الشرح
الكبير على متن المقنع كتاب الإقرار
الإقرار الاعتراف والأصل فيه الكتاب والسنة والإجماع.
أما الكتاب فقول الله تعالى (وإذ أخذ الله ميثاق النبيين إلى قوله قال أأقر
رتم وأخذتم على ذلك إصري؟ قالوا أقررنا) وقال تعالى (وآخرون اعترفوا
بذنوبهم) وقال تعالى (ألست بربكم قالوا بلى) في أي كثيرة مثل هذا، وأما
السنة فما روي أن ما عزا أقر بالزنا فرجمه النبي صلى الله عليه وسلم وكذلك
الغامدية وقال (وأغديا أنيس على امرأة هذا فان اعترفت فارجمها)) وأما
الإجماع فإن الأمة أجمعت على صحة الإقرار ولأن الإقرار إخبار على وجه تنتفي
عنه التهمة والريبة فإن العاقل لا يكذب على نفسه كذبا يضربها ولهذا كان آكد
من الشهادة فإن المدعى عليه إذا اعترف لا تسمع عليه الشهادة وإنما ستمع إذا
أنكر ولو كذب المدعي بينته لم تسمع وإن كذب المقر ثم صدقه سمع.
(مسألة) (ويصح الإقرار من كل مكلف مختار غير محجور عليه.
أما الطفل المجنون فلا يصح إقرارهما وكذلك المبرسم والنائم والمغمى عليه)
لا نعلم في هذا خلافا وقد قال عليه الصلاة والسلام (رفع القلم عن ثلاثة عن
الصبي حتى يبلغ وعن المجنون حتى يفيق وعن النائم حتى يستيقظ) فنص عن
الثلاثة والمبرسم والمغمى عليه في معنى المجنون
(5/271)
والنائم ولأنه قول من غائب العقل فلم يثبت
له حكم كالبيع والطلاق، فأما الصبي المميز فإن كان محجوراً عليه لم يصح
إقراره للنص وإن كان مأذوناً له في البيع والشراء فبيعه وشراؤه جائز، وإن
أقر أنه اقتضى شيئاً من ماله جاز بقدر ما أذن له وليه فيه وهذا قول أبي
حنيفة وقال أبو بكر وابن أبي موسى إنما يصح
إقراره فيما أذن له في التجارة فيه في الشئ اليسير وقال الشافعي لا يصح
إقراره بحال لعموم الخبر ولأنه غير بالغ أشبه الطفل ولأنه لا تقبل شهادته
ولا روايته أشبه الطفل ولنا أنه عامل مختار يصح تصرفه فصح إقراره كالبالغ
وقد دللنا على صحة تصرفه فيما مضى والخبر محمول على رفع التكليف والإثم.
(مسألة) (وكذلك العبد المأذون له في التجارة) لما ذكرنا في الصبي بل صحة
إقرار العبد أولى لأنه ملكف (مسألة) (فإن أقر مراهق غير مأذون له ثم اختلف
هو المقر له في بلوغه فالقول قول المقر) إلا أن تقوم بينة ببلوغه لأن الاصل
الصغر ولا يحلف لاننا حمنا بعدم بلوغه إلا أن يختلفا بعد ثبوت بلوغه فعليه
اليمين أنه حين أقر لم يكن بالغاً (مسألة) (ولا يصح إقرار السكران وتتخرج
صحته بناء على طلاقه) أما من زال عقله بسبب مباح أو معذور فيه فهو كالمجنون
لا يصح اقراره ببغير خلاف وإن كان
(5/272)
خلاف وإن كان بمعصية كالسكران ومن شرب ما
يزيل عقله عامداً لغير حاجة لم يصح إقراره ويتخرج أن يصح كطلاقه وهو منصوص
الشافعي لأن أفعاله تجري مجرى الصاحي ولنا أنه غير عاقل فلم يصح إقراره
كالمجنون الذي سبب جنونه فعل محرم ولأن السكران لا يوثق بصحة ما يقول ولا
تنتفي عنه التهمة فيما يخبر به فلم يوجد معنى الإقرار الموجب لقبول قوله.
* (مسألة) * (ولا يصح إقرار المكره إلا أن يقر بغير ما أكره عليه مثل أن
يكره على الإقرار لإنسان فيقر لغيره أو على الإقرار بطلاق امرأة فيقر بطلاق
غيرها أو على الإقرار بدنانير فيقر بدراهم فيصح) لا يصح إقرار المكره بما
أكره على الاقرار به، وهذا مذهب الشافعي لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم
(رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) ولأنه قول أكره عليه بغير
حق فلم يصح كالبيع فأما إن أقر بغير ما أكره عليه مثل أن يكره على الإقرار
لرجل فيقر لغيره أو بنوع من المال فيقر بغيره أو على الإقرار بطلاق امرأة
فيقر بطلاق أخرى أو أقر بعتق عبد صح لأنه أقر بما لم يكره عليه فصح كما لو
اقر به ابتداء
* (مسألة) * (وإن أكره على وزن ثمن فباع داره في ذلك صح بيعه) نص عليه أحمد
لأنه لم يكره على البيع، ومن أقر بحق ثم ادعى أنه كان مكرهاً لم يقبل قوله
إلا
(5/273)
ببينة سواء أقر عنه سلطان أو عند غيره لأن
الأصل عدم الإكراه، إلا أن يكون هناك دلالة على الإقرار كالقيد والحبس
والتوكل به فيكون القول قوله مع يمينه لأن الحال تدل على الإكراه، ولو ادعى
أنه كان زائل العقل حال إقراره لم يقبل قوله إلا بينة لأن الأصل السلامة
حتى يعلم غيرها، ولو شهد الشهود بإقراره لم تفتقر صحة الشهادة إلى أن
يقولوا طوعاً في صحة عقله لأن الظاهر السلامة وصحة الشهادة وقد ذكرنا إقرار
السفيه والمفلس فيما مضى * (مسألة) * (وأما المريض مرض الموت المخوف فيصح
إقراره بغير المال) لأنه لا تهمة عليه في ذلك وانما تلحقه التهمة في المال
(مسألة) (وإن أقر بمال لمن لا يرثه صح في أصح الروايتين) لأنه غير متهم في
حقه وهو قول أكثر أهل العلم قال ابن المنذر أجمع كل من نحفظ عنه من أهل
العلم على أن إقرار المريض في مرضه لغير الوارث جائز، وحكى أصحابنا رواية
أنه لا يقبل لأنه إقرار في مرض الموت أشبه الإقرار للوارث وفيه رواية أخرى
أنه لا يصح بزيادة على الثلث ذكرها أبو الخطاب لأنه ممنوع من عطية الوارث
فلم يصح إقراره بما لا يملك عطيته بخلاف الثلث فما دون ولنا أنه إقرار غير
متهم فيه فقبل كالإقرار في الصحة يحققه أن حالة المرض أقرب إلى الاحتياط
لنفسه وأبرأ لذمته وتحري الصدق فكان أولى بالقبول وفارق الإقرار للوارث
فإنه متهم فيه
(5/274)
(مسألة) (ولا يحاص المقر له غرماء الصحة)
وقال أبو الحسن التميمي والقاضي يحاصهم إذا ثبت عليه دين في الصحة ثم أقر
لأجنبي بدين في مرض موته واتسع ماله لهما تساويا وإن ضاق عنهما فقيل بينهما
سواء، والمذهب أن يقدم الدين الثابت على الدين الذي أقر به في المرض قاله
أبو الخطاب قال القاضي وهو قياس المذهب، نص أحمد في المفلس
على أنه إذا أقر وعليه دين ببينة يبدأ بالدين الذي بالبينة، وبهذا قال
النخعي والثوري وأصحاب الرأي لأنه أقر بعد تعلق الحق بتركته فوجب أن لا
يشارك المقر له من ثبت دينه ببينة كغريم المفلس الذي أقر له بعد الحجر
عليه، والدليل على تعلق الحق بماله منعه من التبرع والإقرار لوارث ولأنه
محجور عليه ولهذا لا تنفذ هباته فلم يشارك من أقر له قبل الحجر ومن ثبت
دينه ببينة كالذي أقر له المفلس وظاهر كلام الخرقي إنهما يتحاصان وهو قول
أبي الحسن التميمي وبه قال مالك والشافعي وأبو عبيد وأبو ثور وذكر أبو عبيد
أنه قول أكثر أهل المدينة فإن أقر لهما في المرض جميعاً تساويا (مسألة)
(وإن أقر لوارث لم يقبل إلا ببينة) وبهذا قال شريح وأبو هاشم وابن أذينة
والنخعي ويحيى الانصاري وأبو حنيفة وأصحابه وروي ذلك عن القاسم وسالم وقال
عطاء والحسن واسحاق وأبو ثور يقبل لأن من صح الإقرار له في الصحة صح في
المرض كالاجنبي وللشافعي قولان كالمذهبين وقال مالك يصح إذا لم يتهم ويبطل
إذا اتهم كمن له بنت وابن
(5/275)
عم فأقر لابنته لم يقبل وإن أقر لابن عمه
قبل لانه لايتهم في انه يزوي ابنته ويوصل المال إلى ابن عمه وعلة منع
الإقرار التهمة فاختص المنع بموضعها ولنا أنه إيصال لماله إلى وارثه بقوله
في مرض موته فلم يصح بغير رضا بقية ورثته كهبته ولأنه محجور عليه في حقه
فلم يصح الإقرار له كالصبي في حق جميع الناس، وفارق الأجنبي فإن هبته تصح
وما ذكره مالك لا يصح فإن التهمة لا يمكن اعتبارها بنفسها فأجيز اعتبارها
بمظنتها وهو الإرث ولذلك اعتبر في الوصية والتبرع وغيرهما (مسألة) (إلا أن
يقر لزوجته بمهر مثلها فما دونه فيصح) في قول الجميع لا نعلم فيه مخالفاً
إلا أن الشعبي قال لا يجوز اقراره لها لأنه إقرار لوارث ولنا أنه إقرار با
تحقق سببه وعلم وجوده ولم تعلم البراءة منه فأشبه مالو كان عليه دين ببينة
فأقر بأنه لم يوفه وكذلك إن اشترى من وارثه شيئاً فأقر له بثمن مثله لأن
القول قول المقر له في أنه لم يقبض ثمنه وإن أقر لامرأته بدين سوى الصداق
لم يقبل
(فصل) فإن أقر لها ثم أبانها ثم تزوجها ومات من مرضه لم يقبل إقراره لها
وقال محمد ابن الحسن يقبل لأنها صارت إلى حال لايتهم فيها فأشبه مالو أقر
لمريض ثم برئ، ولنا أنه أقر لوارث في مرض الموت
(5/276)
(مسألة) (وإن أقر الوارث وأجنبي بطل في حق
الوارث وصح في حق الأجنبي) وفيه وجه آخر أنه لا يصح كما لو شهد بشهادة يجر
إلى نفسه بعضها بطلت شهادته في الكل كما لو شهد لابنه وأجنبي وقال أبو
حنيفة إن أقر لهما بدين من الشركة فاعترف الأجنبي بالشركة صح الإقرار لهما
وإن جحدها صح له دون الوارث.
ولنا أنه أقر لوارث وأجنبي فيصح للأجنبي دون الوارث كما لو أقر بلفظين أو
كما لو جحد الأجنبي الشركة ويفارق الإقرار الشهادة لقوة الإقرار ولذلك لا
تعتبر فيه العدالة، ولو أقر بشئ له فيه نفع كالإقرار بنسب وارث موسر قبل،
ولو أقر بشئ يتضمن دعوى على غيره قبل فيما عليه دون ماله كما لو قال
لامرأته خلعتك على ألف بانت بإقراره والقول قولها في نفي العوض وكذلك إن
قال لعبده اشتريت نفسك مني بألف (مسألة) (وإن أقر لوارث فصار عند الموت غير
وارث لم يصح وإن أقر لغير وارث صح وإن صار وارثاً نص عليه وقال ان الاعتبار
بحال الموت فيصح في الأولى ولا يصح في الثانية كالوصية) وجملة ذلك أنه إذا
أقر لوارث فصار غير وارث أقر لأخيه ولا ولد له ثم ولد له ابن لم يصح إقراره
له، وإن أقر لغير وارث ثم صار وارثاً صح إقراره له نص عليه أحمد في رواية
ابن منصور إذا أقر لامرأة بدين في المرض ثم تزوجها جاز إقراره لأنه غير
متهم وحكي له قول سفيان في رجل
(5/277)
له ابنان فأقر لأحدهما بدين في مرضه ثم مات
الابن وترك ابناً والأب حي ثم مات بعد ذلك جاز قراره فقال أحمد لا يجوز
وبهذا قال عثمان البتي، وذكر أبو الخطاب رواية أخرى في الصورتين مخالفة لما
قلنا وهو قول سفيان الثوري والشافعي لأنه معنى يعتبر فيه عدم الميراث فكان
الاعتبار فيه
بحالة الموت كالوصية ولنا أنه قول يعتبر فيه التهمة فاعتبرت حال وجوده دون
غيره كالشهادة ولأنه إذا أقر لغير وارث ثبت الإقرار وصح لوجوده من أهله
خالياً عن تهمة فثبت الحق به ولم يوجد مسقط له فلا يسقط وإذا أقر لوارث وقع
باطلا لاقتران التهمة به فلا يصح بعد ذكل ولأنه إذا أقر لوارث فلا يصح كما
لو استمر الميراث وإن أقر لغير وارث صح واستمر كما لو استمر عدم الإرث اما
الوضية فإنها عطية بعد الموت فاعتبرت فيها حالة الموت يخالف مسئلتنا
(مسألة) (وإن أقر لامرأته بدين ثم أبانها ثم تزوجها لم يصح إقراره لها) إذا
مات من مرضه لأنه إقرار لوارث في مرض الموت أشبه مالو لم يبنها (مسألة)
(وإن أقر المريض بوارث صحيح صح وعنه لا يصح) يصح إقرار المريض بوارث في
إحدى الروايتين والأخرى لا يصح لأنه أقر لوارث فأشبه الإقرار له بمال
والأول أصح لأنه عند الإقرار غير وارث فصح كما لو لم يصر وارثاً ويمكن بناء
هذه المسألة على ما إذا أقر لغير وارث فصار وارثاً فمن صحح الإقرار ثم صححه
هاهنا ومن أبطله أبطله
(5/278)
(مسألة) (وإن أقر بطلاق امرأته في صحته لم
يسقط ميراثها) إذا كان الإقرار في مرضه لأنه متهم بقصد حرمانها الميراث فلم
يبطل كما لو طلقها في مرضه (فصل) ويصح إقرار المريض بإحبال الأمة لأنه ملك
ذلك فملك الإقرار به وكذلك كل ما ملكه ملك الإقرار به فإذا أقر بذلك ثم مات
فإن بين أنه استولدها في ملكه فولده حر الأصل وأمه أم ولد تعتق من رأس
المال وإن قال من نكاح أو وطئ شبهة عتق الولد ولم تصر الأمة أم ولد فإن كان
من نكاح فعليه الولاء لأنه مسه رق وإن كان من وطئ شبهة لم تصر الأمة أم ولد
وإن لم يتبين السبب فالأمة مملوكة لأن الأصل الرق ولم يثبت سبب الحرية
ويحتمل أن تصير أم ولد لأن الظاهر استيلادها في ملكه من قبل أنها مملوكته
والولادة موجودة ولا ولاء على الولد لأن الأصل عدمه فلا يثبت إلا بدليل.
(فصل) قال الشيخ رحمه الله (وإن أقر العبد بحد أو قصاص أو طلاق صح وأخذ به
إلا أن يقر بقصاص في النفس فنص أحمد أنه يتبع به عبد العتق وقال أبو الخطاب
يؤخذ به في الحال) وجملة ذلك أن العبد يصح إقراره بالحد والقصاص فيما دون
النفس لأن الحق له دون مولاه ولا يصح إقرار المولى عليه بما يوجب القصاص
ويجب المال دون القصاص لأن المال يتعلق برقبته وهي مال السيد فصح إقراره
بجناية الخطأ وهو الذي ذكره شيخنا في كتاب الكافي وأما إقراره بما يوجب
(5/279)
القصاص في النفس فالمنصوص عن أحمد أنه لا
يقبل ويتبع به بعد العتق وبه قال زفر والمزني وداود وابن جرير الطبري لأنه
يسقط حق سيده باقراره فأشبه الإقرار بقتل الخطأ ولأنه يتهم في أنه يقر لرجل
ليعفو عنه ويستحق أخده فيتخلص بذلك من سيده، واختار أبو الخطاب أنه يصح
إقراره وهو قول أبي حنيفة ومالك والشافعي ولأنه أحد نوعي القصاص فصح اقرره
به كما دون النفس، وبهذا الأصل ينتقض دليل الأول وينبغي على هذا القول أن
لا يصح عفو ولي الجناية على مال إلا باختيار سيده لئلا يفضي إلى إيجاب
المال على سيده بإقرار غيره ولا يقبل اقرار العبد بجناية الخطأ ولا شبه
العمدولا بجناية عمد موجبها المال كالجائفة والمأمومة لأنه إيجاب حق في
رقبته وذلك بتعلق بالمولى (مسألة) (وإن أقر العبد غير المأذون له بمال لم
يقبل في الحال ويتبغ به بعد العتق) لأنه تصرف فيما هو حق للسيد فعلى هذا
يتبع به بعد العتق عملا بإقراره على نفسه وعنه يتعلق برقبته كجنايته
(مسألة) (وإن أقر السيد عليه بمال أو ما يوجبه كجناية الخطأ قبل) لأنه
إيجاب حق في ماله (مسألة) (وإن أقر العبد بسرقة مال في يده وكذبه السيد قبل
إقراره في القطع دون المال) وجملة ذلك أن العبد إذا أقر بسرقة موجبها القطع
والمال فأقر بها العبد وجب قطعه ولم يجب المال سواء كان ما أقر بسرقته
باقياً أو تالفاً في يد السيد أو يد العبد قال أحمد
(5/280)
في عبد أقر بسرقة دراهم في يده أنه سرقها
من رجل والرجل يدعي ذلك والسيد يكذبه فالدراهم لسيده ويقطع العبد ويتبع
بذلك بعد العتق وللشافعي في وجوب المال في هذه الصورة وجهان، ويحتمل أن
لا يجب القطع لأن ذلك شبهة فيدرأبها القطع لكونه حداً يدرأ بالشبهات وهذا
قول أبي حنيفة وذلك لأن العين التي أقر بسرقتها لم يثبت حكم السرقة فيها
فلا يثبت حكم القطع بها (فصل) وإن أقر العبد برقه لغير من هو في يده لم
يقبل إقراره لأن إقراره بالرق إقرار بالملك والعبد لا يقبل إقراره بمال لا
نا لو قبلنا إقراره أضر بالسيد ولأنه إذا شاء أقر لغير سيده فأبطل ملكه فإن
أقر السيد لرجل وأقر هو لآخر فهو للذي أقر له السيد لأنه في يد السيد لا في
يد نفسصه ولأنه لو قبل إقرار العبد لما قبل إقرار السيد كالحد وجناية العمد
(فصل) ويصح الإقرار لكل من يثبت له الحق فإذا أقر لعبد بنكاح أو قصاص أو
تعزير القذف صح الإقرار له صدقه المولى أو كذبه لأن الحق له دون سيده وله
المطالبة بذلك والعفو عنه وليس لسيده مطالبته به ولا عفو وإن كذبه العبد لم
يقبل اقراره، وإن أقر له بمال صح ويكون لسيده لأن يد العبد كيد سيده، وقال
أصحاب الشافعي إن قلنا يملك المال صح الإقرار له وإن قلنا لا يملك كان
الإقرار لمولاه يلزم بتصديقه ويبطل برده (مسألة) (وإن أقر السد لعبده بمال
لم يصح) لأن العبد لسيده فلا يصح إقراره لنفسه وإن أقر
(5/281)
العبد لسيده لم يصح لأنه أقر له بماله فلم
يفده الإقرار شيئاً (مسألة) (وإن أقر إنه باع عبده من نفسه بألف وأقر العبد
به ثبت ويكون كالكتابة وإن أنكر عتق ولم يلزمه الألف) لان أقر لعبده بسبب
العتق فتعق وتبقى دعواه عليه لا تلزمه كما لم تلزم غيره (مسألة) (وإن أقر
لعبد غيره بمال صح وكان لمالكه) لأن مال العبد لسيده (مسألة) (وإن أقر
لبهيمة لم يصح) لأنها لا تملك ولا لها أهلية الملك، وإن قال على بسبب هذه
البهيمة لم يكن إقراراً لأحد لأنه لم يذكر لمن هي ومن شرط صحة الإقرار ذكر
المقر له فإن قال لمالكها ولزيد علي بسببها ألف صح الاقرار، وإن قال بسبب
حمل هذه البهيمة لم يصح إذ لا يمكن ايجاب شئ بسبب الحمل وقيل يصح ويكون لما
لكها كالإقرار للعبد (مسألة) (وإن تزوج مجهولة النسب فأقرت بالرق لم يقبل
اقزارها)
لأنها تقر على حق الزوج وعنه تقبل في نفسها لأنها عاقلة مكلفة فيقبل
إقرارها على نفسها كما لو أقرت بمال، ولا يقبل إقرارها بفسخ النكاح ورق
الأولاد لأن ذلك حق الزوج وإن أولدها بعد الإقرار ولداً كان رقيقاً لأنه
حدث بعد ثبوت رقها وإن أقر بولد أمته أنه ابنه ثم مات ولم يتبين هل أتت به
في ملكه أو غيره؟ فهل تصير أم ولد؟ على وجهين (أحدهما) لا تصير أم ولد
لاحتمال أنها أتت به في ملك غيره (والثاني) تصير أم ولد له لأنه أقر بولدها
وهي في ملكه فالظاهر أنه استولدها في ملكه
(5/282)
(فصل) قال الشيخ رحمه الله (وإذا أقر الرجل
نسب صغير أو مجنون مجهول النسب أنه ابنه ثبت نسبه به) وجملة ذلك أن للإقرار
بالنسب شروطاً وهو على ضربين: (أحدهما) أن يقر على نفسه خاصة (والثاني) أن
يقر عليه وعلى غيره فإن أقر على نفسه خاصة مثل أن يقر بنسب ولد فيعتبر في
ثبوت نسبه أربعة شروط (أحدها) أن يكون المقر به مجهول النسب، فإن كان معروف
النسب لم يصح لأنه يقطع نسبه الثابت من غيره وقد لعن النبي صلى الله عليه
وسلم من انتسب إلى غير أبيه أو تولى غير مواليه (الثاني) أن لا ينازعه فيه
منازع لأنه إذا نازعه فيه غيره تعارضا فلم يكن إلحاقه بأحدهما أولى من
الآخر (الثالث) أن يمكن صدقه بأن يكون المقر به يحتمل أن يولد لمثل المقر
(الرابع) أن يكون ممن لا قول له كالصغير والمجنون أو يصدق المقر إن كان ذا
قول وهو المكلف لانه ملكف أقر بحق ليس فيه نفع فلزم كما لو اقر بمال فإن
كان غير المكلف لم يعتبر تصديقه فإن كبر وعقل فأنكر لم يسمع إنكاره لأن
نسبه ثابت وجرى ذلك مجرى من ادعى ملك عبد صغير في يده وثبت بذلك ملكه فلما
كبر جحد ذلك ولو طلب إحلافه على ذلك لم يستحلف لأن الأب لو عاد بجحد النسب
لم يقبل منه ويحتمل أن يبطل نسب المكلف باتفاقهما على الرجوع عنه لأنه يثبت
باتفاقهما فزال برجوعهما كالمال والأول أصح لأنه نسب ثبت بالإقرار فأشبه
نسب الصغير والمجنون، وفارق المال لأن النسب يحتاط
(5/283)
لإثباته وإن اعترف إنسان أن هذا أبوه فهو
كاعترافه بأنه ابنه (الضرب الثاني) أن يقر عليه وعلى غيره
كإقراره بأخ فسنذكره إن شاء الله تعالى * (مسألة) * (فإن كان الصغير المقر
بنسبه ميتاً ورثه لأنه ثبت نسبه وبهذا قال الشافعي ويحتمل أن يثبت نسبه دون
ميراثه لأنه متهم في قصد أخذ ميراثه، وقال أبو حنيفة لا يثبت نسبه ولا إرثه
لذلك ولنا أن علة ثبوت نسبه في حياته الإقرار به وهو موجود بعد الموت فيثبت
كحالة الحياة وما ذكروه يبطل بما إذا كان المقر به حياً موسراً والمقر
فقيراً فإنه يثبت نسبه ويملك المقر التصرف في ماله وإنفاقه على نفسه، وإن
كان المقر به كبيراً عاقلاً فكذلك في قول القاضي وظاهر مذهب الشافعي أنه لا
قول له أشبه الصغير وفيه وجه آخر لا يثبت نسبه لان نسب المكلف لا يبت إلا
بتصديقه ولم يوجد ويجاب عن هذا بأنه غير مكلف فإن ادعى نسب المكلف في حياته
فلم يصدقه حتى مات المقر ثم صدقه ثبت نسبه لأنه وجد الإقرار والتصديق (فصل)
فإن أقرت امرأة بولد ولم تكن ذات زوج ولانسب قبل إقرارها وإن كانت ذات زوج
فهل يقبل إقرارها؟ على روايتين (إحداهما) لا يقبل لأن فيه حملا لنسب الولد
على زوجها ولم يقر به أو إلحاقاً للعار به بولادة امرأته من غيره (والثاني)
يقبل لأنها شخص أقر بولد يحتمل أن يكون منه فقبل كالرجل وقال أحمد في رواية
ابن منصور في امرأة ادعت ولداً فان كان لها إخوة أو نسب معروف فلا بدان
يثبت أنه ابنها وإن لم يكن لها دافع فمن يحول بينها وبينه وهذا لأنها إذا
كانت ذات أهل
(5/284)
فالظاهر أنه لا يخفى عليهمو ولادتها فمتى
ادعت ولداً لا يعرفونه فالظاهر كذبها، ويحتمل أن تقبل دعواها مطلقاً لأن
النسب يحتاط له فأشبهت الرجل وقد ذكرنا نحو ذلك في اللقيط (فصل) وإن قدمت
امرأة من بلد الروم معها طفل فأقر به رجل لحقه لوجود الإمكان وعدم المنازع
لأنه يحتمل أن يكون دخل أرضهم أو دخلت هي دار الإسلام فوطئها والنسب يحتاط
لا ثباته ولهذا لو ولدت امرأة رجل وهو غائب عنها بعد عشر سنين أو أكثر من
غيبته لحقه وإن لم يعرف له قدوم إليها ولا عرف لها خروج من بلدها (مسألة)
(ومن ثبت نسبه فجاءت أمه بعد موت المقر فادعت الزوجية لم يثبت بذلك)
لأنها مجرد دعوى فلم تثبت بها زوجية كما لو كان حياً ولأنه يحتمل أن يكون
من وطئ شبهة أو نكاح فاسد.
(فصل) وإن أقر رجل بنسب صغير لم يكن مقرا بزوجية أمة، وبهذا قال الشافعي
وقال أبو حنيفة إذا كانت مشهورة بالحرية كان مقراً بزوجيتها لأن أنساب
المسلمين وأحوالهم يجب حملها على الصحة وهو أن يكون ولدته منه في نكاح صحيح
ولنا أن الزوجة ليست مقتضى لفظه ولا مضمونه فلم يكن مقراً بها كما لو لم
تكن معروفة بالحرية وما ذكروه لا يصح فإن النسب محمول على الصحة وقد يلحق
بالوطئ والنكاح الفاسد والشهبة فلا يلزم بحكم إقراره ما لم يوجبه لفظ ولا
يتضمنه
(5/285)
(فصل) إذا كان له أمة لها ثلاثة اولاد
ولازوج لها ولا أقر بوطئها فقال أحد هؤلاء ولدي فإقراره صحيح ويطالب
بالبيان فإن عين أحدهم ثبت نسبه وحريته، ثم يسئل عن كيفية الاستيلاد فإن
قال بنكاح فعلى الولد الولاء والأم والآخران من أولادها رقيق، فإن قال
استولدتها في ملكي فالمقر به حر الاصل لاولاء عليه والأمة أم ولد ثم إن كان
المقر به الأكبر فأخواه ابنا أم ولد حكمهما حكمها في العتق بموت سيدها وإن
كان الاوسط فالاكبرقن والاصفر له حكم أمه وإن عين الأصغر فأخواه رقيق قن
لأنها ولدتهما قبل الحكم بكونها أم ولد، وإن قال هي من وطئ شبهة فالولد حر
الأصل وأخواه مملوكان وإن مات قبل أن يبين أخذ ورثته بالبيان ويقوم بيانهم
مقام بيانه فإن بينوا النسب ولم يبينوا الاستيلاد ثبت النسب وحرية الولد
ولم يثبت للام ولا لو لديها حكم الاسيتلاد لأنه يحتمل أن يكون من نكاح أو
وطئ شبهة، وإن لم يبينوا النسب وقالوا لا نعرف ذلك ولا الاستيلاد فإنا نريه
القافة فإن ألحقوا به واحداً منهم ألحقناه ولا يثبت حكم الاستيلاد لغيره
فإن لم يكن قافة أقرع بينهم فمن وقعت له القرعة عتق وورث وبهذا قال الشافعي
لأنه لا يورثه بالقرعة.
ولنا أنه حر استندت حريته إلى إقرار أبيه فورث كما لو عينه في إقراره (فصل)
إذا كان له أمتان لكل واحدة منهما ولد فقال أحد هذين ولدي من أمتي نظرت فإن
كان لكل
واحدة منهما زوج يمكن إلحاق الولد به لم يصح إقراره ولحق الولدان بالزوجين
وإن كان لإحداهما زوج دون الأخرى انصرف الإقرار إلى ولد الأخرى لأنه الذي
يمكن إلحاقه به وإن لم يكن لكل واحدة منهما زوج
(5/286)
ولكن أقر السيد بوطئهما صارنا فرشاو لحق
ولداهمابه إذا أمكن أن يولد ابعد وطئه وإن أمكن في إحداهما دون الأخرى
انصرف الإقرار إلى من أمكن لأنه ولده حكماً، وإن لم يكن اقر بوطئ واحدة
منها صح إقراره وثبتت حرية المقر به لأنه أقر بنسب صغير مجهول النسب مع
الإمكان لا منازع له فيه فلحقه نسبه ثم يكلف البيان كما لو طلق إحدى نسائه
فإذا بين قبل بيانه لأن المرجع في ذلك إليه ثم يطالب ببيان كيفية الولادة
فإن قال استولدتها في ملكي فالولد حرا لاصل لا ولاء عليه وأمه أم ولد وإن
قال في نكاح فعلى الولد الولاء لأنه مسه رق والأمة قن لأنها علقت بمملوك،
وان قال بوطئ شبهة فالولد حر الأصل والأمة قن لأنها علقت به في غير ملك،
وإن ادعت الأخرى إنها التي استولدها فالقول قوله مع يمينه لأن الأصل عدم
الاستيلاد فأشبه ما لو ادعت ذلك منغير إقرار بشئ فإذا حلف رقت له ورق ولدها
فإذا مات ورثه ولده المقر به وإن كانت أمة قد صارت أم ولد عتقت، وإن لم تصر
أم ولد عتقت على ولدها إن كان هو الوارث وحده وإن كان معه غيره عتق منها
بقدر ماملك وإن عادت قبل ان يببن قام وارثه مقامه في البيان لأنه يقوم
مقامه في إلحاق النسب وغيره فإذا بين كان كما لو بين الموروث، وان يعلم
الوارث كيفية الاستيلاد ففي الأمة وجهان (أحدهما) يكون رقيقاً لأن الرق
الأصل فلا يزول بالاحتمال (والثاني) يعتق لأن الظاهر أنها ولدته في ملكه
لأنه أقر لولدها وهي في ملكه وهذا منصوص الشافعي، فإن لم يكن وارث أو كان
وارث لم يعين عرض على القافة فإن ألحقته بأحدهما ثبت نسبه وكان حكمه
(5/287)
كما لو عين الوارث فإن لم تكن قافة أو كانت
فلم تعرف أقرع بين الولدين فيعتق أحدهما بالقرعة لأن للقرعة مدخلا في إثبات
الحرية وقياس المذهب ثبوت نسبه وميراثه على ما ذكرنا في التي قبلها وقال
الشافعي لا يثبت نسبب ولا ميراث، واختلفوا في الميراث فقال المزني يوقف
نصيب الابن لأنا تيقنا ابناً وارثاً ولهم وجه آخر لا يوقف شئ لأنه لا يرجى
انكشافه وقال أبو حنيفة يعتق من كل
واحد نصفه ويستسعى في باقيه ولا يرثان، وقال ابن أبي ليلى مثل ذلك إلا أن
يجعل الميراث بينهما نصفين ويدفعانه في سعايتهما والكلام في قسمة الحرية
والسعاية ذكره في باب العتق (مسألة) (وإن أقر بنسب أخ أو عم في حياة أبيه
وحده لم يقبل وإن كان بعد موتهما وهو الوارث وحده قبل إقراره وثبت النسب
وإن كان معه غيره لم يثبت النسب وللمقر له من الميراث ما فضل في يد المقر)
إنما لم يقبل إقراره في حياتهما لأنه على غيره فلا يقبل فأما إن كان بعد
الموت وهو الوارث وحده قبل إقراره وتثبت النسب سواء كان المقر واحداً أو
جماعة ذكرا أو انثى وبهذا قال الشافعي وأبو يوسف وحكاه عن أبي حنيفة لأن
الوارث يقوم مقام المورث في ديونه والديون التي عليه وفي دعاويه كذلك في
النسب إلا أن يكون الميت قد نفاه فلا يثبت لأنه يحمل على غيره نسباً حكم
بنفيه فإن كان وارثاً ومعه شريك في الميراث لم يثبت النسب لأنه لا يثبت في
حق شريكه فوجب أن لا يثبت في حقه
(5/288)
وقد دل على ثبوت النسب بإقرار الواحد إذا
كان وارثاً حديث عائشة رضي الله عنها أن سعد بن أبي وقاص اختصم هو وعبد بن
زمعة في ابن أمة زمعة فقال سعد أوصاني أخي عتبة إذا قدمت أن أنظر إلى ابن
أمة زمعة واقبضه فإنه ابنه فقال عبد بن زمعة أخي وابن وليدة أبي ولد على
فراشه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (هو لك يا عبدبن زمعة، الولد
للفراش وللعاهر الحجر) فقضى به لعبد بن زمعة وقال (احتجبي منه يا سودة)
والمشهور عن أبي حنيفة أنه لا يثبت إلا بإقرار رجلين أو رجل وامرأتين وقال
مالك لا يثبت إلا بإقرار اثنين لأنه يحمل النسب على غيره فاعتبر فيه العدد
كالشهادة ولنا أنه حق ثبت بالاقرار فلم يعتبر فيه العدد كالدين ولأنه قول
لا يعتبر فيه العدالة فلم يعتبر فيه العدد كإقرار الموروث واعتباره
بالشهادة لا يصح لأنه لا يعتبر فيه اللفظ ولا العدالة ويبطل بالإقرار
بالدين وللمقر له من الميراث ما فضل في يد المقر وقد ذكرنا ذلك فيما مضى
(مسألة) (وإن أقر من عليه الولاء بنسب وارث لم يقبل إقراره إلا أن يصدقه
مولاه لأن الحق لمولاه فلا يقبل إقراره بما يسقطه ويتخرج أن يقبل بدونه
ذكره في المحرر
(مسألة) (وإن أقرت امرأة بنكاح على نفسها فهل يقبل؟ على روايتين) (إحداهما)
يقبل لأنه حق عليها فيقبل كما لو أقرت بمال (والأخرى) لا يقبل لأنها تدعي
النفقة والكسوة والسكنى فلا يقبل
(5/289)
(مسألة) (فإن أقر المولى عليها به قبل إن
كانت مجبرة) لأن المرأة لا قول لها في حال الإجبار وكذلك إن كانت مقرة
بالإذن نص عليه وقيل لا يقبل إلا على المجبرة من المحرر وإن لم تكن مجيرة
لم يقبل لأنه اقرار على الغير فلم يلزمها كما لو أقر عليها بمال (مسألة)
(وإن أقر أن فلانة امرأته أو أقرت أن فلانا زوجها فلم يصدق المقر له المقر
إلا بعد موت المقر صح) وورثه كما لو صدقه في حياته وقد ذكرنا فيما إذا أقر
بنسب كبير عاقل بعد موته هل يرثه؟ على وجهين بناء على ثبوت نسبه فيخرج ههنا
مثله وإن كان قد كذبه في حياته ففيه وجهان (مسألة) (وإن أقر الورثة على
موروثهم بدين لزمهم قضاؤه من التركة فإن أقر بعضهم لزمه بقدر ميراثه فإن لم
تكن تركة لم يلزمهم شئ) إذا أقر الوارث بدين على موروثه قبل إقراره بغير
خلاف نعلمه ويتعلق ذلك بتركة الميت كما لو اقربه الميت في حياته فإن لم
يخلف تركه لم يلزم الوارث شئ لأنه لا يلزمه أداء دينه اذا كان حيا مفلساً
فكذلك إذا كان ميتاً، وإن خلف تركة تعلق الدين بها وإن أحب الوارث تسليمها
في الدين فله ذلك وان أحب استخلاصها ووفا الدين من ماله فله ذلك ويلزمه أقل
الأمرين من قيمتها أو قدر الدين
(5/290)
بمنزلة الجاني فإن كان الوارث واحداً فحكمه
ما ذكرنا وان كانا اثنين أو أكثر وثبت الدين بإقرار الميت أو ببينة أو
إقرار جميع الورثة فكذلك وإذا اختار الورثة أخذ التركة وقضاء الدين من
أموالهم فعلى كل واحد منهم من الدين بقدر ميراثه وإن أقر أحدهم لزمه من
الدين بقدر ميراثه والخيرة إليه في
تسليم نصيبه في الدين أو استخلاصه، وإذا قدره من الدين فإن كانا اثنين لزمه
النصف وإن كانوا ثلاثة فعليه الثلث وبهذا قال النخعي والحكم والحسن واسحاق
وأبو عبيد وابو ثور والشافعي في أحد قوليه وقال أصحاب الرأي يلزمه جميع
الدين أو جميع ميراثه وهو أحد قولي الشافعي رجع إليه بعد قوله كقولنا لأن
الدين يتعلق بتركته فلا يستحق الوارث منها إلا ما فضل من الدين لقول الله
تعالى (من بعد وصية يوصى بها أو دين) ولأنه يقول ما أخذه المنكر أخذه بغير
استحقاق فكان غاصباً فيتعلق الدين بما بقي من التركة كما لو غصبه أجنبي
ولنا أنه لا يستحق أكثر من نصف الميراث فلا يلزمه أكثر من نصف الدين كما لو
أقر أخوه ولانه اقرر يتعلق بحصته أو حصة أخيه فلا يجب عليه إلا ما يخصه
كالإقرار بالوصية وإقرار أحد الشريكين على مال الشركة ولأنه حق لوثبت ببينة
أو قول الميت أو إقرار الوارثين لم يلزمه إلا نصفه فلم يلزمه بإقراره أكثر
من نصفه كالوصية ولأن شهادته بالدين مع غيره تقبل، ولو لزمه أكثر من حصته
لم تقبل شهادته لأنه يجربها إلى نفسه نفعاً فإن كان عليه دين بينة أو إقرار
الميت قدم على ما أقر به الورثة من المحرر
(5/291)
(فصل) قال رضي الله عنه (وإن أقر بحمل
امرأة صح فإن ألقته ميتاً أو لم يكن حملاً بطل وإن ولدت حياً وميتاً فهو
للحي وإن ولدتهما حيين فهو بينهما سواء الذكر والاثنى ذكره ابن حامد) إذا
أقر لحمل امرأة بمال وعزاه إلى إرث أو وصية صح وكان للحمل وإن أطلق فقال
أبو عبد الله بن حامد يصح وهو أصح قولي الشافعي لأنه يجوز أن يملك بوجه
صحيح فصح له الإقرار المطلق كالطفل، فعلى هذا إن ولدت ذكر أو أنثى كان
بينهما نصفين وإن عزاه إلى إرث أو وصية كان بينهما على حسب استحقاقها لذلك
وإن ولدت حياً وميتاً فالكل للحي لأنه لا يخلو إما أن يكون الإقرار له عن
إرث أو وصية وكلاهما لا يصح للميت، وقال أبو الحسن التميمي لا يصح الإقرار
إلا أن يعزوه إلى إرث أو وصية وهو قول أبي ثور والقول الثاني للشافعي لأنه
لا يملك بغيرهما، فإن وضعت الولد ميتاً كان قد عزا الإقرار إلى إرث أو وصية
عادت إلى ورثة الموصي وموروث الطفل وإن أطلق الإقرار كلف ذكر السبب فيعمل
بقوله
فإن تعذر التفسير بموته أو غيره بطل إقراره كمن أقر لرجل لا يعرف من أراد
بإقراره، وإن عزا الإقرار إلى جهة غير صحيحة فقال لهذا الحمل على ألف
أقرضتها أو وديعة أخذتها منه فعلى قول التميمي الإقرار باطل وعلى قول ابن
حامد ينبغي أن يصح اقراره لأنه وصل بإقراره ما يسقطه فيسقط ما وصله به كما
لو قال له ألف لا يلزمني، وإن قال له على ألف جعلتها له أو نحو ذلك فهي عدة
لا يؤخذ بها، ولا يصح الإقرار لحمل إلا إذا تيقن أنه كان موجوداً حال
الإقرار على ما بين في الوصية له، وإن أقر لمسجد
(5/292)
أو مصنع أو طريق وعزاه إلى السبب صحيح مثل
أن يقول من غلة وقفه صح وإن أطلق خرج على الوجهين وإن لم يكن ثم حمل بطل
الإقرار لأنه أقر لغير شئ (مسألة) (وإن أقر لكبير عاقل فلم يصدقه بطل
إقراره في أحد الوجهين) لأنه إقرار بحق أشبه النسب فعلى هذا يقر المال في
يد المقر لأنه كان في يده فإذا بطل إقراره بقي كأنه لم يقر به والوجه
الثاني يؤخذ المال الى بيت المال فيحفظه حتى ظهر مالكه لأنه بإقراره خرج عن
ملكه ولم يدخل في ملك المقر له وكل واحد منهما ينكر ملكه فهو كالمال الضائع
يترك في بيت المال قال صاحب المحرر فعلى هذا الوجه أيهما غير قوله لم يقبل
منه وعلى الأول إن عاد المقر فادعاه لنفسه أو لثالث قبل منه ولم يقبل بعدها
عود المقر له أولاً إلى دعواه، ولو كان عدوه إلى دعواه قبل ذلك ففيه وجهان
ولو كان المقر به عبداً أو نفس المقر بأن أقر برقها للغير فهو كغيره من
الأموال على الأول وعلى الثاني يحكم بحريتهما.
باب ما يحصل به الإقرار إذا ادعى عليه ألفاً فقال نعم أو أجل أو صدقت أو
أنا مقر بها أو بدعواك كان مقراً ومثله أنا مقر بما ادعيت لأن هذه الألفاظ
وضعت للتصديق قال الله تعالى (هل وجدتم ما وعد ربكم حقا؟ قالوا نعم) وإن
(5/293)
قال أليس لي عندك ألف؟ قال بلى كان إقراراً
صحيحاً لأن بلى جواب للسؤال بحرف النفي قال الله تعالى (ألست بربكم؟ قالوا
بلى)
(مسألة) (وإن قال أنا اقر أولا أنكر أو يجوز أن يكون محقاً وعسى أو لعل أو
أحسب أو أظن أو أقدر أوخذ أو اتزن أو افتح كمك لم يكن مقرا إذا قال أنا مقر
لم يكن إقراراً لأنه وعد بالإقرار في المستقبل وكذلك إن قال لا أنكر لأنه
لا يلزم من عدم الإنكار الإقرار فإن بينهما قسماً آخر وهو السكوت عنهما،
وإن قال يجوز أن يكون محقاً لم يكن إقراراً كذلك وإن قال لعل أو عسى لم يكن
مقرا لأنهما للترجي، وإن قال أظن أو أحسب أو أقدر لم يكن مقرا لأن هذه
الألفاظ تستعمل للشك، وكذلك إن قال خذ أو اتزن أو افتح كمك لأنه يحتمل خذ
الجواب أو اتزن أو افتح كمك لشئ آخر (مسألة) (وإن قال أنا مقر أو خذها أو
اتزنها أو اقبضها أو احرزها أو هي صاح فهل يكون مقراً؟ يحتمل وجهين) إذا
قال أنا مقر ولم يزد احتمل أن يكون مقراً لأن ذلك عقيب الدعوى فينصرف إليها
وكذلك إن قال أقررت قال الله تعالى (قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري؟
قالو أقررنا) ولم يقولوا أقررنا بذلك ولا زادوا عليه فكان منهم إقراراً
ويحتمل أن لا يكون مقراً لأنه يحتمل أن يريد غير ذلك مثل
(5/294)
أن يريد أنا مقر بالشهادة أو بطلان دعواك،
وإن قال خذها أو اتزنها أو اقبضها أو احرزها لي أو هي صحاح فهل يكون مقراً؟
يحتمل وجهين ففيه وجهان (أحدهما) ليس بإقرار لأن الصفة ترجع إلى المدعي ولم
يقر بوجوبه ولا يجوز أن يعطيه ما يدعيه من غير أن يكون واجباً عليه فأمره
بأخذها أولى أن لا يلزم منه الوجوب (والثاني) يكون إقراراً لأن الضمير يعود
إلى ما تقدم (مسألة) (وإن قال له على ألف إن شاء الله أو في علمي أو فيما
أعلم أو قال اقضني ديني عليك ألفاً أو سلم إلي ثوبي هذا أو فرسي هذه فقال
نعم فقد اقربها) إذا قال لك على ألف إن شاء الله كان مقراً نص عليه أحمد
وقال أصحاب الشافعي ليس بإقرار لأنه علق إقراره على شرط فلم يصح كما لو
علقه على مشيئة زيد ولأن ما علق على مشيئة الله لا سبيل إلى معرفته ولنا
أنه وصل إقراره بما يرفعه كله ولا يصرفه إلى غير الإقرار فلزمه ما أقر به
وبطل
ما وصله به كما لو قال له على ألف إلا ألفاً ولأنه عقب الإقرار بما لا يفيد
حكماً آخر ولا يقتضي رفع الحكم أشبه مالو قال له على ألف ان شئت وان شاء في
مشيئة الله وإن قال له على ألف إلا أن يشاء الله صح الإقرار لأنه أقر ثم
علق رفع الإقرار على أمر لا يعلم فلم يرتفع، وإن قال له على ألف ان شئت وان
شاء زيد لم يصح الإقرار وقال القاضي يصح لأنه عقبه ما يرفعه فصح الإقرار
دون ما يرفعه كاستثناء الكل وكما لو قال إن شاء الله
(5/295)
ولنا أنه علقه علي شرط يمكن علمه فلم يصح
كما لو قال له على ألف إن شهد به فلان وذلك لأن الإقرار إخبار بحق سابق فلا
يتعلق على شرط مستقبل، ويفارق التعليق على مشيئة الله تعالى فإن مشيئة الله
تذكر في الكلام تبركاً وصلة وتفويضاً إلى الله تعالى كقول الله تعالى
(لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين) وقد علم الله سبحانه أنهم سيد
خلونه بغير شك ويقول الناس صلينا إن شاء الله مع يقين صلاتهم بخلاف مشيئة
الآدمي والثاني أن مشيئة الله تعالى لاتعلم إلا بوقوع الاومر فلا يمكن وقوف
الأمر على وجودها ومشيئة الآدمي يمكن العلم بها فيمكن جعلها شرطا بتوقف
الأمر على وجودها والماضي لا يمكن وقفه فتعين حمل الأمر ههنا على المستقبل
فيكون لا إقراراً وعداً (فصل) ولو قال بعتك إن شاء الله أو زوجتك إن شاء
الله فقال أبو إسحاق بن شاقلا لا أعلم خلافاً عنه في أنه إذا قيل له قبلت
هذا النكاح فقال نعم إن شاء الله إن النكاح واقع وبه قال أبو حنيفة ولو قال
بعتك ألف إن شئت فقال قد شئت وقبل صح لأن هذا الشرط من موجب العقد ومقتضاه
فإن الإيجاب إذا وجد من البائع كان القبول إلى مشيئة المشتري واختياره
(مسألة) (وإن قال له على ألف في علمي أو فيما أعلم كان مقراً به) لأن ما في
علمه لا يحتمل إلا الوجوب ولو قال أقضيتني إلا ألف الذي لي عليك؟ قال نعم
كان مقراً به لأنه تصديق لما ادعاه وإن قال سلم الي ثوبي وهذا أو فرسي هذه
فقال نعم فقد أقر بها لما ذكرنا وإن قال اشتر عبدي هذا أو قال أعطني عبدي
هذا فقال نعم كان إقراراً لما ذكرنا
(5/296)
(مسألة) (وإن قال إن قدم فلان فله على ألف
درهم لم يكن مقراً) لأنه ليس بمقر في الحال وما لا يلزمه في الحال لا يصير
واجباً عند وجود الشرط، وإن قال له على ألف إن قدم فلان فعلى وجهين
(أحدهما) لا يكون إقراراً كالمسألة قبلها (والثاني) يكون مقراً لأنه قدم
الإقرار فثبت حكمه وبطل الشرط لأنه لا يصلح أن يكون أجلاً (مسألة) (وإن قال
له على ألف إذا جاء رأس الشهر كان إقراراً وإن قال إذا جاء رأس الشهر فله
علي ألف فعلى وجهين) قال أصحابنا في المسألة الأولى هو إقرار وفي الثانية
ليس بإقرار وهو منصوص الشافعي لأنه في الأول بدأ بالإقرار ثم عقبه بمالا
يقتضي رفعه لأن قوله إذا جاء رأس الشهر يحتمل أنه أراد المحل فلا يبطل
الإقرار بأمر محتمل وفي الثانية بدأ بالشرط فعلق عليه لفظاً يصح للاقرار
ويصلح للواعد فلا يكون اقرار امع الاحتمال ويحتمل أنه لا فرق بينهما لأن
تقديم الشرط وتأخيره سواء فيكون فيهما جميعاً وجهان (مسألة) (وإن قال له
على ألف إن شهد به فلان أو إن شهد به فلان صدقته لم يكن مقراً) لأنه يجوز
أن يصدق الكاذب (مسألة) (وإن قال إن شهد به فلان فهو صادق احتمل وجهين)
(أحدهما) لا يكون إقراراً لأنه
(5/297)
علقه على شرط فهي كالتي قبلها (والثاني)
يكون إقرارا في الحال لأنه لا يتصور صدقه إلا أن يكون ثابتاً في الحال وقد
أقر بصدقه (مسألة) (وإن أقر العربي بالعجمية أو العجمي بالعربية وقال لم
أرد ما قلت فالقول قوله مع يمينه لأنه يحتمل أن يكون صادقاً فلا يكون مقراً
(باب الحكم فيما إذا وصل بإقراره ما يغيره)
إذا وصل بإقراره ما يسقطه مثل أن يقول له على ألف لا يلزمني أو قد قبضه أو
استوفاه أو ألف من ثمن خمر أو تكلفت به على أني بالخيار لزمته الألف ولا
يقبل قوله ذكره أبو الخطاب وهو قول أبي حنيفة وأحد قولي الشافعي، وذكر
القاضي إذا قال له علي ألف زيوف وفسره برصاص
أو نحاص لم يقبل لأنه رفع كل ما اعترف به وقال في سائر الصور التي ذكرناها
يقبل قوله لأنه عزا إقراره إلى سببه فقبل كما لو عزاه إلى سبب صحيح إلا في
قوله علي ألف لا يلزمني ولنا أن هذا يناقض ما أقر به فلم يقبل كالصورة التي
قبلها وكما لو قال له علي ألف لا تلزمني أو نقول رفع جميع ما أقربه فلم
يقبل كاستثناء الكل وتناقض كلامه غير خاف فإن ثبوت ألف عليه في هذه المواضع
لا يتصور وإقراره إخبار بثبوته فتنافيا وإن سلم ثبوت الألف عليه فهو ما
قلنا
(5/298)
(مسألة) (وإن قال له على ألف إلا ألفاً لم
يصح) لأنه استثنى الكل ولا يصح بغير خلاف لأنه رجوع عن الاقرار وإن قال
الاسمائة لم يصح وسنذكره إن شاء الله تعالى (فصل) ولا يقبل رجوع المقر عن
إقراره إلا ماكان حداً لله تعالى يدرأ بالشبهات ويحتاط لا سقاطه فأما حقوق
الآدميين وحقوق الله تعالى التي لا تدرأ بالشبهات كالزكاة والكفارات فلا
يقبل رجوعه عنها ولا نعلم في هذا خلافاً (مسألة) (وإن قال كان له عندي ألف
وقضيته أو قضيت منه خمسمائة درهم فقال الخرقي ليس بإقرار والقول قوله مع
يمينه) وحكى ابن أبي موسى في هذه المسألة روايتين (أحدهما) أن هذا ليس
بإقرار اختاره القاضي وقال لم أجد عن أحمد رواية بغير هذا (والثانية) أنه
مقر بالحق مدع لقضائه فعليه البينة بالقضاء والاحلف غريمه وأخذه اختاره أبو
الخطاب وهو قول أبي حنيفة لأنه أقر بالدين وادعى القضاء بكلام منفصل ولأنه
رفع جميع ما أثبته فلم يقبل كاستثناء الكل وللشافعي قولان كالمذهبين، ووجه
قول الخرقي أنه قول متصل تمكن صحته ولا تناقض فيه فوجب أن لا يقبل كاستثناء
البعض، وفارق المنفصل لأن حكم الأول قد استقر بسكوته عنه فلا يمكن رفعه بعد
استقراره ولذلك لا يرفع بعضه باستثناء ولا غيره فما يأتي بعده من دعوى
القضاء يكون دعوى مجردة لا تقبل إلا بينة
(5/299)
وأما استئناء الكل فمتناقض لأنه لا يمكن أن
يكون عليه ألف وليس عليه شئ (فصل) فإن قال كان له على ألف وقضيته منه
خمسمائة فالكلام فيه كالكلام فيما إذا قال
وقضيته وإن قال له إنسان عليك مائة لي فقال قد قضيتك منها خمسين فقال
القاضي لا يكون مقرا بشئ لأن الخمسين التي ذكر أنه قضاها في كلامه ما يمنع
بقاءها وهو دعوى القضاء وباقي المائة لم يذكرها وقوله منها يحتمل أنه يريد
بها مما يدعيه ويحتمل مما علي فلا يثبت عليه شئ بكلام محتمل ويجئ على قول
من قال بالرواية الأخرى إنه يلزمه الخمسون التي ادعى قضاءها لأن في ضمن
دعوى القضاء إقراراً بأنها كانت عليه فلا تقبل دعوى القضاء بغير بينة (فصل)
فإن قال كان له على ألف وسكت لزمه الألف في ظاهر قول أصحابنا وهو قول أبي
حنيفة وأحد قولي الشافعي وقال في الآخر لا يلزمه شئ وليس هذا باقرار لأنه
لم يذكر عليه شيئاً في الحال إنما أخبر بذلك في زمن ماض فلا يثبت في الحال
ولذلك لو شهدت البينة لم يثبت ولنا أنه أقر بالوجوب ولم يذكر ما يرفعه فبقي
على ما كان عليه، ولهذا لو تنازعا داراً فأقر أحدهما للآخرانها كانت ملكه
حكم بها له إلا أنه ههنا إن عاد فادعى القضاء أو الإبراء سمعت دعواه لأنه
لا تنافي بين الإقرار وبين ما يدعيه وهذا على إحدى الروايتين (فصل) وإن قال
له على ألف قضيه إياه لزمه الألف ولم تقبل دعوى القضاء وقال القاضي تقبل
(5/300)
لأنه رفع ما أثبته بدعوى القضاء متصلا
فأشبه مالو قال كان له على وقضيته له وقال ابن أبي موسى إن قال قضيت جميعه
لم يقبل إلا ببينة ولزمه الألف الذي اقربه وله اليمين على المقر له وأما لو
قال قضيت بعضه قبل منه في إحدى الروايتين لأنه رفع بعض ما اقربه بكلام متصل
فأشبه مالو استثناه بخلاف ما إذا قال قضيت جميعه لكونه رفع جميع ما هو ثابت
فأشبه استثناء الكل ولنا أن هذا قول متناقض إذا لا يمكن أن يكون عليه ألف
قد قضاه فإن كونه عليه يقتضي بقاءه في ذمته واستحقاق مطالبته به وقضاءه
بمقتضى براءة ذمته منه وتحريم مطالبته به وهذا ضدان لا يتصور اجتماعهما في
زمن واحد بخلاف ما إذا قال له كان علي وقضيته فإنه أخبر بهما في زمانين
ويمكن أن يرفع ما كان ثابتاً ويقضي ما كان ديناً وإذا لم يصح هذا في الجميع
لم يصح في البعض لا ستحالة بقاء ألف عليه قد قضى بعضه، ويفارق الاستثناء
فإن الاستثناء مع المستثنى منه عبارة عن الباقي من المستثنى
منه فقول الله تعالى (فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما) عبارة عن تسعمائة
وخمسين عاماً أما القضاء فإنما يرفع جزءاً كان ثابتاً فإذا ارتفع بالقضاء
لا يجوز التعبير عنه بما يدل على القضاء (فصل) قال الشيخ رحمه الله (ويصح
استثناء ما دون النصف ولا يصح فيما زاد عليه وفي النصف وجهان) الاستثناء من
الجنس - وهو ما دخل في المستثنى منه - جائز بغير خلاف علمناه فإن ذلك كلام
العرب وقد جاء في الكتاب والسنة قال الله تعالى (فلبث فيهم ألف سنة إلا
خمسين عاما) وقال النبي
(5/301)
صلى الله عليه وسلم (يكفر عنه خطاياه كلها
إلا الدين) وذلك في كلام العرب كثير فإذا اقر بشئ واستثنى منه كان مقراً
بالباقي بعد الاستثناء فإذا قال له على مائة إلا عشرة كان مقراً بتسعين لأن
الاستثناء يمنع أن يدخل في اللفظ ما لولاه لدخل فإنه لو دخل ما أمكن إخراجه
ولو أقر بالعشرة المستثناة لما قبل منه إنكارها وقول الله تعالى (فلبث فيهم
ألف سنة إلا خمسين عاما) أخبار بتسعمائة وخمسين فالاستثنا.
بين أن الخمسين المستثناة غير مرادة كما أن التخصيص يبين أن المخصوص غير
مراد باللفظ العام إذا ثبت ذلك فلا نعلم خلافاً في جواز استثناء ما دون
النصف وقد دل عليه ما ذكرنا من الكتاب والسنة (فصل) فأما استثناء ما زاد
على النصف فلا يختلف المذهب أنه لا يصح وهو كاستثناء الكل يؤخذ بالجميع
ويحكى ذلك عن ابن درستويه النحوي وقال أبو حنيفة ومالك وأصحابهم يصح
استثناء ما دون الكل فلو قال له على مائة إلا تسعة وتسعين لم يلزمه إلا
واحد بدليل قول الله تعالى (قال فبعزتك لاغويهم أجميعن إلا عبادك منهم
المخلصين) وقوله (إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين)
وأيهما كان الأكثر فقد دل على استثناء الأكثر وأنشدوا أدوا التي نقصت تعسين
من مائة ثم ابعثوا حكماً بالحق قواما فاستثنى تسعين من مائة ولأنه في معنى
الاستثناء ومشبه به ولأنه استثنى البعض فجاز كاستثناء الأقل
(5/302)
ولأنه رفع بعض ما تناوله اللفظ فجاز
كالتخصيص والبدل.
ولنا أنه لم يرد في لسان العرب الاستثناء إلا في الأقل وقد أنكروا استثناء
الأكثر فقال أبو
إسحاق الزجاج لم يأت الاستثناء إلا في القليل من الكثير ولو قال قائل مائة
إلا تسعة وتسعين لم يكن متكلماً بالعربية وكان عياً من الكلام ولكنة، وقال
القتيبي يقال صمت الشهر إلا يوماً ولا يقال صمت الشهر إلا تسعة وعشرين
يوماً ويقال لقيت القوم جميعهم إلا واحداً أو اثنين ولا يجوزان يقال لقيت
القوم إلا أكثرهم وإن لم يكن صحيحاً في الكلام لم يرتفع به ما أقر به
كاستثناء الكل وكما لو قال له علي عشرة بل خسمة، وأما ما احتجوا به من
التزيل فإنه في الآية الأولى استثنى المخلصين من بني آدم وهم الافل كما قال
(إلا الذين آمنوا وعملوا الصلحات وقليل ماهم) وفي الآية الأخرى استثنى
الغاوين من العباد وهم الأقل فإن الملائكة من العباد وهم غير غاوين قال
الله تعالى (بل عباد مكرمون) وقيل الاستثناء في هذه الآية منقطع بمعنى
الاستدراك فيكون قوله (إن عبادي ليس لك عليهم سلطان) يبقى على عمومه لم
يستثن منه شئ فيكون قوله (إلا من اتبعك من الغاوين) أي لكن من ابتعك من
الغاوين فإنهم غووا باتباعك، وقد دل على صحة هذا قوله في الآية الأخرى
لاتباعه (وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي) وعلى هذا
لا يكون لهم فيها حجة وأما البيت فقال ابن فضال النحوي هو بيت مصنوع لم
يثبت عن العرب على أن هذا ليس باستثناء فإن الاستثناء له كلمات مخصوصة
(5/303)
ليس هذا منها والقياس لا يجوز في اللغة ثم
نعارضه بأنه استثنى أكثر من النصف فلم يجز كاستثناء الكل والفرق بين
استثناء الأكثر والأقل أن العرب استحسنته في الأقل واستعملته ونفته في
الأكثر وقبحته فلم يجز قياس ما قبحوه على ما حسنوه (فصل) وفي استثناء النصف
وجهان (أحدهما) يجوز وهو ظاهر كلام الخرقي لأنه ليس بالأكثر فجاز كالأقل
(والثاني) لا يجوز ذكره أبو بكر لأنه لم يرد في كلامهم إلا في القليل من
الكثير والنصف ليس بقليل وهو أولى (مسألة) (فإذا قال له على هولاء العبيد
العشرة إلا واحداً لزمه تسليم تسعة) فإن عينه فقال إلا هذا صح وكان مقراً
بمن سواه وإن قال إلا واحداً ولم يعينه صح لأن الإقرار يصح مجهولاً فكذلك
الاستثناء منه ويرجع في تعيين المسمى إليه لأن الحكم يتعلق بقوله وهو أعلم
بمراده به وإن عين من
عدا المستثنى صح وكان الباقي له.
(مسألة) (فإن ماتوا إلا وحدا فقال هو المستثنى فهل يقبل؟ على وجهين)
(أحدهما) يقبل ذكره القاضي وهو أحد الوجهين لأصحاب الشافعي (والوجه الثاني)
لا يقبل ذكره أبو الخطاب وهو الوجه الثاني لأصحاب الشافعي لأنه يرفع به
الإقرار كله، والصحيح الأول لأنه يقبل تفسيره به في حياتهم لمعنى هو موجود
بعد موتهم فقبل كحالة حياتهم وليس هذا رفعاً للإقرار وإنما تعذر تسليم
المقر
(5/304)
به لتلفه لا لمعنى يرجع إلى التفسير فأشبه
مالو عينه في حياته فتلف بعد تعيبنه فإن قتل الجميع إلا واحداً قبل تفسيره
بالباقي وجهاً واحداً لأنه غير متهم لأن المقر له يحصل له قيمة المقتولين
بخلاف الموت فإنه لا يحصل للمقر له شئ، وإن قتلوا كلهم فله قيمة أحدهم
ويرجع في التفسير إليه، وإن قال غصبتك هؤلاء العبيد إلا واحداً قبل تفسيره
به وجهاً واحداً لأن المقر له يستحق قيمة الهالكين فلا يفضي التفسير
بالباقي إلى سقوط الإقرار بخلاف ما إذا ما توا (فصل) وحكم الاستثناء بسائر
أدواته حكم الاستثناء بالافاذا قال له على عشرة سوى درهم أو ليس درهما أو
خلا درهما أو عدا درهما أولا يكون درهما أو غير درهم بفتح الراء كان مقراً
بدرهم وإن قال غير درهم بضم الراء وهو من أهل العربية كان مفسراً بعشرة
لأنها تكون صفة للعشرة المقر بها ولا تكون استثناء فإنها لو كانت استثناء
كانت منصوبة وإن لم يكن من أهل العربية لزمه تسعة لان الظهر أنه يريد
الاستثناء وإنما ضمها جهلا منه بالعربية لا قصداً للصفة (فصل) ولا يصح
الاستثناء إلا أن يكون متصلاً بالكلام فإن سكت سكوتاً يمكنه الكلام فيه أو
فصل بين المستثنى والمستثنى منه بكلام أجنبي لم يصح لأنه إذا سكت وعدل عن
إقراره إلى شئ آخر استقر حكم ما أقر به فلم يرفع بخلاف ما إذا كان في كلامه
فإنه لا يثبت حكمه أو ينظر ما يتم به كلامه ويتعلق به حكم الاستثناء والشرط
والبدل ونحوه
(5/305)
(مسألة) (وإن قال له هذه الدار إلا هذا
البيت لي قبل منه لأن الأول استثناء فلا يدخل البيت
في إقراره والثاني في معنى الاستثناء لكونه أخرج بعض ما يتناوله اللفظ
بكلام متصل وسواء كان البيت اكثر من نصف الدار أو أقل (مسألة) (وإن قال له
علي درهمان وثلاثة الادرهمين فهل يصح على وجهين؟) (أحدهما) يصح لأن
الاستثناء يعود إلى الجملتين وهو أقل من النصف (والثاني) لا يصح لأنه يعود
إلى أقرب المذكورين فيكون استثناء أكثر من النصف (مسألة) (وإن قال له على
درهم ودرهم الادرهما أو ثلاثة ودرهمان إلا درهمين أو ثلاثة ونصف إلا نصفا
أو إلا درهماً أو خمسة وتسعون إلا خمسة لم يصح الاستثناء.
ولزمه جميع ما أقر به قبل الاستثناء وهذا قول الشافعي وهو الذي يقتضيه مذهب
أبي حنيفة وفيه وجه آخر أنه يصح لأن الواو العاطفة تجمع بين العددين وتجعل
الجملتين كالجملة الواحدة وعندنا أن الاستثناء إذا تعقب جملا معطوفاً بعضها
على بعض بالواو عاد إلى جميعها كقولنا في قوله تعالى (ولا تقبلوا لهم شهادة
أبداً وأولئك هم الفاسقون إلا الذين تابوا) إن الاستثناء عاد إلى الجملتين
فإذا تاب القاذف قبلت شهادته ومن ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم (لا
يؤمن الرجل في سلطانه ولا يجلس على تكرمته
(5/306)
إلا بإذنه) قال شيخنا والأول أولى لأن
الواو لم تخرج الكلام من أن يكون جملتين والاستثناء برفع إحداهما جميعها
ولا نظير لهذا في كلامهم ولأن صحة الاستثناء تجعل إحدى الجملتين مع
الاستثناء لغواً لأنه أثبت شيئاً بلفظ مفرد ثم رفعه كله فلا يصح كما لو
استثنى منها وهى غير معطوفة على غيرها فأما الآية والخبر فإن الاستثناء لم
يرفع إحدى الجملتين إنما أخرج من الجملتين معاً من اتصف بصفة فنظيره قوله
للبواب من جاء يستأذن فائذن له وأعطه درهما إلا فلاناً ونظير مسئلتنا ما لو
قال اكرم زيدا وعمراً إلا عمراً (مسألة) وإن قال له على خمسة إلا درهمين
ودرهما لزمته الخمسة في أحد الوجهين) لأنه استثنى أكثر من النصف وفي الآخر
يلزمه ثلاثة ويبطل الاستثناء الثاني (مسألة) (ويصح الاستثناء من الاستثناء)
فإذا استثنى استثناء بعد استثناء وعطف الثاني على الأول كان مضافاً إليه
فإذا قال له على عشرة إلا ثلاثة وإلا درهمين كان مستثنيا الخمسة مقراً
بخمسة فإن كان الثاني غير معطوف على الأول كان استثناء من الاستثناء وهو
جائز في اللغة قال الله تعالى (إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين إلا آل لوط إنا
لمنجوهم أجمعين إلا امرأته قدرنا إنها لمن الغابرين) فإذا كان صدر الكلام
إثباتاً كان الاستثناء الأول نفياً والثاني إثباتاً فإن استثنى استثناء
ثالثاً كان نفياً يعود كل استثناء الى ما يليه من الكلام فإذا
(5/307)
قال له سبعة الا ثلاثة الادرهما لزمته خمسة
لأنه أثبت سبعة ثم نفى منها ثلاثة ثم أثبت درهماً وبقي من الثلاثة المنفية
درهمان مستثنيان من السبعة فيكون مقراً بخمسة (مسألة) (وإن قال له علي عشرة
إلا خمسة إلا ثلاثة الادرهمين الادرهما لزمه عشرة) على قول أبي بكر لأنه
منع استثناء النصف وفي الوجه الآخر يلزمه ستة لأن الاستثناء إذا رفع الكل
أو الا كثر سقط إن وقف عليه وإن وصله باستثناء آخر استعملناه فاستعملنا
الاستثناء الأول لوصله بالثاني لأن الاستثناء مع المستثنى عبارة عما بقي
فان عشرة الادرهما عبارة عن تسعة فإذا قال له على عشرة إلا خمسة إلا ثلاثة
صح استثناء الخمسة لأنه وصلها باستثناء آخر وكذلك صح استثناء الثلاثة
والدرهمين لأنه وصل ذلك باستثناء آخر والاستثناء من الاثبات نفي ومن النفي
اثبات فصح استثناء الخمسة وهو نفي فنفي خسمة وصح استثناء الثلاثة وهي إثبات
فعادت ثمانية وصح استثناء الدرهمين وهي نفي فبقيت ستة ولم يصح استثناء
الدرهم لأنه مسكوت عليه ويحتمل أن يكون وجه الستة أن يصح استثناء النصف
ويبطل الزائد فيصح استثناء الخمسة والدرهم ولا يصح استثناء ثلاثة والاثنين
(والوجه الثالث) يلزمه سبعة إذا صححنا الاستثناءات كلها فإذا قال عشرة إلا
خمسة بقي خمسة فإذا قال إلا ثلاثة عادت ثمانية لأنها إثبات فإذا قال إلا
درهمين كانت نفياً فبقي ستة فإذا استثنى درهما كان مثبتاً فصارت سبعة
(والوجه الرابع) يلزمه ثمانية لأنه يلغي الاستثناء الأول لكونه النصف فإذا
قال إلا ثلاثة كانت مثبتة وهي مستثناة
(5/308)
من الخمسة وقد بطلت فتبطل الثلاثة أيضاً
لبطلان الخمسة ويبقى الاثنان لأنهما نفي والنفي يكون من
إثبات، وقد بطل الإثبات الذي قبلها فتكون منفية من العشرة تبقى ثمانية ولا
يصح استثناء الواحد من الاثنين لأنه نصف (فصل) فإن قال له علي ثلاثة إلا
ثلاثة إلا درهمين بطل الاستثناء كله لأن الاستثناء لدرهمين من الثلاثة
استثناء الأكثر وهو موقوف عليه فبطل فإذا بطل الثاني بطل الأول لأنه استثنى
الكل ولأصحاب الشافعي في هذا ثلاثة أوجه (أحدها) يبطل الاستثناء لأن الأول
بطل لكونه استثناء الكل فبطل الثاني من الإقرار لأنه فرعه (الثاني) يصح
ويلزمه درهم لأن الاستثناء الأول لما بطل جعلنا الاستثناء الثاني من
الإقرار لأنه وليه لبطلان ما بينهما ويصح (الثالث) ويكون مقراً بدرهمين
لأنه استثناء لأكثر واستثناء الأكثر عندهم يصح ووافقهم القاضي في هذا
الوجه، وإن قال ثلاثة الا إلا ثلاثة إلا درهماً بطل الاستثناء كله، ويجئ
على قول أصحاب الشافعي فيه مثل ما قلنا في التي قبلها (مسألة) (ولا يصح
الاستثناء من غير الجنس نص عليه) وبهذا قال زفر ومحمد بن الحسن وقال أبو
حنيفة إن استثنى مكيلا أو موزونا جاز وإن استثنى عبداً أو ثوباً من غير
مكيل أو موزون لم يجز، وقال مالك والشافعي يصح الاستثناء من غير الجنس
مطلقاً لأنه ورد في الكتاب العزيز ولغة العرب قال الله تعالى (وإذ قلنا
للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا
(5/309)
إبليس كان من الجن) وقال سبحانه (لا يسمعون
فيها لغوا الاسلاما) وقال الشاعر: وبلدة.
ليس بها أنيس إلا اليعافير وإلا العيس وقال آخر: أعيت جواباً وما بالربع من
أحد إلا أواري لأياما أينها ولنا أن الاستثناء صرف اللفظ بحرف الاسثنا عما
كان يقتضيه لولاه وقيل أخرج بعض ما تناوله المستثنى منه مشتق من قواه ثنيت
فلاناً عن رأيه إذا صرفته عن رأي كان عازما عليه وثبت عنان دابتي إذا
صرفتها به عن وجهتها التي كانت تذهب إليها، وغير الجنس المذكور ليس بداخل
في الكلام فإذا ذكره فما صرف الكلام عن صوبه ولا ثناه عن وجه استرساله فلا
يكون استثناء وإنما سمي استثناء تجوزا وإنما هو في الحقيقة استدارك
والاههنا بمعنى لكن هكذا قال أهل العربية منهم ابن قيبة وحكاه
عن سيبويه والاستدراك لا يأتي الابعد الجحد ولذلك لم يأت الاستثناء في
الكتاب العزيز من غير الجنس إلا بعد النفي ولا يأتي بعد الإثبات إلا أن
يوجد بعد جملة.
إذا تقرر هذا فلا مدخل للاستدراك في الإقرار لأنه إثبات للمقر به فإذا ذكر
الاستدراك بعده كان باطلاً وإن ذكر بعده جملة كأنه قال له عندي مائة درهم
إلا ثوباً لي عليه فيكون مقراً لشئ مدعيا لشئ سواه فيقبل إقراره وتبطل
دعواه
(5/310)
كما لو صرح بذلك بغير لفظ الاستثناء، وأما
قوله تعالى (فسجدوا إلا إبليس) فإن إبليس كان من الملائه بدليل أن الله
تعالى لم يأمر بالسجود غيرهم فلو لم يكن منهم لما كان مأموراً بالسجود ولا
عاصياً بتركه ولا قال الله تعالى في حقه (ففسق عن أمر ربه) ولا قال (ما
منعك أن لا تسجد إذا أمرتك) وإذا لم يكن مأموراً فلم أبلسه الله وأهبطه
ودحره ولا يأمر الله بالسجود إلا الملائكة، قان قالوا بل قد تناول الأمر
الملائكة ومن كان معهم فدخل إبليس في الأمر لكونه معهم قلنا فقد سقط
استدلالكم فإنه متى كان إبليس داخلا في المستثنى منه مأموراً بالسجود
فاستثناؤه من الجنس وهو ظاهر لمن أنصف إن شاء الله تعالى.
فعلى هذا متى قال له على مائة درهم إلا ثوباً لزمته المائة لأن الاستثناء
باطل على ما بينا (مسألة) (إلا أن يستثني عيناً من ورق أو ورقاً من عين
فيصح) ذكره الخرقي وقال أبو بكر لا يصح (فإذا قال له على مائة درهم إلا
ديناراً فهل يصح؟ على وجهين) اختلف أصحابنا في صحة استثناء أحد النقدين من
الآخر فذهب أبو بكر إلى أنه لا يصح لما ذكرنا وهو قول محمد بن الحسن وقال
ابن أبي موسى فيه روايتان واختار الخرقي صحته لأن قدر أحدهما معلوم الآخر
ويعبر بأحدهما عن الآخر فإن قوما يسمون تسعة دراهم ديناراً وآخرون يسمون
ثمانية ديناراً فإذا استثنى أحدهما من الآخر علم أنه أراد التعبير بأحدهما
عن الآخر فإذا قال له على دينار إلا ثلاثة دراهم في موضع يعبر فيه بالدينار
عن تسعة كان معناه له علي تسعة دراهم إلا ثلاثة ومتى أمكن حمل الكلام
(5/311)
على وجه صحيح لم يجز إلغاؤه وقد أمكن بهذا
الطريق فرجب تصحيحه وقال أبو الخطاب لا فرق بين العين والورق وبين غيرهما
فيلزم من صحة استثناء أحدهما من الآخر صحة استثناء الثياب وغيرها وقد ذكرنا
الفرق
ويمكن الجمع بين الروايتين بحمل رواية الصحة على ما إذا كان أحدهما يعبر به
عن الآخر أو يعلم قدره منه ورواية البطلان على ما إذا انتفى ذلك والله أعلم
(فصل) ولو ذكر نوعاً من جنس واستثنى نوعاً آخر من غير ذلك الجنس مثل أن
يقول له علي عشرة آصح تمراً برنياً إلا ثلاثة تمرا معقيا لم يجز لما ذكرنا
في الفصل الأول ويخالف العين والورق لأن قيمة أحد النوعين غير معلومة من
الآخر ولا يعبر بأحدهما عن الآخر ويحتمل على قول الخرقي جوازه لتقارب
المقاصد من النوعين فهما كالعين والورق والأول أصح لأن العلة الصحيحة في
العين والورق غير ذلك (فصل) قال الشيخ رضي الله عنه (إذا قال له على ألف
درهم ثم سكت سكوتاً يمكنه الكلام فيه ثم قال زيوفاً او صغاراً أو إلى شهر
لزمه ألف جياد وافية حالة) وجملة ذلك أن من أقر بدارهم وأطلق اقتضى إقراره
الدراهم الوافية وهي دراهم الإسلام كل عشرة منها سبعة مثاقيل واقتضى أن
تكون جياداً حاله كما لو باعه بعشرة دراهم وأطلق فإنها تلزمه كذلك فإذا سكت
سكوتاً يمكنه الكلام فيه أو أخذ في كلام آخر غير ما كان فيه استقرت عليه
كذلك
(5/312)
فان عاد فقال زيوفا أو صغار أو هي الدراهم
الناقصة وهي دراهم طبرية كان كل درهم منها أربعة دوانيق وذلك ثلثا درهم، أو
الى شهر يعني مؤجلة لم يقبل منه لأنه رجوع عن بعض ما أقربه ويرفعه بكلام
منفصل فلم يقبل كالاستثناء المفنصل وهذا مذهب الشافعي، ولا فرق بين الإقرار
بها ديناً أو وديعة أو غصباً، وقال أبو حنيفة يقبل قوله في الغصب والوديعة
لأنه إقرار بفعل في عين وذلك لا يقتضي سلامتها فأشبه مالو أقر بغصب عبد ثم
جاء به معيباً ولنا أن إطلاق الاسم يقتضي الوازنة الجياد فلم يقبل تفسيره
بما يخالف ذلك كالدين ويفارق العبد فإن العيب لايمنع إطلاق اسم العبد عليه
(مسألة) (إلا أن يكون في بلد أوزانهم ناقصة أو مغشوشة فهل يلزمه من دراهم
البلد أو من غيرها؟ على وجهين (أولهما) أنه يلزمه من دراهم البلد لأن مطلق
كلامهم يحمل على عرف بلدهم كما
في البيع والصداق وغير ذلك (والثاني) يلزمه الوازنة الخالصة من الغش لأن
إطلاق الدراهم في الشرع ينصرف إليها بدليل أن بها تقدر نصب الزكواث ومقادير
الديات فكذلك إطلاق الشخص، وفارق البيع فإنه إيجاب في الحال فاختص بدراهم
الموضع الذي هما فيه والإقرار إخبار عن حق سابق فانصرف إلى درهم الإسلام
(5/313)
(فصل) فإن أقر بدراهم وأطلق ثم فسرها بسكة
البلد الذي أقر بها فيه قبل لانه إطلاقه ينصرف إليه وإن فسر بسكة غير سكة
البلد أجود منها قبل لأنه يقر على نفسه بما هو أغلظ وكذلك إن كانت مثلها
لأنه لا يتهم في ذلك وإن كانت أدنى من سكة البلد لكنها مساوية في الوزن
احتمل أن لا يقبل لأن إطلاقها يقتضي دراهم البلد ونقده فلا يقبل منه دونها
كما لا يقبل في البيع ولأنها ناقصة القيمة أشبهت الناقصة في الوزن ويحتمل
أن يقبل منه وهو قول الشافعي لأنه يحتمل ما فسره به وفارق النقصة فإن في
الشرع الدراهم لا تناولها بخلاف هذه ولهذا يتعلق بهذا مقدار النصاب في
الزكاة وغيره وفارق الثمن فإنه إيجاب في الحال وهذا إخبار عن حق سابق
(مسألة) (وإن قال له على ألف إلى شهر لزمه مؤجلاً ويحتمل أن يلزمه حالاً)
إذا أقربها مؤجلة بكلام متصل قبل منه وكذلك إن سكت للتنفس أو اعترضه سلعة
ونحو ذلك ويحتمل أن تلزمه حالة ذكرها أبو الخطاب وهو قول أبي حنيفة وبعض
الشافعية لأن التأجيل يمنع استيفاء الحق في الحال فلم يقبل كما لو قال له
علي دراهم قبضته إياها (مسألة) (وإن قال له على ألف زيوف وفسره بمالا فضة
فيه لم يقبل وإن فسره بمغشوشة قبل وكذلك ان فسرها بمعيية عيباً ينقصها قبل
لأنه صادق وإن فسرها برصاص أو نحاس أو مالا
(5/314)
قيمة له لم يقبل لأن تلك ليست دراهم على
الحقيقة فيكون تفسيره بها رجوعاً عما أقر به فلم يقبل كاستثناء الكل
(مسألة) (وإن قال له علي دراهم ناقصة لزمته ناقصة) وقال أصحاب الشافعي لا
يقبل تفسيره
بالناقصة وقال القاضي إذا قال له علي دراهم ناقصة قبل قوله وإن قال صغار
وللناس دراهم صغار قبل قوله وإن لم يكن لهم دراهم صغار لزمه وازنة كما لو
قال دربهم فإنه يلزمه درهم وازن وهذا قول ابن القاص من أصحاب الشافعي ولنا
أنه فسر كلامه بما يحتمله بكلام متصل فقبل منه كاستثناء البعض وذلك لأن
الدراهم يعبر بها عن الوازنة والناقصة والزيوف والجيدة وكونها عليه يحتمل
الحلول والتأجيل فإذا وصفها بذلك تقيدت به كما لو وصف الثمن به فقال بعتك
بعشرة دراهم مؤجلة أو ناقصة وثبوتها على غير هذه الصفة حالة الإطلاق لا
يمنع من صحة تقييدها به كالثمن وقولهم إن التأجيل يمنع استيفاءها لا يصح
وانما يؤخره فأشبه الثمن المؤجل، يحققه إن الدراهم ثبتت في الذمة على هذه
الصفات فإذا كانت ثابتة بهذه الصفة لم تقتض الشريعة المطهرة سد باب الإقرار
بها على صفتها وعلى ما ذكروه لا سبيل إلى الإقرار بها إلا على وجه يؤاخذ
بغير ما هو الواجب عليه فينسد باب الإقرار وقول من قال إن قوله صغار ينصرف
إلى
(5/315)
مقدارها لا يصح لأن مساحة الدرهم لا تعتبر
في الشرع ولا يثبت في الذمة بمساحة مقدرة وإنما يعتبر الصغر والكبر في
الوزن فيرجع إلى تفسير المقر (فصل) وإن قال له علي درهم كبير لزمه درهم من
دراهم الإسلام لأنه كبير في العرف وإن قال له على درهم فهو كما لو قال درهم
لأن الصغير قد يكون لصغره في ذاته أو لقلة قدره عنده وتحقيره وقد يكون
لمحبته كما قال الشاعر بذيالك الوادي أهيم ولم أقل بذيالك الوادي وذياك من
زهد ولكن إذا ماحب شئ تولعت به أحرف التصغير من شدة الوجد وإن قال له على
عشرة دراهم عدداً لزمته عشرة معدودة وازنة لأن إطلاق الدرهم يقتضي الوازن
وذكر العدد لا ينافيها فوجب الجمع بينهما فإن كان في بلد أو زانهم ناقصة أو
دراهمم مغشوشة فهو على ما فصل فيه.
(مسألة) (وإن قال له عندي رهن وقال المالك بل وديعة فالقول قول المالك) لأن
العين ثبتت
بالإقرار له وإن ادعى المقر ديناً لا يعترف به المقر له فالقول قول المنكر
ولأنه أقر بمال لغيره وادعى أن له به تعلقاً فلم يقبل كما لو ادعاه بكلام
منفصل ولذلك ولو أقر له بدار وقال استأجرتها أو أقر له
(5/316)
بثوب وادعى أنه قصره أو خاطه بأجر يلزم
المقر له لم يقبل لأنه مدع على غيره حقاً فلا يقبل قوله إلا ببينة ومن ذلك
ما لو قال هذه الدار له ولي سكناها ببينة (مسألة) (وإن قال له على ألف من
ثمن مبيع لم أقبضه وقال المقر له بل هو دين في ذمتك فعلى وجهين) (أحدهما)
القول قول المقر لأنه اعترف له بالألف وادعى عليه مبيعاً فأشبه المسألة
التي قبلها أو كما لو قال له على ألف ثم سكت ثم قال مؤجل (مسألة) (ولو قال
له عندي ألف وفسره بدين أو وديعة قبل منه) لا نعلم فيه بين أهل العلم
اختلافاً سواء فسره بكلام متصل أو منفصل لأنه فسر لفظه بما يقتضيه فقبل كما
لو قال له علي دراهم وفسرها بدين عليه فعند ذلك تثبت فيه أحكام الوديعة
بحيث لو ادعى تلفها بعد ذلك أو ردها قبل قوله وإن فسره بدين عليه قبل أيضاً
لأنه يقر على نفسه بما هو أغلظ وإن قال له عندي وديعة ورددتها إليه أو تلفت
لزمه ضمانها ولم يقبل قوله، وبهذا قال الشافعي لما فيه من مناقضة الإقرار
والرجوع عما اقربه فإن الألف المردود والتالف ليساعنده أصلاً ولا هي وديعة
وكل كلام يناقض الإقرار ويحيله يجب أن يكون مردوداً، وقال القاضي يقبل قوله
إلا أن أحمد قال في رواية ابن منصور إذا قال لك عندي وديعة دفعتها إليك صدق
لأنه ادعى تلف الوديعة أو ردها
(5/317)
فقبل كما لو ادعى ذلك بكلام منفصل فإن قال
كانت عندي وظننت أنها باقية ثم عرفت أنها كانت قد هلكت فالحكم فيها كالتي
قبلها (مسألة) (وإن قال له على ألف وفسره بوديعة لم يقبل قوله وإن ادعى بعد
هذا تلفه لم يقبل قوله) وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي وقيل عن الشافعي يقبل
قوله إنها وديعة وإذا ادعى بعد هذا تلفها قبل منه وقال القاضي ما يدل على
هذا أيضاً لأن الوديعة عليه حفظها وردها فإذا قال له على ألف
وفسرها بذلك احتمل صدقه فقبل منه كما لو وصله بكلامه فقال له على ألف وديعة
لأن حروف الصفات يخلف بعضها بعضاً فيجوز أن تستعمل علي بمعنى عندي كما قال
تعالى إخباراً عن موسى عليه السلام أنه قال (ولهم علي ذنب) أي عندي ولنا أن
على للإيجاب وذلك يقتضي كونها في ذمته ولذلك لو قال ما على فلان علي كان
ضامناً له والوديعة ليست في ذمته ولاهي عليه إنما هي عنده وما ذكروه مجاز
طريقه حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه أو إقامة حرف مقام حرف والإقرار
يؤخذ فيه بظاهر اللفظ بدليل أنه لو قال له على دراهم لزمته ثلاثة وإن جاز
التعبير عن اثنين وعن واحد بلفظ الجمع كقوله تعالى (فإن كان له إخوة فلأمه
السدس) ومواضع كثيرة في القرآن ولو قال له على درهم وقال أردت نصف درهم
فأقمت المضاف إليه مقامه لم يقبل منه ولو قال لك من مالي ألف قال صدقت ثم
قال أردت أن عليك من مالي ألفاً أقمت اللام مقام على كقوله تعالى (وإن
أسأتم فلها) لم يقبل منه ولو قبل في الإقرار مطلق الاحتمال لسقط ولقبل
تفسير الدراهم
(5/318)
بالنقاصة والزائفة وللمؤجلة، وأما اذا قال
لك علي ألف ثم قال كانت وديعة فتلف لم يقبل قوله فإنه متناقض وقد سبق نحو
هذا (فصل) فإن قال لك على مائة درهم ثم أحضرها وقال هذه التي أقررت بها وهي
وديعة كانت لك عندي فقال المقر له هذه وديعة والتي أقررت بها غيرها وهي دين
عليك فالقول قول المقر له على مقتضى قول الخرقي وهو قول أبي حنيفة وقال
القاضي القول قول المقر مع يمينه وللشافعي قولان كالوجهين وتعليلهما ما
تقدم، فإن كان قال في إقراره لك على مائة في ذمتي فقد وافق القاضي ههنا في
أنه لا يقبل قول المقر لأن الوديعة عين لا تكون في الذمة قال وقد قيل يقبل
لأنه يحتمل في ذمتي أداؤها ولأنه يجوز أن تكون عنده وديعة تعدى فيها فكان
ضمانها عليه في ذمته ولا صحاب الشافعي في هذه وجهان فأما إن وصل ذلك بكلامه
فقال لك علي مائة وديعة قبل لأنه فسر كلامه بما يحتمله فصح كما لو قال له
ودراهم ناقصة وإن قال له على مائة وديعة ديناً أو مضاربة ديناً صح ولزمه
ضمانها لأنه قد يتعدى فيها فيكون ديناً وإن قال أردت أنه شرط علي ضمانها لم
يلزمه ضمانها لأن الوديعة لا تصير بالشرط مضمونة
وإن قال على أو عندي مائة درهم عارية لزمته وكانت مضمونة عليه سواء حكمنا
بصحة العارية في الدراهم أو بفسادها لأن ما ضمن في العقد الصحيح ضمن في
الفاسد وإن قال أودعني مائة فلم
(5/319)
أقبضها أو أقرضني مائة فلم آخذها قبل قوله
متصلا ولم يقبل منفصلاً وهكذا إذا قال نقدني مائة فلم أقبضها وهذا قول
الشافعي (فصل) وإن قال له في هذا العبد ألف اوله من هذا العبد ألف طولب
بالبيان فإن قال نقد عني ألفاً في ثمنه كان قرضاً وإن قال نقد في ثمنه
ألفاً قلنا بين كم ثمن العبد وكيف كان الشراء فإن قال بإيجاب واحد وزن
ألفاً ووزنت ألفاً كان مقراً بنصف العبد وإن قال وزنت أنا ألفين كان مقراً
بثلثه والقول قوله مع يمينه سواء كانت القيمة قدر ما ذكره أو أقل لأنه قد
يغبن وقد يغبن وإن قال اشتريناه بإيجابين قيل له فكم اشترى منه؟ فإن قال
نصفاً أو ثلثاً أو أقل أو أكثر قبل منه مع يمينه وافق القيمة أو خالفها وإن
قال وصي له بألف من ثمنه بيع وصرف إليه من ثمنه ألف فإن أراد أن يعطيه
ألفاً من ماله من غير ثمن العبد لم يلزمه قبوله لأن الموصى له يتعين حقه في
ثمنه وإن فسر ذلك بجناية جناها العبد فتعلقت برقبته قبل ذلك وله بيع العبد
ودفع الألف من ثمنه، وإن قال أردت أنه رهن عنده بألف فعلى وجهين (أحدهما)
لا يقبل لأن حق المرتهن في الذمة (والثاني) يقبل لأن الدين يتعلق بالرهن
فصح تفسيره به كالجناية ومذهب الشافعي في هذا الفصل كما ذكرنا (مسالة) (وإن
قال له في هذا المال ألف لزمه تسليمه إليه) لأنه أقر له بالملك
(5/320)
(مسألة) (وإن قال له من مالي أو في مالي أو
في ميراثي من أبي ألف أو نصف داري هذه وفسره بالهبة وقال بدالي من تقبيضه
قبل) إذا قال له في مالي أو من مالي ألف وفسره بدين أو وديعة أو وصية قبل
وقال بعضن أصحاب الشافعي لا يقبل إقراره وليس هو لغيره.
ولنا أنه أقر بألف فقبل كما لو قال له في مالي ويجوز أن يضيف إليه مال بعضه
لغيره ويجوز أن
يضيف مال غيره إليه لاختصاص له به بأن يكون عليه يد أو ولاية قال الله
تعالى (ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي يجعل الله لكم قياما وارزقوهم فيها
واكسوهم) وقال سبحانه في النساء (ولا تخرجوهن من بيوتهن) وقال لأزواج رسول
الله صلى الله عليه وسلم (وقرن في بيوتكن) فلا يبطل إقراره مع احتمال صحته
فإن قال أردت هبة قبل منه لأنه محتمل، وإن امتنع من تقبيضها لم يجبر عليه
لأن الهبة فيها لا تلزم قبل القبض وكذلك يخرج إذا قال له نصف داري هذه أوله
من داري نصفها، وقد نقل عن أحمد ما يدل على روايتين قال في رواية منها فيمن
قال نصف عبدي هذا لفلان لم يجز إلا أن يقول وهبته وإن قال نصف مالي هذا
لفلان لا أعرف هذا، ونقل ابن منصور إذا قال فرسي هذه لفلان فإقراره جائز
فظاهر هذا صحة الإقرار فإن قال له في هذا المال نصفه فإقراره جائز وإن قال
له في هذا المال نصفه أو له
(5/321)
نصف هذه الدار فهو إقرار صحيح وإن قال له
في هذا المال ألف صح، وإن قال في ميراثي من أبي ألف وقال أردت هبة قبل منه
لأنه إذا أضاف الميراث إلى أبيه فمقتضاه ما خلفه فيتقضي وجوب المقربه فيه
وإذا أضاف الميراث إلى نفسه فمعناه ما ورثته وانتقل إلي فلا تحمل إلا على
الوجوب وإذا أضاف إليه جزءاً فالظاهر أنه جعل له جزءاً في ماله (مسألة)
(وإن قال له في ميراث أبي ألف فهو دين على التركة) لأن لفظه يقتضي ذلك
(مسألة) (وإن قال نصف هذه الدار فهو مقر بنصفها) لما ذكرنا (مسألة) (وإن
قال له هذه ادار عارية ثبت لها حكم العارية) لا قراره بذلك (مسألة) (وإن
أقر أنه وهب أو رهن أو قبض أو أقر بقبض ثمن أو غيره ثم أنكر وقال ما قبضت
ولا أقبضت وسأل اخلاف خصمه فهل تلزمه اليمين؟ على وجهين) وذكر شيخنا في
كتاب المغني روايتين (إحداهما) لا يستحلف وهو قول أبي حنيفة ومحمد لأن
دعواه تكذيب لا قراره فلا تسمع كما لو أقر المضارب أنه ربح الفاثم قال غلطت
ولأن الإقرار أقوى من البينة، ولو شهدت البينة ثم قال أحلفوه لي مع بينة لم
يستحلف كذاههنا (والثانية) يستحلف وهو قول الشافعي وأبي يوسف لأن العادة
جارية في الإقرار بالقبض قبله فيحتمل صحة ما قاله فينبغي أن يستحلف
خصمه لنفي الاحتمال ويفارق الإقرار البينة من وجهين
(5/322)
(أحدهما) إن العادة جارية بالإقرار بالقبض
قبله ولم تجر العادة بالشهادة على القبض قبلها لأنها تكون شهادة زور
(والثاني) إنكاره مع الشهادة طعن في البينة وتكذيب لها وفي الإقرار بخلافه
ولم يذكر القاضي في المجرد غير هذا الوجه، وكذلك إن أقر أنه اقترض منه
ألفاً وقبضها أو قال له على ألف ثم قال ما كنت قبضتها وانها أقررت لأقبضها
فالحكم كذلك ولأنه يمكن أن يكون قد أقر بذلك بناء على قول وكيله وظنه
والهشادة لا تجوز إلا على اليقين (مسألة) (وإن باع شيئاً ثم أقر أن المبيع
لغيره لم يقبل قوله على المشتري) لأنه يقر على غيره ولا ينفسخ البيع لذلك
وتلزمه غرامته للمقر له لانه ق فوته عليه بالبيع وكذلك إن وهبه أو أعتقه ثم
أقر به.
(مسألة) (وإن قال لم يكن ملكي ثم ملكته بعد لم يقبل قوله) لأن الأصل أن
الإنسان إنما يتصرف فيما له التصرف فيه الا إن يقيم بينة فيقبل ذلك فإن كان
قد أقر أنه ملكه أو قال قبضت ثمن ملكي أو نحوه لم تسمع بينته أيضاً لأنها
تشهد بخلاف ما أقربه (فصل) إذا قال له هذه الدارهبة أو سكنى أو عارية كان
إقراراً بما أبدل به كلامه ولم يكن إقراراً بالدار لأنه رفع بآخر كلامه بعض
ما دخل في أوله فصح كما لو اقر بجملة واستثنى بعضها وذكر القاضي في هذا
وجهاً أنه لا يصح لأنه استثناء من غير الجنس وليس هذا استثناء إنما هو بدل
الاشتمال وهو أن يبدل من الشئ
(5/323)
بعض ما يشتمل عليه ذلك الشئ كقوله تعالى
(يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه) فإنه أبدل القتال من الشهر المشتمل
عليه، وقال تعالى إخباراً من فتى موسى عليه السلام أنه قال (وما أنسانيه
إلا الشيطان أن أذكره) أي أنساني ذكره وإن قال له هذه الدار ثلثها أو ربعها
صح ويكون مقراً بالجزء الذي أبدله وهذا بدل البعض وليس ذلك استثناء ومنه
قوله تعالى (ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا) ولكنه في معنى
الاستثناء في كونه يخرج من الكلام بعض ما دخل فيه لولاه
ويفارقه في أنه يجوز أن يخرج أكثر من النصف وأنه يجوز ابدال الشئ من غيره
إذا كان مشتملا عليه الا ترى أن الله تعالى أبدل المستطيع للحج من الناس
وهو أقل من نصفهم وأبدل القتال من الشهر الحرام وهو غيره؟ ومتى قال له هذه
الدار سكنى أو عارية ثبت فيها حكم ذلك وله أن يسكنه إياها وأن يعود فيما
أعاره والله أعلم (فصل) إذا قال بعتك جاريتي هذه قال بل زوجتنيها فلا يخلو
إما أن يكون اختلافهما قبل نقده الثمن أو بعده وقبل الاستيلاد أو بعده فإن
كان بعد اعتراف البائع بقبض الثمن فهو مقربها لمدعي الزوجية لأنه يدعي عليه
شيئاً والزوج ينكرانها ملكه ويدعي حلها بالزوجية فيثبت الحل لاتفاقهما عليه
ولا ترد إلى البائع لاتفاقهما أنه لا يستحق أخذها وإن كان قبل قبض الثمن
وبعد الاستيلاد فالبائع يقرأنها صارت ام ولدولدها حروانه لا مهر لها ويدعي
الثمن والمشتري ينكر ذلك كله فيحكم بحرية الولد لإقرار من ينسب
(5/324)
إليه ملكه بحريته ولا ولاء عليه لاعترافه
بأنه حر الأصل، ولا ترد الأمة إلى البائع لاعترافه بأنها أم ولد لا يجوز
نقل الملك فيها ويحلف المشتري إنه ما اشتراها ويسقط عنه الثمن الاقدر المهر
فإنه يجب لاتفاقهما على وجوبه وإن اختلف في سببه، وهذا قول بعض أصحاب
الشافعي، وقال بعضهم يتحالفان ولا يجب مهر ولا ثمن وهو قول القاضي إلا أنه
لا يجعل على البائع يميناً لأنه لا يرى اليمين في إنكار النكاح، ونفقة
الولد على أبيه لأنه حر ونفقة الأمة على زوجها لأنه اما زوج واما سيد
وكلاهما سبب لوجوب النفقة وقال القاضي نفقتها في كسبها فان كان فيه فضل فهي
موقوفة لأننا أزلنا عنها ملك السيد وأثبتنا لها حكم الاستيلاد فإن ماتت
وتركت مالاً فللبائع قدر ثمنها لأنه إما أن يكون صادقاً فهو يستحق على
المشتري ثمنها وتركتها للمشتري والمشتري مقر للبائع بها فيأخذ منها قدر ما
يدعيه وإن كان كاذباً فهي ملكه وتركتها كلها له فيأخذ منها قدر ما يدعيه
وبقيته موقوفة، وإن ماتت بعد الوطئ فقد ماتت حرة وميراثها لولدها وورثتها
فإن لم يكن لها وارث فميراثها موقوف لان أحدالا يدعيه وليس للسيد أن يأخذ
منه قدر الثمن لأنه يدعي الثمن على الواطئ وميراثها ليس له لأنه قد مات
قبلها وإن كان اختلافهما قبل الاستيلاد فقال شيخنا عندي أنها تقبر في يد
الزوج لاتفاقهما على حلها له واستحقاقه إمساكها وإنما
اختلفا في السبب ولا ترد إلى السيد لاتفاقهما على تحريهما عليه وللبائع أقل
الأمرين من الثمن أو المهر لاتفاقهما على استحقاقه لذلك والأمر في الباطن
على ذلك فإن السيد إن كان صادقاً فالأمة حلال
(5/325)
لزوجها بالبيع وإن كان كاذباً فهي حلال له
بالزوجية والقدر الذي اتفقا عليه إن كان السيد صادقاً فهو يستحقه ثمنا وإن
كان كاذباً فهو يستحقه مهراً وقال القاضي يحلف الزوج أنه ما اشتراها لأنه
منكر ويسقط عنه الثمن ولا يحتاج السيد إلى اليمين على نفي الزوجية لأنه لا
يستحلف فيه وعند الشافعي يتحالفان معاً ويسقط الثمن عن الزوج لأن البيع ما
ثبت ولا يجب المهر لأن السيد لا يدعيه وترد الجارية إلى سيدها وفي كيفية
رجوعها وجهان (أحدهما) ترجع إليه فيملكها ظاهراً وباطناً كما يرجع البائع
في السلعة عند فلس المشتري بالثمن لأن الثمن ههنا قد تعذر فيحتاج السيد أن
يقول فسخت البيع وتعود إليه ملكاً (والثاني) يرجع إليه في الظاهر دون
الباطن لأن المشتري امتنع من أداء الثمن مع إمكانه فعلى هذا يبيعها الحاكم
ويوفيه ثمنها فإن كان وفق حقه أو دونه أخذه وإن زاد فالزيادة لا يديعها
أحد، ولان المشتري يقر بها للبائع والبائع لا يدعي أكثر من الثمن الأول فهل
تقر في يد المشتري أو ترجع الى بيت المال؟ يحتمل وجهين، وإن رجع البائع
فقال صدق خصمي ما بعته إياها بل زوجته لم يقبل في إسقاط حرية الولد ولا في
استرجاعها أن صارت أم ولد وقبل في إسقاط الثمن واستحقاق ميراثها وميراث
ولدها وإن رجع الزوج ثبتت الحرية ووجب عليه الثمن (فصل) ولو أقر رجل بحرية
عبد ثم اشتراه أو شهد رجلان بحرية عبد لغيرهما ثم اشتراه أحدهما من سيده
عتق في الحال لاعترافه بأن الذي اشتراه حر ويكون البيع صحيحاً بالنسبة إلى
البائع لأنه
(5/326)
محكوم له برقه وفي حق المشتري استفاذا فإذا
صار في يديه حكم بحريته لاقراره السابق ويصير كما لو شهد رجلان على رجل أنه
طلق زوجته ثلاثاً فرد الحاكم شهادتهما فدفعا إلى الزوج عوضاً ليخلعها صح
وكان في حقه خلعاً صحيحاً وفي حقهما استخلاصاً، ويكون ولاؤه موقوفاً لأن
أحداً لا يدعيه فإن البائع يقول ما أعتقته والمشتري يقول ما أعتقه إلا
البائع وأنا استخلصته فإن مات وخلف مالا فرجع
أحدهما عن قوله فالمال له لأن أحداً لا يدعيه سواه لأن الراجع إن كان
البائع فقال فقال المشتري كنت أعتقته فالولاء له ويلزمه رد الثمن إلى
المشتري لإقراره ببطلان البيع وإن كان الراجع المشتري قبل في المال لأن
أحداً لا يدعيه سواه ولا يقبل قوله في نفي الحرية لأنها حق لغيره وإن رجعا
معاً فيحتمل أن يوقف حتى يصطلحا عليه لأنه لأحدهما ولا نعرف عينه ويحتمل أن
من هو في يده يأخذه ويحلف لأنه منكر وإن لم يرجع واحد منهما ففيه وجهان
(أحدهما) يقر في يد من هو في يده فإن لم يكن في يد أحدهما فهو لبيت المال
لأن أحداً لا يدعيه ويحتمل أن يكون لبيت المال على كل حال (فصل) ولو أقر
لرجل بعبد أو غيره ثم جاء به وقال هذا الذي أقررت لك به قال بل هو غيره لم
يلزمه تسلميه إلى المقر له لأنه لا يدعيه ويحلف المقر أنه ليس له عنده عبد
سواه فإن رجع المقر له فادعاه لزمه دفعه إليه لأنه لا منازع له فيه وان قال
المقر له صدقت والذي أقررت به آخر لي عندك لزمه تسليم هذا ويحلف على نفي
الآخر
(5/327)
(فصل) قال الشيخ رحمه الله (وإذا قال غصبت
هذا العبد من زيد لابل من عمرو أو غصبته من زيد وملكه لعمرو لزمه دفعه إلى
زيد ويغرم قيمته لعمرو إذا قال غصبت هذا العبد من زيد لابل من عمر وحكم به
لزيد ولزمه تسليمه إليه ويغرم لعمرو وبهذا قال أبو حنيفة وهو ظاهر مذهب
الشافعي وقال في الآخر لا يضمن لعمرو شيئاً ولنا أنه أقر بالغصب الموجب
للضمان والرد إلى المغصوب منه ثم لم يرد ما أقر بعضه فلزمه ضمانة كما لو
تلف بفعل الله تعالى قال أحمد في رواية ابن منصور في رجل قال لرجل استودعتك
هذا الثوب قال صدقت ثم قال استودعنيه رجل آخر فالثوب للأول ويغرم قيمته
للآخر ولا فرق بين أن يكون إقراره بكلام متصل أو منفصل.
(مسألة) (وإن قال ملكه لعمرو وغصبته من زيد فهي كالمسألة التي قبلها) ولا
فرق بين التقديم والتأخير والمتصل والمنفصل وقيل يلزمه دفعه إلى عمرو يغرمه
لزيد لأنه لما أقربه لعمرو أولا لم يقبل إقراره باليد لزيد قال شيخنا وهذا
وجه حسن ولأصحاب الشافعي
وجهان كهذين، ولو قال هذا الألف دفعه إلي زيد وهي لعمرو أو قال هو لعمرو
ودفعه الي زيد فكذلك على ما مضى من القول فيه (مسألة) (وإن قال غصبته من
أحدهما أو هو لأحدهما صح الإقرار)
(5/328)
لأنه يصح بالمجهول فصح للمجهول ثم يطبالب
بالبيان فإن عين أحدهما دفع إليه ويحلف للآخران ادعاه ولا يغرم له شيئاً
لأنه لم يقر له بشئ، وإن قال لا أعرف عينه فصدقاه نزع من يده وكانا خصمين
فيه وإن كذباه فعليه اليمين أنه لا يعلم وينزع من يده فإن كان لأحدهما بينة
حكم له بها وإن لم تكن بينة أقرعنا بينهما فمن قرع صاحبه حلف وسلمت إليه،
وإن بين الغاصب بعد ذلك مالكها قبل منه كما لو بينه ابتداء ويحتمل أنه إذا
إدعى كل واحد أنه المغصوب منه توجهت عليه اليمين لكل واحد منهما إنه لم
يغصبه فإن حلف لأحدهما لزمه دفعها إلى الآخر لأن ذلك يجري مجرى تعيينه وإن
نكل عن اليمين لهما جميعاً فسلمت إلى أحدهما بقرعة أو غيرها لزمه غرمها
للآخر لأنه نكل عن يمين توجهت عليه فقضى عليه كما لو إدعاها وحده (فصل) وإن
كان في يده عبدان فقال أحد هذين لزيد طولب بالبيان فاذاعين أحدهما فصدقه
زيد أخذه وإن قال هذا لي والعبد الآخر فعليه اليمين في الذي ينكره وإن قال
زيد إنما لي العبد الآخر فالقول قول المقر مع يمينه في العبد الذي ينكره
ولا يدفع إلى زيد العبد الذي يقر به له ولكن يقر في يد المقر لأنه لم يصح
إقراره به في أحد الوجهين، وفي الآخر ينزع من يده لاعترافه إنه لا تملكه
ويكون في بيت المال لانه لامالك له معروف فأشبه ميراث من لا يعلم وارثه،
فإن أبى التعيين فعينه المقر له وقال هذا عبدي طولب بالجواب وإن أنكر حلف
وكان بمنزلة تعيينه للآخر وإن نكل عن اليمين
(5/329)
قضي عليه وإن أقر له فهو كتعيينه (فصل) إذا
قال هذه الدار لزيد لابل لعمرو أو ادعى زيد على ميت شيئاً معيناً من تركته
فصدقه ابنه ثم ادعاه عمرو فصدقه حكم به لزيد ووجب عليه غرامته لعمرو،
وسنذكر ذلك
فيما بعد إن شاء الله تعالى (مسألة) (وإن أقر بألف في وقتين لزمه ألف واحد)
وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة يلزمه ألفان كما لو قال له على ألف والف
لا فربق بين أن يكون في وقت واحد أو أوقات أو مجلس واحد أو مجالس ولنا أنه
يجوز أن يكون قد كرر الخبر عن الأول كما كرر الله الخبر عن إرساله نوحاً
وهوداً وصالحاً وشعيباً وإبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام ولم يكن المذكور
في قصة غير المذكور في الأخرى كذا ههنا لأنه يجوز أن يكون المطلق هو الموصف
أطلقه في حال ووصفه في حال وإن وصفه بصفة واحدة في المرتين كان تأكيداً لما
ذكرنا (مسألة) (وإن أقر بألف من ثمن عبد ثم أقر بألف من ثمن فرس أو قرض
لزمه ألفان) وكذلك إن قال ألف درهم سود وألف درهم بيض لأن الصفة اختلفت
فهما متغايران (مسألة) (وإن ادعى رجلان دار في يد غيرهما شركة بينهما
بالسوية فأقر لاحدهما بنفصها فالمقر به بينهما نصفان.
(5/330)
وجملة ذلك إنهما إذا إدعيا أنهما ملكاها
بسبب يوجب الاشتراك مثل أن يقولا ورثناها وابتعناها معاً فأقر المدعى عليه
بنفصها فذلك لهما جميعاً لأنهما اعترفا أن الدار لهما مشاعة فإذا غصب غاصب
نصفها كان منهما والباقي بينهما وإن لم يكونا ادعيا شيئاً يقتضي الاشتراك
بل ادعى كل وحد منهما فأقر لأحدهما بما ادعاه لم يشاركه الآخر وكان على
خصومته لأنهما لم يعترفا بالاشتراك، فإن أقر لأحدهما بالكل وكان المقر له
يعترف للآخر بالنصف سلمه إليه وكذلك إن كان قد تقدم إقراره بالنصف وجب
تسليمه إليه لأن الذي هي في يده قد اعترف له بها فصار بمنزلته فثبتت لمن
يقر له وإن لم يكن اعترف للآخر وادعى جميعها أو ادعى أكثر من النصف فهو له،
فإن قيل فكيف يملك جميعها ولم يدع إلا نصفها؟ قلنا ليس من شرط صحة الإقرار
تقدم الدعوى بل متى اقر بشئ لإنسان فصدقة المقر له ثبت وقد وجد التصديق
ههنا في النصف الذي لم يسبق دعواه، ويجوز أن يكون اقتصر
على دعوى النصف لأن له حجة به ولا النصف الآخر قد اعترف له به فادعى النصف
الذي لم يعترف له به.
فان لم يصدقه في إقراره بالنصف الذي لم يدعه ولم يعترف به الآخر ففيه ثلاثة
أوجه (أحدها) يبطل الإقرار لأنه أقر لمن لا يدعيه (الثاني) ينزعه الحاكم
حتى يثبت لمدعيه ويؤجره ويحفظ أجرته لما لكه (والثالث) يدفع إلى مدعيه لعدم
التنازع فيه ومذهب الشافعي في هذا الفصل على نحو ما ذكرنا
(5/331)
(مسألة) (وإن قال في مرض موته هذا الألف
لقطة فتصدقوا به لزم الورثة الصدقة بثلثه) قال أبو الخطاب إذا لم يكن له
مال غيره لأنه جميع ماله والأمر بالصدقة وصية بجميع المال فلا يلزم منه إلا
الثلث وحكي عن القاضي أنه يلزمهم الصدقة بجميعه لأن أمره بالصدقة به يدل
على تعديه فيه على وجه يلزمهم الصدقة بجميعه فيكون ذلك إقراراً منه لغير
وارث فيجب امتثاله (فصل) قال الشيخ رحمه الله (إذا مات رجل وخلف مائة
فادعاها رجل فادعاها رجل فأقر ابنه له بها ثم ادعاها آخر فأقر له فهي للأول
ويغرمها للثاني) وجملة ذلك أنه إذا ادعى زيد على ميت شيئاً معيناً من تركته
فصدقه ابنه ثم ادعاه عمرو فصدقه أو قال هذه الدار لزيد لابل لعمرو حكم بها
لزيد وعليه غرامتها لعمرو وهذا أحد قولي الشافعي وقال في الآخر لا يغرم
لعمرو شيئاً وهو قول أبي حنيفة لأنه أقر له بما وجب عليه الإقرار به وإنما
منعه الحكم من قبوله وذلك لا يوجب الضمان ولنا أنه حال بين عمرو وبين ملكه
الذي أقر له به بإقراره لغيره فلزمه غرمه كما لو شهد رجلان على آخر بإعتاق
عبده ثم رجعا عن الشهادة أو كما لو رمى به في البحر ثم أقربه (مسألة) (وان
أقربها لهما معاً فهي بينهما) لتساويهما في الدعوى والإقرار لهما
(5/332)
(مسألة) (وإن أقر لأحدهما وحده فهي له
ويحلف للآخر أنه لا يعلم أنها له وإن نكل فقضي عليه بالنكول) لأن النكول
كالإقرار ولو أقر لزمه الغرم فكذلك إذا نكل عن اليمين
(مسألة) (وإن ادعى رجل على الميت مائة دينا فأقر له ثم ادعى آخر مثل ذلك
فأقر له فان كان في مجلس واحد فهي بينهما وإن كان في مجلسين فهي للأول ولا
شئ للثاني) وجملة ذلك أن الميت إذا خلف وارثاً وتركة فأقر الوارث لرجل بدين
على الميت يستغرق الميراث فقد أقر بتعلق دينه بجميع التركة واستحقاقه لها
فإذا اقر بعد ذلك لآخر وكان في المجلس صح الإقرار واشتركا في التركة لأن
التركة حالة المجلس كحالة واحدة بدليل صحة القبض بها فيما يعتبر القبض فيه
وإمكان الفسخ فيه ولحقوق الزيادة في العقد فكذلك في الإقرار، وإن كان في
مجلس آخر لم يقبل إقراره لأنه يقر بحق على غيره فإنه يقر بما يقتضي مشاركة
الأول في التركة وينقص حقه منها ولا يقبل اقرار الإنسان على غيره وقال
الشافعي يقبل إقراره ويشتركان فيها لأن الوارث يقوم مقام الموروث ولو أقر
الموروث لهما لقبل فكذلك الوارث ولأن منعه من الإقرار يفضي الى اسقاط حق
الغرماء لأنه قد لا يتفق حضورهم في مجلس واحد فيبطل حقه بتعيينه ولأن من
قبل اقراره اولا قبل إقراره ثانياً إذا لم تتغير حاله كالموروث.
(5/333)
ولنا أنه إقرار بما يتعلق بمحل تعلق به حق
غيره تعلقا يمنع تصرفه فيه على وجه يضربه فلم يقبل كإقرار الراهن بجناية
على الرهن أو الجاني، وأما الموروث فإن أقرفي صحته صح لأن الدين لا يتعلق
بماله وإن أقر في مرضه لم يحاص المقر له غرماء الصحة لذلك، وإن أقر في مرضه
لغيرم يستغرق تركته دينه ثم أقر لآخر في مجلس آخر فاقرق بينهما أن إقراره
الأول لم يمنعه التصرف في ماله ولا أن يعلق به ديناً آخر بأن يستدين ديناً
آخر فلم يمنع ذلك تعليق الدين بتركته بالإقرار بخلاف الوارث فإنه لا يملك
أن يتعلق بالتركة ديناً آخر بفعله فلا يملكه بقوله ولا يملك التصرف في
التركة ما لم يلتزم قضاء الدين (مسألة) (وإن خلف ابنين ومائتين فادعى رجل
مائة ديناً على الميت فصدقه أحد الابنين وأنكر الآخر لزم المقر نصفها) لأنه
مقر على أبيه بدين ولا يلزمه أكثر من نصف دين أبيه ولأنه يقر على نفسه
وأخيه فلا يقبل إقراره على أخيه ويقبل على نفسه وفي ذلك اختلاف ذكرناه في
أواخر كتاب الإقرار
(مسألة) (إلا أن يكون عدلا فيحلف الغريم مع شهادته ويأخذ مائة وتكون المائة
الباقية بين الابنين) وإنما لزم المقر نصف المائة لأنه يرث نصف التركة
فيلزمه نصف الدين لانه يقدر ميراثه ولو لزمه جميع الدين لم تقبل شهادته على
أحد لكونه يدفع عن نفسه ضرراً ولأنه يرث نصف التركة فلزمه نصف الدين كما لو
ثبت ببينة أو بإقرار الميت
(5/334)
(مسألة) (وإن خلف ابنين وعبدين متساوي
القيمة لا يملك غيرهما فقال أحد الابنين أبي أعتق هذا وقال الآخر بل أعتق
هذا عتق من كل واحد ثلثه وصار لكل ابن سدس العبد الذي أقر بعتقه ونصف
الآخر، وإن قال أحدهما أبي أعتق هذا وقال الآخر أبي أعتق أحدهما لا أدري من
هو منهما أقرع بينهما فإن وقعت على من اعترف الابن بعتقه عتق ثلثاه إن لم
يجيزا عتقه كاملا وإن وقعت على الآخر كان حكمه كما لو عين العتق في العبد
سواء) .
هذه المسألة محمولة على أن العتق كان في مرض الموت الخوف أو بالوصية لأنه
لو اعتقه في صحته عتق كله ولم يقف على إجازة الورثة، فإذا اعترفا أنه عتق
أحدهما في مرضه لم يخل من أربعة أحوال (أحدها) أن يعينا العتق في أحدهما
فيعتق منه ثلثاه لأن ذلك ثلث جميع ماله إلا أن يجيزا عتق جميعه فيعتق
(الثاني) أن يعين كل منهما العتق في واحد غير الذي عينه أخوه فيعتق من كل
واحد ثلثه لأن كل واحد منهما حقه نصف العبدين فيقبل قوله في عتق حقه من
الذي عينه وهو ثلثا النصف الذي له وذلك الثلث ولا نه يعترف بحرية ثلثيه
فيقبل قوله في حقه منهما وهو الثلث ويبقى الرق في ثلثه فله النصف وهو السدس
ونصف العبد الذي ينكر عتقه (الثالث) أن يقول أحدهما أبي أعتق هذا ويقول
الآخر أبي أعتق أحدهما لا أدري من منهما فتقوم القرعة مقام تعيين الذي لم
يعين فإن وقعت على الذي عينه أخوه عتق ثلثاه كما لو عيناه بقولهما وإن
(5/335)
وقعت على الآخر كما لو عين كل واحد منهما
عبداً يكون لكل واحد منهما سدس العبد الذي عينه ونصف العبد الذي ينكر عتقه
ويصير ثلث كل واحد من العبدين حراً (الرابع) أن يقولا أعتق
أحدهما ولا ندري من منهما فإنه يقرع بين العبدين فمن وقت له القرعة عتق
ثلثاه إن لم يجيزا عتق جميعه وكان الآخر رقيقاً (فصل) فإن رجع الابن الذي
جهل عين العتق فقال قد عرفته قبل القرعة فهو كما لو عينه ابتداء من غير جهل
وإذا كان بعد القرعة فوافقها تعيينه لم يتغير الحكم وإن خالفها عتق من الذي
عينه ثلثه بتعيينه فإن عين الذي عينه أخوه عتق ثلثاه وإن عين الآخر عتق منه
ثلثه وهل يبطل العتق في الذي عتق بالقرعة على وجهين (باب
الإقرار بالمجمل) (إذا قال له علي شئ أو كذا قيل له فسر فإن أبى حبس
حتى يفسر فإن مات أخذ وارثه بمثل ذلك إن خلف الميت شيئاً يقضي منه وإلا
فلا) وجملة ذلك أنه إذا قال لفلان علي شئ أو كذا صح إقراره ولزمه تفسيره
بغير خلاف، ويفارق
(5/336)
الدعوى حيث لا تصح بالمجهول لكون الدعوى له
والإقرار عليه فلزمه ما عليه مع الجهالة دون ماله ولأن المدعي اذا لم يصحح
دعواه فله داع إلى تحريرها والمقر لا داعي له إلى التحرير ولا يمكن رجوعه
عن إقراره فيضيع حق المقر له فألزمناه إياه مع الجهالة فإن امتنع من تفسيره
حبس حتى يفسر وقال القاضي يجعل ناكلا يؤمر المقر له بالبيان فإن بين شيئاً
فصدقه المقر ثبت وإن كذبه وامتنع من البيان قيل له إن بينت وإلا جعلناك
ناكلا وقضينا عليك وهذا قول الشافعي إلا أنهم قالوا إن بنت وإلا أحلفنا
المقر له على ما يدعيه وأو جبناه عليك فإن فعل وإلا أحلفنا المقر له
وأوجبناه على المقر، ووجه الأول أنه ممتنع من حق عليه فحبس به كما لوعينه
وامتنع من أدائه، ومع ذلك فمتى عينه المدعي وادعاه فنكل المقر فهو على ما
ذكروه فإن مات من عليه الحق أخذ وارثه بمثل ذلك لأن الحق ثبت على موروثهم
فتعلق بتركته وقد صارت إلى الورثة فلزمهم ما لزم موروثهم كما لو كان الحق
معينا، وإن لم يخلف الميت تركة.
فلا شئ لى الورثة لأنهم ليس عليهم وفاء دين الميت إذا لم يخلف تركه كما لا
يلزمهم في حياته، وذكر صاحب المحرر رواية أن الوارث إن صدق موروثه في
إقراره أخذ به وإلا فلا والصحيح الأول قال
وعندي إن أبي الوارث أن يفسر وقال لاعلم لي بذلك حلف ولزمه من التركة ما
يقع عليه الاسم فيما إذا وصى لفلان بشئ ويحتمل أن يكون حكم المقر كذلك إذا
حلف أن لا يعلم كالوارث (مسألة) (وإن فسره بحق شفعة أو مال قبل وإن قل وإن
فسره بمال كقشر جوزة أو ميتة أو
(5/337)
خمر لم يقبل وإن فسره بكلب أو حد قذف فعلى
وجهين) متى فسر المقر إقراره بما يتمول عادة قبل تفسيره ويثبت إلا أن يكذبه
المقر له ويدعي جنسا آخر أولا يدعي شيئاً فيبطل إقراره، وإن فسره بمالا
يتمول عادة كقشر جوزة أو قشر باذنجانة لم يقبل تفسيره لأن إقراره اعترف بحق
عليه ثابت في ذمته وهذا لا يثبت في الذمة وكذلك أن فسره بما ليس بمال في
الشرع كالخمر والميتة، وإن فسره بكلب لا يجوز اقتناؤه فكذلك، وإن فسره بكلب
يجوز اقتناؤه أو جلد ميتة غير مدبوغ ففيه وجهان (أحدهما) يقبل لأنه شئ يجب
رده وتسليمه إليه فالإيجاب يتناوله (والثاني) لا يقبل لأن الإقرار إخبار
عما يجب ضمانه وهذا لا يجب ضمانه، وإن فسره بحبة حنطة أو شعير ونحوها لم
يقبل لأنه هذا لا يتمول عادة على انفراده، وإن فسره بحد قذف قبل لأنه حق
يجب عليه وفيه وجه آخر أنه لا يقبل لأنه لا يؤول إلى مال والأول أصح لأن ما
يثبت في الذمة يصح أن يقال هو علي ويصح تفسيره بحق شفعة لأنه حق واجب ويؤول
إلى المال وإن فسره برد السلام أو تشميت العاطس ونحوه لم يقبل لأنه يسقط
بفواته ولا يثبت في الذمة وهذا الإقرار يدل على ثبوت الحق في الذمة ويحتمل
أن يقبل تفسيره إذا أراد حقاً علي رد سلامه إذا سلم وتشميته إذا عطس لما
روي في الخبر (للمسلم على المسلم ثلاثون حقاً يرد سلامه ويشمت عطسته ويجب
دعوته) (مسألة) (وإن قال غصبت منه شيئاً ثم فسره بنفسه أو ولده لم يقبل)
لأن الغصب لا يثبت عليه
(5/338)
وإن أراد اني حبستك وسجنتك قبل ذكره في
المحرر وإن فسره بما ليس بمال مما ينتفع به قبل لأن الغصب يشتمل عليه
كالكلب وجلد الميتة لأنه قد يقهره عليه، وإن فسره بمالا نفع فيه أو مالا
يباح الانتفاع به لم يقبل لأن أخذ ذلك ليس بغصب وهذا الذي ذكرناه في هذا
الباب أكثره مذهب
الشافعي وحكي عن أبي حنيفة أنه لا يقبل تفسير إقراره بغير المكيل والموزن
لأن غيرهما لا يثبت في الذمة بنفسه.
ولنا أنه مملوك يدخل تحت العقد فجازأن يفسر به الشئ في الإقرار كالمكيل
والموزون ولأنه يثبت في الذمة في الجملة فصح التفسير به كالمكيل ولا عبرة
بسبب ثبوته في الإخبار به والإخبار عنه (فصل) تقبل الشهادة على الإقرار
بالمجهول لأن الإقرار به صحيح وما كان صحيحاً في نفسه صحت الشهادة به
كالمعلوم (مسألة) (وإن قال له على مال عظيم أو خطير أو كثير أو جليل قبل
تفسيره بالكثير والقليل) كما لو قال له على مال ولم يصفه وهذا قول الشافعي
وحكي عن أبي حنيفة لا يقبل تفسيره بأقل من عشرة لأن يقطع به السارق ويكون
صداقاً عنده وعنه لا يقبل أقل من مائتي درهم وبه قال صاحباه لأنه الذي تجب
فيه الزكاة وقال بعض أصحاب مالك كقولهم في المال ومنهم من قال يزيد على ذلك
أقل زيادة منهم من قال قدر الدية وقال الليث بن سعد اثنان وسبعون لأن الله
سبحانه وتعالى قال
(5/339)
(لقد نصر كم الله في مواطن كثيرة) وكانت
غزواته وسراياه اثنتين وسبعين قالوا ولأن الحبة لا تسمى مالا عظيما ولا
كثيراً ولنا أن العظيم والكثير لاحد له في الشرع ولا اللغة ولا العرف
ويختلف الناس فيه فمنهم من يستعظم القليل ومنهم من يستعظم الكثير ومنهم من
يحتقر الكثير فلم يلبث في ذلك حد يرجع في تفسيره إليه ولأنه ما من مال إلا
وهو عظيم كثير بالنسبة إلى ما دونه ويحتمل أنه أراد عظيماً لفقر نفسه
ودناءتها وأما ما ذكروه فليس فيه تحديد الكثير وكون ما ذكروه كثيرا لايمنع
الكثرة فيما دونه وقد قال الله تعالى (واذكروا الله كثيرا) فلم ينصرف إلى
ذلك وقال تعالى كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة فلم يحمل على ذلك والحكم
فيما إذا قال عظيم جداً أو عظيم كما لو لم يقله لما قررناه (فصل) وإن أقر
بمال قبل تفسيره بالقليل والكثير كالمسألة قبل هذا وبهذا قال الشافعي وقال
أبو حنيفة لا يقبل تفسيره بغير المال الزكوي لقول الله سبحانه (خذ من
أموالهم صدقة تطهرهم
وتزكيهم بها) وقوله (وفي أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم) وحكى بعض أصحاب
مالك عنه ثلاثة أوجه الأول كقولنا والثاني لا يقبل الافي أول نصاب من نصب
الزكاة من نوع أموالهم والثالث ما يقطع به السارق ويصح مهراً لقول الله
تعالى (لن تبتغوا بأموالكم)
(5/340)
ولنا أن غير ما ذكروه يقع عليه اسم المال
حقيقة وعرفاً ويتمول عادة فيقبل تفسيره به كالذي وافقوا عليه وأما آية
الزكاة فقد دخلها التخصيص وقوله تعالى (في أموالهم حق) لم يرد بها الزكاة
لأنها نزلت بمكة قبل قرض الزكاة فلا حجة لهم فيها ثم يرد قوله تعالى (أن
تبتغوا بأموالكم) والترويج جائز بأي نوع كان من المال وبما دون النصاب
(مسألة) (وإن قال له علي دراهم كثيرة قبل تفسيره بثلاثة فصاعداً) أما إذا
قال له علي دراهم لزمه ثلاثة لأنها أقل الجمع، وإن قال له دراهم كثيرة أو
وافرة أو عظيمة لزمته ثلاثة أيضاً وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة لا
يقبل تفسيره بأقل من عشرة لأنها أقل جمع الكثرة وقال أبو يوسف لا يقبل أقل
من مائتين لأن بها يحصل الغنى وتجب الزكاة ولنا أن الكثرة والعظمة لا حد
لها شرعاً ولا لغة ولاعرفا وتختلف بالأوصاف وأحوال الناس فالثلاثة أكثر مما
دونها وأقل مما فوقها ومن الناس من يستعظم اليسير ومنهم من لا يستعظم
الكثير ويحتمل أن المقر أراد كثيرة بالنسبة إلى ما دونها أو كبيرة في نفسه
فلا تجب الزدياة بالاحتمال (مسألة) (وإن قال له علي كذا درهم أو كذا وكذا
درهم أو كذا كذا درهم بالرفع لزمه درهم) لأن تقديره شئ هو درهم وإن قال
بالخفض لزمه بعض درهم لأن كذا يحتمل أن يكون جزءاً
(5/341)
مضافاً إلى درهم ويرجع في تفسيره إليه إذا
فسره بذلك لأنه محتمل (مسألة) (وإن قال كذا درهما بالنصب لزمه درهم) ويكون
منصوباً على التمييز (مسألة) (وإن قال كذا وكذا درهما بالنصب فقال ابن حامد
والقاضي يلزمه درهم) لأن الدرهم الواحد يجوز أن يكون تفسيراً لشيئين كل
واحد بعض درهم (وقال أبو الحسن التميمي يلزمه درهمان) لأنه
ذكر جملتين فسرهما بدرهم فيعود التفسير إلى كل واحدة منهما (كقوله عشرون
درهماً) إذا قال كذا ففيه ثلاث مسائل (أحدها) أن يقول كذا بغير تكرير ولا
عطف (الثانية) أن يكرر بغير عطف (الثالثة) أن يعطف فيقول كذا وكذا: فأما
الأولى فإذا قال له على كذا درهم لم يخل من أربعة أحوال (أحدها) أن يقول له
علي كذا درهم بالرفع فيلزمه درهم وتقديره شئ هو درهم فجعل الدرهم بدلامن
كذا (الثاني) أن يقول درهم بالجر فيلزمه جزء درهم يرجع في تفسيره إليه
والتقدير جزء درهم أو يعض درهم ويكون كذا كناية عنه (الثالث) أن يقول درهما
بالنصف فيلزمه درهم ويكون منصوباً على التفسير وهو التمييز وقال بعض
النحويين هو منصوب علي القطع كأنه قطع ما ابتدأ به وأقر بدرهم وهذا على قول
الكوفيين (الرابع) أن يذكره بالوقف فيقبل تفسيره بجزء درهم أيضاً لأنه يجوز
أن يكون أسقط حركة
(5/342)
الجر للوقف وهذا مذهب الشافعي وقال القاضي
يلزمه درهم في الحالات كلها وهو قول بعض أصحاب الشافعي.
ولنا أن كذا اسم مبهم فصح تفسيره بجزء درهم في حال الجر والوقف (المسألة
الثانية) (إذا قال كذا كذا بغير عطف فالحكم فيها كالحكم في كذا بغير تكرير
سواء) لا يتغير ولا يقتضي تكريره الزيادة كأنه قال شئ مشئ ولأنه إذا قاله
بالجر احتمل أن يكون قد أضاف جزءاً إلى جزء ثم أضاف الجزء الأخير إلى
الدرهم فقال نصف سبع درهم وهكذا لو قال كذا كذا لأنه يحتمل أن يرد ثلث خمس
تسع درهم ونحوه (المسألة الثالثة) (إذا عطف فقال كذاوكذا درهم بالرفع لزمه
درهم واحد) لأنه ذكر شيئين ثم أبدل منهما درهماً فصار كأنه قال هما درهم،
وإن قال درهماً بالنصب ففيه ثلاثة أوجه (أحدها) يلزمه درهم واحد وهو قول
أبي عبد الله بن حامد والقاضي لأن كذا يحتمل أقل من درهم فإذا عطف عليه
مثله ثم فسرهما بدرهم واحد جاز وكان كلاماً صحيحاً وهذا يحكي قولاً للشافعي
(الثاني) يلزمه درهمان وهو اختيار أبي الحسن التميمي لأنه ذكر جملتين فإذا
فسر ذلك بدرهم عاد التفسير إلى كل واحد كقوله عشرون درهماً يعود النفسير
إلى العشرين كذا ههنا وهذا يحكي قولا ثابنا للشافعي (الثالث) يلزمه أكثر من
درهم ولعله
ذهب إلى أن الدرهم تفسير للجملة التي تليه فيلزمه بها درهم والأولى باقية
على إبهامها فيرجع في تفسيرها إليه وهذا يشبه قول التميمي، وقال محمد بن
الحسن إذا قال كذا درهماً لزمه عشرون درهماً لأنه أقل
(5/343)
عدداً يفسر بالواحد المنصوب، وإن قال كذا
كذا درهماً لزمه أحد عشر درهماً لأنه أقل عدد مركب يفسر بالواحد المنصوب،
وإن قال كذا وكذا رهما لزمه أحد وعشرون درهماً لأنه أقل عدد عطف بعضه على
بعض يفسر بذلك وإن قال كذا درهم بالجر لزمه مائة لأنه أقل عدد يضاف إلى
الواحد وحكي عن أبي يوسف أنه قال كذا كذا أو كذا وكذا يلزمه بهما أحد عشر
درهماً ولنا أنه يحتمل ما قلنا ويحتمل ما قالوا فوجب المصير إلى ما قلنا
لأنه اليقين وما زاد مشكوك فيه فلا يجب بالشك كما لو قال علي دراهم لم
يلزمه إلا أقل الجمع ولا يلزم كثرة الاستعمال فإن اللفظ إذا كان حقيقة في
الأمرين جاز التفسير بكل واحد منهما، وعلى ما ذكره محمد يكون اللفظ المفرد
يوجب أكثر من المكرر فإنه يجب بالمفرد عشرون وبالمركب أحد عشر ولا نعرف
لفظاً مفرداً متناولاً لعدد صحيح يلزم به أكثر مما يلزم بمكرره (مسألة)
(وإن قال له على ألف رجع في تفسيره إليه فإن فسره بأجناس قبل منه) لأنه
يحتمل ذلك (مسألة) (وإن قال له على ألف ودرهم أو ألف ودينار أو ألف وثوب أو
فرس أو درهم وألف أو دينار وألف فقال ابن حامد والقاضي الألف من جنس ما عطف
عليه) وبه قال أبو ثور وقال التميمي وأبو الخطاب يرجع في تفسير الألف إليه
لأن الشئ يعطف على غير جنسه قال الله تعالى (يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر
وعشرا) ولأن الألف مبهم فيرجع
(5/344)
في تفسيره إلى المقر كما لو لم يعطف عليه،
وقال أبو حنيفة إن عطف على المبهم مكيلا أو موزونا كان تفسيراً له، وإن عطف
مذروعاً أو معدوداً لم يكن تفسيراً لأن علي للإيجاب في الذمة فإذا عطف عليه
ما يثبت في ذمته بنفسه كان تفسيراً له كقوله مائة وخمسون درهماً ولنا أن
العرب تكتفي بتفسير إحدى الجملتين عن الأخرى قال الله تعالى (ولبثوا في
كهفهم
ثلثمائة سنين وازدادوا تسعا) وقال تعالى (عن اليمين وعن الشمال قعيد) ولأنه
ذكر مبهماً مع تفسير لم يقم الدليل على أنه من غير جنسه فكان المبهم من جنس
المفسر كما لو قال مائة وخمسون درهماً أو ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً، يحققه
أن المبهم يحتاج إلى التفسير وذكر التفسير في الجملة المقارنة له يصلح أن
يفسره يوجب حمل الأمر على ذلك، وأما قوله أربعة أشهر وعشرا فإنه امتنع أن
تكون العشر أشهر الوجهين (أحدهما) أن العشر بغير هاء عدد للمؤنث والأشهر
مذكرة فلا يجوز أن تعد بغير هاء (والثاني) أنها لو كانت أشهراً لقال أربعة
عشر شهراً بالتركيب لا بالعطف كما قال (عليها تسعة عشر) وقولهم إن الألف
مبهم قلنا قرن به ما يدل على تفسيره فأشبه مالو قال مائة وخمسون درهماً أو
مائة ودرهم عند أبي حنيفة فإن قيل إذا قال مائة وخمسون درهماً فالدرهم ذكر
للتفسير ولهذا لا يراد به العدد فصلح تفسير الجميع ما قبله بخلاف قوله مائة
ودرهم فإنه ذكر الدرهم للإيجاب لا للتفسير بدليل أنه زاد به العدد قلنا هو
صالح للإيجاب والتفسير معاً والحاجة داعية إلى التفسير فوجب حمل الأمر على
ذلك صيانة لكلام المقر عن الإلباس والإبهام وصرفاً له إلى البيان والإفهام،
وقول أبي حنيفة أن علي للإيجاب قلنا فمتى عطف ما يجب بها على ما لا يجب
وكان أحدهما مبهماً والآخر مفسراً وأمكن تفسيره به وجب أن يكون المبهم من
جنس المفسر، فأما إن لم يكن من جنس المفسر مثل أن يعطف عدد المذكر
(5/345)
على المؤنث أو بالعكس ونحو ذلك فلا يكون
أحدهما من جنس الآخر ويبقى المبهم على إبهامه كما لو قال له أربعة دراهم
وعشر (مسألة) (وإن قال له على ألف وخمسون درهماً أو خمسون وألف درهم
فالجميع دراهم) ويحتمل على قول التميمي أن يرجع في تفسير الألف إليه وهو
قول بعض أصحاب الشافعي وكذلك إن قال ألف وثلاثة دراهم أو مائة وألف درهم
والصحيح الأول فإن الدرهم المفسر يكون تفسيراً لجميع ما قبله من الجمل
المبهمة وجنس العدد قال الله تعالى مخبراً عن أحد الخصمين أنه قال (إن هذا
أخي له تسع وتسعون تعجة) وفي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توفي
وهو ابن ثلاث وستين سنة وقال عنترة:
فيهان إثنتان وأربعون حلوبة * سودا كخافية العراب الأسحم ولأن الدرهم ذكر
تفسيراً ولهذا لا يجب به زيادة على العدد المذكور فكان تفسيراً لجميع ما
قبله ولأنها تحتاج إلى تفسير وهو صالح لتفسيرها فوجب جمله على ذلك وهذا
المعنى موجود في قوله ألف وثلاثة دراهم وسائر الصور المذكورة، فعلى قول من
لا يجعل المجمل من جنس المفسر لو قال بعتك هذا بمائة وخمسين درهماً أو
بخمسة وعشرين درهماً لا يصح وهو قول شاذ ضعيف لا يعول عليه وإن قال له على
ألف درهم إلا خمسين فالمستثنى دراهم لأن العرب لا تستثني في الإثبات إلا من
الجنس (مسألة) (وهذا اختيار ابن حامد والقاضي وقال أبو الحسن التميمي وأبو
الخطاب يكون الألف مبهماً يرجع في تفسيره إليه وهو قول مالك والشافعي) لأن
الاستثناء عندهما يصح من غير الجنس ولأن لفظه في الألف مبهم والدرهم لم
يذكر تفسيراً له فبقي على إبهامه.
(5/346)
ولنا أنه لم يرد عن العرب الاستثناء في
الإثبات إلا من الجنس فمتى علم أحد الطرفين علم أن الآخر من جنسه كما لو
علم المستثنى منه وقد سلموه علته تلازم المستثنى والمستثنى منه في الجنس
فما ثبت في أحدهما ثبت في الآخر فعلى قول ابي الحسن التميمي وأبي الخطاب
يسئل عن المستثنى فان فسره بغير الجنس بطل الإستثناء وعلى قول غيرهما ينظر
في المستثنى إن كان مثل المستثنى منه أو أكثر يبطل في الأصح (فصل) وإن قال
له تسعة وتسعون درهماً فالجميع دراهم ولا أعلم فيه خلافاً وكذلك إن قال
مائة وخمسون درهماً وخرج بعض أصحابنا وجهاً أنه لا يكون تفسيراً إلا لما
يليه وهو قول بعض أصحاب الشافعي (مسألة) (وإن قال له في هذا العبد شركة أو
هو شريكي فيه أو هو شركة بينهما رجع إلى تفسير نصيب الشريك إليه) وقال أبو
يوسف يكون مقراً بنصفه لقول الله تعالى (فهم شركاء في الثلث) فاقتضى ذلك
التسوية بينهم كذا ههنا.
ولنا أن أي جزء كان له منه فله فيه شركة فكان له تفسيره بما شاء كالنصف
وليس إطلاق لفظ الشركة على ما دون النصف مجازاً ولا مخالفاً للظاهر والآية
ثبتت التسوية فيها بدليل آخر، وكذلك الحكم اذا قال هذا العبد شركة بيننا
وإن قال له فيه سهم فكذلك وقال القاضي يحمل على السدس كالوصية (مسألة) (وإن
قال له على أكثر من مال فلان قيل له فسرفان فسره بأكثر منه قدر اقبل وإن
قال أردت أكثر بقاء نفعا لأن الحلال أنفع من الحرام قبل قوله مع يمينه)
سواء علم مال فلان أو جهله أو ذكر قدره أولم يذكره أما إذا فسره بأكثر منه
قدراً فإنه يقبل تفسيره ويلزمه أكثر منه وتفسر الزيادة بما يريد من قليل أو
كثير ولو حبة حنطه، ولو قال ما علمت لفلان أكثر من كذا وقامت البينة بأكثر
منه لم يلزمه
(5/347)
أكثر مما اعترف به لأن مبلغ المال حقيقة لا
تعرف في الأكثر وقد يكون ظاهراً وباطنا يملك ما يعرفه المقر فكان المرجع
إلى ما اعتقده المقر مع يمينه إذا ادعى عليه أكثر منه وان فسره بأقل من
ماله مع علمه بماله لم يقبل، وقال أصحابنا يقبل تفسيره بالكثير والقليل وهو
مذهب الشافعي سواء علم مال فلان أو جهله أو ذكر قدره أولم يذكره أو قاله
عقيب الشهادة بقدره أولاً لأنه لا يحتمل أنه أكثر منه بقاء أو منفعة أو
بركة لكونه من الحلال أو لأنه في الذمة، قال القاضي ولو قال لي عليك ألف
دينار فقال لك على أكثر من ذلك لم يلزمه أكثر منها لأن لفظة أكثر مبهمة
لإحتمالها ما ذكرنا ويحتمل أنه أراد أكثر منه فلوساً أو حبة حنطة أو شعير
أو دخن فيرجع في تفسيرها إليه وهذا بعيد فإن لفظة أكثر إنما تستعمل حقيقة
في العدد أو في القدر وينصرف إلى جنس ما أضيف أكثر إليه لا يفهم في الإطلاق
غير ذلك قال الله تعالى (كانوا أكثر منهم) وأخبر عن الذي قال (أنا أكثر منك
مالا وقالوا نحن أكثر أموالا وأولادا) والإقرار يؤخذ فيه بالظاهر دون مطلق
الاحتمال، ولهذا لو أقر بدراهم لزمه أقل الجمع جيادا صحاحاً وازنة حاله ولو
قال له على دراهم لم يقبل تفسيرها بالوديعة ولو رجع إلى مطل الإحتمال سقط
الإقرار وإحتمال ما ذكروه أبعد من هذه الإحتمالات التي لم يقبلوا تفسيره
بها فلا يعول على هذا (مسألة) (ولو ادعى عليه ينا فقال لفلان علي اكثر
ممالك، وقال أردت التهزئ لهما لزمه ويرجع
في تفسيره إليه في أحد الوجهين) وفي الآخر لا يلزمه شئ لأنه أقر لفلان بحق
موصوف بالزيادة على مال المدعي فيجب عليه ما أقربه لفلان ويجب للمدعي حق
لأن لفظه يقتضي أن يكون له شئ، وفي الآخر لا يلزمه شئ لأنه يجوز أن يكون
أراد حقك على أكثر من حقه والحق لا يختص بالمال
(5/348)
(فصل) إذا قال له على ألف إلا شيئاً قبل
تفسيره بأكثر من خمسمائة لأن الشئ يحتمل الكثير والقليل لكن لا يجوز
استثناء الأكثر فيتعين حمله على ما دون النصف، وكذلك إن قال إلا قليلاً
لأنه مبهم فأشبه قوله إلا شيئاً وإن قال له على معظم ألف أو جل ألف أو قريب
من ألف لزمه اكثر من نصف الألف ويحلف على الزيادة إن ادعيت عليه (فصل) وإن
قال له على ما بين درهم وعشرة لزمته ثمانية لأن ذلك ما بينهما وان قال من
درهم إلى عشرة ففيه ثلاثة أوجه (أحدها) يلزمه تسعة وهذا يحكى عن أبي حنيفة
لأن من لابتداء الغاية وأول الغاية منها وإلى لانتهاء الغاية فلا تدخل فيها
كقوله تعالى (ثم أتموا الصيام إلى الليل) (والثاني) تلزمه ثمانية لان الاول
والعاشر حدان فلا يدخلان في الاقرار ويلزمه ما بينهما كالتي قبلها.
(والثالث) تلزمه عشرة لأن العاشر أحد الطرفين فيدخل فيها كالأول وكما لو
قال قرأت القرآن من أوله الى آخره، وإن قال أردت بقولي من واحد إلى عشرة
مجموع الأعداد كلها أي الواحد والإثنان كذلك إلى العشرة لزمه خمسة وخمسون
درهماً وإختصار حسابه أن تزيد أول العدد وهو واحد على العشرة فيصير أحد عشر
ثم اضربها في نصف العشرة فما بلغ فهو الجواب (مسألة) (وإن قال له علي درهم
فوق درهم أو تحت درهم أو فوقه أو تحته أو قبله أو بعده أو معه درهم أو درهم
ودرهم أو درههم بل درهمان أو درهمان بل درهم لزمه درهمان) إذا قال له علي
درهم فوق درهم أو تحت درهم أو معه درهم أو مع درهم فقال القاضي يلزمه درهم
وهو أحد قولي الشافعي لأنه يحتمل فوق درهم في الجودة أو فوق درهم لي وكذلك
تحت درهم، وقوله معه درهم يحتمل معه درهم لي وكذلك مع درهم فلم يجب الزائد
بالإحتمال، وقال أبو الخطاب يلزمه درهمان وهو القول الثاني للشافعي
لأن هذا اللفظ يجري مجرى العطف لكونه يقتضي ضم درهم آخر لايه وقد ذكر ذلك
في سياق الإقرار
(5/349)
فالظاهر أنه إقرار، ولأن قوله علي يقتضي في
ذمتي وليس للمقر في ذمة نفسه درهم مع درهم المقر له ولا فوقه ولا تحته فإنه
لا يثبت للإنسان في ذمة نفسه شئ، وقال أبو حنيفة وأصحابه إن قال فوق درهم
لزمه درهمان لأن فوق يقتضي في الظاهر الزيادة وإن قال تحت درهم لزمه درهم
لأن تحت يقتضي النقص.
ولنا إن حمل كلامه على معنى العطف فلا فرق بينهما وإن حمل على الصفة للدرهم
المقر به وجب أن يكون المقر به درهماً واحداً سواء ذكره بما يقتضي زيادة أو
نقصاً، وإن قال له على درهم قبله درهم أو بعده درهم لزمه درهمان فإن قال
قبله درهم وبعده درهم لزمه ثلاثة لأن قبل وبعد تستعمل للتقديم والتأخير
(مسألة) (وإن قال له علي درهم ودرهم أو درهم فدرهم أو درهم ثم درهم لزمه
درهمان) وبهذا قال أبو حنيفة وأصحابه، وذكر القاضي وجها فيما إذا قال درهم
فدرهم وقال أردت درهم فدرهم لازم لي أنه يقبل منه وهو قول الشافعي لأنه
يحتمل الصفة ولنا أن الفاء أحد حروف العطف الثلاثة فأشبهت الواو وثم ولأنه
عطف شيئاً على شئ بالفاء فاقتضى ثبوتهما كما لو قال أنت طالق فطالق وقد
سلمه الشافعي، وما ذكروه من إحتمال الصفة بعيد لا يفهم حالة الإطلاق فلا
يقبل تفسيره به كما لو فسر الدراهم المطلقة بأنها زيوف أو صغار أو مؤجلة،
وإن قال له على درهم ودرهم ودرهم لزمته ثلاثة وحكى ابن أبي موسى عن بعض
أصحابنا أنه إذا قال أردت بالثالث تأكيد الثاني وبيانه أنه يقبل وهو قول
بعض أصحاب الشافعي لأن الثالث في لفظ الثاني وظاهر مذهبه أنه تلزمه الثلاثة
لأن الواو للعطف وهو يقتضي المغايرة فوجب أن يكون الثالث غير الثاني كما
كان الثاني غير الأول والإقرار لا يقتضي تأكيداً فوجب حمله على العدد،
وكذلك الحكم
(5/350)
إذا قال علي درهم فدرهم اودرهم ثم درهم ثم
درهم فإن قال له على درهم ودرهم ثم درهم أو درهم
فدرهم ثم درهم أو درهم ثم درهم فدرهم لزمته الثلاثة وجهاً واحداً لأن
الثالث مغاير للثاني لاختلاف حرفي العطف الداخلين فلم يحتمل التأكيد
(مسألة) (فإن قال له علي درهم بل درهمان أو درهم لكن درهمان لزمه درهمان
وبه قال الشافعي وقال زفر وداود تلزمه ثلاثة لأن بل للإضراب فلما أقر بدرهم
وأضرب عنه لزمه لأنه لا يقبل رجوعه عما أقر به ولزمه الدرهمان اللذان
اقربهما ولنا أنه إنما نفى الإقتصار على واحد وأثبت الزيادة عليه فأشبه
مالو قال له على درهم بل أكثر فإنه لا يلزم أكثر من اثنين.
(مسألة) (وإن قال له علي درهمان بل درهم أو درهم لكن درهم فهل يلزمه درهم
أو درهمان؟ على وجهين) ذكرهما أبو بكر (أحدهما) يلزمه درهم واحد لأن أحمد
قال فيمن قال لامرأته أنت طالق بل أنت طالق أنها لا تطلق إلا واحدة وهذا
مذهب الشافعي لأنه أقر بدرهم مرتين فلم يلزمه أكثر من درهم كما لو أقر
بدرهم ثم أنكره ثم قال بل علي درهم، ولكن للاستدراك فهي في معنى بل إلا أن
الصحيح إنها لا تستعمل إلا بعد الجحد إلا أن يذكر بعدها الجة (والوجه
الثاني) يلزمه درهمان ذكره ابن أبي موسى وأبو بكر عبد العزيز ويقتضيه قول
زفر وداود لأن ما بعد الإضراب يغاير ما قبله فيجب ان يكون الدرهم الذي أضرب
عنه غير الدرهم الذي اقربه بعده فيجب الإثبات كما لو قال له علي درهم بل
دينار ولأن بل من حروف العطف والمعطوف غير المعطوف عليه فوجبا جميعاً كما
لو قال له علي درهم ودرهم ولأنا لو لم نوجب عليه الادرهما جعلنا كلامه
لغواً وإضرابه غير مفيد والأصل في كلام العاقل أن يكون مفيداً.
(5/351)
(مسألة) (ولو قال له على هذا الدرهم بل
هذان الدرهمان لزمته الثلاثة) لا نعلم في ذلك خلافاً لأنه متى كان الذي
أضرب عنه لا يمكن أن يكون المذكور بعده ولا بعضه مثل أن يقول له علي درهم
بل دينار أو قفيز حنطة بل قفيز شعير لزمه الجميع لأن الأول لا يمكن أن يكون
الثاني ولا بعضه فكان مقراً بهما ولا يقبل رجوعه معن شئ منهما وكذلك كل
جملتين أقر بإحداهما ثم رجع إلى الاخرى لزماه
(مسألة) (وإن قال درهم في دينار لزمه درهم وإن قال له على درهم في عشرة
لزمه درهم إلا أن يريد الحساب فيلزمه عشرة، أما إذا قال له عندي درهم في
دينار فإنه يسئل عن مراده فإن قال أردت العطف أو معنى مع لزمه الدرهم
والدينار وإن قال أسلمته في دينار فصدقة المقر له بطل إقراره لأن سلم أحد
النقدين في الآخر لا يصح وإن كذبه فالقول قول المقر له لأن المقر وصل
إقراره بما يسقطه فلزمه درهم وبطل قوله في دينار وكذلك إن قال له درهم في
ثوب وفسره بالسلم أو قال في ثوب إشتريته منه إلى سنة فصدقه بطل إقراره لأنه
إن كان بعد التفرق بطل السلم وسقط الثمن وإن كان قبل التفرق فالمقر بالخيار
بين الفسخ والإمضاء وإن كذبه المقر له فالقول قوله مع يمينه وله الدرهم
وأما اذا قال درهم في عشرة وقال أردت في عشرة لي لزمه درهم لأنه يحتمل ما
يقول وإن قال أردت الحساب لزمه عشرة وإن قال أردت مع عشرة لزمه أحد عشر لأن
كثيراً من العوام يريدون بهذا اللفظ هذا المعنى فإن كان من أهل الحساب
احتمل أن لا يقبل لأن الظاهر من الحساب إستعمال ألفاظه في معاينها في
إصطلاحهم ويحتمل أن يقبل فإنه لا يمتنع أن يستعمل إصطلاح العامة (مسألة)
(وإن قال هل عندي تمر في جراب أو سكين في قراب أو ثوب في منديل أو عبد عليه
عمامة أو دابة عليها سرج فهل يكون مقراً بالمظروف دون الظرف؟ وجهان)
(أحدهما) يكون مقراً بالمظروف دون الظرف وهذا اختيار ابن حامد ومذهب مالك
والشافعي لأن إقراره يتناول الظرف فيحتمل أن يكون في ظرف للمقر فلم يلزمه
(والثاني) يلزمه الجميع لأنه ذكر ذلك في سياق الإقرار فلزمه كما لو قال له
علي خاتم فيه فص وكذلك إن قال غصبت منه ثوبا في منديل أو زيتاً في زق،
وإختار شيخنا فيما إذا قال عبد عليه عمامة أن يكون مقراً بهما وهو قول
أصحاب الشافعي وقال أبو حنيفة في الغصب يلزمه ولا يلزمه في بقية الصور لأن
المنديل يكون ظرفاً للثوب فالظاهر أنه ظرف له في حال الغصب فصار كأنه قال
غصبت ثوباً ومنديلا
(5/352)
ولنا أنه يحتمل أن يكون المنديل للغاصب وهو
ظرف للثوب فيقول غصبت ثوبا في منديل ولو قال هذا لم يكن مقرا بغصبه فإذا
أطلق كان محتملاً له فلم يكن مقراً بغصبه كما لو قال غصبت دابة في إصطبلها
(مسألة) (وإن قال له عندي خاتم فيه فص فهو مقر بهما) لأن الفص جزء من
الخاتم فأشبه مالو قال له على ثوب فيه علم ويحتمل أن يخرج على الوجهين
فيكون مقراً بالخاتم وحده، وإن قال فص في بالخاتم احتمل وجهين، فإن قال له
عندي خاتم وأطلق لزمه الخاتم بفصة لأن إسم الخاتم بفصة لأن إسم الخاتم
يجمعهما وكذلك إن قال له علي ثوب مطرز لزمه الثوب بطرازه لما ذكرنا.
(فصل) وإن قال له عندي دار مفروشة أو دابة مسرجة أو عبد عليه عمامة ففيه
أيضاً وجهان ذكرناهما وقال أصحاب الشافعي تلزمه عمامة العبد دون السرج لأن
العبد يده على عمامته ويده كيد سيده ولا يد للدابة والدار.
ولنا أن الظاهر أن سرج الدابة لصاحبها وكذلك لو تنازع رجلان سرجاً على دابة
أحدهما كان لصاحبها فهو كعمامة العبد فأما إن قال له عندي دابة بسرجها أو
دار بفرشها أو سفينة بطعامها كمان مقرابهما بغير خلاف لأن الباء تعلق
الثاني بالأول (مسألة) (وإن قال له علي درهم أو دينار لزمه أحدهما يرجع في
تفسيره إليه) لأن أو وإما في الخبر الشك وتقتضي أحد المذكورين لاهما فإن
قال له على إما درهم وإما درهمان كان مقرا بدرهم والثاني مشكوك فيه فلا
يلزم بالشك
(5/353)
|