الشرح الكبير على متن المقنع

باب الرهن الرهن في اللغة الثبوت والدوام يقال ماء راهن أي راكد ونعمه راهنة أي دائمة، وقيل هو الحبس قال الله تعالى (كل نفس بما كسبت رهينة) وقال الشاعر: وفارقتك برهن لا فكاك له * يوم الوداع فأضحى الرهن قد غلقا شبه لزوم قلبه لها واحتباسه عندها لوجده بها بالرهن الذي يلزمه المرتهن فيحبسه عنده ولا يفارقه وغلق الرهن استحقاق المرتهن إياه لعجز الراهن عن فكاكه {مسألة} (وهو وثيقة بالحق) الرهن في الشرع المال الذي يجعل وثيقة بالدين ليستوفي من ثمنه إن تعذر استيفاؤه من ذمة الغريم وهو جائز بالكتاب والسنة والإجماع.
قال الله سبحانه وتعالى (وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة) وروت عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اشترى من يهودي طعاماً ورهنه درعه

(4/366)


متفق عليه، وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " لا يغلق الرهن " وأجمع المسلمون على جواز الرهن في الجملة (فصل) ويجوز الرهن في الحضر كجوازه في السفر قال إبن المنذر لا نعلم أحدا خالف في ذلك إلا مجاهداً قال ليس الرهن إلا في السفر لقوله تعالى (وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة) ولنا أن النبي صلى الله عليه وسلم اشترى من يهودي طعاماً ورهنه درعه وكانا بالمدينة، ولأنها وثيقة تجوز في السفر فجازت في الحضر كالضمان.
فأما ذكر السفر فإنه خرج مخرج الغالب لكون الكاتب يعدم في السفر غالباً ولهذا لم يشترط عدم الكاتب وهو مذكور في الآية (فصل) وهو غير واجب لا نعلم فيه مخالفا لأنه وثيقة بالدين فلم يجب كالضمان والكتابة
وقول الله تعالى (فرهان مقبوضة) إرشاد لنا لا إيجاب علينا بدليل قول الله تعالى (فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمن أمانته) ولأنه أمر به عند اعواز الكتابة وهي غير واجبة فكذلك بدلها {مسألة} (وهو لازم في حق الراهن جائز في حق المرتهن) لأن العقد لحقه وحده فكان له فسخه كالمضمون له وهو لازم من جهة الراهن لأن الحظ لغيره فلزم من جهته كالضمان في حق الضامن {مسألة} (يجوز عقده مع الحق وبعده ولا يجوز قبله إلا عند أبي الخطاب) وجملة ذلك أن الرهن لا يخلو من أحوال ثلاثة (أحدها) أن يقع مع الحق فيقول بعتك هذا بعشرة إلى شهر ترهنني بها كذا فيقول قبلت فيصح ذلك، وبه قال مالك والشافعي وأصحاب الرأي لأن الحاجة داعية إلى ثبوته فإنه لو لم يعقده مع ثبوت الحق ويشترطه فيه لم يتمكن من إلزام المشتري عقده وكانت الخيرة إلى المشتري، والظاهر أنه لا يبذله فتفوت الوثيقة بالحق (الحال الثاني) أن يقع بعد الحق فيصح

(4/367)


بالإجماع لأنه دين ثابت تدعو الحاجة إلى الوثيقة به فجاز أخذها به كالضمان ولأن الله تعالى قال (وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة) جعله بدلا عن الكتابة فيكون في محلها ومحلها بعد وجوب الحق، ولأن في الآية ما يدل على ذلك وهو قوله تعالى (إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه) فجعله مذكوراً بعدها بفاء التعقيب (الحال الثالث) أن يرهنه قبل الحق فيقول رهنتك عبدي هذا بعشرة تقرضنيها فلا يصح في ظاهر المذهب واختاره أبو بكر والقاضي وذكر القاضي أن أحمد نص عليه في رواية ابن منصور وهو مذهب الشافعي، واختار أبو الخطاب أنه يصح، فإذا قال رهنتك ثوبي هذا بعشرة تقرضنيها غداً وسلمه إليه ثم أقرضه الدراهم لزمه الرهن وهو مذهب أبي حنيفة ومالك لأنه وثيقة بالحق فجاز عقدها قبل وجوبه كالضمان أو فجاز انعقادها على شئ يحدث في المستقبل كضمان الدرك.
ولنا أنه وثيقة بحق لا يلزم قبله فلم يصح قبله كالشهادة ولأن الرهن بالحق تابع للحق فلا يسبقه كالشهادة وأما الضمان فيحتمل أن يمنع صحته، وإن سلمناه فالفرق بينهما أن الضمان التزام مال تبرعاً بالقول فجاز من غير حق ثابت كالنذر {مسألة} (ويصح في كل عين يجوز بيعها)
لأن مقصود الرهن الاستيثاق بالدين ليتوصل إلى استيفائه من ثمن الرهن إن تعذر استيفاؤه من ذمة الراهن وهذا يتحقق في كل ما يجوز بيعه ولأن كل ما كان محلا للبيع كان محلا لحكمة الرهن ومحل الشئ محل حكمته إلا أن يمنع من ثبوته مانع أو يفوت بشرط فيبقى الحكم به

(4/368)


{مسألة} (إلا المكاتب إذا قلنا استدامة القبض شرط لم يجز رهنه) إذا قلنا لا يجوز بيع المكاتب لم يجز رهنه لعدم حصول مقصود الرهن به وإن قلنا يجوز بيعه وقلنا استدامة القبض شرط في الرهن لم يصح، والصحيح أن استدامة القبض شرط فلا يصح رهنه وهذا مذهب الشافعي لأن استدامة القبض غير ممكنة في حق المكاتب لمنافاتها مقتضى الكتابة، وقال القاضي: قياس المذهب صحة رهنه وهو مذهب مالك لأنه يجوز بيعه وايفاء الدين من ثمنه، فعلى هذا يكون ما يؤديه من نجوم الكتابة رهناً معه وإن عجز ثبت الرهن فيه وفي اكتسابه وإن عتق كان ما أداه من نجومه بعد عقد الرهن رهناً بمنزلة مالو كسب العبد ثم مات

(4/369)


(فصل) فأما المعلق عتقه بصفة فإن كانت توجد قبل حلول الدين لم يصح رهنه لكونه لا يمكن بيعه عند حلول الحق ولا استيفاء الدين من ثمنه وإن كان الدين يحل قبلها صح رهنه لا مكان بيعه واستيفاء الدين من ثمنه وإن كانت تحتمل الأمرين كقدوم زيد فقيام المذهب صحة رهنه لأنه في الحال محل للرهن ويمكن أن يبقى حتى يستوفى الدين من ثمنه فأشبه المريض والمدبر، وهو مذهب أبي حنيفة ويحتمل أن لا يصح لأن فيه غرراً إذ يحتمل أن يعتق قبل حلول الحق ولأصحاب الشافعي اختلاف كنحو هذا (فصل) ويجوز رهن الجارية دون ولدها وولدها دونها وان كان صغيرا لأن الرهن لا يزيل

(4/370)


الملك فلا يحصل بذلك تفرقه ولأنه يمكن تسليم الولد مع أمة والأم مع ولدها فان دعت الحاجة إلى بيع أحدهما بيع معه الآخر لأن الجمع في العقد ممكن والتفريق حرام فإذا بيعا معاً تعلق حق المرتهن
من ذلك بقدر قيمة الرهن من الثمن فإذا كانت الجارية رهناً وكانت قيمتها مائة مع أنها ذات ولد وقيمة الولد خمسون فحصتها ثلثا الثمن فإن لم يعلم المرتهن بالولد ثم علم فله الخيار في الرد والإمساك لأن الولد عيب فيها لكونه لا يمكن بيعها بدونه فإن أمسك فلا شئ له غيرها وإن ردها فله فسخ البيع إن كانت مشروطة فيه {مسألة} (ويجوز رهن ما يسرع اليه الفساد بدين مؤجل ويباع ويجعل ثمنه رهنا)

(4/371)


يجوز رهن ما يسرع اليه الفساد دين حال ومؤجل لأنه يمكن ايفاء اليد من ثمنه أشبه الثوب وسواء كان مما يمكن تجفيفه كالعنب أو لا يمكن كالبطيخ فإن كان مما يجفف فعلى الراهن تجفيفه لأنه من مؤنة حفظه وتقيته فأشبه نفقة الحيوان وإن كان مما لا يجفف فإنه يباع ويقضي الدين من ثمنه إن كان حالا أو يحل قبل فساده وإن لم يحل قبل فساده فشرطا بيعه وجعل ثمنه رهناً فعلا ذلك وإن أطلق العقد فذكر القاضي فيه وجهين (أحدهما) لا يصح لأن بيع الرهن قبل حلول الحق لا يقتضيه عقد الرهن فلم يجب كما لو شرط أن لا يبيعه (والثاني) يصح وهو الصحيح لأن العرف يقتضي ذلك لكون المالك لا يعرض ملكه للتلف والهلاك فإذا تعين حفظه في بيعه حمل عليه مطلق العقد كالتجفيف

(4/372)


في العنب والإنفاق على الحيوان.
وللشافعي قولان كالوجهين.
فأما إن شرطا ان لا يباع فلا يصح لأنه شرط ما يتضمن فساده وفوات المقصود فأشبه مالو شرط عدم النفقة على الحيوان.
إذا ثبت ذلك فإنه إن شرط للمرتهن بيعه أو أذن له فيه بعد العقد أو انفقا على أن الراهن يبيعه أو غيره باعه وإلا باعه الحاكم وجعل ثمنه رهناً ولا يقضي الدين من ثمنه لأنه لا يجوز له تعجيل وفاء الدين قبل حله وكذلك الحكم إن رهنه ثياباً فخاف تلفها أو حيوانا فخاف موته لما ذكرنا {مسألة} (ويجوز رهن المشاع) وبه قال ابن أبي ليلى والنخعي ومالك والاوزاعي والعنبري والشافعي وأبو ثور، وقال أصحاب

(4/373)


الرأي لا يصح إلا أن يرهنه لشريكه أو يرهنها الشريكان لرجل واحد أو يرهن رجل داره من رجلين فيقبضانها معاً لأنه عقد تخلف عنه مقصوده لمعنى اتصل به فلم يصح كما لو تزوج أخته من الرضاع.
بيانه أن مقصوده الحبس الدائم والمشاع لا يمكن المرتهن حبسه لأن شريكه ينزعه في نوبته ولأن استدامة القبض شرط، وهذا يستحق زوال العقد عنه لمعنى فارق العقد فلم يصح رهنه كالمغصوب ولنا أن المشاع يصح بيعه في محل الحق فصح رهنه كالمفرد قولهم مقصوده الحبس ممنوع إنما المقصود استيفاء الدين من ثمنه عند تعذره من غيره والمشاع قابل لذلك ثم يبطل ما ذكروه برهن القاتل والمرتد والمغصوب ورهن ملك غيره بغير إذنه فإنه يصح عندهم، إذا ثبت ذلك فرضي الشريك

(4/374)


والمرتهن بكونه في يد أحدهما أو غيرهما جاز لأن الحق لهما لا يخرج عنهما فإن اختلفا جعله الحاكم في يد أمين أمانة أو بأجرة لأن المالك لا يلزمه تسليم ما لم يرهنه والمرتهن لا يلزمه ترك الرهن عند المالك فقام الحاكم مقامهما في حفظه لهما (فصل) ويصح أن يرهن بعض نصيبه من المشاع كما يصح رهن جميعه سواء رهنه مشاعاً في نصيبه مثل أن يرهن بعض نصيبه أو رهن نصيبه من معين مثل أن يكون له نصف دار فيرهن نصيبه من بيت منها بعينه.
وقال القاضي يحتمل أن لا يصح رهن حصته من معين من شئ يمكن قسمته لاحتمال أن يقسم الشريكان فيحصل الرهن في حصة شريكه، ولنا أنه يصح بيعه فصح رهنه كغيره وما ذكروه لا يصح لأن الراهن ممنوع من التصرف في الرهن بما يضر بالمرتهن فيمنع القسمة المضرة كما يمنع من بيعه.

(4/375)


(فصل) ويصح رهن المرتد والقاتل في المحاربة والجاني سواء كانت جنايته عمداً أو خطأ على النقس وما دونها، وقال القاضي لا يصح رهن القاتل في المحاربة واختار أبو بكر أنه لا يصح رهن الجاني والاختلاف في ذلك مبني على الاختلاف في صحة بيعه وقد سبق.
فإن كان المرتهن عالماً بالحال فلا خيار له لأنه دخل على بصيرة أشبه المشتري إذا علم العيب وإن لم يكن عالماً ثم علم بعد اسلام المرتد
وفداء الجاني فكذلك لأن العيب زال فهو كزوال عيب المبيع وإن علم قبل ذلك فله رده وفسخ البيع إن كان مشروطاً في العقد لأن العقد اقتضاه سليماً فإذا ظهر معيباً ملك الفسخ كالبيع وإن اختار امساكه فلا أرش له لأن الرهن بجملته لو تلف قبل قبضه لم يملك بدله فبعضه أولى وكذلك لو لم يعلم حتى قتل العبد بالردة أو القصاص أو أخذ في الجناية فلا أرش للمرتهن، وذكر القاضي أن قياس المذهب أن له الأرش في هذه المواضع قياساً على البيع، وليس الأمر كذلك فإن المبيع عوض عن الثمن فإذا فات بعضه رجع بما يقابله من الثمن ولو فات كله كتلف المبيع قبل قبضه رجع بالثمن كله والرهن ليس بعوض ولو تلف كله قبل القبض لما استحق الرجوع بشئ فكيف يستحق الرجوع ببدل عيبه أو فوات بعضه؟ وإن امتنع السيد من فداء الجاني لم يجبر ويباع في الجناية لأن حق المجني عليه مقدم على الرهن كما لو حدثت الجناية بعد الرهن فعلى هذا إن استغرق الأرش قيمته بيع وبطل الرهن وإن لم يستغرقها بيع منه بقدر الأرش والباقي رهن (فصل) ويصح رهن المدبر في ظاهر المذهب بناء على جواز بيعه ومنع منه أبو حنيفة والشافعي لأنه معلق عتقه بصفة أشبه مالو كانت توجد قبل حلول الحق

(4/376)


ولنا أنه عقد يقصد منه استيفاء الحق من العين أشبه الإجارة ولأنه علق عتقه بصفة لا تمنع استيفاء الحق أشبه مالو علقه بصفة لا توجد قبل حلول الحق.
وما ذكروه ينتقض بهذا الأصل، ويفارق التدبير التعليق بصفة توجد قبل حلول الحق لأن الرهن لايمنع عتقه بالصفة فإذا عتق تعذرا استيفاء الدين منه فلا يحصل المقصود والدين في المدبر يمنع عتقه بالتدبير ويقدم عليه فلا يمنع حصول المقصود، والحكم فيما إذا علم وجود التدبير أو لم يعلم كالحكم في العبد الجاني على ما فصل فيه.
ومتى مات السيد قبل الوفاء فعتق المدبر بطل الرهن وإن عتق بعضه بقي الرهن فيما بقي وإن لم يكن للسيد مال يفضل عن وفاء الدين بيع المدبر في الدين وبطل التدبير ولا يبطل الرهن به وإن كان الدين لا يستغرقه بيع منه بقدر الدين وعتق ثلث الباقي وباقيه للورثة {مسألة} (ويجوز رهن المبيع غير المكيل والموزون قبل قبضه إلا على ثمنه في أحد الوجهين)
لأنه يصح بيعه فصح رهنه كما بعد القبض.
فأما رهنه على ثمنه قبل قبضه ففيه وجهان (أحدهما) لا يصح لوجوه ثلاثة (أحدهما) أن البيع يقتضي تسليم المبيع أولا والرهن يقتضي تسليم الثمن أولا (والثاني) أن البيع يقتضي إيفاء الثمن من غير المبيع والرهن يقتضي إيفاء الثمن منه (والثالث) أن البيع يقتضي إمساك المبيع مضموناً والرهن يقتضي عدم الضمان وهذا يوجب تناقض الأحكام وإنما

(4/377)


تتحقق هذه المعاني إذا شرط رهنه قبل قبضه فإن شرط أنه يقبضه ثم يسلمه رهناً فإنه يتحقق فيه بعض هذه المعاني، وقد روي عن أحمد أنه قال إذا حبس ببقية الثمن فهو غاصب ولا يكون رهناً إلا أن يكون شرط عليه في نفس البيع.
قال القاضي معناه شرط عليه رهناً غير المبيع فيكون له حبسه حتى يقبض الرهن فإن وفى له به وإلا فسخ (والوجه الثاني) يصح كما يصح لغير البائع فأما المكيل والموزون فذكر القاضي أنه يجوز رهنه قبل قبضه لأن قبضه مستحق فيمكن المشتري أن يقبضه ثم يقبضه وإنما لم يجز بيعه لأنه يفضي إلى ربح ما لم يضمن وهو منهي عنه ويحتمل أنه لا يصح رهنه لأنه لا يصح بيعه بربح ولا برأس مال ولا يصح هبته فكذلك رهنه {مسألة} (وما لا يجوز بيعه لا يجوز رهنه إلا الثمرة قبل بدو صلاحها من غير شرط القطع في أحد الوجهين) لا يصح رهن ما لا يجوز بيعه كأم الولد والوقف والعين المرهونة لأن مقصود الرهن استيفاء الدين من ثمنه وما لا يجوز بيعه لا يمكن ذلك فيه ولو رهن العين المرهونة عند المرتهن لم يجز فلو قال الراهن للمرتهن زدني مالا يكون الذي عندك رهناً به وبالدين الأول لم يجز، وبه قال أبو حنيفة ومحمد وهو

(4/378)


أحد قولي الشافعي، وقال مالك وأبو يوسف والمزني وأبو ثور وابن المنذر يجوز ذلك لأنه لو زاده رهناً جاز فكذلك إذا زاد في دين الرهن ولأنه لو فدا المرتهن العبد الجاني بإذن الراهن ليكون رهناً بالمال الأول وبما فداه به جاز فكذلك ههنا ولانها وثيقة محضة فجازت الزيادة فيها كالضمان، ولنا أنها عين مرهونة فلم يجز رهنها بدين آخر كما لو رهنها عند غير المرتهن.
فأما الزيادة في الرهن فتجوز
لأنه زيادة استيثاق بخلاف مسئلتنا، فأما العبد الجاني قلنا فيه منع وإن سلمنا فإنما يصح فداؤه ليكون رهناً بالفداء والمال الأول لكون الرهن لايمنع تعلق الأرش بالجاني لكون الجناية أقوى ولأن لولي الجناية المطالبة ببيع الرهن وإخراجه من الرهن فصار بمنزلة الرهن الجائز قبل قبضه والرهن الجائز تجوز الزيادة فيه فكذلك إذا صار جائزاً بالجناية، ويفارق الرهن الضمان فإنه يجوز أن يضمن لغيره، إذا ثبت هذا فرهنه بحق بان كان رهناً بالأول خاصة فإن شهد بذلك شاهدان يعتقدان فساده لم يكن، لهما أن يشهدا به وإن اعتقدا صحته جاز أن يشهدا بكيفية الحال ولا يشهدان أنه رهنه بالحقين مطلقاً

(4/379)


(فصل) ويصح رهن الثمرة قبل بدو صلاحها من غير شرط القطع والزرع الأخضر في أحد الوجهين.
اختاره القاضي لأن الغرر يقل فيه فإن الثمرة متى تلفت عاد إلى حقه في ذمة الراهن، ولأنه يجوز بيعه فجاز رهنه، ومتى حل الحق بيع، وإن اختار المرتهن تأخير بيعه فله ذلك (والثاني) لا يصح وهو منصوص الشافعي لأنه لا يجوز بيعه فلا يصح رهنه كسائر ما لا يجوز بيعه (فصل) وإن رهن ثمرة إلى محل تحدث فيه أخرى لا تتميز فالرهن باطل لأنه مجهول حين حلول الحق ولا يمكن إمضاء الرهن على مقتضاه، وإن رهنها بدين حال أو شرط قطعها عند خوف اختلاطها جاز لأنه لا غرر فيه، فإن لم يقطعها حتى اختلطت لم يبطل الرهن لأنه وقع صحيحاً، لكن ان سمح الراهن بيع الجميع أو اتفقا على قدر منه جاز، وإن اختلفا وتشاحا فالقول قول الراهن مع يمينه لأنه منكر (فصل) ولا يصح رهن المصحف في إحدى الروايتين نقل جماعة عنه لا أرخص في رهن المصحف وذلك لأن المقصود من الرهن استيفاء الدين من ثمنه ولا يحصل ذلك إلا ببيعه وبيعه غير جائز (والثانية) يصح فإنه قال إذا رهن مصحفاً لا يقرأ فيه إلا بإذنه فظاهر هذا صحة رهنه وهو قول مالك والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي بناء على أنه يصح بيعه فيصح رهنه كغيره والخلاف في ذلك مبني على جواز بيعه وقد ذكرناه في كتاب البيع

(4/380)


{مسألة} (ولا يصح رهن العبد المسلم لكافر) اختاره القاضي لأنه عقد يقتضي قبض المعقود عليه والتسليط على بيعه فلم يجز كالبيع، واختار

(4/381)


أبو الخطاب صحته إذا شرطا كونه على يد مسلم ويبيعه الحاكم إذا امتنع مالكه وهذا أولى لأن مقصود الرهن يحصل من غير ضرر

(4/382)


(فصل) ولا يصح رهن المجهول لأنه لا يصح بيعه، فلو قال رهنتك هذا الجراب أو البيت أو الخريطة بما فيها لم يصح للجهالة وإن لم يقل بما فيها صح للعلم بها، ولو قال رهنتك أحد هذين العبدين لم يصح لعدم التعيين، وقال أبو حنيفة يصح لأنه يصح بيعه عنده بشرط الخيار له وقد ذكر في البيع وفي الجملة أنه يعتبر للعلم في الرهن ما يعتبر في البيع، وكذلك القدرة على التسليم فلا يصح رهن الآبق ولا الشارد ولا غير مملوك لأنه لا يصح بيعه (فصل) فأما سواد العراق والأرض الموقوفة على المسلمين فظاهر المذهب أنه لا يجوز رهنها لأنه لا يجوز بيعها وهذا منصوص الشافعي وحكم بنائها حكمها، فإن كان فيها من غير ترابها أو الشجر المتجدد فيها فإنه يصح إفراده بالبيع والرهن في إحدى الروايتين نص عليهما في البيع لأنه طلق (الثانية) لا يجوز لأنه تابع لما لا يجوز رهنه فهو كأساسات الحيطان، وإن رهنه مع الأرض بطل في الأرض، وهل يجوز في الأشجار والبناء إذا قلنا بجواز رهنها منفردة؟ يخرج على الروايتين في تفريق الصفقة وهذا مذهب الشافعي رضي الله عنه

(4/383)


(فصل) ولو رهن عبداً أو باعه يعتقده مغصوباً فبان ملكه نحو أن يرهن عبد ابنه فيبين انه قد مات وصار العبد ملكه بالميراث، أو وكل إنساناً يشتري له عبداً فباعه الموكل، أو رهنه يعتقده لسيده الأول وكان تصرفه بعد شراء وكيله ونحو ذلك صح تصرفه لأنه صادف ملكاً فصح كما لو علم، ويحتمل أن لا يصح لأنه اعتقده باطلاً
(فصل) ولو رهن المبيع في مدة الخيار لم يصح إلا أن يرهنه المشتري والخيار له وحده فيصح ويبطل خياره وذكره أبو بكر وهو مذهب الشافعي، ولو أفلس المشتري فرهن البائع عين ماله التي له الرجوع فيها قبل الرجوع لم يصح لأنه رهن مالا يملكه، وكذلك رهن الأب العين التي وهبها لابنه قبل رجوعه فيها لما ذكرنا، وفيه وجه لأصحاب الشافعي أنه يصح لأن له استرجاع العين وتصرفه فيها يدل على الرجوع.
ولنا أنه رهن ما لا يمكله بغير إذن المالك ولا ولاية عليه فلم يصح كما لو رهن الزوج نصف الصداق قبل الدخول (فصل) ولو رهن ثمر شجر يحمل في السنة حملين لا يتميز أحداهما من الآخر فرهن الحمل الأول إلى محل يحدث الحمل الثاني على وجه لا يتميز لم يصح لأنه مجهول حين حلول الحق فلا يمكن استيفاء الدين منه فأشبه مالو كان مجهولاً حين العقد، وإن شرط قطع الحمل الأول إذا خيف اختلاطه بالثاني صح، وإن كان الحمل المرهون بحق حال أو كان الثاني يتميز عن الأول إذا حدث فالرهن صحيح، فإن وقع التواني في قطع الحمل الأول حتى اختلط بالثاني وتعذر التمييز لم يبطل الرهن لأنه وقع صحيحاً وقد اختلط بغيره على وجه لا يمكن فصله فعلى هذا إن سمح الراهن بكون الثمرة رهنا كلها أو اتفقا

(4/384)


على قدر المرهون منهما فحسن، وإن اختلفا فالقول قول الراهن مع يمينه في قدر الرهن لأنه منكر للقدر الزائد والقول قول المنكر (فصل) ولو رهنه منافع داره شهراً لم يصح لأن مقصود الرهن استيفاء الدين من ثمنه والمنافع تهلك إلى حلول الحق، وإن رهنه أجرة داره شهراً لم يصح لأنها مجهولة وغير مملوكة (فصل) ولو رهن المكاتب من يعتق عليه لم يصح لأنه لا يملك بيعه وأجازه أبو حنيفة لأنهم لا يدخلون معه في الكتابة، ولو رهن العبد المأذون من يعتق على السيد لم يصح لأن ما في يده لسيده فقد صار حراً بشرائه (فصل) ولو رهن الوارث تركة الميت أو باعها وعلى الميت دين صح في أحد الوجهين.
وفيه وجه أنه لا يصح، وقال أصحاب الشافعي لا يصح إذا كان الدين يستغرق التركة لأنه تعلق به حق آدمي
فلم يصح رهنه كالمرهون.
ولنا أنه تصرف صادق ملكه ولم يعلق به حقاً فصح كما لو رهن المرتد وفارق المرهون فإن الحق تعلق باختياره وفي مسئلتنا تعلق بغير اختياره فلم يمنع تصرفه وهكذا كل حق يثبت من غير إثباته كالزكاة والجناية فانه لايمنع رهنه، فإذا رهنه ثم قضى الحق من غيره فالرهن بحاله، وإن لم يقض الحق فللغرماء انتزاعه لأن حقهم سابق والحكم فيه كالحكم في الجاني، وهكذا الحكم لو تصرف في التركة ثم رد عليه مبيع باعه الميت بعيب ظهر فيه أو حق تجدد تعلقه بالتركة مثل ان وقع انسان أو بهيمة في بئر حفرها في غير ملكه بعد موته فالحكم واحد وهو أن تصرفه صحيح غير نافذ، فإن قضى الحق من غيره نفذ وإلا فسخ البيع والرهن وعلى الوجه الآخر لا يصح تصرفه والله أعلم (فصل) ولا يصح الرهن والارتهان إلا من جائز الأمر وهو المكلف الرشيد غير المحجور عليه لصغر أو سفه أو فلس لأنه نوع تصرف في المال فلم يصح من غير إذن من المحجور عليه كالبيع ويعتبر ذلك في حال رهنه واقباضه لأن العقد والتسليم ليس بواجب وإنما هو إلى اختيار الراهن، فإذا لم

(4/385)


يكن له اختيار صحيح لم يصح منه كالبيع، فإن جن أحد المتراهنين قبل القبض أو مات لم يبطل الرهن لأنه عقد يؤول إلى اللزوم فلم يبطل بجنون أحد المتعاقدين أو موته كالبيع في مدة الخيار.
ويقوم ولي المجنون مقامه فإن كان المجنون الراهن وكان الحظ في التقبيض مثل أن يكون شرطاً في بيع يستضر بفسخه ونحوه اقبضه.
وإن كان الحظ في قبضه لم يجز له تقبيضه، وإن كان المجنون المرتهن قبضه وليه فإذا مات قام وارثه مقامه في القبض فإن مات الراهن لم يلزم ورثته تقبيضه لأنهم يقومون مقام الراهن ولم يلزمه ذلك، فإن لم يكن على الميت دين سوى هذا الدين فللورثة تقبيض الرهن، وان كان عليه دين سواه فظاهر المذهب أنه ليس للوارث تخصيص المرتهن بالرهن نص عليه في رواية علي بن سعيد وهو مذهب الشافعي، وذكر القاضي فيه رواية أخرى أن لهم ذلك أخذا مما نقل ابن منصور وابو طالب عن أحمد أنه قال: إذا مات الراهن أو أفلس فالمرتهن أحق به من الغرماء ولم يعتبر وجود القبض بعد الموت أو قبله.
قال شيخنا: وهذا لا يعارض ما نقله علي بن سعيد لأنه خاص وهذا عام
والاستدلال به على هذه الصورة يضعف جداً لندرتها فكيف يعارض بها الخاص، لكن يجوز أن يكون هذا الحكم مبنياً على الرواية التي لا يعتبر فيها القبض في غير المكيل والموزون فيكون الرهن قد لزم قبل القبض ووجب تقبيضه على الراهن فكذلك على وارثه ويختص ذلك بغير المكيل والموزون وأما ما يلزم الرهن فيه فليس للورثة تقبيضه لأن الغرماء تعلقت ديونهم بالتركة قبل لزوم حقه في الرهن فلم يجز تخصيصه به بغير رضاهم كما لو أفلس الراهن إذا قلنا إن للورثة التصرف في التركة ووفاء الدين من أموالهم، فإن قيل فما الفائدة في القول بصحة الرهن إذا لم يختص المرتهن به؟ قلنا فائدته أنه يحتمل أن يرضى الغرماء بتسلميه إليه فيتم الرهن، وسواء فيما ذكرنا ما بعد الإذن في القبض وقبله لأن الأذن يبطل بالجنون والموت والإغماء والحجر (فصل) ولو حجر على الراهن لفلس قبل التسليم لم يكن له تسليمه لأن فيه تخصيصا للمرتهن به وليس له تخصيص بعض غرمائه، وإن حجر عليه لسفه فحكمه حكم ما لو زال عقله بجنون على

(4/386)


ما أسلفنا، وإن أغمي عليه لم يكن للمرتهن قبض الرهن وليس لأحد تقبيضه لأن المغمى عليه لا تثبت عليه الولاية، وإذا أغمي على المرتهن لم يكن لأحد أن يقوم مقامه في قبض الرهن وانتظر إفاقته، وإن خرس وكانت له كتابة مفهومة أو إشارة معلومة فحكمه حكم المتكلمين، وإن لم تفهم إشارته ولا كتابته لم يجز القبض، وان كان أحد هؤلاء قد أذن في القبض فحكمه حكم من لم يأذن لأن إذنهم يبطل بما عرض لهم {مسألة} (ولا يلزم الرهن إلا بالقبض واستدامته شرط في اللزوم) لا يلزم الرهن إلا بالقبض ويكون قبل القبض رهنا جائزا يجوز للراهن فسخه، وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي وسواء في ذلك المكيل الموزون وغيره، وقال بعض أصحابنا في غير المكيل والموزون رواية أخرى أنه يلزم بمجرد العقد كالبيع وقد نص عليه أحمد في رواية الميموني، وقال مالك يلزم الرهن بمجرد العقد قبل القبض لأنه عقد يلزم بالقبض فلزم قبله كالبيع ووجه الاولى قوله تعالى (فرهان مقبوضة) وصفها بكونها مقبوضة، ولأنه عقد ارفاق يفتقر إلى القبول فافتقر إلى القبض كالقرض ولأنه
رهن لم يقبض فلا يلزم اقباضه كما لو مات الراهن، فعلى هذا إن تصرف الراهن فيه قبل القبض بهبة أو بيع أو عتق، أو جعله صداقا أو رهنه ثانيا بطل الرهن الأول سواء قبض الهبة والبيع والرهن الثاني أو لم يقبضه لأنه أخرجه عن امكان استيفاء الدين من ثمنه أو فعل ما يدل على قصده ذلك، وإن دبره أو أجره أو زوج الأمة لم يبطل الرهن لأن هذا التصرف لايمنع البيع فلا يمنع صحة الرهن ولأنه لايمنع ابتداء الرهن فلا يقطع استدامته كاستخدامه، وإن كاتب العبد الرهن انبنى على صحة رهن المكاتب، فإن قلنا يجوز رهنه لم يبطل الرهن كالتدبير، وإن قلنا لا يجوز بطل الرهن كما لو أعتقه (فصل) فان قلنا أن ابتداء القبض شرط في لزوم الرهن فاستدامة القبض شرط لأنها احدى حالتي الرهن فأشبهت الابتداء، وإن قلنا أن الابتداء ليس بشرط في اللزوم فكذلك الاستدامة {مسألة} (فإن اخرجه المرتهن إلى الراهن باختياره زال لزوم الرهن)

(4/387)


وبقي العقد كأنه لم يوجد فيه قبض سواء أخرجه بإجارة أو إعارة أو إيداع أو غير ذلك، فإذا عاد فرده إليه عاد اللزوم بحكم العقد السابق لأنه أقبضه باختياره فلزم به كالأول قال أحمد في رواية ابن منصور: إذا ارتهن داراً ثم أكراها صاحبها خرجت من الرهن فإذا رجعت إليه صارت رهناً، وقال فيمن رهن جارية ثم سأل المرتهن أن يبعثها إليه لتخبز لهم فبعث بها فوطئها انتقلت من الرهن فإن لم يكن وطئها فلا شئ.
قال أبو بكر: لا تكون رهناً في تلك الحال، فإذا ردها رجعت إلى الرهن وممن أوجب استدامة القبض مالك وأبو حنيفة وهذا التفريغ على القول الصحيح، فأما على قول من قال ابتداء القبض ليس بشرط فأولى أن يقول الاستدامة غير مشروطة لأن كل شرط يعتبر في الاستدامة يعتبر في الابتداء وقد يعتبر في الابتداء ما لا يعتبر في الاستدامة، وقال الشافعي استدامة القبض ليست شرطاً لأنه عقد يعتبر القبض في ابتدائه فلم تشترط استدامته كالهبة ولنا قول الله تعالى (فرهان مقبوضة) ولأنها إحدى حالتي الرهن فكان القبض فيه شرطاً كالابتداء ويفارق الهبة فإن القبض في ابتدائها يثبت الملك فإذا ثبت استغنى عن القبض ثانياً والرهن يراد للوثيقة ليتمكن من بيعه واستيفاء اليدين من ثمنه، فإذا لم يكن في يده لم يتمكن من بيعه وإن أزيلت يد المرتهن بغير حق
كالغصب والسرقة أو إباق العبد أو ضياع المتاع ونحو ذلك لم يزل لزوم الرهن لأن يده ثابتة حكماً فكأنها لم تزل {مسألة} (ولو رهنه عصيراً فتخمر زال لزومه، فإن تخلل عاد لزومه بحكم العقد السابق) يصح رهن العصير لأنه يصح بيعه وتعريضه للخروج عن المالية لا يمنع صحة رهنه كالمريض والجاني فإن صار إلى حال لا يخرج فيها عن المالية كالخل فهو رهن بحاله، وإن تخمر زال لزوم العقد ووجبت إراقته فإن أريق بطل العقد ولاخيار للمرتهن لأن التلف حصل في يده، فإن عاد خلاً عاد اللزوم بحكم العقد السابق كما لو زالت يد المرتهن عن الرهن ثم عادت إليه وإن استحال خمراً قبل قبض المرتهن له بطل الرهن ولم يعد بعوده خلاً لأنه عقد ضعيف لعدم القبض فأشبه إسلام أحد الزوجين قبل الدخول

(4/388)


وذكر القاضي أن العصير إذا استحال خمراً بعد القبض بطل الرهن أيضاً، ثم إذا عاد خلاً عاد ملكاً لصاحبه مرهوناً بالعقد السابق لأنه يعود مملوكاً بحكم الملك الأول فيعود حكم الرهن لأنه زال بزوال الملك فيعود بعوده وهذا قول الشافعي، وقال مالك وأبو حنيفة: هو رهن بحاله لأنه كانت له قيمة حال كونه عصيراً ويجوز أن تصير له قيمة فلا يزول الملك عنه كما لو ارتد الجاني، ولأن اليد لم تزل عنه حكماً بدليل أنه لو غصبه غاصب فتخلل في يده كان ملكاً للمغصوب منه، ولو زالت يده كان ملكاً للغاصب كما لو أراقه فجمعه إنسان فتخلل في يده كان له دون من أراقه، وهذا القول هو قولنا الأول في المعنى إلا أن يقولوا ببقاء اللزوم فيه حال كونه خمراً.
قال شيخنا: ولم تظهر لي فائدة الخلاف بعد اتفاقهم على عوده رهناً باستحالته خلاً وأرى القول ببقائه رهناً أقرب إلى الصحة لأن العقد لو بطل لما عاد صحيحاً من غير ابتداء عقد، فإن قالوا يمكن عوده صحيحاً لعود المعنى الذي بطل بزواله كما أن زوجة الكافر إذا أسلمت خرجت من حكم العقد لاختلاف دينهما فإن أسلم الزوج في العدة عادت الزوجية بالعقد الأول لزوال الاختلاف في الدين، قلنا هناك ما زالت الزوجية ولا بطل العقد، ولو بطل بانقضاء العدة لما عاد إلا بعقد جديد وإنما العقد كان موقوفاً مراعى، فإذا أسلم في العدة تبينا أنه لم يبطل وإن لم يسلم تبينا أنه كان قد بطل وههنا قد جزمتم ببطلانه، وعنه أن القبض واستدامته في المتعين ليس بشرط ويلزم بمجرد العقد كالبيع، فعلى هذا إن امتنع الراهن من تقبيضه أجبر عليه كالبيع، فإن
رده المرتهن على الراهن بعارية أو غيرها ثم طلبه أجبر الراهن على رده لأن الرهن صحيح والقبض واجب فيجبر عليه كبيعه (فصل) وإذا استعار شيئاً ليرهنه جاز، قال إبن المنذر أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على ان الرجل اذا استعار من الرجل شيئاً يرهنه على دنانير معلومة عند رجل سماه الى وقت معلوم ففعل أن ذلك جائز وينبغي أن يذكر المرتهن والقدر الذي يرهنه به وجنسه ومدة الرهن لأن الضرر يختلف بذلك، فاحتيج إلى بيانه كأصل الرهن ومتى شرط شيئاً من ذلك فخالف ورهنه بغيره لم

(4/389)


يصح الرهن لأنه لم يؤذن له فيه أشبه من لم يأذن في أصل الرهن وهذا إجماع حكاه ابن المنذر فإن أذن له في رهنه بقدر من المال فنقص عنه صح لأن من أذن في شئ فقد أذن في أقل منه وإن رهنه بأكثر احتمل أن يبطل في الكل لأنه خالف المنصوص عليه فبطل كما لو قال أرهنه بدنانير فرهنه بدراهم أو بحال فرهنه بمؤجل أو بالعكس فإنه لا يصح وهذا منصوص الشافعي، واحتمل أن يصح في القدر المأذون فيه ويبطل في الزائد عليه لأن العقد تناول ما يجوز وما لا يجوز فصح فيما يجوز دون غيره كتفريق الصفقة، ويفارق ما ذكرنا من الأصول فإن العقد لم يتناول مأذوناً فيه بحال وكل واحد من هذه الأمور يتعلق به غرض لا يوجد في الآخر فإن الراهن قد يقدر على فكاكه في الحال ولا يقدر على ذلك عند الأجل وبالعكس، وقد يقدر على فكاكه بأحد النقدين دون الآخر فيفوت الغرض بالمخالفة وفي مسئلتنا إذا صح في المائة المأذون فيها لم يختلف الغرض فإن أطلق الأذن في الرهن من غير تعيين فقال القاضي يصح وله رهنه بما شاء وهو قول أصحاب الرأي وأحد قولي الشافعي، والآخر لا يجوز حتى يتبين قدر الذي يرهنه به وصفته وحلولة وتأجيله لأن هذا بمنزلة الضمان لأن منفعة العبد لسيده والعارية ما أفادت المنفعة إنما حصلت له نفعاً بكون الرهن وثيقة عنه فهو بمنزلة الضمان في ذمته وضمان المجهول لا يصح ولنا أنها عارية فلم يشترط لصحتها ذكر ذلك كالعارية لغير الرهن والدليل على أنه عارية أنه قبض ملك غيره لمنفعة نفسه منفرداً بها من غير عوض فكان عارية كقبضه للخدمة، وقولهم أنه ضمان
غير صحيح لأن الضمان يثبت في الذمة وهذا يثبت في الرقبة، ولأن الضمان لازم في حق الضامن وهذا له الرجوع في العبد قبل الرهن والزام المستعير بفاكه بعده، وقولهم إن المنافع للسيد قلنا المنافع مختلفة فيجوز أن يستعيره لتحصيل منفعة واحدة وسائر المنافع للسيد كما لو استعاره لحفظ متاع وهو مع ذلك يخيط لسيده أو يعمل له شيئاً أو استعاره ليخيط له ويحفظ المتاع لسيده، فإن قيل لو كان عارية لما صح رهنه لأن العارية لا تلزم والرهن لازم، قلنا العارية غير لازمة من جهة المستعير فإن لصاحب العبد

(4/390)


المطالبة بفكاكه قبل حلول الدين، ولأن العارية قد تكون لازمة فيما إذا أعاره حائطاً ليبني عليه أو أرضاً ليزرع فيها ما لا يحصد قصيلاً، ثم هو منقوض بما إذا استعاره ليرهنه بدين موصوف عند رجل معين إلى أجل معلوم.
إذا ثبت ذلك فإنه يصح رهنه بما شاء إلى أي وقت شاء لأن الأذن يتناول الكل بإطلاقه وللسيد مطالبة الراهن بفكاكه حالاً كان أو مؤجلاً في محل الحق وقبله لأن العارية لا تلزم ومتى حل الحق فلم يقبضه فللمرتهن بيع الرهن واستيفاء الدين من ثمنه ويرجع المعير على الراهن بالضمان وهو قيمة العين المستعارة أو مثلها إن كانت من ذوات الأمثال ولا يرجع بما بيعت سواء بيعت بأقل من القيمة أو أكثر في أحد الوجهين (والثاني) إنها إن بيعت بأقل من قيمتها رجع بالقيمة لأن العارية مضمونة فيضمن نقص ثمنها، وإن بيعت بأكثر رجع بما بيعت به لأن العبد ملك للمعير فيكون ثمنه كله له، وكذلك لو أسقط المرتهن حقه عن الراهن رجع الثمن كله إلى صاحبه، فإذا قضى به دين الراهن رجع به عليه، ولا يلزم من ضمان النقص أن لا تكون الزيادة لصاحب العبد كما لو كان باقياً بعينه فأما إن تلف الرهن فإن الراهن يضمنه بقيمته سواء اتلف بتفريط أو بغير تفريط نص عليه أحمد لأن العارية مضمونة (فصل) وإن فك المعير الرهن وأدى الدين الذي عليه بإذن الراهن رجع عليه، وإن قضاه متبرعا لم يرجع بشئ، وإن قضاه بغير إذنه محتسباً بالرجوع فهل يرجع؟ على روايتين بناء على ما إذا قضى دينه بغير إذنه ويترجح الرجوع ههنا لأن له المطالبة فكاك عبده وأداء دينه فكاكه، وإن اختلفا في الاذن فالقول قول الراهن مع يمينه لأنه منكر، وإن شهد المرتهن للمعير قبلت شهادته
لأنه لا يجربها نفعاً ولا يدفع بها ضرراً، وإن قال أذنت لي في رهنه بعشرة، قال بخمسة فالقول قول المالك لأنه منكر للزيادة، وبهذا قال الشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي، وإن كان الدين مؤجلاً فقضاه حالاً بإذنه رجع به حالاً، وإن قضاه بغير إذنه فقال القاضي يرجع به حالا أيضاً لأن له المطالبة بفكاك عبده في الحال

(4/391)


(فصل) ولو استعار من رجل عبداً ليرهنه بمائة فرهنه عند رجلين صح لأن تعيين ما يرهن به ليس شرطاً فكذلك من يرهن عنده، ولأن رهنه من اثنين أقل ضرراً لأنه ينفك منه بعضه بقضاء بعض الدين بخلاف ما إذا رهنه عند واحد، فإذا قضى أحدهما ما عليه من الدين خرج نصيبه من الرهن لأن عقد الواحد مع الإثنين عقدان في الحقيقة، ولو استعار عبداً من رجلين فرهنه عند واحد بمائة فقضاه نصفها عن أحد النصيبين لم ينفك من الرهن شئ في أحد الوجهين لأنه عقد واحد من راهن واحد مع مرتهن واحد أشبه ما لو كان العبد لواحد (والثاني) ينفك نصف العبد لأن كل واحد منهما إنما أذن في رهن نصيبه بخمسين فلا يكون رهناً بأكثر منهما كما لو قال له ارهن نصيبي بخمسين لا تزد عليها، فعلى هذا الوجه إن كان المرتهن عالماً بذلك فلا خيار له، وإن لم يكن عالماً والرهن مشروط في بيع احتمل أن له الخيار لأنه دخل على أن كل جزء من الرهن وثيقة بجميع الدين وقد فاته ذلك، واحتمل أن لا يكون له خيار لأن الرهن سلم له كله بالدين كله وهو قد دخل على ذلك، ولو كان رهن هذا العبد عند رجلين فقضى أحدهما انفك نصيب كل واحد من المعيرين من نصفه، وإن قضى نصف دين أحدهما انفك نصيب أحدهما على أحد الوجهين، وفي الآخر ينفك نصف نصيب كل واحد منهما (فصل) ولو كان لرجلين عبدان فأذن كل واحد منهما لشريكه في رهن نصيبه من أحد العبدين فرهناهما عند رجل مطلقاً صح، فإن شرط أحدهما أنني متى قضيت ما على من الدين انفك الرهن في العبد الذي رهنته وفي العبد الآخر أو في قدر نصيبي من العبد الآخر فهذا شرط فاسد لأنه شرط أن ينفك بقضاء الدين رهن على دين آخر ويفسد الرهن لأن في هذا الشرط نقصاً على المرتهن وكل
شرط فاسد ينقص حق المرتهن يفسد الرهن، فأما إن شرط أنه لا ينفك شئ من العبد حتى يقضي جميع الدين فهو فاسد أيضاً لأنه شرط أن يبقى الرهن محبوساً بغير الدين الذي هو رهن به، لكنه لا ينقص حق المرتهن فهل يفسد الرهن بذلك على وجهين وقد ذكرنا أن الرهن لا يلزم الا بالقبض في الصحيح

(4/392)


(فصل) والقبض في الرهن كالقبض في البيع على ما ذكرناه، فلو رهنه داراً فخلى بينه وبينها وللراهن فيها قماش لم يمنع من صحة التسليم لأن اتصالها بملك الراهن لايمنع صحة التسليم كالثمرة في الشجرة، وكذلك الدابة التي عليها حمل للراهن ولو رهن الحمل وهو على الدابة وسلمها إليه بحملها صح القبض لأنه حصل فيهما جميعاً فيكون موجوداً في الرهن منهما (فصل) وإذا رهنه سهماً مشاعاً مما لا ينقل خلى بينه وبينه وإن لم يحضر الشريك، وإن كان منقولا كالجواهر فقبضها تناولها ولا يمكن تناولها الا برضى الشريك، فإن رضي الشريك تناولها المرتهن، وإن امتنع فرضي الراهن أو المرتهن بيد الشريك جاز وناب عن المرتهن في القبض، وإن تنازع الشريك والمرتهن أقام الحاكم عدلاً تكون في يده لهما، وإن سلمها الراهن إلى المرتهن بغير إذن الشريك فتناولها وقلنا استدامة القبض شرط لم يكف هذا التناول، وإن قلنا ليس بشرط فقد حصل القبض لأن الرهن حصل في يده والتعدي في غيره لا يمنع صحة القبض كما لو رهنه ثوباً فسلمه إليه مع ثوب غيره فتناولهما جميعاً، ولو رهنه ثوباً فاشتبه عليه بغيره فسلم إليه أحدهما لم يثبت القبض لأنه لا يعلم أنه أقبضه الرهن، فإن تبين أنه الرهن صح القبض، وإن سلم إليه الثوبين معاً حصل القبض لأنه قد تسلم الرهن يقيناً (فصل) ولو رهنه داراً فخلى بينه وبينها وهما فيها ثم خرج الراهن صح القبض، وبه قال الشافعي وقال أبو حنيفة لا يصح حتى يخلي بينه وبينها بعد خروجه منها لانه ماكان في الدار فيده عليها فما حصلت التخلية.
ولنا أن التخلية تصح بقوله مع التمكين منها وعدم المانع أشبه مالو كانا خارجين عنها، ولا يصح ما ذكره لأن خروج المرتهن منها لا يزيل يده عنها ودخوله إلى دار غيره لا يثبت يده عليها،
ولأنه بخروجه عنها محقق لقوله فلا معنى لاعادة التخلية (فصل) وإن رهنه مالاً في يد المرتهن عارية أو وديعة أو غصباً أو نحوه صح الرهن لأنه مالك

(4/393)


له يمكن قبضه فصح رهنه كما لو كان في يده، وظاهر كلام أحمد لزوم الرهن ههنا بنفس العقد من غير احتياج إلى أمر زائد فإنه قال إذا حصلت الوديعة في يده بعد الرهن فهو رهن فلم يعتبر أمراً زائداً وذلك لأن اليد ثابتة والقبض حاصل وإنما يتغير الحكم لاغير.
ويمكن تغير الحكم مع استدامة القبض كما أنه لو طولب بالوديعة فجحدها لتغير الحكم وصارت مضمونة عليه من غير أمر زائد، ولو عاد الجاحد فأقربها وقال لصاحبها خذ وديعتك فقال دعها عندك وديعة كما كانت ولا ضمان عليك فيها لتغير الحكم من غير حدوث أمر زائد، وقال القاضي وأصحاب الشافعي لا يصير رهناً حتى تمضي مدة يتأتى قبضه فيها، فإن كان منقولاً فبمضي مدة يمكن نقله فيها، وإن كان مكيلاً فبمضي مدة يمكن اكتياله فيها، وإن كان غير منقول فبمضي مدة التخلية، وإن كان غائباً عن المرتهن لم يصر مقبوضاً حتى يوفيه هو أو وكيله ثم تمضي مدة يمكن قبضه فيها لأن العقد يفتقر الى القبض، والقبض إنما يحصل بفعله أو بإمكانه فيكفي ذلك ولايحتاج إلى وجود حقيقة القبض لأنه مقبوض حقيقة، فإن تلف قبل مضي مدة يتأتى قبضه فيها فهو كتلف الرهن قبل قبضه ثم هل يفتقر إلى الاذن من الراهن في القبض؟ يحتمل وجهين (احدهما) يفتقر لأنه قبض يلزم به عقد غير لازم فلم يحصل بغير إذن كما لو كان في يد الراهن.
وإقراره في يده لا يكفي كما لو أقر المغصوب في يد غاصبه مع إمكان أخذه منه (والثاني) لا يفتقر لأن إقراره في يده بمنزلة إذنه في القبض، فإن أذن له في القبض ثم رجع عنه قبل مضي مدة يتأتى القبض فيها لم يلزم الرهن حتى يعود فيأذن ثم تمضي مدة يقبضه في مثلها (فصل) وإذا رهنه المضمون على المرتهن كالمغصوب والعارية والمقبوض على وجه السوم أو في بيع فاسد صح وزال الضمان، وبه قال مالك وأبو حنيفة.
وقال الشافعي: لا يزول الضمان ويثبت حكم الرهن، والحكم الذي كان ثابتاً فيه يبقى بحاله لأنه لا تنافي بينهما بدليل أنه لو تعدى في الرهن صار مضموناً وهو رهن كما كان فكذلك ابتداؤه لأنه أحد حالتي الرهن

(4/394)


ولنا أنه مأذون له في إمساكه رهنا لم يتجدد فيه منه عدوان فلم يضمنه كما لو قبضه منه ثم أقبضه إياه أو أبرأه من ضمانه، وقولهم لا تنافي بينهما ممنوع فإن الغاصب يده عادية يجب عليه إزالتها ويد المرتهن محققة جعلها الشرع له ويد المرتهن يد أمانة، ويد الغاصب والمستعير ونحوهما يد ضامنه وهذان متنافيان، ولأن السبب المقتضي للضمان زال فزال الضمان لزواله كما لو رده إلى مالكه وذلك لأن سبب الضمان الغصب أو العارية ونحوهما وهذا لم يبق غاصباً ولا مستعيراً، ولا يبقى الحكم مع زوال سببه وحدوث سبب يخالف حكمه حكمه، وأما إذا تعدى في الرهن فإنه يلزمه الضمان لعدوانه لا لكونه غاصباً ولا مستعيراً وههنا قد زال سبب الضمان ولم يحدث ما يوجبه فلم يثبت (فصل) وإذا رهنه عينين فتلفت إحداهما قبل قبضها انفسخ العقد فيها دون الباقية لأن العقد كان صحيحا فيهما، وإنما طرأ انفساخ العقد في إحداهما فلم يؤثر في الأخرى كما لو اشترى شيئين فرد أحدهما بعيب أو غيره والراهن مخير بين اقباض الباقية وبين منعها إذا قلنا إن الرهن لا يلزم الا بالقبض فإن كان التلف بعد قبض الأخرى لزم الرهن فيها، فإن كان الرهن مشروطاً في بيع ثبت للبائع الخيار لتعذر الرهن بكماله فإن رضي لم يكن له المطالبة ببدل التالفة لأن الرهن لم يلزم فيها وتكون المقبوضة رهناً بجميع الثمن، فإن تلفت إحدى العينين بعد القبض فلا خيار للبائع لأن الرهن لو تلف كله لم يثبت للبائع خيار فإذا تلف بعضه كان أولى، ثم إن كان تلفها بعد قبض العين الا خرى فقد لزم الرهن فيها، وإن كان قبل قبض الأخرى فالراهن مخير بين اقباضها وبين تركه، فإن امتنع من تقبيضها ثبت للبائع الخيار كما لو لم تتلف الأخرى (فصل) فإذا رهنه داراً فانهدمت قبل قبضها لم ينفسخ عقد الرهن لان ما ليتها لم تذهب بالكلية فإن عرصتها وانقاضها باقية ويثبت للمرتهن الخيار إن كان الرهن مشروطاً في بيع لتعيبها ونقص قيمتها

(4/395)


فإن قيل فلم لا ينفسخ عقد الرهن كعقد الإجارة؟ قلنا الإجارة؟ عقد على منفعة السكنى وقد تعذرت وعدمت فبطل العقد لعدم المعقود عليه والرهن عقد استيثاق يتعلق بالأعيان التي فيها المالية وهي باقية
فعلى هذا تكون العرصة والأنقاض من الخشب والأحجار ونحوها من الرهن لأن العقد وارد على جميع الأعيان والأنقاض منها وما دخل في العقد استقر بالقبض (فصل) ويجوز للمرتهن أن يوكل في قبض الرهن ويقوم قبض وكيله مقام قبضه في لزوم الرهن وسائر أحكامه، فإن وكل المرتهن الراهن في قبض الرهن له من نفسه لم يصح ولم يكن قبضاً لأن الرهن وثيقة يستوفى الحق منه عند تعذر استيفائه من الراهن، فإذا كان في يد الراهن لم يحصل معنى الوثيقة، وقد ذكرنا في البيع أن المشتري لو دفع إلى البائع وعاء وقال كل لي حقي فيه ففعل كان قبضاً فيخرج ههنا مثله (فصل) إذا أقر الراهن بتقبيض الرهن أو أقر المرتهن بقبضه كان مقبولا فيما يمكن صدقهما فيه فإن أقر الراهن بالتقبيض ثم أنكر وقال أقررت بذلك ولم أكن أقبضت شيئاً أو أقر المرتهن بالقبض ثم أنكره فالقول قول المقر له فإن طلب المنكر يمينه فيه وجهان (أحدهما) لا يلزمه يمين لأن الإقرار أقوى من البينة ولو قامت البينة بذلك وطلب المشهود عليه يمين خصمه لم يجب إليها فكذلك الإقرار (والثاني) يلزمه اليمين، وهو قول الشافعي وهو أولى لأن العادة جارية بأن الإنسان يشهد على نفسه بالقبض قبله فكذلك تسمع دعواه ويلزم خصمه اليمين لما ذكرنا من حكم العادة بخلاف البينة فإنها لا تشهد إلا بالحق قبل ولو فعلت ذلك لم تكن عادلة، وقال القاضي إن كان المقر غائباً فقال أقررت لأن وكيلي كتب إلي بذلك ثم بان لي خلافه سمعنا قوله وأحلفنا خصمه وإن أقر أنه باشر ذلك بنفسه

(4/396)


ثم عاد فأكذب نفسه لم يحلف خصمه، وهذا قول بعض أصحاب الشافعي.
فأما إن اختلفا في القبض فقال المرتهن قبضته وأنكر الراهن فالقول قول صاحب اليد لأنه إن كان في يد الراهن فالأصل معه وهو عدم الاقباض ولم يوجد ما يدل على خلافه وإن كان في يد المرتهن فقد وجد القبض لكونه لا يحصل في يده إلا بعد قبضه وإن اختلفا في الاذن فقال الراهن: أخذته بغير إذني قال بل بإذنك وهو في يد المرتهن فالقول قوله لأن الظاهر معه فإن العقد قد وجد ويده تدل على أنه بحق ويحتمل أن يكون القول قول الراهن لأن الأصل عدم الأذن، وهذا مذهب الشافعي ذكر القاضي هذين الوجهين
{مسألة} (وتصرف الراهن في الرهن لا يصح إلا العتق فإنه يصح ويؤخذ منه قيمته فيجعل رهناً مكانه وعنه لا ينفذ عتق المعسر) إذا تصرف الراهن بغير رضى المرتهن بغير العتق كالبيع والهبة والوقف والرهن ونحوه فتصرفه باطل لأنه تصرف يبطل حق المرتهن من الوثيقة غير مبني على التغليب والسراية فلم يصح بغير إذن المرتهن كفسخ الرهن، وفي الوقف وجه آخر أنه يصح لأنه يلزم لحق الله تعالى أشبه العتق.
والصحيح الأول لأنه تصرف لا يسري إلى ملك الغير فلم يصح كالهبة فإن أذن فيه صح وبطل الرهن إلا أن يأذن في البيع فيه تفصيل نذكره فيما بعد إن شاء الله تعالى (فصل) وليس للراهن الانتفاع بالرهن باستخدام ولا وطئ ولا سكنى ولا غير ذلك ولا يملك التصرف فيه بإجارة ولا إعارة ولا غيرهما بغير رضى المرتهن، وبهذا قال الثوري وأصحاب الرأي وقال مالك وابن أبي ليلى والشافعي وابن المنذر: للراهن إجارته وإعارته مدة لا يتأخر انقضاؤها عن حلول

(4/397)


الدين، وهل له أن يسكن بنفسه؟ على اختلاف بينهم.
وإن كان الرهن عبداً فله استيفاء منافعه بغيره وهل له ذلك بنفسه؟ على الخلاف.
وليس له إجارة الثوب ولا ما ينقص بالانتفاع وبنوه على أن المنافع للراهن لا تدخل في الرهن ولا يتعلق بها حقه وسيأتي الكلام فيه ولنا أنها عين محبوسة فلم يكن للمالك الا نتفاع بها كالمبيع المحبوس عند البائع على قبض ثمنه.
إذا ثبت هذا فإن المتراهنين إن لم يتفقا على الانتفاع بها لم يجز الانتفاع وكانت منافعة معطلة فإن كانت دار اأغلفت وإن كان عبداً أو غيره تعطلت منافعه حتى يفك الرهن فإن اتفقا على إجارة الرهن وإعارته جاز ذلك في ظاهر قول الخرقي لأنه جعل غلة الدار وخدمة العبد من الرهن ولو عطلت منافعهما لم تكن لهما غلة.
وقال ابن أبي موسى: أذن الراهن للمرتهن في إعارته أو إجارته صح والأجرة رهن وإن أجره الراهن بإذن المرتهن خرج من الرهن في أحد الوجهين ولا يخرج في الآخر كما لو أجرة المرتهن.
وقال أبو الخطاب في المشاع يؤجره الحاكم لهما وذكر أبو بكر في الخلاف أن منافع الرهن تعطل مطلقاً ولا يؤجراه، وهو قول الثوري وأصحاب الرأي وقالوا إذا أجر الراهن بإذن المرتهن كان اخراجاً من الرهن لأن الرهن
يقتضي حبسه عند المرتهن أو نائبه على الدوام فمتى وجد عقد يستحق به زوال الحبس زال الرهن

(4/398)


ولنا أن مقصود الرهن الاستيثاق بالدين واستيفاؤه من ثمنه عند تعذر استيفائه من ذمة الراهن وهذا لا ينافي الانتفاع به ولا إجارته ولا إعارته فجاز إجتماعهما كانتفاع المرتهن به ولأن تعطيل منفعته تضييع للمال وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن إضاعته، ولأنه عين تعلق بها حق الوثيقة فلم تمنع إجارتها كالعبد إذا ضمن بإذن سيده، ولا نسلم أن مقتضى الرهن الحبس بل مقتضاه تعلق الحق به على وجه تحصل به الوثيقة وذلك غير مناف للانتفاع به.
ولو سلمنا بأن مقتضاه الحبس فلا يمنع كون المستأجر نائباً عنه في امساكه وحبسه ومتوفيا لمنفعته لنفسه (فصل) ولا يمنع الراهن من إصلاح الرهن ودفع الفساد عنه ومداواته إن احتاج إليها، فإذا كان ماشية فاحتاجت إلى إطراق الفحل فللراهن ذلك لأن فيه مصلحة الرهن وزيادته وذلك زيادة في حق المرتهن من غير ضرر وإن كانت فحولاً لم يكن للراهن إطراقها بغير رضا المرتهن لأنه انتفاع لا مصلحة للرهن فيه فهو كالاستخدام إلا أن يكون يتضرر بترك الإطراق فيجوز لأنه كالمداواة له (فصل) وليس للراهن عتق الرهن لأنه يبطل حق المرتهن من الوثيقة وذلك إضرار به فإن فعل نفذ عتقه موسراً كان أو معسراً نص عليه أحمد وبه قال شريك والحسن بن صالح وأصحاب الرأي والشافعي في أحد أقواله إلا أن أبا حنيفة قال يستسعى العبد في قيمته إن كان المعتق موسراً.
وعن أحمد أنه لا ينفذ عتق

(4/399)


المعسر وذكرها الشريف أبو جعفر وهو قول مالك والقول الثاني للشافعي لأن عتقه يسقط حق المرتهن من الوثيقة من عين الرهن وبدلها فلم ينفذ لما فيه من الاضرار بالمرتهن ولأنه عتق يبطل حق غير المالك فنفذ من الموسر دون المعسر كعتق شرك له في عبد، وقال عطاء والبتي وأبو ثور: لا ينفذ عتق الراهن موسراً كان أو معسراً وهو القول الثالث للشافعي لأنه معنى يبطل حق الوثيقة من الرهن أشبه البيع ولنا أنه إعتاق من مالك جائز التصرف تام الملك فنفذ كعتق المستأجر ولأن الرهن عين محبوسة لاستيفاء الحق فنفذ فيها عتق المالك كالمبيع في يد البائع والعتق يخالف البيع فإنه مبني على التغليب والسراية وينفذ
في ملك الغير ويجوز عتق المبيع قبل قبضه والآبق والمجهول وما لا يقدر على تسليمه ويجوز تعليقه على الشرط بخلاف البيع.
إذا ثبت هذا فإن كان موسراً أخذت منه قيمته فجعلت مكانه رهنا لأنه أبطل حق الوثيقة بغير إذن المرتهن فلزمته قيمته كما لو أبطلها أجنبي أو كما لو أتلفه وتكون القيمة رهناً لكونها نائبة عن العين وبدلاً منها وإن كان معسراً فهي في ذمته فإن أيسر قبل حلول الحق أخذت منه فجعلت رهناً إلا أن يختار تعجيل الحق فيقضيه ولا يحتاج إلى رهن وان أيسر بعد حلول الحق طولب بالدين خاصة لأن ذمته تبرأ به من الحقين معاً والاعتبار بقيمة العبد حال العتق لأنه وقت الإتلاف وبهذا قال الشافعي، وقال أبو حنيفة في المعسر يستسعى العبد في قيمته ثم يرجع على الراهن وفيه إيجاب الكسب على العبد ولا صنيع له ولا جناية منه فكان الزام الغرم للمتلف أولى كحال اليسار وكسائر الإتلاف (فصل) فإن أعتقه بإذن المرتهن فلا نعلم خلافاً في نفوذ عتقه على كل حال لأن المنع كان لحق المرتهن وقد أذن ويسقط حقه من الوثيقة موسراً كان المعتق أو معسراً لأنه أذن فيما ينافي حقه فإذا

(4/400)


وجد زال حقه وقد رضي به لرضاه بما ينافيه واذن فيه فلم يكن له بدل فان رجع عن الإذن قبل العتق وعلم الراهن برجوعه بطل الإذن وإن لم يعلم برجوعه فأعتق ففيه وجهان بناء على عزل الوكيل بدون علمه، وإن رجع بعد العتق لم ينفعه الرجوع والقول قول المرتهن مع يمينه لأن الأصل عدم الإذن، وإن اختلف الراهن وورثة المرتهن فالقول قول الورثة أيضاً إلا أن أيمانهم على نفي العمل لأنها على فعل الغير، وإن اختلف المرتهن وورثة الراهن فالقول قول المرتهن مع يمينه وإن لم يحلف قضى عليه بالنكول {مسألة} (وليس عليه تزويج الأمة المرهونة فإن فعل لم يصح) وهذا اختيار أبي الخطاب وقول مالك والشافعي.
وقال القاضي وجماعة من أصحابنا يصح وللمرتهن منع الزوج من وطئها لحق المرتهن حتى لا تخرج عن يده فيفوت القبض ومهرها رهن معها لأنه من نمائها وبسببها فكان رهناً معها كأجرتها وسائر نمائها، وهذا مذهب أبي حنيفة لأن محل النكاح غير محل عقد الرهن ولذلك صح رهن المزوجة ولأن الرهن لا يزيل الملك فلم يمنع التزويج كالإجارة، ولنا أنه تصرف في الرهن بما ينقص ثمنه ويستغل بعض منافعه فلم يملكه الراهن بغير رضى المرتهن كالإجارة
ولا يخفى تنقصيه لثمنها فإنه يعطل منافع بضعها ويمنع مشتريها من وطئها وحلها ويوجب عليها تمكين زوجها من الاستمتاع بها ويعرضها بوطئه للحمل الذي يخاف منه تلفها ويشغلها عن خدمته بتربية ولدها فتذهب الرغبة فيها وتنقص نقصاً كثيراً وربما منع بيعها بالكيلة.
وقولهم إن محل عقد النكاح غير محل الرهن غير صحيح فإن محل الرهن محل البيع والبيع يتناول جملتها، ولهذا يباح لمشتريها استمتاعها

(4/401)


وإنما صح رهن المزوجة لبقاء معظم المنفعة فيها وبقائها محلاً للبيع كما يصح رهن المستأجرة.
ويفارق الرهن الإجارة فإن التزويج لا يؤثر في مقصود الإجارة ولا يمنع المستأجر من استيفاء المنافع المستحقة له ويؤثر في مقصود الرهن وهو استيفاء الدين من ثمنها لأن تزويجها يمنع بيعها أو ينقص ثمنها فيتعذر استيفاء الدين بكماله {مسألة} (وإن وطئ الجارية فأولدها خرجت من الرهن وأخذت منه قيمتها فجعلت رهناً) لا يجوز للراهن وطئ أمته المرهونة في قول أكثر أهل العلم، وقال بعض أصحاب الشافعي له وطئ الآيسة والصغيرة لكونه لا ضرر فيه فإن علة المنع خوف الحمل مخالفة أن تلد منه فتخرج من الرهن أو تتعرض للتلف، وهذا معدوم فيهما وسائر أهل العلم على خلاف هذا.
قال إبن المنذر أجمع أهل العلم على أن للمرتهن منع الراهن من وطئ أمته المرهونة ولأن سائر من يحرم وطؤها لا فرق فيه بين الآيسة والصغيرة وغيرهما كالمعتدة والمستبرأة والأجنبية ولأن الوقت الذي تحمل فيه يختلف ولا ينحزر فمنع من الوطئ جملة كما حرم الخمر للسكر وحرم منه اليسير الذي لا يسكر لكون السكر يختلف، فإن وطئ فلا حد عليه لأنها ملكه وإنما حرمت عليه لعارض كالمحرمة والصائمة ولا مهر عليه لان المرتهن لاحق له في منفعتها ووطؤها لا ينقص قيمتها إذا كانت ثيبا فأشبه مالو استخدمها وإن تلف جزء منها أو نقصها مثل أن افتض البكر أو أفضاها فعليه قيمة ما أتلف فإن شاء جعله رهناً معها وإن شاء جعله قضاء من الحق إن لم يكن حل فإن كان الحق قد حل جعله قضاء لا غير فإنه لا فائدة في جلعه رهناً ولا فرق بين الصغيرة والكبيرة فيما ذكرناه

(4/402)


(فصل) فإن أولدها خرجت من الرهن وعليه قيمتها حين أحبلها كما لو جرح العبد كانت عليه
قيمته يوم جرحه ولا فرق بين الموسر والمعسر إلا أن الموسر تؤخذ منه قيمتها والمعسر تكون قي ذمته قيمتها على حسب ما ذكرنا في العتق، وهذا قول أصحاب الرأي، وقول الشافعي ههنا كقوله في العتق إلا أنه إذا قال لا ينفذ الاحبال فإنما هو في حق المرتهن، فأما في حق الراهن فهو ثابت فلا يجوز له أن يهبها للمرتهن، ولو حل الحق وهي حامل لم يجز بيعها لأنها حامل بحر فإذا ولدت لم يجز بيعها حتى تسقي ولدها اللبأ ثم إن وجد من يرضعه بيعت وإلا تركت حتى ترضعه ثم يباع منها بقدر الدين ويثبت للباقي حكم الاستيلاد فإذا مات الراهن عتق.
وإن رجع المبيع إلى الراهن بيع أو غيره أو بيع جميعها ثم رجعت إليه ثبت لها حكم الاستيلاد، وقال مالك إن كانت الأمة تخرج إلى الراهن وتأتيه خرجت من الرهن وإن تسور عليها أخذ ولدها وبيعت.
ولنا أن هذه أم ولد فلم يثبت فيها حكم الرهن كما لو كان الوطئ سابقاً على الرهن أو نقول معنى ينافي الرهن في ابتدائه فنفاه في دوامه كالحرية (فصل) فإن كان الوطئ بإذن المرتهن خرجت من الرهن ولا شئ للمرتهن لأنه أذن في سبب ما ينافي حقه فكان إذناً فيه ولا نعلم في هذا خلافاً وإن لم تحبل فهي رهن بحالها، فإن قيل إنما أذن في الوطئ ولم يأذن في الاحبال قلنا الوطئ هو المفضي إلى الاحبال ولا؟؟ ذلك على اختياره فالإذن في سببه

(4/403)


أذن فيه، فإن أذن ثم رجع فهو كمن لم يأذن، وإن اختلفا في الاذن فالقول قول من ينكره وإن أقر المرتهن بالإذن وأنكر كون الولد من الوطئ المأذون فيه أو قال هو من زوج أو زنا فالقول قول الراهن بأربع شروط (أحدها) أن يعترف المرتهن بالاذن (الثاني) أن يعترف بالوطئ (الثالث) أن يعترف بالولادة (الرابع) أن يعترف بمضي مدة بعد الوطئ يمكن أن تلد فيها فحينئذ لا يلتفت إلى إنكاره ويكون القول قول الراهن بغير يمين لأننا لم نلحقه به بدعواه: بل بالشرع، فإن أنكر شرطاً من هذه الشروط فقال لم آذن أو قال أذنت فما وطئت، أو قال لم تمض مدة تضع فيها الحمل منذ وطئت، أو قال ليس هذا ولدها إنما استعارته فالقول قوله لأن الأصل عدم ذلك كله وبقاء الوثيقة صحيحة حتى تقوم البينة وهذا مذهب الشافعي
(فصل) ولو أذن في ضربها فضربها فتلفت فلا ضمان عليه لأن ذلك تولد من المأذون فيه فهو كتولد الا حبال من الوطئ (فصل) وإذا أقر الراهن بالوطئ لم يخل من ثلاثة أحوال (أحدها) أن يقربه حال العقد أو قبل لزومه فحكم هذين واحد ولا يمنع ذلك صحة الرهن لأن الأصل عدم الحمل، فإن بانت حائلاً أو حاملاً بولد لا يلحق بالراهن فالرهن بحاله، وكذلك إن كان يلحق به لكن لا تصير به أم ولد مثل إن وطئها وهي زوجته ثم ملكها ورهنها، وإن بانت حاملاً بما تصير به أم ولد بطل الرهن ولاخيار للمرتهن وإن كان مشروطاً في بيع لأنه دخل مع العلم بانها قد لا تكون رهناً، فإذا خرجت من الرهن بذلك السبب الذي علمه لم يكن له خيار كالمريض إذا مات والجاني إذا اقتص منه وهذا قول أكثر الشافعية، وقال بعضهم له الخيار لان الوطئ نفسه لا يثبت الخيار فلم يكن رضاه به رضى بالحمل الذي يحدث منه بخلاف الجناية والمرض.
ولنا أن اذنه في الوطئ أذن فيما يؤول إليه كذلك رضاه به رضى بما يؤول إليه (الحال الثالث) أقر بالوطئ بعد لزوم الرهن فإنه يقبل في حقه ولا يقبل في حق المرتهن لأنه أقر بما يفسخ عقداً لازماً لغيره فلم يقبل كما لو أقر بذلك بعد بيعها، ويحتمل أن يقبل لأنه أقر في ملكه بما لاتهمة

(4/404)


فيه لانه يستضرمن ذلك أكثر من نفعه بخروجها من الرهن والأول أصح لأن إقرار الإنسان على غيره لا يقبل {مسألة} (وإن أذن المرتهن في بيع أو هبة أو نحو ذلك صح وبطل الرهن إلا أن يأذن له في بيعه بشرط أن يجعل ثمنه رهنا أو يعجل دينه من ثمنه) وجملة ذلك أنه متى أذن المرتهن للراهن في بيع الرهن أو هبته أو وقفه ففعل صح لأن المنع كان لحقه فجاز بإذنه ويبطل الرهن لانه هذا تصرف ينافي الرهن فلا يجتمع مع ما ينافيه إلا البيع فله ثلاثة أحوال (أحدها) أن يأذن له في بيعه بعد حلول الحق فيصح ويتعلق حق المرتهن بثمنه ويجب قضاء الدين منه لأن مقتضى الرهن بيعه واستيفاء الدين من ثمنه (الثاني) أنه يأذن له قبل حلوله مطلقاً فيبيعه فيبطل الرهن ولا يكون عليه عوضه لأنه أذن له فيما ينافي حقه فأشبه مالو اذن في عتقه وللمالك أخذ ثمنه وبه قال الشافعي.
وقال أبو حنيفة ومحمد يكون الثمن رهناً لأن الراهن باع الرهن بإذن المرتهن
فوجب أن يثبت حقه فيه كما لو حل الدين.
قال الطحاوي: حق المرتهن يتعلق بعين الرهن والثمن بدله فوجب أن يتعلق به كما لو أتلفه متلف ولنا أنه تصرف يبطل حق المرتهن من عين الرهن لا يملكه المرتهن، فإذا أذن فيه أسقط حقه كالعتق.
ويخالف ما بعد الحلول لأن المرتهن يستحق البيع.
ويخالف الا تلاف لأنه غير مأذون فيه من جهة المرتهن، فإن قال إنما أردت بإطلاق الإذن أن يكون ثمنه رهناً لم يقبل قوله لأن إطلاق الإذن يقتضي بيعا يفسخ الرهن، وبهذا قال الشافعي (الثالث) أن يأذن فيه بشرط أن يجعل ثمنه رهناً مكانه أو يعجل له دينه من ثمنه فيجوز ويلزم ذلك لأنه لو شرط ذلك بعد حلول الحق جاز فكذلك قبله وإن اختلفا في الاذن فالقول قول المرتهن لأنه منكر، وإن أقر بالإذن واختلفا في شرط جعل ثمنه رهناً أو تعجيل دينه منه فالقول قول الراهن لأن الأصل عدم الشرط، ويحتمل أن يقدم قول المرتهن لأن الأصل بقاء الوثيقة {مسألة} (ونماء الرهن وكسبه وأرش الجناية عليه من الرهن)

(4/405)


وجملة ذلك أن نماء الرهن جميعه وغلاته تكون رهناً في يد من الرهن في يده كالأصل وإذا احتيج إلى بيعه في وفاء الدين بيع مع الأصل، وسواء في ذلك المتصل كالسمن والتعلم والمنفصل كالكسب والأجرة والولد والثمر واللبن والصوف والشعر وبنحو هذا قال النخعي والشعبي.
وقال الثوري وأصحاب الرأي يتبع النماء ولا يتبع الكسب لأن الكسب لا يتبع في حكم الكتابة والاستيلاد والتدبير فلا يتبع في الرهن كإعتاق مال الراهن.
وقال مالك: يتبع الولد في الرهن خاصة دون سائر النماء لأن الولد يتبع الأصل في الحقوق الثابتة كولد أم الولد، وقال الشافعي وأبو ثور وابن المنذر لا يدخل في الرهن شئ من النماء المنفصل ولا من الكسب لأنه حق تعلق بالأصل يستوفي من ثمنه فلا يسري إلى غيره كحق جنايته حتى قال الشافعي لو رهنه ماشية مخاضاً فنتجت فالنتاج لا يدخل في الرهن، وخالفه أبو ثور وابن المنذر واحتجوا بقول النبي صلى الله عليه وسلم " الرهن من راهنه له غنمه وعليه غرمه " وإنما يكون رهناً كسائر ماله
ولنا أنه حكم يثبت في العين بعقد المال فيدخل فيه النماء والمنافع كالملك بالبيع وغيره، ولأن النماء حادث من غير الرهن فيدخل فيه كالمتصل، ولأنه حق مستقر في الام ثبت برضى المالك فسرى إلى الولد كالتدبير والاستيلاد.
ولنا على مالك إنه نماء حادث من غير الرهن فسرى إليه حكم الرهن كالولد، وعلى أبي حنيفة أنه عقد يستتبع النماء فاستتبع الكسب كالشراء، وأما الحديث فنقول به، وأن غنمه وكسبه ونماءه للراهن لكن يتعلق به حق الرهن كالأصل.
والفرق بينه وبين سائر مال الراهن أنه تبع فثبت له حكم أصله، وأما حق الجناية فإنه ثبت بغير رضى المال فلم يتعد ما ثبت فيه لأنه جزاء عدوان فاختص الجاني كالقصاص، ولأن السراية في الرهن لا تفضي إلى استيفاء أكثر من دينه فلا يكثر الضرر فيه.
وأما أرش الجناية على الرهن فيتعلق بها حق المرتهن لأنها بدل جزء منه فكانت من الرهن كقيمته إذا أتلفه إنسان وهذا قول الشافعي وغيره (فصل) وإذا ارتهن أرضاً أو داراً أو غيرهما تبعه في الرهن ما يتبع في البيع، فان كان في الأرض

(4/406)


شجر فقال رهنتك هذه الأرض بحقوقها أو ذكر ما يدل على أن الشجر في الرهن دخل، وإن لم يذكر ذلك فهل يدخل في الرهن؟ على وجهين بناء على دخوله في البيع، وإن رهنه شجراً مثمراً وفيه ثمرة ظاهرة لم تدخل في الرهن كما لا تدخل في البيع.
وإن لم تكن ظاهرة دخلت، وقال الشافعي لا تدخل بحال، وقال أبو حنيفة تدخل بكل حال لأن الرهن عنده يصح على الأصل دون الثمرة وقد قصد إلى عقد صحيح فتدخل الثمرة ضرورة الصحة ولنا أن الثمرة المؤبرة لا تدخل في البيع مع قوته وإزالته لملك البائع فالرهن مع ضعفه أولى، وعلى الشافعي أنه عقد على الشجر فاستتبع الثمرة غير المؤبرة كالبيع.
ويدخل في الرهن الصوف واللبن الموجودان كما يدخل في البيع، وكذلك الحمل وسائر ما يتبع في البيع لأنه عقد وارد على العين فدخلت فيه هذه التوابع كالبيع، ولو كان الرهن داراً فخربت كانت أنقاضها رهناً معها لأنها من أجزائها وقد كانت مرهونة قبل خرابها، ولو رهنه أرضاً فنبت فيها شجر فهو من الرهن سواء نبت بفعل الراهن أو بغير فعله لأنه من نمائها
{مسألة} (ومؤنته على الراهن وكفنه إن مات وأجرة مخزنه إن كان مخزوناً) مؤنة الرهن من طعامه وكسوته ومسكنه وحافظه وحرزه ومخزنة وغير ذلك على الراهن، وبهذا قال مالك والشافعي والعنبري واسحاق، وقال أبو حنيفة أجرة المسكن والحافظ على المرتهن لأنه من مؤنة إمساكه وارتهانه.
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " الرهن من راهنه له غنمه وعليه غرمه " رواه الدارقطني وقال إسناد جيد متصل، ولأنه نوع اتفاق فكان على الراهن كالطعام، ولأن الرهن ملك الراهن فكان عليه مسكنه وحافظه كغير الرهن، وإن ابق العبد فأجرة من يرده على الراهن، وقال أبو حنيفة يكون بقدر الأمانة على الراهن وبقدر الضمان على المرتهن.
وإن إحتيج إلى مداواته لمرض أو جرح فذلك على الراهن، وعند أبي حنيفة هو كأجرة من يرده من إباقه وبنى ذلك على أصله في أن يد المرتهن يد ضمان بقدر دينه فيه وما زاد فهو أمانة عنده ويأتي الكلام على ذلك فيما بعد، فإن مات العبد كانت مؤنة تجهيزه وتكفينه ودفنه على الراهن لأن ذلك تابع لمؤنته.
فإن كل من لزمته مؤنة شخص في حياته لافي مقابلة نفع كانت مؤنة تجهيزه ودفنه عليه كسائر العبيد والإماء والأقارب من الأحرار (فصل) وإن كان الرهن ثمرة فاحتاجت إلى سقي وتسوية وجذاذ فذلك على الراهن، وإن احتاجت إلى تجفيف والحق مؤجل فعليه التجفيف لأنه يحتاج إلى أن يستبقيها رهنا حتى يحل الحق،

(4/407)


وإن كان حالا بيعت ولم يحتج إلى تجفيفها، فإن اتفقا على بيعها وجعل ثمنها رهنا بالحق المؤجل جاز وإن اختلفا قدم قول من يستبقيها بعينها لأن العقد يقتضي ذلك إلا أن يكون مما تقل قيمته بالتجفيف وقد جرت العادة ببيعه رطباً فيباع ويجعل ثمنه رهنا، وإن اتفقا على قطع الثمرة في وقت جاز سواء كان الحق حالا أو مؤجلاً، أو كان الأصلح القطع أو الترك لأن الحق لا يخرج عنهما، وإن اختلفا قدم قول من طلب الأصلح إن كان ذلك قبل حلول الحق، وإن كان الحق حالا قدم قول من طلب القطع لأنه إن كان المرتهن فهو طالب لاستيفاء حقه الحال فلزم إجابته، وإن كان الراهن فهو يطلب بتبرئة ذمته وتخليص عين ملكه من الرهن والقطع أحوط من جهة أن في تبقيته غرراً.
ذكر القاضي هذا في المفلس وهو قول أكثر أصحاب الشافعي وهذا في معناه، ويحتمل أن ينظر في الثمرة فإن كانت تنقص
بالقطع نقصاً كثيراً لم يجبر الممتنع من قطعها لأن ذلك إتلاف فلا يجبر عليه كما لا يجبر على نقض داره ليبيع أنقاضها، ولا على ذبح فرسه ليبيع لحمها، فإن كانت الثمرة مما لا ينتفع بها قبل كمالها لم يجز قطعها قبله ولم يجبر عليه بحال لما فيه من إضاعة المال والله أعلم (فصل) فإن كان الرهن ما شية تحتاج إلى إطراق الفحل لم يجبر الراهن عليه لأنه ليس عليه ما يتضمن زيادة في الرهن وليس ذلك مما يحتاج إليه لبقائها ولا يمنع من ذلك لكونه زيادة لهما لا ضرر على المرتهن فيه، وإن احتاجت إلى رعي فعلى الراهن أن يقيم لها راعياً لأن ذلك يجري مجرى علفها فإن أراد الراهن السفر بها ليرعاها في مكان آخر وكان لها في مكانها مرعى تتماسك به فللمرتهن منعه لأن في السفر بها إخراجها عن نظره ويده، وإن أجدب مكانها فلم تجد ما تتماسك به فللراهن السفر بها لأنها تهلك إذا لم يسافر بها إلا أنها تكون في يد عدل يرضيان به أو ينصبه الحاكم ولا ينفرد الراهن بها، فإن امتنع الراهن من السفر بها فللمرتهن نقلها لأن في بقائها هلاكها وضياع حقه من الرهن، وإن أراد جميعاً السفر بها واختلفا في مكانها قدمنا قول من يعين الأصلح فإن استويا قدم قول المرتهن، وعند الشافعي يقدم قول الراهن وإن كان الأصلح غيره لأنه أملك بها إلا أنه يكون مأواها إلى يد عدل.
ولنا أن اليد للمرتهن فكان أولى كما لو كانا في بلد واحد وأيهما أراد نقلها عن البلد مع خصبه لم يكن له سواء أراد نقلها إلى مثله أو أخصب منه إذ لا معنى للمسافرة بالرهن مع إمكان ترك السفر به وإن اتفقا على نقلها جاز سواء كان أنفع لها اولا لأن الحق لا يخرج عنهما

(4/408)


(فصل) وإن كان عبداً يحتاج إلى ختان والدين حال أو أجله قبل برئه منع منه لأنه ينقص ثمنه وفيه ضرر، وإن كان يبرأ قبل محل الحق والزمان معتدل لا يخاف عليه فيه فله ذلك لأنه من الواجبات ويزيد في الثمن ولا يضر بالمرتهن ومؤنة ختانه على الراهن، وإن مرض فاحتاج إلى دواء لم يجبر الراهن عليه لأنه لا يتحقق أنه سبب لبقائه وقد يبرأ بغير علاج بخلاف النفقة، وإن أراد الراهن مداواته بما لا ضرر فيه لم يمنع منه لأنه مصلحة لهما من غير ضرر بواحد منهما، فإن كان الدواء مما يخاف غائلته كالسموم فللمرتهن منعه منه لأنه لا يأمن تلفه، وإن احتاج الى قصد أو احتاجت الدابة إلى
توديج ومعناه فتح الودجين ليسيل الدم وهما عرقان غليظان من جانبي ثغرة النحر أو تبزيغ وهو فتح الرهصة فللراهن فعل ذلك ما لم يخف منه ضرر، وإن إحتيج إلى قطع شئ من بدنه بدواء لا يخاف منه جاز، وإن خيف منه فأيهما امتنع منه لم يجبر، وإن كانت به آكلة كان له قطعها لأنه يخاف من تركها لامن قطعها، وإن كان به خبيثة فقال أهل الخبرة الأحوط قطعها وهو أنفع من بقائها فللراهن قطعها وإلا فلا، وإن تساوى الخوف عليه في الحالين لم يكن له قطعها لأنه يحدث جرحاً فيه لم يترجح إحداثه، وإن كانت به سلعة أو اصبع زائدة لم يملك الراهن قطعها لأن قطعها يخاف منه وتركها لا يخاف منه، وان كانت الماشية جربة فأراد الراهن دهنها بما يرجى نفعه ولا يخاف ضرره كالقطران والزيت اليسير لم يمنع، وإن خيف ضرره كالكثير فللمرتهن منعه.
وقال القاضي: له ذلك بغير إذن المرتهن لأن له معالجة ملكه، وإن امتنع من ذلك لم يجبر عليه، ولو أراد المرتهن مداواتها بما ينفعها ولا يخشى ضرره لم يمنع لأن فيه إصلاح حقه بما لا يضر بغيره، وإن خيف منه الضرر لم يمكن منه لأن فيه خطراً بحق غيره (فصل) فإن كان الرهن نخلا فاحتاج إلى تأبير فهو على الراهن وليس للمرتهن منعه منه لأن فيه مصلحة بغير مضرة وما يسقط من ليف أو سعف أو عراجين فهو من الرهن لأنه من أجزأئه أو من نمائه، وقال أصحاب الشافعي ليس من الرهن بناءا منهم على أن نماء الرهن ليس منه.
ولا يصح ذلك ههنا لأن السعف من جملة الأعيان التي ورد عليها عقد الرهن فكانت منه كالأصول وانقاض الدار وإن كان الرهن كرما فله زباره لانه لمصلحته ولا ضرر فيه والزرجون من الرهن، وإن كان الشجر

(4/409)


مزدحماً وفي قطع بعضه صلاح لما يبقى فله ذلك، وان أراد تحويله كله لم يملك ذلك، وإن قيل هو الأولى لأنه قد لا يعلق فيفوت الرهن.
وإن امتنع الراهن من فعل هذا كله لم يجبر عليه لأنه لا يلزمه فعل ما فيه زيادة الرهن (فصل) وكل زيادة تلزم الراهن إذا امتنع منها أجبره الحاكم عليها فإن لم يفعل اكترى الحاكم من ماله فإن لم يكن له مال اكترى من الرهن، فإن بذلها المرتهن متطوعاً لم يرجع بشئ، وإن كان
بإذن الراهن محتسبا بالرجوع رجع، فإن أنفق بإذن الراهن ليكون الرهن رهناً بالنفقة والدين الأول لم يصح ولم يصر رهناً بالنفقة لما ذكرنا، وإن قال الراهن انفقت متبرعاً وقال المرتهن بل أنفقت محتسباً بالرجوع فالقول قول المرتهن لأن الخلاف في نيته وهو أعلم بها وعليه اليمين لأن ما قاله الراهن محتمل، وكل مؤنة لا تلزم الراهن كنفقة المداواة والتأبير وأشباههما لا يرجع بها المرتهن إذا أنفقها سواء أنفقها محتسباً أو متبرعا {مسألة} (وهو أمانة في يد المرتهن إن تلف بغير تعد منه فلاشئ عليه ولا يسقط بهلاكه شئ من دينه) وجملة ذلك أن الرهن إذا تلف في يد المرتهن فإن كان تلفه بتعد أو تفريط في حفظه ضمنه لا نعلم في ذلك خلافاً لأنه أمانة في يده فلزمه ضمانه إذا تلف بتعديه أو تفريطه كالوديعة فأما إن تلف بغير تعد منه ولا تفريط فلا ضمان عليه وهو من مال الراهن يروي ذلك عن علي رضي الله عنه، وبه قال عطاء والزهري والاوزاعي والشافعي وأبو ثور وابن المنذر، وروي عن شريح والنخعي والحسن أن الرهن يضمن بجميع الدين وإن كان أكثر من قيمته لأنه روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " الرهن بما فيه " وقال مالك إن كان تلفه بأمر ظاهر كالموت والحريق فمن ضمان الراهن، وإن ادعى تلفه بأمر خفي لم يقبل قوله ويضمن، وقال الثوري وأبو حنيفة يضمنه المرتهن بأقل الا مرين من قيمته أو قدر الدين ويروى ذلك عن عمر رضي الله عنه لما روى عطاء أن رجلا رهن فرساً فنفق عند المرتهن فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بذلك فقال " ذهب حقك " ولأنها عين مقبوضة للاستيفاء فيضمنها

(4/410)


من قبضها لذلك، أو من قبضها نائبه كحقيقة المستوفي، ولأنه محبوس بدين فكان مضموناً كالمبيع إذا حبس لاستيفاء ثمنه.
ولنا ما روى ابن أبي ذؤيب عن الزهري عن سعيد بن المسيب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " لا يغلق الرهن لصاحبه غنمه وعليه غرمه " رواه الأثرم عن أحمد بن عبد الله بن يونس عن ابن أبي ذؤيب ورواه الشافعي عن ابن أبي فديك عن ابن أبي ذؤيب ولفظه " الرهن من صاحبه الذي رهنه وباقيه
سواء " قال ووصله ابن المسيب عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله أو مثل معناه من حديث ابن أبي أنيسة ولأنه وثيقة بالدين فلا يضمن كالزيادة على قدر الدين، ولأنه مقبوض بعقد واحد بعضه أمانة فكان جميعه أمانة كالوديعة، وعلى مالك أن مالا يضمن به العقار لا يضمن به الذهب كالوديعة فأما حديث عطاء فهو مرسل وقوله يخالفه.
قال الدارقطني يرويه اسماعيل بن أمية وكان كذاباً وقيل يرويه مصعب بن ثابت وكان ضعيفاً، ويحتمل أنه أراد ذهب حقك من الوثيقة بدليل أنه لم يسأل عن قدر الدين وقيمه الرهن، والحديث الآخر إن صح فيحتمل أنه محبوس بما فيه، وأما المستوفى فإنه صار ملكاً للمستوفي وله نماؤه وغنمه فكان عليه ضمانه وغرمه بخلاف الرهن والمبيع قبل القبض ممنوع إذا ثبت ذلك فإنه لا يسقط بهلاكه شئ من دينه وهو قول الشافعي لأن الدين كان ثابتاً في ذمة الراهن قبل التلف ولم يوجد ما يسقطه فبقي بحاله {مسألة} (وإن تلف بعضه فباقيه رهن بجميع الدين) لأن جميعه كان رهناً بجميع الدين، فإذا تلف البعض بقي البعض الآخر رهناً بجميع الدين لأن الأصل بقاء ما كان على ما كان، ولأن الباقي بعض الجملة، وقد كان الجميع رهناً فيكون البعض رهناً لأنه من الجملة (فصل) وإذا قضاه حقه وابرأه من الدين بقي الرهن أمانة في يد المرتهن، وبه قال الشافعي وقال أبو حنيفة إذا قضاه كان مضموناً وإذا أبرأه لم يكن مضموناً استحساناً وهذا مناقضه لأن القبض المضمون منه لم يزل ولم يبرئه منه، وعندنا انه كان أمانة وبقي على ما كان عليه وليس عليه رده لأنه أمسكه بإذن مالكه ولا يختص بنفعه فهو كالوديعة بخلاف العارية فإنه يختص بنفعها وبخلاف مالو أطارت الريح إلى دراه ثوباً فإنه يلزمه رده إلى مالكه لأن مالكه لم يأذن في إمساكه، فأما إن طلبه المالك في

(4/411)


هذه الحال لزم من هو في يده من المرتهن أو العدل دفعه إليه إذا أمكنه، فإن امتنع صار ضامنا كالمودع إذا امتنع من رد الوديعة بعد طلبها فإن كان امتناعه لعذر مثل أن يكون بينهما طريق مخوف أو باب مغلق لا يمكنه فتحه أو خاف فوت جمعه أو جماعة أو فوت وقت صلاة أو كان به مرض أو جوع شديد
ونحوه فأخر التسليم لذلك لم يضمن لأنه لا تفريط منه أشبه المودع (فصل) وإذا قبض الرهن فوجده مستحقاً لزمه رده على مالكه والرهن باطل من أصله، فإن أمسكه مع علمه بالغصب حتى تلف في يده استقر الضمان عليه وللمالك تضمين أيهما شاء، فإن أمسكه مع علمه بالغصب حتى تلف في يده استقر الضمان عليه وللمالك تضمين أيهما شاء، فإن ضمن المرتهن لم يرجع على أحد لذلك، وإن ضمن الراهن رجع عليه، وإن لم يعلم بالغصب حتى تلف بتفريطه ففيه ثلاثة أوجه (أحدها) يستقر الضمان عليه أيضاً لأن مال الغير تلف تحت يده العادية أشبه ما لو علم (والثاني) لا ضمان عليه لأنه قبضه على أنه أمانة من غير علمه فهو كالوديعة، فعلى هذا يرجع المالك على الغاصب لا غير (الثالث) للمالك تضمين أيهما شاء ويستقر الضمان على الغاصب لأنه غره فرجع عليه كالمغرور بحرية أمة {مسألة} (ولا ينفك شئ من الرهن حتى يقضي جميع الدين) وجملة ذلك أن حق الوثيقة يتعلق بجميع الرهن فيصير محبوساً بكل الحق وبكل جزء منه لا ينفك منه شئ حتى يقضي جميع الدين سواء كان مما يمكن قسمته أولا.
قال إبن المنذر أجمع كل من أحفظ عنه من أهل العلم على أن من رهن شيئاً بمال فأدى بعض المال وأراد إخراج بعض الرهن أن ذلك ليس له ولا يخرج شئ حتى يوفيه آخر حقه أو يبرئه من ذلك كذلك قال مالك والثوري والشافعي واسحاق وأبو ثور وأصحاب الرأي لأن الرهن وثيقة بحق فلا يزول إلا بزوال جميعه كالضمان والشهادة.
{مسألة} (وإن رهنه عند رجلين فوفى أحدهما انفك في نصيبه) إذا رهن عيناً عند رجلين فنصفها رهن عند كل واحد منهما بدينه فمتى وفي أحدهما خرجت حصته من الرهن لأن عقد الواحد مع الاثنين بمنزلة العقدين فكأنه رهن كل واحد منهما النصف منفرداً فإن أراد مقاسمه المرتهن وأخذ نصيب من وفاه، وكان الرهن مما لا تنقصه القسمة كالمكيل والموزون فله ذلك، وإن كان مما تنقصه القسمة لم تجب قسمته لأن على المرتهن ضرراً فيها ويقر

(4/412)


في يد المرتهن بعضه رهن وبعضه وديعة، وقال أبو الخطاب فيمن رهن عبده عند رجلين فوفى أحدهما يبقى جميعه رهناً عند الآخر حتى يوفيه، وكلامه محمول على أنه ليس للراهن مقاسمه المرتهن لما عليه من الضرر لا بمعنى أن العين كلها تكون رهناً إذ لا يجوز أن يقال أنه رهن نصف العبد عند رجل فصار جميعه رهنا {مسألة} (وإن رهنه رجلان شيئاً فوفاه أحدهما انفك في نصيبه) لما ذكرنا وقد قال أحمد في رواية مهنا في رجلين رهنا دارا لهما عند رجل على ألف فقضاه أحدهما ولم يقض الآخر فالدار رهن على ما بقي وهذا من كلام أحمد محمول أيضاً على أنه ليس للراهن مقاسمه المرتهن لما عليه من الضرر لا بمعنى أن العين كلها تكون رهناً عند الآخر لأنه إنما رهنه نصفها (فصل) ولو رهن اثنان عبداً لهما عند اثنين بألف فهذه أربعة عقود ويصير كل ربع من العبد رهناً بمائتين وخمسين فمتى قضاها من هي عليه انفك من الرهن ذلك القدر ذكره القاضي وهو الصحيح {مسألة} (وإذا حل الدين وامتنع من وفائه فإن كان الراهن أذن للمرتهن أو العدل في بيع الرهن باعه ووفى الدين وإلا رفع الأمر إلى الحاكم فيجبره على وفاء الدين أو بيع الرهن فان لم يفعل باعه الحاكم وقضى دينه) وجملة ذلك أنه إذا حل الدين لزم الإيفاء لأنه دين حال فلزم إيفاؤه كالذي لارهن به فان لم يوف وكان قد أذن للمرتهن أو للعدل في بيع الرهن باعه ووفى الحق من ثمنه لأن هذا هو المقصود من الرهن وقد باعه بإذن صاحبه في قضاء دينه يصح في غير الرهن وما فضل من ثمنه فهو للمالك وإن فضل من الدين شئ فعلى الراهن وإن لم يكن أذن لهما في بيعه أو كان قد أذن لهما ثم عزلهما طولب بالوفاء أو بيع الرهن فإن أبى فعلى الحاكم ما يرى من حبسه أو تعزيره ليبيعه أو يبيعه الحاكم بنفسه أو نائبه وبهذا قال الشافعي، وقال أبو حنيفة لا يبيعه الحاكم لأن ولاية الحاكم على من عليه الحق لا على ماله فلم ينفذ بيعه بغير إذنه.
ولنا أنه حق تعين عليه فإذا امتنع من أدائه قام الحاكم مقامه في أدائه كالايفاء من جنس الدين وإن وفى الدين من غير الرهن انفك الرهن (فصل) قال الشيخ رحمه الله (وإن شرط في الرهن جعله على يد عدل صح وقام قبضه
مقام قبض المرتهن)

(4/413)


وجملة ذلك أن المتراهنين إذا شرطا كون الرهن على يدي رجل رضياه واتفقا عليه جاز وكان وكيلا للمرتهن نائباً عنه في القبض فمتى قبضه صح قبضه وقام مقام قبض المرتهن في قول أكثر الفقهاء منهم عطاء وعمرو بن دينار ومالك والثوري وابن المبارك والشافعي واسحاق وأبو ثور وأصحاب الرأي وقال الحكم والحارث العكلي وقتادة وابن أبي ليلى لا يكون مقبوضاً بذلك لأن القبض من تمام العقد فتعلق بالمتعاقدين كالإيجاب والقبول ولنا أنه قبض في عقد فجاز فيه التوكيل كسائر القبوض وفارق القبول لأن الإيجاب إذا كان لشخص كان القبول منه لأنه مخاطب به ولو وكل في الإيجاب والقبول قبل أن يوجب له صح أيضاً وما ذكروه ينتقض بالقبض في البيع فيما يعتبر القبض فيه.
إذا ثبت هذا فإنه يجوز أن يجعلا الرهن على يدي من يجوز توكيله وهو الجائز التصرف مسلما كان أو كافراً عدلاً أو فاسقاً ذكرا أو انثى ولايكون صبياً لأنه غير جائز التصرف مطلقاً فإن فعلا كان قبضه وعدم القبض واحداً ولا عبداً بغير إذن سيده لأن منافع العبد لسيده فلا يجوز تضييعها في الحفظ بغير إذنه فإن أذن له السيد جاز.
وأما المكاتب فيجوز بجعل لأن له الكسب وبذل منافعه بغير إذن السيد ولا يجوز بغير جعل لأنه ليس له التبرع بمنافعه.
{مسألة} (فإن شرط جعله في يد اثنين فليس لا حدهما الانفراد بحفظه) لأن المتراهنين لم يرضيا الا بحفضهما معاً فلم يجز لأحدهما الانفراد به كالوصين فإن سلمه أحدهما إلى الآخر فعليه ضمان النصف لأنه القدر الذي تعدى فيه وهذا أحد الوجهين لأصحاب الشافعي، وفي الآخر إذا رضي أحدهما بإمساك الآخر جاز، وبهذا قال أبو يوسف ومحمد وقال أبو حنيفة إن كان مما ينقسم اقتسماه وإلا فلكل واحد منهما إمساك جميعه لأن اجتماعهما على حفظه يشق عليهما فحمل الأمر على أن لكل واحد منهما الحفظ ولنا أن المتراهنين لم يرضيا إلا بحفظهما معاً فلم يجز لأحدهما الانفراد بذلك كالوصيين ولا
يجوز لأحدهما الانفراد بالتصرف.
قولهم أن الاجتماع على الحفظ يشق ممنوع لإمكان جعله في مخزن عليه لكل واحد منهما قفل {مسألة} (وليس للراهن ولا للمرتهن إذا لم يتفقا ولا للحاكم نقله عن يد العدل إلا أن يتغير حالة)

(4/414)


وجملة ذلك أن العدل مادام بحاله لم يتغير عن الأمانة ولا حدثت بينه وبين أحدهما عداوة فليس لأحدهما ولا للحاكم نقله عن يده لانهما رضيا به في الابتداء وإن اتفقا على نقله جاز لأن الحق لهما لم يعدهما وكذلك لو كان الرهن في يد المرتهن فلم يتغير حاله لم يكن للراهن ولا للحاكم نقله عن يده، فإن تغيرت حال العدل بفسق أو ضعف أو حدثت عداوة بينه وبينهما أو بينه وبين أحدهما فمن طلب نقله عن يده له ذلك ويضعانه في يد من اتفقا عليه.
فإن اختلفا وضعه الحاكم عند عدل وإن اختلفا في تغير حاله بحث الحاكم وعمل بما ظهر له، وهكذا لو كان في يد المرتهن فتغيرت حاله في الثقة والحفظ فللراهن رفعه عن يده إلى الحاكم ليضعه في يد عدل، وإذا ادعى الراهن تغير حال المرتهن فأنكر بحث الحاكم عن ذلك وعمل بما بان له.
فإن مات العدل أو المرتهن لم يكن لورثتهما إمساكه إلا برضاهما فإن اتفقا عليه جاز، وإن اتفقا على عدل يضعانه عنده فلهما ذلك لأن الحق لهما فيفوض أمره إليهما.
وإن اختلف الراهن والمرتهن عند موت العدل أو اختلف الراهن وورثة المرتهن رفعا الأمر إلى الحاكم ليضعه على يد عدل فإن كان الراهن في يد اثنين فمات أحدهما أو تغيرت حاله بفسخ أو ضعف عن الحفظ أو عداوة أقيم مقامه عدل يضم إلى العدل الآخر فيحفضان معاً {مسألة} (وله رده إليهما ولا يملك رده إلى أحدهما فإن فعل فعليه رده إلى يده فإن لم يفعل ضمن حق الآخر) وجملة ذلك أن العدل متى أراد رده عليهما فله ذلك وعليهما قبوله لأنه أمين متطوع بالحفظ فلم يلزمه المقام عليه فإن امتنع أجبرهما الحاكم فإن تغيبا نصب الحاكم أميناً يقبضه لهما لأن للحاكم ولاية على الممتنع من الحق الذي عليه فإن دفعه إلى أمين من غير امتناعهما ضمن الأمين وضمن الحاكم لأنه لا ولاية له على غير الممتنع وكذلك لو تركه العدل عند آخر مع وجودهما ضمن وضمن القابض فإن
امتنعا ولم يجد حاكماً فتركه عند عدل آخر لم يضمن.
وإن امتنع أحدهما لم يكن له دفعه إلى الآخر فإن فعل ضمن.
والفرق بينهما أن أحدهما يمسكه لنفسه والعدل يمسكه لهما هذا فيما إذا كانا حاضرين.
فإن كانا غائبين نظرت فإن كان للعدل عذر من مرض أو سفر أو نحوه دفعه إلى الحاكم فقبضه منه أو نصب له عدلاً يقبضه لهما.
فإن لم يجد حاكما أودعه عند ثقة وليس له أن يودعه عند ثقة مع وجود الحاكم فإن فعل ضمن.
فإن لم يكن له عذر وكانت الغيبة بعيدة قبضه الحاكم منه فان لم

(4/415)


يجد حاكماً دفعة إلى عدل، وإن كانت الغيبة دون مسافة القصر فهو كما لو كانا حاضرين لأنهما في حكم الإقامة، وإن كانا أحدهما حاضراً وحده فحكمهما حكم الغائبين وليس له دفعه إلى الحاضر منهما وفي كل موضع قلنا لا يجوز له دفعه إلى أحدهما إذا دفعه إليه لزمه رده إلى يده فإن لم يفعل ضمن حق الآخر لأنه فرط في دفعه إليه وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم " على اليد ما أخذت حتى تؤدي " رواه أبو داود والترمذي والنسائي {مسألة} (فإن أذنا له في البيع لم يبع إلا بنقد البلد فان كان فيه نقود باع بجنس الدين) وجملة ذلك إنهما إذا أذنا للعدل في البيع ولم يعينا نقدا لم يبع إلا بنقد البلد لأن الحظ فيه فإن كان فيه نقود باع بأغلبها لذلك.
فإن تساووا فقال القاضي يبيع بما يؤديه إليه اجتهاده وهو قول الشافعي لأنه الأحظ.
فأن تساووا بيع بجنس الدين.
والذي ذكره شيخنا أن النقود إذا تساوت قدم البيع بجنس الدين على البيع بما ير فيه الحظ لأنه يمكن القضاء منه.
فإن لم يكن فيها جنس الدين وتساوت النقود عنده في الحظ عين الحاكم له ما يبيعه به، وإن عينا له نقداً لم يجز أن يخالفهما لأن الحق لهما، وإن اختلفا لم يقبل قول واحد منهما لأن لكل واحد منهما فيه حقاً للراهن ملك الثمن وللمرتهن حق الوثيقة واستيفاء حقه فعلى هذا يرفع الأمر إلى الحاكم فيأمر ببيعه بنقد البلد سواء كان من جنس الحق أو لم يكن وافق قول أحدهما أو لم يوافق لأن الحظ في ذلك، قال شيخنا والأولى أنه يبيعه بما يرى الحظ فيه.
فان كان في البلد نقود فهو كما لو لم يعينا نقداً وحكمه في البيع حكم الوكيل في وجوب الاحتياط والمنع من البيع بدون ثمن المثل ومن البيع نساء، ومتى خالف لزمه ما يلزم الوكيل
المخالف، وذكر القاضي رواية في البيع نساء أنه يجوز بناء على الوكيل ولا يصح لأن البيع ههنا لإيفاء دين حال يجب تعجيله والبيع نساء يمنع من ذلك.
وكذا نقول في الوكيل متى وجدت في حقه قرينة دالة على منع البيع نساء لم يجز له وإنما الروايتان فيه عند انتفاء القرائن.
وكل موضع حكمنا ببطلان البيع وجب رد المبيع إن كان باقيا فإن تعذر فللمرتهن تضمين أيهما شاء من العدل أو المشتري بأقل الأمرين من قيمة الرهن أو قدر الدين لأنه يقبض قيمة الرهن مستوفياً لحقه لا رهناً فلذلك لم يكن له أن يقبض أكثر من دينه وما بقي من قيمة الرهن للراهن يرجع به على من شاء منهما.
وإن استوفى دينه من الراهن رجع الراهن بقيمته على من شاء منهما، ومتى ضمن المشتري لم يرجع على أحد لأن

(4/416)


العين تلفت في يده، وإن ضمن العدل رجع على المشتري (فصل) ومتى قدر له ثمناً لم يجز بيعه بدونه وإن أطلق فله بيعه بثمن مثله أو زيادة عليه وبهذا قال الشافعي، وقال أبو حنيفة له بيعه ولو بدرهم والكلام معه في الوكالة: فإن أطلقا فباع بأقل من ثمن المثل مما يتغابن الناس به صح ولا ضمان عليه لأن ذلك لا يضبط غالبا وإن كان النقص أكثر من ذلك أو باع بأنقص مما قدر له لم يصح البيع لأنه بيع لم يؤذن فيه فلم يصح كما لو خالف في النقد اختاره شيخنا، وقال أصحابنا يصح ويضمن النقص كله {مسألة} (وإن قبض الثمن فتلف في يده فهو من ضمان الراهن) إذا باع العدل الرهن بإذنهما وقبض الثمن فتلف في يده من غير تفريط فلا ضمان عليه لأنه أمين فهو كالوكيل ولا نعلم في ذلك خلافا ويكون من ضمان الراهن وبهذا قال الشافعي.
وقال أبو حنيفة ومالك: يكون من ضمان المرتهن لأن البيع لأجله، ولنا أنه وكيل الراهن في البيع والثمن ملكه وهو أمين له في قبضه فإذا تلف كان من ضمان موكله كسائر الأمناء.
وإن ادعى التلف فالقول قوله مع يمينه لأنه أمين ويتعذر عليه إقامة البينة على ذلك فإن كلفناه البينة شق عليه وربما أدى إلى أن لايدخل الناس في الأمانات، فإن خالفاه في قبض الثمن فقالا ما قبضه من المشتري وادعى ذلك ففيه وجهان (أحدهما) يقبل قوله لأنه أمين (والآخر) لا يقبل لأن هذا ابراء للمشتري من الثمن
فلم يقبل قوله كما لو أبرأه من غير الثمن {مسألة} (وإن استحق المبيع رجع المشتري على الراهن) إذا خرج المبيع مستحقاً فالعهدة على الراهن دون العدل إذا أعلم المشتري أنه وكيل وهكذا كل وكيل باع مال غيره، وهذا قول الشافعي، وقال أبو حنيفة: العهدة على الوكيل والكلام معه يأتي في الوكالة.
فإن علم المشتري بعد تلف الثمن في يد العدل رجع على الراهن ولا شئ على العدل.
فإن قيل لم لا يرجع المشتري على العدل لأنه قبض الثمن بغير حق؟ قلنا لأنه سلمه اليه على أنه أمين في قبضه يسلمه إلى المرتهن فلذلك لم يجب الضمان عليه، وأما المرتهن فقد بان له أن عقد الرهن كان فاسداً فإن كان مشروطاً في بيع ثبت له الخيار فيه وإلا سقط حقه، فإن كان الراهن مفلساً حياً أو ميتاً كان المرتهن والمشترى أسوة الغرماء لأنهم تساووا في ثبوت حقوقهم في الذمة فاستووا في قسم ماله بينهم، فأما

(4/417)


إن خرج مستحقاً بعد دفع الثمن إلى المرتهن رجع المشتري على المرتهن وهو قول الشافعي: وقال أبو حنيفة يرجع على العدل ويرجع العدل على من شاء منهما من الراهن والمرتهن ولنا أن عين ماله صار إلى المرتهن بغير حق فكان رجوعه عليه كما لو قبضه منه، فإن كان المشتري رده بعيب لم يرجع على المرتهن لأنه قبض الثمن بحق ولا على العدل لأنه أمين ويرجع على الراهن، فأما إن كان العدل حين باعه لم يعلم المشتري أنه وكيل كان للمشتري الرجوع عليه ويرجع هو على الراهن إن أقر العدل بذلك أو قامت به بينة فإن أنكر ذلك فالقول قول العدل مع يمينه، فإن نكل عن اليمين فقضي عليه بالنكول أوردت اليمين على المشتري فحلف ورجع على العدل لم يرجع العدل على الراهن لأنه يقر أنه ظلمه.
وعلى قول الخرقي القول في حدوث العيب قول المشتري مع يمينه وهو إحدى الروايتين عن أحمد، فإذا حلف المشتري رجع على العدل ورجع العدل على الراهن، فإن تلف المبيع في يد المشتري ثم بان مستحقاً قبل وزن ثمنه فللمغصوب منه تضمين من شاء من الغاصب والعدل والمرتهن والمشتري ويستقر الضمان على المشتري لأن التلف في يده هذا إذا علم بالغصب.
وإن لم يكن عالماً فهل يستقر الضمان عليه أو على الغاصب؟ على روايتين
{مسألة} (وإن ادعى دفع الثمن إلى المرتهن فأنكر ولم يكن قضاه ببينة ضمن، وعنه لا يضمن إلا أن يكون أمر بالإشهاد فلم يفعل وهكذا الحكم في الوكيل) إذا ادعى العدل دفع الثمن إلى المرتهن فأنكر ففيه وجهان (أحدهما) يقبل قوله في حق الراهن ولا يقبل في حق المرتهن ذكره القاضي وهو مذهب الشافعي لأن العدل وكيل الراهن في دفع الثمن إلى المرتهن وليس بوكيل للمرتهن في ذلك إنما هو وكيله في الحفظ فقط فلم يقبل قوله عليه فيما ليس بوكيل له فيه كما لو وكل رجلا في قضاء دين فادعى أنه سلمه إلى صاحب الدين (والثاني) يقبل قوله على المرتهن في إسقاط الضمان عن نفسه ولا يقبل في نفي الضمان من غيره ذكره الشريف أبو جعفر وهو مذهب أبي حنيفة لأنه أمين فقبل قوله في إسقاط الضمان عن نفسه كالمودع يدعي رد الوديعة، فعلى هذا إذا حلف العدل سقط الضمان عنه ولم يثبت على المرتهن أنه قبضه.
وعلى القول الأول يحلف المرتهن ويرجع على من شاء منهما، فان رجع عن العدل لم يرجع العدل على الراهن لأنه يقول ظلمني وأخذ مني بغير حق فلم يرجع على الراهن كما لو غصبه مالاً آخر، وإن رجع على الراهن فهل يرجع

(4/418)


الراهن على العدل؟ ينظر فإن كان دفعه إلى المرتهن بحضرة الراهن أو ببينة فماتت أو غابت لم يرجع عليه لأنه أمين ولم يفرط في القضاء، وإن دفعه في غيبة الراهن بغير بينة رجع عليه في إحدى الروايتين لأنه فرط في القضاء بغير بينة فلزمه الضمان كما لو تلف الرهن بتفريطه (والرواية الثانية) لا يرجع الراهن عليه سواء صدقه أو كذبه لأنه أمين في حقه إلا أنه إن كذبه فله عليه اليمين، فإن كان الراهن أمره بالإشهاد فلم يفعل لزمه الضمان لأنه مفرط وهكذا الحكم في الوكيل لأنه في معناه (فصل) إذا غصب المرتهن الرهن من العدل ثم رده إليه زال عنه الضمان، ولو كان الرهن في يد المرتهن فتعدى فيه ثم ازال التعدي أو سافر به ثم رده لم يزل عنه الضمان لانه استئمانه زال بذلك فلم يعد بفعله مع بقائه في يده بخلاف التي قبلها فإنه رد إلى يد نائب مالكها أشبه مالو ردها إلى مالكها (فصل) إذا استقرض ذمي من مسلم مالاً فرهنه خمراً لم يصح سواء جعله في يد ذمي أو غيره فإن باعها الراهن أو نائبه الذمي وجاء المقرض بثمنها لزمه قبوله، فإن أبى قيل له إما أن تقبض وإما أن
تبرئ لأن أهل الذمة إذا تقابضوا في العقود الفاسدة جرت مجرى الصحيح.
قال عمر رضي الله عنه في أهل الذمة معهم الخمر: ولو هم بيعها وخذوا من أثمانها، وإن جعلها على يد مسلم فباعها لم يجبر المرتهن على قبول الثمن لأنه بيع فاسد لا يقران عليه ولا حكم له {مسألة} وإن شرط أن يبيعه المرتهن أو العدل صح فإن عزلهما صح عزله) إذا كان الرهن على يدي عدل فشرط أن يبيعه العدل عند حلول الحق أو أن يبيعه المرتهن صح ويصح بيعه لأنه شرط فيه مصلحة للمرتهن لا ينافي مقتضى الرهن فصح كما لو شرط صفة فيه، وبه قال أبو حنيفة ومالك والشافعي فيما إذا شرط أن يبيعه العدل، فإن شرط أن يبيعه المرتهن ففيه اختلاف يذكر في الشروط في الرهن، فإن عزل الراهن العدل أو المرتهن عن البيع صح ولم يملك البيع، وبهذا قال الشافعي، وقال أبو حنيفة ومالك لا ينعزل لأن وكالته صارت من حقوق الرهن فلم يكن للراهن إسقاطه كسائر حقوقه.
وقال ابن أبي موسى: ويتوجه لنا مثل ذلك فإن أحمد قد منع الحيلة في غير موضع من كتبه وهذا يفتح باب الحيلة للراهن، فإنه شرط ذلك للمرتهن ليجيبه إليه ثم يعزله.
والمنصوص الأول لأن الوكالة عقد جائز فلم يلزم المقام عليها كسائر الولايات وكونه من حقوق الرهن لا يمنع جوازه كما لو شرطا الرهن نفي البيع فإنه لا يصير لازما، وكذلك إذا مات الراهن بعد الاذن

(4/419)


تنفسخ الوكالة، وقياس المذهب أنه متى عزله عن البيع وكان الرهن مشروطاً في بيع فللمرتهن فسخ البيع الذي حصل الرهن عنه كما لو امتنع من تسليم الرهن المشروط في البيع، فأما إن عزله المرتهن لم ينعزل لأن العدل وكيل الراهن لأن الراهن ملكه، ولو انفرد بتوكيله صح فلم ينعزل بعزل غيره لكن لا يجوز بيعه بغير إذنه وهكذا لو لم يعزلاه فحل الحق لم يبعه حتى يستأذن المرتهن لأن البيع لحقه فلم يجز حتى يأذن فيه ولايحتاج إلى تجديد إذن من الراهن في ظاهر كلام أحمد لأن الأذن قد وجد فاكتفى به كما في الوكالة في سائر الحقوق، وذكر القاضي وجها أنه يحتاج إلى تجديد إذن لأنه قد يكون له غرض في قضاء الحق من غيره.
والأول أولى فإن الاذن كاف ما لم يغير والغرض لااعتبار به مع صريح الاذن بخلافه بدليل مالو جدد الأذن بخلاف المرتهن فإن البيع يفتقر إلى مطالبته
بالحق ومذهب الشافعي نحو هذا (فصل) ولو أتلف الرهن في يد العدل أجنبي فعلى الجاني قيمته تكون رهناً في يده وله المطالبة بها لأنها بدل الرهن وقائمة مقامه وله إمساك الرهن وحفظه، فإن كان المتراهنان أذنا له في بيع الرهن فقال القاضي قياس المذهب أن له بيع بدله لأن له بيع نماء الرهن تبعاً للأصل فالبدل أولى، وقال أصحاب الشافعي ليس له ذلك لأنه متصرف بالإذن فلا يملك بيع ما لم يؤذن له في بيعه والمأذون في بيعه قد تلف وبدله غيره، وللقاضي أن يقول أنه قد أذن له في بيع الرهن والبدل رهن ثبت له حكم الأصل من كونه يملك المطالبة به وإمساكه واستيفاء دينه من ثمنه فكذلك بيعه، فإن كان البدل من جنس الدين وقد أذن له في وفائه من ثمن الرهن مالك ايفاءه منه لأن بدل الرهن من جنس الدين فأشبه ثمن المبيع {مسألة} (فإن شرط أن لا يبيعه عند الحلول أو إن جاءه بحقه في محله وإلا فالرهن له لم يصح الشرط وفي صحة الرهن روايتان) الشروط في الرهان قسمان: صحيح وفاسد فالصحيح مثل أن يشترط كونه على يدي عدل أو عدلين أو أكثر أو أن يبيعه العدل عند حلول الحق ولا نعلم في صحته خلافاً فإن شرط أن يبيعه المرتهن صح، وبه قال أبو حنيفة ومالك، وقال الشافعي لا يصح لأنه وكيل فيما يتنافى فيه الغرضان فلم يصح كما لو وكله في بيعه من نفسه، ووجه التنافي أن الراهن يريد الصبر على المبيع والا حتياط في توفير

(4/420)


الثمن والمرتهن يريد تعجيل الحق وإنجاز المبيع.
ولنا ما جاز توكيل غير المرتهن فيه جاز توكيل المرتهن فيه كبيع عين أخرى، ولأن من جاز أن يشترط له الإمساك جاز اشتراط البيع له كالعدل ولا يضر اختلاف الغرضين إذا كان غرض المرتهن مستحقاً له وهو استيفاء الثمن عند حلول الحق وإنجاز البيع، وعلى أن الراهن إذا وكله مع العلم بغرضه فقد سمح له بذلك والحق له فلا يمنع من السماحة به كما لو وكل فاسقاً في بيع ماله وقبض ثمنه، ولا نسلم أنه لا يجوز توكيله في بيع شئ من نفسه، ولئن سلمنا فلأن الشخص الواحد يكون بائعاً مشترياً وموجباً قابلاً وقابضاً من نفسه لنفسه بخلاف مسئلتنا
(فصل) إذا رهنه أمة فشرطا كونها عند امرأة أو ذي محرم أو كونها في يد المرتهن أو أجني على وجه لا يفضي إلى الخلوة بها مثل أن يكون لهما زوجات أو سراري، أو نساء من محارمهما معهما في دارهما جاز لأنه لا يفضي إلى محرم، وإن لم يكن كذلك فسد الشرط لافضائه إلى الخلوة المحرمة فلا يؤمن عليها ولا يفسد الرهن لأنه لا يعود إلى نقص ولا ضرر في حق المتعاقدين ويكون الحكم كما لو رهنها من غير شرط يصح الرهن ويجعلها الحاكم على يد من يجوز أن تكون عنده، وإن كان الرهن عبداً فشرط موضعه جاز أيضاً كالأمة، ويحتمل أن لا يصح لأن للأمة عرفاً بخلاف العبد، والأول أصح فإن الأمة إذا كان المرتهن ممن يجوز وضعها عنده كالعبد، وإذا كان مرتهن العبد امرأة لا زوج لها فشرطت كونه عندها على وجه يفضي إلى خلوته بها لم يجز أيضاً فاستويا (القسم الثاني) الشروط الفاسدة وهو أن يشترط ما ينافي مقتضى الرهن نحو ان لا يباع الرهن عند حلول الحق أو لا يستوفى الدين من ثمنه، أو لا يباع ما خيف تلفه أو بيع الرهن بأي ثمن كان، أو أن لا يبيعه إلا بما يرضيه فهذه شروط فاسدة لمنافاتها مقتضى العقد فإن المقصود مع الوفاء بهذه الشروط مفقود، وكذلك إن شرطا الخيار للراهن أو أن لا يكون العقد لازماً في حقه أو توقيت الرهن أو أن يكون رهناً يوماً ويوما لا، أو كون الرهن في يد الراهن أو أن ينتفع به المرتهن أو كونه مضموناً على المرتهن أو العدل فهذه كلها فاسدة لانها منها ما ينافي مقتضى العقد ومنها ما لا يقتضيه العقد ولا هو من مصلحته، وعن أحمد إذا شرط في الرهن أن ينتفع به المرتهن أنه يجوز في البيع.
قال القاضي: معناه أن يقول بعتك هذا الثوب بدينار بشرط أن ترهنني عبدك يخدمني شهراً فيكون بيعاً واجارة فهو صحيح، وإن أطلق فالشرط باطل لجهالة الثمن، وقال مالك لا بأس أن يشترط في البيع منفعة الرهن

(4/421)


إلى أجل في الدور والأرضين وكرهه في الحيوان والثياب وكرهه في القرض ولنا أنه شرط في الرهن ما ينافيه فلم يصح كما لو شرطه في القرض، فإن شرط شيئاً منها في عقد الرهن فقال القاضي يحتمل أن يفسد الرهن بها بكل حال لأن العاقد إنما بذل ملكه بهذا الشرط، فإذا لم يسلم له لم يصح العقد لعدم الرضى به بدونه، وقيل أن شرط الرهن مؤقتاً أو رهنه يوماً ويوما لا
فسد الرهن وهل يفسد بسائرها؟ على وجهين بناء على الشروط الفاسدة في البيع، ونصر أبو الخطاب في رءوس المسائل صحته، وبه قال أبو حنيفة لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال " لا يغلق الرهن " وهو مشروط فيه شرط فاسد ولم يحكم بفساده، وقيل ما ينقص حق المرتهن يبطله وجها واحدا ومالا فعلى وجهين وهو مذهب الشافعي لأن المرتهن شرطت له زيادة لم تصح له فإذا فسدت الزيادة لم يبطل أصل الرهن (فصل) وإن شرط أنه متى حل الحق ولم توفني فالرهن لي بالدين أو فهو مبيع لي بالدين الذي عليك فهو شرط فاسد، وروي ذلك عن ابن عمر وشريح والنخعي ومالك والثوري والشافعي وأصحاب الرأي ولا نعلم عن غيرهم خلافهم لما روى عبد الله بن جعفر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا يغلق الرهن " رواه الأثرم قلت لأحمد ما معنى قوله، " لا يغلق الرهن "؟ قال لا يدفع رهناً إلى رجل ويقول إن جئتك بالدراهم إلى كذا وكذا وإلا فالرهن لك، قال إبن المنذر هذا معنى قوله لا يغلق الرهن عند مالك والثوري وأحمد وفي حديث معاوية بن عبد الله بن جعفر أن رجلاً رهن داراً بالمدينة إلى أجل مسمى فمضى الأجل فقال الذي ارتهن: منزلي فقال النبي صلى الله عليه وسلم " لا يغلق الرهن " ولأنه علق البيع على شرط فإنه جعله مبيعاً بشرط أن لا يوفيه الحق في محله والبيع المعلق بشرط لا يصح فإذا شرط هذا الشرط فسد الرهن.
وفيه رواية أخرى أنه لا يفسد لما ذكرنا في الشروط الفاسدة، وهذا ظاهر قول أبي الخطاب في رءوس مسائلة، واحتج بالحديث المذكور فبقي غلق الرهن على أصله فدل على صحته ولأن الراهن قد رضي برهنه مع هذا الشرط فمنع بطلانه أولى أن يرضى به؟ ولنا أنه رهن بشرط فاسد فكان فاسداً كما لو شرط توقيته وليس في الخبر أنه يشرط ذلك في ابتداء العقد (فصل) وإذا قال الغريم رهنتك عبدي هذا على أن تزيدني في الأجل كان باطلاً لأن الأجل لا يثبت في الدين إلا أن يكون مشروطاً في عقد قد وجب به وإذا لم يثبت الأجل لم يصح الرهن لأنه جعله في مقابلته ولأن ذلك يضاهي ربا الجاهلة كانوا يزيدون في الدين ليزدادوا في الأجل

(4/422)


(فصل) إذا كان له على رجل ألف فقال اقرضني ألفاً بشرط أن أرهنك عبدي هذا بألفين فنقل حنبل عن أحمد أن القرض باطل، وهو مذهب الشافعي لأنه قرض يجر منفعة وهي الاستيثاق
بالألف الأول وإذا بطل القرض بطل الرهن فان قيل أليس لو شرط أن يعطيه رهنا بما يقترضه جاز؟ قلنا ليس هذا قرضاً جر منفعة لأن غاية ما حصل له تأكيد الاستيفاء لبدل ما أقرضه وهو مثله والقرض يقتضي وجوب الوفاء وفي مسئلتنا شرط في هذا القرض الاستيثاق لدينه الأول فقد شرط استيثاقاً لغير موجب القرض.
ونقل مهنا أن القرض صحيح ولعل أحمد حكم بصحة القرض مع فساد الشرط كيلا يفضي إلى جر المنفعة بالقرض أو حكم بفساد الرهن في الألف الأول وحده.
ولو كان مكان القرض بيع فقال بعني عبدك هذا بألف على أن أرهنك عبدي به وبالألف الآخر الذي علي فالبيع باطل رواية واحدة لأن الثمن مجهول لكونه جعله ألفاً ومنفعة هي وثيقة بالألف الأول وتلك المنفعة مجهولة ولانه شرط عقد الرهن بالألف الأول فلم يصح كما لو أفرده أو كما لو باعه داره بشرط أو يبيعه الآخر داره (فصل) إذا فسد الرهن وقبضه المرتهن فلا ضمان عليه لأنه قبضه بحكم أنه رهن وكل عقد كان صحيحاً مضموناً أو غير مضمون ففاسده كذلك فإن كان مؤقتاً أو شرط أن يصير المرتهن بعد انقضاء

(4/423)


مدته صار بعد ذلك مضموناً لأنه مقبوض بحكم بيع فاسد.
وحكم الفاسد من العقود حكم الصحيح في الضمان.
وإن كان أرضاً فغرسها قبل انقضاء الأجل فهو كغرس الغاصب لأنه غرس بغير إذن وإن غرس بعد الأجل وكان قد شرط أن الرهن يصير له فقد غرس بإذن لأن البيع قد تضمن الأذن وإن كان فاسداً فعلى هذا يكون مخيراً بين أن يقر غرسه له وبين أخذه بقيمته وبين أن يلزمه بقلعه ويضمن له ما نقص (فصل) إذا اشترى سلعة وشرط أن يرهنه بها شيئاً من ماله أو شرط ضميناً فالبيع والشرط صحيح لأنه من مصلحة العقد غير مناف لمقتضاه ولا نعلم في صحته خلافا إذا كان معلوماً.
ومعرفة الرهن تحصل بالمشاهدة وبالصفة التي يعلم بها الموصوف كما في السلم ويتعين بالقبض.
والضمين يعلم بالإشارة إليه ويذكر اسمه ولا يصح بالصفة بأن يقول رجل غني من غير تعيين لأن الصفة لا تأتي عليه، ولو قال بشرط رهن أو ضمين كان فاسداً لأن ذلك يختلف وليس له عرف ينصرف إليه بالإطلاق.
ولو قال بشرط رهن أحد هذين العبدين أو يضمنني أحد هذين الرجلين لم يصح لأن الغرض يختلف فلم يصح مع عدم التعيين كالبيع، وهذا مذهب الشافعي.
وحكي عن مالك وأبي ثور أنه يصح الرهن بالمجهول ويلزمه أن يدفع

(4/424)


إليه رهناً بقدر الدين لأنه وثيقة فجاز شرطها مطلقاً كالشهادة.
وقال أبو حنيفة إذا قال على أن أرهنك أحد هذين العبدين جاز لأن بيعه جائز عنده ولنا أنه شرط رهنا مجهولاً فلم يصح كما لو شرط رهن ما في كمه ولأنه عقد يختلف فيه المعقود عليه فلم يصح مع الجهل كالبيع.
وفارق الشهادة فان لها عرفاً في الشرع فحملت عليه والكلام مع أبي حنيفة قد مضى في البيع فإن الخلاف فيه واحد، إذا ثبت هذا فإن المشتري إن وفى بالشرط فسلم الرهن أو ضمن عنه الضامن لزم البيع.
وإن أبى تسليم الرهن أو أبى الضامن أن يضمن فللبائع الخيار بين فسخ البيع وامضائه والرضا به بلا رهن ولا ضمين فإن رضي لزمه البيع، وهذا قول الشافعي وأصحاب الرأي ولا يلزم المشتري تسليم الرهن، وقال مالك وأبو ثور يلزم الرهن إذا شرط في عقد البيع ويجبر عليه المشتري وإن وجده الحاكم دفعه إلى البائع لأن عقد البيع وقع عليه أشبه الخيار والأجل، وقال القاضي ما عدا المكيل والموزون يلزم فيه الرهن بمجرد العقد وقد مضى الكلام فيه ولنا أنه رهن فلم يلزم قبل القبض كما لو لم يكن مشروطاً في البيع أو كالمكيل والموزون وإنما لزم الخيار والأجل بالشرط لأنه من توابع البيع لا ينفرد بنفسه والرهن عقد منفرد بنفسه ليس من التوابع ولأن الخيار والأجل يثبت بالقول ولا يفتقر إلى تسليم فاكتفى في ثبوته مجرد القول بخلاف الرهن فأما الضمين فلا خلاف في أنه لا يلزمه الضمان إذ لا يلزمه شغل ذمته ووفاء دين غيره باشتراط غيره ولو وعده بأنه يضمن ثم لم يفعل لم يلزمه كما لو وعده أن يبيعه ثم امتنع ومتى لم يف للبائع بشرطه كان له الفسخ كما لو شرط له صفة في الثمن فلم يف بها

(4/425)


(فصل) ولو شرط رهناً أو ضميناً معيناً فجاء بغيرهما لم يلزم البائع قبوله وإن كان ما أتى به خيراً من المشروط مثل أن يأتي بأكثر قيمة من المشروط أو بضمان أوثق من المعين لأنه عقد على معين فلم يلزمه قبول غيره كالبيع ولأن الغرض يختلف بالأعيان فمنها ما يسهل بيعه ومنها ما هو أقل مؤنة وأسهل حفظاً وبعض الذمم أملأ من بعض وأسهل فلا يلزمه قبول غير المعين كسائر العقود
(فصل) فإن تعيب الرهن أو استحال العصير خمراً قبل القبض فللبائع الخيار بين قبضه معيباً ورضاه بلا رهن فيما إذا تخمر العصير وبين فسخ البيع ورد الرهن.
وإن علم بالعيب بعد قبضه فكذلك وليس له مع امساكه أرش من أجل العيب لأن الرهن إنما لزم فيما حصل قبضه وهو الموجود والجزء الفائت لم يلزم تسليمه فلم يلزم الأرش بدلاً عنه بخلاف المبيع وإن تلف أو تعيب بعد القبض فلا خيار للبائع.
وإن اختلفا في زمن حدوث العيب فإن كان لا يحتمل إلا قول أحدهما فالقول قوله من غير يمين لأن اليمين إنما يراد لرفع الاحتمال، وإن احتمل قوليهما معاً انبنى على اختلاف المتبايعين في حدوث العيب وفيه روايتان فيكون ههنا وجهان (أحدهما) القول قول الراهن وهو قول أبي حنيفة والشافعي لأن الأصل صحة العقد ولزومه (والآخر) القول قول المرتهن وهو قياس قول الخرقي لأنهما اختلفا في قبض المرتهن للجزء الفائت فكان القول قوله كما لو اختلفا في قبض جزء منفصل منه، وإن اختلفا في زمن التلف فقال الراهن بعد القبض وقال المرتهن قبله فالقول قوله لأنه منكر للقبض.
وإن كان الرهن عصيراً فاستحال خمراً واختلفا في زمن استحالته فالقول قول الراهن نص عليه أحمد.
وقال القاضي يخرج فيه رواية أخرى أن القول قول المرتهن كالاختلاف في البيع.
وهو قول أبي حنيفة لأن الأصل عدم القبض كما لو اختلفا في زمن التلف

(4/426)


ولنا أنهما اتفقا على العقد والقبض واختلفا فيما يفسد به فكان القول قول من ينفيه كما لو اختلفا في شرط فاسد، وفارق اختلافهما في حدوث العيب من وجهين (أحدهما) أنهما اتفقا على القبض ههنا وثم اختلفا في قبض الجزء الفائت (الثاني) أنهما اختلفا ههنا فيما يفسد العقد والعيب بخلافه.
(فصل) ولو وجد بالرهن عيباً بعد أن حدث عنده عيب آخر فله رده وفسخ البيع لأن العيب الحادث في ملك الراهن لا يلزم المرتهن ضمانه بخلاف البيع وخرجه القاضي على روايتين بناء على البيع فعلى قوله لا يملك الرد لا يملك الفسخ والصحيح ما ذكرناه، وإن هلك الرهن في يد المرتهن ثم علم أنه كان معيباً لم يملك فسخ البيع لأنه قد تعذر عليه رده.
فإن قيل فالرهن غير مضمون ولهذا لا يمنع رده بحدوث العيب فيه قلنا إنما تضمن قيمته لأن العقد لم يقع على ملكه، وإنما وقع على الوثيقة فهو مضمون بالوثيقة،
أما إذا تعيب فقد رده فيستحق بدل ما رده وههنا لم يرد شيئاً، فلو أوجبنا له بدله لأوجبنا على الراهن غير ما شرط على نفسه.
(فصل) ولو لم يشرطا رهنا في البيع فتطوع المشتري برهن وقبضه البائع كان حكمه حكم الرهن المشروط في البيع إلا انه إذا رده بعيب أو غيره لم يملك فسخ البيع (فصل) إذا تبايعا بشرط أن يكون المبيع رهنا على ثمنه لم يصح، قاله ابن حامد وهو قول الشافعي لأن المبيع حين شرط رهنه لم يكن ملكاً له وسواء شرط أنه يقبضه ثم يرهنه وشرط رهنه قبل قبضه وقد روي عن أحمد أنه قال: إذا حبس المبيع ببقية الثمن فهو غاصب ولايكون رهناً إلا أن يكون شرطاً

(4/427)


عليه في نفس البيع وهذا يدل على صحة الشرط لأنه يصح بيعه فصح رهنه، وقال القاضي معنى هذه الرواية أنه شرط عليه في البيع رهنا غير المبيع فيكون له حبس المبيع حتى يقبض الرهن فإن لم يف به فسخ البيع، وأما شرط رهن المبيع نفسه على ثمنه فلا يصح لوجوه (أحدها) أنه غير مملوك له (والثاني) أن البيع يقتضي إيفاء الثمن من غير المبيع (والثالث) أن البيع يقتضي أن يكون إمساك المبيع مضموناً والرهن يقتضي أن لا يكون مضموناً (الرابع) أن البيع يقتضي تسليم المبيع أولا ورهن المبيع يقتضي أن لا يسلمه حتى يقبض الثمن وهذا تناقض في الأحكام، وظاهر الرواية صحة رهنه، قولهم أنه غير مملوك قلنا إنما شرط رهنه بعد ملكه، وقولهم البيع يقتضي إيفاء الثمن من غير المبيع ممنوع إنما يقتضي إيفاء الثمن مطلقاً، ولو تعذر وفاء الثمن من غير المبيع لا ستوفى من ثمنه، قولهم البيع يقتضي

(4/428)


تسليم المبيع قبل تسليم الثمن ممنوع وإن سلم فلا يمنع أن يثبت بالشرط خلافه كما أن مقتضى البيع حلول الثمن ووجوب تسليمه في الحال ولو شرط التأجيل جاز، وكذلك مقتضى البيع ثبوت الملك في المبيع والتمكين من التصرف فيه وينتفي بشرط الخيار وهذا الجواب عن باقي الوجوه، فأما إن لم يشرط ذلك في البيع لكن رهنه عنده بعد البيع، فإن كان بعد لزوم البيع فالأولى صحته لأنه يصح رهنه عند غيره فصح عنده كغيره ولأنه يصح رهنه على غير ثمنه فيصح رهنه على ثمنه، وإن كان قبل لزوم البيع انبنى على جواز
التصرف في المبيع ففي كل موضع جاز التصرف فيه جاز رهنه ومالا فلا لأنه نوع تصرف أشبه البيع

(4/429)


(فصل) قال الشيخ رحمه الله (وإن اختلفا في قدر الدين أو رده أو قال أقبضتك عصيراً قال بل خمراً فالقول قول الراهن) إذا اختلفا في قدر الحق نحو أن يقول الراهن رهنتك عبدي بألف فقال المرتهن بل بألفين فالقول قول الراهن وبه قال النخعي والثوري والشافعي والبتي وأبو ثور وأصحاب الرأي، وحكي عن الحسن وقتادة أن القول قول المرتهن ما لم يجاوز ثمن الرهن أو قيمته ونحوه قول مالك لأن الظاهر ان الرهن يكون بقدر الحق.
ولنا أن الراهن منكر للزيادة التي يدعيها المرتهن والقول قول المنكر لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم " لو

(4/430)


يعطى الناس بدعواهم لادعى قوم دماء رجال وأموالهم ولكن اليمين على المدعي عليه " رواه مسلم ولأن الأصل براءة الذمة من هذه الألف فكان القول قول من ينفيها كما لو اختلفا في أصل الدين، وما ذكروه من الظاهر غير مسلم فإن العادة رهن الشئ بأقل من قيمته، إذا ثبت هذا فإن القول قول الراهن في قدر ما رهنه سواء اتفقا على أنه رهنه بجميع الدين أو اختلفا، فلو اتفقا على أن الدين الفان وقال الراهن إنما رهنتك بأحد الالفين وقال المرتهن إنما رهنتني بهما فالقول قول الراهن مع يمينه لأنه ينكر تعلق حق المرتهن في أحد الالفين بعبده والقول قول المنكر، وإن اتفقا على أنه رهن بأحد الألفين، وقال الراهن رهنته بالمؤجل، وقال المرتهن بل بالحال فالقول قول الراهن مع يمينه لأنه منكر،

(4/431)


ولأن القول قوله في أصل الرهن فكذلك في صفته هذا إن لم تكن بينة.
فإن كان لأحدهما بينة حكم له بها وجها واحدا وإن اختلفا في قدر الرهن فقال رهنتك هذا العبد فقال بل هو والعبد الآخر فالقول قول الراهن لأنه منكر ولا نعلم في هذا خلافاً، وإن قال رهنتك هذا العبد قال بل هذه الجارية خرج العبد من الرهن لاعتراف المرتهن بأنه لم يرهنه وحلف الراهن على أنه ما رهنه الجارية
وخرجت من الرهن أيضاً.
(فصل) وإن اختلفا في رد الرهن إلى الراهن فالقول قوله لأنه منكر والأصل معه، وكذلك الحكم في المستأجر إذا ادعى رد العين المستأجرة، وقال أبو الخطاب يتخرج فيهما وجه آخر أن القول قول المرتهن والمستأجر في الرد بناء على المضارب والوكيل بجعل فإن فيهما وجهين، والفرق بينهما وبين المرتهن أن المرتهن قبض العين لينتفع بها، وكذلك المستأجر والوكيل قبض العين لينتفع بالجعل لا بالعين والمضارب قبضها لينتفع بربحها لا بها، وإن اختلفا في تلف العين فالقول قول المرتهن مع يمينه لأن يده يد أمانة ويتعذر عليه إقامة البينة على التلف فقبل قوله فيه كالمودع، فإن أتلفها المرتهن أو تلفت بتفريطه واختلفا في القيمة فالقول قول المرتهن مع يمينه لأنه غارم لا نعلم في ذلك خلافا

(4/432)


(فصل) وإن قال الراهن رهنتك عصيراً قال بل خمراً فالقول قول الراهن يريد إذا كان الرهن شرط في البيع فقال الراهن رهنتك عصيراً فليس لك فسخ البيع، وقال المرتهن بل رهنتني خمراً فلي فسخ البيع فالقول قول الراهن نص عليه أحمد لأنهما اختلفا فيما يفسد العقد فكان القول قول من ينفيه وقد ذكرنا ذلك (فصل) وإذا قال بعتك هذا الثوب على أن ترهنني بثمنه عبديك هذين، قال بل علي رهن هذا وحده فحكى القاضي فيها روايتين (إحداهما) يتحالفان لأنهما اختلفا في البيع فهو كالاختلاف في الثمن (والثانية) القول قول الراهن لأنه منكر لشرط رهن العبد المختلف فيه والقول قول المنكر وهذا أصح (فصل) وإن قال أرسلت وكيلك فرهنني عبدك هذا على عشرين وقبضها قال ما أمرته إلا بعشرة ولا قبضت إلا عشرة سئل الرسول، فإن صدق الراهن فعليه اليمين أنه ما رهنه إلا بعشرة ولا قبض إلا عشرة ولا يمين على الراهن لأن الدعوى على غيره، فإذا حلف الوكيل برئا جميعاً، وإن نكل فعليه العشرة المختلف فيها ولا يرجع بها على أحد لأنه يصدق الراهن في أنه ما أخذها ولا أمره بأخذها وإنما المرتهن ظلمه، وإن صدق المرتهن وادعى أنه سلم العشرين إلى الراهن فالقول قول الراهن مع يمينه، فإن نكل قضي عليه بالعشرة وتدفع إلى المرتهن، وإن حلف برئ وعلى الوكيل غرامة العشرة

(4/433)


للمرتهن لأنه يزعم أنها حق له وإنما الراهن ظلمه، فإن عدم الوكيل وتعذر احلافه فعلى الراهن اليمين أنه ما أذن في رهنه إلا بعشرة ولا قبض أكثر منها ويبقى الرهن بعشرة (فصل) إذا كان على رجل الفان أحدهما برهن والآخر بغير رهن فقضى ألفاً وقال قضيت دين الرهن وقال المرتهن بل قضيت الدين الآخر فالقول قول الراهن مع يمينه سواء اختلفا في نية الراهن أو في لفظه لأنه أعلم بنيته وصفة دفعه، ولأنه يقول الدين الباقي بلا رهن والقول قوله في أصل الرهن فكذلك في صفته، وإن أطلق القضاء ولم ينو شيئاً فقال أبو بكر له صرفها إلى أيهما شاء كما لو كان له مال حاضر وغائب فأدى قدر زكاة أحدهما فإن له أن يعين عن أي المالين شاء وهذا قول بعض أصحاب الشافعي، وقال بعضهم يقع الدفع عن الدينين معاً عن كل واحد نصفه لأنهما تساويا في القضاء فتساويا في وقوعه عنهما، فأما إن أبرأه المرتهن من أحد الدينين واختلفا فالقول قول المرتهن على التفصيل الذي ذكرناه في الرهن.
ذكره أبو بكر (فصل) إذا اتفق المتراهنان على قبض العدل للرهن لزم الرهن في حقهما ولم يضر إنكاره لأن الحق لهما وإن قال أحدهما قبضه العدل فأنكر الآخر فالقول قول المنكر كما لو اختلفا في قبض المرتهن فإن أشهد العدل بالقبض لم تقبل شهادته لأنها شهادة الوكيل لموكله فيما هو وكيل فيه (فصل) إذا كان في يد رجل عبد فقال رهنتني عبدك هذا بألف فقال بل غصبته أو استعرته

(4/434)


فالقول قول السيد سواء اعترف بالدين أو جحده لأن الأصل عدم الرهن.
وإن قال السيد بعتك عبدي هذا بألف قال بل رهنته عندي بها فالقول قول كل واحد منهما في العقد الذي ينكره ويأخذ السيد عبده.
وإن قال رهنتكه بألف أقرضتنيه قال بل بعتنيه بألف قبضته مني ثمناً فكذلك ويرد صاحب العبد الألف ويأخذ عبده.
(فصل) وإذا ادعى على رجلين فقال رهنتماني عبدكما بديني عليكما فأنكراه فالقول قولهما فإن شهد كل واحد منهما على صاحبه قبلت شهادته وللمرتهن أن يحلف مع كل واحد منهما ويصير جميعه رهناً
أو يحلف مع أحدهما ويصير نصيب الآخر رهناً وإن أقر أحدهم اثبت في حقه وحده.
وإن شهد المقر على المنكر قبلت شهادته لأنه لا يجلب لنفسه نفعاً ولا يدفع عنها، وبهذا قال أصحاب الشافعي.
وقال بعضهم إذا أنكرا جميعاً ففي شهادتهما نظر لأن المشهود له يدعي أن كل واحد منهما ظالم له بجحوده حقه من الرهن ومتى طعن المشهود له في شهوده لم تقبل شهادتهم له.
قلنا هذا لا يصح فإن إنكار الدعوى لا يثبت به فسق المدعى عليه وإن كان الحق عليه لجواز أن ينسى أو يلحقه شبهة فيما يدعيه أو ينكره ولذلك لو تداعى رجلان شيئاً وتخاصما فيه ثم شهدا عند الحاكم بشئ لم يرد شهادتهما وإن كان أحدهما كاذباً ولو ثبت الفسق بذلك لم يجز قبول شهادتهما جميعاً مع تحقق الجرح في أحدهما (فصل) وإذا ادعى رجلان على رجل أنه رهنهما عبده وقال كل واحد منهما رهنه عندي دون

(4/435)


صاحبي فأنكرهما فالقول قوله وإن أنكر أحدهما وصدق الآخر سلم إلى من صدقه وحلف للآخر.
وإن قال لا أعلم المرتهن منهما حلف على ذلك والقول قول من هو في يده منهما مع يمينه وإن كان في أيديهما حلف كل واحد منهما على نصفه وصار رهناً عنده.
وإن كان في يد غيرهما اقرع بينهما فمن قرع صاحبه حلف وأخذه كما لو ادعيا ملكه وإن قال رهنته عند أحدهما ثم رهنته عند الآخر ولا أعلم السابق منهما فكذلك.
وإن قال هذا هو السابق بالعقد والقبض سلم إليه وحلف الآخر وإن نكل والعبد في يد الأول أو يد غيره فعليه قيمته للثاني كما لو قال هذا العبد لزيد وغصبته من عمرو فإنه يسلم إلى زيد ويغرم قيمته لعمرو.
وإن نكل والعبد في يد الثاني أقر في يده وغرم قيمته للأول لأنه أقر له بعد ما فعل ما حال بينه وبين من أقر له به فلزمته قيمته كما قلنا، وقال القاضي إذا اعترف لغير من هو في يده فهل يرجح صاحب اليد أو المقر له؟ على وجهين.
ولو اعترف لأحدهما وهو في يديهما ثبتت يد المقر له في النصف وفي النصف الآخر وجهان {مسألة} (وإن أقر الراهن أنه أعتق العبد قبل رهنه فالحكم في ذلك كما لو أعتقه بعد رهنه) على ما ذكرنا من الخلاف لأن كل من صح منه إنشاء عقد صح منه الإقرار به ولا يقبل قوله في تقدم عتقه لأنه يسقط حق المرتهن من عوضه فعلى هذا تؤخذ منه قيمته فتجعل رهناً مكانه إن كان
موسراً لأنه فوته على الراهن بإقراره فهو كما لو أعتقه، وإن كان معسراً فالحكم فيه كما ذكرنا

(4/436)


{مسألة} (وإن أقر أنه كان جنى أو أنه باعه أو غصبه قبل على نفسه ولم يقبل على المرتهن إلا أن يصدقه) وجملته أنه إذا أقر الراهن أن العبد كان جنى قبل رهنه فكذبه المرتهن وولي الجناية لم يسمع قوله، وإن صدقه ولي الجناية وحده قبل إقراره على نفسه دون المرتهن ويلزمه أرش الجناية لأنه حال بين المجني عليه وبين رقبة الجاني بفعله فأشبه مالو جنى عليه، وإن كان معسراً فمتى انفك الرهن كان المجني عليه أحق برقبته وعلى المرتهن اليمين أنه لا يعلم ذلك فإن نكل قضي عليه.
وفيه وجه آخر أنه يقبل إقرار الراهن لأنه غير متهم لكونه تغريماً يخرج الرهن من ملكه وعليه اليمين لأنه يبطل بإقراره حق المرتهن فيه، فإن أقر أنه غصبه لم يقبل على المرتهن لأن اقرار غيره لا يقبل في حقه فعلى هذا لا يخرج من الرهن ولا يزول شئ من أحكام الرهن ويلزمه قيمته للمغصوب منه لأنه حال بينه وبينه برهنه، وكذلك لا يقبل إقراره على المرتهن ببيع ولا هبة لما ذكرنا، فإن صدقة المرتهن في ذلك بطل الرهن لاعترافه بما يبطله فإذا انفك أخذ الراهن باقراره {مسألة} قال الشيخ رضي الله عنه (وإذا كان الرهن مركوباً أو محلوباً فللمرتهن أن يركب ويحلب بقدر نفقته متحرياً للعدل في ذلك) وجملة ذلك أن الرهن ينقسم إلى قسمين: حيوان وغيره، والحيوان نوعان (أحدهما) أن يكون

(4/437)


مركوباً أو محلوباً فللمرتهن أن ينفق عليه ويركب ويحلب بقدر نفقته متحرياً للعدل في ذلك نص عليه أحمد في رواية محمد بن الحكم واحمد بن القاسم، واختاره الخرقي وهو قول إسحاق، وسواء انفق مع تعذر النفقة من الراهن لغيبة أو امتناع أو مع القدرة على أخذ النفقة منه واستئذانه.
وعن أحمد رواية أخرى لا يحتسب له بما أنفق وهو متطوع بها ولا ينتفع من الرهن بشئ وهذا قول أبي حنيفة ومالك والشافعي لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم " الرهن من راهنه له غنمه وعليه غرمه " ولأنه ملك غيره لم
يأذن له في الانتفاع به ولا الإنفاق عليه فلم يكن له ذلك كغير الرهن ولنا ما روى البخاري بإسناده عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " الرهن يركب بنفقته إذا كان مرهوناً، والدر يشرب بنفقته إذا كان مرهوناً، وعلى الذي يركب ويشرب النفقة " فجعل منفعته بنفقته وهذا محل النزاع، فإن قيل المراد به الرهن ينفق وينتفع قلنا لا يصح لو جهين (أحدهما) أنه قد روي في بعض الألفاظ إذا كانت الدابة مرهونة فعلى المرتهن علفها، ولأن الدر يشرب وعلى الذي يشرب نفقته فجعل المنفق المرتهن فيكون هو المنتفع (الثاني) أن قوله بنفقته يشير إلى أن الانتفاع عوض النفقة وإنما ذلك في حق المرتهن، أما الراهن فإنفاقه وانتفاعه لا بطريق المعاوضة

(4/438)


لأحدهما بالآخر ولأن نفقة الحيوان واجبة وللمرتهن فيه حق وقد أمكنه استيفاء حقه من نماء الرهن والنيابة عن المالك فيما وجب عليه واستيفاء ذلك من منافعه فجاز ذلك كما يجوز للمراد اخذ مؤنتها من مال زوجها عند امتناعه بغير إذنه والنيابة عنه في الإنفاق عليها.
والحديث نقول به والنماء للراهن ولكن للمرتهن ولاية صرفها إلى نفقته لثبوت يده عليه وولايته وهذا فيمن انفق محتسباً بالرجوع فإن انفق متبرعاً بغير نية الرجوع لم ينتفع به رواية واحدة (فصل) النوع الثاني الحيوان غير المركوب والمحلوب كالعبد والأمة فليس للمرتهن أن ينفق عليه ويستخدمه بقدر نفقته في ظاهر المذهب ذكره القاضي ونص عليه أحمد في رواية الأثرم قال: سعمت أبا عبد الله يسئل عن الرجل يرهن العبد فيستخدمه فقال الرهن لا ينتفع منه بشئ إلا حديث أبي هريرة خاصة في الذي يركب ويحلب ويعلف.
قلت له فان كان الركوب واللبن أكثر؟ قال لا إلا بقدر، ونقل حنبل عن أحمد أن له استخدام العبد أيضاً وبه قال أبو ثور إذا امتنع المالك من الإنفاق عليه وقال أبو بكر خالف حنبل الجماعة والعمل على أنه لا ينتفع من الرهن بشئ إلا ما خصه الشرع فإن القياس أنه لا ينتفع بشئ منه تركناه في المركوب والمحلوب للأثر فيما عداه يبقى على مقتضى القياس (القسم الثاني) ما لا يحتاج إلى مؤنة كالدار والمتاع ونحوه فلا يجوز للمرتهن الانتفاع بغير إذن الراهن لا نعلم في ذلك خلافاً لأن الرهن ملك الراهن فكذلك نماؤه، فإن أذن الراهن للمرتهن في
الانتفاع بغير عوض وكان دين الراهن من قرض لم يجز لأنه يصير قرضاً جر منفعة وذلك حرام، قال

(4/439)


أحمد: أكره قرض الدور وهو الربا المحض.
يعني إذا كانت رهناً في قرض ينتفع بها المرتهن، وإن كان الرهن بثمن مبيع أو أجر دار أو دين غير القرض فأذن له الراهن في الانتفاع جاز ذلك، وقد روي عن الحسن وابن سيرين، وهو قول إسحاق، فأما إن كان الانتفاع بعوض مثل إن استأجر المرتهن الدار من الراهن بأجرة مثلها من غير محاباة جاز في القرض وغيره لكونه ما انتفع بالقرض إنما انتفع بالإجارة، وإن حاباه فهو كالانتفاع بغير عوض يجوز في غير القرض، ومتى استأجرها واستعارها المرتهن فظاهر كلام أحمد أنها تخرج عن كونها رهناً فمتى انقضت الإجارة أو العارية عاد الرهن بحاله، قال أحمد في رواية الحسن بن ثواب قال أحمد إذا كان الرهن داراً فقال المرتهن اسكنها بكرائها وهي وثيقة بحقي تنتقل فتصير ديناً وتتحول عن الرهن، وكذلك إن أكراها للراهن وقال أحمد في رواية ابن منصور: إذا ارتهن داراً ثم أكراها لصاحبها خرجت من الرهن، فإذا رجعت إليه صارت رهنا.
قال شيخنا: والأولى أنها لا تخرج من الرهن إذا استأجرها المرتهن أو استعارها لأن القبض مستدام ولا تنافي بين العقدين، وكلام أحمد في رواية الحسن بن ثواب محمول على أنه أذن للراهن في سكناها كما في رواية ابن منصور لأنها خرجت عن يد المرتهن فزال اللزوم لزوال اليد بخلاف ما إذا سكنها المرتهن، ومتى استعار المرتهن الرهن صار مضموناً عليه، وبهذا قال الشافعي.
وقال أبو حنيفة لا ضمان عليه ومبنى ذلك على العارية هل هي مضمونة أم لا؟ وسيأتي ذلك {مسألة} (وإن أنفق على الرهن بغير إذن الراهن مع إمكانه فهو متبرع) إذا أنفق على الحيوان متبرعا لم يرجع بشئ لأنه تصدق به فلم يرجع بعوضه كالصدقة على مسكين

(4/440)


وإن نوى الرجوع على المالك وكان ذلك بإذن المالك رجع عليه لأنه ناب عنه في الإنفاق بإذنه فكانت النفقة على المالك كما لو وكله في ذلك {مسألة} (وإن عجز عن استئذانه ولم يستأذن الحاكم فعلى روايتين)
مفهوم كلامه ههنا أنه متى قدر على استئذان المالك فلم يستأذنه أن يكون متبرعاً لا يرجع بشئ، وكذلك ذكره أبو الخطاب لأنه مفرط في ترك استئذانه مع القدرة عليه فلم يرجع كما لو عمر داره بغير إذنه، وإن عجز عن استئذانه ولم يستأذن الحاكم ففيه روايتان (إحداهما أنه متبرع لأنه لم يستأذن مالكه ولا من يقوم مقامه أشبه مالو كان المالك حاضراً فلم يستأذنه (والثانية) يرجع عليه لأنه أنفق عليه عند العجز عن استئذانه أشبه مالو عجز عن إستئذان الحاكم، وكذلك الحكم فيما إذا مات العبد المرهون.
وقال شيخنا فيمن أنفق بغير إذن الراهن بنية الرجوع مع إمكانه أنه يخرج على روايتين بناء على ما إذا قضى دينه بغير إذنه وهذا أقيس في المذهب إذ لا يعتبر في قضاء الذين العجز عن استئذان الغريم {مسألة} (وكذلك الحكم في الوديعة وفي نفقة الجمال إذا هرب الجمال وتركها في يد المكتري) لأنها أمانة فأشبهت الرهن {مسألة} (وإن انهدمت الدار فعمرها المرتهن بغير إذن الراهن لم يرجع به رواية واحدة) وليس له الانتفاع بها بقدر عمارتها فان عمارتها غير واجبة على الراهن فليس لغيره أن ينوب عنه فيما لا يلزمه، فإن فعل كان متبرعاً كالأجنبي بخلاف نفقة الحيوان فإنها تجب على مالكه لحرمته في نفسه، وكذلك كفن العبد إذا مات يجب على سيده

(4/441)


(فصل) قال الشيخ (إذا جنى الرهن جناية موجبة للمال تعلق أرشها برقبته وللسيد فداؤه بالأقل من قيمته أو أرش جنايته أو بيعه في الجناية أو يسلمه إلى ولي الجناية فيملكه، وعنه إن اختار فداءه لزمه جميع الأرش) وجملة ذلك أن العبد المرهون إذا جنى على إنسان أو على ماله تعلقت الجناية برقبته وقدمت على حق المرتهن بغير خلاف علمناه لأنها مقدمة على حق المالك والملك أقوى من الرهن فأولى أن يقدم على الرهن، فإن قيل فحق المرتهن أيضاً يقدم على حق المالك.
قلنا حق المرتهن ثبت من جهة المالك بعقده وحق الجناية ثبت بغير اختياره مقدماً على حقه فيقدم على ما ثبت بعقده، ولأن حق الجناية مختص بالعين يسقط بفواتها وحق المرتهن لا يسقط بفوات العين ولا يختص بها فكان تعلقه بها أحق وأولى، فإن كانت جنايته موجبة للقصاص في النفس فلولي الجناية استيفاؤه، فإن اقتص
سقط الرهن كما لو تلف، وإن كانت في طرف اقتص منه وبقي الرهن في باقيه، وإن عفى على مال تعلق برقبة العبد وصار كالجناية الموجبة للمال فيقال للسيد أنت مخير بين فدائه وبين تسليمه للبيع، فإن اختار فداءه فداه بأقل الامرين من قيمته أو أرش الجناية في أصح الروايتين لأنه إن كان الأرش أقل فالمجني عليه لا يستحق أكثر من أرش جنايته، وإن كانت القيمة أقل فلا يلزمه أكثر منها لأن ما يدفعه عوض عن العبد فلا يلزم أكثر من قيمته كما لو أتلفه (والثانية) يفديه بأرش الجناية بالغا ما بلغ لأنه ربما يرغب فيه راغب فيشتريه بأكثر من قيمته {مسألة} (فان فداه فهو رهن بحاله، وإن سلمه بطل الرهن) إذا فداه الراهن فهو رهن بحاله لأن حق المرتهن قائم لوجود سببه، وإنما قدم حق المجني عليه

(4/442)


لقوته، فإذا زال ظهر حكم الرهن كحق من لارهن له مع حق المرتهن في تركة المفلس إذا أسقط المرتهن حقه ظهر حكم الآخر وهذا مذهب الشافعي، وإن سلمه بطل الرهن لفوات محله فهو كما لو تلف {مسألة} (فإن لم يستغرق الأرش قيمته بيع منه بقدره وباقيه رهن، وقيل يباع جميعه ويكون باقي ثمنه رهنا) إذا لم يستغرق أرش الجناية قيمة الرهن بيع منه بقدر الأرش وباقيه رهن لأن بيعه إنما جاز ضرورة ايفاء الحق، فإذا اندفعت الضرورة ببيع البعض لم يجز بيع ما بقي لعدم الضرورة فيه، فإن تعذر بيع بعضه بيع كله للضرورة المقتضية لبيعه ويكون باقي ثمنه رهنا لعدم تعلق الجناية به.
وقال أبو الخطاب: هل يباع منه بقدر الجناية أو يباع جميعه ويكون الفاضل من ثمنه عن أرش جنايته رهنا؟ على وجهين (أحدهما) يباع بعضه خاصة لما ذكرنا (والثاني) يباع جميعه لأن بيع البعض يستقبض له وهو عيب ينقص به الثمن وذلك يضر بالمالك والمرتهن، وقد قال عليه السلام " لاضرر ولا ضرار " {مسألة} (فإن اختار المرتهن فداءه ففداه بإذن الراهن رجع به، وإن فداه بغير إذنه فهل يرجع به؟ على روايتين إذا امتنع الراهن من فداء الجاني فالمرتهن مخير بين فدائه وتسليمه، فإن اختار فداءه فبكم يفديه؟
يخرج على روايتين فيما يفديه به الراهن، فإن فداه بإذن الراهن رجع به عليه كما لو قضى دينه بإذنه، وإن فداه متبرعا لم يرجع بشئ، وإن نوى الرجوع فهل يرجع ذلك؟ على وجهين بناء على مالو قضى دينه بغير إذنه.
فإن زاد على الفداء الواجب لم يرجع به وجهاً واحداً.
ومذهب الشافعي كما ذكرنا إلا أنه

(4/443)


لا يرجع بما فداه بغير إذنه وجها واحدا، وان شرط له الراهن الرجوع رجع قولاً واحداً، وإن قضاه بإذنه من غير شرط الرجوع ففيه وجهان وهذا أصل يذكر فيما بعد، وإن فداه وشرط أن يكون رهنا بالفداء مع الدين الأول فقال القاضي يجوز ذلك لأن المجني عليه يملك بيع العبد وإبطال الرهن فصار بمنزلة الرهن الجائز قبل قبضه والزيادة في دين الرهن قبل لزومه جائزة، ولأن أرش الجناية متعلق به وإنما ينتقل من الجناية إلى الرهن.
وفيه وجه آخر أنه لا يجوز لأن العبد رهن بدين فلم يجر رهنه بدين سواه كما لو رهنه بدين غير هذا، وذهب أبو حنيفة إلى أن ضمان جناية الرهن على المرتهن فإن فداه لم يرجع بالفداء، وإن فداه الراهن وبيع في الجناية سقط دين الرهن إن كان بقدر الفداء وبناء على أصله في أن الرهن من ضمان المرتهن وقد ذكرنا ذلك (فصل) فإن كانت الجناية على سيد العبد فلا يخلو من حالين (أحدهما) أن تكون غير موجبة للقود كجناية الخطأ وإتلاف مال فيكون هدراً لأن العبد مال سيده فلا يثبت له مال في ماله (الثاني) أن تكون موجبة للقود فلا يخلو ان تكون على النفس أو على ما دونها، فإن كانت على ما دون النفس فالحق للسيد، فإن عفا على مال سقط القصاص ولم يجب المال لما ذكرنا، وكذلك إن عفا على غير مال وان أراد أن يقتص فله ذلك لأن السيد لا يملك الجناية على عبده فيثبت له ذلك بجنايته عليه كالأجنبي ولأن القصاص يجب للزجر والحاجة داعية إلى زجره عن سيده، فإن اقتص فعليه قيمته تكون رهناً مكانه أو قضاء عن الدين لأنه أخرجه عن الرهن باختياره فكان عليه بدله كما لو أعتقه، ويحتمل أن لا يجب عليه شئ لأنه اقتص بإذنه فكأنه اقتص بإذن الشارع فلم يلزمه شئ كالأجنبي وكذلك إن كانت الجناية على النفس فاقتص الورثة فهل تجب عليهم القيمة؟ يخرج على ما ذكرنا، وليس للورثة العفو على مال لما ذكرنا في السيد لأنهم يقومون مقام الموروث، وذكر القاضي وجها آخر أن لهم ذلك لأن الجناية في

(4/444)


ملك غيرهم فكان لهم العفو على مال كما لو جنى على أجنبي وللشافعي قولان كالوجهين، فان عفا بعض الورثة سقط القصاص وهل يثبت لغير العافي نصيبه من الدية؟ على الوجهين ومذهب الشافعي في هذا الفصل على نحو ما ذكرناه (فصل) فإن جنى المرهون على عبد سيده لم يخل من حالين (أحدهما) أن لا يكون مرهوناً فحكمه حكم الجناية على طرف سيده له القصاص إن كانت جنايته موجبة له فإن عفا على مال أو غيره أو كانت الجناية لا توجب القصاص ذهبت هدراً وسواء كان المجني عليه قنا أو مدبراً أو أم ولد (الحال الثاني) أن يكون رهناً فلا يخلو إما أن يكون رهنا عند مرتهن القاتل أو غيره فان كان عند مرتهن القاتل والجناية موجبة للقصاص فللسيد القصاص فإن اقتص بطل الرهن في المجني عليه وعليه قيمة المقتص منه، ويحتمل أن لا يجب لأنه اقتص بإذن الشارع فإن عفا على مال أو كانت الجناية موجبة للمال وكان رهناً بحق واحد فجنايته هدر لأن الحق يتعلق بكل واحد منهما فإذا قتل أحدهما بقي الحق متعلقاً بالآخر، وإن كان كل واحد منهما رهناً بحق منفرد ففيه أربع مسائل: (إحداها) أن يكون الحقان سواء وقيمتهما سواء فتكون الجناية هدراً سواء كان الحقان من جنسين مثل أن يكون أحدهما بمائة دينار والآخر بدراهم قيمتها مائة دينار أو من جنس واحد لأنه لا فائدة في اعتبار الجناية (المسألة الثانية) أن يختلف الحقان وتتفق القيمتان مثل أن يكون دين أحدهما مائة ودين الآخر مائتين وقيمة كل واحد منهما مائة فإن كان دين القاتل أكثر لم ينقل إلى دين المقتول لعدم الغرض

(4/445)


فيه وإن كان دين المقتول أكثر نقل إلى القاتل لان للمرتهن غرضاً في ذلك وهل يباع القاتل وتجعل قيمته رهناً مكان المقتول أو ينقل بحاله؟ على وجهين (أحدهما) لا يباع لأنه لا فائدة فيه (والثاني) يباع لأنه ربما زاد فيه من يبلغه أكثر من ثمنه فإن عرض للبيع فلم يزد فيه لم يبع لعدم ذلك (المسألة الثالثة) أن يتفق الدينان وتختلف القيمتان بأن يكون دين كل واحد منهما مائة وقيمة أحدهما
مائة والآخر مائتين فإن كانت قيمة المقتول أكثر فلا غرض في النقل فيبقى بحاله وإن كانت قيمة الجاني أكثر بيع منه بقدر جنايته تكون رهنا بدين المجني عليه والباقي رهن بدينه وإن اتفقا على تبقيته ونقل الدين إليه صار مرهوناً بهما فإن حل أحد الدينين بيع بكل حال لأنه إن كان دينه المعجل بيع ليستوفي من ثمنه وما بقي منه رهن بالدين الآخر وإن كان المعجل الآخر بيع ليستوفي منه بقدره والباقي رهن بدينه (المسألة الرابعة) أن يختلف الدينان والقيمتان مثل أن يكون أحد الدينين خمسين والآخر ثمانين وقيمة أحدهما مائة والآخر مائتين فإن كان دين المقتول أكثر نقل إليه والافلا (فصل) فإن كان المجني عليه رهناً عند غير مرتهن القاتل فللسيد القصاص لأنه مقدم على حق المرتهن بدليل أن الجناية الموجبة للمال مقدمة عليه فالقصاص أولى فإن اقتص بطل الرهن في المجني عليه لأن الجناية عليه لم توجب مالاً يجعل رهناً مكانه وعليه قيمة المقتص منه يكون رهناً لأنه أبطل حق الوثيقة فيه باختياره.
ويحتمل أن لا تجب لما ذكرنا وللسيد العفو على مال فتصير كالجناية الموجبة

(4/446)


للمال فيثبت المال في رقبة العبد لأن السيد لو جنى على العبد لوجب أرش جنايته لحق المرتهن فبأن يثبت على عبده أولى.
فإن كان الأرش لا يستغرق قيمته بعنا منه بقدر أرش الجناية يكون رهنا عند مرتهن المجني عليه وباقيه رهن عند مرتهنه، وإن لم يمكن بيع بعضه بيع جميعه وقسمة ثمنه بينهما على حسب ذلك يكون رهنا، وإن كانت الجناية تستغرق قيمته نقل الجاني فجعل رهناً عند الآخر، ويحتمل أن يباع لاحتمال أن يرغب في شرائه راغب بأكثر من قيمته فيفصل من قيمته شئ يكون رهنا عند مرتهنه وهذا كله قول الشافعي (فصل) فإن كانت الجناية على موروث سيده فيما دون النفس كأطرافه أو ماله فهي كالجناية على أجنبي وله القصاص إن كانت موجبة له والعفو على مال وغيره، وإن كانت موجبة للمال ابتداء ثبت فإن انتقل ذلك إلى السيد بموت المستحق فله ما لموروثة من القصاص والعفو على مال لأن الاستدامة أقوى من الابتداء فجاز أن يثبت بها مالا يثبت في الابتداء، وإن كانت الجناية على نفسه بالقتل ثبت
الحكم لسيده وله أن يقتص فيما يوجب القصاص.
وإن عفا على مال أو كانت الجناية موجبة للمال ابتداء فهل يثبت للسيد؟ فيه وجهان (أحدهما) يثبت وهو قول بعض أصحاب الشافعي لأن الجناية على غيره فأشبهت الجناية على ما دون النفس (والثاني) لا يثبت له مال في عبده ولا له العفو عليه وهو قول أبي ثور لأنه حق ثبت للسيد ابتداء فلم يكن له ذلك كما لو كانت الجناية عليه، وأصل الوجهين في وجوب الحق في ابتدائه هل يثبت للقتيل ثم ينتقل إلى وارثه أو يثبت للوارث ابتداء؟ على وجهين وكل موضع ثبت له المال في رقبة عبده فإنه يقدم على الرهن لأنه يثبت للموروث بهذه الصفة فينتقل إلى وارثه كذلك فإن اقتص في هذه الصورة لم يلزمه بدل الرهن لأنه إذا قدم المال على حق المرتهن

(4/447)


فالقصاص أولى ولأن القصاص ثبت للموروث مقدماً على حق المرتهن فكذلك في حق وارثه فإن كانت الجناية على مكاتب السيد فهي كالجناية على ولده وتعجيزه كموت ولده فيما ذكرناه (فصل) فإن جنى العبد المرهون بإذن سيده وكان ممن يعلم تحريم الجناية وإنه لا يجب عليه قبول ذلك من سيده فهي كالجناية بغير إذنه، وإن كان صبياً أو أعجمياً لا يعلم ذلك فالجاني هو السيد.
يتعلق به موجب الجناية، ولا يباع العبد فيها موسراً كان أو معسراً كما لو باشر السيد الجناية، وقال القاضي فيه وجه أن العبد يباع مع اعسار السيد لأن العبد باشر الجناية، والصحيح الأول لأن العبد آلة فلو تعلقت الجناية به بيع مع اليسار، وحكم إقرار العبد بالجناية حكم إقرار غير المرهون على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى {مسألة} (وإن جنى عليه جناية موجبة للقصاص فللسيد القصاص فإن اقتص فعليه قيمة أقلهما قيمة تجعل مكانه) إذا جنى على الرهن فالخصم في ذلك السيد لأنه المالك والأرش الواجب بالجناية ملكه وإنما للمرتهن فيه حق الوثيقة فصار كالعبد المستأجر والمودع وبهذا قال الشافعي وغيره، فإن ترك المطالبة أو أخرها أو كان غائباً أو له عذر يمنعه منها فللمرتهن المطالبة بها لأن حقه متعلق بموجبها فكان له المطالبة به كما لو كان الجاني سيده، ثم إن كانت الجناية موجبة للقصاص فللسيد القصاص لأنه حق له وإنما يثبت ليستوفي فإن اقتص أخذت منه
قيمة أقلهما قيمة فجعلت مكانه رهنا نص عليه أحمد في رواية ابن منصور وهو قول إسحاق، ويتخرج أن لا يجب عليه شئ وهو مذهب الشافعي لأنه لم يجب بالجناية مال ولا استحق بحال وليس على الراهن

(4/448)


أن يسعى للمرتهن في اكتساب مال، ووجه الأول أنه أتلف مالاً استحق بسبب إتلاف الرهن فغرم قيمته كما لو كانت الجناية موجبة للمال، وهكذا الحكم فيما إذا ثبت القصاص للسيد في عبده المرهون.
وانما أو جبنا أقل القيمتين لأن حق المرتهن إنما يتعلق بالمالية والواجب من المال هو أقل القيمتين لأن الرهن إن كان أقل لم يجب أكثر من قيمته، وإن كان الجاني أقل قيمة لم يجب أكثر من قيمته لأنها التي أتلفها بالقصاص وإن عفا على مال صح عفوه ووجب أقل القيمتين لما ذكرنا، هذا إذا كان القصاص قتلاً، وإن كان جرحاً أو قلع سن أو نحوه فالواجب بالعفو أقل الأمرين من ارش الجرح أو قيمة الجاني لما ذكرنا وإن عفا مطلقاً انبنى على موجب العمد ما هو؟ فإن قلنا موجبه أحد شيئين ثبت المال وإن قلنا موجبه القصاص عينا فحكمه كما لو اقتص، أو قلنا ثم تجب القيمة على الراهن وجب هنا وهو اختيار أبي الخطاب لأنه فوت بدل الرهن بعفوه أشبه مالو اقتص، وإن قلنا لا تجب على الراهن ثم لم تجب ههنا وهو قول القاضي ومذهب الشافعي لأنه اكتساب مال فلا يجبر عليه وكذلك إن عفا على غير مال {مسألة} (وكذلك إن جنى على سيده فاقتص منه هو أو ورثته وقد ذكرنا ذلك) {مسألة} (وإن عفا السيد على مال أو كانت موجبة للمال فاقتص منه جعل مكانه) أما إذا كانت الجناية موجبة للمال أو ثبت المال بالعفو عن الجناية الموجبة للقصاص فإنه يتعلق به حق الراهن والمرتهن ويجب من غالب نقد البلد كقيم المتلفات، فلو أراد الراهن أن يصالح عنها ويأخذ عوضا عنها لم يجز إلا بإذن المرتهن، فإن أذن جاز لأن الحق لهما وما قبض من شئ فهو رهن بدلاً عن الأول وقائماً مقامه

(4/449)


{مسألة} (وإن عفا السيد عن المال صح في حقه ولم يصح في حق المرتهن، فإذا انفك الرهن رد إلى الجاني، وقال أبو الخطاب يصح وعليه قيمته)
إذا عفا السيد عن المال فقال القاضي يسقط حق الراهن دون المرتهن فتؤخذ القيمة من الجاني تكون رهنا فإذا زال الرهن رجع الأرش إلى الجاني كما لو أقر أن الرهن مغصوب أو جان فإن استوفى الدين من الأرش احتمل ان يرجع الجاني على العافي لأن ماله ذهب في قضاء دينه فلزمته غرامته كما لو استعاره فرهنه، واحتمل أن لا يرجع عليه لأنه لم يوجد منه في حق الجاني ما يقتضي وجوب الضمان وإنما استوفى بسبب منه حال ملكه له فأشبه مالو جنى إنسان على عبده ثم وهبه لغيره فتلف بالجناية السابقة، وقال أبو الخطاب: يضمن العفو مطلقاً ويؤخذ من الراهن قيمته تكون رهناً لأنه أسقط دينه عن غريمه فصح كسائر ديونه، قال ولا يمكن كونه رهنا مع تقدم حق الراهن فيه ولزمته القيمة لتقوية حق المرتهن كما لو اتلف بدل الرهن، وقال الشافعي لا يصح العفو أصلاً لأن حق المرتهن متعلق به فلم يصح عفو الراهن عنه كالرهن نفسه، وكما لو وهب الرهن أو غصب فعفا عن غاصبه.
قال شيخنا: وهذا أصح في النظر، فإن قال المرتهن أسقطت حقي من ذلك سقط لأنه ينفع الراهن ولا يضره، وإن قال أسقطت الأرش أو ابرأت منه لم يسقط لأنه ملك للراهن فلا يسقط باسقاط غيره وهل يسقط حقه؟ فيه وجهان (أحدهما) يسقط وهو قول القاضي لأن ذلك يتضمن إسقاط حقه وإذا لم يسقط حق غيره سقط حقه كما لو قال اسقطت حقي وحق الراهن (والثاني) لا يسقط لأن العفو ولابراء منه لا يصح فلم يصح ما يضمنه

(4/450)


(فصل) وإن أقر رجل بالجناية على الرهن فكذباه فلاشئ لهما، وإن كذبه المرتهن وصدقه الراهن فله الأرش ولا حق للمرتهن فيه وإن صدقه المرتهن وحده تعلق حقه بالأرش وله قبضه فإذا قضى الراهن الحق أو أبرأه المرتهن رجع الأرش إلى الجاني ولا شئ للراهن فيه، وإن استوفى حقه من الأرش لم يملك الجاني مطالبة الراهن بشئ لأنه مقر له باستحقاقه (فصل) ولو كان الرهن أمة حاملاً فضرب بطنها أجنبي فألقت جنيناً ميتاً ففيه عشر قيمة أمه وإن ألقته حيا ثم مات لوقت يعيش مثله ففيه قيمته ولا يجب ضمان نقص الولادة لأنه لا يتميز نقصها عما وجب ضمانه من ولدها، ويحتمل أن يضمن نقصها بالولادة لأنه حصل بفعله فلزم ضمانة كما لو غصبها ثم جنى عليها
ويحتمل أن يجب أكثر الأمرين من نقصها أو ضمان جنينها لأن سبب ضمانها وجد فإذا لم يجتمع ضمانهما وجب ضمان أكثرهما، وان ضرب بطن بهيمة فالقت ولدها ميتاً ففيه ما نقصتها الجناية لاغير وما وجب من ذلك كله فهو رهن مع الأمر، وقال الشافعي: ما وجب لنقص الأم أو لنقص البهيمة فهو رهن معها وكذلك ما وجب في ولدها وما وجب في جنين الأمة فليس برهن ولنا أنه ضمان وجد بسبب الجناية على الرهن فكان من الرهن كالواجب لنقص الولادة وولد البهيمة {مسألة} (وإن وطئ المرتهن الجارية بغير إذن الراهن فعليه الحد والمهر وولده رقيق) لا يحل للمرتهن وطئ الجارية المرهونة إجماعاً لقول الله تعالى (إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم وليست هذه زوجته ولا مكله، فإن فعل بغير إذن الراهن عالماً بالتحريم فعليه الحد لأنه

(4/451)


لاشبهة له فيه فإن الرهن وثيقة بالدين ولا مدخل لذلك في اباحة الوطئ، ولان وطئ المستأجرة يوجب الحد مع ملكه لنفعها فالرهن أولى، ويجب عليه المهر سواء اكرهها أو طاوعته، وقال الشافعي لا يجب المهر مع المطاوعة لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن مهر البغي، ولأن الحد إذا وجب على الموطوءة لم يجب المهر كالحرة.
ولنا أن المهر يجب للسيد فلا يسقط بمطاوعة الأمة وإذنها كما لو أذنت في قطع يدها، ولأنه استوفى هذه المنفعة المملوكة للسيد بغير إذنه فكان عليه عوضها كما لو أكرهها وكأرش بكارتها لو كانت بكراً والحديث مخصوص بالمكرهة على البغاء فإن الله تعالى سماها بذلك مع كونها مكرهة فقال (ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا) وقولهم لا يجب الحد والمهر قلنا لا يجب لها المهر لها وفي مسئلتنا لا يجب لها وإنما يجب لسيدها.
ويفارق الحرة فإن المهر لو وجب لوجب لها وقد أسقطت حقها بإذنها وههنا المستحق لم يأذن، ولأن الوجوب في حق الحرة تعلق بإكراهها وسقوطه بمطاوعتها فكذلك السيد ههنا لما تتعلق السقوط بإذنه ينبغي أن يثبت عند عدمه وسواء وطئها معتقداً للحل أو غير معتقد له، أو ادعى بشبهة أو لم يدعها لا يسقط المهر بشئ من ذلك لأنه حق آدمي فلا يسقط بالشبهات وولده رقيق للراهن لأنه من زنا ولأنه لاملك له فيها ولا شبهة ملك فأشبه الأجنبي

(4/452)


{مسألة} (وإن وطئها بإذن الراهن وادعى الجهالة وكان مثله بجهل ذلك فلاحد عليه ولا مهر وولده حر لا تلزمه قيمته) وجملة ذلك أن المرتهن إذا وطئها بإذن الراهن وادعى الجهالة بالتحريم فإن احتمل صدقة لكونه ممن نشأ ببادية أو حديث عهد بالإسلام فلاحد عليه وولده حر لأنه وطئها معتقداً إباحة وطئها فهو كما لو وطئها يظنها أمته، وإن لم يحتمل صدقة كالناشئ ببلاد المسلمين مختلطاً بهم من أهل العلم لم تقبل دعواه لأنه لا يخلو ممن يسمع منه ما يعلم به تحريم ذلك فيكون كمن لم يدع الجهل فيكون ولده رقيقا للراهن لأنه من زنا، ومتى كان الوطئ بإذن الراهن لم يجب عليه قيمة الولد وهذا قول بعض أصحاب الشافعي لأن الإذن في الوطئ إذن فيما يحدث منه بدليل أنه لو أذن المرتهن للراهن في الوطئ فحملت سقط حقه من الرهن، وكما لو أذن في قطع أصبع لم يضمنها وكالحرة إذا أذنت في وطئها سقط عنه الضمان، وفيه قول أن قيمة الولد تجب؟ وإن أذن الراهن في الوطئ وهو منصوص الشافعي لأن وجوب الضمان يمنع اتخاذ الولد رقيقا ويشبه اعتقاد الحل وما حصل ذلك بإذنه بخلاف وطئ الراهن فإن خروجها من الرهن بالحمل الذي سببه الوطئ المأذون فيه ولا يجب المهر إذا كان الوطئ بإذن الراهن، وقال أبو حنيفة يجب وعن الشافعية كالمذهبين ولنا أنه أذن في سببه وهو حقه فلم يجب كما لو أذن في قتلها، ولأن المالك أذن في استيفاء المنفعة

(4/453)


فلم يجب عوضها كالحرة المطاوعة، وولده حر للشبهة وقد ذكرناه، ولا تصير هذه الأمة أم ولد بحال سواء ملكها المرتهن بعد الوضع أو قبله، وسواء حكمنا برق الولد أو حريته وفيه وجه آخر أنه إذا ملكها حاملاً أنها تصير أم ولد وسنذكر ذلك في أمهات الأولاد (فصل) قال عبد الله بن أحمد سألت أبي عن رجل عنده رهون كثيرة لا يعرف أصحابها ولا من رهن عنده قال: إذا ايست من معرفتهم ومعرفة ورثتهم فأرى أن تباع ويتصدق بثمنها، فإن عرف بعد اربابها خيرهم بين الاجر أو يغرم لهم.
هذا الذي أذهب إليه، وقال أبو الحارث عن أحمد في الرهن يكون عنده السنين الكثيرة يأيس من صاحبه يبيعه ويتصدق بالفضل فظاهر هذا أنه يستوفي
حقه، ونقل أبو طالب لا يستوفي حقه من ثمنه ولكن إن جاء صاحبه بعد فطلبه اعطاه إياه وطلب منه حقه، وأما إن رفع أمره إلى الحاكم فباعه ووفاه حقه منه جاز ذلك

(4/454)