الشرح الكبير على متن المقنع

بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين (باب الصلح) الصلح معاقدة يتوصل بها إلى إصلاح بين المختلفين ويتنوع أنواعاً: صلح بين المسلمين وأهل الحرب وصلح بين أهل العدل وأهل البغي، وصلح بين الزوجين إذا خيف الشقاق بينهما.
قال الله تعالى (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما) وقال تعالى (وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا والصلح خير) وروى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (الصلح بين المسلمين جائز إلا صلحاً حرم حلالاً أو أحل حرما) أخرجه الترمذي وقال حديث حسن صحيح.
وروي عن عمر أنه كتب إلى أبي موسى بمثل ذلك وأجمع العلماء على جواز الصلح في هذه الأنواع التي ذكرنا ولكل واحد منها باب يفرد له وتذكر فيه أحكامه وهذا الباب للصلح بين المختلفين في الأموال (مسألة) (والصلح في الأموال قسمان أحدهما صلح على الإقرار وهو نوعان (أحدهما) صلح على جنس الحق مثل أن يقر له بدين فيضع عنه بعضه أو بعين فيهب له بعضها ويأخذ الباقي فيصح إن لم يكن بشرط مثل أن يقول على أن تعطيني الباقي أو يمنعه حقه بدونه)
وجملة ذلك أن من اعترف بدين أو عين في يده فأبرأه الغريم من بعض الدين أو وهبه بعض العين وطلب منه الباقي صح إذا كانت البراءة مطلقة من غير شرط.
قال أحمد إذا كان للرجل على الرجل الدين ليس عنده وفاء فوضع عنه بعض حقه وأخذ منه الباقي كان ذلك جائزاً لهما ولو فعل ذلك قاض

(5/2)


شافعي لم يكن عليه في ذلك أثم لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد كلم غرماء جابر ليضعوا عنه وفي الذي أصيب في حديقته فمر به النبي صلى الله وسلم وهو ملزوم فأشار إلى غرمائه بالنصف فأخذوه منه، فان فعل ذلك قاض اليوم جاز إذا كان على وجه الصلح والنظر لهما، وقد روى عبد الله بن كعب عن أبيه أنه تقاضى ابن أبي حدرد ديناً كان له عليه في المسجد فارتفعت أصواتهما حتى سمعهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج إليهما ثم نادى (يا كعب) قال لبيك يارسول الله.
فأشار إليه أن ضع الشطر من دينك.
قال قد فعلت يا رسول الله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (قم فأعطه) متفق عليه فأما إن منعه المقر حقه حتى يضع عنه بعضه فالصلح باطل لأنه صالح عن بعض ماله ببعضه وسواء كان بلفظ الصلح أو بلفظ الأبراء أو الهبة المقرون بشرط مثل أن يقول أبرأتك من خمسمائة أو وهبتك بشرط أن تعطيني ما بقي، قال ابن أبي موسى الصلح على الإقرار هضم للحق فمتى ألزم المقر له ترك بعض حقه فتركه من غير طيب نفسه لم يطب لأحد، وإن تطوع المقر له بإسقاط بعض حقه جاز غير أن ذلك ليس بصلح ولا من باب الصلح بسبيل فلم يجعله صلحاً، ولم يسم الخرقي الصلح إلا في حال الإنكار، فأما مع الاعتراف فإن قضاه من جنس حقه فهو وفاء وإن قضاء من غير جنسه فهو معاوضة وإن ابرأه من بعضه فهو إبراء وإن وهبه بعض العين فهو هبة فلا يسمى صلحاً وسماه القاضي وأصحابه صلحاً وهو قول الشافعي.
والخلاف في التسمية أما المعنى فمتفق عليه، وهو ينقسم إلى إبراء وهبة ومعاوضة وقد ذكرنا الإبراء، فأما الهبة فهو أن يكون له في يده عين فيقول قد وهبتك نصفها واعطني بقيتها فيصح ويعتبر له شروط الهبة، وإن أخرجه مخرج الشرط لم يصح وهذا مذهب الشافعي، لأنه إذا شرط في الهبة الوفاء جعل الهبة عوضاً عن الوفاء فكأنه عاوض بعض حقه ببعض، فإن أبرأه من بعض الدين أو وهب له بعض العين بلفظ الصلح مثل أن يقول صالحني بنصف دينك علي أو بنصف دارك هذه،
فيقول صالحتك بذلك لم يصح: ذكره القاضي وابن عقيل وهو قول بعض أصحاب الشافعي، وقال أكثرهم يجوز الصلح لأنه إذا لم يجر بلفظه خرج عن أن يكون صلحاً ولا يبقى له تعلق به أما إذا كان بلفظه سمي صلحاً لوجود اللفظ وإن تخلف المعنى كالهبة بشرط الثواب، وإنما يقتضي لفظ الصلح المعاوضة إذا كان ثم عوض أما مع عدمه فلا، وإنما معنى الصلح الاتفاق والرضى وقد يحصل هذا من غير عوض كالتمليك إذا كان بعوض سمي بيعاً وإن خلا عن العوض سمي هبة ولنا أن لفظ الصلح يقتضي المعاوضة لأنه إذا قال صالحني بهبة كذا أو على هبة كذا أو على نصف هذه العين ونحو هذا فقد أضاف إليه بالمقابلة فصار كقوله بعني بألف وإن أضاف إليه على جرى مجرى الشرط كقوله (على أن تأجرني ثماني حجج) وقوله (فهل نجعل لك خرجا على أن تجعل بيننا وبينهم سدا) وكلاهما لا يجوز بدليل مالو صرح بلفظ الشرط أو بلفظ المعاوضة، وقولهم إنه يسمى صلحاً

(5/3)


ممنوع وإن سمي صلحاً فمجاز لتضمنه قطع التنازع وإزالة الخصومة وقولهم أن الصلح لا يقتضي المعاوضة ممنوع وإن سلمنا لكن المعاوضة حصلت من اقتران حرف الباء أو على أو نحوهما به فإن لفظ الصلح يحتاج إلى حرف يتعدى به وذلك يقتضي المعاوضة على ما بينا (مسألة) (ولا يصح ذلك ممن لا يملك التبرع كالمكاتب والمأذون له وولي اليتيم إلا في حال الإنكار وعدم البينة) لأنه تبرع وليس لهم التبرع فأما إذا لم يكن بالدين أو كان على الإنكار صح لان استيفاء هم البعض عند العجز عن استيفاء الكل أولى من تركه (مسألة) (وإن صالح عن المؤجل ببعضه حالاً لم يصح) كره ذلك زيد بن ثابت وابن عمر وقال نهى عمر أن تباع العين بالدين وكره ذلك سعيد بن المسيب والقاسم وسالم والحسن ومالك والشافعي والثوري وابن عيينه وابو حنيفة واسحاق وروي عن ابن عباس وابن سيرين والنخعي أنه لا بأس به، وعن الحسن وابن سيرين أنهما كانا لا يريان بأساً بالعروض أن يأخذها من حقه قبل محله لأنهما تبايعا العروض بما في الذمة فصح كما لو اشتراها بثمن مثلها ولعل ابن سيرين يحتج بأن التعجيل جائز والإسقاط وحده جائز فجاز الجمع بينهما كما لو فعلا
ذلك من غير مواطأة عليه ولنا أنه يبذل القدر الذي يحطه عوضا من تعجيل ما في ذمته وبيع الحلول والتأجيل لا يجوز كما لا بجوز أن يعطيه عشرة حالة بعشرين موجلة ولأنه يبيعه عشرة بعشرين فلم يجز كما لو كانت معينة وفارق ما إذا كان من غير مواطأة ولا عقد لأن كل واحد منهما متبرع ببذل حقه من غير عوض ولا يلزم من جواز ذلك جوازه في العقد أو مع الشرط كبيع درهم بدرهمين ويقارق ما إذا اشترى العروض بثمن مثلها لأنه لم يأخذ عن الحلول عوضاً (مسألة) (وإن وضع بعض الحال وأجل باقيه صح الإسقاط دون التأجيل) إذا صالحه عن ألف حال بنصها مؤجلاً اختياراً منه وتبرعاً صح الإسقاط ولم يلزم التأجيل لأن الحال لا يتأجل بالتأجيل على ما ذكرنا والإسقاط صحيح وإن فعله لمنعه من حقه بدونه أو شرط ذلك في الوفاء لم يسقط على ما ذكرنا في أول الباب وذكر أبو الخطاب في هذا روايتين أصحهما لا يصح وما ذكرنا من التفصيل أولى (مسألة) (وإن صالح عن الحق بأكثر منه من جنسه مثل أن يصالح عن دية الخطأ أو قيمة متلف بأكثرمنها من جنسها لم يصح) وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة يجوز لأنه يأخذ عوضاً عن المتلف فجاز أن بأخذ أكثر من قيمته كما لو باعه بذلك

(5/4)


ولنا أن الدية والقيمة تثبت في الذمة مقدرة فلم يجزان يصالح عنها بأكثر منها من جنسها كالثابتة عن قرض أو ثمن مبيع ولأنه إذا أخذ أكثر منها فقد أخذ حقه وزيادة لا مقابل لها فيكون أكل مال بالباطل (مسألة) (وإن صالحه بعرض قيمته أكثر منها جاز) لأنه بيع (فصل) ولو صالح عن المائة الثابتة بالإتلاف بمائة مؤجلة لم تصر مؤجلة وهذا قول الشافعي وعن أحمد أنها تصير مؤجلة وهو قول أبي حنيفة لأنه عاوض عن المتلف بمائة مؤجلة فجاز كما لو باعه إياه ولنا أنه إنما استحق عليه قيمة المتلف وهو مائة حالة والحال لا يتأجل بالتأجيل وإن جعلناه بيعاً فهو بيع دين بدين وهو غير جائز (مسألة) (وإن صالحه عن بيت على أن يسكنه سنة أو يبني له فوقه غرفة لم يصح)
إذا ادعى على رجل بيتاً فصالحه على بعضه أو على أن يبني له ثم على أن يسكنه سنة لم يصح لأنه يصالحه عن ملكه على ملكه أو منفعته وإن أسكنه كان تبرعاً منه متى شاء أخرجه منها وإن أعطاه بعض داره بناء على هذا فمتى شاء انتزعه منه لأنه أعطاه إياه عوضاً عما لا يصلح عوضاً عنه وان فعل ذلك على سبيل المصالحة معتقداً أن ذلك وجب عليه بالصلح رجع عليه بأجر ما سكن وأجر ما كان في يده من الدار لأنه أخذه بعقد فاسد فأشبه المبيع الموجود بعقد فاسد وسكنى الدار بإجارة فاسدة، وان بنى وفوق البيت غرفة أجبر على نقضها وإذا أجر السطح مدة مقامه في يده وله أخذ آلته، وان انفقا على أن يصالحه صاحب البيت عن بنائه بعوض جاز وإن بنى الغرفة بتراب من أرض صاحب البيت وآلاته فليس له أخذ بنائه لأنه ملك صاحب البيت وإن أراد نقض البناء لم يكن له ذلك إذا أبرأه المالك من ضمان ما يتلف به ويتخرج أن يملك نقضه كقولنا في الغاصب (مسألة) (ولو قال أقر لي بديني وأعطيك منه مائة ففعل صع الإقرار ولم يصح الصلح) لأنه يجب عليه الإقرار بما عليه من الحق فلم يحل له أخذ العوض عما يجب عليه.
فعلى هذا يردما أخذ لأنه تبين كذبه بإقراره وأن عليه الدين فلزمه أداؤه بغير عوض (مسألة) (وإن صالح انسانا ليقرله بالعبودية أو امرأة لتقرله بالزوجية لم يصح) لا يجوز الصلح على ما لا يجوز أخذ العوض عنه مثل أن يدعي على رجل أنه عبده فينكره فيصالحه على مال ليقرله بالعبودية فلا يجوز ذلك لأنه يحل حراماً فإن أرقاق الحر نفسه لا يحل بعوض ولا غيره وكذلك أن صالح امرأة لتقرله بالزوجية لأنه صلح يحل حراماً ولأنها لو أرادت بذل نفسها بعوض لم يجز فإن دفعت إليه عوضاً عن هذه الدعوى ليكف نفسه عنها ففيه وجهان (أحدهما) لا يجوز لأن الصلح في الإنكار إنما يكون في حق المنكر لافتداء اليمين وهذه لا يمين عليها وفي حق المدعي يأخذ العوض في مقابلة حقه الذي يدعيه وخروج البضع من ملك الزوج لا قيمة له وإنما

(5/5)


أجيز الخلع للحاجة إلى افتداء نفسها (والثاني) يصح ذكره أبو الخطاب وابن عقيل لأن المدعي يأخذ عوضاً عن حقه من النكاح فجاز كعوض الخلع والمرأة تبذله لقطع خصومته وإزالة شره وربما توجهت
اليمين عليها لكون الحاكم يرى ذلك ولأنها مشروعة في حقها في إحدى الروايتين، ومتى صالحته عن ذلك ثم يثبت الزوجية بإقرارها أو ببينة فإن قلنا الصلح باطل فانكاح باق بحاله لأنه لم يوجد من الزوج طلاق ولا خلع وإن قلنا هو صحيح احتمل ذلك أيضاً لما ذكرنا، واحتمل أن تبين منه بأحد العوضين لأنه أخذ العوض عما يستحقه من نكاحها فكان خلعاً كما لو أقرت له بالزوجية فخالعها ولو ادعت أن زوجها طلقها ثلاثاً فصالحها على مال لتنزل عن دعواها لم يجز لأنه لا يجوز لها بذل نفسها لمطلقها بعوض ولا بغيره، وإن دفعت إليه مالاً ليقر بطلاقها لم يجز في أحد الوجهين وفي الآخر يجوز كما لو بذلت له عوضاً ليطلقها ثلاثا (مسألة) وإن دفع المدعي عليه العبودية إلى المدعي مالاً صلحاً عن دعواه صح) لأنه يجوز أن يعتق عبده بمال وليشرع للدافع لدفع اليمين الواجبة عليه والخصومة المتوجهة إليه.
(النوع الثاني) أن يصالحه عن الحق بغير جنسه فهو معاوضة وذلك مثل أن يعترف له بعين في يده أو دين في ذمته ثم يعوضه عن ذلك بما يجوز تعويضه به وهو ثلاثة أقسام (أحدها) أن يقر له بنقد فيصالحه على نقد آخر مثل أن يقر له بمائة درهم فيصالحه عنها بعشرة دنانير أو بالعكس فهذا صرف يشترط له شروط الصرف من التقابض في المجلس ونحوه (القسم الثاني) أن يعترف له بعروض فيصالحه على أثمان أو بالعكس فهذا بيع تثبت فيه أحكام البيع (الثالث) أن يصالحه على سكنى دار أو خذمة عبده أو على أن يعمل له عملاً معلوماً فتكون إجارة لها حكم سائر الإجارات فإن تلفت الدار أو العبد قبل استيفاء شئ من المنفعة انفسخت الإجارة ورجع بما صالح عنه، وإن تلفت بعد استيفاء بعض المنفعة انفسخت فيما بقي من المدة ورجع بقسط ما بقي، ولو صالحه على أن يزوجه أمته وكان ممن يجوز له نكاح الأماء صح وكان المصالح عنه صداقها فإن انفسخ النكاح قبل الدخول بأمر يسقط الصداق رجع الزوج بما صالح عنه وإن طلقها قبل الدخول رجع بنصفه (مسألة) (وإن صالحت المرأة بتزويج نفسها صح فإن كان الصلح عن عيب في مبيعها فتبين أنه ليس بعيب رجعت بأرشه لا بمهر مثلها)
إذا اعترفت امرأة لرجل بدين أو عين فصالحته على أن تزوجه نفسها صح ويكون صداقاً لها فإن كان المعترف به عيباً في مبيعها فبان أنه ليس بعيب كبياض في عين العبد ظنته عمى رجعت بأرشه لأن ذلك صداقها فرجعت به لا يمهر مثلها فإن لم يزل العيب ولكن انفسخ نكاحها بما يسقط صداقها رجع عليها بأرشه

(5/6)


(مسألة) (وإن صالح عما في الذمة بشئ في الذمة لم يجز التفرق قبل القبض لأنه بيع دين بدين) وقد نهى الشارع عنه (فصل) وإن صالحه بخدمة عبده سنة صح وكانت إجارة على ما ذكرنا فإن باع العبد في السنة صح البيع ويكون المشتري مسلوب المنفعة بقية السنة وللمصالح استياء منفعته إلى انقضاء السنة كما لو زوج أمته ثم باعها وأن يعلم المشتري بذلك فله الفسخ لأنه عيب وإن أعتق العبد في أثناء المدة صح عتقه لأنه مملوك يصح بيعه فصح عتقه كغيره، وللمصالح أن يستوفي نفعه في المدة لأنه أعتقه بعد أن ملك نفعه لغيره فأشبه مالو اعتق الامة المزوجة لحر ولا يرجع العبد على سيده بشئ لأنه ما أزال ملكه بالعتق إلا عن الرقبة والمنافع حينئذ مملوكة لغيره فلم تتلف منافعه بالعتق فلا يرجع بشئ ولأنه أعتقه مسلوب المنفعة فلم يرجع بشئ كما لو اعتق زمناً أو مقطوع اليدين أو أمة مزوجة وذكر القاضي وابن عقيل وجهاً إنه يرجع على سيده بأجر مثله وهو قول الشافعي لأن العتق اقتضى إزالة ملكه عن الرقبة والمنفعة جميعاً فلما لم تحصل المنفعة للعبد ههنا فكأنه حال بينه وبين منفعته ولنا أن إعتاقه لم يصادف للمعتق سوى ملك الرقبة فلم يؤثر الافيه كما لو وصى لرجل برقبة عبد ولآخر بمنفعته فأعتق صاحب الرقبة وكما لو أعتق أمه مزوجة قولهم إنه اقتضى زوال الملك عن المنفعة قلنا إنما يقتضي ذلك إذا كانت مملوكة له أما إذا كانت مملوكة لغيره فلا يقتضي إعتاقه إزالة ما ليس بموجود وإن تبين أن العبد مستحق تبين بطلان الصلح لفساد العوض ورجع المدعي فيما أقر له به وإن وجد العبد معيباً عيباً تنقص به المنفعة فله رده وفسخ الصلح وإن صالح على العبد عينه صح والحكم فيما إذا خرج مستحقاً أو معيباً كما ذكرنا (فصل) وإذا ادعى زرعاً في يد رجل فأقر له به ثم صالحه على دراهم جاز على الوجه الذي يجوز
بيع الزرع وقد ذكرناه في البيع، فإن كان الزرع في يد رجلين فأقر له أحدهما بنفصه ثم صالحه عليه قبل اشتداد حبة لم يجز لأنه إن كان الصلح مطلقاً أو بشرط التبقية لم يجز لأنه لا يجوز بيعه وإن شرط القطع لم يجز أيضاً لكونه لا يمكنه قطعه إلا بقطع زرع الآخر، ولو كان الزرع لواحد فاقر للمدعي بنصفه ثم صالحه عنه بنصف الأرض ليصير الزرع كله للمقر والارض بينهما نصفين فإن شرط القطع جاز لأن الزرع كله للمقر فجاز شرط قطعه ويحتمل أن لا يجوز لأن في الزرع ما ليس بمبيع وهو النصف الذي لم يقر به وهو في النصف الباقي له فلا يصح شرط قطعه كما لو شرط قطع زرع آخر في أرض أخرى، وإن صالحه منه بجميع الأرض بشرط القطع ليسلم الأرض إليه فارغة صح لأن قطع جميع الزرع مستحق نصفه بحكم الصلح والباقي لتفريغ الأرض فأمكن القطع وإن كان إقراره بجميع الزرع فصالحه من نصفه على نصف الأرض لتكون الأرض والزرع بينهما نصفين وشرطا القطع في

(5/7)


الجميع احتمل الجواز لأنهما قد شرطا قطع كل الزرع وتسليم الأرض فارغة واحتمل المنع لأن باقي الزرع ليس بمبيع فلا يصح بشرط قطعه في العقد (مسألة) (ويصح الصلح عن المجهول بمعلوم إذا كان مما لا يمكن معرفته للحاجة) يصح الصلح عن المجهول سواء كان عيناً أو ديناً إذا كان مما لا سبيل إلى معرفته قال أحمد في الرجل يصالح عن الشئ فان علم أنه أكثر منه لم يجز إلا أن يوقفه عليه إلا أن يكون مجهولاً لا يدري ما هو، ونقل عنه عبد الله إذا اختلط قفيز حنطة بقفيز شعير وطحنا فإن عرف قيمة دقيق الحنطة ودقيق الشعير بيع هذا وأعطي كل واحد منهما قيمة ماله إلا أن يصطلحا على شئ ويتحالا وقال ابن أبي موسى الصلح الجائز وصلح الزوجة من صداقها الذي لا بينة لها به ولا علم لها ولا للورثة بمبلغه وكذلك الرجلان تكون بينهما المعاملة والحساب الذي قد مضى عليه الزمن الطويل لاعلم لكل واحد منهما بما عليه لصاحبه فيجوز الصلح بينهما، وكذلك من عليه حق لا علم له بقدره جاز أن يصالح عليه وسواء كان الحق يعلم حقه ولا بينة له ويقول القابض إن كان لي عليك حق فأنت منه في حل ويقول الدافع إن كنت أخذت أكثر من حقك فأنت منه في حل وقال الشافعي
لا يصح الصلح على مجهول لأنه فرع البيع والبيع لا يصح على مجهول ولنا ماروي عن النبي صلى الله عليه وسلم في رجلين اختصما في مواريث درست (استهما وتوخيا وليحلل أحدكما صاحبه) رواه أحمد بمعناه وهذا صلح على المجهول ولأنه إسقاط حق فصح في المجهول كالعتاق ولأنه إذا صح الصلح مع العلم وإمكان أداء الحق بعينه فلأن يصح مع الجهل أولى وذلك لأنه إذا كان معلوماً فلهما طريق إلى التخلص وبراءة أحدهما من صاحبه بدونه ومع الجهل لا يمكن ذلك فلو لم يجز الصلح أفضى إلى ضياع المال على تقدير أن يكون بينهما مال لا يعرف كل واحد منهما قدر حقه منه ولا نسلم كونه فرع بيع وإنما هو إبراء وإن سلمنا كونه فرع بيع فإن البيع يصح في المجهول عند الحاجة كبيع أساسات الحيطان وطي الآبار وما مأ كوله في جوفه ولو اتلف رجل صبرة طعام لا يعلم قدرها فقال صاحب الطعام المتلفه بعتك الطعام الذي في ذمتك بهذا الدرهم أو بهذا الثوب صح.
إذا ثبت هذا فمتى كان العوض في الصلح مما لا يحتاج إلى تسليمه ولا سبيل إلى معرفته كالمختصمين في مواريث دارسة وحقوق سالفة أو في أرض أو عين من المال لا يعلم كل واحد قدر حقه صح الصلح مع الجهالة من الجانبين لما ذكرنا من الخبر والمعنى، وإن كان يحتاج إلى تسليمه لم يجز مع الجهالة ولا بد من العلم به لأن تسليمه واجب والجهالة تمنعه وتفضي إلى التنازع فلا يحصل مقصود الصلح (فصل) فأما ما يمكنهما معرفته كتركة موجودة أو يعمله الذي هو عليه ويجهله صاحبه فلا يصح

(5/8)


الصلح عليه مع الجهل أحمد أن صولحت امرأة من ثمنها لم يصح، واحتج بقول شريح أيما امرأة صولحت من ثمنها فلم يبين لها ما ترك زوجها فهي الريبة كلها، قال وإن ورث قوم مالاً أودورأ وغير ذلك فقالوا لبعضهم نخرجك من الميراث بألف درهم أكره ذلك، ولا يشتري منها شيئاً وهي لا نعلم لعلها تظن أنه قليل وهو يعلم أنه كثير ولا يشترى حتى نعرفه وتعلم ما هو، إنما يصالح الرجل الرجل على الشئ لا يعرفه ولا يدري ما هو؟ حساب بينهما فيصالحه، أو يكون رجل يعلم ماله عند رجل والآخر لا يعلمه فيصالحه فأما إذا علم فلم يصالحه إنما يريد أن يهضم حقه ويذهب به وذلك لأن الصلح إنما جاز مع الجهالة للحاجة إليه لإبراء الذمم وإزالة الخصام فمع إمكان العلم لا حاجة إلى الصلح مع الجهالة فلم يصح كالبيع
(فصل) قال الشيخ رضي الله عنه (القسم الثاني) أن يدعي عليه عينا أو ديناً فينكره ثم يصالحه على مال فيصح ويكون بيعاً في حق المدعى حتى أن وجد بما أخذه عيباً فله رده وفسخ الصلح) الصلح على الإنكار صحيح وبه قال مالك وأبو حنيفة وقال الشافعي لا يصح لأنه عاوض عما لم ثبت له فلم تصح المعاوضة كما لو باع مال غيره ولأنه عقد معاوضة خلاعن العوض في أحد جانبيه فبطل كالصلح على حد القذف ولنا عموم قول عليه السلام (الصلح بين المسلمين جائز) فيدخل هذا في عمومه فإن قالوا فقد قال (إلا صلحاً أحل حراماً) وهذا داخل فيه لأنه لم يكن له أن يأخذ من مال المد عى عليه فحل بالصلح قلنا

(5/9)


قلنا لا نسلم دخوله فيه ولا يصح حمل الحديث على ما ذكروه لوجهين (أحدهما) أن هذا يؤخذ في الصلح بمعنى البيع فإنه يحل لكل واحد منهما ما كان محرما عليه قبله وكذلك الصلح بمعنى الهبة فإنه يحل للموهوب له ما كان حراما عليه الثاني أنه لو حل به المحرم لكان الصلح صحيحاً فإن الصلح الفاسد يحل الحرام وإنما منعناه ما يتوصل به إلى تناول المحرم مع بقائه على تحريمه كما لو صالحه على استرقاق حر أو إحلال بضع محرم أو صالحه بخمر أو خنزير وليس ما نحن فيه كذلك وعلى أنهم لا يقولون بهذا فإنهم يبيحون لمن له حق يجحده غريمه أن يأخذ من ماله بقفره أو دونه فإذا حل له ذلك من غير اختياره ولا علمه فلان يحل برضاه وبذله أو لى وكذلك إذا حل مع اعتراف الغريم فلان يحل مع جحده وعجزه عن الوصول إلى حقه إلا بذلك أول ولأن المدعي ههنا يأخذ عوض حقه الثابت له والمدعى عليه يدفعه لدفع الشرعنه ويقطع الخصومة ولم يرد الشرع بتحريم ذلك في موضع ولأنه صلح يصح مع الأجنبي فصح مع الخصم كالصلح مع الإقرار، يحققه إنه إذا صح مع الأجنبي مع غناه عنه فلأن يصح مع الخصم مع حاجته إليه أولى، وقولهم إنه معاوضة قلنا في حقهما أو في حق أحدهما؟ الأول ممنوع والثاني مسلم وهذا لأن المدعي يأخذ عوض حقه من المنكر لعلمه بثبوت حقه عنده فهو معاوضة في حقه

(5/10)


والمنكر يعتقد أنه يدفع المال لدفع الخصومة واليمين عنه وتخلصه من شر المدعى فهوأبرأفى حقه
وغير ممتنع ثبوت المعاوضة في حق أحد المعاقدين دون الآخر كما لو اشترى عبداً شهد بحريته فإنه يصح ويكون معاوضة في حق البائع واستقاذا له من الرق في حق المشتري كذاههنا.
إذا ثبت هذا فلا يصح هذا الصلح إلا أن يكون المدعي شيئا معقتدا أن ما ادعاه حق والمدعى عليه يعتقد أنه لا حق عليه فيدفع إلى المدعي شيئاً افتداء ليمينه وقطعاً للخصومة وصيانة لنفسه عن التذل وحضور مجلس الحاكم فإن ذوي الأنفس الشريفة يصعب عليهم ذلك ويرون دفع ضررها عنهم من اعظم المصالح والشرع لا يمنعهم من وقاية أنفسهم وصيانتها ودفع الشر عنم ببذل أموالهم، والمدعي يأخذ ذلك عوضاً عن حقه الذي يعتقد ثبوته فلا يمنعه الشرع من ذلك، سواء كان المأخوذ من جنس حقه بقدر حقه أو دونه فإن أخذ من جنس حقه بقدره فقد استوفى حقه وإن اخذ دونه فقد استوفى بعضه وترك بعضه وإن أخذ من غير جنس حقه فقد أخذ عوضه ولا يجوز أن يأخذ من جنس حقه أكثر منه لأن الزائد لا مقابل له فيكون ظالماً بأخذه وإن أخذ من غير جنسه جاز ويكون بيعاً في حق المدعى لا عتقاده أخذه عوضاً فيلزمه حكم إقراره فإن وجد بما أخذه عيباً فله رده وفسخ الصلح كما لو اشترى شيئاً فوجده معيباً (مسألة) (وإن كان شقصاً مشفوعاً ثبتت فيه الشفعة ويكون إبراء في حق الآخر فلا يرد ما صولح عنه بعيب ولا يؤخذ بشفعة) إذا كان الذي أخذه المدعي شقصاً في دار أو عقار وجبت فيه الشفعة لأنه يقر ان الذي أخذه عوضاً فهو كما لو اشتراه ويكون أبرأ في حق المنكر لأنه دفع المال التداء ليمينه ودفعاً للضرر عنه لا عوضاً عن حق يعتقده فيلزمه أيضاً حكم اقراره، فان وجدبا لمصالح عنه عيباً لم يرجع به على المدعي لا عتقاده أنه ما أخذه عوضاً وإن كان شقصاً لم تثبت فيه الشفعة لأنه يعتقده على ملكه لم يزل وما

(5/11)


ملكه بالصلح ولو دفع المدعي عليه إلى المدعي ما ادعاه أو بعضه لم يثبت فيه حكم البيع ولا تثبت فيه الشفعة لأن المدعي يعتقد أنه استوفى بعض حقه وأخذ عين ماله مسترجعاً لها ممن هي عنده فلم يمن بيعاً كاسترجاع العين المغصوبة (مسألة) (فإن كان أحدهما عالماً بكذك نفسه فالصلح باطل في حقه وما أخذه حرام عليه)
متى علم أحدهما كذب نفسه كمن ادعى شيئاً يعلم أنه ليس له أو أنكر حقاً يعلم أنه عليه فالصلح باطل في الباطن لأن المدعي إذا كان كاذباً فما يأخذه أكل للمال بالباطل أخذه بشره وظللمه لا عوضا من حق فيكون حراماً عليه كمن خوف رجلاً بالقتل حتى أخذ ماله، وإن كان المدعي عليه يعلم صدق المدعي وجحده لينتقص حقه أو يرضيه عنه شئ فهو هضم للحق وأكل مال بالباطل فيكون ذلك حراماً والصلح باطل لا يحل له مال المدعي بذلك هذا حكم الباطن وأما الظاهر لنا فهو الصحة لأنا لا نعلم باطن الحال إنما نبني الأمر على الظاهر والظاهر من حال المسلمين الصحة، ولو ادعى على رجل وديعة أو قرضاً أو تفريطاً في وديعة أو مضاربة فأنكر واصطلحا صح لما ذكرناه (مسألة) (فإن صالح عن النمكر أجنبي بغير إذنه صح ولم يرجع عليه في أصح الوجهين) إذا صالح عن النمكر أجنبي صح سواء اعترف للمدعي بصحة دعواه أولم يعترف وسواء كان بإذنه أو بغير إذنه وقال أصحاب الشافعي إنما يصح إذا اعترف المدعي بصدقه وهذا مبني على صلح المنكر وقد ذكرناه.
ثم لا يخلوا الصلح أن يكون عن دين أو عين فإن كان عن دين صح سواء كان باذن المنكر أو بغير إذنه فإن علياً وأبا قتادة قضيا عن الميت فأجازه النبي صلى الله عليه وسلم وإن كان الصلح عن

(5/12)


عين باذن النمكر فهو كالصلح منه لأن الوكيل يقوم مقام الموكل وإن كان بغير إذنه فهو افتداء للمنكر من الخصومة وإبراء له من الدعوى وذلك جائز وفي الموضعين إذا صالح عنه بغير إذنه لم يرجع عليه بشئ لأنه أدى عنه مالا يلزمه أداؤه، وخرجه القاضي وابو الخطاب على الروايتين فيما إذا قضى دينه الثابت بغير أذنه وهذا التخريج لا يصح لأن هذا لم يثبت وجوبه على المنكر ولا يلزمه أداؤه إلى المدعي فكيف يلزمه أداؤه إلى غيره؟ ولانه أدى عنه مالا يجب عليه فكان متبرعاً كما لو تصدق عنه ومن قال برجوعه فإنه يجعله كالمدعي في الدعوى على المنكر أما أنه يجب له الرجوع بما ادعاه حتما فلاوجه له أصلاً لأن أكثر ما يجب لمن قضى دين غيره أن يقوم مقام صاحب الدين وصاحب الدين ههنا لم يجب له حق ولالزم الإداء إليه ولم يثبت له أكثر من جواز الدعوى فكذلك هذا ويشترط في جواز الدعوى أن يعلم صدق المدعي فأما إن لم يعلم لم يحل له دعوى شئ لا يعلم ثبوته
(مسألة) (وإن صالح الأجنبي لنفسه لتكون المطالبة له غير معترف بصحة الدعوى أو معترفاً بها عالماً بعجزه عن استنقاذها لم يصح وإن ظن القدرة عليه صح فإن عجز عنه فهو مخير بين فسخ الصلح وإمضائه) إذا صالح الأجنبي المدعي لنفسه لتكون المطالبة له فلا يخلو إما أن يعترف للمدعي بصحة دعواه

(5/13)


أولاً فإن لم يعترف له فالصح باطل لأنه يشتري منه ما لم يثت له ولم يتوجه إليه خصومة يفتدي منها اشبه مالو اشترى منه ملك غيره، وإن اعترف له بصحة دعواه: كان المدعي ديناً لم يصح لأنه اشترى مالا يقدر البائع على تسليمه ولأنه بيع للدين من غير من هو في ذمته، وقال بعض أصحابنا يصح وليس بجيد لأن بيع الدين المقر به من غير من هو في ذمته لا يصح فيع دين في ذمة منكر معجوز عن قبضه أولى، وإن كان المدعي عيناً فقال الأجنبي للمدعي أنا أعلم أنك صادق فصالحني عنها فإني قادر على استنقاذها من المنكر فقال أصحابنا يصح الصلح وهو مذهب الشافعي لأنه اشترى منه ملكه الذي يقدر على قبضه ثم إن قدر على أخذه استقر الصلح وإن عجز كان له الفسخ لأنه لم يسلم له المعقود عليه فكان له الرجوع إلى بدله يحتمل أنه إن تبين أنه لا يقدر على تسليمه تبين أن الصلح كان قاسدا لأن الشرط الذي هو القدرة على قبضه معدوم حال العقد كان فاسداً كما لو اشترى عبده فتبين أنه آبق أو ميت ولو اعترف له بصحة دعواه ولا يمكنه استنقاذه لم يصح الصلح لانه اشترى مالا يمكنه قبضه فأشبه شراء العبد الآبق فإن اشتراه وهو يظن أنه عاجز عن قبضه فتبين أن قبضه ممكن صح البيع لأن البيع تناول ما يمكن قبضه فصح كما لو علما ذلك ويحتمل أن لا يصح لأنه ظن عدم الشرط فأشبه ما لو باع عبداً يظن أنه حر أو عبد غيره فتبين أنه ومحتمل أن يفرق بين من يعلم أن البيع يفسد بالعجز عن تسليم المبيع وبين من لا يعلم ذلك لأن من يعلم ذلك معتقد فساد البيع والشراء فكان بيعه فاسداً

(5/14)


لكونه متلاعباً بقوله معتقداً فساده ومن لا يعلم يعتقده صحيحا وشروطه فصح كما لو علمه مقدوراً على تسلميه.
(فصل) فإن قال الأجنبي للمدعي أنا وكيل المدعى عليه في مصالحتك عن هذه العين وهو مقر لك
بها وإنما جحدها في الظاهر فظاهر كلام الخرقي إن الصلح لا يصح لأنه يجحدها في الظاهر لينتقص الدمعي بعض حقه أو يشتريه بأقل من ثمنه فهو هاضم للحق متوصل إلى أخذ المصالح عنه بالظلم والعدوان فهو بمنزلة مالو شافهه بذلك فقال أنا أعلم صحة دعواك وأن هذا لك لكن لا أسلمه إليك ولا أقر لك به عند الحاكم حتى تصالحني منه على بعضه أو عوض عنه، وقال القاضي يصح وهو مذهب الشافعي قالوا ثم ينظر الى المدعى عليه فإن صدقه على ذلك ملك العين ورجع الأجنبي عليه بما أدى عنه، وإن كان أذن في الدفع، وإن أنكر الأذن في الدفع فالقول قوله مع يمينه ويكون حكمه حكم من قضى دينه بغير إذنه وإن أنكر الوكالة فالقول قوله مع يمينه وليس للأجنبي الرجوع عليه ولا يحكم له بملكها في الظاهر، فأما حكم ملكها في الباطن فإن كان وكل الأجنبي في الشراء فقد ملكها لأنه اشترها بإذنه

(5/15)


فلا يقدح إنكاره في ملكها لأن ملكه ثبت قبل إنكاره، وإنما هو ظالم بالإنكار للأجنبي وإن كان لم يوكله لم يملكها لأنه اشترى له عيناً بغير إذنه ويحتمل أن يقف على إجازته كما قلنا فيمن اشترى لغيره شيئاً بغير إذنه بثمن في ذمته فإن أجازه ملكه وإلا لزم من اشتراه، وإن قال الأجنبي للمدعي قد عرف المدعى عليه صحة دعواك وهو يسألك أن تصالحه عنه وقد وكلني في المصالحة عنه صح وكان الحكم كما ذكروه لأنه ههنا لم يمتنع من أدائه بل اعترف به وصالح عليه مع بدله فأشبه مالو لم يجحده (فصل) قال الشيخ رحمه الله (يصح عن القصاص بديات وبكل ما يثبت مهراً) وجملة ذلك أن الصلح يجوز عن كل ما يجوز أخذ العوض عنه سواء كان مما يجوز بيعه أو لا يجوز فيصح عن دم العمد وسكنى الدار وعيب المبيع ومتى صالح عما يوجب القصاص بأكثر من ديته أو أقل جاز وقد روي أن الحسن والحسين وسعيد بن العاص بذلوا للذي وجب له القصاص على هدبة اين خشرم سبع ديات فأبى أن يقبلها ولأن المال غير متعين فلا يقع العوض في مقابلته وإن صالح عن

(5/16)


القصاص بعبد فخرج مستحقا رجع بقيته في قول الجميع وإن خرج حراً فكذلك وبه قال أبو يوسف ومحمد وقا أبو حنيفة يرجع بالدية لأن الصلح فاسد فيرجع ببدل ما صالح عنه وهو الدية
ولنا أنه تعذر تسليم ما جعله عوضاً فرجع في قيمته كما لو خرج مستحقاً، فإن صالحه عن القصاص يحر يعلمان حريته أو عبد يعلمان أنه مستحق أو تصالحا بذلك عن غير القصاص رجع بالدية وبما صالح عنه لأن الصلح باطل يعلمان بطلانه فكان وجوده كعدمه (فصل) وإن صالح عن دار أو عبد بعوض فخرج العوض مستحقاً أو حراً رجع في الدار وما صالح عنه أو بقيمته إن كا بالغا لان الصل ههنا مع في الحقيقة فإذا تبين أن العوض كان متسحقا أو حراً كان البيع فاسداً فرجع فيما كان له بخلاف الصلح عن القصاص فإنه ليس ببيع وإنما يأخذ عوضاً عن إسقاط القصاص ولو اشترى شيئاً فوجده معيباً فصالحه عن عبيه بعبد فبان مستحقاً أو حراً رجع بأرش العيب.
(مسألة) (ولو صالح سارقاً ليطلعه أو شاهداً ليكتم شهادته أو شفيعاً عن شفعته أو مقذوفاً عن حده لم يصح الصلح وتسقط الشفعة وفي الحد وجهان)

(5/17)


إذا صالح السارق والزاني والشارب على أن لا يرقفعه إلى السلطان لم يصح ولا يجوز أخذا العوض عنه لأن ذلك ليس بحق فلا يجوز أخذ العوض عنه كسائر ما لا حق فيه، وإن صالح شاهداً ليكتم شهادته لم يصح لأنه لا يخلو من ثلاثة أحوال (أحدها) أن يصالحه على أن لا يشهد عليه بحق تلزمه الشهادة به كدين الآدمي أو حق لله تعالى لا يسقط بالشبهة كالزكاة ونحوها غفلا يجوز كما نه ولا يجوز أخذ العوض عن ذلك كما لا يجوز أخذ العوضن عن شرب الخمر.
(الثاني) أن يصالحه على أن لا يشهد عليه بالزور فهذا يجب عليه ترك ذلك ويحرم عليه فعله لم يجز أخذ العوض عنه كما لا يجوزان يصالحه على أن لا يقتله ولا يغصب ماله (الثالث) أن يصالحه على أن لا يشهد عليه بما يوجب حد الزنا والسرقة فلا يجوز أخذ العوض عنه لأنه ليس بحق له وإن صالح عن حق الشفعة لم يصح لأنه حق شرع على خلاف الأصل لدفع ضرر الشركة فإذا رضي بالتزام الضرر سقط الحق من غير بدل ولم يجز العوضع نه لأنه ليس بمال فهو كحد القذف وإن صالحه عن حد الفذ ف لم يصح الصلح لأنه إن كان حد الله تعالى لم يكن له أن

(5/18)


يأخذ عوضه لكونه ليس بحق له فأشبه حد الزنا والسرقة ان كان حقاً له لم يجز الاعتياض عنه لكونه حقاً ليس بمال ولهذا لا يسقط إلى بدل بخلاف القصاص ولأنه شرع لتنزيه العرض فلا يجوز أن يعتاض عن عرضه بمال، وهل يسقط بالصلح فيه؟ بنبني على الخلاف في كون حدالقذف حقالله تعالى أو لآدمي فإن كان حقاً لله تعالى لم يسقط بصلح الآدمي بالاإسقاطه كحد الزنا وإن كان حقاً لآدمي سقط بصلحه وإسقاطه كالقصاص.
(مسألة) (وإن اصالحه أن يجري على أرضه أو سطحه ماء معلوماً صح) إذا صالح رجل على موضع قناة من أرضه يجري فبها ماه وبينا موضعها وعرضها وطولها جاز لأن ذلك بيع لموضع من أرضه فلا حاجة الى بيان عمقه لأنه إذا ملك الموضع كان له إلى تخومه فله أن بترك فيه ما شاء، وإن صالحه على إجراء الماء في ساقية من أرض رب الأرض مع بقاء ملكه عليها فهو إجارة للأرض يشترط له تفدير المدة فإن كانت الأرض في يد رجل بإجارة جاز له أن يصالح رجلاً على إجراء

(5/19)


الماء فيها في ساقية محفورة مدة لا تجاوز مدة الإجارة وإن لم تكن الساقية محفورة لم يجز أن يصالحه على ذلك لأنه لا يجوز أحداث ساقية في أرض في يده بإجارة، فإن كانت الأرض في يده وقفاً عليه فقال القاضي هو كالمستأجر يجوز له أن يصالح على إجراء الماء في ساقية لأنه لا يملكها إنما يستوفي منفعتها كالأرض المستأجرة وهذا كله مذهب الشافعي قال شيخنا والأولى أنه يجوز له حفر الساقية لأن الأرض له وله التصرف فيها كيفما شاء ما لم ينقل الملك فيها إلى غيره بخلاف المستأجر فإنه إنما يتصرف فيها بما أذن له فيه فكان الموقوف عليه بمنزلة المستأجر إذا أذن له في الحفر، فإن مات الموقوف عليه في أثناء المدة فهل لمن انتقل إليه فسخ الصلح فيما بقي من المدة؟ على وجهين بناء على ما إذا أجره مدة فمات في أثناء المدة فإن قلنا له فسخ الصلح ففسخه رجع المصالح على ورثة الذي صالحه بقسط ما بقي من المدة وإن قلنا ليس له الفسخ رجع من انتقل إليه الوقف على الورثة (فصل) وإن صالح رجلاً على إجراء ماء سطحه من المطر على سطحه أو في أرضه عن أرضه جاز
إذا كمان ما يجري ماؤه معلوماً إما بالمشاهدة وإما بمعرفة المساحة لأن الماء يختلف بصغر السطح وكبره

(5/20)


ولا يمكن ضبطه بغير.
ويشترط معرفة الموضع الذي يخرج منه لماء إلى السطح لأن ذلك يختلف ولا يفتقر إلى ذكر مدة لأن الحاجة تدعوإلى ذلك، ويجوز العقد على المنفعة في موضع الحاجة غير مقدر بمدة كما في النكاح، ولا يملك صاحب الماء مجراه لأن هذا لا يستوفي به منافع المجرى دائما ولا في أكثر المدة بخلاف الساقية، ويختلفان أيضاً في أن الماء الذي في الساقية لا يحتاج إلى ما يقدر به لأن تقدير ذلك حصل بتقدير الساقية فإنه لا يملك أن يجري فيها أكثر من مثلها والماء الذي على السطح يفتقر إلى معرفة قدر السطح لأنه يجري منه القليل والكثير، فإن كان السطح الذي يجري عليه الماء مستأجراً أو عارية لم يجز أن يصالح على إجراء الماء عليه لأنه يتضرر بذلك ولم يوذن له فيه فلم يكن له أن يتصرف به بخلاف الماء في الساقية المحفورة فإن الأرض لا قتضرر به، وإن كان ماء السطح يجري على الأرض احتمل أن لا يجوز له الصلح على ذلك لأنه إن احتاج إلى حفر لم يجز له أن يحفر في أرض غيره ولأنه يجعل لغير صاحب الأرض رسماً فربما ادعى استحقاق ذلك على صاحبها، واحتمل الجواز إذا لم يحتج إلى حفر ولم يكن فيه مضرة لأنه بمنزلة إجراء الماء في ساقية محفورة ولا يجوز إلا مدة لا تزيد على مدة الإجارة كما قلنا في إجراء الماء في الساقية

(5/21)


(فصل) وإذا أراد أن يجري ماء في أرض غيره لغير ضرورة لم يجز إلا بإذنه وإن كان لضرورة مثل أن يكون له أرض للزراعة لها ماء لا طريق له الاارض جاره فهل له ذلك؟ على روايتين (إحداهما) لا يجوز لأنه تصرف في أرض غيره بغير إذنه فلم يجز كما لو لم تدع إليه ضرورة ولان مثل هذه الحاجة لا تبيح مال غيره بدليل أنه لا يباح له الزرع في أرض غيره ولا البناء فبها ولا الانتفاع بشئ من منافعها المحرمة عليه بمثل الحاجة (والأخرى) يجوز لما روي أن الضحاك بن خليفة ساق خليجاً من العريض فأراد أن يمر به في أرض محمد بن مسلمة فأبى فقال له الضحاك لم يمعني وهو منفعة لك تشربه أو لا وآخر أو لا يضرك فأبى محمد فكلم فيه الضحاك عمر فدعا عمر محمد بن مسلمة وأمره أن يخلي سبيله فقال محمد لا والله فقال عمر لم تمنع أخاك
ما بنفعه وهو لك افع؟ تشربه أو لا وآخرا فقال محمد لا والله فقال عمر والله لميرن به ولو على بطلنك فأمره عمر أن يمر به ففعل.
رواه مالك في الموطأ وسعيد في سننه والأول أقيس وقول عمر بخالفه قول محمد بن مسلمة وهو موافق للاصول فكان أولى (فصل) وإن صالح رجلاً على أن يسقي أرضه من نهر الرجل يوماً أو يومين أو من عينه وقدرة بشئ يعلم به لم يجز ذكره القاضي لأن الماء ليس بمملوك ولا يجوز بيعه فلا يجوز الصلح عليه ولأنه

(5/22)


مجهول قال وإن صالحه على سهم من العين أو النهر كالثلث والربع جاز وكان بيعاً للقرار والماء تابع له ويحتمال أن يجوز الصلح على السقي من نهره وقناته لأن الحاجة تدعو إلى ذلك والماء مما يجوز أخذ العوض عنه في الجملة بدليل مالو أخذه في قربته والصلح يجوز على مالا يجوز بيعه بدليل الصلح عن دم العمد والصلح على المجهول (مسألة) (ويجوز أن يشتري ممرأفي دار وموضعاً في حائطه يفتحه باباً، وبقعة بحفرها بئراً) لأن، هذه الاما كن يجوز بيعها وإجارتها فجازا لاعتياض عنها كالدور (مسألة) (وإن يشتري علو بيت بيني عليه بنياناً موصوفاً) إذا كان البيت مبينا لما ذكرناه (فإن كان البيت غير مبنيي لم يجز في أحد الوجهين) ذكر الفااضي وأصحاب الشافعي لأنه مبيع للهواء دون القرار والثاني بجوز لأنه ملك للمصالح فجاز له أخذ عوضه كالقرار وإنما يجوز بشرط أن يصف العلوو السفل بما يعلم به لأن من شرط صحة البيع العلم بالمبيع (مسألة) (وإن حصل في هوائه أغصان شجرة غيره فطالبه بالزالتها فله ذلك فإن ابى فله فطعها) وجملة ذلك أنه إذا حصلت أغصان شجرته في هواء ملك غيره أو هوا جدار له فيه شركة لزم

(5/23)


مالك الشجرة إزالة تلك الأغصان إما بردها إلى ناحية أخرى وإما بالقطع لأن الهواء ملك لصا حب القرار فوجب إزالة ما يشغله من ملك غيره كالقرار فإن امتنع المالك من إزالته لم يجبر لأنه من غير فعله فلم يجبر على إزالته كما لو لم يكن ملكه وإن تلف بها شئ لم يضمنه لذلك ويحتمل أن يجبر على
إزالته ويضمن ما تلف به إذا امر بالزالته فلم يفعل بناء على ما إذا مال حائطه إلى ملك غيره عليما نذكره إن شاء الله تعالى، وعلى كلى الوجهين إذا امتنع من إزالته كان لصاحب الهواء إزالته بأحد الأمرين لأنه بمنزلة البهيمة التي تدخل داره له إخراجها كذا ههنا وهذا مذهب الشافعي، فان امكنه إرالته بلا إتلاف ولا يقطع من غير مشقة تلزمه ولا غرامة لم يجز له إتلافها كما أنه إذا أمكنه إخراج الهبيمة من غير إتلاف لم يجز له إتلافها فإن أتلفها في هذه الحال غرمها، وإن لم يمكله إزالتها إلا بالإتلاف فله ذلك ولا شئ عليه فإنه لا يلزمه إقرار مال غيره في ملكه (مسألة) (فإن صالحه عن ذلك بعوض لم يجز) اختلف أصحابنا في ذلك فقال أبو الخطاب لا تصح المصالحة عن ذلك بحال رطبا كان الغصن أو يابساً لأن الرطب يزيد ويتغير واليابس ينقص وربما ذهب كله، وقال ابن حامد وابن عقيل يجوز ذلك رطبا كان اغصن أو يابساً لأن الجهالة في المصالح عنه

(5/24)


لا تمنع الصحة لكونها لا تمنع التسليم بخلاف العوض فإنه يفتقر إلى العلم لوجوب تسليمه ولأن الحاجة داعية إلى ذلك لكون ذلك يكثر في الأملاك المتجاورة وفي القطع إتلاف وضرر والزيادة المتجددة يعفى عنها كالسمن الحادث في المستأجر للركوب والمستأجر للغرفة يتجدد له أولاد والغراس المستأجر له الأرض يعظم ويجفو وقال القاضي إن كان يابساً معتمداً على نفس الجدار صحت المصالحة عنه ولأن الزيادة مأمونة فيه ولا يصح الصلح على غير ذلك لأن الرطب يزيد في كل وقت وما لا يعتمد على الجدار لا يصح الصلح عليه لأنه تبع الهواء وهذا مذهب الشافعي قال شيخنا واللائق بمذهب أحمد صحته لأن الجهالة في المصالح عنه لا تمنع الصحة إذا لم يكن إلى العلم به سبيل وذلك لدعاء الحاجة إليه وكونه لا يحتاج إلى تسليم وهذا كذلك والهواء كالقرار في كونه ملكاً لصاحبه فجاز الصلح على ما فيه كالذي في القرار (مسألة) (وإن اتفقا على أن الثمرة له أو بينهما جاز ولم يلزم) وجملة ذلك أنه إذا صالحه عن ذلك بجزء من الثمرة أو بالثمرة كلها فقد نقل المروذي واسحاق بن إبراهيم عن أحمد أنه سئل عن ذلك فقال لا أدري فيحتمل أن يصح، ونحوه قال مكحول فإنه نقل عنه

(5/25)


أنه قال أيما شجرة ظللت على قوم فهم بالخيار بين قطع ما ظلل أو أكل ثمرها، ويحتمل أن لا يصح وهو قول الأكثر وبه قال الشافعي لأن العوض مجهول فإن الثمرة مجهولة وجزؤها مجهول ومن شرط الصلح العلم بالعوص ولأن المصالح عليه أيضاً مجهول لأنه يزيد ويتغير على ما أسلفناه، ووجه الأول أن هذا مم يكثر في الأملاك وتدعوا الحاجة إليه وفي القطع إتلاف فجاز مع الجهالة كالصلح على مجرى مياه الأمطار وعلى المواريث الدارسة والحقوق المجهولة التي لا سبيل إلى علمها قال شيخنا ويقوى عندي أن الصلح هنا يصح بمعنى أن كل واحد منهما ييح صاحبه ما بذل له فصاحب الهواء يبيح صاحب الشجرة إبقاءها ويمتنع من قطعها وإزالتها وصاحب الشجرة يبيحه ما بذل له من ثمرتها ولا يكون هذا بمعنى البيع لأن البيع لا يصح بمعدوم ولا مجهول والثمرة في حال الصلح معدومة مجهولة ولا هو لازم بل لكل واحد منهما الرجوع عا بذله والعود فيما قاله لأنه مجرد إباحة من كل واحد منهما لصحابه فجرى مجرى قول كل واحد منهما لصاحبه أسكن داري وأسكن دارك من غير تقدير مدة ولا ذكر شروط الإجارة أو قوله أيحتك الأكل من ثمرة بستاني فابخمي الأكل من ثمرة بستانك وكذك قوله دعني

(5/26)


أجري في أرضك ماء ولك أن تسقى به ما شئت وتشرب منه ونحو ذلك فهذا مثله بل أولى فإن هذا مما تدعو الحاجة إليه كثيراً وفي إلزام القطع ضرر كثيرو إتلاف أموال كثيرة وفي الترك من غير نفع يصل صاحب الهواء ضرر عليه، وفيما ذكرناه جمع بين الأمرين ونظر للفريقين وهو على وفق الأصول فكان أولى.
(فصل) وكذلك الحكم فيما امتد من عروق شجر إنسان إلى أرض جاره سواء أثرت ضرراً مثل تأثيرها في المصانع وطي الآبار وأساس الحيطان أو منعها من نبات شجر لصاحب الأرض أو زرع أو لم توثر فإن الحكم في قطعه والصلح عنه كالحكم في الفروع إلا أن العروق لا ثمرلها فإن اتفقا على أن ما ينبت من عروقها لصاحب الأرض أو جزء معلوم منه فهو كالصلح على الثمرة فيما ذكرنا، فعلى قولنا إذا اصطلحا على ذلك فمضت مدة ثم أبى صاحب الشجرة دفع نباتها إلى صاحب الأرض فعليه
أجر المثل لأنه إنما تركه في أرضه لهذا فلما لم يسلم له رجع بأجر المثل كما لو بذلها بعوض لم يسلم له وكذلك فيمن مال حائطه إلى هواء ملك غيره أوزلف من أخشابه إلى ملك غيره فالحكم فيه على ما ذكرنا

(5/27)


(مسألة) (ولا يجوز أن يشرع إلى طريق نافذ جناحاً ولا ساباطاً ولا دكانا) الجناح والروشن يكون على أطراف خشبة مدفونة في الحائط وأطرافها خارجة إلى الطريق الأولى وهو المستوفي لهواء الطريق كله عليه جدارين سواء كان الجداران ملكه أولم يكونا اذان الإمام في ذلك أولم يأذن، وقال ابن عقيل إن لم يكن فيه ضرر جاز بإذن الإمام فجرى إذنه مجرى إذن المشتركين في الدوب الذي ليس بنافذ، وقال أبو حنيفة يجوز من ذلك مالا ضرر فيه وإن عارضه رجل من المسلمين وجب ققعله، وقال مالك والاوزاعي والشافعي واسحاق وأبو يوسف ومحمد يجوز إذا لم يضر بالمارة ولا يملك أحد منعه لانه ارتفق بما لم يعتعين ملك أحد فيه من غير مضرة فأشبه المشي في الطريق والجلوس فيها واختلفوا في الذي لا يضر ما هو فقال بعضهم إن كان في شارع تمر فيه الجبوش فيكون يحيث إذا سار فيه الفارص ورمحه منصوب لا يبلغه وقال أكثرهم لا يقدر بذلك بل يكون بحيث لا يضر بالعماريات والمحامل.
ولنا أنه بنى في ملك غيره بغير إذنه فلم يجز كبناء الدكة أو بناء ذلك في درب غير نافذ بغير إذن أهله، ويفارق المرور في الطريق فاناها جعلت لذلك ولا مضرة فيه والجلوس لا يدوم ولا يمكن التحرز

(5/28)


منه ولا نسلم أنه لا مضره فيه فإنه يظلم الطريق وربما سقط على المارة أو سقط منه شئ وقد تعلوا الأرض يمرور الزمان فيصدم رءوس الناس ويمنع مرور الدواب بالأحمال ويقطع الطريق الاعلى الماشي وقد رأينا مثل هذا كثيراً، وما يفضي إلى الضرر في ثاني الحال يجب المنع منه في ابتدائه كما لو أراد بناء حائط مائل إلى الطريق يخشى وقوعه على من يمر فيها ولنا على أبي حنيفة أنه بنى في حق مشترك لو منع منه بعض أهله لم يجز فلم يجز فلم يجز بغير إذنهم كما لو أخرجه إلى هواء دار مشتركة وذلك لأن حق الآدمي لا يجوز لغيره التصرف فيه بغير إذنه وإن كان ساكناً كما لا يجوز إذا منع فإما الدكان فلا يجوز بناؤه في الطريق بغير خلاف علمناه سواء كان الطريق
وواسعا أو لا وسواء أذن فيه الإمام أولم يأذن لأنه بناء في ملك غيره بغير إذنه ولأنه يؤذي المارة يضيق عليهم ويعثر به العائر أشبه مالو كان الطريق ضيقاً.
(فصل) ولا يجوز إخراج الميازيب إلى الطريق الأعظم ولا إلى درب غير نافذ إلا بإذن أهله وقال أبو حنيفة ومالك والشافعي يجوز إخراجه إلى الطريق الأعظم لأن عمر اجتاز على دار العباس

(5/29)


وقد نصب ميزاباً إلى الطريق فقلعه فقال العباس تقلعه وقد نصبه رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده فقال والله لا نصبته إلا على ظهري وانحنى حتى صعد على ظهره فنصبه وما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم فلغيره فعله ما لم يقم دليل على اختصاصه به ولأن الحاجة تدعو إلى ذلك ولا يمكنه رد مائه إلى الدار ولأن الناس يعملون ذلك في جميع بلاد الإسلام من غير نكير ولنا أن هذا تصرف في هواء مشترك بينه وبين غيره بغير إذنه فلم يجز كما لو كان الطريق غير نافذ ولأنه يضر بالطريق وأهلها فلم يجز كبناء دكة فيها أو جناح يضر بأهلها ولا يخفي ما فيه من الضرر فإن ماءه يقع على المارة وربما جرى فيه البول أو ماء نجس فبنجسهم ويزلق الطريق ويجعل فيها الطين والحديث قضية في عين فيحتمل أنه كان في درب غير نافذ أو تجددت الطريق بعد نصبه ويحتمل أن يجوز ذلك لأن الحاجة داعية إليه والعادة جارية به مع ما فيه من الخبر المذكور (مسألة) (ولا يجوز أن يفعل ذلك في ملك إنسان أو درب غير نافذ إلا بإذن أهله) أما في ملك الإنسان فلا يجوز بغير إذنه لأنه تصرف في ملك الغير فلم يجز بغير إذنه فلا يجوز ذلك في الدرب وبه قال الشافعي في الجناح والساباط إذا لم يكن له في الدرب باب، وإن كان له في الدرب باب فقد اختلف أصحابه فمنهم من منعه أيضاً ومنهم من أجاز له إخراج الجناح والساباط لأن له في الدرب استطراقا فملك ذلك كما يملكه في الدرب النافذ

(5/30)


ولنا أنه بناء في هواء ملك قوم معينين أشبه إذا لم يكن له فيه باب ولا نسلم الأصل اذي قاسوا عليه فإن أذن أهل الدرب فيه جاز لأن الحق لهم فجاز بإذنهم كما لو كان لمالك واحد
(مسألة) (وإن صالح عن ذلك بعوض جاز في أحد الوجهين) وقال القاضي وأصحاب الشافعي لا يجوز في الجناح والساباط لأنه بيع للهواء.
دون القرار ولنا أنه يبني فيه بإذنهم فجاز كما لو أذنوا له بغير عوض ولأنه ملك لهم فجاز لهم أخذ عوض كالقرار إذا ثبت هذا فإنما يجوز بشرط كون ما يخرجه معلوم المقدر في الخروج والعلو وهكذا الحكم فيما إذا أخرجه إلى ملك إنسان معين يجوز بإذنه بعوض وبغيره إذا كان معلوم المقدار (فصل) ولا يجوز أن يحفر في الطريق النافذة بئرا لنفسه سواء جعلها لماء المطر أو ليستخرج منها ماء ينتفع به ولا غير ذلك لما ذكرنا من قبل، وإن اراد حفرها للمسليمن ونفعهم أو لنفع الطريق مثل أن يحفرها ليسقي الناس من مائها ويشرب منه المارة أو لينزل فيها ماء المطر عن الطريق نظرنا

(5/31)


فإن كان الطريق ضيقاً أو كانت في ممر الناس بحيث يخاف سقوط إنسان فيها أو دابة أو يضيق عليهم ممرهم لم يجز لأن ضررها أكثر من نفعها، وإن حفرها في زاوية من طريق واسع وجعل عليها ما يمنع الوقوع فيها جاز لأن ذلك يقع بلا ضرر فجاز كتمهيدها وبناء رصيف فيها فأما ما فعله في درب غير فافذ فلا يجوز بغير إذن أهله لأن هذا ملك لقوم معينين فلم يجز فعل ذلك بغير إذنهم كما لو فعله في بستان إنسان، ولو صالح أهل الدرب عن ذلك بعوض جاز سواء حفرها لنفسه ليزل فيها ماء المطر عن داره أو ليستقي منها ماء لنفسه أو حفرها للسبيل ونفع الطريق وكذلك إن فعل ذلك في ملك إنسان معين (مسألة) (وإذا كان ظهر داره في درب غير نافذ ففتح فيه باباً لغير الاستطراق جاز) لأن له رفع جميع حائطه فبعضه أولى.
قال ابن عقيل ويحتمل أن لا يجوز لأن شكل الباب مع تقادم العهد ربما استدل به على حق الاستطراقن فيضرباهل الدرب بخلاف رفع الحائط فإنه لا يدل على شئ (مسألة) (وإن فتحه للإستطراق لم يجز بغير إذنهم) لأنه ليس لهم حق في الدرب الذي هو ملك غيره وفيه وجه آخر أنه يجوز لأن له رفع جميع والأول أولى لأن الدرب لاحق له فيه فلم يجز أن يجعل له فيه حق استطراق فإن صالحهم جاز لأن الحق لهم فأشبه دورهم إذا صالحهم على شئ منها

(5/32)


(فصل) وإن كان ظهر داره إلى زقاق نافذ ففتح في حائطه باب اليه جاز لأنه يرتفق بما لم يتعين ملك أحد عليه فإن قيل هذا فيه إضرار بأهل الدرب لأنه يحعله نافذاً يستطرق إليه من الشارع قلنا لا يصير الدرب نافذاً وإنما تصير داره نافذة وليس لأحد استطراق داره (مسألة) (ولو كان بابه في آخر الدرب ملك نقله إلى أوله ولم يملك نقله إلى داخل منه في أحد الوجهين) كان له لأن حقه لم يسقط، فاما ان أراد نقل بابه إلى تلقاء صدر الزقاق لم يكن له ذلك نص عليه أحمد لأنه يقدم بابه إلى موضع لا استطراق له فيه، وفيه وجه آخر أنه يجوز لأنه كان له أن يجعل بابه في أول البناء في أي موضع شاء فتركه في موضع لا يسقط حقه كما أن تحويله بعد فتحه لا يسقطه ولأن له أن يرفع حائطه كله فلم يمنع من رفع بعضه والأول أولى لأنه لا يلزم من جواز رفع الحائط جواز الاستطراق كالمسألة التي قبلها (فصل) وإن كان في الدرب بابان لرجلين أحدهما قريب من باب الزقاق والآخر في داخله فأراد صاحب الداخل أن يحول بابه فله تحويله حيث شاء لأنه لا منازع له فيما يجاوز الباب الأول إذا قلنا

(5/33)


أن صاحب القريب ليس له أن يقذمه إلى داخل الدرب وإن قلنا له تقديمه جاز لكل واحد منهما فان كان في داخل الدرب باب لثالث فحكم الأوسط حكم الأول فيما ذكرناه (فصل) إذا كان لرجل داران متلاصقتان ظهر كل واحدة منهما إلى ظهر الأخرى وباب كل واحدة منهما إلى درب غير نافذ فرفع الحاجز بينهما وجعلهما دار واحدة جاز لأنه تصرف في ملكه المختص وإن فتح من كل واحدة منهما بابا إلى الأخرى ليتمكن إلى التطرق من كل واحدة منهما إلى كلى الدربين فقال القاضي لا يجوز لأن ذلك يثبت الاستطراق في الدرب الذي لا ينفذ من دار لم يكن لها فيه طريق ولأنه ربما أدى الى إثبات الشفعة في قول من يثبتها بالطريق لكل واحدة من الدارين في زقاق الأخرى، ويحتمل جواز ذلك لأن له رفع الحاجز جميعه فبعضه أولى قال شيخنا وهذا أشبه وما ذكرناه للمنع ينتقض بما إذا رفع الحائط جميعه، وفي كل موضع قلنا ليس له فعله إذا صالحه أهل الدرب
جاز وكذلك إن أذنوا له بغير عوض

(5/34)


(فصل) إذا تنازع صاحبا البابين في الدرب ولم يكن فيه باب لغيرهما ففيه ثلاثة أوجه (أحدها) أنه يحكم بالدرب من أوله الى الباب الذي يليه بينهما لأن لهما الاستطراق فيه جميعاً وما بعده إلى صدر الدرب للأخر لأن الاستطراق في ذلك له وحده فله اليد والتصرف (والثاني) أن من أوله الى أقصى حائط الأول بينهما لأن ما يقابل ذلك فلهما التصرف فيه بناء على أن للأول أن يفتح بابه فيما شاء من حائطه والباقي للثاني لأنه ليس بفناء للأول ولا له فيه استطراق والثالث يكون بينهما لأن لهم يداً وتصرفاً، وهكذا الحكم فيما إذا كان لرجل علو خان ولآخر سفله ولصاحب العلو درجة في أثناء صحن الخان فاختلفا في الصحن فالذي من الدرجة إلى باب الخان بينهما وما زاد على ذلك إلى صدر الخان على الوجهين، فإن كانت الدرجة في صدر الصحن فالصحن بينهما لوجود اليد والتصرف منهما جميعاً فعلى الوجه الذي يقول أن صدر الدرب مختص بصاحب الباب الصدراني له أن يستبد له أن يستبد بما يختص به منه بان

(5/35)


يجعله دهليز النفسه أو يدخله في داره على وجه لا يضر بجاره ولا يضع على حائطه شيئاً لأن ذلك ملك له ينفرد به (مسألة) (وليس له أن يفتح في حائط جاره ولا الحائط المشترك روزنة ولا طاقاً بغير إذن صاحبه) لأن ذلك انتفاع بملك غيره وتصرف فيه بما يضره وكذلك لا يجوز أن يغرز فيه وتداً ولا يحدث عليه حائطاً ولا سترة ولا يتصرف فيه بنوع تصرف لأنه يضر بحائط غيره فهو كنقصه وإن صالحه على ذلك بعوض جاز فأما الاستناد إليه واسناد شئ لا يضره فلا بأس به لكونه لا مضره فيه ولا يمكن التحرز منه أشبه الاستظلال به (مسألة) (وليس له وضع خشبة عليه الاعند الضرورة بأن لا يمكنه التسقيف إلا به) أما وضع خشبة عليه فلا يجوز إذا كان يضر بالحائط لا نعمل فيه خلافاً لقول النبي صلى الله عليه وسلم (لا ضرر ولا ضرار) وإن كان لا يضر به إلا أن به عنه غنى لامكان وضعه على غيره فقال أكثر أصحابنا لا يجوز أيضاً وهو قول الشافعي وأني ثور لأنه انتفاع بملك غيره بغير إذنه من غير ضرورة فلم يجز كبناء

(5/36)


حائط عليه واختار ابن عقيل جوازه لما روى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (لا يمنع أحدكم جاره أن يضع خشبة على جداره) متفق عليه ولأن ما أبيح للحاجة العامة لم يعتبر فيه حقيقة الحاجة كالشفعة والفسخ بالخيار أو بالعيب واتخاذ الكلب للصيد وإباحة السلم ورخص السفر وغير ذلك، فأما ان دعت الحاجة إلى وضعه على جدار جاره أو الحائط المشترك بحيث لا يمكنه التسقيف إلا به فإنه يجوز وضعه بغير إذن الشريك وهو قومل الشافعي في القديم وقال في الجديد ليس له وضعه وهو قول أبي حنيفة ومالك لأنه انتفاع بملك غيره من غير ضرورة فلم يجز كزراعته ولنا الخبر وانه انتفاع بحائط جاره على وجه لا يضر به أشبه الاستناد إليه والاستظلال به ويفارق الزرع فإنه يضر ولم تدع إليه حاجة.
إذا ثبت هذا فاشترط القاضي وابو الخطاب للجواز أن يكون له حائط واحد ولجاره ثلاثة حوائط، وليس هذا في كلام أحمد إنما قال في رواية أبي داود لا يمنعه إذا لم

(5/37)


يكن فيه ضرور كان الحائط يبقى ولأنه قد يمتنع التسقيف على حائطين إذا كانا غير متقابلين أو كان البيت واسعاً يحتاج إلى أن يجعل إليه جسراً ثم يضع الخشب على ذلك الجسر، قال شيخنا والأولى اعتباره بما ذكرنا من امتناع التسقيف بدونه، ولا فرق فيما ذكرنا بين البالغ واليتيم والعاقل والمجنون لما ذكرنا (مسألة) (وعنه ليس له وضع خشبة على جدار المسجد وهذا تنبيه على أنه لا يضعه على جدار جاره) اختلفت الرواية عن أحمد في وضع خشبة على جدار المسجد مع وجود الشرطين فعنه الجواز لانه ادا جار وضعه في ملك الجار مع أن حق مبني على الشح والضيق ففي حقوق الله تعالى المبنية على المسامحة أولى وعنه لا يجوز نقلها عنه أبو طالب لأن القياس يقتضي المنع في حق الكل ترك في حق الجار للخبر الوارد فيه فوجب البقاء في غيره على مقتضى القياس اختاره أبو بكر، وخرج أبو الخطاب من هذه الرواية وجهاً للمنع من وضع الخشب في ملك الجار لأنه إذا منع من وضع الخشب في الجدار المشترك بين المسلمين وللواضع فيه حق فلأن يمنع من الملك المختص بغيره أولى ولانه إذا منع في حق

(5/38)


الله تعالى مع انه مبني على المسامحة لغنى الله تعالى وكرمه فلان يمنع في حق الآدمي مع شحه وضيقه أولى والمذهب الأول، فإن قيل فلم لا تجيزون فتح الطاق والباب في الحائط قياساً على وضع الخشب؟ قلنا الخشب يمسك الحائط وينفعه بخلاف الطاق والباب فإنه يضعف الحائط لانه يبقى مفتوحاً والذي يفتحه للخشبة يسده بها ولأن وضع الخشب تدعو إليه الحاجة دون غيره (فصل) ومن ملك وضع خشبة على حائط فزال لسقوطه أو فعله أو سقوط الحائط ثم أعيد فله إعادة خشبه لأن السبب المجوز لوضعه مستمر فاستمر الاستحقاق وإن زال السبب مثل أن خشي على الحائط من وضعه عليه أو استغنى عن وضعه لم تجز إعادته لزوال السبب المبيح فإن خيف سقوط الحائط بعد وضعه عليه لزم إزالته لأنه يضر بالمالك وإن لم يخف عليه لكن استغنى عن إبقائه عليه لم تلزم إزالته لأن في إزالته ضرراً بصاحبه ولا ضرر على صاحب الحائط في إبقائه بخلاف مالو خشي سقوطه (فصل) وإذا كان له وضع خشبة على جدار غيره لم يملك إجارته ولا إعارته لأنه إنما ملك ذلك لحاجته الماسة إلى وضع خشبه ولا حاجة الى وضع خشب غيره فلم يملكه وكذلك لا يملك بيع حقه من وضع خشبه ولا المصالحة عنه للمالك ولا لغيره لأنه أبيح له من حق غيره لحاجته فلم يجز له ذلك فيه كطعام غيره

(5/39)


إذا أبيح له في حال الضرورة، ولو أراد صاحب الحائط إعارة الحائط أو إجارته على وجه يمنع هذا المستحق من وضع خشبه لم يملك ذلك لأنه وسيلة إلى منع ذي الحق من حقه فلم يملكه كمنعه، ولو أراد هدم الحائط لغير حاجة لم يملك ذلك لما فيه من تفويت الحق وإن احتاج الى ذلك للخوف من انهدامه أو لتحويله مكان آخر أو لغرض صحيح ملك ذلك لأن صاحب الخشب إنما يثبت حقه للإرفاق به مشروطاً بعدم الضرر بصاحب الحائط فمتى أفضى إلى الضرر زال الاستحقاق لزوال شرطه (فصل) فإن أذن صاحب الحائط لجاره في البناء على حائطه أو وضع سترة عليه أو وضع خشبه عليه في الوضع الذي لا يستحق وضعه جاز لأن الحق له فجاز بإذنه فإذا فعل ما أذن فيه صارت العارية لازمة تذكر في باب العارية (فصل) وإن أذن له في وضع خشبه أو البناء على جدار هـ بعوض جداره بعوض جاز سواء كان إجارة في مدة

(5/40)


معلومة أو صلحاً على وضعه على التأبيد ومتى زال فله إعادته سواء زال لسقوطه أو سقوط الحائط أو غير ذلك لأنه استحق إبقاءه بعوض ويحتاج أن يكون البناء معلوم العرض والطول والسمك والآلات من الطين واللبن والآجر وما أشبه ذلك لأن هذا يختلف فيحتاج إلى معرفته، وإذا سقط الحائط الذي عليه البناء أو الخشب في أثناء مدة الإجارة سقوطاً لا يعود انفسخت الإجارة فيما بقي من المدة ورجع من الأجرة بقسط ما بقي من المدة، وإن أعيد رجع من الأجرة بقدر المدة التي سقط البناء والخشب عنه، وان صالحه مالك الحائط على رفع خشبه أو بنائه بشئ معلوم جاز كما يجوز الصلح على وضعه سواء كان ما صالحه به مثل العوض الذي صولح به على وضعه أو أقل أو أكثر لأن هذا عوض عن المنفعة المستحقة له وكذلك لو كان له مسيل في أرض غيره أو ميزاب أو غيره فصالح صاحب الأرض مستحق ذلك بعوض لبزيله عنه جاز، وإن كان الخشب أو الحائط قد سقط فصالحه بشئ على أن لا يعيده جاز لانه لما جاز أن يبيع ذلك منه جاز أن يصالح عنه لأن الصلح بيع

(5/41)


(فصل) واذا وجد بناءه أو خشبه على حائط مشترك أو حائط جاره ولم يعلم سببه فمتى زال فله إعادته لأن الظاهر أن هذا الوضع بحق من صلح أو غيره فلا يزول هذا الظاهر حتى يعلم خلافه وكذلك لو وجد مسيل مائه في أرض غيره وما أشبه هذا فهو له لأن الظاهر أنه له بحق فجرى مجرى اليد الثابتة، ومتى اختلفا في ذلك هل هو بحق أو بعد وان فاقول قول صاحب الخشب والبناء والمسيل مع يمينه لأن الظاهر معه (فصل) إذا ادعى رجل داراً في يد أخوين فأنكره أحدهما وأقر له له الآخر ثم صالحه على ما اقر له بعوض صح الصلح ولأخيه الأخذ بالشفعة ويحتمل أن يفرق بين ما إذا كان الإنكار مطلقاً وبين ما إذا قال هذه لنا ورثناها جميعاً عن أبينا أو أخينا فيقال إذا كان الإنكار مطلقاً كان له الأخذ بالشفعة وإن قال ورثناها فلا شفعة له لأن المنكر يزعم إن الملك لا خيه المقر لم يزل وإن الصلح باطل

(5/42)


فيؤاخذ بذلك فلا يستحق به شفعة، ووجه الأول أن الملك ثبت للمدعي حكماً وقد رجع إلى المقر بالبيع وهو معترف بأنه بيع صحيح فتثبت فيه الشفعة كما لو كان الإنكار مطلقاً ويجوز أن يكون نصيب المقر انتقل إلى المدعي ببيع أو هبة أو سبب من الأسباب فلا ينافي انكار النمكر واقرار المقر كجالة إطلاق الإنكار وهذا أصح (مسألة) (وإن كان بينهما حائط فانهدم فطالب أحدهما صاحبه ببنائه أجبر عليه وعنه لا يجبر) إذا كان بين الشريكين حائط فانهدم فطلب أحدهما إعادته وأبى الآخر فذكر القاضي فيه روايتين (إحداهما) يجبر نقلها ابن القاسم وحرب وسندي قال القاضي هي أصح قال ابن عقيل وعلى ذلك أصحابنا وهو إحدى الروايتين عن مالك وقول الشافعي القديم واختاره بعض أصحابه لأن في ترك بنائه أضراراً فيجبر عليه كما يجبر على القسمة إذا طلبها أحدهما وعلى نقض الحائط عند خوف سقوطه

(5/43)


عليهما ولقول النبي صلى الله عليه وسلم (لا ضرر ولا إضرار) وهذا وشريكه يتضرران في ترك بنائه (والرواية الثانية) لا يجبر نقل عن أحمد ما يدل على ذلك وهو أقوى في النظر ومذهب أبي حنيفة لأنه ملك لاحرمة له في نفسه فلم يجبر مالكه على الإنفاق عليه كما لو انفرد به ولانه بناء حائط فلم يجبر عليه كالابتداء ولأنه لا يخلو إما أن يجبر على بنائه لحق نفسه أو لحق جاره أو لهما جميعاً لا يجوز أن يجبر لحق نفسه بدليل مالو انفرد به ولا لحق غيره كما لو انفرد به جاره وإذا لم يكن واحد منهما موجباً فعليه فكذلك إذا اجتمعا وفارق القسمة فإنها دفع للضرر عنهما بما لا ضرر فيه والبناء فيه ضرر لما فيه من الغرامة وانفلق ماله ولا يلزم من إجباره على إزالة الضرر بما لا ضرر فيه إجباره على إزالته بما فيه ضرر بدليل قسمة ما في قمسته ضرر ويفارق هدم الحائط إذا خيف سقوطه لأنه يخاف سقوطه على ما يتلفه فيجبر على ما يزيل ذلك ولذلك يجبر عليه وإن انفرد الحائط بخلاف مسئلتنا ولا نسلم أن في تركه أضراراً فإن الضرر إنما حصل بانهدامه وإنما ترك النباء ترك لما يحصل النفع

(5/44)


به وهذا لا يمنع الإنسان منه بدليل حالة الإبتداء وإن سلمنا أنه أضرار لكن في الإجبار أضرار ولا
يزال الضرر بالضرر ولأنه قد يكون الممتنع لانفع له في الحائط أو يكون الضرر عليه أكثر من النفع أو يكون معسراً ليس معه شي فيكلف الغرامة مع عجزه عنها (مسألة) (وليس له منعه من بنائه) على الرواية التي تقول لا يجبر الممتنع إذا أراد شريكه البناء فليس له منعه لأن له حقاً في الحمل ورسماً فلا يجوز منعه منه (مسألة) (فإن بناه بآلته فهو بينهما وإن بناه بآلة من عنده فهو له وليس للآخر الانتفاع به وإن طلب الانتفاع به خير الثاني بين أخذ نصف قيمته وبين أخذ آلته) وجملة ذلك أن للشريك بناء الحائط بأنقاضه وله بناؤ بآلة من عنده، فان بناء بآلته وأنقاضه فهو على الشركة كما كان لأن المنفق إنما أنفق على التالف وذلك أثر لاعين يملكها، وإن بناه بآلة من عنده فالحائط ملكه خاصة، وله مع شريكه من الانتفاع ومن وضع خشبة ورسومه عليه لأن الحائط له فإن أراد نقضه وكان بناه بآلته فليس له نقضه لأنه ملكهما فلم يكن له التصرف فيه بما فيه مضرة

(5/45)


عليهما وإن كان بناه بآلة من عنده فله نقضه لأنه يختص بملكه فإن قال شريكه أنا أدفع إليك نصف قيمة البناء ولا تتقضه لم يجبر لأنه لما لم يجبر على البناء لم يجبر على الإبقاء وإن أراد غير الباني نقضه وإجبار بانيه على نقضه لم يكن له ذلك على كلتا الروايتين لأنه إذا لم يملك منعه من بنائه فلأن لا يملك إجباره على نقضه أولى، فإن كان له على الحائط رسم انتفاع أو وضع خشب قال له اما أن تأخذ مني نصف قيمته وتمكنني من انتفاعي وإما أن تقلع حائطك لنعيد البناء من بيننا فيلزم الآخر إجابته لأنه لا يملك إبطال رسومه وانتفاعه ببنائه، وإن لم يرد الانتفاع به فطالبه الثاني بالغرامة أو القيمة لم يلزمه ذلك لأنه إذا لم يجبر على البناء فأولى أن لا يجبر على الغرامة إلا أن يكون قد أذن في البناء والإنفاق فيلزمه ما أذن فيه فأما على الرواية الأولى فمتى امتنع أجبره الحاكم على ذلك فإن لم يفعل أخذ الحكام من ماله وأنفق عليه وإن لم يكن له مال فانفق عليه الشريك بإذن الحاكم أو أذن الشريك رجع عليه متى قدر، وإذا أراد بناء لم يملك الشريك منعه، وما أنفق أن تبرع به لم يكن له الرجوع به وإن نوى الرجوع به فهل له الرجوع بذلك؟ يحتمل وجهين بناء على ما إذا قضى دينه بغير إذنه، وإن بناه لنفسه بآلته فهو بينهما وإن بناه بآلة من عنده فهو له خاصة فإن أراد نقضه فله ذلك إلا أن يدفع اليه شريكه نصف
قيمته فلا يكون له نقضه لأنه إذا أجبر على بنائه فأولى أن يجبر على إبقائه

(5/46)


(فصل) فإن لم يكن بين ملكيهما حائط فطلب أحد هما من الآخر أن بينيا حائطاً يحجز بين ملكيهما لم يجبرا الآخر عليه رواية واحدة فإن أراد البناء وحده فليس له إلا في ملكه لأنه لا يملك التصرف في ملك جاره المختص به ولا في الملك المشترك بغير ماله فيه رسم وهذا لا رسم له فيه (فصل) فإن كان السفل لرجل والعلو لآخر فانهدم السقف الذي بينهما فطلب أحد هما المباناة من الآخر فامتنع فهل يجبر؟ على روايتين كالحائط بين البيتين وللشافعي فيه قولان، فإن انهدمت حيطان السفل فطالبه صاحب العلو بإعادتها ففيه روايتان (إحداهما) يجبر وهو قول مالك وأبي ثور وأحد قولي الشافعي فعلى هذه الرواية يجبر على البناء وحده لأنه ملكه خاصة (والثانية) لا يجبر وهو قول أبي حنيفة فإن أراد صاحب العلو بناءه لم يمنع من ذلك على الروايتين جميعاً، فإن بناه بآلته فهو على ما كان وإن بناه بآلة من عنده فقد روي عن أحمد لا ينتفع به صاحب السفل يعني حتى يؤدي القيمة فيحتمل أنه لا يسكن وهو قول أبي حنيفة لان البيت إنما يبني للسكنى فلم يملكه كغيره ويحتمل أنه أراد الانتفاع بالحيطان خاصة من طرح الخشب وسمر الوتد وفتح الطاق وتكون له السكنى من غير تصرف في ملك غيره وهو مذهب الشافعي لأن السكنى إنما هي إقامته في فناء الحيطان من غير تصرف فيها أشبه الاستظلال

(5/47)


بها من خارج فأما إن طالب صاحب السفل بالبناء وأبى صاحب العلوففيه روايتان: (إحداهما) لا يجبر على بنائه ولا مساعدته وهو قول الشافعي لأن الحائط ملك صاحب السفل فلم يجبر غيره على بنائه ولا المساعدة فيه كما لو لم يكن عليه علو (والثانية) يجبر على مساعدته والبناء معه، وهو قول أبي الدرداء لأنه حائط بشتركان في الإنتفاع به أشبه الحائط بين الدارين.
(فصل) فإن كان بين البيتين حائط لأحدهما فانهدم فطلب أحدهما من الآخر بناءه أو المساعدة في بنائه لم يجبر لأنه إن كان الممتنع مالكه لم يجبر على بناء ملكه المختص به كحائط الآخر وإن كان
الممتنع الآخر لم يجبر على بناء ملك غيره ولا المساعدة فيه ولا يلزم على هذا حائط السفل حيث يجبر صاحبه على بنائه مع اختصاصه بملكه لأن الظاهر أن صاحب العلو ملكه مستحقا لا بقائه على حيطان السفل دائماً فلزم صاحب السفل تمكينه مما يتسحقه وطريقة البناء فلذلك وجب بخلاف مسئلتنا وإن أراد

(5/48)


صاحب الحائط بناءه أو نقضه بعد بنائه لم يكن لجاره منعه لأنه ملكه خاصة وإن أراد جاره بناءه أو نقضه أو التصرف فيه لم يملك ذلك لأنه لاحق له فيه (فصل) ومتى هدم أحد الشريكين الحائط المشترك أو السقف الذي بينهما نظرت فإن خيف سقوطه ووجب هدمه فلا شيء على هادمه ويكون كما لو النهدم بنفسه لأنه فعل الواجب وأزال الضرر الحاصل بسقوطه، وإن هدمه لغير ذلك فعليه إعادته سواء كان هدمه لحاجة أو غيرها وسواء التزم إعادته أو لم يلتزم لأن الضرر حصل بفعله فلزمته إزالته (فصل) فإن اتفقا على بناء الحائط المشترك بينهما نصفين وملكه بينهما الثلث والثلثان لم يصح لأنه يصالح عن بعض ملكه ببعض فلم يصح كما لو أقر له بدار فصالحه على سكناها ولو اتفقا على أن يحمله كل واحد منهما ما شاء لم يجز لجهالة الحمل فإنه يحمله من الاثقال ما لا طاقة له بحمله وإن اتفقا على أن يكون بينهما نصفين جاز.
(مسألة) (وإن كان بينهما نهر أو بئر أو دولاب أو ناعورة أو قناة فاحتاج إلى عمارة ففي إجبار الممتنع وجهان) بناء على الحائط المشترك إذا انهدم وحكي عن أبي حنيفة أنه يجبر ههنا على الإنفاق لأنه لا يتمكن شريكه من مقاسمته فيتضرر بخلاف الحائط فإنه يمكنهما قسمة العرصة قال شيخنا: والأولى التسوية لأن في قسمة العرصة أضراراً بهما والإنفاق أرفق بهما فكانا سواء

(5/49)


(مسألة) (وليس لأحدهما منع صاحبه من عمارته) فإن عمره فالماء بينهما على الشركة أما الدولاب والناعورة فالحكم فيه كالحكم في الحائط على
ما ذكرناه وأما النهر والبئر فلكل واحد منهما الإنفاق عليه وإذا أنفق عليه لم يكن له منع الآخر من نصيبه من الماء لأنه ينبع من ملكهما وإنما أثر أحدهما في نقل الطين منه وليس له فيه عين مال فأشبه الحائط إذا بناه بآلته والحكم في الرجوع بالنفقة حكم الرجوع في النفقة على الحائط على ما مضى (فصل) وليس للرجل التصرف في ملكه بما يضر بجاره نحو أن يبني حما ما بين الدور او يفتح

(5/50)


خبازاً بين العطارين أو يجعله دكان قصارة بهز الحيطان ويخربها أو يحفر بئراً إلى جانب بئر جاره يجتذب ماءها وبهذا قال بعض الحنفية وعن أحمد رواية أخرى لايمنع وبه قال الشافعي وبعض الحنفية لأنه تصرف في ملكه المختص به ولم يتعلق به حق غيره فلم يمنع منه كما لو طبخ في داره أو خبز فيها وسلموا انه يمنع من الدق الذي يهدم الحيطان وينزها ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم (لا ضرر ولا إضرار) ولأن هذا إضرار بجير انه فمنع منه كالذي سلموء وكسقي

(5/51)


الأرض الذي يتعدى إلى هدم حائط جاره أو إشعال نار يتعدى إلى إحراقها، قالوا ههنا تعدت النار التي أضرمها والماء الذي أرسله فكان مرسلاً لذلك في ملك غيره أشبه مالو أرسله إليها قصداً، قلنا والدخان الذي هو اجزا الحريق الذي أحرقه فكان مرسلاً له في ملك جاره فهو كالنار والماء وأما دخان الخبز والطبيخ فإن ضرره يسير ولا يمكن التحرز منه وتدخله المسامحة (فصل) فإن كان سطح أحدهما أعلى من سطح الآخر فليس لصاحب الأعلى الصعود على سطحه

(5/52)


على وجه يشرف على سطح جاره إلا أن يبني سترة تستره وقال الشافعي لا يلزمه ستره لأن هذا حاجز بين ملكيهما فلم يجبر أحدهما عليه كالأسفل ولنا أنه أضر بجاره فمنع منه كدق يهز الحيطان وذلك أنه يكشف جاره ويطلع على حرمه فأشبه ما لو اطلع عليه من صئر بابه أو خصاصه وقد دل على المنع من ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم (لو أن رجلا اطلع إليك فحذمته بحصاة ففقأت عينه لم يكن عليك جناح) ويفارق الأسفل فإن تصرفه لا يضر
بالأعلى ولا يكشف داره.

(5/53)