الشرح الكبير على متن المقنع

 (باب الحجر) الحجر في اللغة المنع والتضييق ومنه سمي الحرام حجراً قال الله تعالى (ويقولون حجرا محجورا) أي حراماً محرماً ويسمى العقل حجراً قال الله تعالى (هل في ذلك قسم لذي حجر؟) أي عقل سمي حجرالانه يمنع صاحبه من ارتكاب ما يقبح، وهو في الشرع منع الإنسان من التصرف في ماله {مسألة} (وهو على ضربين حجر على الإنسان لحظ نفسه وحجر لحق غيره) كالحجر على المريض في التبرع بما زاد على الثلث لحق الورثة، وعلى العبد والمكاتب لحق السيد والراهن يحجر عليه في الرهن لحق المرتهن ولهؤلاء أبواب يذكرون فيها، ومن ذلك الحجر على المفلس لحق الغرماء وهو المذكور ههنا، والمفلس هو الذي لامال له ولا ما يدفع به حاجته ولهذا لما قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه " أتدرون من المفلس " قالوا يا رسول الله المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع قال " ليس ذلك المفلس، ولكن المفلس من يأتي يوم القيامة بحسنات أمثال الجبال ويأتي وقد ضرب هذا ولطم هذا وأكل مال هذا وأخذ من عرض هذا فيأخذ هذا من حسناته وهذا من حسناته فإن بقي عليه شئ أخذ من سيئاتهم فرد عليه ثم صك له صك إلى النار " أخرجه مسلم بمعناه فقولهم ذلك اخبار عن حقيقة المفلس، وقول النبي صلى الله عليه وسلم " ليس ذلك المفلس " تجوز لم يرد به نفي الحقيقة بل أراد أن فلس الآخرة أشد وأعظم بحيث يصير مفلس الدنيا بالنسبة إليه كالغني، ونحو هذا قوله عليه الصلاة والسلام " ليس الشديد بالصرعة إنما الشديد الذي يغلب نفسه عند الغضب " وقوله " ليس الغني عن كثرة العرض إنما الغني غني النفس " ومنه قول الشاعر ليس من مات فاستراح بميت * إنما الميت ميت الأحياء قيل إنما سمي هذا مفلسا لانه لامال له إلا الفلوس وهي أدنى أنواع المال، والمفلس في عرف

(4/455)


الفقهاء من دينه أكثر من ماله، وسموه مفلساً وإن كان ذا مال لان ماله مستحق الصرف في جهة دينه فكأنه معدوم وقد دل عليه تفسير النبي صلى الله عليه وسلم مفلس الآخرة فإنه أخبر أن له حسنات أمثال الجبال لكنها لا تفي بما عليه فقسمت بين الغرماء وبقي لا شئ له ويجوز أن يكون سمي بذلك لما يؤول إليه من عدم ماله بعد وفاء دينه ويجوز أن يكون سمي بذلك لأنه يمنع من التصرف في ماله إلا الشئ التافه الذي لا يعيش إلا به كالفلوس {مسألة} ومن لزمه دين مؤجل لم يطالب به قبل أجله لأنه لا يلزمه أداؤه ولم يحجر عليه من أجله لأنه لا يستحق المطالبة به فلم يجز منعه من التصرف في ماله بسببه فإن كان بعض دينه مؤجلاً وبعضه حالاً وكان ماله يفي بالحال لم يحجر عليه أيضاً، وقال بعض أصحاب الشافعي إن ظهرت أمارات الفلس لكون ماله بازاء دينه ولا نفقة له إلا من ماله حجر عليه في أحد الوجهين لأن الظاهر أنه ماله يعجز عن ديونه فهو كما لو كان ماله ناقصاً، ولنا أن ماله واف بما يلزمه أداؤه فلم يحجر عليه كما لو لم تظهر أمارات الفلس ولأن الغرماء لا يمكنهم طلب حقوقهم في الحال فلا حاجة الى الحجر {مسالة} (فإن أراد سفراً يحل الدين قبل مدته فلغريمه منعه إلا أن يوثقه برهن أو كفيل)

(4/456)


وجملة ذلك أن المدين إذا أراد السفر وأراد غريمه منعه نظرنا فإن كان محل الدين قبل محل قدومه من السفر كمن يسافر إلى الحج لا يقدم الافي صفر ودينه يحل في المحرم فله منعه من السفر لأن عليه ضرراً في تأخير حقه عن محله فإن أقام ضميناً مليئاً أو دفع رهناً يفي بالدين عند المحل فله السفر لزوال الضرر بذلك.
{مسألة} (فإن كان لا يحل الدين قبله ففي منعه روايتان) أما إذا كان الدين لا يحل إلا بعد محل السفر مثل أن يكون محله في ربيع وقدومه في صفر فإن كان سفره إلى الجهاد فلغريمه منعه إلا بضمين أو رهن لأنه سفر يتعرض فيه لذهاب النفس فلا يأمن فوات الحق، وإن كان لغير الجهاد فليس له منعه في إحدى الروايتين، وهو ظاهر كلام الخرقي لأن
هذا السفر ليس با مارة على منع الحق في محله فلم يملك منعه منه كالسفر القصير وكالسعي إلى الجمعة (والثانية) له منعه لأن قدومه عند المحل غير متيقن ولا ظاهر فملك منعه منه كالأول، وقال الشافعي ليس له منعه من السفر ولا المطالبة بكفيل إذا كان الدين مؤجلاً بحال سواء كان الدين يحل قبل محل

(4/457)


سفره أولا إلى الجهاد أو إلى غيره لأنه لا يملك المطالبة بالدين فلم يملك منعه من السفر ولا المطالبة بكفيل كالسفر الآمن القصير، ولنا أنه سفر يمنع استيفاء الدين في محله فملك منعه منه إذا لم يوثقه برهن أو كفيل كالسفر بعد حلول الحق، ولأنه لا يملك تأخير الدين عن محله وفي السفر المختلف فيه تأخيره عن محله فلم يملك كحجره {مسألة} (وإذا كان حالاً وله ما يفي به لم يحجر عليه) لعدم الحاجة إلى ذلك ويأمره بوفائه فإن أبى حبسه لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم " لي الواجد يحل عرضه وعقوبته " رواه أحمد فعقوبته حبسه وعرضه أن يغلظ له فيقال له يا ظالم يا متعدي ونحو ذلك {مسألة} (فإن أصر باعه الحاكم وقضى دينه) وجملته أن الغريم إذا حبس فصبر على الحبس ولم يقض الدين قضى الحاكم دينه من ماله.
وإن احتاج الى بيع ماله في قضاء دينه باعه وقضى دينه وهذا مذهب الشافعي وأبي يوسف ومحمد، وقال أبو حنيفة ليس للحاكم بيع ماله لكنه يجبره على البيع إذا لم يمكن الإيفاء بدونه، فإن امتنع لم يبعه الحاكم وإنما يحبسه ليبيع بنفسه إلا أن يكون عليه احد النقدين وماله من النقد الآخر فيدفع أحد النقدين عن الآخر لأنه رشيد لا ولاية عليه فلم يجز بيع ماله بغير إذنه كالذي لادين عليه ولنا أن النبي صلى الله عليه وسلم حجر على معاذ وباع ماله في دينه.
رواه الخلال باسناده، وروي عن عمر رضي الله عنه أنه خطب الناس فقال: ألا أن أسيفع جهينة قد رضي من دينه وأمانته بان يقال سبق الحاج فادان معرضاً فاصبح وقد رين به فمن كان له عليه مال فليحضر غداً

(4/458)


فأنا بائعو ماله وقاسموه بين غرمائه " ولأنه محجور عليه محتاج إلى قضاء دينه فجاز بيع ماله بغير
رضاه كالصغير والسفيه ولأنه نوع مال فجاز بيعه في قضاء دينه كالأثمان وقياسهم يبطل ببيع الدراهم بالدنانير {مسألة} (وإن ادعى الاعسار وكان دينه عن عوض كالبيع والقرض أو عرف له مال سابق حبس إلا أن يقيم البينة على نفاد ماله أو إعساره، وهل يحلف معها؟ على وجهين وإن لم يكن كذلك حلف وخلي سبيله) وجملة ذلك أن من وجب عليه دين حال فطولب به فلم يؤده فان كان في يده مال ظاهر أمره الحاكم بالقضاء، وإن لم يظهر له مال فادعى الاعسار فصدقه غريمه لم يحبس ووجب انظاره ولم يجز ملازمته لقول الله تعالى (وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة) ولقول النبي صلى الله عليه وسلم لغرماء الذي كثر دينه " خذوا ما وجدتم ليس لكم إلا ذلك " ولأن الحبس إما أن يكون لإثبات عسرته أو لقضاء دينه وعسرته ثابتة والقضاء متعذر فلا فائدة في الحبس فإن كذبه غريمه فلا يخلو إما أن يكون عرف له مال أو لم يعرف، فإن عرف له مال لكون الدين ثبت عن معاوضة كالقرض والبيع أو عرف له أصل مال سوى هذا فالقول قول غريمه مع يمينه فإذا حلف أنه ذو مال حبس حتى تشهد البينة باعساره.
قال إبن المنذر أكثر من نحفظ عنه من علماء الأمصار وقضاتهم يرون الحبس في الدين منهم مالك والشافعي وأبو عبيد والنعمان وسوار وعبيد الله بن الحسن، وروي عن شريح والشعبي وكان عمر بن عبد العزيز يقول: يقسم ماله بين الغرماء ولا يحبس، وبه قال عبد الله بن أبي جعفر والليث بن سعد.

(4/459)


ولنا أن الظاهر قول الغريم فكان القول قوله كسائر الدعاوي فإن شهدت البينة بتلف ماله قبلت شهادتهم سواء كانت من أهل الخبرة الباطنة أولم تكن لان التلف يطلع عليه أهل الخبرة وغيرهم، وإن طلب الغريم إحلافه على ذلك لم يجب إليه لأنه تكذيب للبينة، وإن شهدت مع ذلك بالاعسار اكتفى بشهادتهما وثبتت عسرته وإن لم تشهد إلا بالتلف وطلب الغريم يمينه على عسرته وأنه ليس له مال آخر استحلف على ذلك لأنه غير ما شهدت به البينة وإن لم تشهد بالتلف وإنما شهدت بالاعسار لم تقبل الشهادة إلا من ذي خبرة باطنة لأن هذا في الأمور الباطنة لا يطلع عليه في الغالب إلا أهل الخبرة
والمخالطة وهذا مذهب الشافعي.
وحكي عن مالك أنه قال لا تسمع البينة على الاعسار لأنها شهادة على النفي فلم تسمع كما لو شهدت أنه لادين عليه ولنا ما روى قبيصة بن المخارق أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " ويا قبيصة إن المسألة لا تحل إلا لأحد ثلاثة رجل تحمل حمالة فحلت له المسألة حتى يصيبها ثم يمسك ورجل أصابته جائحة فاجتاحت ماله فحلت له المسألة حتى يصيب قواماً من عيش أو قال سداداً من عيش، ورجل أصابته فاقة حتى يقول ثلاثة من أهل الحجى من قومه لقد أصابت فلاناً فاقة فحلت له المسألة حتى يصيب قواماً من عيش - أو قال - سداداً من عيش " رواه مسلم وأبو داود، وقولهم إن الشهادة على النفي لا تقبل قلنا لا ترد مطلقاً فإنه لو شهدت بينة أن هذا وارث هذا الميت لا وارث له سواه قبلت، ولأن هذه وإن كانت تتضمن النفي فهي تثبت حالة تظهر ويوقف عليها بالمشاهدة بخلاف ما إذا شهدت أنه لا حق له فإن هذا مما لا يوقف عليه ولا يشهد به حال يتوصل بها إلى معرفته بخلاف مسئلتنا وتسمع البينة في الحال، وبهذا قال الشافعي

(4/460)


وقال أبو حنيفة لا تسمع في الحال وتحبس شهراً وقيل ثلاثة أشهر، وروي أربع حتى يغلب على ظن الحاكم أنه لو كان له مال لأظهره ولنا أن كل بينة جاز سماعها بعد مدة جاز سماعها في الحال كسائر البينات وما ذكروه لو كان صحيحاً لأغنى عن البينة، فإن قال الغريم أحلفوه لي مع بينته أن لا مال له لم يستحلف في ظاهر كلام أحمد لأنه قال في رواية إبراهيم في رجل جاء بشهود على حق فقال الغريم استحلفوه لا يستحلف لأن ظاهر الحديث البينة على المدعي واليمين على من أنكر.
قال القاضي سواء شهدت البينة بتلف المال أو بالاعسار وهذا أحد قولي الشافعي لأنها بينة مقبولة فلم يستحلف معها كما لو شهدت بأن هذا عبده وفيه وجه آخر أنه يستحلف وهو القول الثاني للشافعي لأنه يحتمل أن يكون له مال خفي عن البينة.
قال شيخنا: ويصح عندي الزامه اليمين على الاعسار إذا شهدت البينة بتلف المال وسقوطها عنه فيما إذا شهدت بالاعسار لأنها إذا شهدت بالتلف صار كمن لم يثبت له أصل مال أو بمنزلة من أقر له غريمة بتلف ذلك المال وادعى له مالا سواه أو أنه استحدث مالاً بعد تلفه، ولو لم تقم البينة وأقر له غريمه بتلف ماله وادعى أن له
مالاً سواه لزمته اليمين فكذلك إذا قامت به البينة فإنها لا تزيد على الاقرار، فإن كان الحق ثبت عليه في غير مقابلة مال أخذه كأرش الجناية وقيمة متلف ومهر أو ضمان أو كفالة أو عوض خلع إن كانت امرأة فإن لم يعرف له مال حلف أنه لامال له وخلي سبيله، وهذا قول الشافعي وابن المنذر، وإنما اكتفينا بيمينه لأن الأصل عدم المال، وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لحبة وسواء ابني خلد بن سواء " لا تيأسا من الرزق ما اهتزت رؤسكما فإن ابن آدم يخلق وليس له إلا قشرتاه ثم يرزقه الله تعالى "

(4/461)


قال إبن المنذر الحبس عقوبة ولا نعلم له ذنباً يعاقب به والأصل عدم ماله بخلاف من علم له مال فإن الأصل بقاء ماله فيحبس حتى يعلم ذهابه ومطلق كلام الخرقي يدل على أنه يحبس في الحالتين لكنه ينبغي أن يحمل كلامه على هذا لقيام الدليل على الفرق (فصل) ومتى ثبت اعساره عند الحاكم لم يجز مطالبته ولا ملازمته، وبه قال الشافعي وقال أبو حنيفة لغرمائه ملازمته من غير أن يمنعوه من الكسب، فإذا رجع إلى بيته فأذن لهم في الدخول معه والامنعوه من الدخول لقول النبي صلى الله عليه وسلم " لصاحب الحق اليد واللسان " ولنا أن من ليس لصاحب الحق مطالبته لم يكن له ملازمته كصاحب الدين المؤجل، وقول الله تعالى (فنظرة إلى ميسرة) ومن وجب انظاره حرمت ملازمته كمن دينه مؤجل والحديث فيه مقال قاله ابن المنذر ثم نحمله على الموسر بدليل ما ذكرنا، وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لغرماء الذي أصيب في ثمار ابتاعها فكثر دينه " خذوا ما وجدتم وليس لكم إلا ذلك " رواه مسلم والترمذي {مسألة} (وإن كان له ماله لا يفي به فسأل غرماؤه الحاكم الحجر عليه لزمته إجابتهم) إذا اتفق الغرماء على طلب الحجر عليه في هذه الحال لزم الحاكم إجابتهم ولايجوز الحجر عليه بغير سؤال غرمائه لأنه لا ولاية له في ذلك إنما يفعله لحق الغرماء فاعتبر رضاهم، وكذلك إن سأله بعضهم، وبهذا قال مالك والشافعي، وقال أبو حنيفة ليس للحاكم الحجر عليه فإذا أدى اجتهاده إلى الحجر عليه ثبت لأنه فصل مجتهد فيه.
ولنا أن النبي صلى الله عليه وسلم حجر على معاذ وباع ماله في دينه رواه الخلال باسناده

(4/462)


(فصل) وتصرفه قبل حجر الحاكم في ماله نافذ من البيع والهبة والإقرار وقضاء بعض الغرماء وغير ذلك وبه قال أبو حنيفة ومالك والشافعي ولا نعلم فيه خلافاً لأنه رشيد غير محجور عليه فنفذ تصرفه كغيره، ولأن سبب المنع الحجر فلا يتقدم سببه، ولأنه من أهل التصرف، ولم يحجر عليه أشبه الملئ وإن أكرى جملاً بعينه أو داراً لم تنفسخ إجارته بالفلس وان المكتري أحق به حتى تنقضي مدته {مسألة} (ويستحب إظهار الحجر عليه والإشهاد عليه) لنتجنب معاملته لئلا يستضر الناس بضياع أموالهم، ويشهد عليه لينتشر ذلك وربما عزل الحاكم أو مات فيثبت الحجر عند الآخر فلا يحتاج إلى ابتداء حجر ثان (فصل) قال الشيخ رضي الله عنه (ويتعلق بالحجر عليه أربعة أحكام (أحدها) تعلق حق الغرماء بماله فلا يصح تصرفه فيه ولا يقبل إقراره عليه إلا العتق على إحدى الروايتين) متى حجر على المفلس لم ينفذ تصرفه في شئ من ماله فإن تصرف فيه ببيع أو هبة أو وقف أو إصداق امرأة مالا له أو نحو ذلك لم يصح، وبه قال مالك والشافعي في قول، وقال في آخر يقف تصرفه فإن كان فيما بقي من ماله وفاء الغرماء وإلا بطل.
ولنا أن حقوق الغرماء تعلقت بأعيان ماله فلم يصح تصرفه فيها كالعين المرهونة ولأنه محجور عليه بحكم حاكم فأشبه السفيه، وإن أقر بدين لم يقبل في الحال ويتبع به بعد فك الحجر عنه نص عليه وهو قول مالك ومحمد بن الحسن والثوري والشافعي في قول، وقال في الآخر يشاركهم اختاره ابن المنذر لأنه دين ثابت مضاف إلى ما قبل الحجر فشارك صاحبه الغرماء

(4/463)


كما لو ثبت ببينة، ولنا أنه محجور عليه فلم يصح إقراره فيما حجر عليه فيه كالسفيه ولأنه إقرار يبطل ثبوته في غير حق غير المقر فلم يقبل أو إقرار على الغرماء فلم يقبل كإقرار الراهن ولأنه متهم في إقراره وفارق البينة فإنه لا تهمة في حقها، فإن كان المفلس صانعاً كالقصار والحائك في يده متاع فأقر به لأربابه لم يقبل والقول فيها كالتي قبلها وتباع العين التي في يده وتقسم بين الغرماء وتكون قيمتها واجبة على
المفلس إذا قدر عليها لأنها انصرفت في وفاء دينه بسبب من جهته فكانت قيمتها عليه كما لو أذن في ذلك، وإن توجهت على المفلس يمين فنكل عنها فقضي عليه فحكمه حكم إقراره يلزم في حقه دون الغرماء فإن أعتق بعض رقيقه صح في إحدى الروايتين ونفذ وهو قول أبي يوسف واسحاق لأنه عتق من مالك رشيد فنفذ كما قبل الحجر.
وفارق سائر التصرفات لأن للعتق تغليباً وسراية ولهذا يسري إلى ملك الغير بخلاف غيره، والأخرى لا ينفذ عتقه وبه قال مالك وابن أبي ليلى والثوري والشافعي واختاره أبو الخطاب في رءوس المسائل لأنه ممنوع من التبرع لحق الغرماء فلم ينفذ عتقه كالمريض الذي يستغرق دينه ماله، وأما سرايته إلى ملك الغير فمن شرطه أن يكون موسراً يؤخذ منه قيمة نصيب شريكه ولا يتضرر ولو كان معسراً لم ينفذ عتقه إلا في ملكه صيانة لحق الغير وحفظاً له عن الضياع كذا ههنا وهذا أصح إن شاء الله تعالى {مسألة} (فإن تصرف في ذمته بشراء أو ضمان أو اقرار صح) ويتبع به بعد فك الحجر عنه لأنه أهل للتصرف وإنما وجد في حقه الحجر والحجر متعلق بماله لا بذمته ولكن لا يشارك أصحاب هذه الديون الغرماء لأنهم رضوا بذلك إذا علموا بفلسه وعاملوه ومن لا يعلم فقد فرط في ذلك فإن هذا في مظنة الشهرة، فعلى هذا يتبع بها بعد فك الحجر عنه، وفي إقراره خلاف ذكرناه في المسألة التي قبلها، فأما إن ثبت عليه حق ببينة شارك صاحبه الغرماء لأنه دين ثابت قبل الحجر عليه أشبه مالو شهدت به قبل الحجر {مسألة} (وإن جنى شارك المجني عليه الغرماء وإن جنى عبده قدم المجني عليه بثمنه) إذا جنى المفلس بعد الحجر جناية موجبة للمال شارك المجني عليه الغرماء لأن حق المجني عليه ثبت بغير اختياره، ولو كانت الجناية موجبة للقصاص فعفا صاحبها عنها الى مال أو صالحه المفلس على مال

(4/464)


شارك الغرماء لأن سببه ثبت بغير اختيار صاحبه فأشبه ما أوجب المال، فإن قيل ألا قدمتم حقه على الغرماء كما قدمتم حق من جنى عليه بعض عبيد المفلس؟ قلنا لأن الحق في العبد الجاني تعلق بعينه فقدم لذلك وحق هذا تعلق بالذمة كغيره من الديون فاستويا، فإن جنى عبده قدم المجني عليه بثمنه لأن
الحق تعلق بالعين فقدم على من تعلق حقه بالذمة كما يقدم حق المرتهن بثمن الرهن على الغرماء ولأن حق المجني عليه يقدم على حق المرتهن فأولى أن يقدم على حق الغرماء {فصل} قال رحمه الله (الثاني إن من وجد عنده عينا باعها إياه فهو أحق بها بشرط أن يكون المفلس حيا ولم ينقد من ثمنها شيئاً والسلعة بحالها لم يتلف بعضها ولم تتغير صفتها بما يزيل اسمها كنسج الغزل وخبز الدقيق) وجملته أن المفلس إذا حجر عليه فوجد بعض غرمائه سلعته التي باعه إياها بعينها فله فسخ البيع والرجوع في عين ماله بالشروط التي نذكرها روى ذلك عن عثمان وعلي وأبي هريرة وبه قال عروة ومالك والشافعي والاوزاعي والعنبري واسحاق وأبو ثور وابن المنذر، وقال الحسن والنخعي وابن شبرمة وأبو حنيفة هو اسوة الغرماء لأن البائع كان له حق الإمساك لقبض الثمن فلما سلمه أسقط حق الإمساك فلم يكن له أن يرجع في ذلك بالإفلاس كالمرتهن إذا سلم الرهن إلى الراهن ولأنه ساوى الغرماء في سبب الاستحقاق فيساويهم في الاستحقاق كسائرهم ولنا ما روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " من أدرك متاعه بعينه عند إنسان قد أفلس فهو أحق به " متفق عليه قال أحمد.
لو أن حاكما حكم أنه أسوة الغرماء ثم رفع إلى رجل يرى العمل بالحديث جاز له نقض حكمه ولأن هذا العقد يلحقه الفسخ بالإقالة فجاز فيه الفسخ لتعذر الغرض كالمسلم فيه إذا تعذر ولأنه لو شرط في البيع رهنا فعجز عن تسليمه استحق الفسخ وهو

(4/465)


وثيقة بالثمن فالعجز عن تسليم الثمن بنفسه أولى ويفارق البيع الرهن فإن إمساك الرهن إمساك مجرد على سبيل الوثيقة وليس ببدل والثمن ههنا بدل عن العين فإذا تعذر استيفاؤه رجع إلى المبدل وقولهم تساووا في سبب الاستحاق قلنا لكن اختلفوا في الشرط فإن بقاء العين شرط لملك الفسخ وهي موجودة في حق من وجد متاعه دون من لم يجده، إذا ثبت هذا فإن البائع بالخيار إن شاء رجع في السلعة وان شاء لم يرجع، وكان أسوة الغرماء وسواء كانت السلعة مساوية لثمنها أو أقل أو أكثر لأن الاعسار سبب يثبت جواز الفسخ فلا يوجبه كالعيب والخيار، ولا يفتقر الفسخ إلى حكم حاكم لأنه فسخ ثبت
بالنص فلم يحتج إلى حكم حاكم كفسخ النكاح لعتق أمة (فصل) وهل خيار الفسخ على الفور أو التراخي فيه وجهان (أحدهما) أنه على التراخي لأنه حق رجوع يسقط إلى عوض فكان على التراخي كالرجوع في الهبة (والثاني) على الفور لان جواز تأخيره يفضي إلى الضرر بالغرماء لا فضائه إلى تأخير حقوقهم فأشبه خيار الأخذ بالشفعة وهذان الوجهان مبنيان على الروايتين في خيار الرد بالعيب، ونصر القاضي الوجه الثاني ولأصحاب الشافعي الوجهان (فصل) فإن بذل الغرماء لصاحب السلعة الثمن ليتركها لم يلزمه قبوله نص عليه أحمد وبه قال الشافعي، وقال مالك ليس له الرجوع إنما جاز لدفع ما يلحقه من النقص في الثمن فإذا بذل له بكماله لم يكن له الرجوع كما لو زال العيب من المعيب ولنا الخبر الذي رويناه ولأنه تبرع بدفع الحق من غير من هو عليه فلم يجبر صاحب الحق على قبضه كما لو أعسر الزوج النفقة فبذلها غيره أو أعسر المكاتب فبذل غيره ما عليه لسيده وبهذا

(4/466)


ينتقض ما ذكروه وسواء بذلوه من أموالهم أو خصوه بثمنه من مال المفلس، وفي هذا القسم ضرر آخر لأنه لا يأمن أن يظهر له غريم لم يحضر فيرجع عليه، وإن دفعوا إلى المفلس الثمن فبذله للبائع لم يكن له الفسخ لأنه زال العجز عن تسليم الثمن فزال ملك الفسخ كما لو أسقط سائر الغرماء حقوقهم عنه فملك أداء الثمن، ولو أسقط الغرماء حقوقهم عنه فتمكن من الأداء أو وهب له مال فأمكنه الأداء منه أو غلت أعيان ماله فصارت قيمتها وافية بحقوق الغرماء بحيث يمكنه أداء الثمن كله لم يملك الفسخ لزوال سببه ولأنه مكنه الوصول إلى ثمن سلعته من المشتري فلم يكن له الفسخ كما لو لم يفلس (فصل) فإن اشترى المفلس من إنسان سلعة بعد الحجر في ذمته وتعذر الاستيفاء لم يكن له الفسخ سواء علم أو لم يعلم لأنه لا يستحق المطالبة بثمنها فلا يستحق الفسخ لتعذره كما لو كان ثمنها مؤجلاً ولأن العالم بالفلس دخل على بصيرة بخراب الذمة أشبه من اشترى معيباً يعلم عيبه، وفيه وجه آخر له الخيار لعموم الخبر ولأنه عقد عليه وقت الفسخ فلم يسقط حقه من الفسخ كما لو تزوجت امرأة فقيراً معسراً بنفقتها، وفيه وجه ثالث إن كان عالماً بفلسه فلا فسخ له، وإن لم يعلم فله الفسخ كمشتري
المعيب ويفارق المعسر بالنفقة لكون النفقة يتجدد وجوبها كل يوم فالرضا بالمعسر بها رضا بعيب ما لم يجب

(4/467)


بخلاف مسئلتنا، وإنما يشبه هذا إذا تزوجت معسراً بالصداق وسلمت نفسها إليه ثم أرادت الفسخ (فصل) وإن استأجر أرضاً للزرع فأفلس قبل مضي شئ من المدة فللمؤجر فسخ الإجارة لأنه وجد عين ماله وإن كان بعد انقضاء المدة فهو غريم بالأجرة، وإن كان بعد مضي بعضها لم يملك الفسخ في قياس قولنا في المبيع إذا تلف بعضه قال المدة ههنا كالمبيع ومضي بعضها كتلف بعضه لكن يعتبر مضي مدة لمثلها أجر لأنه لا يمكن التحرز عن مضي جزء منها بحال، وقال القاضي في موضع آخر من اكترى أرضاً فزرعها ثم أفلس ففسخ صاحب الأرض فعليه تبقية زرع المفلس إلى حين الحصاد بأجر مثله لأن المعقود عليه المنفعة فإذا فسخ العقد فسخه فيما ملك عليه بالعقد وقد تعذر ردها عليه فكان عليه عوضها كما لو فسخ البيع بعد تلف المبيع فله قيمته، ويضرب بذلك مع الغرماء كذاههنا، ويضرب مع الغرماء بأجر المثل دون المسمى وهذا مذهب الشافعي وهذا لا يقتضيه مذهبنا ولا يشهد بصحته الخبر ولا يصح في النظر.
أما الخبر فلأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما قال " من أدرك متاعه بعينه عند رجل قد أفلس فهو أحق به " وهذا ما أدرك متاعه بعينه ولا هو أحق به بالإجماع فإنهم وافقوا على وجوب تبقيتها وعدم الرجوع في عينها ولأن معنى قوله من أدرك متاعه بعينه أي على وجه يمكنه أخذه ويتعلق حقه بعينه وليس هذا كذلك، وأما النظر فإن البائع إنما كان أحق بعين ماله لتعلق حقه بالعين وإمكان رد ماله إليه بعينه فيرجع على من تعلق حقه بمجرد الذمة وهذا لم يتعلق حقه بالعين

(4/468)


ولا أمكن ردها إليه وإنما صار فائدة الرجوع الضرب بالقيمة دون المسمى وليس هذا هو المقتضي في محل النص ولا هو في معناه فإثبات الحكم به تحكم بغير دليل، ولو اكترى من يحمل له متاعاً إلى بلد ثم أفلس المكتري قبل حمل شئ فللمكتري الفسخ.
وإن حمل البعض أو بعض المسافة لم يكن له الفسخ في قياس المذهب وقياس قول القاضي له ذلك وإذا فسخ سقط عنه حمل ما بقي وضرب مع الغرماء بقسط ما حمل من الأجر المسمى وعلى قياس قول القاضي ينفسخ العقد في الجميع ويضرب بقسط ما
حمل من أجر المثل لما ذكرنا من قوله في المسألة التي حكينا قوله فيها (فصل) وإن أقرض رجلاً مالاً ثم أفلس المقترض وعين المال قائمة فله الرجوع فيها لقوله عليه السلام " من أدرك متاعه بعينه عند رجل قد أفلس فهو أحق به " ولأنه غريم وجد عين ماله فكان له أخذها كالبائع فإن أصدق امرأة عينا ثم أنفسخ نكاحها بسبب من جهتها يسقط صداقها أو طلقها قبل الدخول بها فاستحق الرجوع في نصفه وقد أفلست ووجد عين ماله فهو أحق بها لما ذكرنا (فصل) وانما يستحق الرجوع في السلعة بشروط خمسة (أحدها) أن يكون المفلس حيا فإن مات

(4/469)


فالبائع أسوة الغرماء سواء علم بفلسه قبل الموت فحجر عليه ثم مات أو مات فتبين فلسه وبهذا قال مالك، وإسحاق، وقال الشافعي له الفسخ واسترجاع العين لما روى ابن خلدة الزرقي قاضي المدينة قال: أتينا أبا هريرة في صاحب لنا قد أفلس فقال أبو هريرة هذا الذي قضى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم " أيما رجل مات أو أفلس فصاحب المتاع أحق بمتاعه إذا وجده بعينه " رواه أبو داود وابن ماجة ولأن هذا العقد يلحقه الفسخ بالإقالة فجاز فسخه لتعذر العوض كما لو تعذر المسلم فيه، ولأن الفلس سبب لاستحقاق الفسخ فجاز الفسخ به بعد الموت كالعيب ولنا ما روى أبو بكر بن عبد الرحمن عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث المفلس " فإن مات فصاحب المتاع أسوة الغرماء " رواه أبوداد وروى أبو اليمان عن الزبيدي عن الزهري عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أيما امرئ مات وعنده مال امرى بعينه اقتضى

(4/470)


من ثمنه شيئاً أولم يقتض فهو أسوة الغرماء " رواه ابن ماجه ولأنه تعلق به حق غير المفلس والغرماء وهم الورثة فأشبه الموهوب وحديثهم مجهول الإسناد قاله ابن المنذر، وقال ابن عبد البر يرويه أبو المعتمر عن الزرقي وأبو المعتمر غير معروف بحمل العلم، ثم هو غير معمول به إجماعاً فإنه جعل المتاع لصاحبه بمجرد موت المشتري من غير شرط فلسه ولا تعذر وفائه ولا عدم قبض ثمنه، والأمر بخلاف ذلك عند جميع العلماء إلا ما حكي عن الاصطخري من أصحاب الشافعي أنه قال لصاحب السلعة أن يرجع فيها إذا
مات المشتري، وإن خلف وفاء وهذا شذوذ عن اقوال أهل العلم وخلاف للسنة لا يعرج على مثله ويفارق حال الحياة حالة الموت لا مرين (أحدهما) أن الملك في الحياة للمفلس وههنا لغيره (الثاني) أن ذمة المفلس خربت ههنا خراباً لا يعود واختصاص هذا بالعين يضر بالغرماء كثيراً بخلاف حال الحياة (الشرط الثاني) أن لا يكون البائع قبض من ثمنها شيئاً فإن كان قد قبض بعض ثمنها سقط حق الرجوع

(4/471)


وبهذا قال إسحاق والشافعي في القديم.
وقال في الجديد له أن يرجع في قدر ما بقي من الثمن لأنه سبب ترجع به العين كلها إلى العاقد فجاز أن يرجع في بعضها كالفرقة قبل الدخول في النكاح، وقال مالك هو مخير إن شاء رد ما قبضه ورجع في جميع العين وإن شاء حاص الغرماء ولم يرجع ولنا ماروى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم " أيما رجل أفلس فوجد رجل عنده ماله ولم يكن اقتضى من ماله شيئاً فهو له " رواه الإمام أحمد ورواه أبو بكر بن عبد الرحمن عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " أيما رجل باع سلعة فأدرك سلعته بعينها عند رجل قد أفلس ولم يكن قبض من ثمنها شيئاً فهي له وإن كان قبض من ثمنها شيئاً فهو أسوة الغرماء " رواه أبو داود وابن ماجة ولأن في الرجوع في قسط ما بقي تبعيضا للصفقة على المشتري واضراراً به وليس ذلك للبائع، فإن قيل لا ضرر عليه في ذلك لأن ماله يباع ولا يبقى له فيزول عنه الضرر قلنا لا يندفع الضرر بالبيع فإن قيمة الشقص تنقص ولا يرغب فيها مشقصاً فيتضرر المفلس والغرماء بنقص القيمة ولأنه سبب يفسد به البيع فلم يجز تشقيصه كالرد بالعيب والخيار وقياس البيع على البيع أولى من قياسه على النكاح، ولا فرق بين كون المبيع عيناً واحدة أو عينين لما ذكرنا من الحديث والمعنى، فإن قيل حديثكم يرويه أبو بكر بن عبد الرحمن عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا ولا حجة في المراسيل قلنا قد رواه مالك وموسى بن عقبة عن الزهري عن أبي بكر بن عبد الرحمن عن أبي هريرة كذلك ذكره ابن عبد البر واخرجه أبو داود وابن ماجه والدارقطني في سننهم متصلاً فلا يضر إرسال من أرسله على أن حديثنا الأول يكفي في الدلالة وهو متصل رواه الإمام أحمد.
(فصل) الشرط الثالث أن تكون السلعة باقية بعينها لم يتلف بعضها فإن تلف جزء منها كبعض أطراف
العبد أو ذهبت عينه أو تلف بعض الثوب أو انهدم بعض الدار أو اشترى شجراً مثمراً لم تظهر ثمرته فتلفت

(4/472)


الثمرة أو نحو هذا لم يكن للبائع الرجوع وكان أسوة الغرماء وبهذا قال إسحاق، وقال مالك والاوزاعي والشافعي والعنبري له الرجوع في الباقي ويضرب مع الغرماء بحصة التالف لأنها عين يملك الرجوع في جميعها فملك الرجوع في بعضها كالذي له الخيار وكالأب فيما وهب لولده ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " من أدرك متاعه بعينه عند إنسان قد أفلس فهو أحق به " بشرط أن يجده بعينه وهذا لم يجده بعينه، ولأنه إذا أدركه بعينه حصل له بالرجوع فصل الخصومة وانقطاع ما بينهما من المعاملة بخلاف ما إذا وجد بعضه، ولا فرق بين أن يرضى بالموجود بجميع الثمن أو يأخذ بقسطه منه لأنه فات شرط الرجوع، وإن كان المبيع عينين كعبدين أو ثوبين تلف أحدهما أو نقص ففي جواز الرجوع في الباقي منهما روايتان (إحداهما) لا يرجع نقلها منه أبو طالب قال لا يرجع ببقية العين ويكون أسوة الغرماء لأنه لم يجد المبيع بعينه فأشبه مالو كان عينا واحدة، ولأن بعض المبيع تالف فلم يملك الرجوع فيه كما لو قطعت يد العبد، ونقل الحسن بن ثواب عن أحمد أن كان ثوباً واحداً فتلف بعضه فهو أسوة الغرماء، وإن كان رزماً فتلف بعضها فإنه يأخذ بقيتها إذا كان بعينه لأن السالم من المبيع وجده البائع بعينه فيدخل في عموم الحديث المذكور، ولأنه مبيع وجده بعينه فكان للبائع الرجوع فيه كما لو كان جميع المبيع، فإن باع بعض المبيع أو وهبه أو وقفه فهو بمنزلة تلفه لأن البائع ما أدرك ماله بعينه (فصل) فإن تغيرت صفتها بما يزيل اسمها فطحن الحنطة أو زرعها أو خبز الدقيق أو عمل الزيت صابوناً أو قطع الثوب قميصاً، أو نسج الغزل ثوباً أو نجر الخشبة أبواباً، أو عمل الشريط إبراً أو شيئاً فصل به ما أزال سقط حق الرجوع، وقال الشافعي فيه قولان (أحدهما) به أقول يأخذ عين ماله

(4/473)


ويعطي قيمة عمل المفلس فيها لأن عين ماله موجودة، وإنما تغير اسمها فأشبه مالو كان المبيع حملاً فصار كبشاً أو ودياً فصار نخلاً.
ولنا أنه لم يجد متاعه بعينه فلم يكن له الرجوع كما لو تلف والأصل الذي
قاسوا عليه ممنوع وإن سلم فإنه لم يتغير اسمه بخلاف مسئلتنا (فصل) فإن كان حباً فصار زرعاً أو بالعكس أو نوى فنبت شجراً أو بيضاً فصار فرخاً سقط الرجوع، وقال القاظي لا يسقط وهو أحد الوجهين لأصحاب الشافعي المنصوص عليهما لأن الزرع نفس الحب والفرخ نفس البيضة.
ولنا أنه لم يجد عين ماله فلم يرجع كما لو أتلفه متلف فأخذ قيمته، ولأن الحب أعيان ابتدأها الله تعالى لم تكن موجودة عند البيع، وكذلك أعيان الزرع والفرخ، ولو استأجر أرضاً واشترى بذراً وماء فزرع وسقى واستحصد وأفلس فالمؤجر وبائع البذر والماء غرماء لاحق لهم في الرجوع لأنهم لم يجدوا أعيان امواله، وعلى قول من قال له الرجوع في الزرع تكون عليه غرامة الأجرة وثمن الماء أو قيمة ذلك {مسألة} (ولم يتعلق بها حق من شفعة أو جناية أو رهن) وهذا هو الشرط الرابع وهو أن لا يتعلق بها حق الغير فان رهنها المفلس أو وهبها لم يملك البائع الرجوع كما لو باعها أو أعتقها لأن الرجوع إضرار بالمرتهن ولان يزال الضرر بالضرر، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال " من وجد متاعه بعينه عند رجل قد أفلس فهو أحق به " وهذا لم يجده عند المفلس ولا نعلم في هذا خلافاً، فإن كان دين المرتهن دون قيمة الرهن بيع كله فقضي منه دين المرتهن والباقي يرد على مال المفلس يشترك فيه الغرماء، والبيع بعضه فباقيه لهم يباع أيضاً ولا يرجع به البائع، وقال القاضي له الرجوع وهو مذهب الشافعي لأنه عين ماله وهذا مثل تلف بعض المبيع وقد ذكرناه وما ذكره القاضي لا يخرج على المذهب لأن تلف بعض المبيع يمنع الرجوع فكذلك ذهاب

(4/474)


بعضه بالبيع، ولو رهن بعض العبد لم يكن للبائع الرجوع في باقيه لما ذكرنا، فإن كان المبيع عينين فرهن إحداهما فهل يملك البائع الرجوع في الاخرى؟ على وجهين بناء على الروايتين فيما إذا تلفت إحدى العينين، فإن فك الرهن قبل فلس المشتري أو أبرأه من دينه فللبائع الرجوع لأنه أدرك عين ماله عند المشتري، وإن أفلس وهو رهن فأبرأ المرتهن المشتري من دينه أو قضى الدين عن غيره فللبائع الرجوع أيضاً لذلك
(فصل) فإن كان المبيع شقصاً مشفوعاً ففيه أوجه ثلاثة (أحدها) البائع أحق به هذا قول ابن حامد للخبر ولأنه إذا رجع فيه عاد الشقص إليه فيزول الضرر عن الشفيع لأنه عاد كما كان قبل البيع (والثاني) أن الشفيع أحق وهو الذي ذكره شيخنا ههنا وحكاه أبو الخطاب لأن حقه أسبق فكان أولى لأن حق البائع ثبت بالحجر وحق الشفيع ثبت بالبيع، ولأن حقه آحد لأنه يستحق إنتزاع الشقص من المشتري وممن نقله إليه، وحق البائع إنما يتعلق بالعين مادامت في يد المشتري ولا يزول الضرر عنه برده إلى البائع بدليل مالو باعه المشتري من بائعه أو وهبه إياه أو أقاله فإنه لا يسقط حق الشفيع (والوجه الثالث) أن الشفيع إن كان طالب بالشفعة فهو أحق لتأكد حقه بالمطالبة وإن لم يكن طالب فالبائع أولى.
ولأصحاب الشافعي وجهان كالاولين، وهم وجه ثالث أن الثمن يؤخذ من الشفيع فيخص به البائع جمعاً بين الحقين فإن غرض الشفيع في عين الشقص المشفوع وغرض البائع في ثمنه فيحصل ذلك بما ذكرنا، وليس هذا جيداً لأن حق البائع انما يثبت في العين، فإذا صار الأمر الى وجوب الثمن تعلق بذمته فساوى الغرماء فيه (فصل) فإن كان المبيع عبداً فأفلس المشتري بعد تعلق أرش الجناية برقبته ففيه وجهان (أحدهما) ليس للبائع الرجوع لأن تعلق الرهن به يمنع الرجوع وأرش الجناية يقدم على حق المرتهن فأولى أن

(4/475)


يمنع وهذا ذكره أبو الخطاب (والثاني) لايمنع الرجوع لأنه حق لايمنع تصرف المشتري فيه بخلاف الرهن، فإن قلنا لا يرجع فحكمه حكم الرهن، وإن قلنا له الرجوع فهو مخير إن شاء رجع فيه ناقصاً بأرش الجناية، وإن شاء ضرب بثمنه مع الغرماء، وإن أبرأ الغرماء من الجناية فللبائع الرجوع لأنه وجد متاعه بعينه خالياً من تعلق حق غيره به (فصل) فإن أفلس بعد خروج المبيع من ملكه ببيع أو عتق أو وقف أو غير ذلك لم يكن للبائع الرجوع لأنه لم يدرك متاعه بعينه عند المفلس سواء كان المشتري يمكنه استرجاع المبيع بخيار له أو عيب في ثمنه أو رجوعه في هبة ولده أو غير ذلك لما ذكرنا، فإن أفلس بعد رجوع ذلك إلى ملكه ففيه أوجه ثلاثة (أحدها) له الرجوع للخبر، ولأنه أدرك عين ماله خالياً عن حق غيره أشبه مالو
لم يبعه (الثاني) لا يرجع لأن هذا الملك لم ينتقل إليه منه فلم يملك فسخه ذكر أصحابنا الوجهين، ولأصحاب الشافعي مثل ذلك (والثالث) أنه إن عاد إليه بسبب جديد كبيع أو هبة أو إرث أو وصيه لم يكن للبائع الرجوع لأنه لم يصل إليه من جهته، وإن عاد إليه بفسخ كالإقالة والرد بعيب أو خيار ونحوه فللبائع الرجوع لأن هذا الملك استند إلى السبب الأول فإن فسخ العقد الثاني لا يقتضي ثبوت الملك وإنما زال السبب المزيل لملك البائع فثبت الملك بالسبب الأول فملك استرجاع ما ثبت الملك فيه ببيعه {مسألة} (ولم تزد زيادة متصلة كالسمن وتعلم صنعة) وهذا هو الشرط الخامس وهو أن لا يكون المبيع زاد زيادة متصلة كالسمن والكبر وتعلم الكتابة أو القرآن ونحو ذلك فيمنع الرجوع وهذا اختيار الخرقي، وروى الميموني عن أحمد انها لا تمنع وهو مذهب مالك والشافعي لأن مالكاً يخير الغرماء بين أن يعطوه السلعة أو ثمنها الذي باعها به، واحتجوا بالخبر وبأنه فسخ لا تمنع منه الزيادة المنفصلة فلم تمنع المتصلة كالرد بالعيب وفارق الطلاق فإنه ليس

(4/476)


بفسخ، ولأن الزوج يمكنه الرجوع في قيمة العين فيصل إلى حقه تاماً وههنا لا يمكنه الرجوع في الثمن ولنا أنه فسخ بسبب حادث فلم يملك به الرجوع في عين المال الزائدة زيادة متصلة كفسخ النكاح بالإعسار أو الرضاع، ولأنها زيادة في ملك المفلس فلم يستحق البائع أخذها كالمنفصلة وكالحاصل بفعله، ولأن النماء لم يصل إليه من البائع فلم يستحق أخذه منه كغيره من أمواله وفارق الرد بالعيب لوجهين (أحدهما) أن الفسخ فيه من المشتري فهو راض بإسقاط حقه من الزيادة وتركها للبائع بخلاف مسئلتنا (الثاني) أن الفسخ لمعنى قارن العقد وهو العيب القديم والفسخ ههنا حادث فهو أشبه بفسخ النكاح الذي لا يستحق به استرجاع العين الزائدة، وقولهم أن الزوج إنما لم يرجع في العين لكونه يندفع عنه الضرر بالقيمة لا يصح فإن اندفاع الضرر عنه بطريق آخر لا يمنعه من أخذ حقه من العين ولأنه لو كان مستحقاً للزيادة لم يسقط حقه منها بالقدرة على أخذ القيمة كمشتري المعيب، ثم كان ينبغي أن يأخذ قيمة العين زائدة لكون الزيادة مستحقة له فلما لم يكن كذلك علم أن المانع من الرجوع كون الزيادة للمرأة، ولأنه لا يمكن فصلها فكذلك ههنا بل أولى فإن الزيادة ههنا يتعلق بها
حق المفلس والغرماء فمنع البائع من أخذ زيادة ليست له أولى من تفويتها على الغرماء الذين لم يصلوا إلى تمام حقوقهم والمفلس المحتاج إلى تبرئة ذمته عند اشتداد حاجته، وأما الخبر فمحمول على من وجد متاعه على صفته ليس بزائد ولم يتعلق به حق آخر وههنا قد تعلق به حقوق الغرماء لما فيه من الزيادة لما ذكرنا من الدليل.
يحققه أنه إذا كان تلف بعض المبيع مانعاً له من الرجوع من غير ضرر يلحق بالمفلس ولا الغرماء فلأن تمنع الزيادة فيه مع تفويتها بالرجوع عليهم أولى، ولأنه إذا رجع في الناقص فما رجع الافيما باعه وخرج منه، فإذا رجع في الزائد أخذ ما لم يبعه واسترجع ما لم يخرج عنه فكان بالمنع أحق

(4/477)


{مسألة} (فأما الزيادة المنفصلة والنقص بهزال أو نسيان صنعة فلا يمنع الرجوع والزيادة للمفلس وعنه للبائع) وجملة ذلك أن الزيادة المنفصلة كالولد والثمرة والكسب لا تمنع الرجوع بغير خلاف بين أصحابنا وهو قول مالك والشافعي وسواء نقص بها المبيع أو لم ينقص إذا كان نقص صفة والزيادة للمفلس وهذا ظاهر كلام الخرقي لانه منع الرجوع بالزيادة المتصلة لكونها للمفلس فالمنفصلة أولى وهو قول ابن حامد والقاضي وهو مذهب الشافعي وهو الصحيح إن شاء الله تعالى، وقال أبو بكر الزيادة للبائع وهو مذهب مالك، ونقل حنبل عن أحمد في ولد الجارية ونتاج الدابة هو للبائع لأنها زيادة فكانت للبائع كالمتصلة.
ولنا أنها زيادة في ملك المشتري فكانت له كما لو رده بعيب، ولأنه فسخ استحق به استرجاع العين فلم يستحق الزيادة المنفصلة كفسخ البيع بالعيب أو الخيار والإقالة وفسخ النكاح بسبب من أسباب الفسخ، ولأن قول النبي صلى الله عليه وسلم " الخراج بالضمان " يدل على أن النماء والغلة للمشتري لكون الضمان عليه وقياسهم على الزيادة المتصلة الأصل فيه ممنوع، ثم لو سلم ثم فالفرق ظاهر فإن المتصلة تتبع في الفسوخ والرد بالعيب بخلاف المنفصلة.
قال شيخنا: ولا ينبغي أن يقع في هذا خلاف لظهوره، وكلام أحمد في رواية حنبل يحمل على أنه باعهما في حال حملهما فيكونان بسببين، ولهذا خص هذين بالذكر دون بقية النماء
(فصل) فإن نقصت مالية المبيع لذهاب صفة مع بقاء عينه كعبد هزل أو نسي صناعة أو كتابة أو كبر أو تغير عقله أو كان ثوباً فخلق لم يمنع الرجوع لأن فقد الصفة لا يخرجه عن كونه عين ماله لكنه يخير بين أخذه ناقصاً بجميع حقه وبين أن يضرب مع الغرماء بكمال ثمنه لأن الثمن لا يتقسط على صفة السلعة من سمن أو هزال أو علم أو نحوه فيصير كنقصه لتغير الاسعار، ولو كان المبيع أمة

(4/478)


ثيباً فوطئها المشتري ولم تحمل فله الرجوع فيها لما ذكرنا فإنها لم تنقص في ذات ولا صفات، وإن كانت بكراً فقال القاضي له الرجوع لأن فقد صفة فإنه لم يذهب منها جزء وإنما هو كالجراح، وقال أبو بكر ليس له الرجوع لأنه أذهب منها جزأ فأشبه مالو فقأ عينها، وإن وجد الوطئ من غير المفلس فهو كوطئ المفلس فيما ذكرنا (فصل) وإن جرح العبد أو شج فعلى قول أبي بكر لا يرجع لأنه ذهب جزء ينقص به الثمن أشبه مالو فقئت عين العبد، ولأنه ذهب من العين جزء له بدل فمنع الرجوع كما لو قطعت يد العبد، ولأنه لو كان نقص صفة مجردة لم يكن مع الرجوع فيها شئ سواه كما ذكرنا في هزال العبد ونسيان الصنعة وههنا بخلافه، ولأن الرجوع في المحل المنصوص عليه يقطع النزاع ويزيل المعاملة بينهما فلا يثبت في محل لا يثبت به هذا المقصود، وقال القاضي قياس المذهب أن له الرجوع لأنه فقد صفة فأشبه نسيان الصنعة واستخلاق الثوب، فإذا رجع نظرنا في الجرح فإن كان مما لا أرش كله كالحاصل بفعل الله تعالى أو فعل بهيمة أو جناية عبده أو جناية العبد على نفسه فليس له مع الرجوع أرش، وإن كان الجرح موجباً لأرش كجناية الأجنبي فللبائع إذا رجع أن يضرب مع الغرماء بحصة ما نقص من الثمن فينظر كم نقص من قيمته فيرجع بقسط ذلك من الثمن لأنه مضمون على المشتري للبائع بالثمن، فإن قيل فهلا جعلتم له الأرش الذي وجب على الأجنبي لأنه لو لم يجب به أرش لم يرجع بشئ فلا يجوز أن يرجع بأكثر من الأرش؟ قلنا لما أتلفه الأجنبي صار مضموناً بإتلافه للمفلس فكان الأرش له وهو مضمون على المفلس للبائع بالثمن فلا يجوز أن يضمنه بالأرش، وإذا لم يتلفه أجنبي لم يكن مضموناً فلا يجب بفواته شئ، فإن قيل فهلا فكان هذا الأرش للمشتري ككسبه لا يضمنه للبائع؟ قلنا
الكسب بدل منافعه ومنافعه مملوكة للمشتري بغير عوض وهذا بدل جزء من العين والعين جميعها

(4/479)


مضمونة بالعوض فلهذا ضمن ذلك للمشتري (فصل فإن اشترى زيتاً فخلطه بزيت آخر أو قمحاً فخلطه بما لا يمكن تمييزه منه سقط حق الرجوع، وقال مالك يأخذ أرشه، وقال الشافعي إن خلطه بمثله أو دونه لم يسقط الرجوع وله أن يأخذ متاعه بالكيل والوزن، وإن خلطه بأجود منه ففيه قولان (أحدهما) يسقط حقه، قال الشافعي وبه أقول واحتجوا بأن عين ماله موجودة من طريق الحكم فكان له الرجوع كما لو كانت منفردة ولأنه ليس له أكثر من اختلاط ماله بغيره فلم يمنع الرجوع كما لو اشترى ثوباً فصبغه أو سويقاً فلته.
ولنا أنه لم يجد عين ماله فلم يكن له الرجوع كما لو تلفت، ولأن ما يأخذه عوضاً عن ماله فلم يختص به دون الغرماء كما لو تلف ماله، وقول النبي صلى الله عليه وسلم " من أدرك متاعه بعينه " أي من قدر عليه وتمكن من أخذه من المفلس بدليل ما لو وجده بعد زوال ملك المفلس عنه، أو كان مسامير قد سمر بها باباً أو حجراً قد بنى عليه.
أو خشباً في سقفه أو أمة استولدها وهذا إذا اخذ مثله أو قيمته إنما يأخذ عوض ماله فهو كالثمن والقيمة وفارق المصبوغ فإن عينه يمكنه أخذها والسويق كذلك فاختلفا {مسألة} (وإن صبغ الثوب أو قصره لم يمنع الرجوع والزيادة للمفلس) إذا صبغ المفلس الثوب أو لت السويق بزيت فقال أصحابنا لبائع الثوب والسويق الرجوع في أعيان أموالهما وهو مذهب الشافعي لأن عين مالهما قائمة مشاهدة ما تغير اسمها ويكون المفلس شريكا لصاحب الثوب والسويق بما زاد عن قيمتهما فإن حصل زيادة فهي له، وإن حصل نقص فعليه، وإن نقصت قيمة الثوب أو السويق، فإن شاء البائع أخذهما ناقصين ولا شئ له، وإن شاء تركهما وله أسوة الغرماء لأن هذا نقص صفة فهو كالهزال.
قال شيخنا: ويحتمل أن لا يكون له الرجوع إذا

(4/480)


زادت القيمة لأنه اتصل بالمبيع زيادة للمفلس فمنعت الرجوع كسمن العبد.
ولأن الرجوع لا يتخلص به البائع من المفلس ولا يحصل به المقصود من قطع المنازعة وإزالة المعاملة.
بل يحصل له ضرر الشركة
فلم يكن في معنى المنصوص عليه فلا يمكن إلحاقه به (فصل) فإن قصر الثوب لم يخل من حالين (أحدهما) أن لا تزيد قيمته بذلك فللبائع الرجوع فيه لأن عين ماله قائمة لم يزل اسمها ولم يتلف بعضها ولا اتصلت بغيرها فكان له الرجوع كما لو علم العبد صناعة لم تزد بها قيمته، وسواء نقصت قيمته بذلك أو لم تنقص لأن ذلك النقص نقص صفة فلا فلا يمنع الرجوع كنسيان صناعة وهزال العبد ولا شئ له مع الرجوع (الثاني) أن تزيد قيمته بذلك فليس للبائع الرجوع في قياس قول الخرقي لأنه زاد زيادة لا تتميز زيادتها فلم يملك البائع الرجوع فيه كسمن العبد ولأنه لم يجد عين ماله متميزة عن غيرها فلم يملك الرجوع كبائع الصبغ إذا صبغ به، وقال القاضي وأصحابه له الرجوع فيها لأنه أدرك متاعه بعينه ولأنه وجد عين ماله لم يتغير اسمها ولا ذهبت عينها فملك الرجوع فيها كما لو صبغها فعلي قولهم إن كانت القصارة بعمل المفلس أو بأجرة وفاها فهما شريكان في الثوب فإذا كانت قيمة الثوب خمسة فصار يساوي ستة فللمفلس سدسه وللبائع خمسة أسداسه فإن اختار البائع دفع قيمة الزيادة إلى المفلس لزمه قبولها لأنه يتخلص بذلك من ضرر الشركة من غير مضرة تلحقه فأشبه مالو دفع الشفيع قيمة البناء إلى المشتري، وإن لم يختر بيع الثوب وأخذ كل واحد بقدر حقه، وإن كان العمل من صانع لم يستوف أجره فله حبس الثوب على استيفاء أجره فإن كانت الزيادة بقدر الاجر دفعت إليه، وإن كانت أقل فله حبس الثوب على قدر الزيادة ويضرب مع الغرماء بما يبقى، وإن كانت أكثر مثل ان تكون الزيادة درهمين والأجر درهم فله قدر أجره وما فضل للغرماء

(4/481)


(فصل) وإن اشترى صبغاً فصبغ به ثوباً أو زيتاً فلت به سويقاً فبائعهما أسوة الغرماء، وقال أصحاب الشافعي له الرجوع لأنه وجد عين ماله.
قالوا ولو اشترى ثوبا وصبغا فصبغ الثوب بالصبغ رجع بائع كل شئ في عين ماله وكان بائع الثوب، وإن حصل نقص فهو من صاحب الصبغ لأنه الذي يتفرق وينقص والثوب بحاله فإذا كانت قيمة الثوب عشرة وقيمة الصبغ خمسة فصارت قيمتهما اثنا عشر كان لصاحب الثوب خمسة أسداس الثوب وللآخر سدسه ويضرب مع
الغرماء بما نقص وذلك ثلاثة دراهم وذكر القاضي في موضع مثل هذا ولنا أنه لم يجد عين ماله فلم يكن له الرجوع كما لو تلف ولأن المشتري شغله بغيره على وجه البيع فلم يملك بائعه الرجوع فيه كما لو كان حجراً فبنى عليه أو مسامير سمر بها بابا، ولو اشترى ثوباً وصبغاً من واحد فصبغه به فقال أصحابنا هو كما لو كان الصبغ من غير بائع الثوب، فعلى قولهم يرجع في الثوب وحده ويكون المفلس شريكا له بزيادة الصبغ ويضرب مع الغرماء بثمن الصبغ، ويحتمل أن يرجع فيهما ههنا لأنه وجد عين ماله متميزاً عن غيره فكان له الرجوع فيه للخبر ولأن المعنى في المحل الذي ثبت فيه الرجوع موجود ههنا فملك الرجوع به كما يملكه ثم، ولو اشترى دفوفاً ومسامير من بائع واحد فسمرها به رجع بائعهما فيهما لذلك وكذلك ما أشبهه (فصل) ولو اشترى أمة حاملا ثم أفلس وهي حامل فله الرجوع فيها إلا أن يكون الحمل قد زاد بكبره وكثرت قيمتها بسببه فيكون من قبيل الزيادة المتصلة على ما مضى، وإن أفلس بعد وضعها فقال القاضي له الرجوع فيهما بكل حال من غير تفصيل.
قال شيخنا والصحيح أننا إن قلنا إن الحمل لاحكم له فالولد زيادة منفصلة لا يمنع الرجوع فيها على قول أبي بكر لأن الزيادة المنفصلة عنده للبائع وهذه زيادة منفصلة، وعلى قول غيره يكون الولد للمفلس فيحتمل أن يمتنع الرجوع في الأم لئلا يفضي

(4/482)


إلى التفريق بين الأم وولدها، ويحتمل أن يرجع في الأم ويدفع قيمة الولد ليكونا جميعاً له وإن لم يفعل بيعت الأم وولدها جميعاً وقسم الثمن على قدر قيمتهما فما خص الأم فهو للبائع وما خص الولد للمفلس وإن قلنا أن للولد حكما وهو الصحيح لما ذكرناه فيما تقدم كانت الأم والولد قد زادا بالوضع فحكمه حكم المبيع الزائد زيادة متصلة، وإن لم يزيدا جاز الرجوع فيهما، وإن زاد أحدهما دون الآخر خرج على الروايتين فيما اذا كان المبيع عينين فتلف بعض إحداهما هل يمنع ذلك الرجوع في الاخرى؟ كذلك يخرج ههنا وجهان (أحدهما) أن له الرجوع فيما لم يزد دون ما زاد فيكون حكمه حكم الرجوع في الأم دون الولد على ما فصلناه (والثاني) ليس له الرجوع في شئ منهما لأنه لم يجد المبيع إلا زائداً فأشبه العين الواحدة، فإن كان المبيع حيواناً غير الامة فحكمه حكمها إلا في التفريق بينهما
فإنه جائز بخلاف الأمة (فصل) فإن اشترى حائلا فحملت ثم أفلس وهي حامل فزادت قيمتها به فهي زيادة متصلة تمنع الرجوع على قول الخرقي ولا تمنعه على رواية الميموني، وإن أفلس بعد وضعها فهي زيادة منفصلة فتكون للمفلس على الصحيح وتمنع الرجوع في الأم دون ولدها لما فيه من التفريق بينهما وهذا أحد قولي الشافعي، ويحتمل أن يرجع في الأم على ما ذكرنا في التي قبلها، وعلى قول أبي بكر الزيادة للبائع فيكون له الرجوع فيهما، وقال القاضي إذا وجدها حاملا انبنى على أن الحمل هل له حكم أولا؟ فإن قلنا لا حكم له جرى مجرى الزيادة المتصلة، وإن قلنا له حكم فالولد في حكم المنفصل تتربص به حتى تضع ويكون الحكم فيه كما لو وجده بعد وضعه، وإن كان الحمل في غير الآدمية جاز التفريق بينهما كما تقدم (فصل) فإن كان المبيع نخلا أو شجراً فأفلس المشتري لم يخل من أربعة أحوال (أحدها) أن

(4/483)


يفلس وهي بحالها لم تزد ولم تثمر ولم يتلف بعضها فله الرجوع فيها (الثاني) أن يكون فيها ثمر ظاهر أو طلع مؤبر فيشترطه المشتري فيأكله أو يتصرف فيه أو يذهب بجائحة ثم يفلس فهذا في حكم مالو اشترى عينين فتلفت إحداهما ثم أفلس فهل للبائع الرجوع في الأصول ويضرب مع الغرماء بحصة التالف من الثمر؟ على روايتين وإن تلف بعضها فهو كتلف جميعها، وإن زادت أو بدا صلاحها فهذه زيادة متصلة في إحدى العينين وقد ذكرنا بيان حكمها (الحال الثالث) أن يبيعه نخلا قد أطلعت ولم تؤبر أو شجراً فيه ثمرة لم تظهر فهذه تدخل في مطلق البيع فإن أفلس بعد تلف الثمرة أو بعضها أو الزيادة فيها أو بدو صلاح فحكم ذلك حكم تلف بعض المبيع وزيادته المتصلة لأن المبيع كان بمنزلة العين الواحدة ولهذا دخل الثمر في مطلق البيع بخلاف التي قبلها (الحال الرابع) باعه نخلا حائلاً فأطلعت أو شجراً فأثمر فذلك على أربعة أضرب (أحدها) أن يفلس قبل تأبيرها فالطلع زيادة متصلة تمنع الرجوع وهو اختيار الخرقي كالسمن ويحتمل أن يرجع في النخل دون الطلع لأنه يمكن فصله ويصح افراده بالبيع فهو كالمؤبر بخلاف السمن وهذا قول ابن حامد، وعلى رواية الميموني لا يمنع بل يرجع ويكون الطلع للبائع كما لو
فسخ العيب وهو أحد قولي الشافعي، والقول الثاني يرجع في الأصل دون الطلع وكذلك عندهم الرد بالعيب والأخذ بالشفعة (الضرب الثاني) أفلس بعد التأبير وظهور الثمرة فلا يمنع الرجوع والطلع للمشتري إلا على قول أبي بكر والصحيح الأول لأن الثمرة لاتتبع في البيع الذي يثبت بتراضيهما ففي الفسخ الحاصل بغير رضا المشتري أولى، ولو باعه أرضا فارغه فزرعها المشتري ثم أفلس فإنه يرجع في الأرض دون الزرع وجهاً واحداً لأن ذلك من مال المشتري (الضرب الثالث) أفلس والطلع غير مؤبر فلم يرجع حتى أبر لم يكن له الرجوع فيه كما لو أفلس بعد التأبير لأن العين لا تنتقل إلا باختياره وهذا لم يخترها

(4/484)


إلا بعد تأبيرها.
فان ادعى البائع الرجوع قبل التأبير وأنكر المفلس فالقول قول المفلس مع يمينه لأن الأصل بقاء ملكه، وإن قال البائع بعت بعد التأبير وقال المفلس بل قبله فالقول قول البائع لهذه العلة فإن شهد الغرماء للمفلس لم تقبل شهادتهم لانهم يجرون إلى أنفسهم نفعاً، وإن شهدوا للبائع وهم عدول قبلت شهادتهم لعدم التهمة في حقهم (الضرب الرابع) أفلس بعد أخذ الثمن أو ذهابها بجائحة أو غيرها فله الرجوع في الأصل والثمرة للمشتري إلا على قول أبي بكر، وكل موضع لا يتبع الثمر الشجر إذا رجع البائع فيه فليس له مطالبة المفلس بقطع الثمرة قبل أوان الجزاز، وكذلك إذا رجع في الأرض وفيها زرع للمفلس فليس له المطالبة بأخذه قبل أوان الحصاد لأن المشتري زرع في أرضه بحق فطلعه على الشجر بحق فلم يلزمه أخذه قبل كماله كما لو باع الأصل وعليه الثمرة أو الأرض وفيها زرع وليس على صاحب الزرع أجر لأنه زرع في أرضه زرعا يحب تبقيته فكأنه استوفى منفعة الأرض فلم يكن عليه ضمان ذلك، إذا ثبت هذا فإن اتفق المفلس والغرماء على التبقية أو القطع فلهم ذلك، وإن اختلفوا فطلب بعضهم القطع وبعضهم التبقية وكان مما لا قيمة له مقطوعاً أو قيمته يسيرة لم يقطع لأن قطعة سفه وإضاعة مال، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن إضاعته وإن كانت قيمته كثيرة قدم قول من طلب القطع في أحد الوجهين لأن في تبقيته غرراً ولأن طالب القطع إن كان المفلس فهو يقصد تبرئة ذمته وإن كان الغرماء فهم يطلبون تعجيل حقوقهم وذلك حق لهم وهذا قول القاضي وأكثر الشافعية (الثاني) ينظر ما فيه الحظ فيعمل به لأن ذلك أنفع للجميع والظاهر سلامته، ولهذا يجوز أن يزرع
للمولى عليه، وفيه وجه آخر إن كان الطالب القطع الغرماء وجب اجابتهم لأن حقوقهم حالة فلا يلزمهم تأخيرها مع إمكان ايفائها، وإن كان الطالب المفلس دونهم وكان التأخير أحظ لم يقع لأنهم رضوا

(4/485)


بتأخير حقوقهم لحظ يحصل لهم وللمفلس، والمفلس يطلب ما فيه ضرر بنفسه ومنع الغرماء من استيفاء القدر الذي يحصل من الزيادة بالتأخير فلا يلزم الغرماء أجابته إلى ذلك (فصل) فان أقر الغرماء بالطلع أو الزرع للبائع ولم يشهدوا به أو شهدوا به وليسوا عدولاً أو لم يحكم بشهادتهم حلف المفلس وثبت الطلع له ينفرد به دونهم لأنهم يقرون أنه لا حق لهم فيه، فإن أراد دفعة إلى أحدهم أو تخصيصه بثمنه فله ذلك لإقرار باقيهم أنه لا حق لهم فيه فإن امتنع ذلك الغريم من قبوله أجبر عليه أو على الإبراء من قدره من دينه وهذا مذهب الشافعي لأنه محكوم به للمفلس فكان له أن يقضي دينه منه كما لو أدى المكاتب نجوم كتابته إلى سيده فقال سيده هي حرام وأنكر المكاتب، ان أراد قسمة على الغرماء لزمهم قبوله أو الا براء لما ذكرنا، فإن قبضوا الثمرة بعينها لزمهم ردها إلى البائع لأنهم مقرون له بها فلزمهم دفعها إليه كما لو أقروا بعتق عبد ثم اشتروه، فإن باع الثمرة وقسم ثمنها فيهم أو دفعه إلى بعضهم لم يلزمه رد ما أخذ من ثمنها لأنهم اعترفوا بالعين لا بثمنها وإن شهد بعضهم دون بعض، أو أقر بعضهم دون بعض لزم الشاهد أو المقر الحكم الذي ذكرناه دون غيره، وإن عرض عليهم المفلس الثمرة بعينها فأبوا أخذها لم يلزمهم ذلك لأنهم إنما يلزمهم الاستيفاء من جنس ديونهم إلا أن يكون فيهم من له من جنس الثمر أو الزرع كالمقرض والمسلم فيلزمه أخذ ما عرض عليه إذا كان بصفة حقه، ولو أقر الغرماء، بأن المفلس أعتق عبداً له قبل فلسه فأنكر ذلك لم يقبل قولهم إلا أن يشهد منهم عدلان بإعتاقه ويكون حكمهم في قبض العبد وأخذ ثمنه إن عرضه عليهم حكم مالو أقروا بالثمرة للبائع، وكذلك إن أقروا بعين ما في يديه أنها غصب أو عارية أو نحو ذلك فالحكم كما ذكرنا سواء، وإن أقروا بأنه أعتق عبده بعد فلسه انبنى ذلك على صحة عتق المفلس، فإن

(4/486)


قلنا لا يصح عتقه فلا أثر لإقرارهم، وإن قلنا بصحته فهو كإقرارهم بعتقه قبل فلسه فان حكم الحاكم
بصحته أو بفساده نفذ حكمه لأنه فصل مجتهد فيه فلزم ما حكم به الحاكم ولا يجوز نقضه ولا تغييره (فصل) فإن صدق المفلس البائع في الرجوع قبل التأبير وكذبه الغرماء لم يقبل إقراره لأن حقوقهم تعلقت بالثمرة ظاهراً فلم يقبل إقراره كما لو أقر بالنخيل وعلى الغرماء اليمين أنهم لا يعلمون أن البائع رجع قبل التأبير لأن هذه اليمين لا ينوبون فيها عن المفلس بل هي ثابتة في حقهم ابتداء بخلاف مالو ادعى حقاً وأقام شاهداً فلم يحلف لم يكن للغرماء أن يحلفوا مع الشاهد لأن اليمين على المفلس فلو حلفوا حلفوا ليثبتوا حقاً لغيرهم ولا يحلف الإنسان ليثبت لغيره حقاً ولا يجوز أن يكون نائباً فيها لأن الإيمان لا تدخلها النيابة وفي مسئلتنا الأصل أن هذا الطلع قد تعلقت حقوقهم به لكونه في يد غريمهم ومتصل بنخله، والبائع يدعي ما يزيل حقوقهم عنه فأشبه سائر أعيان ماله ويحلفون على نفي العلم لأنه يمين على فعل غيرهم فكانت على نفي العلم كيمين الوارث على نفي الدين على الميت، ولو أقر المفلس بعين من أعيان ماله لأجنبي أو لبعض الغرماء فأنكر الباقون فالقول قولهم وعليهم اليمين أنهم لا يعلمون ذلك ومثله لو أقر بغريم آخر يستحق مشاركتهم فأنكروه حلفوا أيضاً على نفي العلم لذلك وإن أقر بعتق عبده انبنى على صحة عتق المفلس فإن قلنا بصحة عتقه صح إقراره وعتق لأن من ملك شيئاً ملك الإقرار به وإن قلنا لا يصح عتقه لم يقبل إقراره وعلى الغرماء اليمين أنهم لا يعلمون ذلك، وكل موضع قلنا على الغرماء اليمين فهي على جميعهم فإن حلفوا وإلا قضي للمدعي إلا أن نقول برد اليمين على المدعى فيحلف ويستحق، وإن حلف بعضهم دون بعض أخذ الحالف نصيبه وحكم الناكل على ما ذكرنا (فصل) وإن أقر المفلس أنه أعتق عبده منذ سنة وكان العبد قد اكتسب بعد ذلك مالاً وأنكر

(4/487)


الغرماء فإن قلنا لا يقبل إقراره حلفوا واستحقوا العبد وكسبه، فإن قلنا يقبل إقراره لم يقبل في كسبه كان للغرماء أن يحلفوا أنهم لا يعلمون أنه أعتقه قبل الكسب ويأخذون كسبه لأن إقراره إنما قبل في العتق دون غيره لصحته منه لكونه ينبني على التغليب والسراية فلا يقبل في المال لعدم ذلك فيه ولا ننا نزلنا إقراره منزلة اعتاقه في الحال فلم نثبت به الحرية فيما مضى فيكون كسبه محكوماً به لسيده كما لو اقر بعتقه ثم أقر له بعين في يده
{مسألة} (وإن غرس الأرض أو بنى فيها فله الرجوع ودفع قيمة الغراس والبناء فيملكه إلا أن يختار المفلس والغرماء القلع ومشاركته بالنقص) إذا كان المبيع أرضاً فبناها المشتري أو غرسها ثم أفلس فأراد البائع الرجوع في الأرض نظرت فإن اتفق المفلس والغرماء على قلع الغراس والبناء فلهم ذلك لأن الحق لهم لا يخرج عنهم فإذا قلعوه فللبائع الرجوع في أرضه لأنه وجد عين ماله، فإن أراد الرجوع قبل القلع فله ذلك وهو مذهب الشافعي لأنه أدرك متاعه بعينه وفيه مال المشتري على وجه البيع فلم يمنعه الرجوع كما لو صبغ الثوب ويحتمل أن لا يستحقه إلا بعد القلع لأنه قبل القلع لم يدرك متاعه إلا مشغولا بملك المشتري فأشبه مالو كان مسامير في باب المشتري، فإن قلنا له الرجوع قبل القلع فقلعوه لزمهم تسوية الأرض وأرش نقص الأرض الحاصل به لأن ذلك نقص حصل لتخليص ملك المفلس فكان عليه كما لو دخل فصيل دار انسان فكبر فأراد صاحبه إخراجه فلم يمكن إلا بهدم بابها فإن الباب يهدم ليخرج ويضمن صاحبه ما نقص بخلاف ما إذا وجد البائع عين ماله ناقصة فرجع فيها فإنه لا يرجع في النقص فإن النقص كان

(4/488)


في ملك المفلس وههنا حدث بعد رجوعه في العين فلهذا ضمنوه، ويضرب بالنقص مع الغرماء، وإن قلنا ليس له الرجوع قبل القلع لم يلزمهم تسوية الحفر ولا أرش القص لأنهم فعلوا ذلك في أرض المفلس قبل رجوع البائع فيها فلم يضمنوا النقص كما لو قلعه المفلس قبل فلسه فإن امتنع المفلس والغرماء من القلع لم يجبروا عليه لأنه غرس بحق، ومفهوم قوله عليه السلام " ليس لعرق ظالم حق " أنه إن لم يكن ظالماً فله حق فإن بذل البائع قيمة الغراس والبناء ليملكه أو قال أنا أقلع وأضمن النقص فله ذلك إن قلنا له الرجوع قبل القلع لأن البناء والغراس حصل في ملكه لغيره بحق فكان له أخذه بقيمته أو قلعه وضمان نقصه كالشفيع إذا أخذ الأرض وفيها غراس أو بناء للمشتري والمعير إذا رجع في أرضه بعد غرس المستعير، وإن قلنا ليس له الرجوع قبل القلع لم يكن له ذلك لأنه بناء المفلس وغرسه فلم يجبر على بيعه لهذا البائع ولا على قلعه كما لو لم يرجع في الارض {مسألة} (فإن أبوا القلع وأبى دفع القيمة سقط الرجوع)
وهذا قول ابن حامد وأحد الوجهين لأصحاب الشافعي، وقال القاضي يحتمل إن له الرجوع وهو قول للشافعي لأنه أدرك متاعه بعينه متصلا بملك المشتري على وجه التبع فلم يمنع الرجوع كالثوب إذا صبغه المشتري

(4/489)


ولنا أنه لم يدرك متاعه على وجه يمكنه أخذه منفرداً عن غيره فلم يكن له أخذه كالحجر في البناء والمسامير في الباب ولأن في ذلك ضرراً على المشتري والغرماء، ولا يزال الضرر بالضرر ولأنه لا يحصل بالرجوع ههنا انقطاع النزاع والخصومة بخلاف ما إذا وجدها غير مشغولة بشئ، وأما الثوب إذا صبغه فلا نسلم إن له الرجوع، وإن سلمنا فالفرق بينهما من وجهين (أحدهما) أن الصبغ تفرق في الثوب فصار كالصفة بخلاف البناء والغراس فإنهما أعيان متميزة وأصل في نفسه (الثاني) أن الثوب لايراد للبقاء بخلاف الأرض والبناء فإذا قلنا لا يرجع فلا كلام، وإن قلنا يرجع فرجع واتفق الجميع على بيعهما بيعاً لهما كذا ههنا، ويحتمل أن لا يجبر لأنه يمكن طالب البيع أن يبيع ملكه منفرداً بخلاف الثوب المصوغ فإن بيعا لهما قسم الثمن على قدر القيمتين فتقوم الارض لاشجر فيها ولا بناء ثم تقوم وهما فيها فما كان قيمة الأرض بغير غراس ولا بناء فللبائع قسطه من الثمن والزائد للمفلس والغرماء، وإن قلنا لا يجبر على البيع أو لم يطلب أحدهما البيع فإن اتفقا على كيفية كونهما بينهما جاز ما اتفقا عليه، وإن اختلفا كانت الأرض للبائع والغراس والبناء للمفلس والغرماء ولهم دخول الأرض لسقي الشجر وأخذ الثمرة وليس لهم دخولها للتفرج أو لغير حاجة، وللبائع دخولها للزرع ولما شاء لأن الأرض ملكه، فإن باعوا الشجر والبناء لإنسان فحكمه في ذلك حكمهم، فإن بذل المفلس والغرماء أو المشتري

(4/490)


للبائع قيمة الأرض ليدعها لهم لم يلزمه ذلك لأن الأرض أصل فلا يجبر على بيعها بخلاف الغراس والبناء (فصل) فإن اشترى غراساً فغرسه في أرضه ثم أفلس ولم يزد الغراس فله الرجوع فيه لأنه أدرك متاعه بعينه، فإذا أخذه فعليه تسوية الأرض وأرش نقصها الحاصل بقلعه لأنه نقص حصل لتخليص ملكه من ملك غيره، وإن بذل المفلس والغرماء قيمته له ليملكوه لم يجبر على قبولها لأنه إذا اختار
أخذ ماله وتفريغ ملكهم وإزالة ضرره عنهم لم يكن لهم منعه كالمشتري إذا غرس في الأرض المشفوعة وإن امتنع من القلع فبذلوا له القيمة ليملكه المفلس أو أرادوا قلعه وضمان النقص فلهم ذلك، وكذلك لو أرادوا قلعه من غير ضمان النقص لأن المفلس إنما ابتاعه مقلوعاً فلم يجب عليه إبقاؤه في أرضه، وقيل ليس لهم قلعه من غير ضمان النقص لأنه غرس بحق فأشبه غرس المفلس في الأرض التي ابتاعها إذا رجع بائعها فيها، والفرق بينهما ظاهر فإن إبقاء الغراس في هذه الصورة حق عليه فلم يجب عليه بفعله، وفي التي قبلها إبقاؤه حق له فوجب له بغراسه في ملكه، فإن اختار بعضهم القلع وبعضهم التبقية قدم قول من طلب القلع سواء كان المفلس أو الغرماء أو بعض الغرماء لأن الإبقاء ضرر غير واجب فلم يلزم الممتنع من الإجابة إليه، وإن زاد الغراس في الأرض فهي زيادة متصلة تمنع الرجوع إلا على رواية الميموني

(4/491)


(فصل) وإن اشترى أرضاً من رجل وغراسا من آخر فغرسه فيها ثم أفلس ولم يزد الشجر فلكل واحد منهما الرجوع في عين ماله، ولصاحب الأرض قلع الغراس من غير ضمان النقص بالقلع كما ذكرنا لأن البائع إنما باعه مقلوعاً فلا يستحقه إلا كذلك، وإن أراد بائعه قلعه من الأرض فقلعه فعليه تسوية الأرض وضمان نقصها الحاصل به لما تقدم، فإن بذل صاحب الغراس قيمة الأرض لصاحبها ليملكها لم يجبر على ذلك لأن الأرض أصل لا يجبر على بيعها تبعاً، وإن بذل صاحب الأرض قيمة الغراس لصاحبها ليملكه إذا امتنع من القلع فله ذلك لأن غرسه حصل في ملك غيره بحق فأشبه غرس المفلس في أرض البائع، ويحتمل أن لا يملك ذلك لأنه لا يجبر على ابقائه إذا امتنع مع دفع قيمته أو أرش نقصه فلا يكون له أن يتملكه بالقيمة بخلاف التي قبلها والأول أولى وهذا منتقض بغرس الغاصب (فصل) فإن كان المبيع صيداً فأفلس المشتري والبائع محرم لم يرجع فيه لأنه تملك للصيد فلم يجز في الإحرام كشرائه، وإن كان البائع حلالا في الحرم والصيد في الحل فأفلس المشتري فللبائع الرجوع فيه لأن الحرم إنما يحرم الصيد الذي فيه وهذا ليس من صيده فلا يحرمه، ولو أفلس المحرم وفي ملكه صيد بائعه حلال فله أخذه لأن المانع غير موجود فيه (فصل) إذا أفلس وفي يده عين دين بائعها مؤجل وقلنا لا يحل الدين بالفلس فقال أحمد في رواية
الحسن بن ثواب يكون موقوفاً إلى أن يحل دينه فيختار البائع الفسخ أو الترك وهو قول بعض أصحاب الشافعي، والمنصوص عن الشافعي انه يباع في الديون الحالة ويتخرج لنا مثل ذلك لأنها حقوق حالة فقدمت على الدين المؤجل كدين من لم يجد عين ماله والقول الأول أولى للخبر، ولأن حق هذا البائع تعلق بالعين فقدم على غيره، وإن كان مؤجلاً كالمرتهن والمجني عليه

(4/492)


(فصل) قال أحمد في رجل ابتاع طعاما نسيئة ونظر إليه وقلبه وقال أقبضه غداً فمات البائع وعليه دين فالطعام للمشتري ويتبعه الغرماء بالثمن وإن كان رخيصاً، وكذلك قال الثوري واسحاق لأن الملك ثبت للمشتري فيه بالشراء وزال ملك البائع عنه فلم يشاركه غرماء البائع فيه كما لو قبضه (فصل) ورجوع البائع فسخ للبيع لا يحتاج إلى معرفة المبيع ولا القدرة على تسليمه، فلو رجع في المبيع الغائب بعد مضي مدة يتغير فيها ثم وجده على حاله لم يتلف شئ منه صح رجوعه، وإن رجع في العبد بعد إباقه أو الجمل بعد شروده صح وصار ذلك له فإن قدر عليه أخذه، وإن ذهب كان من ماله، وإن تبين أنه كان تالفاً حال استرجاعه بطل الاسترجاع وله أن يضرب مع الغرماء في الموجود من ماله، وإن رجع في المبيع واشتبه بغيره واختلفوا في عينه فالقول قول المفلس لأنه منكر لاستحقاق ما ادعاه البائع والأصل معه {فصل} قال رحمه الله تعالى (الحكم الثالث بيع الحاكم ماله وقسم ثمنه وينبغي أن يحضره ويحضر الغرماء ويبيع كل شئ في سوقه) إذا حجر على المفلس باع الحاكم ماله لما ذكرنا من حديث معاذ، ولأنه مقصود الحجر ويستحب إحضار المفلس لمعان أربعة (أحدها) إحصاء ثمنه وضبطه (الثاني) أنه أعرف بثمن متاعه وجيده ورديئه فإذا حضر تكلم عليه وعرف الغبن من غيره (الثالث) أن الرغبة تكثر فيه فإن شراءه من صاحبه أحب إلى المشترين (الرابع) أنه أطيب لقلبه، ويستحب إحضار، الغرماء لأمور أربعة (أحدها) أن يباع لهم (الثاني) أنهم ربما رغبوا في شئ فزادوا في ثمنه فيكون أصلح لهم وللمفلس (الثالث)

(4/493)


أنه أطيب لقلوبهم وأبعد عن التهمة (الرابع) لعل فيهم من يجد عين ماله فيأخذها، فإن باعه من غير حضورهم كلهم جاز لأن ذلك مفوض إليه وموكول إلى اجتهاده فربما أداه اجتهاده إلى خلاف ذلك والمبادرة إلى البيع قبل احضارهم ويأمرهم أن يقيموا منادياً ينادي على المتاع، فإن تراضوا بثقة أمضاه الحاكم وإن لم يكن ثقة رده، فإن قيل لم يرده وقد اتفق عليه أصحاب الحق فأشبه مالو اتفق المرتهن والراهن على أن يبيع الرهن غير ثقة لم يكن للحاكم الاعتراض؟ قلنا الحاكم ههنا له نظر واجتهاد لأنه قد يظهر غريم آخر فيتعلق حقه به بخلاف الرهن فإنه لا نظر للحاكم فيه، فإن اختار المفلس رجلاً واختار الغرماء آخر أقر الحاكم الثقة منهما فإن كانا ثقتين قدم المتطوع منهما لأنه أوفر، فإن كانا متطوعين ضم أحدهما إلى الآخر، وإن كانا بجعل قدم أو ثقهما وأعرفهما، فإن تساويا قدم من يرى منهما فإن وجد متطوعاً بالنداء وإلا دفعت الاحرة من مال المفلس لأن البيع حق عليه لكونه طريق وفاء دينه، وقيل يدفع من بيت المال لأنه من المصالح، وكذلك الحكم في أجر من يحفظ المتاع والثمن وأجر الحمالين ونحوهم، ويستحب بيع كل شئ في سوقه لأنه أحوط وأكثر لطلابه ومعرفة قيمته، فإن باع في غير سوقه بثمن المثل جاز لأن الغرض تحصيل الثمن وربما أدى الاجتهاد إلى انه أصلح، ولهذا لو قال بع ثوبي بثمن كذا في سوق عينه فباعه بذلك في غيره جاز ويبيع بنقد البلد لأنه اصلح، فان كان في البلد نقود باع بغالبها فإن تساوت باع بجنس الدين، فإن زاد في السلعة أحد في مدة الخيار لزم الأمين الفسخ لأنه أمكنه بيعه بثمن فلم يبيعه بدونه كما لو زيد فيه قبل العقد، وإن زاد بعد لزوم العقد استحب للأمين سؤال المشتري الإقالة واستحب للمشتري الإجابة لتعلقه بمصلحة المفلس وقضاء دينه

(4/494)


{مسألة} (ويترك له من ماله ما تدعو إليه حاجته من مسكن وخادم) لاتباع دار المفلس التي لا غنى له عن سكناها، وبه قال أبو حنيفة وإسحاق والخادم في معنى الدار إذا كان محتاجاً إليه، وقال شريح ومالك والشافعي تباع ويكتري له بدلها.
اختاره ابن المنذر لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الذي أصيب في ثمار ابتاعها فكثر دينه فقال لغرمائه " خذوا ما وجدتم " وهذا مما وجدوه، ولأنه عين مال المفلس فوجب صرفه في دينه كسائر ماله.
ولنا أن هذا مما لاغني للمفلس
عنه فلم يصرف في دينه كثيابه وقوته والحديث قضية في عين يحتمل أنه لم يكن له عقار ولا خادم، ويحتمل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " خذوا ما وجدتم " مما تصدق به عليه والظاهر أنه لم يتصدق عليه بدرا وهو يحتاج إلى سكناها ولا خادم وهو محتاج إلى خدمته، ولأن الحديث مخصوص بثياب المفلس وقوته فنقيس عليه محل النزاع وقياسهم منتقض بذلك بأجر المسكن وسائر ماله يستغنى عنه بخلاف مسئلتنا، فإن كان له داران يستغني بإحداهما بيعت الاخرى لان به غني عن سكناها، وإن كان مسكنه واسعاً يفضل عن سكنى مثله بيع واشتري له مسكن مثله ورد الفضل على الغرماء، وكذلك الثياب التي له إذا كانت رفيعة لا يلبس مثله مثلها (فصل) فإن كان المسكن والخادم الذي لا يستغني عنهما عين مال بعض الغرماء أو كان جميع ماله أعيان أموال أفلس بأثمانها ووجدها أصحابها فلهم أخذها بالشرائط المذكورة، لقول النبي صلى الله عليه وسلم " من وجد متاعه بعينه عند رجل قد أفلس فهو أحق به " ولأن حقه تعلق بالعين فكان أقوى سبباً من المفلس ولأن الإعسار بالثمن سبب يستحق به الفسخ فلم يمنع منه تعلق حاجة المشتري

(4/495)


كما قبل القبض وكالعيب والخيار، ولأن منعهم من أخذ أموالهم يفتح باب الحيل بأن يشتري من لامال له في ذمته ثياباً يلبسها وداراً يسكنها، أو خادماً يخدمه وفرساً يركبها وطعاماً له ولعائلته ويمتنع على أربابها أخذها لتعلق حاجته بها فتضيع أموالهم ويستغني هو بها، فعلى هذا يؤخذ ذلك ولا يترك له منه شئ لأنه أعيان أموال الناس فكانوا أحق بها منه كما لو كانت في أيديهم أو أخذها منهم غصبا {مسألة} (وينفق عليه بالمعروف إلى أن يفرغ من قسمته بين غرمائه) وجملة ذلك أنه إذا حجر على المفلس، فإن كان ذا كسب يفي بنفقته ونفقة من تلزمه مؤنته فهي في كسبه فإنه لا حاجة إلى إخراج ماله مع غناه بكسبه فلم يجز كالزيادة على النفقة، وإن كان كسبه دون نفقته كملت من ماله، وإن لم يكن ذا كسب أنفق عليه من ماله مدة الحجر وإن طال لأن ملكه باق، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم " ابدأ بنفسك ثم بمن تعول " ومعلوم إن فيمن يعوله من تجب عليه نفقته ويكون ديناً عليه وهي زوجته، فإذا قدم نفقة نفسه على نفقة الزوجة فكذلك على حق الغرماء، ولأن تجهيز
الميت يقدم على دينه بالاتفاق والحي آكد حرمة من الميت لأنه مضمون بالإتلاف، ويقدم أيضاً نفقة من تلزمه نفقته من أقاربه مثل الوالد والولد وغيرهم ممن تجب نفقته لأنهم يجرون مجرى نفسه في كون ذوي رحمه منهم يعتقون إذا ملكهم كما يعتق إذا ملك نفسه فكانت نفقتهم كنفقته، وكذلك نفقة زوجته لأن نفقتها آكد من نفقة الأقارب، وممن أوجب الإنفاق على المفلس وزوجته وأولاده أبو حنيفة ومالك والشافعي ولا نعلم فيه خلافاً، وتجب كسوتهم لأن ذلك مما لابد منه، والواجب من النفقة والكسوة أدنى ما ينفق على مثله بالمعروف وأدنى ما يكتسي مثله، وكذلك كسوته من جنس ما يكتسبه

(4/496)


مثله، وكسوة امرأته ونفقتها مثل ما يفرض على مثله، وأقل ما يكفيه من اللباس قميص وسراويل وشئ يلبسه على رأسه قلنسوة أو عمامة أو غيرهما مما جرت عادته ولرجله حذاء إن كان يعتاده، وجبه أو فروة في الشتاء لدفع البرد، فإن كانت له ثياب لا يلبس مثله مثلها بيعت واشترى له كسوة مثله ورد الفضل على الغرماء، فإن كانت إذا بيعت واشترى له كسوة مثله لا يفضل منها شئ تركت لعدم الفائدة في بيعها (فصل) وإن مات المفلس كفن من ماله لأن نفقته كانت واجبة من ماله في حال حياته فوجب تجهيزه منه بعد الموت كغيره، وكذلك يجب كفن من يمونه لأنهم بمنزلته ولا يلزم كفن زوجته لأن نفقتها تجب في مقابلة الاستمتاع وقد فات بموتها فسقطت بخلاف الأقارب فإن قرابتهم باقية، ويلزمه تكفين من مات من عبيده وتجهيزه لأن نفقته ليست في مقابلة الانتفاع به بدليل وجوب نفقة الصغير والمبيع قبل التسليم، ويكفن في ثلاث أثواب كما كان يلبس في حياته، ويحتمل أن يكفن في ثوب يستره لانه يكفيه فلا حاجة الى الزيادة، وفارق حال الحياة لانه لابد من تغطيه رأسه وكشفه يؤذيه بخلاف الميت، ويمتد الإنفاق المذكور إلى حين فراغه من القسمة بين الغرماء لأنه لا يزول ملكه إلا بذلك ومذهب الشافعي قريب مما ذكرنا في هذا الفصل (فصل) فإن كان المفلس ذا صنعة يكسب ما يمونه ويمون من تلزمه مؤنته أو كان يقدر على أن يكسب ذلك من المباحات ما يكفيه أو يؤجر نفسه أو يتوكل بجعل يكفيه لم يترك له شئ من ماله
للنفقة، وإن لم يقدر على شئ ما ذكرناه ترك له من ماله قدر ما يكفيه.
قال أحمد رحمه الله في رواية

(4/497)


أبي داود: يترك له قوت يتقوته، وإن كان له عيال ترك له قوام، وقال في رواية الميموني يترك له قدر ما يقوم به معاشه ويباع الباقي وهذا في حق الشيخ الكبير وذوي الهيآت الذين لا يمكنهم التصرف بأبدانهم، وينبغي أن يجعل مما لا يتعلق به حق بعضهم بعينه لأن من تعلق حقه بالعين أقوى سبباً من غيره كما ذكرنا في الدار والخادم (فصل) وإذا تلف شئ من ماله تحت يد الأمين أو بيع شئ من ماله وأودع ثمنه فتلف عند المودع فهو من ضمان المفلس وبهذا قال الشافعي.
وقال مالك العروض من ماله والدراهم والدنانير من مال الغرماء، وقال المغيرة الدنانير من مال أصحاب الدنانير والدراهم من مال أصحاب الدراهم ولنا أنه من مال المفلس ونمائه فكان تلفه ماله كالعروض من {مسألة} (ويبدأ ببيع ما يسرع اليه الفساد من الطعام الرطب) لان بقائه يتلفه بيقين، ثم ببيع الحيوان لأنه معرض للإتلاف ويحتاج إلى مؤنة في بقائه ثم ببيع الاناث لانه يخاف عليه وتناله اليد، ثم ببيع العقار آخراً لأنه لا يخاف تلفه بقاؤه أشهر له وأكثر لطلابه {مسألة} (ويعطي المنادي أجرته من المال) لأن البيع حق على المفلس لكونه طريق وفاء دينه، وقيل هو من بيت المال لأنه من المصالح {مسألة} (ويبدأ بالمجني عليه فيدفع إليه الأقل من الأرش أو ثمن الجاني) وقد ذكرنا ذلك في الرهن هذا إذا كان عبده الجاني، فعلى هذا يبدأ ببيعه وما فضل من ثمنه صرف إلى الغرماء، وإن كان المفلس هو الجاني فالمجني عليه أسوة الغرماء لأن حقه يتعلق بالذمة بخلاف جناية العبد وقد ذكرناه

(4/498)


{مسألة} (ثم بمن له رهن فيخص بثمنه) يباع الرهن ويختص المرتهن بثمنه إذا كان ثمنه بقدر دينه أو أقل منه سواء كان المفلس حياً أو
ميتاً لأن حقه متعلق بعين الرهن وذمة الراهن معاً وسائرهم يتعلق حقه بالذمة دون العين فكان حقه أقوى.
لا نعلم في هذا خلافا وهو مذهب الشافعي وأصحاب الرأي، فإن كان ثمن الرهن فضل عن دين المرتهن أعطي قدر دينه ورد الباقي على الغرماء، وإن فضل شئ من دينه ضرب بالفاضل مع الغرماء (فصل) ولو باع شيئاً أو باعه وكيله وقبض الثمن فتلف وتعذر رده وخرجت السلعة مستحقه ساوى المشتري الغرماء لأن حقه لم يتعلق بعين المال فهو بمنزلة أرش جناية المفلس، وذكر القاضي احتمالا أنه يقدم على الغرماء لأنه لم يرض بمجرد الذمة فكان أولى كالمرتهن ولأنه لو لم يقدم على الغرماء لامتنع الناس من شراء مال المفلس خوفاً من ضياع أموالهم فتقل الرغبات فيه ويقل ثمنه فكان تقديم المشتري بذلك على الغرماء أنفع لهم وهذا وجه لأصحاب الشافعي ولنا أن هذا حق لم يتعلق بعين المال فلم يقدم كالذي جنى عليه المفلس وفارق المرتهن فإن حقه تعلق بالعين وما ذكروه من المعنى الأول منتقض بأرش جناية المفلس (والثاني) مصلحة لاأصل لها فلا يثبت الحكم بها، فإن كان الثمن موجوداً يمكن رده وجب رده وينفرد به صاحبه لأنه عين ماله لم يتعلق به حق أحد من الناس وكذلك صاحب السلعة المستحقة يأخذها، ومتى باع وكيل المفلس أو العدل أو باع الرهن وخرجت السلعة مستحقة فالعهدة على المفلس ولا شئ على العدل لأنه أمين (فصل) ومن استأجر داراً أو بعيرا بعينه أو شيئاً غيرهما بعينه ثم أفلس المؤجر فالمستأجر أحق

(4/499)


بالعين التي استأجرها من الغرماء حتى يستوفي حقه لأن حقه متعلق بعين المال والمنفعة مملوكة له في هذه المدة فكان أحق بها كما لو اشترى منه شيئاً فإن هلك البعير أو انهدمت الدار قبل انقضاء المدة انفسخت الإجارة ويضرب مع الغرماء ببقية الإجرة، وإن استأجر جملاً في الذمة ثم أفلس المؤجر فالمستأجر أسوة الغرماء لأن حقه لم يتعلق بالعين وهذا مذهب الشافعي ولا نعلم فيه خلافا، وإن أجر داراً ثم أفلس فاتفق الغرماء والمفلس على البيع قبل انقضاء مدة الإجارة فلهم ذلك ويبيعونها مستأجرة فإن اختلفوا قدم قول من طلب البيع في الحال لأنه أحوط من التأخير.
فإذا استوفى المستأجر سلم المشتري فإن اتفقوا على تأخير البيع حتى تنقضي مدة الإجارة فلهم ذلك لأن الحق لا يخرج عنهم
(فصل) ولو باع سلعة ثم أفلس قبل تقبيضها فالمشتري أحق بها من الغرماء سواء كانت من المكيل والموزون أو لم تكن لأن المشتري قد ملكها وثبت ملكه فيها فكان أحق بها كما لو قبضها، ولا فرق بين ما قبل قبض الثمن وبعده وإن كان عليه سلم فوجد المسلم الثمن قائماً فهو أحق به لأنه وجد عين ماله وإن لم يجده فهو أسوة الغرماء لأنه لم يتعلق حقه بعين ماله ولا يثبت ملكه فيه ويضرب مع الغرماء بالمسلم فيه لأنه الذي يستحقه دون الثمن.
فان كان في المال جنس حقه أخذ منه بقدر ما يستحقه، وإن لم يكن فيه جنس حقه عزل له قدر حقه فيشتري به المسلم فيه فيأخذه وليس له أن يأخذ المعزول بعينه لئلا يكون بدلاً عما في الذمة من المسلم فيه وذلك لا يجوز لقول النبي عليه السلام " من أسلف في شئ فلا يصرفه إلى غيره " فإن أمكن أن يشترى بالمعزول أكثر مما قدر له لرخص المسلم فيه اشترى له بقدر حقه ورد الباقي على الغرماء مثاله رجل أفلس وله دينار وعليه لرجل دينار ولآخر قفيز حنطة من سلم قيمته دينار فإنه يقسم

(4/500)


دينار المفلس نصفين لصاحب السلم نصفه فإن رخصت الحنطة فصار قيمة القفيز نصف دينار تبينا أن حقه مثل نصف حق صاحب الدينار فلا يستحق من دينار المفلس إلا ثلثه يشتري له به ثلثا قفيز فيأخذه ويرد سدس الدينار على الغريم الآخر، وإن غلا المسلم فيه فصار قيمة القفيز دينارين تبينا أنه يستحق مثلي ما يستحقه صاحب الدينار فيكون له من دينار المفلس ثلثاه فيشتري له بالنصف المعزول ويرجع على الغريم بسدس دينار يشتري له به أيضاً لأن المعزول ملك للمفلس وإنما للغريم قدر حقه فإن زاد فللمفلس وإن نقص فعليه {مسألة} (ثم بمن له عين مال يأخذها بالشروط المذكورة) وقد ذكرنا ذلك ثم يقسم الباقي بين باقي الغرماء على قدر ديونهم لتساويهم في الاستحقاق فإن كانت ديونهم من جنس الأثمان أخذوها، وإن كان فيهم من دينه من غير جنس الأثمان كالقرض لغير الأثمان فرضي أن يأخذ عوض حقه من الأثمان جاز وإن امتنع وطلب جنس حقه اشترى له بحصته من الثمن من جنس دينه، ولو أراد الغريم الأخذ من المال المجموع، وقال المفلس لا أقضيك إلا
من جنس دينك قدم قول المفلس لأن هذه معاوضة فلا تجوز إلا بتراضيهما {مسألة} (فإن كان فيهم من له دين مؤجل لم يحل وعنه أنه يحل فيشاركهم) لا يحل الدين المؤجل بفلس من هو عليه ذكره القاضي رواية واحدة، وحكى أبو الخطاب فيه رواية أخرى انه يحل وهو قول مالك، وعن الشافعي كالمذهبين، واحتجوا بأن الإفلاس يتعلق به الدين بالمال فأسقط الأجل كالموت.
ولا أن الأجل حق للمفلس فلا يسقط بفلسه كسائر حقوقه ولأنه

(4/501)


لا يوجب حلول ماله فلا يوجب حلول ما عليه كالجنون والاغماء ولأنه دين مؤجل على حي فلم يحل قبل أجله كغير المفلس، والأصل المقيس عليه ممنوع وإن سلم فالفرق بينهما أن ذمته خربت بخلاف المفلس إذا ثبت هذا فإنه إذا حجر على المفلس، فقال أصحابنا لا يشارك أصحاب الديون المؤجلة أصحاب الديون الحالة ويبقى المؤجل في الذمة إلى وقت حلوله فإن لم يقسم الغرماء حتى حل الدين شارك الغرماء كما لو تجدد على المفلس دين بجنايته فإن أدرك بعض المال بل قسمته شاركهم فيه بجميع دينه، ويضرب مع باقي الغرماء ببقية ديونهم، وإن قلنا يحل الدين فهو كأصحاب الديون الحالة سواء {مسألة} (من مات وعليه دين مؤجل لم يحل إذا وثق الورثة وعنه أنه يحل) اختلفت الرواية في حلول الدين بالموت على من هو عليه فروي أنه لا يحل اختاره الخرقي بشرط أن يوثق الورثة وهو قول ابن سيرين وعبيد الله بن الحسن وإسحاق وأبي عبيد، والرواية الأخرى أنه يحل بالموت وبه قال الشعبي والنخعي وسوار ومالك والثوري والشافعي وأصحاب الرأي لأنه لا يخلو إما أن يبقى في ذمة الميت أو الورثة أو يتعلق بالمال، ولايجوز بقاؤه في ذمة الميت لخرابها وتعذر مطالبته بها ولا ذمة الورثة لأنهم لم يلتزموها ولارضي صاحب الدين بذممهم وهي مختلفة متباينة، ولا يجوز تعليقه على الأعيان وتأجيله لأنه ضرر بالميت وصاحب الدين ولا نفع للورثة فيه.
أما الميت فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال " الميت مرتهن بدينه حتى يقضى عنه " وأما صاحبه فيتأخر حقه، وقد

(4/502)


تتلف العين فيسقط حقه، وأما الورثة فإنهم لا ينتفعون بالأعيان ولا يتصرفون فيها، وإن حصلت لهم منفعة
فلا يسقط حظ الميت وصاحب الدين لمنفعة لهم.
ولنا ما ذكرنا في المفلس ولأن الموت ما جعل مبطلاً للحقوق وإنما هو ميقات للخلافة وعلامة على الوراثة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم " من ترك حقاً أو مالا فلورثته " وما ذكروه إثبات حكم بالمصلحة المرسلة لم يشهد لها شاهد الشرع باعتبار، فعلى هذا يبقى الدين في ذمة الميت كما كان ويتعلق بعين ماله كتعلق حقوق الغرماء بمال المفلس عند الحجر عليه فإن أحب الورثة التزام أداء الدين ويتصرفون في المال لم يكن لهم ذلك إلا أن يرضى الغريم أو يوثقوا الحق بضمين ملئ أو رهن يثق به لوفاء حقه فإنهم قد لا يكونون أملياء ولم يرض بهم الغريم فيؤدي إلى فوات الحق، وذكر القاضي أن الحق ينتقل إلى ذمم الورثة بموت موروثهم من غير أن يشترط التزامهم له فلا ينبغي أن يلزم الإنسان دين لا يلتزمه ولم يتعاط سببه ولو لزمهم ذلك بموت موروثهم للزمهم وإن لم يخلف وفاء، فإن قلنا الدين يحل بالموت فأحب الورثة القضاء من غير التركة فلهم ذلك، وإن اختاروا القضاء منها فلهم ذلك وإن امتنعوا من القضاء باع الحاكم من التركة ما يقضي به الدين، وإن مات مفلس وله غرماء بعض ديونهم مؤجلة، قلنا يحل المؤجل بالموت اقتسموا التركة على قدر ديونهم، وإن قلنا لا يحل فأوثق الورثة لصاحب المؤجل اختص أصحاب الحال بالتركة، وإن امتنع الورثة من التوثيق حل دينه وشارك أصحاب الحال لئلا يفضي إلى إسقاط دينه بالكلية (فصل) وذكر بعض أصحابنا فيمن مات وعليه دين هل يمنع اليد نقل التركة إلى الورثة؟

(4/503)


روايتين (إحداهما) لا يمنعه للخبر المذكور ولأن تعلق الدين بالمال لا يزيل الملك في العبد الجاني والرهن والمفلس فلم يمنع نقله فعلى هذا إن تصرف الورثة في التركة ببيع أو غيره صح تصرفهم ولزمهم أداء الدين فإن تعذر وفاؤه فسخ تصرفهم كما لو باع السيد عبده الجاني (والثانية) يمنع نقل التركة إليهم لقول الله تعالى (من بعد وصية يوصى بها أو دين) فجعل التركة للوارث بعد الدين والوصية فلا يثبت لهم الملك قبلهما، فعلى هذا لا يصح تصرف الورثة لأنهم تصرفوا في غير ملكهم إلا أن يأذن لهم الغرماء وإن تصرف الغرماء لم يصح إلا بإذن الورثة
{مسألة} (وإن ظهر له غريم بعد قسم ماله رجع على الغرماء بقسطه) وبهذا قال الشافعي وحكي عن مالك وحكي عنه لا يحاصهم لأنه نقض لحكم الحاكم ولنا أنه غريم يقاسمهم لو كان حاضراً، فإذا ظهر بعد ذلك قاسمهم كغريم الميت يظهر بعد قسم ماله وليس قسم الحاكم ماله حكماً إنما هو قسمه بان الخطأ فيها فأشبه مالو قسم أرضاً بين شركاء ثم ظهر شريك آخر وقسم الميراث ثم ظهر وارث سواه (فصل) ولو أفلس وله دار مستأجرة فانهدمت بعد قبض المفلس الأجرة انفسخت الإجارة فيما بقي من المدة وسقط من الأجرة بقدر ذلك ثم إن وجد عين ماله أخذ منه بقدر ذلك، وإن لم يجده ضرب مع الغرماء بقدره وإن كان ذلك بعد قسم ماله رجع على الغرماء بحصته لأن سبب وجوبه قبل الحجر ولذلك يشاركهم إذا وجب قبل القسمة، ولو باع سلعة وقبض ثمنها ثم أفلس فوجد بها المشتري عيباً فردها به أو ردها بخيار أو اختلاف في الثمن ونحوه ووجد عين ماله أخذها لأن

(4/504)


البيع لما انفسخ زال ملك المفلس عن الثمن كزوال ملك المشتري عن المبيع، وإن كان بعد تصرفه فيه شارك المشتري الغرماء.
{مسألة} (وإن بقيت على المفلس بقية وله صنعة فهل يجبر على إيجار نفسه لقضائها على روايتين) (إحداهما) لا يجبر وهو قول مالك والشافعي لقول الله تعالى (وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة) ولما روى أبو سعيد أن رجلا أصيب في ثمرة ابتاعها فكثر دينه فقال النبي صلى الله عليه وسلم " تصدقوا عليه " فتصدقوا عليه فلم يبلغ وفاء دينه فقال النبي صلى الله عليه وسلم " خذوا ما وجدتم وليس لكم إلا ذلك " رواه مسلم ولأنه تكسب للمال فلم يجبر عليه كقبول الهبة والصدقة، وكما لا تجبر المرأة على التزويج لتأخذ المهر.
(والثانية) يجبر على الكسب وهو قول عمر بن عبد العزيز وسوار والعنبري واسحاق لما روي

(4/505)


أن النبي صلى الله عليه وسلم باع سرقاً في دينه وكان سرق دخل المدينة وذكر أن وراءه مالاً فداينه الناس
فركبته ديون ولم يكن وراءه مال فسماه سرقاً وباعه بخمسة أبعرة.
رواه الدرا قطني بمعناه من رواية خلد بن مسلم الربحي إلا أن فيه كلاماً والحر لا يباع ثبت أنه باع منافعه، ولان المنافع، ولأن المنافع تجري مجرى الأعيان في صحة العقد عليها وتحريم أخذ الزكاة وثبوت الغني بها فكذلك في وفاء الدين منها، ولأن الإجارة عقد معاوضة فجاز إجباره عليه كبيع ماله، ولأنها إجارة لما يملك إجارته فيجبر عليها لوفاء دينه كإجارة أم ولده.
فإن قيل حديث سرق منسوخ لأن الحر لا يباع والبيع وقع على رقبته بدليل أن في الحديث إن الغرماء قالوا لمشتريه ما تصنع به؟ قال اعتقه، قالوا: لسنا بأزهد منك في إعتاقه فأعتقوه قلنا هذا اثبات فسخ بالاحتمال ولا يجوز، ولم يثبت أن بيع الحر كان جائزاً في شريعتنا وحمل بيعه على بيع منافعه أسهل من حمله على بيع رقبته المحرم، فإن حذف المضاف وإقامة المضاف إليه كثير في القرآن

(4/506)


وفي كلام العرب كقوله تعالى (وأشربوا في قلوبهم العجل واسأل القرية) وغير ذلك، وكذلك قوله أعتقه أي من حقي عليه يدل على ذلك قوله فأعتقوه يعني الغرماء وهم لا يملكون إلا الدين الذي عليه، وأما قوله تعالى (فنظرة إلى ميسرة) فيمكن منع دخوله تحت عمومها لما ذكرنا من أنه في حكم الأغنياء في حرمان الزكاة وسقوط نفقته عن قريبه ووجوب نفقة قريبه عليه، وحديثهم قضية عين لا يثبت حكمها إلا في مثلها ولم يثبت أن لذلك الغريم كسا يفضل عن قدر نفقته.
أما قبول الهدية والصدقة فمضرة تأباها قلوب ذوي المروءات لما فيها من المنة.
فعلى هذا لا يجبر على الكسب إلا من كسبه يفضل عن نفقته ونفقة من تلزمه نفقته لما تقدم.
(فصل) ولا يجبر على قبول صدقة، ولا هدية، ولا وصية، ولا قرض، ولا المرأة على التزويج ليأخذ مهرها لأن في ذلك ضرراً للحوق المنة في الهدية والصدقة والوصية والعوض في القرض وتملك الزوج للمرأة في النكاح وجوب حقوقه عليها، ولو باع بشرط الخيار ثم أفلس فالخيار بحاله ولا يجبر على ما فيه الحظ من الرد والإمضاء لأن الفلس يمنعه من إحداث عقد أما من امضائه وتنفيذ عقود فلا (فصل) وإن جنى على المفلس جناية توجب المال ثبت وتعلقت حقوق الغرماء به ولا يصح عفوه فإن كانت موجبة للقصاص فهو مخير بين القصاص والعفو ولا يجبر على العفو على مال لأن ذلك يفوت
القصاص الذي يجب لمصلحة الزحر، فإن اقتص لم يجب للغرماء شئ، وإن عفا على مال ثبت وتعلق به حقوق الغرماء، وإن عفا مطلقاً انبنى على الروايتين في موجب العمد إن قلنا القصاص خاصة لم يثبت شئ، وإن قلنا أحد أمرين ثبتت الدية أو تعلقت بها حقوق الغرماء، وإن عفا على غير مال وقلنا القصاص هو الواجب عيناً لم يثبت شئ، وإن قلنا أحد الامرين يثبت الدية ولم يصح إسقاطه لأن عفوه عن القصاص يثبت له الدية ولا يصح إسقاطها، وإن وهب هبة بشرط الثواب ثم أفلس فبذل له الثواب لزمه قبوله ولم يكن له إسقاطه لأنه أخذه على سبيل العوض عن الموهوب كالثمن في المبيع وليس له إسقاط شئ من ثمن مبيع أو أجرة إجارة ولاقبض ردئ، ولاقبض المسلم فيه دون صفاته إلا بإذن غرمائه ومذهب الشافعي في هذا الفصل على نحو ما ذكرنا

(4/507)


{مسألة} (ولا ينفك عنه الحجر إلا بحكم حاكم) لأنه ثبت بحكمه فلا يزول إلا بحكمه كالمحجور عليه لسفه، وفيه وجه آخر أنه يزول بقسمة ماله لأنه حجر عليه لأجله فإذا زال ملكه عنه زال سبب الحجر فزال الحجر كزوال حجر المجنون لزوال جنونه والأول أولى وفارق الجنون فإنه يثبت بنفسه فزال بزواله بخلاف هذا ولأن فراغ ماله يحتاج إلى معرفة وبحث فوقف ذلك على الحاكم بخلاف الجنون (فصل) وإذا فك الحجر عنه فليس لأحد مطالبته وملازمته حتى يملك مالاً، فإن جاء الغرماء عقيب فك الحجر عنه فادعوا أن له مالاً لم يقبل الا ببينة، فإن جاءوا بعد مدة فادعوا أن في يده مالا أو ادعوا ذلك عقيب فك الحجر عنه وبينوا سببه أحضره الحاكم وسأله، فإن أنكر فالقول قوله مع يمينه لأنه ما فك الحجر عنه حتى لم يبق له شئ، وإن أقر وقال هو لفلان وأنا وكيله أو مضاربة وكان المقر له حاضراً سأله الحاكم فإن صدقه فهو له ويستحلفه الحاكم لجواز أن يكونا تواطآ على ذلك ليدفع المطالبة عن المفلس.
وإن لم يصدقه عرفنا كذب المفلس فيصير كأنه أقر أن المال له فيعاد الحجر عليه إن طلب الغرماء ذلك، فإن أقر لغائب أقر في يديه حتى يحضر الغائب ثم يسأل كما حكمنا في الحاضر
{مسألة} (ومتى فك عنه الحجر فلزمته ديون وظهر له مال فحجر عليه شارك غرماء الحجر الأول غرماء الحجر الثاني) إلا أن الأولين يضربون ببقية ديونهم والآخرين يضربون بجميعها، وبهذا قال الشافعي وقال مالك: لايدخل غرماء الحجر الأول على هؤلاء الذين تجددت حقوقهم حتى يستوفوا إلا أن يكون له فائدة من ميراث أو يجني عليه جناية فيتحاص الغرماء فيه.
ولنا أنهم تساووا في ثبوت حقوقهم في ذمته فتساووا في الاستحقاق كالذين ثبتت حقوقهم في حجر واحد وكتساويهم في الميراث وأرش الجناية، ولأن كسبه مال له فتساووا فيه كالميراث {مسألة} (وإن كان للمفلس حق له به شاهد فأبى أن يحلف معه لم يكن لغرمائه أن يحلفوا) المفلس في الدعوى كغيره فإذا ادعى حقه له به شاهد عدل وحلف مع شاهده ثبت المال وتعلقت به حقوق الغرماء وإن امتنع لم يجبر لأنا لا نعلم صدق الشاهد، ولو ثبت الحق بشهادته لم يحتج إلى يمين معه

(4/508)


فلا نجبره على مالا نعلم صدقه كغيره فان قال الغرماء نحن نحلف مع الشاهد لم يكن لهم ذلك وبهذا قال الشافعي في الجديد، وقال في القديم يحلفون معه لأن حقوقهم تعلقت بالمال فكان لهم أن يحلفوا كالورثة يحلفون على مال موروثهم، ولنا أنهم يثبتون ملكاً لغيرهم لتتعلق حقوقهم به بعد ثبوته فلم يجز لهم ذلك كالمرأة تحلف لإثبات ملك زوجها لتتعلق نفقتها به وكالورثة قبل موت موروثهم وفارق ما بعد الموت فإن المال انتقل إليهم فهم يثبتون بأيمانهم ملكا لا نفسهم.
{فصل} قال رحمه الله (الحكم الرابع انقطاع المطالبة عن المفلس فمن أقرضه شيئاً أو باعه إياه لم يملك مطالبته حتى يفك الحجر عنه) إذا تصرف المحجور عليه في ذمته بشراء أو افتراض صح لأنه أهل للتصرف والحجر إنما تعلق بماله وقد ذكرناه وليس للبائع ولا للمقرض مطالبته في حال الحج لأن حق الغرماء تعلق بعين ماله الموجود حال الحجر وبما يحدث له من المال فقدموا على غيرهم ممن لم يتعلق حقه بعين المال كتقديم حق المرتهن بثمن الرهن، وتقديم حق المجني عليه بثمن العبد الجاني فلا يشارك أصحاب
هذه الديون الغرماء لما ذكرنا، ولأن من علم منهم بفلسه فقد رضي بذلك ومن لم يعلم فهو مفرط ويتبعونه بعد فك الحجر عنه كما لو أقر لإنسان بمال بعد الحجر عليه وفي إقراره خلاف ذكرناه فيما مضى فإن وجد البائع والمقرض أعيان أموالهما فهل لهم الرجوع فيها؟ على وجهين (أحدهما) لهما ذلك للخبر (والثاني) لافسخ لهما لأنهما دخلا على بصيرة بخراب الذمة فأشبه من اشترى معيباً يعلم عيبه وقد ذكرنا ذلك {فصل} قال الشيخ رحمه الله (الضرب الثاني المحجور عليه لحظه وهو الصبي والمجنون والسفيه) الحجر على هؤلاء الثلاثة حجر عام لأنهم يمنعون التصرف في أموالهم وذممهم والأصل في الحجر عليهم قول الله تعالى (ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما) (وابتلوا اليتامى) الآية قال سعيد بن جبير وعكرمة: هو مال اليتيم عندك لا تؤته إياه وانفق عليه وإنما أضاف الأموال إلى الأولياء وهي لغيرهم لأنهم قوامها، ومدبروها، وقوله (وابتلوا اليتامى) اختبروهم في حفظهم لاموالهم {مسألة} (فلا يصح تصرفهم قبل الإذن) لأن تصحيح تصرفهم يفضي إلى ضياع أموالهم وفيه ضرر عليهم {مسألة} (ومن دفع إليهم ماله ببيع أو قرض رجع فيه ما كان باقياً) لأنه عين ماله وتصرفهم فاسد فإن أتلفه واحد منهم فهو من ضمان مالكه، وكذلك إن تلف

(4/509)


في يده لأنه سلطه عليه برضاه وسواء علم بالحجر على السفيه أو لم يعلم لأنه إن علم فقد فرط وإن لم يعلم فهو مفرط أيضاً إذ كان في مظنة الشهرة هذا إذا كان صاحبه قد سلطه عليه، فأما إن حصل في يده باختيار صاحبه من غير تسليط كالوديعة والعارية فاختار القاضي أنه يلزمه الضمان إن أتلفه أو تلف بتفريطه إن كان سفيها لأنه أتلفه بغير اختيار صاحبه فأشبه مالو كان القبض بغير اختياره، ويحتمل أن لا يضمن لأنه عرضها لا تلافه وسلطه عليها فأشبه المبيع أما ما أخذه بغير اختيار المالك كالغصب والجناية فعليه ضمانه لأنه لا تفريط من المالك وكذلك الحكم في الصبي والمجنون فإن أودع عند الصبي والمجنون أو أعارهما فلا ضمان عليهما فيما تلف بتفريطهما لأنهما ليسا من أهل الحفظ، وإن أتلفاه ففيه وجهان نذكرهما في الوديعة {مسألة} (ومتى عقل المجنون وبلغ الصبي ورشدا انفك الحجر عنهما بغير حكم حاكم ودفع
إليهما ما لهما ولا ينفك قبل ذلك بحال) إذا عقل المجنون ورشد انفك الحجر عنه ولايحتاج إلى حكم حاكم بغير خلاف وكذلك الصبي إذا بلغ ورشد وهذا مذهب الشافعي، وقال مالك لا يزول إلا بحكم حاكم وهو قول بعض أصحاب الشافعي لأنه موضع اجتهاد ونظر فإنه يحتاج في معرفة البلوغ والرشد إلى اجتهاد فيوقف ذلك على حكم حاكم كزوال الحجر عن السفيه.
ولنا قوله تعالى (فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم) أمر بدفع أموالهم إليهم عند البلوغ وإيناس الرشد فاشتراط حكم الحاكم زيادة تمنع الدفع عند وجود ذلك حتى يحكم الحاكم وهذا مخالف لظاهر النص، ولأنه حجر ثبت بغير حكم الحاكم فيزول بغير حكمه كالحجر على المجنون ولأن الحجر عليه إنما كان لعجزه عن التصرف في ماله على وجه المصلحة حفظاً لماله عليه فمتى بلغ ورشد زال الحجر لزوال سببه، السفيه لنا فيه منع، فعلى هذا الحجر منقسم إلى ثلاثة أقسام: قسم يزول بغير حكم الحاكم وهو الحجر للجنون، وقسم لا يزول إلا بحكم حاكم وهو الحجر للسفه، وقسم فيه الخلاف وهو الحجر على الصبي

(4/510)


(فصل) ومتى انفك الحجر عنهما دفع إليهما مالهما لقول الله تعالى (فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم) فقال ابن المنذر اتفقوا على ذلك ولأن منعه من التصرف إنما كان لعجزه عن التصرف حفظاً لماله فإذا صار أهلاً للتصرف زال الحجر لزوال سببه (فصل) ولا ينفك عنه الحجر ولا يدفع إليه ماله قبل البلوغ والرشد، ولو صار شيخاً وهو قول الأكثرين قال إبن المنذر أكثر علماء الأمصار من أهل العراق والحجاز والشام ومصر يرون الحجر على كل مضيع لماله صغيرا كان أو كبيراً وبه قال القاسم بن محمد ومالك والشافعي وأبو يوسف ومحمد وروى الجوزجاني في كتابه قال: كان القاسم بن محمد يلي أمر شيخ من قريش ذي أهل ومال فلا يجوز له أمر في ماله دونه لضعف عقله قال ابن إسحاق رأيته شيخاً يخضب وقد جاء إلى القاسم بن محمد فقال يا أبا محمد ادفع إلي مالي فإنه لا يولي على مثلي فقال.
إنك فاسد فقال امرأته طالق البتة وكل مملوك له حر إن لم تدفع إلي مالي، فقال القاسم بن محمد وما يحل لنا أن ندفع إليك مالك على حالك هذه فبعث إلى امرأته وقال: هي حرة مسلمة وما كنت لأحبسها عليك وقد فهت بطلاقها فأرسل إليها
فأخبرها ذلك وقال أما رقيقك فلا عتق لك ولا كرامة فحبس رقيقه.
وقال ابن إسحاق ما كان يعاب على الرجل إلا سفهه وقال أبو حنيفة لا يدفع ماله إليه قبل خمس وعشرين سنة، وإن تصرف نفذ تصرفه فإذا بلغ خمسا وعشرين سنة فك الحجر عنه ودفع إليه ماله لقول الله تعالى (ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده) وهذا قد بلغ أشده ويصلح أن يكون جداً ولأنه حر بالغ عاقل مكلف فلا يحجر عليه كالرشيد ولنا قول الله تعالى (ولا تؤتوا السفهاء أموالكم) أي أموالهم وقوله تعالى (وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم) علق الدفع على شرطين والحكم المعلق على شرطين لا يثبت بدونهما وقال تعالى (فإن كان الذي عليه الحق سفيها أو ضعيفا أو لا يستطيع أن يمل هو فليملل وليه بالعدل) فأثبت الولاية على السفيه ولأنه مبذر فلم يجز دفع ماله إليه كمن له دون ذلك، وأما الآية التي احتجوا بها فإنما تدل بدليل خطابها وهو لا يقول به ثم هي مخصصة فيما قبل

(4/511)


خمس وعشرين بالإجماع لعلة السفه وهو موجود بعد خمس وعشرين فيجب أن يخص به أيضاً كما أنها لما خصصت في حق المجنون لجنونه فيما قبل خمس وعشرين خصصت بعدها، وما ذكرنا من المنطوق أولى مما يستدل به من المفهوم المخصص وقوله أنه صار يصلح جداً لا معنى تحته يقتضي الحكم ولا له أصل يشهد له في الشرع فهو اثباب للحكم بالتحكم ثم هو متصور ممن هو دون هذا السن فإن المرأة تكون جدة لاحدى وعشرين سنة وقياسهم منتقض بمن له دون خمس وعشرين سنة فما أوجب الحجر قبلها يوجبه بعدها، إذا ثبت هذا فإنه لا يصح تصرفه ولا إقراره، وقال أبو حنيفة يصح بيعه وإقراره لأن البالغ عنده لا يحجر عليه وإنما لم يسلم إليه للآية ولنا أنه لا يدفع إليه ماله لعدم رشده فلم يصح تصرفه وإقراره كالصبي والمجنون ولأنه إذا نفذ تصرفه وإقراره تلف ماله ولم يفد منعه من ماله شيئاً ولأن تصرفه لو كان نافذا لسلم إليه ماله كالرشيد فإنه إنما منع ماله حفظاً له فإذا لم يحفظ بالمنع وجب تسليمه إليه بحكم الاصل {مسألة} (والبلوغ يحصل بالاحتلام وبلوغ خمس عشرة سنة ونبات الشعر الخشن حول القبل،
وتزيد الجارية بالحيض والحمل) يثبت البلوغ في حق الجارية والغلام بأحد الأشياء الثلاثة المذكورة وهي: خروج المني من القبل وهو الماء الدافق الذي يخلق منه الولد كيفما خرج في يقظة أو منام بجماع أو احتلام أو غير ذلك يحصل به البلوغ لا نعلم فيه خلافاً لقول الله تعالى (وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم فليستأذنوا) وقوله (والذين لم يبلغو الحلم منكم) وقول النبي صلى الله عليه وسلم " رفع القلم عن ثلاث: عن الصبي حيت يحتلم " رواه أبو داود، وقال ابن المنذر اجمعوا على أن الفرائض والأحكام تجب على المحتلم العاقل، وعلى المرأة بظهور الحيض منها (الثاني) السن وهو بلوغ خمس عشرة سنة في حق الغلام والجارية وبهذا قال الأوزاعي والشافعي وأبو يوسف ومحمد، وقال داود لأحد للبلوغ من السن لقوله عليه السلام " رفع القلم عن

(4/512)


ثلاث عن الصبي حتى يحتلم " واثبات البلوغ لغيره يخالف الخبر وهذا قول مالك، وقال أصحابه سبع عشرة أو ثماني عشرة، وعن أبي حنيفة في الغلام روايتان (إحداهما) سبع عشرة (والثاني) ثماني عشرة والجارية سبع عشرة بكل حال لأن الحد لا يثبت إلا بتوقيف أو اتفاق ولا توقيف فيما دون هذا ولا اتفاق.
ولنا أن ابن عمر قال عرضت على النبي صلى الله عليه وسلم وأنا ابن أربع عشرة فلم يجزني في القتال وعرضت عليه وأنا ابن خمس عشرة فأجازني متفق عليه، وفي لفظ عرضت عليه يوم أحد وأنا ابن أربع عشرة فردني ولم يرني بلغت وعرضت عليه عام الخندق وأنا ابن خمس عشرة فأجازني فأخبر بهذا عمر بن عبد العزيز فكتب إلى عماله أن لا تفرضوا إلا لمن بلغ خمس عشرة رواه الشافعي في مسنده والترمذي وقال حديث حسن صحيح، ولأن السن معنى يحصل به البلوغ يشترك فيه الجارية والغلام فاستويا فيه كالإنزال وما احتج به مالك وداود لايمنع اثبات البلوغ بغير الاحتلام إذا ثبت بالدليل ولهذا كان انبات الشعر علماً عليه (الثالث) نبات الشعر الخشن حول ذكر الرجل وفرج المرأة، فأما الزغب الضعيف فلا اعتبار به فإنه يثبت في حق الصغير وبهذا قال مالك والشافعي في قول وقال في الآخر هو بلوغ في حق المشركين وهل هو بلوغ في حق المسلمين؟ فيه قولان، وقال أبو حنيفة لااعتبار به لأنه نبات شعر أشبه سائر شعر البدن
ولنا أن النبي صلى الله عليه وسلم لما حكم سعد بن معاذ في بني قريظة حكم بأن يقتل مقاتلتهم ويسبى ذراريهم فأمر بأن يكشف عن مؤتزريهم فمن أنبت فهو من المقاتلة ومن لم ينبت الحقوه بالذرية.
قال عطية القرظي عرضت علي رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم قريظة فشكوا في فأمر النبي صلى الله عليه وسلم إن ينظر إلي هل أنبت بعد؟

(4/513)


فنظروا إلي فلم يجدوني أنبت بعد فالحقني بالذرية.
متفق على معناه، وكتب عمر رضي الله عنه إلى عامله أن لا تأخذ الجزية إلا ممن جرت عليه المواسي، وروى محمد بن يحيى بن حبان أن غلاماً من الأنصار شبب بامرأة في شعره فرفع إلى عمر فلم يجده أنبت فقال.
لو أنبت لحددتك، ولأنه خارج يلازمه البلوغ غالبا يستوي فيه الذكر والأنثى فكان علما على البلوغ كالاحتلام، ولأن الخارج ضربان متصل ومنفصل، فلما كان من المنفصل ما يثبت به البلوغ كذلك المتصل وما كان بلوغاً في حق المشرك كان بلوغاً في حق المسلم كالاحتلام والسن {فصل} والحيض علم على البلوغ في حق الجارية لا نعلم فيه خلافاً، وقد دل ذلك عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم " لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار " رواه الترمذي وقال حديث حسن، وكذلك الحمل يحصل به البلوغ لأن الله تعالى أجرى العادة أن الولد إنما يخلق من ماء الرجل وماء المرأة، قال الله تعالى (فلينظر الإنسان مم خلق، خلق من ماء دافق يخرج من بين الصلب والترائب) وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك في الأحاديث، فعلى هذا يحكم ببلوغها في الوقت الذي حملت فيه (فصل) إذا وجد خروج المني من الخنثى المشكل فهو علم على بلوغه وكونه رجلا، وإن خرج من فرجه أو حاض كان علما على بلوغه وكونه امرأة.
وقال القاضي: ليس واحد منهما علما على البلوغ فإن اجتمعا فقد بلغ وهو مذهب الشافعي لجواز أن يكون الفرج الذي خرج ذلك منه خلقة زائدة.
ولنا أن خروج البول من أحد الفرجين دليل على ذكوريته أو أنوثيته فخروج المني والحيض أولى

(4/514)


وإذا ثبت كونه رجلاً خرج المني من ذكره، أو امرأة خرج الحيض من فرجها لزم وجود البلوغ، ولأن خروج مني الرجل من المرأة أو الحيض من الرجل مستحيل فكان دليلا على التعيين، وإذا ثبت
التعيين لزم كونه دليلاً على البلوغ كما لو تعين قبل خروجه، ولأنهم سلموا أن خروجهما معاً دليل عليه فخروج أحدهما منفرداً أولى لأن خروجهما معاً يقتضي تعارضهما وإسقاط دلالتهما إذ لا يتصور أن يجتمع حيض صحيح ومني رجل فلزم أن يكون أحدهما فضلة خارجه من غير محلها، وليس أحدهما أولى بذلك من الآخر فتبطل دلالتهما كالبينتين إذا تعارضتا وكالبول إذا خرج من المخرجين جميعاً بخلاف ما إذا وجد أحدهما منفرداً فإن الله تعالى أجرى العادة بأن الحيض يخرج من فرج المرأة عند بلوغها ومني الرجل يخرج من ذكره عند بلوغه، فإذا وجد ذلك من غير معارض وجب أن يثبت حكمه ويقضي بثبوت دلالته كالحكم بكونه رجلا بخروج البول من ذكره وبكونه أنثى بخروجه من فرجها والحكم للغلام بالبلوغ بخروج المني من ذكره وللجارية بخروج الحيض من فرجها، فعلى هذا إذا خرجا جميعاً لم يثبت كونه رجلا ولا امرأة، وهل يثبت البلوغ بذلك؟ فيه وجهان (أحدهما) يثبت وهو اختيار القاضي ومذهب الشافعي لأنه إن كان رجلا فقد خرج المني من ذكره، وإن كان أنثى فقد حاضت (والثاني) لا يثبت لأن هذا يجوز أن لا يكون حيضاً ولا منياً فلا يكون فيه دلالة وقد دل على ذلك تعارضهما فانتفت دلالتهما على البلوغ كانتفاء دلالتهما على الذكورية والأنوثية {مسألة} (والرشد الصلاح في المال) وهذا قول أكثر أهل العلم منهم مالك وأبو حنيفة، وقال الحسن والشافعي وابن المنذر.
الرشد الصلاح في الدين والمال لأن الفاسق غير رشيد، ولأن افساد دينه يمنع الثقة به في حفظ

(4/515)


ماله كما يمنع قبول قوله وثبوت الولاية على غيره وإن لم يعرف منه كذب ولا تبذير.
ولنا قول الله تعالى (فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم) قال ابن عباس: يعني صلاحا في أموالهم، وقال مجاهد إذا كان عاقلا، ولأن هذا اثبات في نكره ومن كان مصلحا لما له فقد وجد منه رشد، ولأن العدالة لا تعتبر في الرشد في الدوام فلا تعتبر في الابتداء كالزهد في الدنيا، ولأن هذا مصلح لما له فأشبه العدل يحققه أن الحجر عليه إنما كان لحفظ ماله عليه والمؤثر فيه ما أثر في تضييع المال أو حفظه قولهم ان الفاسق غير رشيد قلنا هو غير رشيد في دينه، أما في ماله وحفظه فهو رشيد ثم هو منتقض
بالكافر فإنه غير رشيد في دينه ولا يحجر عليه لذلك، ولا يلزم من منع قبول القول منه دفع ماله إليه، فإن من عرف بكثرة الغلط والنسيان أو من يأكل في السوق ويمد رجليه في مجمع الناس لا تقبل شهادتهم وتدفع أموالهم إليهم {مسألة} (ولا يدفع ماله إليه حتى يختبر) لأنه إنما يعرف رشده باختياره لقول الله تعالى (وابتلوا اليتامى) أي اختبروهم واختباره بتفويض التصرفات التي يتصرف فيها أمثاله إليه، فإن كان من أولاد التجار فوض إليه البيع والشراء، فإذا تكرر منه فلم يغبن ولم يضيع ما في يديه فهو رشيد، وإن كان من أولاد الدهاقين والكبراء الذين يصان أمثالهم عن الأسواق دفعت إليه نفقة مدة لينفقها في مصالحة فإن صرفها في مصارفها ومواقعها واستوفى على وكيله فيما وكله واستقصى عليه دل على رشده، والمرأة يفوض إليها ما يفوض إلى ربة البيت من استئجار الغزالات وتوكيلها في شراء الكتان وأشباه ذلك، فإن وجدت ضابطة لما في يديها مستوفية من وكيلها فهي رشيدة

(4/516)


{مسألة} (وأن يحفظ ما في يده عن صرفه فيما لا فائدة فيه) كالغناء والقمار وشراء المحرمات، وشراء آلات اللهو والخمر وأن يتوصل به إلى الفساد فهذا غير رشيد لأنه تبذير لماله وتضييعه فيما لا فائدة فيه، فإن كان فسقه بالكذب والتهاون بالصلاة مع حفظه لماله لم يمنع ذلك من دفع ماله إليه لما ذكرنا {مسألة} (وعنه لا يدفع إلى الجارية مالها بعد رشدها حتى تتزوج وتلد أو تقيم في بيت الزوج سنة) المشهور في المذهب أن الجارية إذا بلغت ورشدت دفع إليها مالها كالغلام وزال الحجر عنها وإن لم تتزوج وهذا قول عطاء والثوري وأبي حنيفة والشافعي وأبي ثور وابن المنذر، ونقل أبو طالب عن أحمد أن الجارية لا يدفع إليها مالها حتى تتزوج وتلد أو تقيم سنة في بيت الزوج، روى ذلك عن عمر وبه قال شريح والشبعي واسحاق لما روي عن شريح أنه قال.
عهد إلى عمر بن الخطاب أن لا أجيز لجارية عطية حتى تحول في بيت زوجها حولا أو تلد.
رواه سعيد في سننه ولا يعرف له مخالف فصار إجماعاً، وقال مالك لا يدفع إليها مالها حتى تتزوج ويدخل عليها زوجها لأن كل حالة جاز للأب
تزويجها من غير إذنها لم ينفك عنها الحجر كالصغيرة ولنا عموم قول الله تعالى (وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح، فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم) ولأنها يتيم بلغ وأنس منه الرشد فيدفع إليه ماله كالرجل، ولأنها بالغة رشيدة فجاز لها التصرف في مالها كالتي دخل بها الزوج، وحديث عمر إن صح فلم نعلم انتشاره في الصحابة فلا يترك به الكتاب والقياس، وعلى أن حديث عمر مختص بمنع العطية فلا يلزم منه المنع من تسليم مالها إليها ومنعها من سائر التصرفات ومالك لم يعلم به وإنما اعتمد على إجبار الأب لها على النكاح ولنا أن نمنعه وإن سلمناه فإنما أجبرها على النكاح لأن اختبارها للنكاح ومصالحة لا يعلم إلا بمباشرته

(4/517)


والبيع والشراء والمعاملات ممكنة قبل النكاح، وعلى هذه الرواية إذا لم تتزوج أصلا احتمل أن يدوم الحجر عليها عملا بعموم حديث عمر ولأنه لم يوجد شرط دفع مالها إليها فلم يجز دفعه إليها كما لو لم ترشد وقال القاضي عندي أنه يدفع إليها مالها إذا عنست وبرزت للرجال يعني كبرت {مسألة} (وقت الاختبار قبل البلوغ في إحدى الروايتين) وهو أحد الوجهين لأصحاب الشافعي لأن الله تعالى قال (وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منها رشدا فادفعوا إليهم أموالهم) فظاهر الآية أن ابتلاءهم قبل البلوغ لوجهين (أحدهما) أنه سماهم يتامى وإنما يكونون يتامى قبل البلوغ (الثاني) أنه مد اختبارهم إلى البلوغ بلفظة حتى فيدل على أن الاختبار قبله، ولأن تأخير الاختبار إلى البلوغ مؤد إلى الحجر على البالغ الرشيد لأن الحجر يمتد إلى أن يختبر ويعلم رشده واختباره قبل البلوغ يمنع ذلك فكان أولى، لكن لا يختبر إلا المراهق المميز الذي يعرف البيع والشراء والمصلحة من المفسدة، وإذا أذن له وليه فتصرفه على ما نذكره، وعنه ان اختباره بعد البلوغ أومأ إليه أحمد لأن تصرفه قبل ذلك تصرف ممن لم يوجد فيه مظنة العقل ولأصحاب الشافعي نحو هذا الوجه {فصل} قال رضي الله عنه (ولا تثبت الولاية على الصبي والمجنون إلا للأب) لأنها ولاية على الصغير فقدم فيها الأب كولاية النكاح ثم وصيته بعده لأنه نائبه أشبه وكيله في الحياة ثم للحاكم لأن الولاية
انقطعت من جهة القرابة فتثبت للحاكم كولاية النكاح ومذهب أبي حنيفة والشافعي أن الجد يقوم مقام الأب في الولاية لأنه أب ولنا أن الجد لا يدلي بنفسه وإنما يدلي بالأب الأدنى فلم يل مال الصغير كالأخ ولأن الأب يسقط الاخوة بخلاف الجد وترث الأم معه ثلث الباقي في زوج وأم وأب وزوجة وأم أب بخلاف الجد فلا

(4/518)


يصح قياسه عليه فأما من سواهم فلا يثبت لهم ولاية لأن المال محل الجناية ومن سواهم قاصر النفقة غير مأمون على المال فلم يله كالأجنبي، ومن شرط ثبوت الولاية على المال العدالة بغير خلاف لأن في تفويضها إلى الفاسق تضييعاً للمال فلم يجز كتفويضها إلى السفية، وكذلك الحكم في السفيه إذا حجر عليه صغيراً واستدام الحجر عليه بعد البلوغ {مسألة} (وليس لوليهما التصرف في مالهما إلا على وجه الحظ لهما وما لاحظ فيه ليس له التصرف به كالعتق والهبة والتبرعات والمحاباة) لقول الله سبحانه وتعالى (ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن) وقوله عليه الصلاة والسلام " لاضرر ولا ضرار " رواه الإمام أحمد وهذا فيه اضرار فإن فعل شيئاً من ذلك أو زاد على النفقة عليهما أو على من تلزمهما مؤنته بالمعروف ضمن لانه مفرط فضمن كتصرفه في مال غيرهما {مسألة} (ولايجوز أن يشتري من مالهما شيئاً لنفسه ولا يبيعهما إلا الأب لأنه غير متهم عليه لكمال شفقته) وبه قال أبو حنيفة ومالك والاوزاعي والشافعي وزادوا الجد وقال زفر لا يجوز لأن حقوق العقد تتعلق بالعاقد ولايجوز أن يتعلق به حكمان متضادان، ولنا أن هذا يلي بنفسه فجاز أن يتولى طرفي العقد كالسيد يزوج عبده أمته ولا نسلم ما ذكره من تعلق حقوق العقد بالعاقد، فأما الجد فلا ولاية له على ما ذكرناه فهو كالأجنبي ولأن التهمة بين الأب وولده منتفية إذ من طبعه الشفقة عليه والميل إليه وترك حظ نفسه لحظه، وبهذا فارق الوصي والحكم وأمينه، فأما الحاكم والوصي فلا يجوز لهما ذلك لأنهما متهمان في طلب الحظ لانفسهما فلم يجز ذلك لهما بخلاف الأب
{مسألة} (ولوليهما مكاتبة رقيقهما وعتقه على مال)

(4/519)


إذا كان الحظ فيه مثل أن تكون قيمته ألفاً فكاتبه بألفين أو يعتقه بهما فإن لم يكن فيها حظ لم يصح، وقال مالك وأبو حنيفة لا يجوز إعتاقه لأن الإعتاق بمال تعليق له على شرط فلم يملكه ولي اليتيم كالتعليق على دخول الدار، وقال الشافعي لا يجوز كتابته ولا إعتاقه لأن المقصود منهما العتق دون المعاوضة فلم يجز كالإعتاق بغير عوض ولنا أنها معاوضة لليتيم فيها حظ فملكها وليه كبيعة ولا عبرة بنفع العبد ولا يضره كونه تعليقاً فإنه إذا حصل لليتيم حظ لم يضره نفع غيره ولا كون العتق حصل بالتعليق وفارق ما قاسوا عليه فإنه لا نفع فيه لعدم الحظ وانتفاء المقتضي لا لما ذكروه ولو قدر أن يكون في العتق بغير مال نفع كان نادراً وإن كان العتق على مال بقدر قيمته أو أقل لم يجز لعدم الحظ فيه، وقال أبو بكر يتوجه جواز العتق بغير عوض للحظ فيه مثل أن تكون له جارية وابنتها يساويان مائة مجتمعتين ولو أفردت إحداهما ساوت مائتين ولا يمكن إفرادها بالبيع فيعتق الأخرى لتكثر قيمة الباقية فتصير ضعف قيمتيهما {مسألة} (وله تزويج إمائهما) إذا وجب تزويجهن بأن يطلبن ذلك أو يرى المصلحة فيه لأنه ولي عليهن وقائم مقام ما لكهن فكان له تزوجيهن كالمالك.
{مسألة} (وله السفر بمالهما للتجارة فيه والمضاربة بمال اليتيم والمجنون وله أن يدفعه مضاربة بجزء من الربح) أبا كان أو وصيا أو حاكماً أو أمين حاكم وهو أولى من تركه، وممن رأى ذلك ابن عمر والنخعي والحسن بن صالح ومالك والشافعي وأبو ثور ويروى إباحة التجارة به عن عمر وعائشة والضحاك ولا نعلم احدا كرهه الا الحسن ولعله أراد اجتناب المخاطرة به ورأى خزنه أحفظ له وهو قول الجمهور لما روى عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " من ولي يتيماً له مال

(4/520)


فليتجر له ولا يتركه حتى تأكله الصدقة " وروي موقوفاً على عمر وهو أصح من المرفوع ولأن
ذلك أحفظ للمولي عليه لتكون نفقته من فاضله وربحه كما يفعله البالغون في أموالهم إلا أنه لا يتجر إلا في المواضع الآمنة ولا يدفعه إلا إلى الأمناء ولا يغرر به، وقد روي عن عائشة أنها أبضعت مال محمد بن أبي بكر في البحر فيحتمل أنه كان في موضع مأمون قريب من الساحل، ويحتمل أنها جعلت ضمانه عليها ان هلك {مسألة} (والربح كله لليتيم) يعني إذا اتجر بنفسه وأجاز الحسن بن صالح واسحاق أن يأخذ الوصي مضاربة لنفسه لأنه جاز له أن يدفعه بذلك فجاز أن يأخذه بذلك له، ويتخرج لنا مثل ذلك كما قلنا في الشريك إذا فعل بنفسه ما يجوز له الإجارة عليه فإنه يستحق الأجرة في أحد الوجهين كذلك هذا وبه قال أبو حنيفة، والصحيح ما قلناه لأن الربح نماء مال اليتيم فلا يستحقه غيره إلا بعقد ولا يجوز أن يعقد الولي المضاربة لنفسه {مسألة} (فأما إن دفعه إلى غيره فللمضارب ما جعل له الولي) ووافقه عليه في قولهم جميعاً لأن الوصي نائب عن اليتيم فيما فيه مصلحته، وهذا فيه مصلحته فأشبه تصرف المالك في ماله.
(فصل) وله ابضاع ماله وهو دفعه إلى من يتجر به والربح كله لليتيم لأنه إذا جاز دفعه بجزء من ربحه فدفعه إلى من يوفر الربح أولى {مسألة} (ويجوز له بيعه نساء إذا كان له الحظ في ذلك) فإنه قد يكون أكثر ثمناً وأنفع لكن يحتاط على الثمن بأن يأخذ به رهناً أو كفيلاً موثوقاً يتحفظ الثمن به {مسألة} (وله قرضه برهن)

(4/521)


إذا لم يكن في قرض مال اليتيم حظ له لم يجز، وإن كان في قرضه حظ لليتيم جاز.
قال أحمد لا تقرض مال اليتيم لأحد تريد مكافأته ومودته.
ويقرض على النظر والشفقة كما صنع ابن عمر وقيل لأحمد ابن عمر اقترض مال اليتيم قال: انما استقرض نظراً لليتيم واحتياطاً إن أصابه شئ غرمه.
قال القاضي
ومعنى الحظ أن يكون للصبي مال في بلد فيريد نقله الى بلد آخر فيقرضه من رجل في ذلك البلد ليقضيه بدله في بلده يقصد بذلك حفظه من الغرر في نقله أو يخاف عليه الهلاك من نهب أو غرق أو غيرهما أو يكون مما يتلف بتطاول مدته، أو حديثه خير من قديمه كالحنطة ونحوها فيقرضه خوفاً من السوس أو تنقص قيمته، وأشباه هذا فيجوز القرض لأن لليتيم فيه حظاً فجاز كالتجارة به، وإن لم يكن فيه حظ لم يجز لأنه تبرع بمال اليتيم فلم يجز كهبته، وإن أراد الولي السفر لم يكن له المسافرة بماله، فإن أراد أن يودع مال اليتيم فقرضه لثقة أولى من ذلك لأن الوديعة لا تضمن فان لم يجد ثقة يستقرضه فله إيداعه لأنه موضع حاجة، وإن أودعه مع إمكان قرضه جاز ولا ضمان عليه لانه ربما رأى الإيداع أولى من القرض فلا يكون مفرطاً وكل موضع قلنا له قرضه فلا يجوز إلا لملئ أمين ليأمن جحوده وتعذر الإيفاء وينبغي أن يأخذ رهناً إن أمكنه فإن تعذر عليه أخذ الرهن جاز تركه في ظاهر كلام أحمد لأن الظاهر أن من يستقرضه لحظ اليتيم لا يبذل رهناً فاشتراط الرهن يفوت هذا الحظ، وظاهر كلام شيخنا في هذا الكتاب المشروح أنه لا يجوز وكذلك ذكره أبو الخطاب لأن فيه احتياطاً للمال، فإن تركه احتمل أن يضمن إن ضاع المال لتفريطه واحتمل أن لا يضمن لأن الظاهر سلامته وهذا ظاهر كلام أحمد لكونه لم يذكر الرهن (فصل) قال أبو بكر هل يجوز للوصي أن يستنيب فيما يتولى مثله بنفسه؟ على روايتين بناء على الوكيل، وقال القاضي يجوز ذلك للوصي، وفي الوكيل روايتان وفرق بينهما بأن الوكيل يمكنه الاستئذان والوصي بخلافه.

(4/522)


{مسألة} (وله شراء العقار لهما وبناؤه بما جرت عادة أهل بلده به) إذا رأى المصلحة في ذلك كله لأنه مصلحة له فإنه يحصل له الفضل ويبقى الأصل والغرر فيه أقل من التجارة لأن أصله محفوظ (فصل) ويجوز أن يبني لهما عقاراً لأنه في معنى الشراء أحظ وهو ممكن فيتعين تقديمه وإذا أراد بناء هـ بناه بما يرى الحظ فيه مما جرت عادة أهل البلد به وقال أصحابنا يبنيه بالآجر والطين لايبني
باللبن لأنه إذا هدم لا مرجوع له ولا بجص لأنه يلتصق بالآجر فلا يخلص منه فإذا انهدم فسد الآجر لأن تخليصه منه يفضي إلى كسره وهذا مذهب الشافعي والذي قلناه أولى إن شاء الله فإنه إذا كان الحظ له في البناء بغيره فتركه ضيع حظه وماله ولايجوز تضييع الحظ العاجل وتحمل الضرر الناجز المتيقن لتوهم مصلحة بقاء الآجر عند هدم البناء ولعل ذلك لا يكون في حياته ولا يحتاج إليه مع أن كثيراً من البلدان لا يوجد فيها الآجر وكثير منها لم تجر عادتهم بالبناء به فلو كلفوا البناء به لاحتاجوا إلى غرامه كثيرة لا يحصل منها طائل، فعلى هذا يحمل قول أصحابنا على من عادتهم البناء بالآجر كالعراق ونحوها ولا يصح حمله في حق غيرهم وإنما يفعل ما ذكرنا من الشراء والبناء إذا رأى المصلحة فيه والحظ لهما {مسألة} (وله شراء الأضحية لليتيم الموسر) نص عليه إذا كان له مال كثير لا يتضرر بشرائها فيكون ذلك على وجه التوسعة في النفقة في هذا اليوم الذي هو يوم عيد وفرج وفيه جبر قلبه وإلحاقه بمن له أب فينزل منزلة الثياب الحسنة وشراء اللحم سيما مع استحباب التوسعة في هذا اليوم وجري العادة بدليل قول النبي صلى الله عليه وسلم " أنها أيام أكل وشرب وذكر الله عزوجل " رواه مسلم وهذا قول أبي حنيفة ومالك قال مالك إذا كان له ثلاثون ديناراً يضحي عنه بالشاة بنصف دينار.
وعن أحمد رحمه الله رواية أخرى لا يجوز وهو مذهب الشافعي

(4/523)


لانه اخراج شئ من ماله بغير عوض فلم يجز كالهدية.
قال شيخنا: ويحتمل أن يحمل كلام أحمد في الروايتين على حالين فالموضع الذي منع التضحية إذا كان الطفل لا يعقل التضحية ولا يفرح بها ولا ينكسر قلبه بتركها لعدم الفائدة فيها والموضع الذي أجازها إذا كان اليتيم يعقلها وينجبر قلبه بها وينكسر بتركها لحصول الفائدة فيها، وعلى كل حال من ضحى عن اليتيم لم يتصدق بشئ منها ويوفرها لنفسه لأنه لا تحل الصدقة بشئ من مال اليتيم تطوعاً (فصل) ومتى كان خلط مال اليتيم أرفق به وألين في الجبر وأمكن في حصول الأدم فهو أولى، وإن كان الأفراد أرفق به أفرده لقول الله تعالى (ويسئلونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم والله يعلم المفسد من المصلح ولو شاء الله لأعنتكم) أي ضيق عليكم وشدد، من
قولهم أعنت فلان فلاناً إذا ضيق عليه وشدد {مسألة} (ويجوز تركه في المكتب وأداء الأجرة عنه بغير إذن الحاكم) وحكي لأحمد قول سفيان: لا يسلم الوصي الصبي إلا بإذن الحاكم فأنكر ذلك، وذلك لان المكتب من مصالحه فجرى مجرى نفقته لمأكوله وملبوسه، وكذلك يجوز أن يسلمه في صناعة إذا كانت مصلحته في ذلك لما ذكرناه {مسألة} (ولا يبيع عقارهم إلا لضرورة أو غبطة وهو أن يزاد في ثمنه الثلث فصاعداً) وجملة ذلك أنه لا يجوز بيع عقاره لغير حاجة لأننا نأمره بالشراء لما فيه من الحظ فبيعه إذا تفويت للحظ فإن احتيج إلى بيعه جاز قال أحمد يجوز للوصي بيع الدور على الصغار إذا كان أحظ لهم وبه قال الثوري والشافعي وأصحاب الرأي واسحاق قالوا يبيع إذا رأى الصلاح، قال القاضي لا يجوز بيعه

(4/524)


الا في موضعين (أحدهما) أن يكون فيه ضرورة إلى كسوة أو نفقة أو قضاء دين أو ما لابد منه وليس له ما تندفع به حاجته (الثاني) أن يكون في بيعه غبطة وهو أن يبذل فيه زيادة كثيرة على ثمن مثله، قال أبو الخطاب كالثلث فما زاد أو يخاف عليه الهلاك بغرق أو خراب أو نحوه وهذا الذي ذكره شيخنا في المقنع وهو قول في مذهب الشافعي وكلام أحمد يقتضي إباحة البيع في كل موضع يكون نظراً لهم ولا يختص بما ذكروه فإن الولي قد يرى الحظ في غير هذا مثل أن يكون في مكان لا ينتفع به أو نفعه قليل فيبيعه ويشتري له في مكان يكثر نفعه أو يرى شيئاً في شرائه غبطه لا يمكنه شراؤه إلا ببيع عقاره وقد تكون داره بمكان يتضرر الغلام بالمقام فيها لسوء الجوار أو غيره فيبيعها ويشتري له بثمنها داراً يصلح له المقام بها وأشباه هذا مما لا ينحصر وقد لا يكون له حظ في بيع عقاره وإن دفع مثلاً ثمنه إما لحاجته إليه وأما لأنه لا يمكن صرف ثمنه في مثله فيضيغ الثمن ولا يبارك فيه فقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم " من باع داراً أو عقاراً ولم يصرف ثمنه في مثله لم يبارك له فيه " فلا يجوز بيعه إذا فلا معنى لتقييده بما ذكروه في الجواز ولا في المنع بل متى كان الحظ في بيعه جاز ومالا فلا، وهذا اختيار شيخنا وهو الصحيح إن شاء الله تعالى
{مسألة} (وإن وصى لاحدهما بمن يعتق عليه ولا تلزمه نفقته لا عسار الموصى له أو غير ذلك وجب على الولي قبول الوصية) لانه مصلحة ليس فيها ضرر، وإن كانت تلزمه نفقته لم يجز له قبولها لما فيه من الضرر بتفويت ماله بالنفقة عليه (فصل) قال رحمه الله (ومن فك عنه الحجر فعاوده السفه أعيد الحجر عليه) وجملة ذلك أن المحجور عليه إذا فك عنه الحجر لرشده وبلوغه ودفع إليه ماله ثم عاد إلى السفه أعيد عليه الحجر وبه

(4/525)


قال القاسم بن محمد ومالك والاوزاعي والشافعي واسحاق وأبو ثور وأبو عبيد وأبو يوسف ومحمد وقال أبو حنيفة لا يبتدأ الحجر على بالغ عاقل وتصرفه نافذ، روى ذلك عن ابن سيرين والنخعي لأنه مكلف فلم يحجر عليه كالرشيد.
ولنا ماروى عروة بن الزبير أن عبد الله بن جعفر ابتاع بيعا فقال علي لآتين عثمان ليحجر عليك فأتى عبد الله بن جعفر الزبير فقال قدابتعت بيعاً وإن عليا يريد أن يأتي أمير المؤمنين عثمان فيسأله الحجر علي فقال الزبير أنا شريكك في البيع، فأتى على عثمان فقال إن ابن جعفر قد ابتاع بيع كذا فاحجر عليه فقال الزبير أنا شريكه في البيع فقال عثمان كيف أحجر على من شريكه الزبير؟ قال أحمد لم أسمع هذا الا من أبي يوسف القاضي وهذه قضية يشتهر مثلها ولم يخالفها أحد في عصرهم فتكون إجماعاً ولأنه سفيه فحجر عليه كما لو بلغ سفيها فإن العلة التي اقتضت الحجر عليه إذا بلغ سفيها سفهه وهو موجود ولأن السفه لو قارن البلوغ منع دفع ماله إليه فإذا حدث وجب انتزاع المال كالجنون وفارق الرشيد فإن رشده لو قارن البلوغ لم يمنع دفع ماله إليه، إذا ثبت ذلك فلا يحجر عليه الا الحاكم وبهذا قال الشافعي وقال محمد يصير مجحورا عليه بمجرد تبذيره لأن ذلك سبب الحجر

(4/526)


فأشبه الجنون، ولنا أن التبذير يختلف ويختلف فيه ويحتاج إلى الاجتهاد فإذا افتقر السبب إلى الاجتهاد لم يثبت إلا بحكم حاكم كالحجر على المفلس وفارق الجنون فإنه لا يفتقر الى الاجهتاد ولا خلاف فيه {مسألة} (ولا ينظر في ماله إلا الحاكم) لأن الحجر عليه يفتقر إلى الحاكم فكذلك النظر في ماله {مسألة} (ولا ينفك عنه الحجر إلا بحكمه)
يعني إذا رشد احتاج فك الحجر إلى حكم الحاكم وبه قال الشافعي وقيل ينفك بمجرد رشده، قاله أبو الخطاب لأن سبب الحجر زال فيزول بزواله كما في حق الصبي والمجنون، ولنا أنه حجر ثبت بحكم الحاكم فلا يزول إلا بحكمه كالمفلس ولأن الرشد يحتاج إلى تأمل واجتهاد في معرفته وزوال تبذيره فكان كابتداء الحجر عليه وفارق الصبي والمجنون فإن الحجر عليهما بغير حكم الحاكم فيزول بغير حكمه ولا ننا لو وقفنا صحة تصرف الناس على الحاكم كان أكثر الناس محجوراً عليهم، قال أحمد: والشيخ الكبير ينكر عقله يحجر عليه يعني إذا كبر واختل عقله حجر عليه بمنزلة المجنون لأنه يعجز بذلك عن التصرف في ماله على وجه المصلحة وحفظه فأشبه الصبي والمجنون {مسألة} (ويستحب إظهار الحجر عليه وأن يشهد عليه الحاكم ليظهر أمره فيجتنب

(4/527)


معاملته وإن رأى أن يأمر منادياً ينادي بذلك ليعرفه الناس فعل ولا يشترط الإشهاد لأنه قد ينتشر أمره لشهرته {مسألة} (ويصح تزويجه بإذن وليه) وبغير إذنه وهو قول أبي حنيفة واختاره القاضي، وقال أبو الخطاب لا يصح بغير إذن وليه وهو قول الشافعي وأبي ثور لأنه تصرف يجب به مال فلم يصح بغير إذن وليه كالشراء، ووجه الأول أنه عقد غير مالي فصح منه كخلعة وطلاقه ان لزم منه المال فحصوله بطريق الضمن فلم يمنع صحة التصرف (فصل) وإن خالع صح خلعة لأنه إذا صح الطلاق ولا يحصل منه شئ فالخلع الذي يحصل به المال أولى إلا أن العوض لا يدفع إليه وإن دفع إليه لم يصح قبضه، وقال القاضي يصح وسنذكر ذلك في باب الخلع فإن قلنا: لا يصح القبض فأتلفه بعد قبضه فلا ضمان عليه ولا تبرأ المرأة بدفعه إليه وهو من ضمانها إن أتلفه أو تلف في يده لأنها سلطته عليه.
{مسألة} وهل يصح عتقه؟ على روايتين (إحداهما) لا يصح وهو قول القاسم بن محمد والشافعي (والثانية) يصح لأنه عتق من مكلف مالك تام الملك فصح كعتق الراهن والمفلس ولنا أنه تصرف في ماله فلم يصح كسائر تصرفاته ولأنه تبرع فأشبه هبته ووقفه ولأنه محجور عليه لحفظ ماله عليه فلم يصح كعتق الصبي والمجنون وفارق المفلس والراهن فإن الحجر عليهما لحق غيرهما وفي
عتقهما خلاف أيضاً قد ذكرناه (فصل) ويصح تدبيره ووصيته لأن ذلك محض مصلحة لأنه تقرب إلى الله تعالى بماله بعد غناه عنه ويصح استيلاده وتعتق الأمة المستولدة بموته لأنه إذا صح ذلك من المجنون فمن السفيه أولى وله المطالبة بالقصاص لانه موضع للتشفي والانتقام وهو من أهله وله العفو على مال لأنه تحصيل للمال لا تضييع له، وإن عفا على غير مال وقلنا الواجب القصاص عيناً صح عفوه لأنه لم يتضمن تضييع المال، وإن قلنا أحد شيئين لم يصح عفوه عن المال ووجب المال كما لو سقط القصاص بعفو أحد الشريكين

(4/528)


وإن أحرم بالحج صح لأنه مكلف أشبه غيره ولأنه عبادة فصحت منه كسائر العبادات فإن كان أحرم بفرض دفع إليه النفقة من ماله ليسقط الفرض عن نفسه وإن كان تطوعاً وكانت نفقته في السفر كنفقته في الحضر دفعت لأنه لاضرر في إحرامه فإن زادت نفقة السفر فقال: أنا أكسب تمام نفقتي دفعت إليه أيضاً لأنه لا يضر بماله وإن لم يكن له كسب فلو ليه تحليله لما في مضيه فيه من تضييع ما له ويتحلل بالصيام كالمعسر لأنه ممنوع من التصرف في ماله، ويحتمل أن لا يملك وليه تحليله بناء على العبد إذا أحرم بغير إذن سيده وإن لزمه كفارة يمين أو ظهار أو قتل أو وطئ في نهار رمضان كفر بالصيام لما ذكرنا وإن أعتق أو أطعم لم يجزه لأنه ممنوع من ماله أشبه المفلس، وبهذا قال الشافعي، ويتخرج أن يجزئه العتق بناء على قولنا بصحة عتقه وإن نذر عبادة بدنية لزمه فعلها لأنه غير محجور عليه في بدنه وإن نذر الصدقة بمال لم يصح منه وكفر بالصيام فإن فك الحجر عنه قبل تكفيره في هذه المواضع لزمه العتق إن قدر عليه ومقتضى قول أصحابنا أنه يلزمه الوفاء بنذره بناء على قولهم فيمن أقر قبل فك الحجر عنه ثم فك الحجر عنه أنه يلزمه أداؤه وإن فك بعد تكفيره لم يلزمه شئ كما لو كفر عن يمينه بالصيام ثم فك الحجر عنه {مسألة} (وإن أقر بحد أو قصاص أو نسب أو طلق زوجته أخذ به) وجملة ذلك أن المحجور عليه لسفه أو فلس إذا أقر بما يوجب حداً أو قصاصاً كالزنا والسرقة
والقذف والقتل والشرب أو قطع اليد وما أشبههما فإنه يصح إقراره ويلزمه حكم ذلك في الحال بغير خلاف علمناه، قال إبن المنذر أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن إقرار المحجور عليه على نفسه جائز إذا كان إقراره بزنا أو سرقة أو شرب خمر أو قذف أو قتل وإن الحدود تقام عليه.
وهذا قول الشافعي وأبي ثور وأصحاب الرأي ولا أحفظ عن غيرهم خلافهم وذلك لأنه غير متهم في حق نفسه والحجر إنما تعلق بماله فقبل إقراره على نفسه بمال يتعلق بالمال وإن طلق زوجته نفذ طلاقه في قول الأكثرين، وقال ابن أبي ليلى لا يقع لأن البضع يجري مجرى المال بدليل أنه يملكه بمال ويصح أن يزول ملكه عنه بمال فلم يملك التصرف فيه كالمال

(4/529)


ولنا أن الطلاق ليس بتصرف في المال ولا يجري مجراه فلا يمنع منه كالإقرار منه بالحد والقصاص ودليل أنه لا يجري مجرى المال أنه يصح من العبد بغير إذن سيده مع منعه من التصرف في المال ولأنه مكلف طلق امرأته مختاراً فوقع طلاقه كالعبد والمكاتب (فصل) وإن أقر بما يوجب القصاص فعفا المقر له على مال احتمل أن يجب المال لأنه عفو عن قصاص ثابت فصح كما لو ثبت بالبينة واحتمل أن لا يصح لئلا يتخذ ذلك وسيلة إلى الإقرار بالمال بأن يتواطأ المحجور عليه والمقر له على الإقرار بالقصاص والعفو عنه الى مال ولأنه وجوب مال مستنده إقراره فلم يثبت كالإقرار به ابتداء فعلى هذا القول يسقط القصاص ولا يجب المال في الحال (فصل) وإن أقر بنسب ولد قبل منه لأنه ليس بإقرار بمال ولا تصرف فيه فقبل كإقراره بالحد والطلاق وإذا ثبت النسب لزمته أحكامه من النفقة وغيرها لأن ذلك حصل ضمناً لما صح منه فأشبه نفقة الزوجة.
{مسألة} (قال وإن أقر بمال لم يلزمه.
في حال حجره ويحتمل أن لا يلزمه مطلقاً) إذا أقر السفيه بمال كالدين أو ما يوجبه كجناية الخطأ وشبه العمد وإتلاف المال وغصبه وسرقته لم يقبل إقراره به لأنه محجور عليه لحظه فأشبه الصبي والمجنون ولأنا لو قبلنا اقراره في ماله لزال فائدة الحجر لأنه يتصرف في ماله ثم يقربه فيأخذه المقر له ولأنه أقر بما هو ممنوع من التصرف فيه
فلم ينفذ كإقرار الراهن على الرهن والمفلس على المال، وظاهر قول الأصحاب أنه يلزمه ما أقربه بعد فك الحجر عنه، وهو قول أبي ثور واختيار الخرقي لأنه مكلف أقر بما يلزمه في الحال فلزمه بعد فك الحجر عنه كالعبد يقر بالدين وكإقرار الراهن على الرهن وكإقرار المفلس، ويحتمل أن لا يصح إقراره ولا يؤخذ به في الحكم بحال، وهذا مذهب الشافعي لأنه محجور عليه لعدم رشده فلم يلزمه حكم إقراره بعد فك الحجر عنه كالصبي والمجنون ولا المنع من نفوذ إقراره في الحال إنما ثبت لحفظ ماله عليه ودفع الضرر عنه فلو نفذ بعد فك الحجر عنه لم يفد إلا تأخير الضرر عليه إلى أكمل حالتيه

(4/530)


وفارق المحجور عليه لحق غيره فإن المانع تعلق حق الغرماء بماله فيزول المانع بزوال الحق عن ماله فيثبت مقتضى إقراره وفي مسئلتنا انتفى الحكم لخلل في الإقرار فلم يثبت كونه سبباً وبزوال الحجر لم يكمل السبب فلا يثبت الحكم مع اختلال السبب كما لا يثبت بعد فك الحجر ولأن الحجر لحق الغير فلم يمنع تصرفهم في ذممهم فأمكن تصحيح إقرارهم في ذممهم على وجه لا يضر بغيرهم والحجر ههنا لحظ نفسه من أجل ضعف قلبه وسوء تصرفه ولا يندفع الضرر إلا بإبطال إقراره بالكلية كالصبي والمجنون.
فأما صحته فيما بينه وبين الله تعالى فإن علم صحة ما أقر به كدين لزمه من جناية أو دين لزمه قبل الحجر عليه فعليه أداؤه لانه علم أن عليه حقاً فلزمه أداؤه كما لو لم يقر به، وإن علم فساد إقراره مثل إن علم أنه أقر بدين ولا دين عليه أو بجناية لم توجد منه أو أقر بما لا يلزمه مثل أن أتلف مال من دفعه إليه بقرض أو بيع لم يلزمه أداؤه لأنه يعلم إنه لا دين عليه فلم يلزمه كما لو لم يقر به {مسألة} (وحكم تصرف وليه حكم تصرف ولي الصبي والمجنون على ما ذكرنا من قبل) لأنه محجور عليه لحظه فهو كالصبي والمجنون {مسألة} قال الشيخ رحمه الله (وللولي أن يأكل من مال المولى عليه بقدر عمله إذا احتاج إليه) وإن كان غنياً لم يجز له ذلك إذا لم يكن أبا لقول الله تعالى (فمن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف) وإذا كان فقيراً فله أقل الأمرين أجرته أو قدر كفايته لأنه يستحقه بالعمل والحاجة جميعاً فلم يجز أن يأخذ إلا ما وجدا فيه وقال ابن عقيل يأكل وإن كان غنياً قياساً على العمل في الزكاة والآية
محمولة على الاستحباب والأول أولى لظاهر الآية {مسألة} (وهل يلزمه عوض ذلك إذا أيسر؟ على روايتين) أما إذا كان أبا فلا يلزمه رواية واحدة لأن للأب أن يأخذ من مال ولده ما شاء مع الحاجة وعدمها وإن كان غير الأب لم يلزمه عوض ذلك في إحدى الروايتين وهذا قول الحسن والنخعي وأحد قولي الشافعي لأن الله تعالى أمر بالأكل من غير ذكر عوض فأشبه سائر ما أمر بأكله، ولأنه عوض عن عمله فلم يلزمه بدله كالأجير والمضارب (والثانية) يلزمه عوضه وهو قول عبيدة السلماني وعطاء ومجاهد وسعيد بن جبير وأبي العالية لأنه استباحة بالحاجة من مال غيره فلزمه قضاؤه كالمضطر إلى طعام غيره، والأول أصح لأنه لو وجب عليه إذا أيسر لكان واجباً في الذمة قبل اليسار فإن اليسار ليس سبباً للوجوب فاذا لم يجب بالسبب الذي هو الأكل لم يجب بعده وفارق المضطر فإن العوض واجب عليه في ذمته، ولأنه لم يأكله عوضاً عن شئ وهذا بخلافه {مسألة} (وكذلك يخرج في الناظر في الوقف) قياساً عليه {مسألة} (ومتى زال الحجر عنه فادعى على الولي تعدياً أو ما يوجب ضماناً فالقول قول الولي) إذا ادعى الولي الإنفاق على الصبي والمجنون أو على ماله أو عقاره بالمعروف من ماله أو أدعى

(4/531)


أنه باع عقاراً لحظه أو بناه لمصلحته أو أنه تلف قبل قوله، وقال أصحاب الشافعي: لا يمضي الحاكم بين الأمين والوصي حتى يثبت عنده الحظ ببينة ولا يقبل قولهما في ذلك ويقبل قول الأب والجد.
ولنا أن من جاز له بيع العقار وشراؤه لليتيم يجب أن يقبل قوله في الحظ كالأب والجد، ولانه يقبل قوله في عدم التفريط فيما تصرف فيه من غير العقار فيقبل قوله في العقار كالأب، وإذا بلغ الصبي فادعى أنه لاحظ له في البيع لم يقبل إلا ببينة، فإن لم تكن بينة فالقول قول الولي مع يمينه، وإن قال الولي أنفقت عليك منذ ثلاث سنين وقال الغلام إنما مات أبي منذ سنتين فقال القاضي القول قول الغلام لأن الأصل حياة والدة واختلافهما في أمر ليس الوصي أميناً فيه فقدم قول من يوافق قوله الاصل {مسألة} (وكذلك القول قوله في دفع المال إليه بعد رشده)
لأنه أمين فأشبه المودع، ويحتمل أن القول قول الصبي لأن أصله معه ولأن الله سبحانه قال (فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم) فمن ترك الإشهاد فقد فرط فلزمه الضمان والاول المذهب وكذلك الحكم في المجنون والسفيه {مسألة} (وهل للزوج أن يحجر على امرأته في التبرع بما زاد على الثلث من مالها؟ على روايتين) (إحداهما) ليس له الحجر عليها وهو قول أبي حنيفة والشافعي وابن المنذر وهو ظاهر كلام الخرقي (والثانية) ليس لها أن تتصرف في مالها بزيادة على الثلث بغير عوض إلا بإذن زوجها، وبه قال مالك وحكي عنه في امرأة حلفت بعتق جارية ليس لها غيرها فحنثت ولها زوج فرد ذلك عليها زوجها، قال له أن يرد عليها وليس لها عتق لما روي أن امرأة كعب بن مالك أتت النبي صلى الله عليه وسلم بحلي لها فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم " لا يجوز للمرأة عطية حتى يأذن زوجها فهل استأذنت كعباً " فقالت نعم فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى كعب فقال " هل أذنت لها ان تتصرف بحليها؟ " فقال نعم فقبله.
رواه ابن ماجه، وروي أيضاً عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في خطبة خطبها " لا يجوز لامرأة عطية في مالها إلا بإذن زوجها إذ هو مالك عصمتها " رواه أبو داود ولفظه عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " لا يجوز لامرأة عطية إلا بإذن زوجها " ولأن حق الزوج متعلق بما لها فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال " تنكح المرأة لما لها ودينها " والعادة أن الزوج يزيد في مهرها من أجل مالها ويتبسط فيه وينتفع به، وإذا أعسر بالنفقة أنظرته فجرى ذلك مجرى حقوق الورثة المتعلقة بمال المريض ولنا قول الله تعالى (فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا أموالهم) وهو ظاهر في فك الحجر عنهم واطلاقهم في التصرف، وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " يا معشر النساء تصدقن ولو من حليكن " وأنهن تصدقن فقبل صدقتهن ولم يسأل ولا استفصل، أتته زينب امرأة عبد الله وامرأة أخرى اسمها زينب فسألته عن الصدقة هل يجزئهن أن يتصدقن على أزواجهن وايتام لهن، فقال " نعم " ولم يذكر لهن هذا الشرط ولأن من وجب دفع ماله إليه لرشده جاز له التصرف فيه من غير إذن كالغلام، ولأن المرأة من أهل التصرف ولا حق لزوجها في مالها فلم يملك الحجر عليها في

(4/532)


التصرف بجميعه كاختها وحديثهم ضعيف وشعيب لم يذكر عبد الله بن عمرو فهو مرسل ويمكن حمله على أنه لا يجوز عطيتها من ماله بغير إذنه بدليل أنه يجوز عطيتها ما دون الثلث من مالها وليس معهم حديث يدل على تحديد المنع بالثلث والتحديد بذلك تحكم ليس فيه توقيف ولا عليه دليل، ولا يصح قياسهم على المريض لوجوه (أحدها) أن المرض سبب يفضي إلى وصول المال إليهم بالميراث والزوجية إنما تجعله من اهل الميراث فهي أحد وصفي العلة فلا يثبت الحكم بمجردها كما لا يثبت للمرأة الحجر على زوجها ولا لسائر الوراث بدون المرض (الثاني) إن تبرع المريض موقوف فإن برئ من مرضه صح تبرعه وههنا أبطلوه على كل حال والفرع لا يزيد على أصله (الثالث) إن ما ذكروه منتقض بالمرأة فإنها تنتفع بمال زوجها وتتبسط فيه عادة ولها النفقة منه وانتفاعها بماله أكثر من انتفاعه بمالها وليس لها الحجر عليه على أن هذا المعنى ليس بموجود في الأصل ومن شرط صحة القياس وجود المعنى المثبت للحكم في الأصل والفرع جميعاً {فصل} في الأذن.
قال الشيخ رحمه الله {يجوز لولي الصبي المميز أن يأذن له في التجارة في إحدى الروايتين} ويصح تصرفه بالإذن وهذا قول أبي حنيفة (والثانية) لا يصح حتى يبلغ وهو قول الشافعي لأنه غير مكلف أشبه غير المميز.
ولأن العقل لا يمكن الوقوف منه على الحد الذي يصلح به للتصرف لخفائه وتزايده تزايدا خفي التدريج فجعل الشارع له ضابطاً وهو البلوغ فلا تثبت له أحكام العقلاء قبل وجود المظنة ولنا قول الله تعالى (وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح، فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم) ومعناه اختبروهم لتعلموا رشدهم وإنما يتحقق اختبارهم بتفويض التصرف إليهم من البيع والشراء ليعلم هل يغبن أم لا، ولأنه عاقل مميز محجور عليه فصح تصرفه بإذن وليه كالعبد وفارق غير المميز فإنه لا تحصل المصلحة بتصرفه لعدم تمييزه ومعرفته ولا حاجة الى اختباره لأنه قد علم حاله، وقولهم ان العقل لا يمكن الاطلاع عليه، قلنا يعلم ذلك بآثاره وجريان تصرفاته على وفق
المصلحة كما يعلم في حق البالغ فإن معرفة رشده شرط دفع ماله إليه وصحة تصرفه، ويحتمل أن يصح ويقف على إجازة الولي وهو قول أبي حنيفة ومبنى ذلك على ما إذا تصرف في مال غيره بغير إذنه وقد ذكرناه فيما مضى {مسألة} (ويجوز ذلك لسيد العبد) بغير خلاف نعلمه لأن الحجر عليه إنما كان لحق السيد فجاز له التصرف بإذنه لزوال المانع {مسألة} (ولا ينفك عنهما الحجر إلا فيما أذن لهما فيه وفي النوع الذي أمرا به لأن تصرفه إنما جاز بإذن وليه وسيده فزال الحجر في قدر ما أذنا فيه دون غيره كالتوكيل،

(4/533)


فإن دفع السيد إلى عبده مالا يتجر فيه كان له أن يبيع ويشتري ويتجر به وإن أذن له أن يشتري في ذمته جاز، وإن عين له نوعاً من المال يتجر فيه لم يكن له أن يتجر في غيره وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة: يجوز أن يتجر في غيره وينفك عنه الحجر مطلقاً لأن إذنه إطلاق من الحجر وفك له والإطلاق لا يبعض كبلوغ الصبي ولنا أنه متصرف بالاذن من جهة الآدمي فوجب أن يختص ما أذن له فيه كالوكيل والمضارب وما قاله ينتقض بما إذا أذن له في شراء ثوب ليلبسه أو طعام ليأكله ويخالف البلوغ فإنه يزول به المعنى الموجب للحجر فإن البلوغ مظنة كمال العقل الذي يتمكن به من التصرف على وجه المصلحة وههنا الرق سبب الحجر وهو موجود فنظير البلوغ في الصبي العتق للعبد وإنما يتصرف العبد بالإذن الا ترى أن الصبي يستفيد بالبلوغ قبول النكاح بخلاف العبد {مسألة} (وإن أذن له في جميع أنواع التجارة لم يجز أن يؤجر نفسه ولا يتوكل لغيره) وبه قال الشافعي وجوزهما أبو حنيفة لأنه يتصرف لنفسه فملك ذلك كالمكاتب، ولنا أنه عقد على نفسه فلا يملكه بالإذن في التجارة كبيع نفسه وتزويجه وقولهم يتصرف لنفسه ممنوع إنما يتصرف لسيده وبهذا فارق المكاتب فإن المكاتب يتصرف لنفسه ولهذا كان له أن يبتاع من سيده {مسألة} (وهل له أن يوكل فيما يتولى مثله بنفسه على روايتين)
(إحداهما) لا يجوز لأنه تصرف بالإذن فاختص بما أذن فيه ولم يؤذن له في التوكيل (والثانية) يجوز لأنهم يملكون التصرف بأنفسهم فملكوه بنائبهم كالمالك الرشيد ولأنه أقامه مقام نفسه {مسألة} (وإن رآه سيده أو وليه يتجر فلم ينهه لم يصر مأذونا) وبه قال الشافعي وقال أبو حنيفة في العبد يصير مأذوناً له لأنه سكت عن حقه فكان مسقطاً له كالشفيع إذا سكت عن طلب الشفعة ولنا أنه تصرف يفتقر إلى الاذن فلم يقم السكوت مقام الإذن كما لو باع الراهن الرهن والمرتهن ساكت أو باعه المرتهن والراهن ساكت وكتصرفات الأجانب ويخالف الشفعة فإنها تسقط بمضي الزمان إذا علم لأنها على الفور {مسألة} (وما استدان العبد فهو في رقبته يفديه سيده أو يسلمه وعنه يتعلق بذمته يتبع به بعد العتق إلا المأذون له هل يتعلق برقبته أو ذمة سيده؟ على روايتين) يقال أدان واستدان وتداين بمعنى واحد والعبد قسمان: محجور عليه فما لزمه من الدين بغير رضا سيده مثل أن يقترض ويشتري شيئاً في ذمته ففيه روايتان (إحداهما) يتعلق برقبته اختارها الخرقي وأبو بكر لأنه دين لزمه بغير إذن سيده فتعلق برقبته كالإتلاف (والثانية) يتعلق بذمته يتبعه الغريم به إذا عتق وأيسر وهو مذهب الشافعي لأنه متصرف في ذمته بغير اذن سيده فتعلق بذمته كعوض الخلع من الأمة وكالحر (والقسم الثاني) المأذون له في التصرف أو في الاستدانة فما يلزمه من الدين هل

(4/534)


يتعلق برقبته أو ذمة سيده، على روايتين (إحداهما) يتعلق برقتبه وهو ظاهر قول أبي حنيفة لأنه قال يباع إذا طالب الغرماء ببيعه وهذا معناه أنه يتعلق برقبته لأنه دين ثبت برضا من له العين فيباع فيه كما لو رهنه (والثانية) يتعلق بذمة السيد وهو الذي ذكره الخرقي فعلى هذه الرواية يلزم مولاه جميع ما أدان، وقال مالك والشافعي إن كان في يده مال قضيت ديونه منه، وإن لم يكن في يده شئ تعلق بذمته يتبع به إذا عتق وأيسر لأنه دين ثبت برضا من له الدين أشبه غير المأذون أو فوجب أن لا يتعلق برقبته كما لو اقترض بغير إذن سيده ووجه قول الخرقي أنه إذا أذن له
في التجارة فقد أغرى الناس بمعاملته وأذن فيها فصار ضامناً كما لو قال لهم داينوه أو إذن في استدانة تزيد على قيمته، ولا فرق بين الدين الذي لزمه في التجارة المأذون فيها أو فيما لم يؤذن له فيه مثل إن أذن له في التجارة في البر فاتجر في غيره فإنه لا ينفك عن التغرير إذ يظن الناس أنه مأذون له في ذلك أيضاً (فصل) فأما أروش جناياته وقيم متلفاته فهي متعلقة برقبة العبد سواء كان مأذوناً له اولا رواية واحدة وبه يقول أبو حنيفة والشافعي وكل ما تعلق برقبة العبد خير السيد بين تسليمه للمبيع وبين فدائه فإذا بيع وكان ثمنه أقل مما عليه فليس لرب الدين إلا ذلك لأن العبد هو الجاني فلم يجب على غيره شئ وإن كان ثمنه أكثر فالفضل للسيد، وذكر القاضي أن ظاهر كلام أحمد أن السيد لا يرجع بالفضل ولعله يذهب إلى أنه دفعه إليه عوضاً عن الجناية فلم يبق لسيده فيه شئ كما لو ملكه إياه عوضاً عن الجناية وليس هذا صحيحاً فإن المجني عليه لا يستحق أكثر من قدر ارش الجناية عليه فهو كما لو جنى عليه حر والجاني لا يجب عليه أكثر من أرش جنايته ولأن الحق تعلق بعينه فكان الفضل من ثمنه لسيده كالرهن ولا يصح قولهم أنه دفعه عوضاً لأنه لو كان عوضاً لملكه المجني عليه ولم يبع في الجناية وإنما دفعه ليباع فيؤخذ منه عوض الجناية ويرد إليه الباقي وكذلك لو أتلف درهماً لم يبطل حق سيده منه منه بذلك وإن عجز عن أداء الدراهم من غيره ثمنه فإن اختار السيد فداءه لزمه أقل الأمرين من قيمته أو أرش جنايته لأن أرش الجناية إن كان أكثر فلا يتعلق بغير العبد الجاني لعدم الجناية من غيره وإنما تجب قيمته وإن كان أقل فلم يجب بالجناية الا هو وعن أحمد رواية أخرى أنه يلزمه أرض الجناية كله لأنه يجوز أنه يرغب فيه راغب فيشتريه بأرش الجناية فإذا منع منه لزمه جميع الأرش لتفويته ذلك وللشافعي قولان كالروايتين (فصل) فإن تصرف العبد غير المأذون ببيع أو شراء بعين المال لم يصح لأنه تصرف من المحجور عليه فيما حجر عليه فيه أشبه المفلس وقياساً على تصرف الا جني، ويتخرج أن يصح ويقف على إجازة السيد كتصرف الفضولي، فأما شراؤه بثمن في ذمته واقتراضه فيحتمل أن لا يصح لأنه محجور عليه أشبه السفيه، ويحتمل أن يصح لأن الحجر لحق غيره أشبه المفلس والمريض، ويتفرع عن هذين الوجهين أن التصرف إن كان فاسداً فللبائع والمقرض أخذ ماله إن كان باقيا سواء كان في يد العبد
أو السيد، وإن كان تالفاً فله قيمته أو مثله إن كان مثلياً، فإن تلف في يد السيد رجع عليه بذلك

(4/535)


لأن عين ماله تلف في يده وإن شاء كان ذلك متعلقاً برقبة العبد لأنه الذي أخذه منه، وإن تلف في يد العبد فالرجوع عليه وهل يتعلق برقبته أو ذمته؟ على روايتين، وإن قلنا التصرف صححيح والمبيع في يد العبد فللبائع فسخ البيع وللمقرض الرجوع فيما أقرض لأنه قد تحقق اعسار المشتري والمقترض فهو أسوأ حالاً من الحر المعسر، وإن كان السيد قد انتزعه من يد العبد ملكه بذلك لأنه أخذ من عبده مالا في يده بحق فهو كالصيد، فإذا ملكه السيد كان كهلاكه في يد العبد ولا يملك البائع والمقرض انتزاعه من السيد بحال فإن كان قد تلف استقر ثمنه في رقبة العبد أو في ذمته سواء تلف في يد العبد أو السيد {مسألة} (وإذا باع السيد عبده المأذون شيئاً لم يصح في أحد الوجهين) لأنه مملوكه فلا يثبت له دين في ذمته كغير المأذون له أو كمن لا دين عليه ويصح في الآخر إذا كان عليه دين بقدر قيمته لانا إذا قلنا إن الدين يتعلق برقبته فكأنه صار مستحقاً لأصحاب الديون فيصير كعبد غيره.
{مسألة} (ويصح إقرار المأذون له في قدر ما أذن له فيه دون ما زاد عليه) لأنه لم يؤذن له فيه فهو كغير المأذون له ولأن الذي أذن له فيه يصح تصرفه فيه فصح إقراره به كالحر {مسألة} (وإن حجر عليه وفي يده مال ثم أذن له فيه فأقر به صح) لأن المانع من صحة إقراره الحجر عليه وقد زال ولأنه يصح تصرفه فيه فصح إقراره به كما لو لم يحجر عليه وقياساً على غيره من الاحرار {مسألة} (ولا يبطل الاذن بالإباق) وبه قال الشافعي، وقال أبو حنيفة يبطل لأنه يزيل ولاية السيد عنه في التجارة بدليل أنه لا يجوز بيعه ولا هبته ولا رهنه فأشبه مالو باعه.
ولنا أن الإباق لا يمنع ابتداء الأذن له في التجارة فلم يمنع استدامته كما لو غصب غاصب أو حبس بدين عليه ولا يصح ما ذكروه فإن سبب الولاية باق
وهو الرق ويجوز بيعه وإجارته ممن يقدر عليه ويبطل بالمغصوب {مسألة} (ولا يصح تبرع المأذون له بهبة الدراهم وكسوة الثياب) لأن ذلك ليس من التجارة ولا يحتاج إليه فيها فأشبه غير المأذون له {مسألة} (وتجوز هديته للمأكول وإعارة دابته) واتخاذ الدعوة ما لم يكن اسرافاً وبه قال أبو حنيفة وقال الشافعي لا يجوز ذلك بغير إذن سيده لأنه تبرع بمال مولاه فلم يجز كهبة الدراهم، ولنا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجيب دعوة المملوك فروى أبو سعيد مولى بني أسيد أنه تزوج فحضر دعوته أناس من أصحاب رسول الله عليه وسلم منهم عبد الله بن مسعود وحذيفة وابوذر فامهم وهو يومئذ عبد رواه صالح في مسائله بإسناده ولأنه مما جرت به عادة التجارة فيما بينهم فيدخل في عموم الأذن

(4/536)


{مسألة} (وهل لغير المأذون له الصدقة من قوته بالرغيف ونحوه إذا لم يضربه؟ على روايتين) (إحداهما) ليس له ذلك لأن المال لسيده وإنما أذن له في الأكل فلم يملك الصدقة به كالضيف ولا يتصدق بما أذن له في أكله (والثانية) يجوز لأنه مما جرت العادة بالمسامحة فيه والإذن عرفا فجاز كصدقة المرأة من بيت زوجها {مسألة} (وهل للمرأة الصدقة من بيت زوجها بغير إذنه بنحو ذلك؟ على روايتين) (إحداهما) يجوز لأن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما أنفقت المرأة من بيت زوجها غير مفسدة كان لها أجرها وله مثله بما كسب ولها بما أنفقت وللخازن مثل ذلك من غير أن ينقص من اجورهم شئ " ولم يذكر إذنا، وعن أسماء أنها جاءت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله: ليس لي شئ إلا ما أدخل علي الزبير فهل علي جناح أن أرضخ مما يدخل علي.
قال: " ارضخي ما استطعت ولا توعي فيوعي الله عليك " متفق عليهما.
وروي أن امرأة أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله: إنا كل على أزواجنا وأبنائنا فما يحل لنا من أموالهم؟ قال " الرطب تأكلينه وتهدينه " ولأن العادة السماح بذلك وطيب النفس به فجرى مجرى صريح الأذن كما أن تقديم الطعام بين يدي الا كلة قام مقام صريح الإذن في أكله
كصدقة المرأة من بيت زوجها {مسألة} (وهل للمرأة الصدقة من بيت زوجها بغير إذنه بنحو ذلك؟ على روايتين) (إحداهما) يجوز لأن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما أنفقت المرأة من بيت زوجها غير مفسدة كان لها أجرها وله مثله بما كسب ولها بما أنفقت وللخازن مثل ذلك من غير أن ينقص من اجورهم شئ " ولم يذكر إذنا، وعن أسماء أنها جاءت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله: ليس لي شئ إلا ما أدخل علي الزبير فهل علي جناح أن أرضخ مما يدخل علي.
قال: " ارضخي ما استطعت ولا توعي فيوعي الله عليك " متفق عليهما.
وروي أن امرأة أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله: إنا كل على أزواجنا وأبنائنا فما يحل لنا من أموالهم؟ قال " الرطب تأكلينه وتهدينه " ولأن العادة السماح بذلك وطيب النفس به فجرى مجرى صريح الأذن كما أن تقديم الطعام بين يدي الا كلة قام مقام صريح الإذن في أكله (والثانية) لا يجوز لما روى أبو أمامة الباهلي قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " لا تنفق المرأة شيئاً من بيتها إلا بإذن زوجها " قيل يا رسول الله ولا الطعام قال " ذاك أفضل أموالنا " رواه سعيد في سننه وقال النبي صلى الله عليه وسلم " لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه " وقال " إن الله حرم بينكم دماءمكم وأموالكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا " ولأنه تبرع بمال غيره بغير إذنه فلم يجز كغير الزوجة، والصحيح الأول لأن الأحاديث فيه خاصة صحيحة والخاص يقدم على العام ويثبته ويعرف أن المراد بالعام الصورة المخصوصة والحديث الخاص للرواية الثانية ضعيف ولا يصح قياس امرأة على غيرها لأنها بحكم العادة تتصرف في مال زوجها وتتبسط فيه وتتصدق منه لحضورها وغيبته والإذن العرفي يقوم مقام الأذن الحقيقي فصار كأنه قال لها افعلي هذا.
فأما إن منعها ذلك وقال لاتتصدقي بشئ ولا تتبرعي من مالي بقليل ولا كثير لم يجز لها ذلك لأن المنع الصريح نفي الإذن العرفي وكذلك لو كانت امرأته ممنوعة من التصرف في بيت زوجها كالذي يطعمها بالفرض ولا يمكنها من طعامه فهو كما لو منعها بالقول فان كان في بيت الرجل من يقوم مقام امرأته كجاريته وأخته وغلامه المتصرف في بيت سيده وطعامه فهو كالزوجة فيما ذكرنا لوجود المعنى فيه والله أعلم (تم طبع الجزء الرابع بعون الله ويليه الجزء الخامس بمشيئته وأوله (كتاب الصلح)

(4/537)