذا الشرط) كل قرض شرط فيه الزيادة فهو حرام بغير خلاف.
قال إبن المنذر اجمعوا على أن المسلف إذا شرط على المستسلف زيادة أو هدية فأسلف على ذلك أن أخذ الزيادة على ذلك ربا، وقد روي عن أبي بن كعب وابن عباس وابن مسعود أنهم نهوا عن قرض جر منفعة ولأنه عقد ارفاق وقربة فإذا شرط فيه الزيادة أخرجه عن موضوعه ولا فرق بين الزيادة في القدر أو في الصفة مثل أن يقرض مكسرة فيعطيه صحاحاً أو نقداً ليعطيه خيراً منه فإن شرط أن يعطيه إياه في بلد آخر لم يجز أن كان لحمله مؤنة لأنه زيادة وإن لم يكن لحمله مؤنة فقد روي عن أحمد أنه لا يجوز أيضاً ورويت كراهته عن الحسن البصري وميمون بن أبي شبيب وعبدة بن أبي لبابة ومالك والاوزاعي والشافعي لأنه قد يكون في ذلك زيادة وقد نص أحمد أن من شرط أن يكتب له بها
سفتجة لم يجز ومعناه اشتراط القضاء في بلد آخر وروي عنه جواز ذلك حكاه عنه ابن المنذر لكونه مصلحة لهما.
وحكاه عن علي وابن عباس والحسن بن علي وابن الزبير وابن سيرين وعبد الرحمن بن الاسود وايوب السختياني والثوري واسحاق واختاره.
وذكر القاضي أن للوصي قرض مال اليتيم في بلد ليوفيه في بلد آخر ليربح خطر الطريق قال شيخنا: والصحيح جوازه لأنه مصلحة لهما من غير

(4/360)


ضرر بواحد منهما والشرع لا يرد بتحريم المصالح التي لا مضرة فيها ولأن هذا ليس بمنصوص عليه ولا في معنى المنصوص فوجب ابقاؤه على الإباحة.
(فصل) وإن شرط أن يؤجره دراه أو يبيعه شيئاً أو أن يقرضه المقترض مرة أخرى لم يجز لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع وسلف ولأنه شرط عقداً في عقد فلم يجز كما لو باعه داره.
وبشرط أن يبيعه الآخر دراه، وإن شرط أن يؤجره داره بأقل من أجرتها أو على أن يستأجر دار المقرض بأكثر من أجرتها أو على أن يهدي له أو يعمل له عملا كان أبلغ في التحريم (فصل) وإن شرط أن يوفيه أنقص مما أقرضه لم يجز إذا كان مما يجري فيه الربا لإفضائه إلى فوات المماثلة فيما هي شرط فيه، وإن كان في غيره فكذلك وهو أحد الوجهين لأصحاب الشافعي لأن القرض يقتضي رد المثل وشرط النقصان يخالف مقتضاه فلم يجز كشرط الزيادة ولهم وجه آخر أنه يجوز لأن القرض جعل للرفق بالمستقرض وشرط النقصان لا يخرجه عن موضوعه بخلاف الزيادة {مسألة} (وان فعل ذلك من غير شرط أو قضاء خيراً أو أهدى له هدية بعد الوفاء جاز) وكذلك إن كتب له سفتجة أو قضاه في بلد آخر خيراً منه جاز، ورخص في ذلك ابن عمر

(4/361)


وسعيد بن المسيب والحسن والنخعي والشعبي والزهري وقتادة ومكحول ومالك والشافعي واسحاق، وقال أبو الخطاب أن قضاه خيراً منه أو زاده زيادة بعد الوفاء من غير شرط ولا مواطأة فعلى روايتين وروي عن أبي بن كعب وابن عباس أنه يأخذ مثل قرضه ولا يأخذ فضلا لئلا يكون قرضاً جر منفعة ولنا أن النبي صلى الله عليه وسلم استسلف بكراً فرد خيراً منه وقال " خيركم أحسنكم قضاء "
متفق عليه ولأنه لم يجعل تلك الزيادة عوضاً في القرض ولا وسيلة إليه ولا إلى استيفاء دينه أشبه ما لو لم يكن قرض، وقال ابن أبي موسى إذا زاده بعد الوفاء فعاد المستقرض بعد ذلك يلتمس منه قرضاً ثانياً ففعل لم يأخذ منه إلا مثل ما أعطاه.
فإن أخذ زيادة أو أجود مما أعطاه حرم قولا واحداً وإذا كان الرجل معروفاً بحسن القضاء لم يكره إقراضه، وقال القاضي فيه وجه آخر أنه يكره لأنه يطمع في حسن عادته وهذا لا يصح فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان معروفاً بحسن القضاء فهل يسوغ لأحد أن يقول اقراضه مكروه؟ ولان المعروف بحسن القضاء خير الناس وأفضلهم وهو أولى الناس بقضاء حاجته وإجابة مسألته وتفريج كربته فلا يجوز أن يكون ذلك مكروهاً، وإنما يمنع من الزيادة المشروطة، ولو أقرضه مكسرة فجاءه مكانها بصحاح بغير شرط جاز، وإن جاءه بصحاح أقل منها فأخذها بجميع حقه لم يجز لأن ذلك معاوضة للنقد بأقل منه فكان ربا، وكذلك ما يشترط فيه المماثلة {مسألة} (وإن فعله قبل الوفاء لم يجز إلا أن تكون العادة جارية بينهما بذلك قبل القرض إلا أن يكافئه أو يحسبه من دينه) وذلك لما روى الأثرم أن رجلا كان له على سماك عشرون درهما فجعل يهدي إليه السمك ويقومه حتى بلغ ثلاثة عشر درهما فسأل ابن عباس فقال: أعطه سبعة دراهم، وعن ابن سيرين أن عمر أسلف أبي بن كعب عشرة آلاف درهم فأهدى إليه أبي بن كعب من ثمرة أرضه فردها عليه ولم يقبله فأتاه

(4/362)


أبي فقال: لقد علم أهل المدينة أني من أطيبهم ثمرة وأنه لا حاجة لنا فبم منعت هديتنا؟ ثم أهدى إليه بعد ذلك فقبل.
وعن زرين حبيش قال: قلت لأبي بن كعب إني أريد أن أسير إلى أرض الجهاد إلى العراق فقال إنك تأتي أرضاً فاش فيها الربا، فإن أقرضت رجلا قرضاً فأتاك بقرضك ليؤدي إليك قرضك ومعه هدية فاقبض قرضك واردد عليه هديته.
رواهما الأثرم، وروي البخاري عن أبي بردة عن أبي موسى قال قدمت المدينة فلقيت عبد الله بن سلام وذكر حديثاً وفيه، ثم قال لي إنك بأرض فيها الربا فاش، فإذا كان لك على رجل قرض فأهدى إليك حمل تبن أو حمل شعير أو حمل قت فلا تأخذه فإنه ربا.
قال ابن أبي موسى: ولو أقرضه قرضاً ثم استعمله عملا لم يكن يستعمله
مثله قبل القرض كان قرضاً جر منفعة، ولو استضاف غريمه ولم تكن العادة جرت بذلك بينهما حسب له ما أكله لما روى ابن ماجة في سننه عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا أقرض أحدكم قرضاً فأهدى إليه أو حمله على الدابة فلا يركبها ولا يقبله إلا أن يكون جرى بينه وبينه قبل ذلك " وهذا كله في مدة القرض، فأما بعد الوفاء فهو كالزيادة من غير شرط وقد ذكرناه (فصل) ولو اقترض نصف دينار فدفع إليه المقترض ديناراً صحيحاً وقال نصفه وفاء ونصفه وديعة عندك أو سلم في شئ صح ولا يلزم المقرض قبوله لأن عليه في الشركة ضرراً، ولو اشترى بالنصف الباقي من الدينار سلعة جاز، فإن كان بشرط مثل أن يقول أقضيك صحيحا بشرط أن آخذ منك بنصفه الباقي قميصاً لم يجز لأنه لم يدفع إليه صحيحاً إلا ليعطيه بالنصف الباقي فضل ما بين الصحيح والمكسور من النصف المقتضي وإن اتفقا على كسره كسراه، وإن اختلفا لم يجبر أحدهما على ذلك لأنه ينقص قيمته (فصل) ولو أفلس غريمه فأقرضه ألفاً ليوفيه كل شهر شيئاً معلوماً جاز لأنه إنما انتفع باستيفاء ما هو مستحق له، ولو كان له عليه حنطة فأقرضه ما يشتري به حنطة يوفيه إياها جاز لذلك، ولو

(4/363)


أراد رجل أن يبعث إلى عياله نفقة فأقرضها رجلا على أن يدفعها إلى عياله فلا بأس إذا لم يأخذ عليها شيئاً وإن أقرض أكاره ما يشتري به بقراً يعمل عليها في أرضه، أو بذراً يبذره فيها، فإن كان شرط ذلك في القرض لم يجز لأنه شرط ما ينتفع به أشبه الزيادة، وإن لم يكن شرطاً فقال ابن أبي موسى لا يجوز لأنه قرض جر منفعة.
قال ولو قال أقرضني ألفاً وادفع إلي أرضك أزرعها بالثلث كان خبيثاً.
قال شيخنا.
والأولى جواز ذلك إذا لم يكن مشروطاً لأن الحاجة داعية إليه والمستقرض إنما يقصد نفع نفسه، وإنما يحصل انتفاع المقرض ضمنا فأشبه أخذ السفتجة به وإيفاءه في بلد آخر من حيث إنه مصلحة لهما جميعاً (فصل) قال أحمد في رجل اقترض دراهم وابتاع بها منه شيئاً فخرجت زيوفاً فالبيع جائز ولا يرجع عليه بشئ.
يعني لا يرجع البائع على المشتري ببدل الثمن لأنها دراهمه بعينها فعيبها عليه وإنما له على المشتري بدل ما أقرضه إياه بصفته زيوفاً وهذا يحتمل أنه أراد فيما إذا باعه السلعة بها وهو
يعلم عينها، فأما إن باعه في ذمته بدراهم ثم قبض هذه بدلا عنها غير عالم بها فينبغي أن يجب له دراهم خالية من العيب ويرد هذه عليه وللمشتري ردها على البائع وفاء عن القرض ويبقى الثمن في ذمته، فإن حسبها على البائع وفاء عن القرض ووفاه الثمن جيداً جاز، قال ولو أقرض رجلاً دراهم وقال إذا مت فأنت في حل كانت وصية، وإن قال إن مت فأنت في حل لم يصح لأن هذا إبراء معلق على شرط ولا يصح ذلك والأول وصية لأنه علقه على موت نفسه وذلك جائز.
قال ولو أقرضه تسعين ديناراً وزناً بمائة عدداً وزنها تسعون وكانت لا تنفق في مكان إلا بالوزن جاز، وإن كانت تنفق برؤوسها فلا وذلك لأنها إذا كانت تنفق في مكان برؤوسها كان ذلك زيادة لأن تسعين من المائة تقوم

(4/364)


مقام التسعين التي أقرضه إياها ويستفضل عشرة ولا يجوز اشتراط الزيادة، وإذا كانت لا تنفق إلا بالوزن فلا زيادة فيها وإن اختلف عددها، قال ولو قال اقترض لي من فلان مائة ولك عشرة فلا بأس، ولو قال اكفل عني ولك ألف لم يجز وذلك لأن قوله اقترض لي ولك عشرة جعالة على فعل مباح فجازت كما لو قال ابن لي هذا الحائط ولك عشرة، وأما الكفالة فلأن الكفيل يلزمه أداء الدين فإذا أداه وجب له على المكفول عنه فصار كالقرض، فإذا أخذ عوضاً صار قرضاً جر منفعة فلم يجز {مسألة} (وإذا أقرضه أثمانا فطالبه بها ببلد آخر لزمته، وإن أقرضه غيرها فطالبه بها لم تلزمه فإن طالبه بالقيمة لزمه اداؤها) وجملة ذلك أنه إذا أقرضه ما لحمله مؤنة وطالبه بمثله ببلد آخر لم يلزمه لأنه لا يلزمه حمله إلى ذلك البلد، فإن تبرع المقترض بدفع المثل وأبى المقرض قبوله فله ذلك لأن عليه ضرراً في قبضه لأنه ربما احتاج إلى حمله الى المكان الذي أقرضه فيه، وله المطالبة بقيمة ذلك في البلد الذي أقرضه فيه لأنه المكان الذي يجب التسليم فيه، ولو أقرضه اثمانا أو مالا مؤنة لحمله وطالبه بها وهما ببلد آخر لزمه دفعه لأن تسليمه إليه في هذا البلد وغيره واحد

(4/365)


(فصل) ولو أقرض ذمي ذميا خمراً ثم أسلما أو أحدهما بطل القرض ولم يجب على المقترض
شئ سواء كان هو المقترض أو المقرض لأنه إذا أسلم لم يجز أن يجب عليه خمر لعدم ماليتها ولا يجب بدلها لأنه لاقيمة لها ولذلك لا يضمنها إذا أتلفها، وإن كان المقرض لم يجب له شئ لما ذكرنا والله سبحانه وتعالى أعلم