الشرح الكبير على متن المقنع

كتاب الغصب وهو الاستيلاء على مال الغير قهراً بغير حق، وهو محرم بالكتاب والسنة والإجماع: أما الكتاب فقول تعالى (يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم) وقوله تعالى (ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلو افريقا من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون) وأما السنة فروى جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في خطبته يوم النحر (ان دماء كم وأموالكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا) رواه مسلم وغيره، وعن سعيد ابن زيد قال مسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (من أخذ شبراً من الأرض ظلما طوقه من سبع أرضين) متفق عليه، وورى أبو حرة الرقاشي عن عمه وعمرو بن يثربي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه) رواه الجوزجاني، وأجمع المسلمون على تحريم الغصب في الجملة وإنما اختلفوا في فروع منه نذكرها إن شاء الله تعالى (مسألة) (وتضمن أم الولد والعقار بالغصب) وهو قول الشافعي وأبي يوسف ومحمد وقال أبو حنيفة لا يضمن لأن أم الولد لا تجري مجرى المال بدليل أنه لا يتعلق بها حق الغير فأشبهت الحر ولنا أنها تضمن بالقيمة فضمنت بالغصب كالقن ولأنها مملوكة أشبهت المدبرة وفارقت الحرة فإنها ليست مملوكة ولا تضمن بالقيمة

(5/374)


(مسألة) (ويضمن العقار بالغصب ويتصور غصب الأراضي والدور ويجب ضمانه على عاصبه)
هذا ظاهر مذهب أحمد وهو المنصوص عند أصحابه وبه قال مالك والشافعي ومحمد بن الحسن وروى ابن منصور عن أحمد فيمن غصب أرضاً فزرعها ثم أصابها غرق من الغاصب غرم قيمة الأرض وإن كان شيئاً من السماء لم يكن عليه شئ فظاهر هذا أنها لا تضمن بالغصب وقال أبو حنيفة وأبو يوسف لا يتصور غصبها ولا تضمن بالغصب فإن أتلفها ضمنها بالإتلاف لأنه لم يوجد فيها النقول والتحويل فلم تزيضمنها كما لو حال بينه وبين متاعه فتلف المتاع ولأن الغصب إثبات اليد على المال عدواناً على وجه ول به يد المالك ولا يمكن ذلك في العقار ولنا قوله عليه السلام (من ظلم شبراً من الأرض طوقه يوم القيمة من سبع أرضين) متفق على معناه وفي لفظ (من غصب شبراً من الأرض) فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه يغصب ويظلم فيه ولأن ما ضمن في البيع وجب ضمانه في الغصب كالمنقول ولأنه يمكن الاستيلاء عليه على وجه يحول بينه وبين مالكه مثل أن يسكن الدار ويمنع مالكها من دخولها فأشبه مالو أخذ الدابة والمتاع، وأما إذا حال بينه وبين متاعه واستولى على ماله فنظيره ههنا أن يحبس المالك ولا يستولي على داره، وأما ما تلف من الأرض بفعله أو بسبب فعله كهدم حيطانها وتغريقها أو كشط ترابها وإلقاء الحجارة فيها أو نقص يحصل بغراسه أو بنائه فيضمنه بغير خلاف بين العلماء لأن هذا إتلاف والعقار يضمن بالإتلاف من غير خلاف.
(فصل) ولا يحصل الغصب من غير استيلاء فلو دخل أرض إنسان أو داره لم يضمنها بدخوله سواء دخلها بإذنه أو غير إذنه وسواء كان صاحبها فيها أولم يكن وقال أصحاب الشافعي إن دخلها بغير

(5/375)


اذنه ولم صاحبها فيها ضمنها سواء قصد ذلك أو ظن أنها داره أو دار أذن له في دخولها لأن يد الداخل تثبت عليها بذلك فيصير غاصباً فإن الغصب إثبات اليد العادية وهذا قد تثبت يده بدليل أنهما لو تنازعا في الدار ولا بينة حكم بها لمن هو فيها دون الخارج منها ولنا أنه غير مستول عليها فلم يضنمها كما لو دخلها بإذنه أو دخل صحراة له ولأنه إنما يضمن بالغصبب ما يضمنه في العارية وهذا لا تثبت به العارية ولا يجب به الضمان فيها فكذلك لا يثبت به
الغصب إذا كان بغير إذن.
(مسألة) (وإن غصب كلباً فيه نفع أو خمر ذمي لزمه ردهما) إذا غصب كلباً يجوز اقتناؤه وجب رده لأنه يجوز الإنتفاع به وإقتناؤه فأشبه المال، وإن أتلفه لم يغرمه وفيه اختلاف ذكر في البيع وهو مبني على جواز بيعه، وإن حبسه مدة لم يلزمه أجر لأنه لا يجوز وإن غصب خمر ذمي لزمه ردها لأنه يقر على شربها فإن أتلفها لم يلزمه قيمتها سواء أتلفه مسلم أو ذمي وسواء كان المسلم أو ذمي نص عليه أحمد في رواية أبي الحارث في الرجل يهريق مسكراً لمسلم أو لذمي فلا ضمان عليه وكذلك الخنزير وبهذا قال الشافعي، وقال أبو حنيفة ومالك يجب ضمان الخمر والخنزير إذا أتلفهما على ذمي قال أبو حنيفة إن كان مسلماً بالقيمة وإن كان ذمياً بالمثل لأن عقد الذمة إذا عصم عينا قومها كنفس الذمي وقد عصم خمر الذمي بديل أن المسلم يمنع من إتلافها فيجب أن يقومها ولأنها مال لهم يتمولونها لما روي عن عمر رضي الله عنه إن عامله كتب إليه: إن أهل الذمة يمرون بالعاشر ومعهم الخمور فكتب اليه عمر ولوهم بيعها وخذوا منهم عشر ثمنها فإذا كانت مالاً لهم وجب ضمانها كسائر أموالهم

(5/376)


ولنا ماروى جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (ألا إن الله ورسوله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام) متفق عليه وما حرم بيعه لالحرمته لم تجب قيمته كاليمتة ولأن ما لم يكن مضموناً في حق المسلم لا يكون مضموناً في حق الذمي كالمرتد، ولأنها غير متقومة فلا تضمن كالميتة، ودليل أنها غير متقومة أنهغا غير متقومة في حق المسلم فكذلك في حق الذمي فان تحريهما ثبت في حقهما وخطاب النواهي يتوجه إليها فما ثبت في حق أحدهما ثبت في حق الآخر ولا نسلم أنها معصومة بل متى أظهرت حلت إراقتها ثم لو عصمها ما لزم تقومها فإن نساء أهل الحرب وصبيانهم معصومون غير متقومين وقولهم إنها مال عندهم ينتقض بالعبد المرتد فإنه مال عندهم، فأما حديث عمر فمحمول على أنه أراد ترك التعرض لهم وإنما أمر بأخذ عشر أثمانها لأنهم إذا تبايعوا وتقابضوا حكمنا بالمالك ولم نتقضه وتسميتها أثماناً مجاز كما سمى الله تعالى ثمن يوسف ثمناً فقال (وشروه بثمن جنس) (فصل) فإن غصب من مسلم خمراً حرم ردها ووجبت إراقتها لأن أبا طلحة سأل رسول الله
صلى الله عليه وسلم عن أيتام ورثوا خمراً فأمره بأراقتها، وإن أتلفها أو تلفت عنده لم يجب ضمانها لما روى ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (إن الله إذا حرم شيئاً حرم ثمنه) ولأن ما حرم الانتفاع به لم يجب ضمانه كالميتة والدم، فإن أمسكها حتى صارت خلا لزمه ردها لأنها صارت خلاعلى حكم ملكه فلزمه ردها فإن تلفت ضمنها له لأنها مال المغصوب منه تلف في يد الغاصب، فإن أراقها

(5/377)


فجمعها اسنان فتخلت عنده رد الخل لأنه أخذها بعد إتلافها وزوال اليد عنها (مسألة) (وإن غصب جلد ميتة فهل يجب رده؟ على وجهين) بناء على طهارته بالدباغ فمن قال بطهارته أوجب رده لأنه يمكن إصلاحه فهو كالثوب النجس ومن قال لا يطهر لم يجب رده لأنه لا سبيل إلى إصلاحه وإن أتلفه أو أتلف ميتة بجلدها لم يضمن لأنه لا قيمة له بدليل أنه لا يحل بيعه (مسألة) (وإن دبغه وقلنا بطهارته يلزمه رده كالخمر إذا تخللت ويحتمل أن لا يجب رده) لأنه صار مالاً بفعله بخلاف الخمر وإن قلنا لا يظهر لم يجب رده لأنه لا يباح الإنتفاع به ويحتمل أن يجب رده إذا قلنا يباح الانتفاح به في اليابسات لأنه نجس يباح الإنتفاع به أشبه الكلب وكذلك قبل الدباغ (مسألة) (وإن استولى على حرلم يضمنه بذلك) لا يثبت الغصب فيما ليس بمال كالحر فإنه لا يضمن بالغصب إنما يضمن بالإتلاف فإن حبس حرافمات عنده لم يضمنه لأنه ليس بمال إلا أن يكون صغيراً ففيه وجهان (أحدهما) لا يضمنه لأنه حر أشبه الكبير وهذا مذهب الشافعي (والثاني) يضمنه لأنه يمكن الإستيلاء عليه من غير ممانعة منه أشبه العبد الصغير، فإن قلنا لا يضمنه فهل يضمن ثيابه وحليه؟ على وجهين (أحدهما) لا يضمنه لأنه تبع له وهو تحت يده أشبه ثياب الكبير (والثاني) يضمنه لأنه استولى عليه أشبه مالو كان منفرداً (مسألة) (وإن استعمل الحر كرما فعليه أجرته (لأنه استوفى منافعه وهي متقومة فلزمه ضمانها

(5/378)


كمنافع العبد، وإن حبسه مدة لمثلها أجرة ففيه وجهان (أحدهما) يلزمه أجرتك المدة لأنه فوت منفعتبه وهي مال يجوز أخذ العوض عنها فضمنت بالغصب كمنافع العبد (والثاني) لا يلزمه أجرتك المدة لأنها تابعة
لما لا يصح غصبه فأشبهت ثيابه إذا بليت عليه وأطرافه ولأنها تلفت تحت يديه فلم يجب ضمانها كنما ذكرنا لو منعه العمل من غير حبس لم يضمن منافعه وجها واحدا لأنه لو فعل ذلك بالعبد لم يضمن منافعه فالحر أولى ولو حبس الحر وعليه ثباب لم يلزمه ضمانها لأنها تابعة لما لم تثبت اليد عليه في الغصب وهذا كله مذهب الشافعي (فصل) ويلزمه رد المغصوب إن قدر على رده وإن غرم عليه أضعاف قيمته إذا كان باقياً لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم (على ايد ما أخذت حتى ترده) رواه أبو داود وابن ماجه والترمذي وقال حديث حسن وروى عبد الله بن السائب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (لا يأخذ أحدكم متاع صاحبه لاعباً جاداً ومن أخذ عصا أخيه فليردها) رواه أبو داود يعني أنه يقصد المزح مع صاحبه بأخذ متاعه وهو جاد في إدخال الغم والغيظ عليه ولأنه أزال يد المالك عن ملكه بغير حق فلزمته إعادتها، وأجمع العلماء على وجوب رد المغصوب إذا كان بحاله لم يتغير ولم يشتغل بغيره (فصل) فإن غصب شيئاً فبعد لزم رده وإن عرم عليه أضعاف قيمته لأنه جنى بتبعيده فكان ضرر ذلك عليه فإن قال الغاصب خذ مني أجر رده وتسلمه مني ههنا أو بذل له أكثر من قيمته ولا يسترده لم يلزم المالك قبول ذلك لأنها معاوضة فلا يجبر عليها كالبيع، وإن قال المالك دعه لي في مكانه الذي نقلته

(5/379)


إليه لم يملك الغاصب رده لأنه أسقط عنه حقاً فسقط وإن لم يقبله كما لو أبرأه من دينه وإن قال رده لي إلى بعض الطريق لزمه لأنه يلزمه جميع المسافة فلزمه بعضها المطلوب وسقط عنه ما أسقطه كما لو أسقط عنه بعض دينه وإن طلب منه حمله الى مكان آخر في غير طريق الرد لم يلزم الغاصب ذلك سواء كان أقرب الى المكان الذي يلزم رده إليه أولاً لأنه معاوضة، وإن قال دعه في مكانه وأعطني أجر رده لم يلزمه ذلك ومهما اتفقا عليه من ذلك جاز لأن الحق لهما لا يخرج عنهما (مسألة) (وإن خلطه بما يتميز منه لزمه تخليصه ورده) مثل أن يخلط حنطة بشعير أو سمسم أو صغار الحب بكباره أو زبيباً أسود بأحمر لما ذكرنا وأجر المميز عليه كأجر رده إذا بعده وإن أمكن تمييز بعضه وجب تمييز ما أمكن منه وإن لم يمكن تميز شئ منه فسنذكره إن شاء الله تعالى (مسألة) (وإن بنى عليه لزمه رده إلا أن يكون قد بلي) إذا غصب شيئاً فشغله بملكه كحجر نبي
عليه أو خيط خاط به ثوبه أو نحوه فإن بلي الخيط أو انكسر الحجر أو كان مكانه خشبة فتلفت لم يجب رده ووجبت قيمته لانه صارها لكا فوجبت قيمته كما لو تلف، وإن كان باقياً بحاله لزمه رده وإن انتقض البناء وتفصل الثوب وبهذا قال مالك والشافعي، وقال أبو حنيفة لا يجب أداء الخشبة والحجر لأنه صار تابعاً لملكه يستضر بقلعه فلم يجب رده كما لو غصب خيطاً فخاط به جرح عبده ولنا أنه مغصوب أمكن رده ويجوز له فيجوز كما لو بعد العين ولا يشبه الخيط الذي يخاف على العبد من قلعه لأنه لا يجوز له رده لما في ضمنه من تلف الآدمي ولأن حاجته إلى ذلك تبيح أخذه ابتداء بخلاف البناء

(5/380)


(مسألة) (وإن سمر بالمسامير بابالزمه قلعها وردها) لما ذكرنا من الحديث (فصل) وإن غصب فصيلاً فأدخله داره فكبر ولم يخرج من الباب أو خشبة وأدخلها دار ثم بنى الباب ضيقاً لا يخرج منه إلا بنقضه وجب نقضه ورد الفصيل والخشبة كما ينقض البناء لرد الساجة فإن كان حصوله في الدار بغير تفريط من صاحب الدار نقص الباب وضمانه على صاحب الفصيل لأنه لتخليص ماله من غير تفريط من صاحب الدار، وأما الخشبة فإن كان كسرها أكثر ضرراً من نقض الباب فهي كالفصيل وإن كان أقل كسرت ويحتمل في الفصيل مثل هذا متى كان ذبحه أقل ضرراً ذبح وأخرج لحماً لأنه في معنى الخشبة، وإن كان حصوله في الدار بعدوان من صاحبه كرجل غصب داراً وأدخلها فصيلاً أو خشبة أو تعدى على إنسان فأدخل داره فرسا ونحوها كسرت الخشبة وذبح الحيوان وإن زاد ضرره على نقض البناء لان سبب هذا الضرر عدوانه فيكون عينه، ولو باع داراً فيها خوابي لا تخرج إلا بنقض الباب أو خزائن أو حيوان وكان نقض الباب أقل ضرراً من بقاء ذلك في الدار أو تفصيله أو ذبح الحيوان نقض وكان إصلاحه على البائع لأنه لتخليص ماله، وإن كان أكثر ضرراً لم ينقض لأنه لا فائدة فيه ويصطلحان على ذلك أما بأن يشتريه مشتري الدار أو غير ذلك (فصل) وإن غصب جوهرة فابتلعتها بهيمة فقال أصحابنا حكمها حكم الخيط الذي خاط به جرحها على ما نذكره، قال شيخنا ويحتمل أن الجوهرة متى كانت أكثر قيمة من الحيوان ذبح وردت إلى مالكها وضمان الحيوان على الغاصب إلا أن يكون الحيوان آدمياً ويفارق الخيط فإنه في الغالب أقل قيمة من

(5/381)


الحيوان والجوهرة أكثر قيمة ففي ذبح اليحوان رعاية حق المالك برد عين إليه ورعاية حق الغاصب بتقليل الضمان عليه، وإن ابتلعت شاة رجل جوهرة آخر غير مغصوبة ولم يكن إخراجها إلا بذبح الشاة ذبحت إذا كان ضرر ذبحها أقل وضمان نقصها على صاحب الجوهرة لأنه لتخليص ماله فإن كان التفريط من صاحب الشاة بكون يده عليها فلا شئ على صاحب الجوهرة لأن التفريط من غيره فكان الضرر على المفرط.
(فصل) وإن أدخلت رأسها في قمقم ولم يمكن إخراجه إلا بذبحها أو كسر القمقم وكان ضرر ذبحها أقل ذبحت وإن كان كسر القمقم أقل كسر، فإن كان التفريط من صاحب الشاة فالضمان عليه وإن كان من صاحب القمقم بأن وضعه في الطريق فالضمان عليه وإن لم يكن منهما تفريط فالضمان على صاحب الشاة، وإن كسر القمقم لأنه كسر لتخليص شاته وإذا ذبحت الشاة فالضمان على صاحب القمقم لأنه لتخليص ماله فإن قال من عليه الضمان منهما أنا أتلف مالي ولا أغرم شيئاً للآخر فله ذلك لأن إتلاف مال الآخر إنما كان لحقه وسلامة ماله وتخليصه فإذا رضي بتلفه لم يجز إتلاف غيره، وإن قال لا أتلف مالي ولا أغرم شيئاً لم نمكنه من إتلاف مال صاحبه لكن صاحب القمقم لا يجبر على شئ لانه لاحرمة له فلا يجبر صاحبه على تخليصه، وأما صاحب الشاة فلا يحل له تركها لما فيه من تعذيب الحيوان فيقال له اما ان تذبح الشاة لتريحهما من العذاب وأما أن تعرم القمقم لصاحبه إذا كان كسره أقل ضرراً لأن ذلك من ضرورة إبقائها أو تخليصها من العذاب فلزم كعلفها، فإن كان الحيوان غير مأكول احتمل أن

(5/382)


يكون حمه حكم المأكول فيما ذكرنا، واحتمل ان يكسر القمقم وهو قول أصحابنا لأنه لانفع في ذبحه ولا هو مشروع وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذبح الحيوان لغير مأكلة، ويحتمل أن يكون كالمأكول في أنه متى كان قتله أقل ضرراً أو كانت الجناية من صاحبه قتل لأن حرمته معارضة بحرمة مال الآدمي الذي يتلف والنهي عن ذبحه معارض بالنهي عن إضاعة المال، وفي كسر القمقم مع كثرة قيمته إضاعة المال.
(فصل) وإن غصب ديناراً فوقع في محبرته أو أخذ دينار غيره فسهى فوقع في محبرته كسرت ورد الدينار كا ينقض البناء لرد الخشبة وكذلك إن كان درهما أو أقل وإن وقع من غير فعله كسرت لرد الدينار إن أحب صاحبه والضمان عليه لتخيص ماله، وإن غصب ديناراً فوقع في محبرة آخر بفعل الغاصب أو بغير فعله كسرت لرده وعلى الغاصب ضمان المحبرة لأنه السبب في كسرها وإن كان كسرها أكثر ضرراً من تبقيته الواقع فيها ضمنه الغاصب ولم يكسر، وإن رمى إنسان ديناره في محبرة غيره عدواناً فأبى صاحب المحبرة كسرها لم يجبر عليه لأن صاحبه تعدى برميه فيها فلم يجبر صاحبها على إتلاف ماله لإزالة ضرر عدوانه عن نفسه وعلى الغصب نقص المحبرة بوقوع الدينار فيها ويحتمل أن يجبر على كسرها لردعين مال الغاصب ويضمن الغاصب قيمتها كما لو غرص في أرض غيره ملك حفر الأرض بغير إذن المالك لاخذ غرسه يضمن نقصها بالحفر يضمن نقصها بالحفر وعلى الوجهين لو كسرها الغاصب قهراً لم يلزمه أكثر من قيمتها (مسألة) (وإن زرع الأرض وردها بعد أخذ الزرع فعليه أجرنها)

(5/383)


إذا غصب أرضاً فزرعها وردها بعد حصاد الزرع فهو للغاصب لا نعلم فيه خلافاً لأنه نماء ماله وعليه أجر المثل إلى وقت التسليم وضمان النقص ولو لم يزرعها فنقصت لترك الزراعة كأراضي البصرة أو نقصت لغير ذلك ضمن نقصها لما نذكره فيما إذا غرسها أو بنى فيها (مسألة) (وإن أدركها ربها وازرع قائم خير بين تركه إلى الحصاد بأجرة مثله وبين أخذه بعوضه وهل ذلك قيمته أو نفقته؟ على وجهين) قوله أدركها والزرع قائم يعني استرجعها من الغاصب وقدر على أخذها منه متى أدركها ربها والزرع قائم لم يملك إجبار الغاصب على قلع الزرع وخير المالك بين أن يقر الزرع في الأرض إلى الحصاد ويأخذ من الغاصب أجرة الأرض وأرش نقصها وبين أن يدفع إليه نفقته ويكون له الزرع وهذا قول أبي عبيد وقال أكثر الفقهاء يملك إجبار الغاصب على قلعه لقوله عليه الصلاة والسلام ((ليس لعرق ظالم حق) لأنه زرع في أرض غيره ظلماً أشبه الغرس ولنا ما روى رافع بن خدبج قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من زرع في أرض قوم
بغير إذنهم فليس له من الزرع شئ وعليه نفقته) رواه أبو داود والترمذي وقال حديث حسن صحيح فيه دليل على أن الغاصب لا يجبر على القلع لأنه ملك للمغصوب منه ولأنه أمكن رد المغصوب إلى مالكه من غير إتلاف مال الغاصب على قرب من الزمان فلم يجز إتلافه كما لو غصب سفينة فحمل فيها ماله وأدخلها البحر أو غصب لوحا فرقع به سفينة فإنه لا يجبر على رد المغصوب في اللجة ينتظر حتى ترمي صيانة للمال عن

(5/384)


التلف كذا هذا، وفارق الشجر لأن مدته تتطاول ولا يعلم متى ينقطع من الأرض فانتظاره يؤدي إلى ترك رد الأصل بالكلية، وحديثهم ورد في الغرس وحديثنا في الرزع فيجمع بين الحديثين ويعمل بكل واحد منهما في موضعه وهو أولى من إبطال أحدهما.
إذا ثبت هذا فمتى رضي المالك بترك الزرع للغاصب ويأخذ منه أجر الأرض فله ذلك لأنه شغل المغصوب بماله فملك صاحبه أخذ أجره كما لو ترك في الدار طعاماً يحتاج في نقله إلى مدة وإن أحب أخذ الزرع فله ذلك كما يستحق الشفيع أخذ شجر المشتري بقيمته، وفيما يرد على الغاصب روايتان: إحداهما) قيمة الزرع لأنه بدل عن الزرع فيقدر بقيمته كما لو أتلفه ولأن الزرع للغاصب إلى حين نتزاعه منه بدليل أنه لو أخذه قبل انتزاع المالك كان ملكاً له يأخذه فيكون أخذ المالك له تملكاً له إلا أن يعوضه فيجب ان يكون بقيمته كما لو أخذ الشقص المشفوع، فعلى هذا يجب على الغاصب أجر الأرض إلى حين تسليم الزرع لأن الرزع كان محكوماً له به وقد شغل به أرض غيره (والرواية الثانية) يرد على الغاصب ما أنفق من البذر ومؤنة الزرع في الحرث والسقي وغيره وهذا الذي ذكره القاضي وهو ظاهر كلام الخرقي وظاهر الحديث لقوله (عليه نفقته) وقيمة الشئ لا تسمى نفقة له والحديث مبني على هذه المسألة فإن أحمد إنما ذهب إلى هذا الحكم استحساناً على خلاف القياس فإن القياس إن الزرع لصاحب البذر لأنه نماء ماله فأشبه ما لو غصب دجاجة فحضنت بيضاً له كان الماء له وقد صرح به أحمد فقال هذا شئ لا يوافق القياس استحسن أن يدفع إليه نفقته للأثر ولذلك جعلناه للغاصب إذا أخذت منه الأرض بعد أخذه الزرع وإذا كان العمل بالحديث فيجب أن يتبع مدلوله ويحتمل أن يكون الزرع للغاصب وعليه الاجرة كما إذا رجع المستعير

(5/385)


(فصل) فإن كان مما تبقى أصوله في الأرض ويجز مرة بعد أخرى كالرطبة احتمل أن يكون حكمه ما ذكرنا لدخوله في عموم الزرع لأنه ليس له فرع قوي أشبه الحنطة والشعير واحتمل أن حكمه حكم الغرس لبقاء أصله وتكرر أخذه ولأن القياس يقتضي أن يثبت لكل زرع مثل حكم الغرس وإنما ترك فيما تقل مدته للأثر ففيما عداه يبقى على قضية القياس (فصل) فإن غصب أرضاً فغرسها فأثمرت فأدركها ربها بعد أخذ الغاصب ثمرتها في له فإن أدركها والثمرة فيها فكذلك لأنها ثمرة شجرة فكانت له كما لو كانت في أرضه ولأنها نماء أصل محكوم به للغاصب فكان له كأغصانها وورقها ولبن الشاة ونسلها، وقال القاضي هي لمالك الأرض إن أدركها قى الغراس لأن أحمد قال في رواية عي بن سعيد إذا غصب أرضاً فغرسها فالنماء لمالك الأرض قال القاضي وعليه من انفقة ما أنفقه الغارس من مؤنة الثمرة لأن الثمرة في معنى الزرع فكان لصاحب الأرض إذا أدركه قائماً فيها كالزرع قال شيخنا والأول أصح لأن أحمد قد صرح بأن أخذ رب الارض الزرع شئ لا يوافق القياس وإنما صار إليه للأثر فيختص الحكم به ولا يتعدى إلى غيره، ولأن الثمرة تفارق الزرع من وجهين (أحدهما) إن الزرع نماء الأرض فكان لصاحبها والثمرة نماء الشجر فكانت لصاحبه الثاني أنه يرد عوض الزرع إذا أخذه مثل البذر الذي نبت منه الزرع مع ما أنفق عليه ولا يمكنه مثل ذلك في الثمرة.
(فصل) وإن غصب شجراً فأثمر فالثمر لصاحب الشجر بغير خلاف نعلمه لأنه نماء ملكه ولأن الشجر عين ملكه نمى وزاد فأشبه مالو طالت أغصانه، ويرد الثمر إن كان باقيا وبدله إن تلف وإن كان رطباً فصار تمراً أو عنبا فصا رزبيبا فعليه رده وإرش نقصه إن نقص ولا شئ له بعلمه فيه ولا

(5/386)


أجرة عليه للشجر لأن أجرتها لا تجوز في العقود فكذلك في الغصب ولأن نفع الشجر تربية الثمر وإخراجه وقد عادت هذه المنافع إلى المالك، ولو كانت ماشية فعليه ضمان ولدها إن ولدت عنده وضمان لبنها مثله لأنه من ذوات الأمثال ويضمن اربارها وأشعارها بمثله كالقطن، وفي ضمان زوائد الغصب
المنفصلة اختلاف نذكره فيما يأتي (مسألة) (وإن غرس أو بنى أخذ بقلع غرسه وبنائه وتسوية الأرض وأرش نقصها وأجرتها) متى غرس في أرض غيره بغير إذنه أو بنى فيها وطلب صاحب الأرض قلع غراسه وبنائه لزم الغاصب ذلك ولا نعلم فيه خلافا لما روى سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (ليس لعرق ظالم حق) رواه الترمذي وقال حديث حسن رووى أبو داود وابو عبيد في الحديث أنه قال فلقد أخبرني الذي حدثني هذا الحديث أن رجلاً غرس في أرض رجل من الأنصار من بني بياضة فاختصما إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقضى للرجل بأرضه وقضى للآخر أن ينزع نخله قال فلقد رأيثها يضرب في أصولها بالفؤس وإنها لنخل عم ولأنه شغل ملك غيره بملكه الذي لاحرمة له في نفسه بغير إذنه فلزمه تفريغه كما لو جعل فيه قماشاً، وإذا قلعها لزمه تسوية الحفر ورد الأرض الى ما كانت عليه لأنه ضرر حصل في ملك غيره بفعله فلزمته إزالته

(5/387)


(فصل) فإن أراد صاحب الأرض أخذ الشجرة والبناء بغير عوض لم يكن له ذلك لأنه عين مال الغاصب فلم يملك صاحب الأرض أخذه كما لو وضع فيها أثاثاً أو حيواناً، وإن طلب أخذه بقيمته وأبى مالكه إلا القلع فله ذلك لأنها ملكه فملك نقله ولا يجبر على أخذ القيمة لأنه معاوضة فلم يجبر عليها وإن اتفقا على تعويضه عنه جاز لانه الحق لهما فجاز ما اتفقا عليه، وإن وهب الغاصب الغراس والبناء لمالك الأرض ليتخلص من قلعه فقبله المالك جاز وإن أبى قبوله وكان في قلعه غرض صحيح لم يجبر على قبوله وإن لم يكن فيه غرض صحيح احتمل أن يجبر على قبوله لأن فيه رفع الخصومة من غير غرض يفوت ويحتمل أن لا يجبر لأن فيه إجباراً على عقد يعتبر الرضى فيه، وإن غصب أرضاً وغراساً من رجل واحد فغرسه فيها فالكل لمالك الأرض فإن طالبه المالك بقعله وله في فعله غرض أجبر على قلعه لأنه فوت عليه غرضاً مقصوداً بالأرض فأخذ بإعادتها الى ما كانت وعليه تسوية الأرض ونقصها ونقص الغراس لأنه نقص حصل في يد الغصب اشبه مالو غصب طعاماً فتلف بعضه وإن لم يكن في قلعه غرض صحيح لم يجبر على قلعه لأنه سفه فلا يجبر عليه وقيل يجبر لأن المالك محكم في ملكه والغاصب غير
محكم فإن أراد الغاصب قلعه ومنعه المالك لم يملك قلعه لأن الجميع ملك للمغصوب منه فلم يملك غيره التصرف فيه بغير إذنه.

(5/388)


(فصل) والحكم فيما إذا بنى في الأرض كالحكم فيما إذا غرس فيها في هذا التفصيل جميعه الا انه يتخرج أنه إذا بذل مالك الأرض القيمة لصاحب البناء أجبر على قبولها إذا لم يكن في النقض غرض صحيح لأن النقض سفه والأول أصح لما روى الخلال بإسناده عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من بنى في رباع قوم بإذنهم فله القيمة ومن بنى بغير إذنهم فله النقض) ولأن ذلك معاوضة فلا يجبر عليها وإذا كانت الآلة من تراب الأرض وأحجارها فليس للغاصب النقض على ما ذكرنا في الغرس (فصل) وإن غصب أرضاً فكشط ترابها لزمه رده وفرشه على ما كان إن طالبه المالك وكان فيه غرض وإن لم يكن فيه غرض فهل يجبر على فرشه يحتمل وجهين وإن منعه المالك فرشه أورده وطلب الغاصب ذلك وكان في رده غرض من إزالة ضرر أو ضمان فله فرشه ورده وعليه أجر مثلها مدة شغلها وأجر نقصها، وإن أخذ تراب أرض فضربه لبنا رده ولا شئ له إلا أن يجعل فيه تبناله فله أن يحله ويأخذ تبنه، فإن كان لا يحصل منه شئ ففيه وجهان بناء على كشط التزويق إذا لم يكن له قيمة وسنذكره، وإن طالبه المالك بحله لزمه ذلك إذا كان فيه غرض فإن لم يكن فيه غرض فعلى وجهين فإن جعله آجراً أو فخاراً لزمه رده ولا أجر له لعمله وليس له كسره ولا للمالك إجباره عليه لأنه سفه وإتلاف للمال وإضاعة وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن إضاعة المال

(5/389)


(فصل) وعليه ضمان نقص الأرض إن نقصت بالغرس والبناء وهكذا كل عين مغصوبة على الغاصب ضمان نقصها إذا كان نقصاً مستقراً كإناء تكسر وطعام سوس وبه قال الشافعي، وقال أبو حنيفة إذا شق لرجل ثوبا شقا قليلاً أخذ أرشه وإن كثر فصاحبه بالخيار بين تسليمه وأخذ قيمته وبين إمساكه مع الارش وروى عن أحمد كلام يحتمل هذا فإنه قال في رواية موسى بن سعيد إن شاء شق الثوب وإن
شاء مثله يعني والله أعلم أن شاء أخذ أرش الشق ووجهه أن الجناية أتلفت معظم نفعه فكانت له المطالبة بقيمته كما لو قتل شاة له، وحكى أصحاب مالك عنه إذا جنى على عين فأتلف غرض صاحبها فيها كان المجني عليه بالخياران شاء رجع بما نقصت وإن شاء سلمها وأخذ قيمتها، ولعل ما يحكى عنه من قطع ذنب حمار القاضي ينبني على ذلك لأنه أتلف غرضه به فإنه لا يركبه في العادة وحجتهم أنه أتلف المنفعة المقصودة من السلعة فلزمته قيمتها كما لو أتلفها ولنا أنها جناية على مال أرشها دون قيمته فلم يملك المطالبة بجميع قيمته كما لو ان الشق يسيراً ولأنها جناية نقص بها القيمة أشبه مالو لم يتلف غرض صاحبها وفي الشاة أتلف جميعها لأن الإعتبار بالمجني عليه لا بغرض صاحبه لأنه إن لم يصلح لصاحبه صلح لغيره.
وعليه أجر الأرض منذ غصبها إلى وقت تسليمه وهكذا كل ماله أجر فعلى الغاصب أجر مثله سواء استوفى المنافع أو تلفت تحت يده لأنها

(5/390)


تلفت في يده العادية فكان عليه عوضها كالأعيان، وفيه اختلاف نذكره فيما يأتي إن شاء الله تعالى وإن غصب أرضاً فبناها داراً فإن كانت آلات بنائها من مال الغاصب فعليه أجر الأرض دون بنائها لأنه إنما غصب الأرض والبناء له فلم يلزمه أجز ماله وإن بناها بتراب منها وآلات المغضوب منه فعليه أجرها مبنية لان الداركلها ملك للمغصوب منه وإنما للغاصب فيها أثر الفعل فلا يكون في مقابلته أجر لأنه وقع عدواناً.
(فصل) وإن غصب درار فنقضها ولم يبنها فعليه أجر دار إلى حين نقضها وأجرها مهدومة من حين نقضها إلى حين ردها لأن البناء انهدم وتلف فلم يجب أجره مع تلفه، وإن نقضها ثم بناها بآلة من عنده فالحكم كذلك، وإن بناها بآلتها أو آلة من ترابها أو ملك المغصوب منه فعليه أجرها عرصة منذ نقضها إلى أن بناها وأجرها داراً فيما قبل ذلك وبعده لأن البناء للمالك، وحكمها في نقض بنائها الذي بناه الغاصب حكم مالو غصبها عرصة فبناها، وإن كان الغاصب باعها فبناها المشتري أو نقضها ثم بناها لم يختلف الحكم وللمالك مطالبة من شاء منهما والرجوع عليه فإن رجع عليه الغاصب رجع الغاصب على المشتري بقيمة ما اتلف من الأعيان لأن المشتري دخل على أنه مضمون عليه بالعوض
فاستقر الضمان عليه، وإن رجع المالك على المشتري رجع المشتري على الغاصب في نقص التالف ولم يرجع بقيمة ما تلف وهل يرجع كل واحد منها على صاحبه بالأجر؟ على روايتين وليس له مطالبة

(5/391)


المشتري من الأجر إلا بأجرة مدة مقامها في يديه لأن يده إنما تثبت حينئذ (مسألة) (وإن غصب لوحا فرقع به سفينة لم يقلع حتى ترسي إذا كانت السفينة بخاف غرقها بقلع اللوح لم يقطع حتى تخرج إلى الساحل، وإن كان في أعلاها لا تغرق بقلعه لزمه قلعه ولصاحب اللوح طلب قيمته فإذا أمكن رد اللوح استرجعه ورد القيمة كما لو غصب عبداً فأبق وقال أبو الخطاب إن كان فيها حيوان له حرمة أو مال لغير الغاصب لم يقلع كالخيط وإن كان فيها مال للغاصب أولا مال فيها فكذلك أحد الوجهين والثاني يقلع في الحال لأنه أمكن رد المغصوب فلزمه وإن أفضى الى تلف مال الغاصب كرد الساجة المبني عليها ولأصحاب الشافعي وجهان كهذين ولنا أنه أمكن رد المغصوب من غير إتلاف فلم يجز مع الإتلاف كما لو كان فيها مال غيره وفارق الساجة في البناء لأنه لا يمكن ردها من غير إتلاف (مسألة) (وان غصب خيطاً فخاط به جرح حيوان وخيف عليه من قلعه فعليه قيمته إلا أن يكون الحيوان مأكولا للغاصب فهل يلزمه رده ويذبح الحيوان؟ على وجهين) هذه المسألة لا تخلو من ثلاثة أقسام (أحدها) أن يخيط به جرح حيوان لا حرمة له كالمرتد والخنزير والكلب والعقور فيجب رده لأنه يتضمن تفويت ذي حرمة أشبه مالو خاط به ثوبا (الثاني) أن يخيط به جرح حيوان محترم لا يحل أكله كالآدمي فان خيف من نزعه الهلاك أو أبطأ برؤه فلا يجب لأن الحيوان آكد حرمة

(5/392)


من غير المال ولهذا جاز له أخذ مال غيره لحفظ حيانه وإتلاف المال لتبقيته وهو ما يأكله وكذلك الدواب التي لا يؤكل لحمها كالبغل والحمار الأهلي (الثالث) أن يخيط به جرح حيوان مأكول فإن كان ملكاً لغير الغاصب وخيف تلفه بقلعه لم يقطع لأن فيه إضراراً بصاحبه ولا يزال الضرر بالضرر ولا يجب إتلاف مال من لم يجن صيانة لمال آخر وإن كان للغاصب فقال القاضي يجب رده لأنه يمكن
ذبح الحيوان والإنتفاع بلحمه وذلك جائز وإن حصل فيه نقص على الغاصب فليس ذلك بمانع من وجوب رد المغصوب كنقض البناء وقال أبو الخطاب فيه وجهان أحدهما هذا (والثاني) لا يجب قعله لان لليحوان حرمة في نفسه وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذبح الحيوان لغير مأكلة ولأصحاب الشافعي وجهان كهذين قال شيخنا ويحتمل أن يفرق بين ما يعد للأكل من الحيوان كبهيمة الأنعام والدجاج وبين مالا يعدله كالخيل وما يقصد صوته ومن الطير فيجب ذبح الأول إذا توقف رد الخيط عليه ولا يجب ذبح الثاني لأنه إتلاف له فجرى مجرى مالا يؤكل لحمه ومتى أمكن رد الخيط من غير تلف الحيوان أو بعض أعضائه أو ضرر كثير وجب رده (مسألة) (فإن مات الحيوان لزمه رده إلا أن يكون آدمياً معصوما لأن غير الآدمي لا حرمة له بعد الموت وحرمة الآدمي باقية ولهذا قال عليه الصلاة والسلام كسر عظم الميت ككسره وهو حي) فعلى هذا يرد قيمته.

(5/393)


(مسألة) (وان غصب جارحاً فصاد أو شبكة أو شركاً فامسك شيئا غاو فرساً فصاد عليه أو أو غنم فهو لمالكه) كما لو غصب عبداً فصاد فان الصيد لسيد العبد ويحتمل أنه للغاصب لأن الصائد والجارحة آلة ولهذا اكتفى بتسميته عند إرسال الجارح وفيما إذا غصب فرساً أو سهماً أو شبكة فصاد به وجه آخر أنه للغاصب لأن الصيد حصل بفعله وهذه آلات فأشبه مالو ذبح بسكين غيره فان قلنا هو للغاصب فعليه أجرة ذلك كله مدة مقامه في يده إن كان له أجر وإن قلنا هو للمالك لم يكن له أجر في مدة اصطياده في أحد الوجهين لأن منافعه في هذه المدة عادة إلى المالك فلم يستحق عوضها على غيره كما لو زرع أرض إنسان فأخذ المالك الزرع بنفقته والثاني عليه أجر المثل لأنه استوفى منافعه أشبه مالو لم يصد، ولو غصب عبداً فصاد أو كسب فالكسب للسيد وفي وجوب أجرة العبد على الغاصب في مدة كسبه وصيده الوجهان وإن غصب منجلاً فقطع به خشباً أو حشيشاً فهو للغاصب لأن هذه آلة فهو كالحبل يربط به.
(مسألة) (وإن غصب ثوباً فقصره أو غزلاً فنسجه أو فضة أو حديداً فضربه أو خشباً فنجره أو
شاة فذبحها وشواها رد ذلك بزيادته وأرش نقصه) ولا شئ له هذا ظاهر المذهب وهو قول الشافعي وقال أبو حنيفة في هذه المسائل ينقطع حق صاحبها عنها إلا أن الغاصب لا يجوز له التصرف فيها إلا بالصدقة إلا أن يدفع قيمته فيملكها ويتصرف

(5/394)


فيها كيف شاء وروى محمد بن الحكم عن أحمد ما يدل على أن الغاصب يملكها بالقيمة إلا أنه قول قديم رجع عنه فإن محمداً مات قبل أبي عبد الله بنحو من عشرين سنة واحتجوا بما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم زار قوماً من الأنصار في دارهم فقدموا إليه شاة مشوية فتناول منها لقمة فجعل يلوكها ولا يسيغها فقال (إن هذه الشاة لتخبرني أنها أخذت بغير حق) قالو نعم يا رسول الله طلبنا في السوق فلم نجد فأخذنا شاة لبعض جيراننا ونحن نرضيهم من ثمنها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (أطعموها الأسرى) رواه أبو داود بنحو من هذا وهذا يدل على أن حق أصحابها انقطع عنها لولا ذلك لامر يردها عليهم ولنا أن عين مال المغصوب منه قائمة فلزم ردها إليه كما لو ذبح الشاة ولم يشوها ولأنه لو فعله بملكه لم يزل عنه فكذلك إذا فعله يملك غيره كذبح الشاة وضرب النقرة دراهم ولأنه لا يزيل الملك إذا كان بغير فعل آدمي فلم يزله إذا فعله آدمي كالذي ذكرناه وأما الخبر فليس بمعروف كما رووه في رواية أبي داود ونحن نرضيهم عنها.
إذا ثبت هذا فإنه لا شئ للغاصب بعمله سواء زادت العين أولم تزدوهذا مذهب الشافعي وعنه يكون شريكا بالزيادة ذكرها أبو الخطاب لأنها حصلت بمنافعه والمنافع أجريت مجرى الأعيان أشبه مالو غصب ثوباً فصبغه والمذهب الأول ذكره أبو بكر والقاضي لأن الغاصب عمل

(5/395)


في ملك غيره بغير إذنه فلم يستحق لذلك عوضاً كما لو أغلى زيتاً فزادت قيمته أو بنى حائطاً لغيره أو زرع حنطة إنسان في أرضه فأما صبغ الثوب فإن الصبغ عين مال لا يزول ملك صاحبه عنه بجعله مع ملك غيره وهذا حجة عليه لأنه إذا لم يزل ملكه عن صبغه بجعله في ملك غيره وجعله كالصفة فلأن لا يزول ملك غيره بعلمه فيه أولى فإن احتج بأن من زرع في أرض غيره ترد عليه نفقته قلنا الزرع ملك للغاصب
لأنه عين ماله ونفقته عليه تز داد به قيمته فإذا أخذه مالك الأرض احتسب بما أنفق على ملكه وفي مسئلتنا عمله في ملك المغصوب منه بغير إذنه فكان لاغياً على أننا نقول إنما تجب قيمة الزرع على إحدى الروايتين وقال أبو بكر يملكه وعليه قيمته لما روى محمد بن الحكم ووجهه كما ذكرنا والصحيح الأول (فصل) فإن نقصت العين دون القيمة رد الموجود وقيمة النقص وان نقصت اليعن القيمة ضمنهما معا كالزيت إذا أغلاه وهكذا القول في كل ما تصرف فيه كنقرة ضربها دراهم أو حلياً أو طيناً جعله لبناً أو عزلا نسجه أو ثوبا قصره لأنه نقص بفعل غير مأذون فيه أشبه مالو أتلف بعضه وإن جعل فيه شيئاً من عين ماله مثل أن سمر الدفوف بمساميره فله قلعها ويضمن ما نقصت الدفوف، وإن كانت المسامير من الخشبة المغصوبة أو مال المغصوب منه فلا شئ للغاصب وليس له قلعها إلا أن يأمره

(5/396)


المالك فيلزمه، وإن كانت المسامير للغاصب فوهبها للمالك لم يجبر على قبلوها في أقوى الوجهين وان استأجر الغاصب على عمل شئ من هذا الذي ذكرناه فالأجر عليه والحكم في زيادته ونقصه كما لو فعل ذلك بنفسه وللمالك تضمين النقص من شاء منهما فإن غرم الغاصب لم يرجع على أحد إذا لم يعلم الأجير الحال وإن ضمن الأجير رجع على الغاصب لأنه أتلف مال غيره بغير إذنه عالماً بالحال، وإن ضمن الغاصب رجع على الأجير لأن النقص حصل منه فاستقر الضمان عليه وإن استعان بمن فعل ذلك فهو كالأجير.
(مسألة) (وان غصب أرضاً فحفر فيها بئراً ووضع ترابها في أرض مالكها لم يملك طمها إذا أبرأه المالك من ضمان ما يتلف بها في أحد الوجهين) إذا طمه المالك بطمها لزمه لأنه يضر بالأرض ولأن التراب ملكه نقله من موضعه فلزمه رده كتراب الأرض وكذلك لو حفر فيها نهراً أو حفر بئراً في ملك رجل بغير إذنه، وإن أراد الغاصب طمها فمنعه المالك نظرنا فإن كان له غرض في طمها بأن يسقط عنه ضمان ما يقع فيها أو يكون قد نقل ترابها إلى ملكه أو ملك غيره أو طريق يحتاج إلى تفريغه فله ذلك لما فيه من الغرض وبه قال الشافعي وإن لم يكن له غرض مثل أن يكون قد وضع التراب في ملك المغصوب وأبرأه من ضمان ما يتلف بها لم يكن له
طمها في أحد الوجهين لأنه إتلاف لا نفع فيه فلم يكن له فعله كما لو غصب نقرة فطبعها دراهم ثم

(5/397)


أراد ردها نقرة وبهذا قال أبو حنيفة والمزني وبعض الشافعية وقال بعضهم له طمها وهو الوجه الثاني لنا لأنه لا يبرأ من الضمان بإبراء المالك لكونه أبرأ مما لم يجب بعد وهو أيضاً إبراء من حق غيره وهو الواقع فيها ولنا أن الضمان إنما يلزمه لوجود التعدي فإذا رضي صاحب الأرض زال التعدي فزال الضمان وليس هذا إبراء مما يجب إنما هو إسقاط التعدي برضاه به وهكذا ينبغي أن يكون الحكم إذا لم يتلفظ بالإبراء لكن منعه من طمها لأنه يتضمن رضاه بذلك (مسألة) (وإن غصب حبا فزرعه أو نوى فصار غرساً أو بيضاً فصار فراخاً رده ولا شئ للغاصب لأنه عين مال المغصوب منه ويتخرج أن يملكه الغاصب كما إذا قصر الثوب أو ضرب الفضة لكونه غيره بفعله فالتغيير في البيضة أعظم فإنه استحال بزوال اسمه، فعلى هذا يتخرج أيضاً أن يكون شريكا بالزيادة كالمسألة الأولى (فصل) وإن غصب دجاجة فباضت عنده ثم حضنت بيضها فصار فراخا فهما لما لكها ولا شئ للغاصب في علفها.
قال أحمد في طيرة جاءت إلى دراه قوم فأفرخت عندهم يردها وفراخها إلى أصحاب الطيرة ولا شئ للغاصب فيما عمل وإن غصب شاة فأنزا عليها فحله فالولد لصاحب الشاة لأنه من نمائها وإن غصب فحلا فانراه عل شاته فالولد لصاحب الشاة لانه يتبع الامام ولا أجرة له لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن عسب الفحل، وإن نقصه الضراب ضمنه وإن نقص المغصوب لزمه ضمان نقصه بقيمته رقيقاً

(5/398)


كان أو غيره وبه قال الشافعي وعن أحمد في العبد رواية أخرى أنه يضمن بما يضمن به في الإتلاف فيجب في يده نصف قيمته وفي موضحته نصف عشر قيمته وهو قول بعض أصحاب الشافعي لأنه ضمان لأبعاض العبد فكان مقدراً من قيمته كأرش الجناية ولنا أنه ضمان مال من غير جناية فكان الواجب ما نقص كالبهيمة وكنقص الثوب يحققه أن القصد بالضمان جبر حق المالك بإيجاب قدر المفوت عليه وقدر النقص هو الجابر ولأنه لو فات الجميع لو جبت قيمته فإذا
فات منه شئ وجب قدره من القيمة كغير الحيوان وضمان الجناية على أطراف العبد معدول به عن القياس للإلحاق بالجناية على الحر والواجب ههنا ضمان اليد وهي لا تثبت على الحر فوجب البقاء فيه على موجب الأصل وإلحاقه بسائر الأموال المغصوبة على أن في الجناية على العبد رواية أنه يضمن بما نقص فتنفض الروايتان والتفريع على الأول، ويتخرج أن يضمنه بأكثر الامريين منهما لأن سبب كل واحد منهما قد وجد، فأما إن كان النقص في الرقيق مما لا مقدر فيه كنقصه لكبر أو مرض أو شجه دون الموضحة فعليه ما نقص مع الرد لا غير لا نعلم فيه خلافاً فإن كان العبد أمرد فنبتت ليحته فنقصت قيمته وجب ضمان نقصه وبه قال الشافعي وقال أبو حنيفة لا يجب ضمانه لأن الفائت لا يقصد قصداً صحيحاً أشبه الصناعة المحرمة، ولنا أنه نقص في القبمة بتغير صفة فيضمنه كبقية الصور

(5/399)


(مسألة) (وان غصبه وجني عليه ضمنه بأكثر الأمرين) وجملة ذلك أنه إذا غصب عبداً وجني عليه جناية مقدرة الدية فعلى قولنا ضمان الغصب ضمان الجناية يكون الواجب أرش الجناية كما لو جنى عليه من غير غصب ونقصته الجناية أقل من ذلك أو اكثر وإن قلنا ضمان الغصب غير ضمان الجناية وهو الصحيح فعليه أكثر الأمرين من أرش النقنص أو دية ذلك العضو لأن سبب كل واحد منهما وجد فوجب أكثرهما ودخل الآخر فيه فإن الجناية واليد وجدا جميعاً فلو غصب وقيمته ألف فزادت قيمته إلى ألفين ثم قطع يده فنقص ألفا لزمه ألف ورد العبد لأن زيادة السوق إذا تلفت العين مضمونة ويد العبد كنصفه فكان يقطع يده فوت نصفه وإن نقص ألفاً وخمسمائة وقلنا الواجب ما نقص فعليه ألف وخمسمائة ويرد العبد وإن قلنا ضمان الجناية فعليه ألف ويرد العبد حسب وإن نقص خمسمائة فعليه رد العبد وهل يلزمه ألف أو خمسمائة؟ على وجهين.
(مسألة) (وإن جنى عليه غير الغاصب فله تضمين الغاصب أكثر الأمرين ويرجع الغاصب على الجاني بأرش الجناية وله تضمين الجاني أرش الجناية وتضمين الغاصب ما بقي من النقص) إذا غصب عبداً فقطع آخر يده فللمالك تضمين من شاء منهما لأن الجاني قطع يده والغاصب حصل النقص

(5/400)


في يده فإن ضمن الجاني ضمنه نصف الفيمة لا غير ولم يرجع على أحد لأنه لم يضمنه أكثر مما وجب عليه ويضمن الغاصب ما زاد على نصف القيمة إن نقص أكثر من النصف ولا يرجع على أحد وإن قلنا ضمان الغصب ضمان الجناية أو لم ينقص اكثر من نصف قيمته لم يضمن الغاصب ههنا شيئاً وإن اختار تضمين الغاصب وقلنا إن ضمان الغصب كضمان الجناية ضمنه نصف القيمة ورجع بها الغاصب على الجاني لأن التلف حصل بفعله فاستقر الضمان عليه، وإن قلنا أن ضمان الغصب بما نقص فلرب العبد تضمينه بأكثر الأمرين لأن ما وجد في يده فهو في حكمه الموجود منه ثم يرجع الغاصب على الجاني بنصف القيمة لأنها أرش جنايته فلا يجب عليه أكثر منها (مسألة) (وإن غصب عبداً فخصاه لزمه رده ورد قيمته) إذا غصب عبداً فقطع خصييه أو يديه أو ذكره أو لسانه أو ما تجب فيه الدية من الحر لزمه رده ورد قيمته كلها نص عليه وبه قال مالك والشافعي، وقال الثوري وأبو حنيفة يخير المالك بين أن يصبر ولا شئ له وبين أخذ قيمته ويملكه الجاني لأنه ضمان مال فلا يبقى ملك صاحبه عليه مع ضمانه كسائر الأموال ولنا أن المتلف البعض فلا يقف ضمانه على زوال الملك كقطع ذكر المدبر ولأن المضمون التالف فلا يزول الملك عن غيره بضمانه كما لو قطع تسع أصابع، وبهذا ينفصل عما ذكروه فإن الضمان في مقابلة

(5/401)


التالف لا في مقابلة الجملة، فإن ذهبت هذه الأعضاء بغير جناية فهل يضمنها ضمان الإتلاف أو ما نقص؟ على روايتين مضى ذكرهما، وعن أحمد رواية أخرى أن عين الدابة تضمن بربع قيمتها من الخيل والبغال والحمير فإنه قال في رواية أبي الحارث في رجل فقأ عين دابة عليه ربع قيمتها قيل له فقأ العينين؟ قال إذا كانت واحدة فقال عمر ربع القيمة وأما العينان فما سمعت فيهما شيئاً قيل له فإن كان بعيراً أو بقرة أو شاة؟ فقال هذا غير الدابة هذا ينتفع بلحمه ينظر ما نقصها، وهذا يدل على أن أحمد إنما أو جب مقدراً في العين الواحدة من الدابة وهي الغرس والبغل والحمار خاصة للأثر الوارد فيه وما عدا هذا يرجع إلى القياس.
واحتج أصحابنا لهذه الرواية بما روى زيد بن ثابت أن النبي صلى الله عليه وسلم
قضى في عين الدابة بربع قيمتها وروي عن عمر رضي الله عنه أنه كتب إلى شربح لما كتب إليه يسأله عن عين الدابة: إنا كنا نزلها منزلة الآدمي إلا أنه أجمع رأينا أن قيمتها ربع الثمن.
وهذا إجماع يقدم على القياس ذكر هذين أبو الخطاب في رءوس المسائل، وقال أبو حنيفة إذا قلع عيني بهيمة ينتفع بها من وجهين كالدابة والبعير والبقرة وجب نصف قيمتها وفي إحداهما ربع قيمتها لقول عمر أجمع رأينا على أن قيمتها ربع الثمن، والمذهب إن قدر الأرش ما نقص من القيمة كسائر الأعيان فأما حديث زيد بن ثابت فلا أصل له ولو كان صحيحاً لما احتج أحمد وغيره بحديث عمر وتركوه وأما قول عمر فمحمول على أن ذلك كان قدر نقصها كما روي عنه أنه قضى في العين الفائمة بخمسين ديناراً

(5/402)


(مسألة) (وإن نقصت قيمة العين لتغير الأسعار لم يضمن نص عليه) وهو قول جمهور العلماء وحكي عن أبي ثور أنه يضمنه لأنه يضمنه إذا تلفت العين فلزمه إذا ردها كالسمن وذكره ابن أبي موسى رواية عن احمد ولنا أنه رد العين بحالها لم تنقص منها عين ولا صفة فلم يلزمه شئ كما لو لم تنقص ولانسلم أنه يضمنها مع تلف العين وإن سلمنا فلأنه وجبت قيمة العين أكثر ما كانت قيمتها فدخلت في التقويم بخلاف ما إذا ردها فإن القيمة لا تجب ويخالف السمن فإنه من عين المغصوب والعلم بالصناعة صفة فيها وههنا لم تذهب عين ولا صفة ولأنه لا حق للمغصوب منه في القيمة مع بقاء العين وإنما حقه في العين وهي باقية كما كانت ولأن الغاصب يضمن ما غصبه والقيمة لا تدخل في الغصب بخلاف زيادة العين فإنها مغصوبة وقد ذهبت (مسألة) وإن نقصت القيمة لمرض أو غيره ثم عادت ببرئه لم يلزمه شئ الارده) إذا مرض المغصوب ثم برئ أو ابيضت عينه ثم زال بياضها أو غصب جارية حسناء فسمنت سمناً نقصها ثم خف سمنها فعاد حسنها وقيمتها ردها ولا شئ عليه لأنه لم يذهب ماله قيمة والعيب الذي أوجب الضمان زال في يديه، وكذلك لو حملت فنقصت ثم وضعت فزال نقصها لم يضمن شيا فإن رد المغصوب ناقصاً بمرض أو عيب أو سمن مفرط أو حمل فعليه أرش نفصه فإن زال عيبه في يد مالكه لم يلزمه رد ما أخذ لأنه استقر ضمانه برد المغصوب وكذلك إن أخذ المغصوب دون أرشه ثم زال العيب قبل أخذ أرشه لم يسقط ضمانه لذلك (مسألة) وإن زادت القيمة لسمن أو غيره ثم نقصت ضمن الزيادة) إذا زادت قيمة المغصوب في يد

(5/403)


الغاصب لسمن أو تعلم صنعة مثل ما إذا غصب عبداً أو أمة وقيمته مائة فزاد بتعليمه أو في بدنه حتى صارت قيمته مائتين ثم نقص بنقصان بدنه أو نيسان ما علم حتى صارت قيمته مائة لزمه رده ويأخذ من الغاصب مائة وبه قال الشافعي، وقال أبو حنيفة ومالك لا يجب عليه عوض الزيادة إلا أن يطالب بردها زائدة فلا يردها لأنه رد العين كما أخذها فلم يضمن نقص قيمتها كنقص سعرها، وذكر ابن أبي موسى في الإرشاد رواية أن المغصوب إذا زادت قيمته بسمن أو تعلم صنعة ثم نقصت بزوال ذلك فلا ضمان عليه إذا رده بعينه ولنا أنها زيادة في نفس المغصوب فلزم الغاصب ضمانها كما لو طالبه بردها فلم يفعل ولأنها زادت على ملك المغصوب منه فلزمه ضمانها كما لو كانت موجودة حال الغصب، وفارق زيادة السعر لأنها لو كانت موجودة حال الغصب لم يضمنها والصناعة وإن لم تكن من عين المغصوب فهي صفة فيه ولذلك يضمنها إذا طولب برد العين وهي موجودة فلم يردها، اجريناها هي والتعليم مجرى السمن الذي هو عين لأنها صفة تتبع العين، واجر ينا الزيادة الحادثة في يد الغاصب مجرى الزيادة الموجودة حال الغصب لأنها زيادة في العين المملوكة للمغصوب منه فتكون مملوكة له لأنها تابعة للعين، فأما إن غصب العين سمينة أو ذات صناعة فهزلت أو نسيت فنقصت قيمتها فعليه ضمان نقصها لا نعلم فيه خلافا لانها نقصت عن حال غصبها نقصاً أثر في قيمتها فوجب ضمانها كما لو ذهب بعض أعضائها (فصل) إذا غصبها وقيمتها مائة فسمنت فبلغت قيمتها الفاثم تعلمت صناعة فبلغت ألفين ثم هزلت ونسيت

(5/404)


فعادت إلى مائة ردها ورد ألفا وثمانمائة لأنها نقصت بالهزال تسعمائة وبالنسيان تسعمائة وإن سمنت فبلغت ألفا ثم هزلت فعادت إلى مائة ثم تعلمت فعادت إلى ألف ردها وتسعمائة لأن زوال الزيادة الأولى أو جب الضمان ثم حدثت زيادة أخرى من وجه آخر على ملك المغصوب منه فلا ينجبر ملك الإنسان بملكه (مسألة) (فإن عاد مثل الزيادة الأولى من جنسها مثل ان كانت قيمتها مائة فسمنت فبلغت الفاثم هزلت فعادت إلى مائة صم سمنت فعادت إلى ألف ففيه وجهان) (أحدهما) يردها زائدة ويضمن نقص الزيادة الاولى كما لو كانا من جنسين لأن الزيادة الثانية غير الأولى، فعلى هذا إن هزلت مرة
ثانية فعادت إلى مائة ضمن النقصين بألف وثمانمائة (والثاني) إذا ردها سمينة فلا شيء عليه لأن ما ذهب عاد فهي كما لو مرضت فنقصت ثم برئت فعادت القيمة أو نسيت صناعة ثم تعلمتها أو أبق عبد ثم عاد وفارق ما إذا زادت من جهة أخرى لأنه لم يعد ما ذهب وهذا الوجه أقيس لما ذكرنا من الشواهد فعلى هنا لو سمنت بعد الهزال ولم تبلغ قيتهما إلى ما بلغت بالسمن الأول أو زادت عليه ضمن أكثر الزيادتين وتدخل فيها الأخرى وعلى الوجه الأول يضمنهما جميعاً، فأما إن زادت بالتعليم أو الصناعة ثم نسبت ثم تعلمت ما نسيته فعادت القيمة الأولى لم يضمن النقص الأول لأن العلم الثاني هو الأول فقد

(5/405)


عاد ما ذهب، وإن تعلمت علماً آخر أو صناعة أخرى فهو كعود السمن فيه وجهان ذكره القاضي وهو مذهب الشافعي، وقال أبو الخطاب متى زادت ثم نقصت ثم زادت مثل الزيادة الأولى ففي ذلك وجهان سواء كانا من جنس كالسمن مرتين أو من جنسين كالسمن والتعلم والأول أولى (مسألة) (وإن كانت من غير جنس الأولى لم يسقط ضمانها) قد ذكرناه في المسألة قبلها (مسألة) (وإن غصب عبداً مفرطاً في السمن فهزل فزادت قيمته أو لم ينقص رده ولا شئ عليه) لأن الشرع إنما أوجب في هذا ما نقص من القيمة ولم يقدر بدله ولم تنقص القيمة فلم يجب شئ (فصل) فإن نقصت عين المغصوب دون قيمته لم يخل من ثلاثة أقسام (أحدها) أن يكون الذاهب مقدر البدل كعبد خصاه وزيت أغلاه ونقرة ضربها دراهم فنقصت عينها دون قيمتها فإنه يجب ضمان النقص فيضمن العبد بقيمته ونقص الزيت والنقرة بمثلها مع رد الباقي منهما لأن الناقص من العين له بدل مقدر فلزم ما يقدر به كما لو اذهب الكل (الثاني) أن لا يكون مقدراً كهزال العبد إذا لم تنقص قيمته وقد ذكرناه (الثالث) أن يكون النقص مقدر البدل لكن الذاهب منه أجزاء غير مقصودة كعصير أغلاه فذهبت مائيته وانعقدت اجزاؤه فقصت عينه دون قيمته فلا شئ فيه في أحد الوجهين سوى رده لأن النار إنما أذهبت مائيته التي يقصد إذهابها ولهذا تزداد حلاوته وتكثر قيمته فهو كسمن العبد الذي لا تنقص به قيمته إذا ذهب (والثاني) يجب ضمانه لأنه مقدر البدل فأشبه الزيت إذا أغلاه، ان نقصت العين والقيمة جميعاً وجب في الزيت وشبهه ضمان النقصين جميعاً لأن كل واحد منهما مضموناً منفرداً فكذلك إذا اجتمعا

(5/406)


وذلك مثل رطل زيت قيمته درهم فأغلاه فنقص ثلثه وصار قيمة الباقي درهم فعليه ثلث رطل وسدس درهم وإن كان قيمة الباقي ثلثي درهم فليس عليه أكثر من ثلث رطل لأن قيمة الباقي لم تنقص وإن خصى العبد فنقصت قيمته فليس عليه أكثر من ضمان خصييه لأن ذلك بمنزلة مالو فقأ عينه (مسألة) (وإن نقص المغصوب نقصاً غير مستقر كخطة ابتلت وعفنت وخشي فسادها فعليه ضمان نقصه) وقال القاضي عليه بدله لان لا يعلم قدر نقصه وهذا منصوص الشافعي وله قول آخر انه يضمن نقصه وكلما نقص شئ ضمنه لأنه يستند إلى السبب الموجود في يد الغاصب فكان كالموجود في يده وقال أبو الخطاب يتخير صاحبه بين أخذ بدله وبين تركه حتى يستقر فساده ويأخذ أرش نقصه وهو الذي ذكره شيخنا في الكتاب المشروح، وقال أبو حنيفة يتخير بين أخذه ولا شئ له أو تسليمه إلى الغاصب ويأخذ قيمته لأنه لو ضمن النقص مع أخذه لحصل له مثل كيله وزيادة وهذا لا يجوز كما لو باع قفيزاً جيداً بقفيز ردئ ولنا أن عين ماله باقية وإنما حدث فيه نقص فوجب فيه ما نقص كما لو كان عبداً فمرض، وقد وافق بعض أصحاب الشافعي على هذا في العفن وقال بضمن ما نقص قولا واحداً ولا يضمن ما تولد فيه لأنه ليس من فعله وهذا الفرق لا يصح لأن البلل قد يكون من غير فعله أيضاً وقد يكون العفن بسبب منه ثم إن ما وجد في يد العاصب فهو مضمون عليه لوجوده في يده فلا فرق، وقول أبي حنيفة لا يصح

(5/407)


لأن الطعام عين ماله وليس ببدل عنه وقال شيخنا: وقول أبي الخطاب لا بأس به والله أعلم (مسألة) (وإن جنى المغصوب فعليه أرش جنايته سواء جنى على سيده أو غيره) إذا جنى العبد المغصوب فجنايته مضمونة على الغاصب لأنه نقص في العبد الجاني لكون الجناية تتعلق برقبته فكان مضموناً على الغاصب كسائر نقصه وسواء في ذلك ما يوجب القصاص أو المال ولا يلزمه أكثر من النقص الذي لحق العبد وكذلك إن جنى على سيده لأنها من جملة جناياته فكان مضموناً كالجناية على الا جني
(فصل) ويضمنه بأقل الأمرين من قيمته أو أرش جنايته كما يفديه سيده، وإن جني على ما دون النفس مثل ان قطع يداً فقطعت يده قصاصاً فعلى الغاصب ما نقص العبد بذلك دون أرش اليد لأن اليد ذهبت بسبب غيره مضمون فأشبه مالو سقطت، وإن عفي عنه على مال تعلق أرش اليد برقبته وعلى الغاصب أقل الأمرين من قيمته أو أرش اليد، فإن زادت جناية العبد على قيمته ثم مات فعلى الغاصب يدفعها إلى سيده فإذا أخذها تعلق أرش الجناية بها لأنها كانت متعلقة بالعبد فتعلقت ببدله كما أن الرهن إذا أتلفه متلف وجبت قيمته وتعلق الرهن بها، فإذا أخذ ولي الجناية القيمة من المالك رجع المالك على الغاصب بقيمته مرة أخرى لأن القيمة التي أخذها استحقت بسبب كان في يد الغاصب فكان من ضمانه، ولو كان العبد وديعة فجنبي جناية استغرقت قيمته ثم أن المودع قتله بعدها

(5/408)


فعليه قيمته وتعلق بها أرش الجناية فإذا أخذها ولي الجناية لم يرجع على المودع لأنه جنبى وهو غير مضمون عليه ولو جنى العبد في يد سيده جناية تستغرق قيمته بيع في الجنايتين وقسم ثمنه بينهما ورجع صاحب العبد على الغاصب بما أخذه الثاني منهما لأن الجناية كانت في يده وكان للمجني عليه أولاً أن يأخذه دون الثاني لأن الذي يأخذه المالك من الغاصب هو عوض ما أخذه المجني عليه ثانياً فلا يتعلق به حقه ويتعلق به حق الأول لأنه بدل عن قيمة الجاني لا يزاحم فيه، وإن مات هذا العبد في يد الغاصب فعليه قيمته تقسيم بينهما ويرجع المالك على الغاصب بنصف القيمة لأنه ضامن للجناية الثانية ويكون للمجني عليه أولاً أن يأخذه لما ذكرنا (مسألة) (وجنايته على الغاصب وعلى ماله هدر) لأنه إذا جنى على أجنبي وجب أرشه على الغاصب فلو وجب له شئ لوجب على نفسه فكان هدراً (مسألة) (ويضمن زوائد الغصب كالولد والثمرة إذا تلفت أو نقصت كالأصل سواء كان منفرداً أو مع أصله مثل ثمرة الشجرو ولد الحيوان) وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة ومالك لا يجب ضمان زوائد الغصب إلا أن يطالب بها فيمنع من أدائها لأنها غير مغصوبة فلا يجب ضمانها كالوديعة ودليل عدم الغصب أنه فعل محرم، بثبوت
يده على هذه الزوائد وإثبات يده على الأم محظور لا يصح لأنه بإمساك الأم تسبب إلى إثبات يده

(5/409)


(مسألة) (فان خلط المغصوب بماله على وجه لا يتميز منه مثل أن خلط حنطة أو زيتا بمثله لزمه مثله منه في أحد الوجهين وفي الآخر يلزمه مثله من حيث شاء) إذا خلط المغصوب بماله بحيث لا يتميز منه كزيت بزيت أو دقيق بمثله أو دراهم أو دنانير بمثلها فقال ابن حامد يلزمه مثل المغصوب منه وهو ظاهر كلام أحمد لأنه لا نص على أن يكون شريكاً له إذا خلطه بغير جنسه فيكون تنبيها على ما إذا خلطه بجنسه وهو قول بعض الشافعية إلا في الدقيق فإنه تجب قيمته لأنه عندهم ليس بمثلي وقال القاضي قياس المذهب أنه يلزمه مثله من حيث شاء الغاصب لأنه تعذر عليه رد عين ماله بالخلط أشبه مالو تلف لأنه لا يتميز له شئ من ماله ولنا أنه قدر على دفع بعض ماله إليه مع رد المثل في الباقي فلم يتنقل إلى المثل في الجميع كما لو غصب صاعاً فتلف بعضه وذلك لأنه إذا دفع إليه منه فقد دفع إليه بعض ماله وبدل الباقي فكان أولى من دفعه من غيره (مسألة) (وإن خلطه بدونه أو خير منه أو بغير جنسه فله مثله في قياس التي قبلها) وظاهر كلام أحمد أنهما شريكان بقدر ملكيهما فإنه قال في رواية أبي الحارث في رجل له رطل زيت وآخر له رطل شيرج اختلطا يباع الدهن كله ويعطي كل واحد منهما قدر حصته وذلك أننا إذا فعلنا ذلك أو صلنا إلى كل واحد منهما يدل عين ماله، وإن نقص المغصوب عن قيمته منفرداً فعلى الغاصب

(5/410)


ضمان النقص لأنه حصل بفعله، وقال القاضي قياس المذهب أن يلزم الغاصب مثله لأنه صار بالخلط مستهلكاً ولذلك لو اشترى زيتاً فخلطه بزيته ثم أفلس صار البائع كبعض الغرماء لأنه تعذر عليه الوصول إلى عين ماله فكان له بدله كما لو كان تالفاً ويحتمل أن يحمل كلام أحمد على ما إذا اختلطا من غير غصب.
أما المغصوب فقد وجد من الغاصب ما منع المالك أخذ حقه من المثليات متميزاً فلزمه مله كما لو أتلفه.
(فصل) إلا أنه إذا خلطه يخير منه وبذل لصاحبه مثل حقه منه لزمه قبوله لأنه أوصل إليه بعض حقه بعينه وتبرع بالزيادة في مثل الباقي، وإن خلطه بأدنى منه فرضي المالك بأخذ قدر حقه منه لزم الغاصب بذله لأنه أمكنه رد بعض المغصوب ورد مثل الباقي من غير ضرر وقيل لا يلزم الغاصب ذلك لأن حقه انتقل إلى الذمة فلم يجبر على عين ماله، وإن بذله للمغصوب منه فأباه لم يجبر على قبوله لأنه إن كان دون حقه من الردئ أو دون حقه من الجيد لم يجز لأنه رباً لكونه يأخذ الزيادة في القدر عوضاً عن الجودة وإن كان بالعكس فرضي بأخذ دون حقه من الردئ أو سمح الغاصب بدفع أكثر من حقه من الجيد جاز لأنه لا مقابل للزيادة وإنما هي تبرع مجرد، وإن خلطه بغير جنسه فتراضيا على أن يأخذا كثر من قدر حقه أو أقل جاز لانه بماله من غير جنس فلاتحرم الزيادة بينهما (فصل) وان خاله بما لا قيمة له كزيت خلطه بماء أو لبن شابه بماء فإن أمكن تخليصه خاصه ورده

(5/411)


ورد نقصه وإن لم يكن تخليصه أو كان ذلك يفسده لزمه مثله لأنه صار كالهالك وإن كان يفسده رده ورد نقصه وان احتج في تخليصه إلى غرامة لزم الغصب ذلك لأنه سببه ولأصحاب الشافعي في هذه الفصول نحو ما ذكرنا.
(مسألة) (وان غصب ثوباً فصبغه أو سويقاً فلته بزيت وكان الصبغ والزيت من مال الغاصب فإن نقصت قيمتهما أو قيمة أحدهما ضمن لغاصب النقص) لأنه بتعديه إلا أن ينقص لتغير الأسعار فلا يضمن لما ذكرنا من قبل (مسألة) (وإن لم تنقص ولم تزد مثل إن كانت قيمة كل منهما خمسة فصارت قيمتهما عشرة فهما شريكان) لأن الصبغ والزيت عين مال له قيمة فإن تراضيا بتركه لهما جاز وإن باعه فثمنه بينهما نصفين (مسألة) (وإن زادت قيمتهما مثل إن كانت قيمة كل واحد منهما خمسة فصارت قيمتهما عشرين فإن كان ذلك لزيادة الثياب في السوق كانت الزيادة لصاحب الثوب وإن كانت لزيادة الصبغ فهي لصاحب الصبغ وإن كانت لزيادتهما معاً فهي بينهما على قدر زيادة كل واحد منهما) فإن تساويا في الزيادة في السوق
تساوا صاحباها فيها وإن زاد أحدهما ثمانية والآخر اثنين فهي بينهما كذلك، وإن زاد ابا لعمل فالزيادة بينهما لأن عمل الغاصب زاد به في الثوب والصبغ وما علمه في المغصوب للمغصوب منه إذا كان أثراً وزيادة مال الغاصب له

(5/412)


(مسألة) (وإن أراد أحدهما قلع الصبغ لم يجبر الآخر عليه ويحتمل أن يجبر إذا ضمن له الغاصب النقص) إذا أراد الغاصب قطع الصبغ فقال أصحابنا له ذلك سواء أضر بالثوب أو لم يضر ويضمن نقص الثوب إن نقص وبهذا قال الشافعي لأنه عين ماله فملك أخذه كما لو غرس في أرض غيره، ولم يفرق أصحابنا بين ما يهلك صبغه بالقلع وبين مالا يهلك قال شيخنا وينبغي أن ما يهلك بالقلع لا يملك قلعه لأنه سفه وظاهر كلام الخرقي أنه لا يملك قلعه إذا تضرر به الثوب لأنه قال في المشتري إذا بنى أو غرس في الأرض المشفوعة فله أخذه إذا لم يكن في أخذه ضرر، وقال أبو حنيفة ليس له أخذه لأن فيه إضراراً بالثوب المغصوب فلم يمكن منه كقطع خرقة منه، وفارق قلع الغرس لأن الضرر قليل ويحصل به نفع قلع العروق من الأرض وإن اختار المغصوب منه قلع الصبغ ففيه وجهان (أحدهما) يملك إجبار الغاصب عليه كما يملك إجباره على قلع شجرة من أرضه وذلك لأنه شغل ملكه بملكه على وجه أمكن تخليصه فلزمه تخليصه وإن استضر الغاصب كقلع الشجر وعلى الغاصب ضمان نقص الثوب وأجر بالاستخراج وقد أمكن وصول الحق إلى مستحقه بدونه بالبيع فلم يجبر على قلع كقلع الزرع من الأرض، وفارق الشجر فإنه لا يتلف بالقلع قفال القاضي هذا ظاهر كلام أحمد ولعله أخذ ذلك من قول

(5/413)


أحمد في الزرع وهذا مخالف للزرع لأن له غاية ينتهي إليها ولصاحب الأرض أخذه بنفقته فلا يمتنع عليه اتسرجاع أرضه في الحال بخلاف الصبغ فإنه لا نهاية له إلا تلف الثوب فهو أشبه بالشجة في الأرض ولا يختص وجوب القلع في الشجر بما لا يتلف فإنه يجبر على قلع ما يتلف وما لا يتلف ولأصحاب الشافعي وجهان كهذين.
(فصل) وإن بذل رب الثوب قيمة الصبغ للغاصب ليملكه لم يجبر على قبوله لأنه إجبار على بيع ماله فلم يجبر عليه كما لو بذل له قيمة الغراس ويحتمل أن يجبر على ذلك إذا لم يقلعه قياساً على الشجر
والبناء في الأرض المشفوعة والعارية وفي الأرض المغصوبة إذا لم يقله الغاصب ولأنه أمر يرتفع به النزاع ويتخلص به أحدهما من صاحبه من غير ضرر فأجبر عليه كما ذكرنا، وإن بذل الغصب قيمة الثوب لصاحبه ليملكه لم يجبر على ذلك كما لو بذل صاحب الغرس قيمة الأرض لما لكها في هذه المواضع (مسألة) (وإن وهب الغاصب الصبغ للمالك أو وهبه تزويق الدار ونحوها فهل يلزه قبوله؟ على وجهين) (أحدهما) يلزمه لأن الصبغ صار من صفات العين فهو كزيادة الصفة في المسلم فيه وهذا ظاهر كلام الخرقي لأنه قال في الصداق إذا كان ثوباً فصبغته فبذلت له نصفه مضبوغا لزمه قبوله (والثاني) لا يجبر لأنها أعيان متميزة فأشبهت الغراس، وإن أراد المالك بيع الثوب وأبي الغاصب فله بيعه لأنه ملكه فلا يملك الغاصب منعه من بيع ملكه بعدوانه وإن أراد الغاصب بيعه لم يجبر المالك

(5/414)


على بيعه لأنه منه فلم يستحق إزالة ملك صاحب الثوب عنه بعدوانه ويحتمل أن يجبر ليصل الغاصب إلى ثمن صبغه.
(مسألة) (وان غصب صبغاً فصبغ به ثوباً أو زيتاً فلت به سويقاً احتمل أن يكون كذلك كما إذا غصب ثوباً فصبغه حكمه كحكمه إذا كان الثوب والسويق للغاصب لأنه خلط المغصوب بماله ويحتمل أن يلزمه قيمته أو مثه إن كان مثلياً لأن المغصوب الصبغ وقد تفرق في الثوب وتلف يخلاف المسألة المتقدمة.
(مسألة) (وان غصب ثوباً وصبغاً فصبغه به رده وإرش نقصه ولا شئ في زيادته) إذا غصب ثوباً وصبغاً من واحد فصبغه به فلم تزد قيمتهما ولم تنقص أو زادت القيمة ردهما ولا شئ عليه وليس للغاصب شئ في الزيادة لأنه إنما له في الصبغ أثر لا عين وإن نقص لزمه ضمان النقص لأنه بتعديه إلا أن ينقص لتغير الأسعار (فصل) وإن غصب ثوب رجل وضبغ آخر فصبغه به فإن كانت القيمتان بحالهما فهما شريكان بقدر ماليهما وإن زادت فالزيادة لهما وإن نقصت بالصبغ فالضمان على الغاصب ويكون النقص من صاحب الصبغ لأنه تبدد في الثوب ويرجع بها على الغاصب، وإن نقص لنقص سعر الثياب أو الصبغ أو لنقص
سعرهما لم يضمنه الغاصب وكان نقص كل واحد منهما من صاحبه، وإن أراد صاحب الصبغ قلمه أو أراد

(5/415)


ذلك صاحب الثوب فالحكم فيه كما لو صبغه الغاصب بصبغ من عنده على ما مر بيانه والحكم فيما إذا غصب سويقاً فلته بزيت أو عسلاً ونشأ فعقده حلواء حكم مالو غصب ثوباً فصبغه على ما ذكر فيه (فصل) (وإن وطئ الجارية فعليه الحد والمهر وأرش البكارة) إذا غصب جارية فوطئها فهو زان لأنها ليست زوجته ولا مك يمين وعليه حد الزنا إن كان عالماً بالتحريم وعليه مهر مثلها مكرهة كانت أو مطاوعة وقال الشافعي لامهر للمطاوعة لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن مهر البغي: ولنا أن المهر حق للسيد فلم يسقط بمطاوعتها كما لو أذنت في قطع يدها ولأنه حق للسيد يجب مع الإكراه فيجب مع المطاوعة كأجر منافعها والخبر محمول على الحرة، ويجب أرش بكارتها لأنها بدل جزء منها ويحتمل أن لا يجب لأنه يدخل في مهر الكبر ولهذا يزيد على مهر الثيب عادة لأجل ما يتضمنه من تفويت البكارة ووجه الأول أن كل واحد منهما يضمن منفرداً بدليل أنه لو وطئها ثيباً وجب مهرها وإذا أفضاها بإصبعه وجب أرش بكارتها فكذلك وجب أن يضمنهما إذا اجتمعا وعنه لا يلزمه مهر الثيب لأنه لم ينقصها ولم يؤلهما أشبه مالو قبلها والأول أولى (مسألة) (وإن ولدت فالولد رقيق للسيد لأنه من نمائها وأجزائها ولا يلحق نسبه بالواطئ لأنه من زنا وإن وضعته حيا وجب رده معها كزاوئد الغصب وإن أسقطته ميتاً لم يضمن لأنا لا نعلم

(5/416)


حياته قبل هذا هذا، قول القاضي وهو ظاهر مذهب الشافعي عند أصحابه وقال القاضي أبو الحسين يجب ضمانه يقيمته لو كان حياً نص عليه الشافعي لأنه يضمنه لو سقط بضربة وما يضمن بالإتلاف يضمنه الغاصب إذا تلف في يده كأجرة الأرض، قال شيخنا والأولى إن شاء الله أنه يضمنه بعشر قيمة أمه لأنه الذي يضمنه به في الجناية وان وضعته حياثم مات ضمنه بقيمته (مسألة) (ويضمن نقص الولادة ولا ينجبر بزادتها بالولد) وهذا مذهب الشافعي وقال أبو
حنيفة ينجبر نقصها بولدها.
ولنا أن ولدها ملك للمصغوب منه فلا ينجبر به نقص حصل بجناية الغاصب كالنقص الحاصل بغير الولادة وان ضرب العاصب بطنها فألقت الجنين ميتاً فعليه عشر قيمة أمه وإن فعله أجنبي ففيه مثل ذلك وللمالك تضمين أيهما شاء ويستقر الضمان على الضارب لأن الإتلاف وجد منه، وإن ماتت الجارية فعليه قيمتها أكثر ما كانت ويدخل في ذلك أرش بكارتها ونقص ولادتها ولا يدخل فيه ضمان ولدها ولامهر مثلها، ولا فرق في هذه الأحوال بين المكرهة والمطاوعة لأنها حقوق لسيدها ولا تسقط بمطاوعتها وقد ذكرنا الخلاف في مهر المطاوعة، فاما حقوقا لله تعالى من الحد والتعزير فإن كانت مطاوعة عالمة بالتحريم فعليها الحد إذا كانت من أهله والافلا (فصل) فإن كان الغاصب جاهلاً بتحريم ذلك لقرب عهده بالإسلام أو ناشئاً بيادية بعيدة يخفى

(5/417)


عليه مثل هذا أو اعتقدها أمته فأخذها ثم بان أنها غيرها فلا حد عليه لأن الحدود تدرأ بالشبهات وعليه المهر وأرش البكارة وإن حملت فالولد حر لاعتقاده أنها ملكة ويحلقه النسب لمكان الشبهة وإن وضعته ميتاً لم يضمنه لأنه لم يعلم حياته ولأنه لم يحل بينه وبينه وإنما وجب تقويمه لا جل الحيلولة وإن وضعته حيا فعليه قيمته يوم انفصاله لأنه فوت عليه رقه باعتقاده ولا يمكن تقويمه حملاً فقوم عليه عند انفصاله لانه أول حال إمكان تقويمه ولأنه وقت الحيلولة بينه وبين سيده، وإن ضرب الغاصب بطنها فألقت جنبنا ميتاً فعليه غرة قيمتها خمس من الإبل موروثة عنه لا يرث الضارب منها شيئاً لأنه أتلف جنبنا حراً وعليه للسيد عشر قيمة أمه لأن الإسقاط لما يعقب الضرب ينسب إليه لأن الظاهر حصوله به وضمانه للسيد ضمان المماليك ولهذا لو وضعته حياً قومناه مملوكا، وان ضربه أجبني فعليه غرة دية الجنين الحر لأنه محكوم بحريته وتكون مورثة عنه وعلى الغاصب عشر قيمة أمه لأنه يضمنه ضمان المماليك وقد فوت رقه على السيد وحصل التلف في يديه، والحكم في المهر والأرش والأجر ونقص الولادة وقيمتها إن تلفت على ما ذكرنا إن كانا عاليمن لأن هذه حقوق الآدميين فلا تسقط بالجهل والخطأ كالدية (مسألة) (وإن باعها أو وهبها لعالم بالغصب فوطئها فللمالك تضمين أيهما شاء نقصها ومهرها وأجرتها
وقيمة ولدها إن تلف فإن ضمن الغاصب رجع على الآخر ولا يرجع الآخر عليه)

(5/418)


تصرف الغاصب في العين المضمونة فاسد لأنه تصرف في مال الغير بغير إذنه وفيه اختلاف نذكره إن شاء الله تعالى، فإذا باع الجارية المغصوبة أو وهبها لعالم بالنصب فوطئها فللمالك تضمين الغاصب لأنه السبب في إيصالها إلى المشتري وله تضمين المشتري والمتهب لأنه المتلف ويستقر الضمان على المشتري لأن كل واحد منهما غاصب لأن الغصب الاستيلاء على مال الغير قهراً بغير حق وقد وجد منهما ولأن كل واحد منهما يلزم ردها إذا كانت في يده لأن يده عليها بغير حق وقد قال عليه الصلاة والسلام (على اليد ما أخذت حتى تؤدي) ويلزم المشتري كل ما يلزم الغاصب من النقص والمهر وغيره لأنه غاصب وقد ذكرنا دليله في المسألة قبلها إلا أن المالك إن ضمن الغاصب رجع على المشتري والمتهب ولا يرجع الآخر على الغاصب بما ضمنه لأنه المتلف فاستقر الضمان عليه (مسألة) (وإن لم يعلما بالغصب فضمنهما رجعا على الغاصب) إذا باع الغاصب الجارية فبيعه فاسد لما ذكرنا وفيه رواية أخرى أنه يصح ويقف على إجازة المالك وفيه رواية ثالثة أن البيع يصح لما نذكره والتفريع على الرواية الأولى، والحكم في وطئ المشتري كالحكم في وطئ الغاصب إلا أن المشتري إذا ادعى الجهالة قبل منه بخلاف الغاصب فإنه لا يقبل منه إلا بالشرط الذي ذكرناه ويجب رد الجارية إلى سيدها وللمالك مطالبة أيهما شاء بردها لأن الغاصب أخذها بغير حق والمشتري أخذ مال غيره بغير حق

(5/419)


أيضاً فيدخل في عموم قوله عليه السلام (على اليد ما أخذت حتى تؤدي) وهذا لا خلاف فيه بحمدالله ويلزم المشتري المهر لأنه وطئ جارية غيره بغير نكاح وعليه أرش البكارة ونقص الولادة كالغاصب ويلزم ذلك مع الجهل لأن الإتلاف لا يعذر فيه بالجهل والنسيان (مسألة) (وإن ولدت منه فالولد حر) لأنه اعتقد أنه يطأ مملوكته فمنع ذلك انخلاق الولد رقيقاً ويلحقه النسب وعليه فداؤهم لأنه فوت رقهم على السيد باعتقاده حل الوطئ هذا الصحيح من المذهب وعليه الأصحاب، وقد نقل ابن منصور عن أحمد أن المشتري لا يلزمه فداء أولاده وليس للسيد بدلهم لأنهم
كانوا في حال العلوق أحراراً ولم تكن لهم قيمة حينئذ قال الخلال أحسبه قولاً لأبي عبد الله أول والذي أذهب إليه أنه يفديهم وقد نقله ابن منصور أيضاً وجعفر به محمد وهو قول أبي حنيفة والشافعي ويفديهم ببدلهم يوم الوضع وبه قال الشافعي، وقال أبو حنيفة يجب يوم المطالبة لأن ولد المغصوب لا يضمنه عنده إلا بالمنع وقيل المطالبة لم يحصل منع فلم تجب وقد ذكرنا فيما مضى أنه يحدث مضمونا عليه وقوم يوم وضعه لأنه أول حال أمكن تقويمه (مسألة) (ويفديه بمثله في صفاته تقريباً) هذا ظاهر قول الخرقي لأنهم أحرار والحر لا يضمن بقيمته وقال أبو بكر يفديهم بثهلهم في القيمة وعن أحمد رواية ثالثة أنه يفديهم بقيمتهم حكاها أبو الخطاب وهو قول أبي حنيفة والشافعي وهي أصح إن شاء الله تعالى لأن الحيوان ليس بمثلي فيضمن بقيمته كسائر

(5/420)


المتقومات ولأنه لو أتلفه ضمنه بقيمته كذلك هذا (مسألة) (ويرجع بذلك على الغاصب) يعني بالمهر وما فدى به الأولاد لأن المشتري دخل على أن يسلم له الأولاد وأن يتمكن من الوطئ بغير عوض فإذا لم يسلم له ذلك فقد غره البائع فيرجع به عليه وإن كانت الجارية باقية ردها إلى سيدها ولا يرجع بيدلها لأنها ملك المغصوب منه رجعت عليه لكنه يرجع على الغاصب بالثمن الذي أخذه منه لقوله عليه السلام (على اليد ما أخذت حتى تؤدي) (مسألة) (وإن تلفت فعليه قيمتها لمالكها كما يلزمه نقصها ولا يرجع بها على الغاصب إن كان مشترياً) لأن المشتري دخل مع الغاصب على أن يكون ضامناً لذلك بالثمن فإذا ضمنه القيمة لم يرجع بها لكنه يرجع بالثمن لأن البيع باطل فلم يدخل الثمن في ملك الغاصب كما لو وجد العين باقية فأخذها المالك فإنه يرجع بالثمن، فأما المتهب فيرجع بالقيمة على الغاصب لأنه دخل مع الغاصب على أن يسلم له العين فينبغي أن يرجع بما غرم من قيمتها على الغاصب كقيمة الاولاد (مسألة) (وعنه أن ما حصلت له منفعة كالأجرة والمهر وأرش البكارة لا يرجع به) وجملة ذلك أن المالك إذا رجع على المشتري فأراد المشتري الرجوع على الغاصب فهو على ثلاثة أضرب: ضرب لا يرجع به وهو قيمتها إن تلفت في يده وأرش بكارتها، وفيه رواية أخرى أنه يرجع به كالمهر وبدل جزء من
أجزائها لأنه دخل مع الغاصب على أن يكون ضامناً لذلك بالثمن فإذا ضمنه لم يرجع به، وضرب يرجع

(5/421)


به وهو بدل الولد إذا ولدت منه لأنه دخل معه في العقد على أن لا يكون الولد مضموناً ولم يحصل من جهته إتلاف وإنما الشرع أتلفه بحكم بيع الغاصب منه وكذلك نقص الولادة، وضرب اختلف فيه وهو مهر مثلها وأجر نفعها وفيه روايتان (إحداهما) يرجع به وهو قول الخرقي لأنه دخل العقد على أن يتلفه بغير عوض فإذا غرمه رجع به كبدل الولد ونقص الولادة (والثانية) لا يرجع به وهو اختيار أبي بكر وقول أبي حنيفة لأنه غرم ما استوفى بدله فلا يرجع كقيمة الجارية وبدل أجزائها وللشافعي قولان كالروايتين (مسألة) (فإن ضمن الغاصب رجع على المشتري بما لا يرجع به عليه كما لو رجع به على المشتري لا يرجع به المشتري على الغاصب) إذا رجع به المالك على الغاصب رجع الغاصب به على المشتري وكل مالو رجع به على المشتري رجع به المشتري على الغاصب إذا غرمه الغاصب لم يرجع به على المشتري لأنه الضمان استقر على الغاصب فإن ردها حاملاً فماتت من الوضع فهي مضمونة على الواطئ لأن التلف بسبب من جهته (مسألة) (فإن ولدت من زوج فمات الولد ضمنه بقيمته) إذا اشترى الجارية المغصوبة من لا يعلم بذلك فزوجها لغير عالم بالغصب فولدت من الزوج فهو مملوك لأنه من زوائدها ونمائها فيكون مضموناً على من هو في يده بقيمته إذا تلف لأنه مال وليس بمثلي، وهل يرجع يها على الغاصب؟ على روايتين على ما ذكرنا فيما إذا ضمن المشتري ما حصل به نفع ووجه الروايتين ما سبق (فصل) إذا وهب المغصوب لعالم بالغصب استقر الضمان عليه ولا يرجع به على أحد لأنه غاصب

(5/422)


ولم يغره أحد وإن لم يعلم فلصاحبه تضمين أيهما شاء ويرجع المتهب على الواهب بقيمة العين والأجر لأنه غيره وقال أبو حنيفة أيهما ضمن لم يرجع على الآخر ولنا أن المتهب دخل على أن يسلم له العين فيجب أن يرجع بما غرم من قيمتها كقيمة الأولاد فإنه وافقنا على الرجوع بها فأما الأجر والمهر وأرش البكارة ففيه وجهان مبنيان على الروايتين في المشتري (مسألة) (وإن أعارها فتلفت عند المستعير استقر ضمان قيمتها عليه وضمان الأجر على الغاصب)
فإن ضمن المستعير مع علمه بالغصب لم يرجع على أحد وإن ضمن الغاصب رجع على المستعير وإن لم يكن علم بالغصب فضمنه لم يرجع بقيمة العين لأنه قبضها على أنها مضمونة عليه، وفي الرجوع بالأجر وجهان (أحدهما) يرجع لأنه دخل على أن المنافع غير مضمونة عليه (والثاني) لا يرجع به لأنه انتفع بها فقد استوفى بدل ما غرم وكذلك الحكم فيما تلف من الأجزاء بالاستعمال إذا كانت العين وقت القبض أكثر قيمة من يوم التلف فضمن الأكثر فينبغي أن يرجع بما بين القيمتين لأنه دخل على أنه لم يضمنه ولم يستوف بدله فإن ردها المستعير على الغاصب لم يسقط عنه الضمان لانه فوت الملك على مالكه بتسليمه إلى غير مستحقه ويستقر الضمان على الغاصب إن حصل التلف في يده وكذلك الحكم في المودع (مسألة) (وإن اشترى أرضاً فغرسها أو بنى فيها فخرجت مستحقة وقلع غرسه وبناءه رجع المشتري على البائع بما غرمه) ذكره القاضي في القسمة لأنه ببيعه إياها غره وأوهمه أنها ملكه وكان ذلك سبيا

(5/423)


في بنائه وغرسه فرجع عليه بما غرمه عليها كرجوعه بما أعطاه من ثمنها (مسألة) (وإن أطعم المغصوب لعالم بالغصب استقر الضمان عليه) لكونه أتلف مال غيره بغير إذنه عالماً من غير تعرير وللمالك تضمين الغاصب لأنه حال بينه وبين ماله والآكل لأنه أتلف مال غيره بغير إذنه وقبضه من يد ضامنه بغير إذن مالكه فإن ضمن الغاصب رجع على الآكل وإن ضمن الآكل لم يرجع على أحد (مسألة) (وإن لم يعلم وقال له الغاصب كله فإنه طعامي استقر الضمان على الغاصب) لاعتراف، بأن الضمان باق عليه وإن لم يلزم الآكل شئ ولأنه غر الآكل (مسألة) (وإن لم يقل ففي أيهما يستقر عليه الضمان؟ وجهان) أحدهما يستقر الضمان على الآكل وهو قول أبي حنيفة والشافعي في الجديد لأنه ضمن فلم يرجع به على أحد والثاني يستقر على الغاصب لأنه غر الآكل وأطعمه على أنه لا يضمنه وهذا ظاهر كلام الخرقي وأيهما استقر عليه الضمان فغرم لم يرجع على أحد وإن غرم صاحبه رجع عليه (مسألة) (إن أطعمه لمالكه ولم يعلم لم يبرأ نص عليه) إذا أطعم المغصوب لمالكه فأكله عالماً أنه
طعامه برئ الغاصب وإن لم يعلم وقال له كله فإنه طعامي استقر الضمان على الغاصب لما ذكرنا وإن كانت له بينة بأنه طعام المغصوب منه، وإن لم يقبل ذلك بل قدمه إليه وقال كله فظاهر كلام أحمد أنه لا يبرأ

(5/424)


لأنه قال في رواية الأثرم في رجل له قبل رجل تبعه فأوصلها إليه على سبيل صدقة أو هدية فلم يعلم فقال كيف هذا؟ هذا يرى أنه هدية يقول له هذا لك عندي، وهذا يدل على أنه لا يبرأ ههنا فيأكل المالك طعامه بطريق الأولى لأنه ثم رد إليه يده وسلطانه وههنا بالتقديم إليه لم يعد إليه اليد والسلطان فإنه لا يتمكن من التصرف فيه بكل ما يريد من أخذه وبيعه والصدقة به فلم يبرأ به الغاصب كما لو علفه لدوابه ويتخرج أن يبرأ بناء على ما إذا أطعمه لأجنبي فإنه يستقر الضمان على الآكل في إحدى الروايتين فكذلك ههنا وهذا مذب أبي حنيفة (فصل) وإن وهب المغصوب لمالكه أو أهداء إليه برئ في الصحيح لأنه سلمه اليه تسليماً تاماً وزالت يد الغاصب وكلام أحمد في رواية الأثرم محمول على ما إذا أعطاه عوض حقه على سبيل الهبة فأخذه المالك على هذا الوجه لا على سبيل العوض فلم تثبت المعاوضة ومسئلتنا فيما إذا رد عليه عين ماله وأعاد يده التي أزالها وإن باعه إياه وسلمه إليه برئ من الضمان لأنه قبضه بالإبتياع وهو موجب للضمان وكذلك إن أقرضه إياه لما ذكرنا (مسألة) (وإن رهنه عند مالكه أو أودعه إياه أو أجره أو استأجره على قصارته أو خياطته ولم يعلم لم يبرأ من الضمان) لأنه لم يعد إليه سلطانه إنما قبضه على أنه أمانة، وقال بعض أصححابنا يبرأ رده إلى يده

(5/425)


وسلطانه وهذا أحد الوجهين لأصحاب الشافعي والأول أولى فإنه لو أباحه أكله فأكله لم يبرأ فههنا أولى.
(مسألة) (وإن أعاره إياه برئ علم أو لم يعلم) لأن العارية توجب الضمان على المستعير فلو وجب الضمان على الغاصب رجع به على المستعير ولا فائدة
في وجوب شئ عليه يرجع به على من وجب له (مسألة) (وإن اشترى عبداً فأعتقه فادعى رجل أن البائع غصبه فصدقه أحدهما لم يقبل على الآخر وإن صدقاه مع العبد لم يبطل العتق ويستقر الضمان على المشتري ويحتمل أن يبطل العتق إذا صدقوه كلهم) إذا اقام المدعي بينة بما ادعاه بطل البيع والعتق ويرجع المشتري على البائع بالثمن وإن صدقه البائع أو المشتري لم يقبل قول أحدهما على الآخر لأنه لا يقبل إقراره في حق غيره وإن صدقاه جميعاً لم يبطل العتق وكان العبد حراً لأنه قد تعلق به حق لغيرهما فإن وافقهما العبد فقال القاضي لا يقبل أيضاً لأن الحرية حق يتعلق بها حق لله تعالى ولهذا لو شهد شاهدان بالعتق مع اتفاق السيد والعبد علياالرق قبلت شهادتهما، ولو قال رجل أنا حرثم أقر بالرق لم يقبل إقراره وهذا مذهب الشافعي ويحتمل أن يبطل العتق إذا اتفق عليه كلهم ويعود العبد إلى المدعي لأنه مجهول النسب أقر بالرق لمن

(5/426)


يدعيه فصح كما لو لم يعتقه المشتري، ومتى حكمنا بالحرية فللمالك تضمين أيهما شاء قيمته يوم عتقه فإن ضمن البائع رجع على المشتري لأنه أتلفه وإن ضمن المشتري لم يرجع على البائع إلا بالثمن لأن التلف حصل منه فاستقر الضمان عليه وإن مات العبد فخالف مالا فهو للمدعي لإتفاقهم على أنه له وإنما لم يرد العبد إليه لتعلق حق الحرية به إلا أن يخلف وارثاً فيأخذه وليس عليه ولاء لأن أحداً لا يدعيه وإن صدق المشتري البائع وحده رجع عليه بقيمته ولم يرجع المشتري بالثمن وبقية الأقسام على ما نذكر في الفصل بعده (فصل) وإن كان المشتري لم يعتقه وأقام المدعي بينة بما ادعاه انتقض البيع ورجع المشتري على البائع بالثمن وكذلك إذا أقرا بذلك وإن أقر أحدهما لم يقبل على الآخر فإن كان المقر البائع لزمته القيمة للمدعي لأنه حال بينه وبين ملكه ويقر العبد في يد المشتري لأنه ملكه في الظاهر وللبائع إحلافه إن كان البائع لم يقبض الثمن فليس له مطالبة المشتري لأنه لا يدعيه ويحتمل أن يملك مطالبته بأقل الأمرين من الثمن أو قيمة العبد لأنه يدعي القيمة على المشتري والمشتري يقر له بالثمن فقد اتفقا على
استحقاق أقل الأمرين فوجب ولا يضر اختلافهما في السبب بعد اتفاقهما على حكمه كما لو قال لي عليك ألف من ثمن مبيع فقال بل ألف من قرض وإن كان قد قبض الثمن فليس للمشتري استرجاعه لأنه لا يدعيه ومتى عاد العبد إلى البائع بفسخ أو غيره لزمه رده إلى مدعيه وله استرجاع ما أخذ منه

(5/427)


وإن كان إقرار البائع في مدة الخيار انفسخ البيع لانه يملك فسخه فقبل إقراره بما يفسخه وإن كان المقر المشتري وحده لزمه رد العيب ولم يقبل إقراره على البائع ولا يملك الرجوع عليه بالثمن إن كان قبضه وعليه دفعه إليه إن لم يكن قبضه فإن أقام المشتري بينه بما أقر به قبلت وله الرجوع بالثمن وإن كان البائع المقر فأقام بينة فان كان في حال البيع قال بعتك عبدي هذا أو ملكي لم تقبل بينته لأنه تكذبها وإن لم يكن قال ذلك قبلت لأنه يبيع ملكه وغيره، وإن أقام المدعى البينة سمعت ولا تقبل شهادة البائع له لأنه يجربها إلى نفسه نفعاً وإن أنكراه جميعاً فله إحلافهما قال أحمد في رجل يجد سرقته عند إنسان بعينها قال هو ملكه يأخذه أذهب إلى حديث سمرة عن النبي صلى الله عليه وسلم (من وجد متاعه عند رجل فهو أحق به ويتبع المتباع من باعه) رواه هشيم عن موسى بن السائب عن قتادة عن الحسن عن سمرة وموسى بن السائب ثقة (فصل) قال رضي الله عنه (وإن أتلف المغصوب ضمنه بمثله إن كان مكيلا أو موزونا) متى تلف المغصوب في يد الغاصب لزمه رد بدله لقوله تعالى (فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم) ولأنه لما تعذر رد العين لزمه رد ما يقوم مقامها فإن كان المتلف مثلياً كالمكيل والموزون مكيلا أو موزونا وجب المثل قال ابن عبد البركل مطعوم من مأكول أو مشروب فمجمع على أنه يجب على مستهلكه مثله لا قيمته ولأن المثل أقرب إليه من القيمة فهو ممائل له من طريق الصورة والمشاهدة

(5/428)


كالنص والمعنى والقيمة مماثلة من طريق الظن والإجتهاد فقدم ما طريقه المشاهدة كالنص لما كان طريقه الإدراك بالسماع كان أولى من القياس لأن طريقه الظن والاجتهاد (مسألة) (وإن أعوز المثل فعليه قيمة مثله يوم إعوازه)
وقال القاضي تجب قيمته يوم قبض البدل لانه الواجب المثل إلى حين قبض البدل بدليل أنه لو وجد المثل بعد إعوازه لكان الواجب هو دون القيمة، وقال أبو حنيفة ومالك وأكثر أصحاب الشافعي تجب قيمته يوم المحاكمة لأن القيمة لم تنتقل إلى ذمته الاحين حكم بها الحاكم ولنا أن القيمة وجبت في الذمة حين انقطاع المثل فاعتبرت القيمة حنيئذ لتلف المتقوم ودليل وجوبها حينئذ أنه يستحق طلبها واستيفاء ها ويجب على الغاصب أداؤها ولا ينفي وجوب المثل لأنه معجوز عنه والتكليف يستدعي الوسع ولأنه لا يستحق طلب المثل ولا استيفاء ولا يجب على الآخر أداؤه فلم يكن واجباً كحالة المحاكمة، وأما إذا قدر على المثل بعد فقده فإنه يعود وجوبه لأنه الأصل قدر عليه قبل أداء البدل فأشبه القدرة على الماء بعد التيمم ولهذا لو قدر عليه بعد المحاكمة وقبل الإستيفاء استحق المالك طلبه وأخذه وعنه تلزمه قيمته يوم تلفه لأن القيمة نما ثبتت في الذمة حين التلف لأنه قبل التلف يجب رده فإذا تلف وجبت قيمته يوم تلفه كغير المثلي (مسألة) (وإن لم يكن مثليا ضمنه قول باقي الجماعة)

(5/429)


وحكي عن العنبري أنه يجب في كل شئ مثله لما روت جسرة بنت دجاجة عز عائشة رضي الله عنها قالت ما رأيت صانعاً مثل حفصة صنعت طعاماً فبعثت به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذني الافكل فكسرت الإناء فقلت يا رسول الله ما كفارة ما صنعت فقال (إنا مثل الإناء وطعام مثل الطعام) رواه أبو داود وعن أنس أن احد نساء النبي صلى الله عليه وسلم كسرت قصعة الأخرى فدفع النبي صلى الله عليه وسلم قصعة الكاسرة إلى رسول صاحبة المكسورة وحبس المكسورة في بيته رواه الترمذي بنحوه وقال حسن صحيح ولنا ما روى عبد الله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (من أعتق شركاله في عبد قوم عليه قيمة العدل) متفق عليه فأمر بالتقويم في حصة الشريك لأنها متلفة بالعتق ولم يأمر بالمثل والحديث محمول على أنه جوز ذلك بالتراضي وعلم أنها ترضى به ولأن هذه الأشياء لا تتساوى أجزاؤها وتخلف صفلتها فالقيمة فيها أعدل وأقرب إليها فكانت أولى ويكون ذلك يوم تلفه لما ذكرنا ويكون في بلده من نقده لأنه موضع الضمان يعني يضمنه في البلد الذي غصبه فيه من نقده، ويتخرج أن يضمنه بقيمته يوم غصبه وهو
قول أبي حنيفة ومالك وروى عن أحمد لانه قوته عليه بغصبه فكان عليه قيمة ما فوت عليه حين فوته وقد روي عن أحمد في رجل أخذ من رجل أرطالاً من كذا وكذا أعطاه على السعريوم أخذه لا يوم محاسبته ولذلك روي عنه في حوائج البقال عليه القيمة يوم الأخذ وهذا يدل على أن القيمة تعتبر يوم الغصب والأولى أولى.
قال شيخنا ويمكن التفريق بين هذا وبين الغصب من قبل أن ما أخذه ههنا بإذن مالكه

(5/430)


ملكه وحل له التصرف فيه فثبتت قيمته يوم ملكه ولم يعتبر ما ثبت في ذمته بتغير قيمة ما أخذه لأنه ملكه والمغصوب ملك المغصوب منه والواجب رده لا قيمته، وإنما تثبت قيمته في الذمة يوم تلفه أو انقطاع مثله فاعتبرت القيمة حينئذ وتغيرت بتغيره قبل ذلك، فأما إن كان المغصوب باقياً وتعذر رده فأوجبنا رد قيمته فإنه يطالبه بها يوم قبضها لأن القيمة لم تثبت في الذمة قبل ذلك ولهذا يتخير بين أخذها والمطالبة بها وبين الصبر إلى وقت إمكان الرد ومطالبة الغاصب بالسعي في رده وإنما يأخذ القيمة لأجل الحيلولة بينه وبينه فيعتبر ما يقوم مقامه لأن ملكه لم يزل عنه بخلاف غيره (فصل) وقد قال الخرقي فيمن غصب جارية حاملاً فولدت في يديه ثم مات الولد أخذها سيدها وقيمة ولدها أكثر ما كانت قيمته، فحمل القاضي قول الخرقي على ما إذا اختلفت القيمة لتغير الأسعار وهو مذهب الشافعي، فعلى هذا إذا تلف المغصوب لزم الغاصب قيمته أكثر ما كانت من يوم الغصب إلى يوم التلف لأن أكثر القيمتين فيه للمغصوب منه فإذا تعذر ردها ضمنه كقيمته يوم التلف، إنما سقطت القيمة مع رد العين، والمذهب أن زيادة القيمة بتغير الأسعار غير مضمونة على الغاصب وقد ذكرنا ذلك، وعلى هذا فكلام الخرقي محمول على ما إذا اختلف القيمة لمعنى في المغصوب من كبر وصغر وسمن وهزال ونسيان ونحو ذلك فالواجب القيمة أكثر ما كانت لانهما مغصوبة في الحال التي زادت فيها والزيادة لما لكها مضمونة على الغاصب على ما قدرناه بدليل أنه لورد العين ناقصة لزمه أرش نقصها

(5/431)


وهو بدل الزيادة فإذا ضمن الزيادة مع بقائها ضمنها عند تلفها بخلاف زيادة القيمة لتغير الأسعار فإنها لا تضمن مع ردها فكذلك مع تلفها، وقولهم انها انما سقطت مع رد العين لا يصح لأنها لو وجبت ما سقطت
بالرد كزيادة السمن قال القاضي ولم أجد عن أحمد رواية بأنها تضمن بأكثر القيمتين لتغير الأسعار فعلى هذا تضمن بقيمتها يوم التلف وقد روي عن أحمد أنها تضمن بقيمتها يوم الغصب إلا أن الخلال قال جبن أحمد عنه كأنه رجع إلى القول الأول وقد ذكرناه (مسألة) (فإن كان مصوغاً أو تبراً تخالف قيمته وزنه قومه بغير جنسه) متى كان المصاغ تزيد قيمته على وزنه أو تنقص والصناعة مباحة كحلي السناء وجب ضمانه بقيمته لكن يقومه بغير جنسه فيقوم الذهب بالفضة والفضة بالذهب لئلا يفضي ذلك إلى الربا، وقال القاضي يجوز تقويمه بجنسه لأن ذلك قيمته والصنعة لها قيمة بدليل أنه لو استأجره لعملها جاز، ولو كسر الحلي وجب عليه أرش ذلك ويخالف البيع لأن الصنعة لا يقابلها العوض في العقود ويقابلها في الإتلاف ألا ترى أنها لا تنفرد بالعقد وتنفرد بضمانها في الإتلاف؟ قال بعض أصحاب الشافعي هذا مذهب الشافعي وذكر بعضهم مثل القول الأول وهو الذي ذكره أبو الخطاب لأن القيمة مأخوذة على سبيل العوض فالزيادة ربا كالبيع وكالنقص، وقد قال أحمد في روااية ابن منصور إذا كسر الحلي يصلحه أحب إلي قال القاضي هذا محمول على أنهما تراضيا بذلك لا على طريق الوجوب، فإن كانت الصناعة محرمة كالأواني وحلي الرجال المحرم

(5/432)


لم يجز ضمانه بأكثر من وزنه وجهاد واحداً لأن الصناعة لا قيمة لها شرعا (مسألة) (فإن كان محلى بالنقدين معاقومه بما شاء منهما) للحاجة وأعطاه بقيمته عوضاً لئلا يفضي إلى الربا ولا يمكن تقويمه إلا بأحدهما لأنهما قيم الأموال فدعت الحاجة إلى تقويمهما بأحدهما وليس أحدهما بأولى من الآخر فكانت الخيرة إليه في تقويمه بما شاه منهما، والدليل على أنه لا يمكن تقويمه إلا بأحد النقدين أنه لا يمكن تقويمه بكل واحد منهما منفرداً لعدم معرفة ما فيه منه ولأن قيمة الحلية قد تنقص بالتحلية بها وقد تزيد ولا يمكن إفرادها بالبيع ولا بغيره من التصرفات وإنما يقوم المحلى كالسيف بأن يقال كم قيمة هذا؟ ولو بيع ماكان الثمن إلا عوضاً له لأن الحلية صارت فصة له وزينة فيه فكانت القيمة فيه موصوفا بهذا الصفة كقيمته في بيعه والله أعلم.
(فصل) وقد ذكرنا أن ما تتماثل أجزاؤه وتنقارب كالأثمان والحبوب والأدهان يضمن بمثله وهذا لا خلاف فيه، فأما سائر المكيل والموزون فظاهر كلام أحمد أنه يضمنه بمثله أيضاً فإنه قال في رواية حرب ما كان من الدراهم والدنانير وما يكال ويوزن فظاهرة وجوب المثل في كل مكيل وموزون إلا أن يكون مما فيه صناعة مباحة كمعمول الحديد والنحاس والرصاص والصوف والشعر العزول فإنه يضمن بقيمته لأن الصناعة تؤثر في قيمته وهي مختلفة فالقيمة فيه أحصر فأشبه غير المكيل والموزون

(5/433)


وذكر القاضي أن النقرة والسبيكة من الأثمان والعنب والرطب والكمثري إنما يضمن بقيمته، وظاهر كلام أحمد يدل على ما قلنا وإنما خرج منه ما فيه الصناعة لما ذكرنا ويحتمل أن تضمن النقرة بقيمتها لتعذر وجود مثله إلا بكسر النقود المضروبة وسبكها وفيه إتلاف (مسألة) (وإن تلف بعض المغصوب فنقصت قيمة باقيه كزوجي خف تلف أحدهما فعليه رد الباقي وقيمة التالف وأرش النقص وقيل لا يلزم أرش النقص) إذا غصب شيئين ينقصهما التفريق كزوجي خف أو مصراعي باب فتلف أحدهما رد الباقي وقيمة التلف وأرش نقصهما فإذا كانت قيمتهما ستة دراهم، فصارت قيمة الباقي بعد التلف درهمين رده وأربعة دراهم وفيه وجه آخر أنه لا يلزمه إلا قيمة التالف مع رد الباقي وهو أحد الوجهين لأصحاب الشافعي لأنه لم يتلف غيره ولأن نقص الباقي نقص قيمة فلا يضمنه كالنقص لتغير الأسعار.
ولنا أنه نقص حصل بجنايته فلزمه ضمانة كما لو غصب ثوباً فشقه ثم تلف أحد الشقين فإنه يلزمه رد الباقي وقيمة التالف وأرش النقص إن نقص بخلاف نقص السعر فإنه لم يذهب من المغصوب عين ولا معنى وههنا فوت معنى وهو إمكان الانتفاع به وهذا هو الموجب لنقص قيمته وهو حاصل من جهة الغاصب فينبغي أن يضمنه كما لو فوت بصره أو سمعه أو علقه أو فك تركيب باب ونحوه

(5/434)


(فصل) وإن غصب ثوباً فلبسه فأبلاه فنقص نصف قيمته ثم غلت الثياب فعادت قيمته كما كانت مثل إن غصب ثوباً قيمته عشرة فنقصه لبسه حتى صارت قيمته خمسة ثم زادت قيمته فصارت عشرة رده
وإرش نقصه لأن ما تلف قبل غلاء الثوب ثبتت قيمته، في الذمة فلا يتغير ذلك بغلاء الثوب ولا رخصه وكذلك لو رخصت الثياب فارت قيمته ثلاثة لم يلزم الغاصب إلا خمسة مع رد الثوب ولو تلف الثوب كله وقيمته عشرة ثم غلت الثياب فصارت قيمته عشرين لم يضمن إلا عشرة لأنها تثبت في الذمة عشرة فلا تزاد بغلاء الثياب ولا تنقص برخصها (فصل) فإن غصب ثوباً أو زلياً فذهب بعض أجزائه كخمل المنشفة فعليه أرش نقصه، وإن أقام عنده مدة لمثلها أجرة لزمته أجرته سواء استمعله أو تركه، ولو اجتمعا مثل إن أقام عنده مدة وذهب بعض أجزائه فعليه ضمانهما معاً الأجرة وأرش النقص سواء كان ذهاب الأجزاء بالإستعمال كثوب ينقصه النسر نقص بنشره وبقي عنده مدة ضمن الأجر والنقص، وإن كان النقص بالاستمال كثوب لبسه فأبلاه فكذلك يضمنهما معاً في أحد الوجهين والثاني يجب أكثر الأمرين من الأجر أو أرش النقص لأن ما نقص من الاجزاء في مقابلة الأجر ولذلك لا يضمن المستأجر تلك الأجزاء ويتخرج لنا مثل ذلك.
ولنا أن كل واحد منهما ينفرد بالإيجاب عن صاحبه فاذا إجتمعا وجباً كما لو أقام في يده مدة ثم

(5/435)


تف والأجرة تجب في مقابلة من المنافع لا في مقابلة الأجزاء ولذلك يجب الأجر وإن لم تفقت الأجزاء، وإن لم يكن للمغصوب أجرة كثوب غير مخيط فليس على الغاصب الاضمان نقصه (فصل) وإن نقص المغصوب عندا لغاصب ثم باعه فتلف عند المشتري فله تضمين من شاء منهما إذا لم يكن النقص لتغير الأسعار وقد ذكرناه، فإن ضمن الغاصب ضمنه فيمته أكثر ما كانت من حين الغصب إلى حين التلف لأنه في ضمانه من حين غصبه إلى يوم تلفه وإن ضمن المشتري ضمنه قيمته أكثر ما كانت من حين قبضه إلى يوم تلفه لأن ما قبل القبض لم يدخل في ضمانه، وإن كانت له أجرة فله الرجوع على الغاصب بجمعيها وعلى المشتري بأجر مقامه في يده وبالباقي على الغاصب وقد مر الكلام في رجوع كل واحد منهما على صاحبه (مسألة) (وان غصب عبداً فأبق أو فرساً فشرد أو شيئاً تعذر رده مع بقائه ضمن قيمته فإن قدر
عليه بعد رده وأخذ القيمة) وجملته أن من غصب شيئاً فعجز عن رده مع بقائه كعبد آبق فللمغصوب منه المطالبة ببدله فإذا أخذه ملكه ولم يلمك الغاصب العين المغصوبة بل متى قدر عليه لزمه رده ويسترد بدلها الذي أداه وبه قال الشافعي وقال أبو حنيفة ومالك يتخير المالك بين الصبر إلى إمكان ردها فيستردها وبين تضمينه إياها فيزول ملكه عنها وتصير ملكاً للغاصب لا يلزمه ردها إلا أن يكون دفع دون قيمتها فهو له مع

(5/436)


يمينه لأن المالك ملك البدل فلا يبقى ملكه على المبدل كالبيع ولأنه تضمين فيما ينقل الملك فيه ففقله كما لو خلط زيته بزيته.
ولنا أن المغصوب لا يصح ملكه بالبيع ههنا فلا يصح بالتضمين كالتالف ولأنه ضمن ما تعذر عليه رده بخر وجه عن يده فلا يملكه بذلك كما لو كان المغصوب مدبراً وليس هذا جميعا بين البدل والمبدل لأنه ملك القيمة لأجل الحيلولة لا على سبيل العوض ولهذا إذا رد المغصوب إليه رد القيمة عليه ولا يثبه الزيت لأنه يجوز بيعه ولأن حق صاحبه إنقطع عنه لتعذر رده.
إذا ثبت ذلك فإنه إذا قدر على المغصوب رده ونماءه المنفصل والمتصل وأجر مثله إلى حين دفع بدله، ويجب على المالك ردما أخذه بدلاً عنه إلى الغاصب لأنه أخذه بالحيلولة وقد زالت فيجب رد ما أخذ من أجلها إن كان باقيا بعينه ورد زيادته المتصلة لأنها تتبع في الفسوخ وهذا فسخ ولا يلزم منه رد زيادته المنفصلة لأنها وجدت في ملكه ولا تتبع في الفسوخ فأشبهت زيادة المبيع المردود بعيب، وإن كان البدل تالفاً فعليه مثله أو قيمته إن لم يكن من ذوات الأمثال.
(مسألة) (وان غصب عصيراً فتخمر فعليه مثله) لأنه تلف في يده فإن صار خلا وجب رده وما نقص من قيمة العصير ويسترجع ما أداه من بدله وقال بعض أصحاب الشافعي يرد الخل ولا يسترجع البدل لان العصير تلف بتخمره فوجب ضمانه فإن

(5/437)


عاد خلا كان كما لو هزلت الجارية السمينة ثم عاد سنمها فإنه يردها وأرش نقصها
ولنا أن الخل عن العصير تغير صفته وقد رده فكان له استرجاع ما أداه بدلاً عنه كما لو غصبه فغصبه منه غاصب ثم رده عليه وكما لو غصب حملاً فصار كبشاً، وأما السمن الأول فلنا فيه منع وإن سلمنا فالثاني غير الأول بخلاف مسئلتنا (فصل) إذا غصب أثماناً فطالبه مالكها بها في بلد آخر وجب ردها إليه لأن الأثمان قيم الأموال فلا يضر إختلاف قيمتها، وإن كان المغصوب من المتقومات لزم دفع قيمته في بلد الغصب وإن كان من المثليات وقيمته في البلدين واحدة أو هي أقل في البلد الذي لقيه فيه فله مطالبته بمثله لأنه لا ضرر على الغاصب فيه، وإن كانت أكثر فليس له المثل لأنا لا نكلفه النقل إلى غير البلد الذي غصب فيه وله المطالبة بقيمته في بلد الغصب، وفي جميع ذلك متى قدر على المغصوب أو المثل في بلد الغصب رده وأخذ القيمة كما لو غصب عبداً فأبق.
(فصل) قال رضي الله عنه (فإن كانت للمغصوب أجرة فعلى الغاصب أجرة مثله مدة مقامه في يده سواء استوفى المنافع أو تركها تذهب) هذا المعروف في المذهب نص عليه أحمد في رواية الأثرم وبه قال الشافعي وقال أبو حنيفة لا يضمن المنافع وهو الذي نصره أصحاب مالك وقد روى محمد بن الحكم عن أحمد فيمن غصب داراً فسكنها عشرين سنة لا أجترئ أن أقول عليه سكنى ما سكن وهذا يدل على

(5/438)


توقفه عن إيجاب الأجر إلا أن أبا بكر قال هذا قول قديم لأن محمد بن الحكم مات قبل أبي عبد الله بعشرين سنة.
واحتج من لم يوجب الأجر بقول النبي صلى الله عليه وسلم (الخراج بالضمان) وضمانها على الغاصب ولأنه استوفى منفعته بغير عقد ولا شبهة ملك أشبه مالو زنا بامرأة مطاوعة ولنا أن كل ما ضمنه بالإتلاف في العقد الفاسد جاز أن يضمنه بمجرد الإتلاف كالأعيان ولأنه أتلف متقوماً فوجب ضمانه كالأعيان أو نقول مال متقوم مغصوب فوجب ضمانه كالعين وأما الخبر فوارد في البيع ولا يدخل فيه الغاصب لأنه لا يجوز له الانتفاع بالمغصوب بالإجماع ولا يشبه الزنا لأنها رضيت بإتلاف منافعها بغير عوض ولا عقد يقتضي العوض فكان بمنزلة من أعاره داراً، ولو أكرهها عليه لزمه مهرها، والخلاف فيما له منافع تستباح بعقد الإجارة كالعقار والثياب والدواب ونحوها فأما الغنم والشجر
والطير ونوحها فلا شئ فيها لأنها لا منافع لها يستحق بها عوض، ولو غصب جارية ولم يطأها ومضى عليها زمن يمكن الوطئ فيه لم يضمن مهرها لأن منافع البضع لا تتلف إلا بالإستيفاء بخلاف غيرها ولأنها لا تقدر بزمن فيتلفها مضي الزمن بخلاف المنفعة، ولو أطرق الفحل لم يضمن منفعته لانه لاعوض له لكن عليه ضمان نقصه (مسألة) (وإن تلف المغصوب فعليه أجرته إلى وقت تلفه) لأنه بعد التلف لم تبقن له منفعة لم يجب ضمانها كما لو أتلفه من غير غصب

(5/439)


(مسألة) (وان غصب شيئاً فعجز عن رده فأدى قيمته فعليه أجرته إلى وقت أداء القيمة) لأن منافعه إلى وقت أداء القيمة ممولكة لصاحبه فلزمه ضمانها وهل يلزم أجرة من حين دفع بدله إلى رده؟ فيه وجهان أصحهما لا يلزمه لأن إستحق الإنتفاع ببدله انلذي أقيم مقامه فلم يستحق الإنتفاع به وبما قام مقامه والثاني له الأجر لأن العين باقيه على ملكه والمنفعة له (فصل) وتصرفات الغاصب الحكمية كالحج وسائر العبادات والعقود كالبيع والنكاح ونحوها باطلة في إحدى الروايتين والأخرى صحيحة) تصرفات الغاصب كتصرف الفضولي وفيه روايتان أظهرهما بطلانها والثانية صحتها ووقوفها على إجازة المالك وذكر شيخنا في الكتاب المشروح رواية أنها تقع صحيحة وذكره أبو الخطاب وسواء في ذلك العبادات كالطهارة والصلاة والزكاة والحج والعقود كالبيع والإجارة والنكاح وهذا ينبغي أن يتقيد في العقود بما لم يبطله المال، فأما ما إختار المالك إبطاله وأخذ المعقود عليه فلا نعلم فيه خلافاً وأما ما لم يدركه المالك فوجه التصحيح فيه أن الغاصب تطول مدته وتكثر تصرفاته ففي القضاء ببطلانها ضرر كثير وربما عاد الضرر على المالك فإن الحكم بصحتها يقتضي كون الربح للمالك والعوض نمائه وزيادته له الحكم ببطلانها يمنع ذلك (مسألة) (وإن اتجر بالدراهم فالربح لمالكها) إذا غصب أثماناً فاتجر بها أو عروضاً فباعها وأتجر بثمنها فقال أصحابنا الربح للمالك والسلع

(5/440)


المشتراة له وقال الشريف أبو جعفر وأبو الخطاب إن كان الشراء بعين المال فالربح للمالك لأنه نماء ملكه قال الشريف وعن أحمد أنه يتصدق وبه لو قوع الخلاف فيه (مسألة) (وإن إشترى في ذمته ثم تقدها احتمل أن يكون الربح للغاصب) وكذلك ذكره أبو الخطاب وهو قول أبي حنيفة وأحد قولي الشافعي لأنه اشترى لنفسه في ذمته فكان الشراء له والربح له، وعليه بدل المغصوب وهذا قياس قول الخرقي وذكر ذلك عن أحمد واحتمل أن يكون للمالك لأنه نماء ملكه أشبه مالو اشترى بعين المال وهذا المشهور في المذهب وقال صاحب المحرر إذا اشترى في ذمته بنية نقدها لئلا بتخذ ذلك طريقاً إلى غصب مال الغير والتجارة به وإن خسر فهو على الغاصب لأنه نقص حصل في المغصوب، وادفع المال إلى من يضارب به فالحكم في الربح على ما ذكرنا وليس على المالك من أجر العامل شئ لأنه لم يأذن له في العمل في ماله وإن كان المضارب عالماً بالغاصب فلا أجر له لأنه متعد بالعمل ولم يغره أحد وإن لم يعلم فعلى الغاصب أجر مثله لأنه استعمله عملا بعوض لم يحصل له فلزمه أجره كالعقد الفاسد (فصل) وإن أجر الغاصب المغصوب فالإجارة باطلة في إحدى الروايات كالبيع وللمالك تضمين أيهما شاء أجر المثل فإن ضمن المستأجر لم يرجع بذلك لأنه دخل في العقد على أنه يضمن المنفعة

(5/441)


ويسقط عنه في العقد وإن كان دفعه إلى الغاصب رجع به وإن تلفت العين في يد المستأجر فلمالكها تضمين من شاء منهما قيمتها فإن ضمن المستأجر رجع بذلك على الغارم لأنه دخل معه على أنه لا يضمن العين ولم يحصل بدل في مقابلة ما غرم، وإن كان عالماً بالغصب لم يرجع على الغاصب لأنه دخل على بصيرة وحصل التلف في يده فاستقر الضمان عليه فإن ضمن الغاصب الأجر والقيمة رجع بالاجر على المستأجر علم أو لم يعلم ويرجع بالقيمة إن كان المستأجر علم بالغصب وهذا قول الشافعي ومحمد بن الحسن في هذا الفصل وحكي عن أبي حنيفة أن الأجر اللغاصب دون صاحب الدار وهو فاسد لأن الأجر عوض المنافع المملوكة لرب الدار فلم يملكها الغاصب كعوض الاجزاء (مسألة) (وإن اختلفا في قيمة المغصوب أو قدره أو صناعة فيه فالقول قول الغاصب)
إذا اختلف المالك والغاصب في قيمة المغصوب ولا بينة فالقول قول الغاصب لأن الأصل براءة ذمته فلا يلزمه ما لم يقم عليه حجة كما لو ادعى عليه دينا فأقر ببعضه وكذلك إن اختلفا في قدره فقال غصبتني مائة قال بل خمسين لما ذكرنا وكذلك إن قال المالك كان كاتباً أو له صناعة فأنكر الغاصب فالقول قوله لذلك فإن شهدت البينة بالصفة ثبتت (مسألة) (وإن اختلفا في رده أو عيب فيه فالقول قول المالك) لأن الأصل عدم الرد وبقاؤه في يد الغاصب وإن قال الغاصب كانت فيه سلعة أو أصبغ زائدة أو عيب

(5/442)


وأنكر المالك فالقول قوله لأن الأصل عدم ذلك، وإن إختلفا بعد زيادة قيمة المغصوب في وقت الزيادة فقال المالك زادت قبل تلفه وقال الغاصب بعد تلفه فالقول قول الغاصب لأن الأصل براءة ذمته وإن شاهدنا العبد معيباً فقال الغاصب كان معيبا قبل غصبه وقال المالك تعيب عندك فالقول قول الغاصب لأنه غارم ولأن الظاهر أن صفة العبد لم تتغير، ويتخرج أن القول قول المالك كما إذا إختلف البائع والمشتري في العيب هل كان عند البائع أو حدث عند المشتري؟ فإن فيه رواية أن القول قول البائع كذلك هذا، وإن غصبه خمراً فقال المالك تخلل عندك وأنكر الغاصب فالقول قوله لأن الأصل عدم تغيره وبراءة ذمة الغاصب، وإن اختلفا في تلفه فالقول قول الغاصب إذا ادعى التلف لأنه أعلم بذلك ويتعذر إقامة البينة عليه فإذا حلف فللمالك المطالبة ببدله لأنه تعذر رد العين فلزم بدلها كما لو غصب عبداً فأبق وقيل ليس له المطالبة بالبدل لأنه لا يدعيه، وإن قال غصبت مني حديثاً قال بل عتيقاً فالقول قول الغاصب لأن الأصل عدم وجوب الحديث وللمالك المطالبة بالعتيق لأنه دون حقه، وإن اختلفا في الثياب التي على العبد فهي للغاصب لأنها في يده فكان القول قوله فيها ولم يثبت أنها كانت لمالك العبد (مسألة) (وان بقيت في يده غصوب لا يعلم أربابها تصدق بها عنهم بشرط الضمان كاللقطة) لأنه عاجز عن ردها على أصحابها فإذا تصدق بها عنهم كان ثوباها لا ربابها فيسقط ذلك إثم غصبها ولأن قضاء الحقوق في الآخرة بالحسنات وحمل السيئات فإذا طلب منه عوض الغصب أحالهم بثواب الصدقة

(5/443)


وعنه في اللقطة لا تجوز الصدقة بها فيخرج هنا له دفعه فلى هذا له دفعه إلى نائب الإمام كالضوال (فصل) قال رضي الله عنه (ومن أتلف مالاً محترماً لغيره ضمنه إذا كان بغير إذنه لا نعلم في ذلك خلافاً) لأنه فوته عليه فوجب عليه ضمانة كما لو غصبه فتلف عنده (مسالة) (وإن فتح قفصا عطائر فطار أو حل قيد عبده أو رباط فرسه فذهبت ضمنه) وبه قال ملك وقال أبو حنيفة والشافعي لا ضمان عليه إلا أن يكون أهاجهما حتى ذهبا وقال أصحاب الشافعي ان وقفا عبد الحل والفتح ثم ذهبا لم يضمنهما وان ذهبا عقيب ذلك ففيه قولان واحتجابان لهما اختبارا وقد وجدت منهما المباشرة ومن الفاتح سبب غير ملجئ فإذا اجتمعا لم يتعلق الضمان بالسبب كما لو حفر بئراً فجاء عبد لإنسان فرمى نفسه فيها ولنا أنه ذهب بسبب فعله فلزمه الضمان كما لو نفره أو ذهب عقيب فتحه وحله والمباشرة إنما حصلت ممن لا يمكن إحالة الحكم عليه فيسقط كما لو نفر الطائر وأهاج الدابة وأشلى كلباً على صبي فقتله أو أطلق ناراً في متاع إنسان فإن للنار فعلاً لكن لما لم يكن إحالة الحكم عليها كان وجوده كعدمه ولأن الطائر وسائر الصيد من طبعه النفور وإنما يبقى بالمانع فإذا أزيل المانع ذهب بطبعه فكان ضمانه على من أزال المانع كمن قطع علاقة قنديل فوقع فانكسر وهكذا لو حل قيد عبد فذهب أو أسير فأفلس لأنه تلف بسبب فلعه فأما إن فتح القفص وحل الفرس فبقيا واقفين فجاء إنسان فنفرهما فذهبا

(5/444)


فالضمان على منفرهما لأن سببه أخص فاختص الضمان به كالدافع مع الحافر، وإن وقع طائر انسان على جدارفنفره إنسان فطار لم يضمنه لأن تنفيره لم يكن سبب فواته فإنه كان ممتنعاً قبل ذلك، وإن رماه فقلته ضمنه وإن كان في داره لأنه كان يمكنه تنفيره بغيره قتله وكذلك لو مر طائر في هواء داره فرماه فقتله مضنه لأنه لا يملك منع الطائر من هواء الدار فهو كما لو رماه في هواء دار غيره (مسألة) (وإن حل وكاء زق مائع أو جامد فأذابته الشمس أو بقي بعد حله فألقته الربح فاندفق ضمنه) إذا حل وكاء زق مائع فاندفق أو كان جامداً فذاب بشمس أو سقط بريح أو زلزلة ضمنه سواء خرج في الحال أو قليلة أو خرج منه شئ بل أسلفه فسقط أو ثقل أحد جانبيه فلم يزل يميل قليلاً
قليلاً حتى سقط لأنه تلف بسبب فعله وقال القاضي لا يضمن إذا سقط بريح أو زلزلة ويضمن فيها سوى ذلك وبه قال أصحاب الشافعي، ولهم فيما إذا ذاب بالتسس وجهان قالوا لأن فعله غير ملجئ والمعنى الحادث مباشرة فلم يتعلق الضمان بفعله كما لو دفعه إنسان ولنا أن فعله سبب تلفه ولم يتخلل بينهما ما يمكن إحالة الحكم عليه فوجب عليه الضمان كما لو خرج عقيب فعله أو مال قليلاً قليلاً وكما لو جرح إنساناً فأصابه الحر أو البرد فسرت الجناية فإنه يضمن وأما إذا دفعه إنسان فإن المتخلل بينهما مباشرة من يمكن الإحالة عليه بخلاف مسئلتنا (مسألة) (وإن ربط دابة في طريق فأتلفت أو اقتنى كلبا عقوررا فعقر أو خرق ثوباً ضمن) إذا أوقف الدابة في طريق ضيق ضمن ما جنت بيد أو رجل أو فم لأنه متعد بوففها فيه وإن كان الطريق واسعاً ضمن في إحدى الروايتين وهو مذهب الشافعي لأن انتفاعه بالطريق مشروط بالسلامة ولذلك لو ترك في الطريق طينا فرلق به إنسان ضمنه والثانية لا يضمن لأنه غير متعد بوقفها في الطريق

(5/445)


الواسع فلم يضمن كما لو وقفها في موات وفارق الطين فإنه متعد بتركه في الطريق وأما الكلب فيلزمه ضمان ما أتلف لأنه تعدى بذلك فلزمه الضمان كما لو بنى في الطريق دكانا (مسألة) (إلا أن يكون دخل منزله بغير إذنه لأنه متعد بالدخول فقد تسبب الى إتلاف نفسه بجنايته، وإن دخل بإذن المالك فعليه ضمانه لأنه تسبب إلى إتلافه فإن أتلف الكلب بغير العقر مثل إن ولغ في إناء إنسان أو بال لم يضمنه لأن هذا لا يختص الكلب العقور قال القاضي وإن اقتنى سنوراً يأكل أفراخ الناس ضمن ما أتلفه كالكلب العقور، ولافرق بين الليل والنهار فإن لم تكن له عادة بذلك لم يضمن صاحبه جنايته كالكلب الذي ليس بعقورولو أن الكلب العقور أو السنور حصل عند إنسان من غير اقتنائه ولا اختياره فأفسد لم يضمنه لأنه لم يحصل الإتلاف بتسببه فإن اقتنى حماماً أو غيره من الطير فأرسله نهاراً فلقط حباً لم يضمنه لأن العادة ارساله (مسألة) (وقيل في الكلب روايتان في الجملة (إحداهما) يضمن سواء كان في منزل صاحبه أو خارجاً وسواء دخل بإذن صاحب المنزل أو بغير إذنه لأن اقتناءه الكلب العقور سبب للعقر وأذى
الناس فضمن صاحبه كمن ربط دابة في طريق ضيق (والثانية) لا يضمن لقوله عليه الصلاة والسلام (جرح العجماء جبار) ولأنه اتلف من غير أن تكون يد صاحبه عليه أشبه سائر البهائم (مسألة) (وإن أجج ناراً في ملكه أو سقى أرضه فتعدى إلى ملك غيره فأتلفه ضمن إذا كان قد أسرف فيه أو فرط وإلا فلا) وجملته أنه إذا فعل ذلك لم يضمن إذا كان ما جرت به العادة من غير تفريط لان غير متعد ولأنها سراية فعل مباح فلا يضمن كسراية القود، وفارق من حل وكاء زق فاندفق لأنه متعد بحله ولأن الغالب خروج المائع من الزق المفتوح بخلاف هذا، فإن كان بتفريط منه أو إسراف بأن أجج ناراً تسري

(5/446)


في العادة لكثرتها أو في ريح شديدة تحملها أو فتح ماء كثيراً يتعدى أو فتح الماء في أرض غيره أو أوقد في دار غيره ضمن ما تلف به وإن سرى إلى غير الدار التي أوقد فيها والأرض التي فتح الماء فيها لأنها سراية عدوان أشبهت سراية الجرح الذي تعدى به ولذلك إن يبست النار أغصان شجرة غيره يضمن لأن ذلك لا يكون إلا من نار كثيرة إلا أن تكون الأغصان في هوائه فلا يضمن لأن دخولها إليه غير مستحق فلا يمنع من التصرف في داره لحرمتها ومذهب الشافعي كما ذكرنا في هذا الفصل.
(فصل) وإن ألقت الريح إلى داره ثوب غيره لزمه حفظه لأنه أمانة حصلت تحت يده أشبهت اللقطة فإن لم يعرف صاحبه فهو لقطه يثبت فيها أحكامها وإن عرف صاحبه لزمه إعلامه فان لم يفعل ضمنه لأنه أمسك مال غيره بغير إذنه من غيرت عريف فهو كالغاصب، وإن سقط طائر في داره لم يلزمه حفظه ولا إعلام صاحبه لأنه محفوظ بنفسه إلا أن يكون غير ممتنع فهو كالثوب وإن دخل برجه فأغلق عليه الباب ناوياً إمساكه لنفسه ضمنه لأنه أمسك مال غيره لنفسه فهو كالغاصب وإلا فلا ضمان عليه لأنه يتصرف في برجه كيف شاء فلا يضمن مال غيره بتلفه ضمناً لتصرفه الذي لم يتعد فيه (مسألة) (وإن حفر في فنائه بئراً لنفسه ضمن ما تلف به، والفناما كان خارج الدار قريباً منها) إذا حفر في الطريق بئراً لنفسه ضمن ما تلف بها سواء حفرها بإذن الإمام أو بغير إذنه وسواء
كان فيها ضرر أولا وقال أصحاب الشافعي إن حفرها بإذن الإمام لم يضمن لأن للإمام أن يأذن في الانتفاع بما لا ضرر فيه بدليل أنه يجوز أن يأذن في العقود فيه ويقطعه لمن يبيع فيه ولنا أنه تلف بحفر حفرة في مكان مشترك بغير إذن أهله لغير مصلحتهم فضمن كما لو لم يأذن فيه الإمام ولا نسلم أن للإمام الإذن في هذا وإنما جاز الإذن في العقود لأنه لا يدوم ويمكن إزالته في الحال اشبه العقود في المسجد ولأن العقود حائز من غير إذن الإمام بخلاف الحفر

(5/447)


(مسألة) (وإن حفرها في سابلة لنفع المسلمين لم يضمن في أصح الروايتين) مثل أن يحفرها لينزل فيها ماء المطر أو ليشرب منه المارة ونحو هذا فلا يضمن لأنه محسن بفعله غير متعد أشبه باسط الحصير في المسجد، وقال بعض أصحابنا لا يضمن إذا كان بإذن الامام وإن كان بغير إذنه لم يضمن في إحدى الروايتين فإن أحمد قال في رواية إسحاق بن إبراهيم إذا أحدث بئراً لماء المطر فيه نفع للمسلمين أرجو أن لا يضمن والثانية يضمن أومأ إليه أحمد لأنه اقتات على الإمام ولم يذكر القاضي سوى هذه الرواية، والصحيح الأول لأن هذا مما تدعو الحاجة إليه ويشق استئذان الإمام فيه وتعم البلوى به ففي وجوب الإستئذان فيه تفويت لهذه المصلحة العامة لأنه لا يكاد يوجد من يتحمل كلفة الإستئذان والحفر معاً فتضيع هذه المصلحة فوجب سقوط الإستئذان كما في سائر المصالح العامة من بسط حصير في المسجد أو وضع سراج أو رم شعث وأشباه ذلك وحكم البناء في الطريق حكم الحفر فيها على ما ذكرنا من التفصبل والخلاف وهو أنه متى بنى بناء يضر لكونه في طريق ضيق أو واسع الا أنه يضر بالمارة أو بناه لنفسه ضمن ما تلف به وساء في ذلك كله إذن الإمام وعدم الإذن قال شيخنا ويحتمل أن يعتبر إذن الإمام في البناء لنفع المسلمين دون الحفر لأن الحفر تدعو الحاجة إليه لنفع الطريق وإصلاحها وإزالة الطين والماء منها بخلاف البناء فجرى حفرها مجرى تبقيتها وحفر هدفة منها وقلع حجر يضر بالمارة ووضع الحصى في حفرة فيها ليسهلها، ويملكها بإزالة الطين ونحوه منها تسقيف ساقية فيها ووضع حجر في طين فيها ليطأ الناس عليها فهذا كله مباح لا يضمن ما تلف به لا نعلم فيه خلافاً وكذلك ينبغي أن يكون في بناء القناطر ويحتمل أن يعتبر إذن الإمام فيها لأن مصلحته لاتعم
بخلاف غيره قال بعض أصحابنا في حفر البئر ينبغي أن يتقيد سقوط الضمان إذا حفرها في مكان مائل عن القارعة وجعل عليه حاجزاء يعلم به ليتوقى (فصل) وان حفر العبد بسرا في ملك إنسان بغير إذنه أو في طريق يتضرر به ثم أعتق ثم تلف بها شئ ضمنه العبد وبه قال الشافعي وقال أبو حنيفة الضمان على السيد لأن الجناية بالحفر

(5/448)


في حال رقه فكان ضمان جنايته حيئنذ على سيده ولا يزال ذلك بعتقه كما لو جرح في حال رقه ثم سرى جرحه بعد عتقه ولنا أن التلف الموجب للضمان وجد بعد العتق فكان الضمان عليه كما لو اشترى سيفاً في حال رقه ثم قتل به بعد عتقه وفارق ما قاسوا عليه لأن الإتلاف الموجب للضمان وجد حال رقه وههنا حصل بعد عتقه وكذلك القول في نصيب حجر أو غيره من الأسباب التي يجب بها الضمان (مسألة) (وإن بسط في مسجد حصيراً أو علق فيه قنديلاً أو سقفه أو نصب عليه باباً أو جعل فيه رقا لينتفع به الناس فتلف به شئ فلا ضمان عليه) وقال أصحاب الشافعي إن فعل شيئاً من ذلك بغير إذن الإمام ضمن في أحد الوجهين وقال أبو حنيفة يضمن اذالم يأذن فيه الجيران ولنا أن هذا فعل أحسن به ولم يتعد فيه فلم يضمن ما تلف به كما لو أذن فيه الإمام والجيران ولأنه فعل ما يتنفع به المسلمون غالباً فلم يضمن كمن مهد الطريق ولأن هذا مأذون فيه عرفاً لأن العادة جارية بالتبرع به من غير استئذان فلم يضمن فاعله كالمأذون فيه نطلقا (مسألة) (وإن جلس في مسجد أو طريق واسع فعثر به حيوان فتلف لم يضمن في أحد الوجهين) لأنه جلس في مكان له الجلوس فيه من غير تعد على أحد، وفي الآخر يضمن لأن الطريق إنما جعلت للمرور فيها لا الجلوس، والمسجد للصلاة وذكر الله تعالى والأول أولى لأنه فعل فلا مباحاً، وقولهم أن الطريق إنما جعلت للمرور ممنوع فإن الطريق الواسع يجلس فيه عادة وكذلك المسجد جعل للصلاة وإنتظارها والإعتكاف فيه في جميع الأوقات وبعضها لا تباح الصلاة فيه ولأن انتظار الصلاة والإعتكاف قربة فلم يتعلق به الضمان كالصلاة والله أعلم
(مسألة) (وإن أخرج جناحاً أو ميزاباً إلى الطريق فسقط على شئ فأتلفه ضمن) وجملة ذلك أنه إذا أخرج إلى الطريق النافذ جناحاً أو ساباطاً فسقط أو شئ منه على شئ فأتلفه ضمنه المخرج وقال

(5/449)


أصحاب الشافعي إن وقعت خشبة ليست مركبة على حائط وجب نصف الضمان لأنه تلف بما وضعه على ملكه وملك غيره فيقسم الضمان عليهما.
ولنا أنه تلف بما أخرجه إلى هوا الطريق فكما لو بني حائطه مائلاً إلى الطريق أو كما لو لم تكن الخشبة الساقطة موضوعة على الحائط ولأنه إخراج يضمن به البعض فضمن به الكل كالذي ذكرنا ولأنه تلف بعدوانه فضمنه كما لو وضع البناء على أرض الطريق والدليل على عدوانه وجوب ضمان البعض لأنه لو كان مباحاً لم يضمن به كسائر المباحات، ولأن هذه خشبة لو سقط الخارج مها حسب فأتلف شيئاً ضمنه فيجب أن يضمن ما أتلف جميعها كسائر المواضع التي يجب الضمان فيها ولا ننا لم نعلم موضعاً يجب الضمان كله ببعض الخشبة ونصفه بجميعها، وإن كان إخراج الجناح الى درب غير نافذ بغير إذن أهله ضمن ما تلف به وإن كان بإذنهم فلا ضمان عليه لأنه غير متعد فيه (فصل) وإن أخرج ميزاباً إلى الطريق النافذ فسقط على إنسان أو شئ فأتلفه ضمن وبهذا قال أبو حنيفة وحكي عن مالك انه لا يضمن ما اتلفه لأنه غير متعد بإخراجه فلم يضمن ما تلف به كما لو أخرجه إلى ملكه وقال الشافعي إن سقط كله فلعيه نصف الضمان لأنه تلف بماوضعه على ملكه وملك غيره وان انقصف الميزاب فسقط منه الخارج حسب ضمن الجميع لأنه كله في غير ملكه ولنا ما سبق في الجناح ولا نسلم أن إخراجه مباح بل هو محرم لأنه أخرج إلى هواء ملك غيره شيئاً يضربه أشبه ما أخرجه إلى ملك آدمي معين بغير إذنه، فأما إن أخرجه إلى ملك آدمي معين بغير إذنه فهو متعد ويضمن ما تلف به لا نعلم في ذلك خلافاً (مسألة) (وإن مال حائطه فلم يهدمه حتى أتلف شيئاً لم يضمنه نص عليه وأومأ في موضع أنه إن تقدم إليه لنقضه وأشهد عليه فلم يفعل ضمن) إذا كان في ملكه حائط متسو أو مائل إلى ملكه أو بناء كذلك فسقط من غير إستهدام ولا ميل فلا ضمان على صاحبه فيما تلف به لأنه لم يتعد ببنائه ولا حصل منه تفريط بابقائه وإن مال قبل وقوعه إلى
ملكه ولم يتجاوزه فلا ضمان عليه أيضا لانه بمنزلة بناءئه مائلاً في ملكه وإن مال قبل وقوعه إلى هواء الطريق أو إلى ملك إنسان أو ملك مشترك بينه وبين غيره وكان بحيث لا يمكنه نقضه فلا ضمان عليه لأنه لم يتعد ببنائه ولا فرط في ترك نقضه لعجزه عنه أشبه مالو سقط من غير ميل، فإن أمكنه نقضه ولم

(5/450)


ينقضه ولم يطالب بذلك لم يضمن في المنصوص عن أحمد وهو الظاهر عن الشافعي ونحوه قول الحسن والنخعي والثوري وأصحاب الررأي لأنه بناه في ملكه والميل حادث بغير فعله أشبه مالو وقع ميله، وذكر بعض أصحابنا فيه وجهاً آخر أن عليه الضمان وهو قول ابن أبي ليلى وأبي ثور وإسحاق لأنه متعد بتركه مائلاً فضمن ما تلف به كما لو بناه مائلاً إلى ذلك إبتداء ولانه لو طولب بنقضه فلم يفعل ضمن ما تلف به ولو لم يكن موجباً للضمان لم يضمن بالمطالبة كما لو لم يكن مائلا أو كان مائلاً إلى ملكه، وأما إن طولب بنقضه فلم يفعل فقد توقف أحمد عن الجواب فيها وقال أصحابنا يضمن وقد أومأ إليه أحمد وهو مذهب مالك ونحو قال الحسن والنخعي والثوري، وقال أبو حنيفة الإستحسان أن يضمن لأن حق الجواز للمسلمين وميل الحائط يمنعهم ذلك فكان لهم المطالبة بإزالته فإذا لم يزله ضمن كما لو وضع شيئاً على حائط نفسه فسقط في ملك غيره فطولب برفعه فلم يفعل حتى عثر به إنسان، وفيه وجه آخر لا ضمان عليه قال أبو حنيفة وهو القياس لأنه بناه في ملكه ولم يسقط بفعله فأشبه مالو لم يطالب بنقضه أو سقط قبل ميله أولم يمكنه نقضه، ولأنه لو وجب الضمان به لم تشترط المطالبة به كما لو بناه مائلاً إلى غير ملكه فإن قلنا عليه الضمان إذا طولب فإن المطالبة من كل مسلم أو ذمي توجب المضان إذا كان ميله إلى الطريق لأن لكل واحد منهم حق المرور فكانت له المطالبة كما لو مال الحائط إلى ملك جماعة فإن لكل واحد منهم المطالبة وإذا طالب واحد فاستأجله صاحب الحائط أو أجله الإمام لم يسقط عنه الضمان لأن الحق لجميع المسلمين فلا يملك الواحد منهم إسقاطه وإن كانت المطالبة لمستأجر الدار ومرتهنيها ومستعيرها ومستودعها فلا ضمان عليهم لأنهم لا يملكون القبض وليس الحائط ملكها لهم وإن طولب المالك في هذه الحال فلم يمكنه استرجاع الدار ونقض الحائط فلا ضمان عليه لعدم تفريطه وإن أمكنه استرجاعها كالمعير والمودع والراهن إذا أمكنه فكاك الرهن فم يفعل ضمن لأنه أمكنه النقض، وإن كان

(5/451)


المالك محجوراً عليه لسفه أو صغر أو جنون فطولب هو لم يلزمه الضمان لأنه ليس أهلاً للمطالبة وإن طولب وليه أو وصيه فلم ينقضه فالضمان على المالك لأن سبب الضمان ماله فكان الضمان عليه دون التصرف كالوكيل مع الموكل وإن كان الملك مشتركاً بين جماعة فولب أحدهم بنقضه احتمل وجهين أحدهما لا يلزمه شئ لأنه لا يمكنه نقضه بدون إذنهم فهو كالعاجز والثاني يلزمه بحصته لأنه يتمكن من النقض بمطالبته شركاءه وإلزامهم النقض فصار بذلك مفرطاً فإن كان ميل الحائط إلى ملك آدمي معين أما واحد أو جماعة فالحكم على ما ذكرنا إلا أن المطالبة تكون للمالك أو ساكن الملك الذي مال إليه دون غيره، وإن كان لجماعة فأيهم طالب وجب النقض بمطالبته كما لو طالب واحد بنقض المائل إلى الطريق إلا أنه متى طولب إلا أنه متى طولب ثم أجله صاحب الملك أو إبرأه منه أو فعل ذلك ساكن الدار التي مال إليها جاز لأن الحق له وهو يملك إسقاطه، وإن مال إلى درب غير نافذ فالحق لأهل الدرب والمطالبة لهم لأن الملك لهم يلزم النقض بمطالبة أحدهم ولا يبرأ بإبرائه وتأجيله إلا أن يرضي بذلك جميعهم لأن الحق للجميع.
(فصل) وإن لم يمل الحائط لكن تشقق فإن لم يخش سقوطه لكون سقوطه بالطول لم يجب نقضه وحكمه حكم الصحيح قياساً عليه وإن خيف وقوعه لكونه مشقوقاً بالعرض فحكمه حكم المائل لأنه يخاف منه التلف أشبه المائل (فصل) ولو بنى في ملكه حائط مائلاً إلى الطريق أو إلى ملك غيره فتلف به شئ أو سقط على شئ أتلفه ضمن لتعديه فإنه ليس له النباء في هواء ملك غيره أو هواء مشترك ولأنه يعرضه للوقوع على غيره في غير ملكه أشبه مالو نصب فيه منجلاً يصيد به وهذا مذهب الشافعي ولا نعلم فيه مخالفاً (فصل) إذا تقدم إلى صاحب الحائط المائل بنقضه فباعه مائلاً فسقط على شئ فتلف به فلا

(5/452)


ضمان على بائعه لأنه ليس بملكه ولا على المشتري لأنه لم يطالب بنقضه وكذلك إن وهبه واقبضه وإن قلنا بلزوم الهبة زال الضمان عنه بمجرد العقد، وإذا وجب الضمان عنه وكان التلف به آدمياً فالدية على عاقلته
فإن أنكرت العاقلة كون الحائط لصاحبهم لم يلزمهم إلا أن يثبت ذلك ببينة لأن الأصل عدم الوجوب عليهم فلا يجب بالشك وإن إعترف صاحب الحائط فالضمان عليه دونهم لأن العاقلة لاتحمل الإعتراف وكذلك إن أنكروا مطالبته بنقضه فالحكم على ما ذكرنا وإن كان الحائط في يد صاحبهم وهو ساكن في الدارلم يثبت بذلك الوجوب عليهم لأن دلالة ذلك على الملك من جهة الظاهر والظاهر لا تثبت به الحقوق وإنما ترجح به الدعوى (مسألة) (وما أتلفت البهية فلا ضمان على صاحبها إلا أن تكون في يد إنسان كالراكب والسائق والقائد قد يضمن ما جنت يدها أو فمها دون ما جنت رجلها) إذا أتلف البهيمة شيئاً فلا ضمان على صاحبها إذا لم تكن يد أحد عليه القول النبي صلى الله عليه وسلم (العجماء جرحها جبار) يعني هدرا فأما إن كانت يد صاحبها عليها كالراكب والسائق القائد فانه يضمن وهذا قول شريح وأبي حنيفة والشافعي وقال مالك لا ضمان عليه لما ذكرنا من الحديث ولأنه جناية بهبمة فلم يضمنها كما لو لم تكن ييده عليها ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم (والرجل جبار) رواه سعيد بإسناده عن الهزبل بن شرحبيل عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم وتخصيص الرجل بكونه جباراً دليل على وجوب الضمان في جناية غيرها ولأنه يمكنه حفظها من الجناية إذا كان راكبها أو يده عليها بخلاف من لا يدله عليه وحديثه محمول على من لا يدله عليها (فصل) ولا يضمن ما جنت برجلها وبه قال أبو حنيفة وعن أحمد رواية أخرى أنه يضمنها وهو قول شريح والشافعي لأنه من جناية بهيمة يده عليها فضمنه كجناية يدها

(5/453)


ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم (الرجل جبار) ولأنه لا يملك حفظ رجلها عن الجناية فلم يضمنها كما لو لم يكن يده، عليها فأما إن كانت جنايتها بفعله مثل أن كبحها أو ضربها في وجهها ونحو ذلك فإنه يضمن جناية رجلها لأنه السبب في جنايتها فكان عليه ضمانها ولو كان السبب غيره مثل أن نخسها أو نفرها فالضمان على من فعل ذلك دون راكبها وسائقها وقائدها لأنه السبب في جنايتها (فصل) فإن كان على الدابة راكبان فالضمان على الأول منهما لأنه المتصرف فيها القادر على
كفها إلا أن يكون الأول منهما صغيراً أو مريضاً ونحوهما ويكون الثاني هو المتولي لتدبيرها فيكون الضمان عليه فإن كان مع الدابة قائد وسائق فالضمان عليهما لأن كل واحد منهما لو انفرد ضمن فإذا اجتمعا ضمنا، وإن كان معهما أو مع أحدهما راكب فالضمان عليهم جميعاً في أحد الوجهين لذلك والثاني الضمان على الراكب لأنه أقوى يداً وتصرفاً، ويحتمل أن يكون على القائد لانه لاحكم للراكب معه (فصل) والجمل المقطور على الجمل الذي عليه راكب يضمن جنايته لأنه في حكم القائد فأما الجمل المقطور على الجمل الثاني فينبغي أن لا يضمن جنايته إلا أن يكون له سائق لأن الراكب الأول لا يمكنه حفظه عن الجناية، ولو كان مع الدابة ولدها لم يضمن جنايته لأنه لا يمكنه حفظه وذكر ابن أبي موسى في الإرشاد أنه يضمن قال لأنه يمكنه ضبطه بالشد (مسألة) (ويضمن ما افسدت من الزرع والشجر ليلاً ولا يضمن ما افسدت من ذلك نهاراً) يعني إذا لم تكن يد أحد عليها وهذا قول مالك والشافعي وأكثر فقهاء الحجاز وقال الليث يضمن مالكها ما أفسدته ليلا ونهارا بأقل الأمرين من قيمتها أو قدر ما أتلفته كالعبد إذا جنبى، وقال أبو حنيفة لا ضمان عليه بحال لقول النبي صلى الله عليه وسلم (العجماء جرحها جبار) يعني هدراو لانها أفسدت وليست يده عليها فلم يضمن كالنهار أو كما لو أتلفت غير الزرع ولنا ما روى مالك عن الزهري عن حزام بن سعيد بن محيصة أن ناقة للبراء دخلت حائط قوم فأفسدت فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم: على أهل الأموال حفظها بالنهار وما أفسدت بالليل فهو مضمون عليهم.
قال ابن عبد البر إن كان هذا مرسلاً فهو مشهور حدث به الائمة الثقاة وتلقاه فقهاء الحجاز بالقبول ولأن العادة من أهل المواشي إرسالها في النهار للرعي وحفظها ليلاً وعادة أهل الحوائط حفظها نهاراً دون الليل فإذا ذهبت ليلاً كان التفريط من أهلها بتركهم حفظها في وقت عادة الحفظ

(5/454)


وإن تلفت نهاراً كان التفريط من أهل الزرع فكان عليهم وقد فرق النبي صلى الله عليه وسلم بينهما وقضى على كل إنسان بالحفظ في وقت عادته فصل) قال بعض أصحابنا انما يضمن مالكها ما أتلفته ليلاً إذا فرط بإرسالها ليلاً أنهارا اولم
يضمها بالليل أو ضمها بحيث يمكنها الخروج أما إذا ضمها فأخرجها غيره بغير إذنه أو فتح عليها بابها فالضمان على مخرجها أو فاتح بابها لأنه المتلف قال القاضي هذه المسألة عندي محمولة على موضع فيه مزارع ومراعي أما القرى العامرة التي لامرعى على فيها الابين قراحين (1) كساقية وطريق وطرف زرع فليس لصاحبها إرسالها بغير حافظ عن الزرع فإن فعل فعليه الضمان لتفريطه وهذا قول بعض أصحاب الشافعي.
(فصل) فإن أتلفت البهيمة غير الزرع والشجر لم يضمن مالكها ما أتلفته ليلاً كان أو نهاراً ما لم تكن يده عليها، وحكي عن شريح أنه قضى في شاة وقعت في غزل حائك ليلاً بالضمان على صاحبها وقرأ (إذ نفشت فيه غنم القوم) قال والنفش لا يكون إلا بالليل وعن الثوري يضمن وإن كان نهاراً لنفريطه بإرسالها.
ولنا قول النبي صلى الله عليه (العجماء جرحها جبار) متفق عليه أي هدر وأما الآية فالنفش هو الرعي بالليل وكان هذا في الحرث الذي تفسده البهائم بالرعي طبعاً وتدعوها نفسها إلى أكله بخلاف غيره فلا يصح قياس غير عليه (فصل) إذا استعار بهيمة فأتلفت شيئاً وهي في يد المستعير فضمانه عليه سواء كان المتلف لمالكها أو لغيره لأن ضمانه يجب باليد واليد للمستعير، وإن كانت البهيمة في يد الراعي فأتلفت زرعاً أو شجراً فالضمان على الراعي دون المالك لأن إتلاف ذلك في النهار لا يضمن إلا بثبوت اليد عليها واليد للراعي دون المالك فضمن كالمستعير، وإن كان الزرع للمالك وكان ليلاً ضمن أيضاً لأن ضمان اليد أقوى بدليل أنه يضمن في الليل والنهار جميعا (مسألة) (ومن صال عليه آدمي أو غيره فقتله دفعاً عن نفسه لم يضمنه لأنه قتله بالدفع الجائز فلم يجب ضمانه فإن كان الصائل بهيمة فلم يمكنه دفعها إلا بقتلها جاز له قتلها إجماعاً ولا يضمنها إذا كانت لغيره وهذا قول مالك والشافعي واسحاق وقال أبو حنيفة يضمنها لأنه أتلف مال غيره لا حياء نفسه فضمنه كالمضطر إذا أكل طعام غيره وكذلك الخلاف في غير المكلف من الآدمين كالصبي والمجنون يجوز قتله ويضمنه لأنه لا يملك إباحة نفسه ولذلك لو ارتد لم يقتل ولنا أنه قتله بالدفع الجائز فلم يضمنه كالعبد ولأنه حيوان جاز إتلافه فلم يضمنه كالآدمي المكلف ولانه
__________
(1) كذا في الاصل

(5/455)


قتله لدفع شره فاشبه وذلك أنه إذا قتله لدفع شره كان الصائل هو القاتل لنفسه فأشبه مالو نصب حربة في طريقه فقذف نفسه عليها فمات بها وفارق المضطر فإن الطعام لم يلجئه إلى إتلافه ولم يصدر منه ما يزيل عصمته ولهذا لو قتله لصياله لم يضمنه ولو قتله ليأكله في المخمصة وجب عليه الضمان وغير المكلف كالمكلف في هذا وقولهم لا يملك إباحة نفسه قلنا: والمكلف لا يملك إباحة نفسه ولو قال أبحت دمي لم يبح مع أنه إذا صال فقد أبيح دمه بفعله فلم يضمنه كالمكلف (مسألة) (وإن اصطدمت سفينتان فغرقتا ضمن كل واحد منهما سفينة الآخر وما فيها) إذا اصطدمت سفينتان متساويتان كاللتين في بحر أو ماء واقف فإن كان القيمان مفرطين ضمن كل واحد منهما سفينة الآخر بما فيها من نفس ومال كالفارسين إذا تصادما وإن لم يكونا مفرطين فلا ضمان عليهما، وقال الشافعي: يضمن في أحد الوجهين لأنهما في أيديهما فضمنا كما لو إصطدما فارسان لغلبة الفرسين لهما ولنا أن الملاحين لا يسيران السفينتين بفعلهما ولا يمكنهما ضبطهما في الغالب ولا الإحتراز من ذلك فأشبه الصاعقة إذا نزلت فاحرقت سفينة ويخالف الفرسين فإنه يمكن ضبطهما والإحتراز من طردهما وإن كان أحدهما مفرطاً وحده ضمن وحده، وإن اختلفا في تفريط القيم ولا بينة فالقول قوله مع يمينه لأن الأصل عدمه وهو أمين أشبه المودع وعند الشافعي أنهما إذا كانا مفرطين فعلى كل واحد من القيمين ضمان نصف سفينته ونصف سفينة صاحبه وقال مثل ذلك في الفارسين وسنذكره إن شاء الله تعالى والتفريط أن يكون قادراً على ضبطها أوردها عن الأخرى فلم يفعل أو أمكنه أن يعد لها إلى ناحية أخرى فلم يفعل أو لم يكمل آلتها من الرجال والحبال وغيرهما (مسألة) (وإن كانت إحداهما منحدرة فعلى صاحبها ضمان المصعدة إلا أن يكون عليه ريح فلم يقدر على ضبطها) متى كان قيم المنحدرة مفرطاً فعليه ضمان المصعدة لانها تنحط عليها من علو فيكون ذلك سبباً لغرقها فتزل المنحدرة بمنزلة السائر والمصعدة منزلة الواقف إذا اصطدما، وإن غرقتا جميعاً فلا شئ على المصعد وعلى المنحدر قيمة المصعدة أو أرش ما تقصت إن لم تتلف كلها إلا أن يكون التفريط من
المصعد بأن يمكنه العدول بسفينته والمنحدر غير قادر ولا مفرط فيكون الضمان على المصعد، وإن لم يكن من واحد منهما تفريط لكن هاجت ريح أو كان الماء شديد الجرية فلم يمكنه ضبطها فلا ضمان عليه لأنه لايدخل في وسعه (ولا يكلف الله لفسا إلا وسعها) فإن كانت إحدى السفينتين واقفة

(5/456)


والاخرى سائرة فلا شئ على الواقفة وعلى السائرة ضمان الوافقة إن كان القيم مفرطاً، فلا ضمان عليه إذا لم يفرط على ما ذكرنا.
(فصل) فإن خيف على السفينة الغرق فألقى بعض الركبان متاعه لتخف وتسلم من الغرق لم يضمنه أحد لأنه أتلف متاع نفسه بأختياره لصلاحه وصلاح غيره، وإن ألقى متاع غيره بغير إذنه ضمنه وحده وإن قال لغيره إلق متاعك فقبل منه لم يضمنه لأنه لم يلتزم ضمانه، وإن قال إلقه وأنا ضامن له أو علي قيمته لزم ضمانه لأنه أتلف ماله بعوض لمصحلة فوجب له العوض على من التزمه كما لو قال أعتق عبدك وعلي ثمنه.
وإن قال إلقه وعلي وعلى ركاب السفينة ضمانه فألقاه ففيه وجهان (أحدهما) يلزمه ضمانه وحده ذكره أبو بكر وهو نص الشافعي لأنه التزم ضمان جميعه فلزمه ما إلتزمه، وقال القاضي إن كان ضمان إشتراك مثل أن يقول نحن نضمن لك أوقال على كل واحد منا ضمان قسطه أو ربع متاعك لم يلزمه إلا ما يخصه من الضمان وهذا قول بعض أصحاب الشافعي لأنه لم يضمن إلا حصته وإنما أخبر عن الباقين بالضمان فسكتوا وسكوتهم ليس بضمان، وإن الترم ضمان الجميع وأخبر عن كل واحد منهم بمثل ذلك لزمه ضمان الكل لأنه ضمن الكل، وإن قال إلقه على أن أضمنه لكل أنا وركبان السفينة فقد أذنوا لي في ذلك فأنكروا الإذن فهو ضامن للجميع وإن قال إلقي متاعي وتضمنه؟ فقال نعم ضمنه له وان قال ألق متاعك وعلي ضمان نصفه وعلى أخي ضمان ما بقي فألقاه فعليه ضمان النصف وحده ولا شئ على الآخر لأنه لم يضمن والله أعلم.
(فصل) إذا خرق سفينة فغرقت بما فيها وكان عمداً وهو مما يغرقها غالباً ويهلك من فيها لكونهم في اللجة أو لعدم معرفتهم بالسياحة فعليه القصاص إن قتل من يجب القصاص بقتله وعليه ضمان السفينة بما قفيها من مال ونفس وإن كان خطأ فعليه ضمان العبيد ودية الأحرار على عاقلته وإن كان عمد خطأ
مثل إن أخذ السفينة ليصلح موضعاً فقلع لوحا أو يصلح مسماراً فنقب موضعاً فهو عمدا لخطأ ذكره القاضي وهو مذهب الشافعي، والصحيح أن هذا خطأ محض لأنه قصد فعلا مباحاً فأفضى إلى التلف لما لم يرده فأشبه مالو رمى صيداً فأصاب آدميا فقتله ولكن إن قصد قلع اللوح في موضع الغالب أنه لا يتلفها فأتلفها فهو عمد الخطأ فيه ما فيه (مسألة) (وإن كسر مزماراً أو طنبوراً أو صليباً لم يضمنه) وقال الشافعي إن كان ذلك إذا فصل يصلح لنفع مباح وإذا كسر لم يصلح لزمه ما بين قيمته مفصلاً ومكسوراً لأنه أتلف بالكسر ماله قيمة، وإن كان لا يصلح لمنفعة مباحة لم يضمن، وقال أبو حنيفة يضمن.

(5/457)


ولنا أنه لا يحل بيعه فلم يضمنه كالميتة والدليل على أنه لا يحل بيعه قول النبي صلى الله عليه وسلم (إن الله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام) متفق عليه، وقال عليه الصلاة والسلام (بعثت بمحق القينات والمعازف) (مسألة) (وان كسر آنية ذهب أو فضة لم يضمنها) وحكى أبو الخطاب رواية أخرى عن أحمد أنه يضمن فان منها نقل عنه فيمن هشم على غيره ابريق فضة عليه قيمته يصوغه كما كان، فقيل له أليس قد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن اتخاذها فسكت، والصحيح أنه لا يضمن نص عليه في رواية المروذي فيمن كسر إبريق فضة لا ضمان عليه لأنه أتلف ما ليس بمباح فلم يضمنه كالميتة، ورواية منها تدل على أنه رجع عن قوله ذلك لكونه سكت حين ذكرا لسائل النهي عن وليس في رواية منها أنه قال يصوغه ولا تحل صناعته فكيف تجب؟ (مسألة) (وان كسر إناء خمر لم يضمنه في أصح الروايتين) لما روي عن ابن عمر قال أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم إن آنية بمدية وهي الشفرة فأتيته بها فأرسل بها فأرهفت ثم أعطانيها وقال (إغد علي بها) ففعلت فخرج بأصحابه إلى أسواق المدينة وفيها زفاق الخمر قد جلبت من الشام فأخذ المدية مني فشق ما كان من تلك الزقاق بحضرته كلها وأمر أصحابه الذين
كانوا معه أن يمضوا معي ويعاونوني وأمرني أن آتي الأسواق كلها فلا أجد فيها زق خمر الاشققته رواه أحمد، وروى عن أنس قال كنت أسقي أبا طلحة وأبي بن كعب وأبا عبيدة شراباً من فضيخ فأنانا آت فقال أن الخمر قد حرمت فقال أبو طلحة قم يا أنس إلى هذه الدنان فاكسرها وهذا يدل على سقوط حرمتها وإباحة إتلافها فلا يضمنها كسائر المباحات (والثانية) يضمنها إذا كان ينتفع بها في غيره لأنها مال يمكن الانتفاع به ويحل بيعه فيضمنها كما لو لم يكن فيها خمرولان جعل الخمر فيها لا يفتضي سقوط ضمانها كالبيت الذي جعل مخزمنا للخمر (فصل) إذا غصب أرضاً فحكمها في جواز دخول غيره إليها حكمها قبل الغصب فإن كانت محوطة كالدار والبستان المحوط عليه لم يجز دخولها لغير مالكها إلا بإذنه لأن ملك مالكها لم يزل عنها فلم يجز دخولها بغير إذنه كما لو كانت في يده.
قال أحمد: في الضيعة تصير غيضة فيها سمك لا يصيد فيها أحد إلا بإذنهم، وإن كانت صحراء جاز الدخول فيها ورعي حشيشها.
قال أحمد: لا بأس برعي الكلأ في الأرض المغصوبة وذلك لأن الكلأ لا يملك بملك الأرض ويتخرج في كل واحدة من الصورتين مثل حكم الأخرى قياساً لها عليها ونقل عنه المرذوي في دار طوابيقها غصب لا يدخل على والدية لأن دخوله عليهما تصرف في الطوابيق المغصوبة ونقل عنه الفضل بن عبد الصمد

(5/458)


في رجل له إخوة في أرض غصب يزورهم ويراودهم على الخروج فإن أجابوه وإلا لم يقم معهم ولا يدع زيارتهم يعني يزورهم يأتي باب دارهم ويتعرف أخبارهم ويسلم عليهم ويكلمهم ولا يدخل إليهم ونقل المرذوي عنه أكره المشي على العبارة التي بجري فيها الماء وذلك لأن العبارة وضعت لعبور الماء لا للمشي عليها، قال أحمد لا يدفن في الأرض المغصوبة لما في ذلك من التصرف في أرضهم بغير إذنهم وقال أحمد فيمن إبتاع طعاماً من موضع غصب ثم علم رجع إلى الموضع الذي أخذه منه فرده وروي عنه أنه قال يطرحه يعني على من إبتاعه منه وذلك لأن قعوده فيه حرام منهي عنه فكان البيع فيه محرما ولان الشراء ممن يقعد في الموضع المحرم يحملهم على العقود والبيع فيه وترك الشراء منهم يمنعهم القعود فقال لا يبتاع من الخانات التي في الطرق إلا أن لا يجد غيره كان بمنزلة المضطر، وقال في السلطان إذا بنى
داراً وجمع الناس إليها أكره الشراء منها.
قال شيخنا وهذا على سيبل الورع إن شاء الله تعالى لما فيه من الإعانة على فعل المحرم والظاهر صحة البيع لأنه إذا صحت الصلاة في الدار المغصوبة في رواية وهي عبادة فما ليس بعبادة أولى وقال فيمن غصب ضيعه وغصبت من الغاصب وأراد الثاني ردها جمع بينهما يعني بين مالكها والغاصب الأول وإن مات بعضهم جمع ورثته إنما قال هذا احتياطاً خوف التبعة من الغاصب الأول لأنه ربما طالب ربها فادعاها ملسكا باليد وإلا فالواجب ردها على مالكها وقد صرح بهذا في رواية عبد الله في رجل استودع رجلاً ألفاً فجاء رجل إلى المستودع فقال إن فلاناً غصبني الألف الذي استودعكه وصح ذلك عند المستودع فإن لم يخف التبعة وهو أن يرجعوا به عليه دفعه إليه باب الشفعة وهي استحقاق الإنسان إنتزاع حصة شريكه من يد مشتريها وهي ثابتة بالسنة والإجماع أما السنة فما روى جابر قال قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشفعة فيما لم يقسم فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة متفق عليه ولمسلم قال قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشفعة في كل ما لم يقسم ربعة أو حائط لا يحل له أن يبيع حتى يستأذن شريكه فإن شاء أخذ وإن شاء ترك فإن باع ولم يستأذنه فهو أحق به وللبخاري: إنما جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم الشفعة فيما لم يقسم فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة، وأما الإجماع

(5/459)


فقال ابن المنذر أجمع أهل العلم على إثبات الشفعة للشريك الذي لم يقاسم فيما بيع من أرض أو دار أو حائط والمعنى في ذلك أن أحد الشريكين إذا أراد أن يبيع نصيبه وتمكن من بيعه لشريكه وتخليصه مما كان بصدده من توقع الخلاص والإستخلاص فالذي يقتضيه حسن العشرة أن يبيعه منه ليصل إلى غرضه من بيع نصيبه وتخليص شريكه من الضرر فإذا لم يفعل ذلك وباعه لأجنبي سلط الشرع الشريك على صرف ذلك إلى نفسه.
قال شيخنا ولا نعلم احدا خالف هذا إلا الأصم فإنه قال لا تثبت الشفعة فإن في ذلك إضراراً بأرباب الأملاك فإن المشتري إذا علم أنه يؤخذ منه إذا اشتراه لم يبتعه ويتقاعد الشريك عن الشراء فيستضر المالك وهذا الذي ذكره ليس بشئ لمخالفته الأحاديث الصحيحة والإجماع المنعقد قبله، والجواب عما ذكره من وجهين (أحدهما) أنا نشاهد الشركاء يبيعون ولا يعدم من يشتري منهم غير شركائهم ولم يمنعهم
إستحقاق الشفعة من الشراء (الثاني) أنه يمكنه إذا لحقته بذلك مشقة أن يقاسم فتسقط الشفعة، وإشتقاقها من الشفع وهو الزوج فإن الشفيع كان نصيبه منفرداً في ملكه فبالشفعة يضم المبيع إلى ملكه فيشفعه به وقيل إشتقاقها من الزيادة لأن الشفيع يزيد المبيع في ملكه (مسألة) ولا يحل الإحتيال على إسقاطها فإن فعل لم يسقط نص عليه أحمد في رواية اسماعيل بن سعيد وقد سأله عن الحيلة في إبطال الشفعة فقال لا يجوز شئ من الحيل في ذلك ولا في إبطال حق مسلم

(5/460)


وبهذا قال أبو أيوب وأبو خيثمة وابن أبي شيبة وأبو إسحاق الجوزجاني، وقال عبد الله بن عمر من يخدع الله يخدعه، ومعنى الحيلة أن يظهرو افي البيع شيئاً لا يؤخذ بالشفعة معه ويتواطئون في الباطن على خلافه مثل أن يشتري شيئاً يساوي عشرة دنانير بألف درهم ثم يقضيه عنها عشرة دنانير أو يشتريه بمائة دينار ويقضيه عنها مائة درهم أو يشتري البائع من المشتري عبداً قيمته مائة بألف في ذمته ثم يبيعه الشقص بالألف أو يشتري شقصاً بألف ثم يبرئه البائع من تسعمائة أو يشتري جزءاً من الشقص بمائة ثم يهب له البائع باقيه أو يهب الشقص للمشتري ويهب المشتري له الثمن أو يعقد البيع بثمن مجهول المقدار كحفنة قراضة أو جوهرة معينه أو سلعة غير موصوفة أو بمائة درهم ولؤلؤة وأشباء هذا فإن وقع ذلك من غير تحيل سقطت الشفعة، وإن تحيلا به على إسقاط الشفعة لم تسقط ويأخذ الشفيع الشقص في الصورة الأولى بعشرة دنانير أو قيمتها من الدراهم وفي الثانية بمائة درهم أو قيمتها ذهباً وفي الثالثة بقيمة العبد المبيع وفي الرابعة بالباقي بعد الإبراء وفي الخامسة يأخذ الجزء المبيع من الشقص بقسطه من الثمن ويحتمل أن يأخذ الشقص كله بجميع الثمن لأنه إنما وهبه بقية الشقص عوضاً عن الثمن الذي اشترى به جزءاً من الشقص وفي السادسة يأخذ بالثمن الموهوب وفي سائر الصور المجهول ثمنها يأخذه بمثل الثمن أو قيمته إن لم يكن مثلياً إذا كان الثمن موجوداً فإن لم يوجد دفع إليه قيمة الشقص لأن الأغلب وقوع العقد على الأشياء بقيمتها وقال أصحاب الرأي والشافعي يجوز ذلك كله وتسقط به الشفعة لأنه لم يأخذ بما وقع البيع به فلم يجز كما لو يكن حيلة

(5/461)


ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم (من أدخل فرساً بين فرسين ولا يأمن أن يسبق فليس بقماروان أمن أن يسبق فهو قمار) رواه أبو داود وغيره فجعل إدخال الفرس المحل قماراً في الموضع الذي يقصد به إباحة إخراج كل واحد من المتسابقين جعلا مع عدم معنى المحال فيه وهو كونه بحال يحتمل أن يأخذ سبقهما وهذا يل على إبطال كل حيلة لم يقصد بها الااباحة المحرم مع عدم المعنى فيها فاستدل أصحابنا بما روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (لا ترتكبوا ما إرتكب اليهود فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل) وقال النبي صلى الله عليه وسلم (لعن الله اليهود إن الله لما حرم عليهم شحومها جملوه ثم باعوه وأكلوا ثمنه) متفق عليه ولأن الله تعالى ذم المخادعين له بقوله (يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون) والحيل مخادعة وقد مسخ الله تعالى الذين إعتدوا في السبت قردة بحيلهم فإنه روي عنهم أنهم كانوا ينصبون شباكهم يوم الجمعة ومنهم من يحفر جباباً ويرسل الماء إليها يوم الجمعة فإذا جاءت الحيتان يوم السبت وقعت في الشباك والجباب فيدعوها إلى ليلة الاحد فيأخذونها ويقولون ما إصطدنا يوم السبت شيئاً فمسخهم الله تعالى بحيلتهم وقال تعالى (فجعلناها نكالا لما بين يديها وما خلفها وموعظة للمتقين) قيل يعني به أمة محمد صلى الله عليه وسلم أي ليتعظ بذلك أمة محمد صلى الله عليه وسلم فيجتنبوا مثل فعل المعتدين ولان الحية خديعة وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لا تحل الخديعة لمسلم ولان الشفعة وجعت لدفع للضرر فلو سقطت بالتحيل للحق الضرر فلم تسقط كما لو أسقطها المشتري عنه بالوقف

(5/462)


والبيع، وفارق ما لم يقصد به التحيل لأنه لا خداع فيه ولا قصد به إبطال حق والأعمال بالنيات، فإن اختلفا هل وقع شئ من هذا حيلة أو لا فالقول قول المشتري مع يمينه لأنه أعلم بنيته وحاله، إذا ثبت هذا فإن الغرر في الصورتين الأوليين على المشتري لشرائه ما يساوي عشرة بمائة وما يساوي مائة درهم بمائة دينار وأشهد على نفسه أن عليه ألفاً فربما طالبه بها فلزمه في ظاهر الحكم، وفي الثالثة الغرر على البائع لأنه اشترى عبداً يساوي مائة بألف، وفي الرابعة الغرر على المشتري لأنه اشترى شقصاً قيمته مائة بألف وكذلك في الخامسة لأنه اشترى بعض الشقص بثمن جميعه، وفي السادسة على البادئ منهما بالهبة لأنه قد لا يهب له الآخر شيئاً فإن خالف أحدهما ما تواطآ عليه فطالب صاحبه بما أظهره لزمه
في ظاهر الحكم لأنه عقد البيع مع صاحبه بذلك مختاراً فأما ما بينه وبين الله تعالى فلا يحل لمن غرصاحبه الأخذ بخلاف ما تواطأ عليه لأن صاحبه إنما رضي بالعقد للتواطؤ فمع فواته لا يتحقق الرضى به (مسألة) (ولا تثبت إلا بشروط خمسة أحدها أن يكون مبيعاً فلا شفعة فيما انتقل بغير عوض بحال) كالهبة بغير ثواب والصدقة والوصية والأرث فلا شفعة فيه في قول الأكثرين منهم مالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحاب الرأي إلا أنه حكي عن مالك رواية أخرى أن الشفعة تجب في المنتقل بهبة أو صدقة ويأخذه الشفيع بقيمته وحكي عن ابن أبي ليلى لأن الشفعة تثبت لازالة ضرر الشركة وهو موجود في الشركة كيفما كان ولأن الضرر اللاحق بالمتهب دون ضرر المشتري لان إقدام المشتري على

(5/463)


شراء الشقص وبذل ماله دليل حاجته إليه فانتزاعه منه أعظم ضرراً من أخذه ممن لم يوجد منه دليل الحاجة إليه ولنا أنه انتقل بغير عوض أشبه الميراث ولأن محل الوفاق هو البيع والخبر ورد فيه وليس غيره في معناه لأن الشفيع يأخذه ومن المشتري بمثل السبب الذي انتقل اليه به ولا يمكن هذا في غيره ولأن الشفيع يأخذ الشقص بثمنه لا يقيمته وفي غيره يأخذه بقيمته فافترقا (مسألة) (ولا تجب فيما عوضه غير المال كالصداق وعوض الخلع والصلح عن دم العمد في أحد الوجهين) والمستقل بعوض على ضربين أحدهما ما عوضه المال كالبيع ففيه الشفعة بغير خلاف وكذلك كل ما جرى مجراه كالصلح بمعنى البيع والصلح عن الجناية الموجبة للمال والهبة والمشروط فيها ثواب معلوم لأن ذلك بيع يثبت فيه أحكام البيع وهذا منها وبه يقول مالك والشافعي وأصحاب الرأي إلا أن أبا حنيفة وأصحابه قالوا لا تثبت الشفعة في الهبة المشروط فيها ثواب حتى يتقابضا لأن الهبة لا تثبت إلا بالقبض فأشبهت البيع بشرط الخيار.
ولنا أنه تملكها بعوض هو مال فلم يفتقر إلى القبض في إستحقاق الشفعة كالبيع ولا يصح ما قالوه من إعتبار لفظ الهبة لأن العوض صرف اللفظ عن مقتضاه وجعله عبارة عن البيع خاصة عندهم فإنه ينعقد بها النكاح الذي لا تصح الهبة فيه بالإتفاق (الضرب الثاني) ما إنتقل بعوض غير المال نحو أن

(5/464)


يجعل الشقص مهراً أو عوضاً في الخلع أوفي الصلح عن دم العمد فلا شقعة فيه في ظاهر كلام الخرقي لأنه لم يتعرض في جميع مسائله لغير البيع اختاره أبو بكر وبه قال الحسن الشعبي وأبو ثور وأصحاب الرأي حكاه عنهم ابن المنذر واختاره، ووقال ابن حامد تجب فيه الشفعة وبه قال ابن شبرمة والحارث العكلي ومالك وابن أبي ليلى والشافعي لأنه عقار مملوك بعقد معاوضة أشبه البيع.
ووجه الأول أنه مملوك بغير مال أشبه الموهوب والموروث ولأنه يمتنع أخذه بمهر المثل لاننا لو أوجبنا مهر المثل لقومنا البضع على الأجانب وأضررنا بالشفيع لأن مهر المثل يتفاوت مع المسمى لتسامح الناس فيه في العادة ويمتنع أخذه بالقيمة لأنها ليست عوض الشقص فلا يجوز الاخذ بها كالموروث فيتعذر أخذه، وفارق البيع فإنه أمكن الأخذ بعوضه، فإن قلنا يؤخذ بالشفعة فطلق الزوج قبل الدخول بعد عفو الشفيع رجع بنصف ما أصدقها لأنه موجود في يدها يصفته وإن طلق بعد أخذ الشفيع رجع بنصف قيمته لأن ملكها زال عنه فهو كما لو باعته وإن طلق عقبل علم الشفيع ثم علم ففيه وجهان (أحدهما) يقدم حق الشفيع لأنه ثبت بالنكاح السابق علي الطلاق فهو أسبق (والثاني) حق الزوج مقدم لأنه ثبت بالنص والإجماع والشفعة ههنا لانص فيها ولا إجماع.
فأما إن عفا الشفيع ثم طلق الزوج فرجع في نصف الشقص لم يستحق الشفيع الأخذ منه لأنه عاد إلى المالك لزوال العقد فلم يستحق به الشفيع كالرد بالعيب وكذلك كل فسخ يرجع به الشقص إلى العاقد كرده بعيب أو مقايلة أو اختلاف المتبايعين أورده لغبن

(5/465)


وقد ذكرنا في الإقالة رواية أخرى أنها بيع فثبت فيها الشفعة وهو قول أبي حنيفة، فعلى هذا لو لم يعلم الشفيع حتى تقايلا فله أن يأخذ من أيهما شاء، وان عفا عن الشفعة في البيع ثقايلا فله الأخذ بها (فصل) فإذا جنى جنايتين عمداً وخطأ فصالحه منهما على شقص فالشفعة في نصف الشقص دون باقيه وبه قال أبو يوسف ومحمد وهذا على الرواية التي نقول فيها إن موجب العمد القصاص عينا وإن قلنا موجبه أحد شيئين وجبت الشفعة في الجميع، وقال أبو حنيفة لا شفعة في الجميع لأن الأخذ بها تبعيض للصفقة على المشتري
ولنا أن ما قابل الخطأ عوض عن مال فوجبت فيه الشفعة كما لو انفرد ولأن الصفقة جمعت ما يجب فيه وما لا يجب فوجبت فيما يجب دون الآخر كما لو اشترى شقصا وسفيا، وبهذا الأصل يبطل ما ذكره قال شيخنا وقول أبي حنيفة أقيس لأن في الشفعة تبعيض الشقص على المشتري وربما لا يبقى منه إلا مالا نفع فيه فأشبه مالو أراد أخذ بعضه مع عفو صاحبه بخلاف مسألة الشقص والسيف وأما إذا قلنا إن الواجب أحد شيئين فباختياره الصلح سقط القصاص وتعينت الدية فكان الجميع عوضاً عن مال.
(مسألة) (الثاني أن يكون شقصاً مشاعاً من عقار فيقسم فأما المقسوم المحدود فلا شفعة لمجاوره فيه)

(5/466)


وبه قال وعمر بن عبد العزيز وابن المسيب وسليمان بن يسار والزهري ويحيى الانصاري وأبو الزناد وربيعة ومالك والاوزاعي والشافعي واسحاق وأبو ثور وابن المنذر وقال ابن شبرمة والثوري وابن أبي ليلى واصحاب الرأي الشفعة بالشركة ثم بالشركة في الطريق ثم بالجواز، قال أبو حنيفة يقدم الشريك فإن لم يكن وكان الطريق مشتركاً كالدرب لا ينفذ تثبت الشفعة لجميع أهل الدرب الأقرب فالأقرب فإن لم يأخذوا ثبتت للملاصق من درب آخر خاصة وقال العنبري وسوار تثبت بالشركة في الملك وبالشركة في الطريق واحتجوا بما روي أبو رافع قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (الجار أحق بصقبه) رواه البخاري وأبو داود وروى الحسن عن سمرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (جاز الدار أحق بالدار) رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح وروى الترمذي في حديث جابر (الجار أحق بشفعته بداره ينتظر به إذا كان غائباً إذا كان طريقهما واحدا) وقال حديث حسن ولأنه إيصال ملك يدوم ويتأبد فثبتت الشفعة به كالشركة.
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم (الشفعة فيما لم يقسم فإذا وتعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة) رواه البخاري وروي ابن جريج عن الزهري عن سعيد بن المسيب أو عن أبي سلعة أو أو عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إذا قسمت الأرض وحدت فلا شفعة فيها) رواه
أبو داود ولأن الشفعة تبتت في موضع الوفاق على خلاف الأصل لمعنى معدوم في محل النزاع

(5/467)


فلا تثبت فيه، وبيان إنتفاء المعنى هو أن الشريك ربما دخل عليه شريك فيتأذى به فتدعوه الحاجة إلى مقاسمته أو يطلب الداخل المقاسمة فيدخل الضرر على الشريك بنقص قيمة ملكه وما يحتاج إلى إحداثه من المرافق، وهذا لا يوجد في المقسوم، فأما حديث أبي رافع فليس بصريح في الشفعة فإن الصقب القرب يقال بالسين والصاد قال الشاعر * كوفيه نازح محلتها لا أمم دارها ولا صقب * فيحتمل أنه أراد بإحسان جاره وصلته وعيادته ونحو ذلك، وخبرنا صحيح صريح فيقدم وبقية الأحاديث في أسانيدها مقال فحديث سمرة يرويه عن الحسن ولم يسمع منه إلا حديث العقيقة قاله أصحاب الحديث قال إبن المنذر الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديث جابر الذي رويناه وما عداه من الأحاديث فيها مقال، على أنه يحتمل أنه أراد بالجار الشريك فإنه جار أيضاً وتسمى الضرتان جارتين لا شتراكهما في الزوج، قال حمل بن مالك: كنت بين جارتين لي فضربت إحداهما الاخرى بمسطح فقتلها وجنينها، وهذا يمكن في تأويل حديث أبي رافع أيضاً.
إذا ثبت هذا فلا فرق بين كون الطريق مفردة أو مشتركة، قال أحمد في رواية ابن القاسم في رجل له أرض تشرب هي وأرض غيره من نهر واحد فلا شفعة له من أجل الشرب إذا وقعت الحدود فلا شفعة.
وقال في رواية أبي طالب وعبد الله ومثنى قيمن لا يرى الشفعة بالجوار وقدم إلى الحاكم فأنكر لم يحلف إنما هو اختيار وقد اختلف الناس فيه،

(5/468)


قال القاضي إنما قال هذا لأن يمين المنكر ههنا على اقطع والبت ومسائل الإجتهاد مظنونة فلا يقطع ببطلان مذهب المخالف ويمكن أن يحمل كلام أحمد ههنا على الورع لاعلى التحريم لأنه لم يحكم ببطلان مذهب المخالف ويجور المشترى الإمتناع به من تسليم المبيع فيما بينه وبنى الله تعالى (فصل) ولا تثبت الشفعة فيما لا تجب قسمته كالحمام الصغير والبئر والطرق الضيقة والرحى الصغيرة والعضادة والعراص الضيقة في إحدى الروايتين عن أحمد وبه قال يحيى الانصاري وسعيد وربيعة
والشافعي.
والثانية فيها الشفعة وهو قول أبي حنيفة والثوري وابن شريح، وعن مالك كالروايتين لقوله صلى الله عليه وسلم (الشفعة فيما لم يقسم) وسائر النصوص العامة ولأن الشفعة تثبت لإزالة ضرر المشاركة، والضرر في هذا النوع أكثر لأنه يتأبد ضرره والأول ظاهر المذهب لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (لا شفعة في فناء ولا طريق ولا منقبة) والمقنبة الطريق الضيق، رواه أبو الخطاب في رءوس المسائل وروي عن عثمان رضي الله عنه أنه قال: لا شفعة في بئر ولا فحل، ولأن إثبات الشفعة في هذا يضر بالبائع لأنه لا يمكنه أن يتخلص من إثبات الشفعة في نصيبه بالقسمة وقد يمتنع المشتري لأجل الشفيع فيتضرر البائع وقد يمتنع البيع فتسقط الشفعة فيؤدي إثباتها إلى نفيها ويمكن أن يقال أن الشفعة إنما تثبت لدفع الضرر الذي يلحقه بالمقاسمة لما يحتاج إليه من إحداث المرافق الخاصة ولا يوجد هذا فيما لا ينقسم، قولهم أن الضرر ههنا أكثر لتأبده قلنا إلا أن الضرر في محل الوفاق من

(5/469)


غير جنس هذا الضررو هو ضرر الحاجة إلى إحداث المرافق الخاصة فلا يمكن التعدية وفي الشفعة ههنا ضرر غير موجود في محل الوفاق وهو ما ذكرناه فتعذر الإلحاق، فأما ما أمكن قسمته مما ذكرنا كالحمام الكبير الواسع بحيث إذا قسم لا يستضر بالقسمة وأمكن الإنتفاع به حماماً فإن الشفعة تجب فيه وكذلك البئر والدور والعضائد متى أمكن أن يحصل من ذلك شيئان كالبئر يقسم بئرين يرتقى الماء منهما وجبت الشفعة أيضاً لأنه يمكن القسمة وهكذا الحرى إن كان لها حصن يمكن قسمته بحيث يحصل الحجران في أحد القسمين أو كان فيها أربعة أحجار دائرة يمكن أن يفرد كل واحد منهما بحجرين وجبت الشفعة وإن لم يكن إلا أن يحصل لكل واحد منهما مالا يتمكن به من إبقائها رحى لم تجب الشفعة فأما الطريق فإن الدار إذا بيعت ولها طريق في شارع أو درب نافذ فلا شفعة في الدار ولا الطريق لأنه لا شركة لأحد في ذلك وإن كان الطريق في درب غير نافذ ولا طريق، للدارسوى ذلك الطريق فلا شعفة أيضاً لأن إثبات ذلك يضر بالمشتري لأن الدار تبقى بلا طريق، وإن كان للدرب باب آخر يستطرق منه أو كان لها موضع يفتح منه باب لها إلى الطريق النافذ نظرنا في الطريق المبيع مع الدار فإن كان ممرا لاتمكن قسمته فلا شفعة فيه وإن كان يمكن قسمته وجبت الشفعة فيه لأنه
أرض مشتركة تحتمل القسمة فوجبت فيما الشفعة كغير الطريق ويحتمل أن لا تجب الشفعة فيها بحال

(5/470)


لأن الضرر يلحق المشتري بتحويل الطريق الى مكان آخر مع ما في الأخذ بالشفعة من تفريق صفقته وأخذ بعض المبيع من العقار دون بعض فلم يجزكما لو كان الشريك في الطريق شريكاً في الدار فأراد أخذ الطريق وحدها، والقول في دهليز الدار وصحنه كالقول في الطريق المملوك، وإن كان نصيب المشتري من الطريق أكثر من حاجته فذكر القاضي أن الشفعة تجب في الزائد بكل حال لوجود المقتضي وعدم المانع، والصحيح أنه لا شفعة فيه لأن في ثبوتها تبعيض صفقة المشتري ولا يخلو من الضرر (مسألة) (ولا تجب فيما ليس بعقار كالشجر والحيوان والبناء المفرد في إحدى الروايتين إلا أن الغراس والبناء يؤخذ تبعاً للأرض ولا يؤخذ الزرع والثمرة تبعاً في أحد الوجهين) وجملة ذلك أن من شروط وجوب الشفعة أن يكون المبيع أرضاً لأنها التي تبقى على الدوام ويدوم ضررها وغيرها ينقسم قسمين (أحدهما) تثبت فيه الشفعة تبعاً للأرض وهو البناء والغراس يباع مع الأرض فإنه يؤخذ بالشفعة تبعاً بغير خلاف في المذهب ولا نعرف فيه بين من أثبت الشفعة خلافاً، وقد دل عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم وقضاؤه بالشفعة في كل شرك لم يقسم ربعة أو حائط وهذا يدخل فيه البناء والأشجار (القسم الثاني) مالا تثبت فيه الشفعة تبعاً ولا مفرداً وهو الزرع والثمرة الظاهرة ويباع مع الأرض فلا يؤخذ بالشفعة مع الأصل وهو قول الشافعي، وقال أبو حنيفة ومالك يؤخذ بالشفعة مع أصوله، وقد ذكر أصحابنا وجهاً مثل قولهما لأنه متصل بما فيه الشفعة فثبتت فيه الشفعة تبعاً كالبناء والغراس

(5/471)


ولنا أنه لا يدخل في البيع تبعاً فلا يؤخذ بالشفعة كقماش الدار وعكسه البتاء والغراس، يحقق ذلك أن الشفعة بيع في الحقيقة لكن الشارع جعل له سلطان الأخذ بغير رضى المشتري، فإن بيع الشجر وفيه ثمرة غير ظاهرة كالطلع غير المؤبر دخل في الشفعة لأنها تبع في البيع فأشبهت الغراس في الأرض فإن بيع ذلك مفرداً فلا شفعة فيه سواء كان ممن ينقل كالحيوان والثياب والسفن والحجارة والزرع
والثمار أولاً ينقل كالبناء والغراس إذا بيع مفرداً وبهذا قال الشافعي وأصحاب الرأي وروي عن الحسن والثوري والاوزاعي والعنبري وقتادة وربيعة واسحاق لا شفعة في المنقولات، واختلف فيه عن عطاء ومالك فقالا مرة كذلك ومرة قالا الشفعة في كل شئ حتى في الثوب، قال ابن أبي موسى وقد روي عن أبي عبد الله رواية أخرى أن الشفعة واجبة فيما لا ينقسم كالحجر والسيف والحيوان وما في معنى ذلك قال أبو الخطاب وعن أحمد أن الشفعة تجب في البناء والغراس وإن بيع منفرداً وهو قول مالك لعموم قوله عليه السلام (الشفعة فيما لم يقسم) ولأن الشفعة وجبت لدفع الضرر والضرر فيما لا ينقسم أبلغ منه فيما ينقسم وقد روى ابن أبي مليكة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (الشفعة في كل شئ) ولنا أن قول النبي صلى الله عليه وسلم (الشفعة فيما لم يقسم فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة) لا يتناول إلا ما ذكرناه وانما أراد مالا ينقسم من الأرض لقوله (فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق)

(5/472)


ولأن هذا مما لا ينافى ضرره على الدوام فلم تجب فيه الشفعة كصبرة الطعام وحديث ابن أبي مليكة مرسل ولم يرو في الكتب الموثوق بها والحكم في الغراف والدولاب والناعورة كالحكم في البناء، فأما إن بيعت الشجرة مع قرارها من الأرض مفردة عما يتخلها من الأرض فحكمها حكم مالا ينقسم من العقار فيه من الخلاف ما ذكرناه لأنه مما لا ينقسم ويحتمل أن لا تجب الشفعة فيها بحال لأن القرار تابع لها فإذا لم تجب الشفعة فيها مفردة لم تجب في تبعها وإن بيعت حصة من علودار مشترك وكان السقف الذي تحته لصاحب السفل فلا شفعة في العلو لأنه بناء مفردوان كان لصاحب العلو فكذلك لأنه بناء مفرد لانه لا ارض له فهو كما لو لم يكن السقف له ويحتمل ثبوت الشفعة فيه لأن له قراراً أشبه السفل (فصل) الشرط الثالث المطالبة بها على الفور ساعة يعلم نص عليه، وقال القاضي له طلبها في المجلس وإن طال فإن أخر الطلب سقطت شفعته) ظاهر المذهب أن حق الشفعة على الفور إن طالب بها ساعة يعلم بالبيع والابطلت نص عليه أحمد في رواية أبي طالب فقال الشفعة بالمواثبة ساعة يعلم وهو قول ابن شبرمة والبتي والاوزاعي وابي حنيفة والعنبري والشافعي في جديد قوله وعن أحمد رواية ثانية أن الشفعة على التراخي لا تسقط ما لم
يوجد منه ما يدل على الرضى بعفو أو مطالبة بقسمه ونحوه وهو قول مالك وقول الشافعي إلا أن مالكاً قال تنقطع بمضي سنة وعنه بمضي مدة يعلم أنه تارك لها لأن هذا الخيار لا ضرر في تراخيه فلم يسقط بالتأخير كحق القصاص، وبيان عدم الضرر أن النفع للمشتري بإستغلال المبيع فإن أحدث فيه عمارة من بناء أو غراس

(5/473)


فله قيمته وحكي عن ابن أبي ليلى والثوري أن الخيار مقدر بثلاثة أيام وهو أحد أقوال الشافعي لأن الثلاث حدبها خيار الشرط فصلحت حداً لهذا الخيار ولنا ماروى ابن السلماني عن أبيه عن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (الشفعة كحل العقال) رواه ابن ماجه وفي لفظ (الشفعة كنشطة العقال قيدت ثبت وإن تركت فاللوم على من تركها) وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ((الشفعة لمن واثبها) رواه الفقهاء في كتبهم ولأنه خيار لدفع الضرر عن المال فكان على الفور كخيار الرد بالعيب لأن إثباته على التراخي يضر المشتري لكونه لا يستقر ملكه على المبيع ويمنعه من التصرف بعمارة خشية أخذه منه ولا يندفع عنه الضرر بدفع قيمته لأن خسارتها في الغالب أكثر من قيمتها مع تعب قبله وبدنه فيها، والتحديد بثلاثة أيام تحكم لا دليل عليه، والأصل المقيس عليه ممنوع ثم هو باطل بخيار الرد العيب.
إذا تقرر هذا فقال ابن حامد يتقدر الخيار بالمجلس وهو قول القاضي وبه قال أبو حنيفة فمتى طالب في مجلس العلم ثبتت الشفعة وإن طال لأن المجلس كله في حكم حالة العقد بدليل أن القبض فيه لما يشترط فيه القبض كالقبض حالة العقد، وظاهر كلام أحمد انه لا يتقدر بالمجلس بل متى طالب عقيب عمله وإلا بطلت شفعته وهو ظاهر كلام الخرقي وقول الشافعي في الجديد لما ذكرنا من الخبر والمعنى، وما ذكروه يبطل بخيار الرد بالعيب، فعلى هذا متى أخر المطالبة عن وقت العلم لغير عذر بطلت شفعته وإن أخرها لعذر مثل أن أن لا يعلم أو يعلم ليلاً فيؤخر إلى الصبح أو لشدة جوع أو عطش حتى يأكل ويشرب أو أخرها لطهارة أو إغلاق

(5/474)


باب أو ليخرج من الحمام أو ليؤذن ويقيم ويأتي بالصلاة وسنتها أو ليشهدها في جماعة يخاف فوتها لم تبطل شفعته لأن العادة تقديم هذه الحوائج على غيرها فلا يكون الإشتغال بها رضي بترك الشفعة إلا أن يكون المشتري حاضراً عنده في هذه الأحوال فيمكنه مطالبته من غير اشتغاله عن اشتغاله فإن شفعته تبطل بتركه
المطالبة لأن هذا لا يشغله عنها ولا تشغله المطالبة عنه فأما مع غيبته فلافان العادة تقديم هذه الأشياء فلم يلزمه تأخيرها كما لو أمكنه أن يسرع في مشيه ويحرك دابته فلم يفعل ومضى على حب عادته لم تسقط شفعته لأنه طلب بحكم العادة، وإذا فرغ من حوائجه من مضى على حسب عادته إلى المشتري فاذالقيه بدأه بالسلام لأن ذلك الشنة لأن في الحديث (من بدأ بالكلام قبل السلام فلا تجيبوه ثم يطالب فإن قال بعد السلام بارك الله لك في صفقة يمينك أو دعا له بالمغفرة ونحو ذلك لم تبطل شفعته لأن ذلك يتصل بالسلام فهو من جملته والدعاء له بالبركة في الصفقة دعاء لنفسه لأن الشقص يرجع إليه فلان يكون ذلك رضا فإن إشتغل بكلام آخر أو سكت لغير حاجة بطلت شفعته لما قدمنا (مسألة) (إلا أن يعلم وهو غائب فيشهد على الطلب ثم إن أخر الطلب بعد الإشهاد مع إمكانه أو ترك الإشهاد أو لم يشهد لكن سار في طلبها فعلى وجهين) متى عليم الغائب بالبيع وقدر على الإشهاد على المطالبة فلم يفعل بطلت شفعته سواء قدر على التوكيل أو عجز عنه أو سار عقيب العلم أو أقام هذا ظاهر كلام أحمد في رواية أبي طالب وهو ظاهر قول الخرقي وهو وجه

(5/475)


للشافعي والوجه الآخر لا يحتاج إلى الإشهاد لأنه إذا ثبت عذره فالظاهر إنه ترك الشفعة لذلك فقبل قوله فيه ولنا أنه قد يترك الطلب للعذر وقد يتركه لغير وقد يسير لطلب الشفعة ويسير لغيره وقد قدر على أن يبين ذلك بالإشهاد فإذا لم يفعل سقطت شفعته كتارك الطلب مع الحضور وقال القاضي إن سار عقيب علمه إلى البلد الذي فيه المشتري من غيره إشهاد احتمل أن لا تبطل شفعته لأن ظاهر سيره أنه للطلب وهو قل أصحاب الرأي والعنبري وقول للشافعي وقال أصحاب الرأي له من الأجل بعد العلم قدر السيرفان مضى الأجل قبل أن يطلب أو يبعث بطلت شفعته وقال العنبري له مسافة الطريق ذاهباً وجائياً لأن عذره في ترك الطلب ظاهر لم يحتچ معه إلى الشهادة وقد ذكر نا وجه القول الأول (فصل) فإن أخر الطلب بعد الإشهاد مع إمكانه فظاهر كلام الخرقي إن الشفعة بحالها وقال القاضي تبطل.
إذا قدر على المسير وأخره وإن لم يقدر على المسير وقدر على التوكيل في طلبها فلم يفعل بطلت أيضاً لأنه تارك للطلب بها مع قدرته عليه فسقطت كالحاضر أو كما لو لم يشهد وهذا مذهب الشافعي، إلا أن لهم فيما إذا قدر على التوكيل
فلم يفعل وجهين (أحدهما) لا تبطل شفعته لأن له غرضاً في المطالبة بنفسه لكونه أقوم بذلك أو يخاف الضرر من جهة وكيله بأن يقر عليه برشوة أو غير ذلك فيلزمه إقراره فكان معذوراً ولنا أن عليه في السفر ضرراً لإلتزامه كلفته وقد يكون له حوائج وتجارة ينقطع عنها وتضيع بغيبته

(5/476)


والتوكيل إن كان بجعل لزمه غرم وإن كان بغير جعل ففيه منه ويخاف الضرر من جهته فأكتفي بالإشهاد فأما أن ترك السفر لعجزه عنه أو لضرر يلحقه فيه لم تبطل شفعته وجهاً واحداً لأنه معذور كمن لم يعلم (فصل) تجب الشفعة للغائب في قول الأكثرين منهم مالك والثوري والاوزاعي والشافعي وأصحاب الرأي وروي عن النخعي ليس للغائب شفعة وبه قال الحارث العكلي والبتي إلا للغائب القريب لأن إثباتها يضر بالمشتري ويمنع استقرار ملكه وتصرفه على حسب اختياره خوفاً من أخذه فلم يثبت كما لا يثبت للحاضر على التراخي ولنا عموم قوله عليه السلام (الشفعة فيما لم يقسم) وسائر الأحاديث ولأن الشفعة حق مالي وجد سببه بالنسبة إلى الغائب فيثبت له كالإرث ولأنه شريك لم يعلم بالبيع فتثبت له الشفعة عند علمه كالحاضر إذا كتم عنه البيع والغائب غيبة قريبة وضرر المشتري يندفع بإيجاب الثمن له كما في الصور المذكورة.
إذا ثبت هذا ولم يعلم بالبيع إلا عند قدومه فله المطالبة وإن طالت غيبته لأنه خيار ثبت لازالة والضرر عن المال فتراخي الزمان قبل العلم به لا يسقطه كالرد بالعيب ومتى علم فحكمه في المطالبة حكم الحاضر في أنه ان طالب على الفور استحق والابطلت شفعته، وحكم المريض والمحبوس ومن لم يعلم بالبيع حكم الغائب لما ذكرنا (مسألة) (فإن ترك الطلب والإشهاد لعجزه عنهما كالمريض والمحبوس ومن لا يجد من يشهده لم تبطل شفعته) أما إذا كان مرضه لا يمنع المطالبة كالصداع اليسير والألم القليل فهو كالصحيح، وإن كان المرض

(5/477)


يمنع المطالبة كالحمى وأشباهها فهو كالغائب في الإشهاد والتوكيل، وأما المحبوس فإن كان حبس ظلماً أو بدين لا يمكنه أداؤه فهو كالمريض وإن كان محبوساً بحق يلزمه أداؤه وهو قادر عليه فهو كالمطلق إن لم يبادر إلى المطالبة ولم يوكل بطلت شفعته
(فصل) فإن عجز عن الإشهاد في سفره لم تبطل شفعته بغير خلاف لأنه معذور في تركه فأشبه ما لو ترك الطلب لعذر أو لعدم العلم، ومتى قدر على الإشهاد فأخره كان كتأخير الطلب بالشفعة إن كان لعذر لم تسقط الشفعة وإن كان لغير عذر سقطت لأن الإشهاد قائم مقام الطلب ونائب عنه فيعتبر له ما يعتبر للطلب، ومن لم يقدر الاعلى إشهاد من لا تقبل شهادته كالمرأة والفاسق فترك الإشهاد لم تسقط شفعته بتركه لأن قولهم غير مقبول فلم تزم شهادتهم كالا طفال والمجانين، وإن لم يجد من يشهده إلا من لا يقدم معه إلى موضع المطالبة قلم يشهد فالأولى أن شفعته لا تبطل لأن إشهاده لا يفيد فأشبه إشهاد من لا تقبل شهادته، وإن لم يجد الامستوري الحال فلم يشهدهما احتمل أن تبطل لأن شهادتهما يمكن إثباتها بالتزكية فأشبها العدلين، ويحتمل أن لا تبطل لأنه يحتاج في إثبات شهادتهما إلى كلفة كثيرة وقد لا يقدر على ذلك فلا تقبل شهادتهما فإن أشهدهما لم تبطل شفعته سواء قبلت شهادتهما أو لم تقبل لأنه لا يمكنه أكثر من ذلك فأشبه العاجز عن الإشهاد وكذلك إن لم يقدر إلا على إشهاد واحد فأشهده أو ترك اشهاده

(5/478)


(مسألة) (أو لإظهارهم زيادة في الثمن أو نقصاً في المبيع أو أن المشتري غيره أو أخبره من لا يقبل خبره فلم يصدقه أو قال للمشتري بعني ما اشتريت أو صالحني سقطت شفعته) إذا أظهر المشتري أن الثمن أكثر مما وقع عليه العقد فترك الشفيع الشفعة لم تبطل بذلك وبه قال الشافعي وأصصحاب الرأي ومالك إلا أنه قال بعد أن يحلف ما سلمت الشفعة إلا لمكان الثمن الكثيرو قال ابن أبي ليلى لاشفعة له لأنه سلم ورضي ولنا أنه تركها للعذر فإنه لا يرضاه بالثمن الكثير ويرضاه بالقليل وقد يعجز عن الكثير فلم تسقط بذلك كما لو تركها لعدم العلم وكذلك ان ظهر أن المبيع سهام قليلة فبانت كثيرة لأنه قد يرغب في الكثير دون القليل وكذلك إن كان بالعكس لأنه قد يقدر على ثمن القليل دون الكثير أو إنهما تبايعا بدنانير فبانت بدراهم أو بالعكس وبه قال الشافعي وزفر، وقال أبو حنيفة وصاحباه إن كان قيمتهما سواء سقطت الشفعة لانهما كالحنس الواحد
ولنا أنهما جنسان أشبها الثياب والحيوان ولأنه قد يملك النقد الذي وقع به البيع دون ما أظهره فيتركه لعدم ملكه له وكذلك إن أظهر أنه اشتراه بنقد فبان أنه اشتراه بعرض أو بالعكس أو بنوع من العروض فبان أنه بغيره أو أظهر أنه اشتراه له فبان أن اشتراه لغيره أو بالعكس أو أنه اشتراه لإنسان فبان أنه اشتراه لغيره لأنه قد يرضى بشركة إنسان دون غيره وقد يحابي إنساناً أو يخافه

(5/479)


فيترك لذلك وكذلك إن أظهر أنه اشترى الكل بثمن فبان أنه اشترى نصفه بنصفه أو أنه اشترى نصفه بثمن فبان أنه اشترى جميعه بضعفه أو أنه اشترى الشقص وحده فبان أنه اشتراه هو وغيره وأو بالعكس لم تسقط الشفعة في جميع ذلك لأنه قد يكون له غرض فيما أبطنه دون ما أظهره فيترك لذلك فلم تسقط شفعته كما لو أظهر أنه اشتراه بثمن فبان أقل منه.
فأما إن أظهر أنه اشتراه بثمن فبان أنه اشتراه بأكثر أو أنه اشترى الكل بثمن فبان أنه اشترى به بعضه سقطت شفعته لأن الضرر فيما أبطنه أكثر فإذا لم يرض بالثمن القليل مع قلة ضرره فبالكثير أولى (فصل) فان أخبره بالبيع مخبر فصدقة ولم يطالب بالشفعة بطلت شفعته سواء كان المخبر ممن يقبل خبره أولا لأن العلم قد يحصل بخبر من لا يقبل خبره لقرائن دالة على صدقة وإن قال لم أصدقه وكان المخبر ممن يحكم بشهادته كرجلين عدلين بطلت شفعته لأن قولهم حجة تثبت بها الحقوق، وإن كان ممن لا يعمل بقوله كالفاسق والصبي لم تبطل وحكي عن أبي يوسف أنها تسقط لأنه خبر يعمل به في الشرع في الاذن في دخول الدار وشبهه فسقطت كخبر العدل ولنا أنه خبر لا يقبل في الشرع اشبه قول الطفل والمجنون، وإن أخبره رجل عدل أو مستور الحال سقطت شفعته، ويحتمل أن لا يستقط يروى هذا عن أبي حنيفة وزفر لأن الواحد لا تقوم به البينة.

(5/480)


ولنا أنه خبر لا تعتبر فيه الشهادة فقبل من العدل كالرواية والفتيا وسائر الأخبار الدينية، وفارق الشهادة فإنه يحتاط لها باللفظ والمجلس وحضور المدعي عليه وإنكاره ولأن الشهادة يعارضها إنكار المنكر وتوجب الحق عليه بخلاف هذا الخبر، والمرأة كالرجل في ذلك والعبد كالحر وقال القاضي
هما كالفاسق والصبي وهذا مذهب الشافعي لأن قولهما لا يثبت به حق ولنا أن هذا خبر وليس بشهادة فاستوى فيه الرجل والمرأة والعبد والحر كالرواية والأخبار الدينية والعبد من أهل الشهادة فيما عدا الحدود والقصاص وهذا مما عداهما فأشبه الحر (مسألة) (وإن قال الشفيع للمشتري بعني ما اشتريت أو قاسمني بطلت شفعته) لأنه يدل على رضاه يشرائه وتركه الشفعة وإن قال صالحني على مال سقطت أيضاً وهو قول أبي الخطاب وقال القاضي لا تسقط لأنه لم يرض بإسقاطها وإنما رضي بالمعاوضة ولم تثبت العاوضة فبقيت الشفعة ولنا أنه رضي بتركها وطلب عوضها فثبت الترك المرضي به ولم يثبت العوض كما لو قال بعني فلم يبيعه ولأن ترك المطالبة بها كاف في سقوطها فمع طلب عوضها أولى ولا صحاب الشافعي وجهان كهذين فان صالحه عنه بعوض لم يصح وبه قال أبوحنية والشافعي وقال مالك يصح لأنه عوض عن إزالة ملك فجاز كأخذ العوض عن تمليك المرأة أمرها

(5/481)


ولنا أنه خيار لا يسقط إلى فلم يجز أخذ العوض عنه كخيار الشرط وبه يبطل ما قاله وأما الخلع فهو عما ملكه بعوض وههنا بخلافه (فصل) وإن لقيه الشفيع في غير بلده فلم يطالبه قال إنما تركت المطالبة لا طالبة في البلد الذي فيه البيع أو المبيع أو لا آخذ الشقص في موضع الشفعة سقطت شفعته لأن ذلك ليس بعذر في ترك المطالبة فإنها لا تقف على تسليم الشقص ولا حضور البلد الذي هو فيه، وإن قال نسيت فلم أذكر المطالبة أو نسيت البيع سقطت شفعته لأنه خيار على الفور فإذا أخره نسياناً بطل كالرد بالعيب وكما لو أمكنت المعتقة زوجها من وطئها نسياناً ويحتمل أن لا تسقط المطالبة لأنه تركها لعذر فأشبه مالو تركها لعدم علمه بها وإن تركها جهلا لاستحقاقه لها إذا كان مثله يجهل ذلك بطلت كالرد بالعيب ويحتمل أن لا تبطل كما إذا ادعت المعتقة الجهل بملك الفسخ (مسألة) (وإن دل في البيع لم تبطل شفعته) لأن ذلك لا يدل على الرضى بإسقاطها بل لعله أراد البيع ليأخذ بالشفعة (مسألة) (وإن توكل الشفيع في البيع لم تسقط شفعته بذلك سواء توكل للبائع أو للمشتري)
ذكره الشريف وأبو الخطاب وهو ظاهر مذهب الشافعي، وقال القاضي وبعض الشافعية إن كان وكيل البائع فلا شفعة له لانه تحلقه التهمة في البيع لكونه يقصد تقليل الثمن ليأخذ به بخلاف المشتري وقال

(5/482)


أصحاب الرأى لاشفعة لوكيل المشتري بناء على أصلهم أن الملك ينتقل إلى الوكيل فلا يستحق على نفسه ولنا أنه وكيل فلا تسقط شفعته كالأجر ولا نسلم أن الملك ينتقل إلى الوكيل بل ينتقل إلى الموكل ثم لو انتقل إلى الوكيل لما ثبت في ملكه إنما ينتقل في الحال إلى الموكل فلا يكون الأخذ من نفسه ولا الا ستحقاق عليها وأم التهمة فلا تؤثر لأن الموكل وكله من علمه بثبوت شفعه راضياً بتصرفه فلم يؤثر كما لو وكله في الشراء من نفسه، وفعلى هذا لو قال لشريكه بع نصف نصبي مع نصف نصيبك ففعل ثبتت الشفعة لكل واحد منهما في المبيع من نصيب صاحبه وعند القاضي تثبت في نصيب الوكيل دون نصيب الموكل (مسألة) (وإن جعل له الخيار فاختار إمضاء البيع فهو على شفعته) إذا شرط للشفيع الخيار فاختار امضاء العقد أو ضمن العهدة للمشتري فالشفعة بحالها وبه قال الشافعي وقال أصحاب الرأي تسقط لأن العقد تم به فأشبه البائع إذا باع بعض نصيب نفسه ولنا أن هذا سبب سبق وجوب الشفعة فلم تسقط به الشفعة كالإذن في البيع والعفو عن الشفعة قبل تمام البيع وما ذكروه لا يصح فإن البيع لا يقف على الضمان ويبطل بما إذا كان المشتري شريكاً فإن البيع تم به وثبتت له الشفعة بقدر نصيبه (مسألة) (وإن أسقط شفعته قبل البيع لم تسقط ويحتمل أن تسقط) ادا عفا الشفيع عن الشفعة قبل البيع فقال قد أذنت في البيع أو أسقطت شفعتي أو ما أشبه ذلك

(5/483)


لم تسقط وله المطالبة بها في ظاهر المذهب وبه قال مالك والشافعي والبتى وأصحاب الرأي، وعن أحمد ما يدل على أن الشفعة تسقط بذلك فإن اسماعيل بن سعيد قال قلت لأحمد ما معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم (من كان بينه وبين أخيه ربعة فأراد بيعها فليعرضها عليه) وقد جاء في بعض الحديث (لا يحل له إلا أن يعرضها عليه إذا كانت الشفعة ثابتة) فقال ما هو بيعيد من أن يكون على ذلك وإن لا تكون له شفعة وهذا قول
الحكم والثوري وابي خيثمة وطائفة من أهل الحديث، قال إبن المنذر وقد اختلف فيه عن أحمد فقال مرة تبطل شفعته وقال مرة لا تبطل، واحتجوا بقول النبي صلى الله عليه وسلم (من كان له شركة في أرض ربعة أو حائط فلا يحل له أن يبيع حتى يستأدن شريكه فإن شاء أخذ وإن شاء ترك) ومحال أن يقول النبي صلى الله عليه وسلم (وإن شاء ترك) فلا يكون لتركه معنى ولأن مفهوم قوله (فإن باع ولم يؤذنه فهو أحق به) إنه إذا باعه بإذنه لاحق له ولأن الشفعة ثبتت في موضع الإتفاق على خلاف الأصل لكونه يأخذ ملك المشتري بغير رضاه ويجبره على المعاوضة به لدخوله مع البائع في العقد الذي أساء فيه بإدخاله الضرر على شريكه وتركه الإحسان إليه في عوضه عليه وهذا المعنى معدوم ههنا فإنه قد عرضه عليه، وامتناعه من أخذه دليل على عدم الضرر في حقه ببيعه فان كان فيه ضرر فهو أدخله على نفسه فلا يستحق الشفعة كما لو أخر المطالبة بعد البيع.
ووجه الأول أنه إسقاط حق قبل وجوبه فلم يصح كما لو أبرأه مما يجب له أو لو أسقطت المرأة صداقها قبل التزويج، وأما الخبر فيحتمل أنه أراد العرض عليه ليبتاع ذلك إن أراد فتخف عليه المؤنة

(5/484)


ويكتفي أخذ المشتري الشقص لا اسقاط حقه من شفعته (مسألة) وإن ترك الولي شفعة للصبي فيها حظ له لم تسقط وله الأخذ بها إذا كبر وان تركها لعدم الخط فيها سقطت ذكره ابن حامد وقال القاضي يحتمل أن لا تسقط) إذا بيع في شركة الصغير شقص ثبتت له الشفعة في قول عامة الفقهاء منهم الحسن وعطاء ومالك والاوزاعي والشافعي وسوار والعنبري وأصحاب الرأي وقال ابن أبي ليلى لا شفعة له وروي ذلك عن النخعي والحارث العكلي لأن الصبي لا يمكنه الأخذ ولا يمكن انتظاره حتى يبلغ لما فيه من الإضرار بالمشتري، وليس للولي الأخذ لأن من لا يملك العفو لا يملك الأخذ كالأجنبي ولنا عموم الأحاديث ولأنه خيار جعل لإزالة الضرر عن المال فثبت في حق الصبي كخيار الرد بالعيب، قولهم لا يمكن الأخذ ممنوع فإن الولي يأخذ بها كما يرد بالعيب، قولهم لا يمكنه العفو يبطل بالوكيل فيها وبالرد بالعيب فإن ولي الصبي لا يمكنه العفو ويمكنه الرد ولأن في الأخذ تحصيلا للملك للصبي ونظراً له وفي العفو تضييع وتفريط في حقه ولا يلزم من ملك ما فيه الحظ ملك ما فيه تضبيع ولأن العفو
إسقاط لحقه والأخذ استيفاء له ولا يلزم من ملك الولي استيفاء حق المولي عليه ملك إسقاطه بدليل سائر حقوقه وديونه، فإن لم يأخذ الولي أنتظر بلوغ الصبي كما ينتظر قدوم الغائب، وبه يبطل ما ذكروه من الضرر في الإنتظار.
إذا ثبت هذا فإن الصغير إذا كبر فله الأخذ بها في ظاهر قول الخرقي سواء عفا

(5/485)


عنها الولي أولم يعف وسواء كان الخط في الأخذ بها أو في تركها وهو ظاهر كلام أحمد في رواية ابن منصور وهذا قول الأوزاعي وزفر ومحمد بن الحسن وحكاه بعض أصحاب الشافعي عنه لأن المستحق للشفعة يملك الأخذ بها سواء كان له الحظ فيها أولم يمكن فلم تسقط بترك غيره كالغائب إذا ترك وكيله الأخذ بها، وقال ابن حامدا تركها المولى لحظ الصبي أو لأنه ليس للصبي ما يأخذها به سقطت وهو ظاهر مذهب الشافعي لأن الولي فعل ماله فعله فلم يجز للصبي نقضه كالرد العيب ولأنه فعل ما للصبي فيه حظ فصح كالأخذ مع الحظ، وإن تركها لغير ذلك لم تسقط، وقال أبو حنيفة تسقط بعفو الولي عنها في الحالين لأن من ملك الأخذ بها ملك العفو عنها كالمالك، وخالفه صاحباه في هذا لأنه اسقط حقاً للمولي عليه ولا حظ له في إسقاطه فلم يصح كالإبراء وخيار الرد بالعيب، ولا يصح قياس الولي على المالك لأن للمالك التبرع والإبراء وما لا حظ له فيه بخلاف الولي (فصل) فأما الولي فإن كان للصبي حظ في الأخذ بها مثل أن يكون الشراء رخيصاً أو بثمن المثل وللصبي ما يشتري به العقار لزم وليه الأخذ بالشفعة لأن عليه الإحتياط له والاخذ بما فيه الحظ فإذا أخذ بها ثبت الملك للصبي ولم يملك نقضه بعد البلوغ في قول مالك والشافعي وأصحاب الرأي، وقال الأوزاعي ليس للولي الأخذ بها لأنه لا يملك العفو عنها ولا يملك الأخذ بها كالأجنبي وإنما يأخذ بها الصبي إذا كبر، وهذا لا يصح لأنه خيار جعل لإزالة الضرر عن المال فملكه الولي كالرد بالعيب

(5/486)


وقد ذكرنا فساد قياسه فيما مضى، فإن تركها الولي مع الحظ للصبي الأخذ بها إذا كبر ولا يلزم الولي غرم لذلك لأنه لم يفوت شيئاً من ماله وإنما ترك تحصيل ماله الحظ فيه فأشبه مالو ترك شراء العقار له مع الخط في شرائه وإن كان الحظ في تركها مثل أن يكون المشتري قد غبن أو كان
في الاحذ بها يحتاج إلى أن يستقرض ويرهن مال الصبي له الأخذ لأنه لا يملك فعل مالا حظ للصبي فيه، وفان أخذ لم يصح في إحدى الروايتين ويكون باقياً على ملك المشتري لأنه اشترى له ما لا يملك شراءه فلم يصح كما لو اشترى بزيادة كثيرة على ثمن المثل أو اشترى معيباً يعلم عيبه، ولا يملك الولي المبيع لأن الشفعة تؤخذ بحق الشركة ولا شركة للولي ولذلك لو أراد الأخذ لنفسه لم يصح فأشبه مالو تزوج لغيره بغير إذنه فإنه يقع باطلاً ولا يصح لواحد منهما كذا ههنا وهذا مذهب الشافعي (والثانية) يصح الأخذ للصبي لأنه اشترى له ما يندفع عنه الضرر به فصح كما لو اشترى معيباً لا يعلم عيبه والحظ يختلف ويخفي فقد يكون له حظ في الأخذ بأكثر من ثمن المثل لزيادة قيمة ملكه والشقص الذي يشتريه بزوال الشركة أو لأن الضرر الذي يندفع بأخذه كثير فلا يمكن اعتبار الحظ بنفسه لخفائه ولا بكثرة الثمن لما ذكرناه فسقط اعتباره وصح البيع (فصل) وإذا باع وصي الأيتام فباع لأحدهم نصيباً في شركة الآخر فله الأخذ للآخر بالشفعة لأنه

(5/487)


كالشراء له، وإن كان الوصي شريكاً لمن باع عليه فليس له الأخذ للتهمة في البيع ولأنه بمنزلة من يشتري لنفسه من مال يتيمه، ولو باع الوصي نصيبه كان له الأخذ لليتيم بالشفعة مع الحظ لليتيم لأن التهمة منتفية فإنه لا يقدر على الزيادة في ثمنه لكون المشتري لا يوافقه ولأن الثمن حاصل له من المشتري كحصوله من اليتيم بخلاف بيعه مال اليتيم فإنه يمكنه تقليل الثمن ليأخذ الشقص به، فإن رفع الأمر إلى الحاكم فباع عليه فللوصي الأخذ حينئذ لعدم التهمة، فإن كان مكان الوصي أب فباع شقص ولده فله الأخذ بالشفعة لأن له أن يشتري من نفسه مال ولده لعدم التهمة، وإن بيع شقص في شركة حمل لم يكن لوليه الأخذ له بالشفعة لأنه لا يمكن تمليكه بغير الوصية فإذا ولد الحمل ثم كبر فله الأخذ بالشفعة كالصبي إذا كبر (فصل) وإذا عفا ولي الصبي عن شفعته التي له فيها حظ ثم أراد الأخذ بها فله ذلك في قياس المذهب لأنها لم تسقط بإسقاطه ولذلك ملك الصبي الأخذ بها إذا كبر ولو سقطت لم يملك الأخذ بها، ويحتمل أن لا يملك الأخذ بها لأن ذلك يؤدي إلى ثبوت حق الشفعة على التراخي وذلك على خلاف الخبر والمعنى ويخالف أخذ الصبي بها إذا كبر لأن الحق يتجدد له عند كبره فلا يملك تأخيره حينئذ وكذلك أخذ الغائب بها إذا اقدم، فأما إن تركها
لعدم الحظ فيها ثم أراد الا خذ بها والأمر بحاله لم يملك ذلك كمالم يملكه ابتداء، وإن صار فيها حظ أو كان معسراً عند البيع فأيسر بعد ذلك انبنى ذلك على سقوطها بذلك فان قلنالا تسقط وللصبي الأخذ بها إذا كبر فحكمها حكم ما فيه الحظ وإن قلنا تسقط فليس له الأخذ بها بحال لأنها قد سقطت مطلقاً فهو كما لو عفا الكبير عن شفعته

(5/488)


(فصل) والحكم في المجنون المطبق كالحكم في الصبي سواء لأنه محجور عليه لحظه وكذلك السفيه فاما المغمى عليه فحكمه الغائب لان لا ولاية عليه وكذلك المحبوس، فعلى هذا ننتظر إفاقته وأما مفلس فله الأخذ بالشفعة والعفو عنها وليس لغرمائه الا خذ بها لأنها معاوضة فلا يجبر عليها كسائر المعاوضات وليس لهم إجباره على العفو لأنه إسقاط حق فلا يجبر، وسواء كان له حظ في الأخذ بها أو لم يكن لأنه يأخذ في ذمته وليس بمحجور عليه في ذمته لكن لهم منعه من دفع ماله في ثمنها لتعلق حقوقهم بماله فاشبه مالو إشترى في ذمته شقصاً غير هذا، ومتى ملك الشقص المأخوذ بالشفعة تعلقت حقوق الغرماء به سواء أخذه برضاهم أو بغيره لأنه مال له فأشبه مالوا كتسبه.
وأما المكاتب فله الأخذ والترك وليس لسيده الاعتراض عليه لأن التصرف يقع له دون سيده، وكذلك المأذون له في التجارة من العبيد له الأخذ بالشفعة لأنه مأذون له في الشراء وان عفاعنها لم ينفذ عفوه لأن الملك للسيد ولم يأذن في إبطال حقوقه، فإن أسقطها السيد سقطت ولم يكن للعبد أن يأخذ لأن للسيد الحجر عليه ولأن الحق قد أسقطه مستحقه فسقط بإسقاطه (فصل) (الشرط الرابع) أن يأخذ جميع المبيع فإن طلب أخذ البعض سقطت شفعته وبه قال محمد بن الحسن وبعض أصحاب الشافعي وقال أبو يوسف لا تسقط لأن طلبه لبعضها طلب لجميعها لكونه لا يتبعض ولا يجوز أخذ بعضها

(5/489)


ولنا أنه تارك لطلب بعضها فتسقط ويسقط باقيها لأنها لاتتبعض، ولا يصح ما ذكره فإن طلب بعضها ليس بطلب جميعها ومالا يتبعض لا يثبت حتى يثت السبب في جميعه كالنكاح بخلاف السقوط فإن الجميع يسقط بوجود السبب في بعضه كالطلاق (فصل) فإن أخذ الشقص بثمن مغصوب ففيه وجهان (أحدهما) لا تسقط شفعته لأنه بالعقد استحق الشقص
بمثل ثمنه في الذمة فإذا عينه فيمالا يملكه سقط التعيين وبقي الإستحقاق في الذمة أشبه مالو أخر الثمن أو ما لو اشترى شيأ آخر ونقد فيه ثمناً مغصوباً (والثاني) يسقط لأن أخذه للشقص بمالا يصح أخذه به ترك له وإعراض عنه فسقطت الشفعة كما لو ترك الطلب بها (مسألة) (وإن كانا شفيعين فالشفعة بينهما على قدر ملكهما وعنه على عدد الرؤوس) ظاهر المذهب أن الشقص المشفوع إذا أخذه الشفعاء قسم بينهم على قدر أملاكهم اختاره أبو بكر وروي ذلك عن الحسن وابن سيرين وعطاء وبه قال مالك وسوار والعنبري واسحاق وأبو عبيد وهو أحد قولي الشافعي، وعن أحمد رواية ثانية أنه يقسم بينهم على عدد الرؤوس اختارها ابن عقيل وروي ذلك عن النخعي والشعبي وهو قول ابن أبي ليلى وابن شبرمة والثوري وأصحاب الرأي لأن كل واحد منهم لو انفرد لا يستحق الجميع فإذا اجتمعوا تساووا كالبنين في الميراث وكالمعتقين في سراية العتق ولنا أنه حق يستفاد بسبب الملك فكان على قدر الأملاك كالغلة ودليلهم ينتقض بالإبن والأب أو

(5/490)


الجد وبالفرسان والرجالة في الغنيمة وبأصحاب الديون والوصايا إذا نقص ماله عن دين أحدهم أو الثلث عن وصية أحدهم، وأما الإعتاق فلنا فيه منع وإن سلم فلأنه إتلاف والإتلاف يستوي فيه القليل والكثير كالنجاسة تلقي في مائع، وأما البنون فإنهم تساووا في السبب وهو النبوة فتساووا في الإرث بها فنظيره في مسئلتنا تساوي الشفعاء في سهامهم، فإذا كانت دار بين ثلاثة لأحدهم النصف وللأخر الثلث وللآخر السدس فباع أحدهم فعلى هذا ينظر مخرج سهام الشركاء كلهم فيأخذ منهم سهام الشفعاء فإذا علمت عدتها قسمت السهم المشفوع عليها ويصير العقار بين الشفعاء على تلك العدة كما يفعل في مسائل الرد ففي هذه المسألة مخرج سهام الشركاء ستة فإذا باع صاحب النصف فسهام الشفعاء ثلاثة لصاحب الثلث سهمان وللآخر سهم فالشفعة بينهم على ثلاثة ويصير العقر بينهم أثلاثاً لصاحب الثلث ثلثاه وللآخر ثلثه وإن باع صاحب الثلث كانت بين الآخرين أرباعاً لصاحب النصف ثلاثة أرباعها وللآخر ربعها وإن باع صاحب السدس كانت بين الآخرين أخماساً لصاحب النصف ثلاثة أخماسه وللآخر خمساه هذا على ظاهر المذهب، وعلى الرواية الثانية ينقسم الشقص المشفوع بين الآخرين نصفين فإذا باع صاحب
النصف قسم النصف بين الآخرين لكل واحد الربع فيصير لصاحب الثلث ثلث وربع وللآخر ربع وسدس وإن باع صاحب الثلث صار لصاحب النصف الثلثان وللآخر الثلث وإن باع صاحب السدس فلصاحب النصف ثلث وربع ولصاحب الثلث ربع وسدس

(5/491)


(مسألة) (فإن ترك أحدهما شفعته لم يكن للآخر إلا أن يأخذ الكل أو يترك) وجملة ذلك أنه إذا كان الشقص بين شفعاء فترك بعضهم فليس للباقين إلا أخذ الجميع أو ترك الجميع قال إبن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على هذا وهو قول مالك والشافعي وأصحاب الرأي لأن في أخذ البعض أضراراً بالمشتري بتبعيض الصفقة عليه ولا يزال الضرر بالضرر، ولأن الشفعة إنما تثبت على خلاف الأصل دفعاً لضرر الشريك الداخل خوفاً من سوء المشاركة ومؤنة القسمة فإذا أخذ بعض الشقص لم يندفع عنه الضرر فلم يتحقق المعنى المجوز لمخالفة الأصل فلا تثبت، وإن وهب بعض الشركاء نصيبه من الشفعة لبعض الشركاء أو لغيره لم يصح لأن ذلك عفو وليس بهبة فلم يصح لغير من هو عليه كالعفو عن القصاص (فصل) فإن كان الشفعاء غائبين لم تسقط الشفعة لموضع العذر فإذا قدم أحدهم فليس له إلا أن يأخذ الكل أو يترك لأنا لا نعلم اليوم مطالباً سواه ولأن في أخذ البعض تبعيضاً لصفقة المشتري فلم يجز ذلك كما لو لم يكن معه غيره، ولا يجوز تأخير حقه إلى أن يقدم شركاؤه لأن في التأخير ضرراً بالمشتري فإذا أخذ الجميع ثم حضر آخر قاسمه إن شاء أو عفا فيبقى للاول لأن المطالبة إنما وجدت منهما فإن قاسمه ثم حضر الثالث قاسمهما إن أحب أو عفافيبقى للأولين، فإن نما الشقص في يد الأول نماء منفصلاً لم يشاركه فيه واحد منهما لأنه انفصل في ملكه أشبه مالو انفصل في يد المشتري قبل الأخذ بالشفعة

(5/492)


وكذلك إذا أخذ الثاني فنما في يده منفصلاً لم يشاركه الثالث فيه، فإن خرج الشقص مستحقاً فالعهدة على المشتري يرجع الثلاثة عليه ولا يرجع أحدهم على الآخر فإن الأخذ وإن كان من الأول فهو بمنزلة النائب عن المشتري في الدفع إليهما والنائب عنهما في دفع الثمن إليه لأن الشفعة مستحقة
عليه لهم هذا ظاهر مذهب الشافعي، وإن امتنع الأول من المطالبة حتى يحضر صاحباه أو قال آخذ قدر حقي ففيه وجهان (أحدهما) يبطل حقه لأنه قدر على أخذ الكل وتركه فأشبه المفرد (والثاني) لا تبطل لأنه تركه لعذر وهو خوف قدوم الغائب فينزعه منه والترك لعذر لا يسقط الشفعة بدليل ما لو أظهر المشتري ثمناً كثيراً فترك لذلك فبان خلافه، وإن ترك الأول شفعته توفرت الشفعة على صاحبيه وإذا قدم الاول منهما فله أخذ الجميع على ما ذكرنا في الأول، فإن أخذ الأول بها ثم رد ما أخذه بعيب فكذلك وبهذا قال الشافعي وحكي عن محمد بن الحسن أنها لا تتوفر عليهما وليس لهما أخذ نصيب الأول لأنه لم يعف وإنما رد نصيبه بالعيب فأشبه مالو رجع إلى المشتري ببيع أو هبة ولنا أن الشفيع فسخ ملكه ورجع إلى المشتري بالسبب الأول فكان لشريكه أخذه كما لو عفا ويفارق عودة بسبب آخر لأنه عاد غير الملك الاول الذي تعلقت به الشفعة (فصل) وإذا حضر الثاني بعد أخذ الأول فأخذ نصف الشقص منه واقتسما ثم قدم الثالث وطالب بالشفعة وأخذ بها بطلت القسمة لأن هذا الثالث إذا أخذ بالشفعة فهو كأنه مشارك حال القسمة لثبوت

(5/493)


حقه، ولهذا لو باع المشتري ثم قدم الشفيع كان له إبطال البيع، فإن قيل وكيف تصح القسمة وشريكهما الثالث غائب؟ قلنا يحتمل أن يكون وكل في القسمة قبل البيع أو قبل عمله به أو يكون الشريكان رفعا ذلك إلى الحاكم وطالباه بالقسمة عن الغائب فقاسمهما وبقي الغائب على شفعته، فإن قيل وكيف تصح مقاسمتهما للشقص وحق الثالث ثابت فيه؟ قلنا ثبوت حق الشفعة لايمنع التصرف لأنه لا يصح بيعه وهبته وغيرهما ويملك الفسع إبطاله كذا ههنا.
إذا ثبت هذا فإن الثالث إذا قدم فوجد أحد شريكيه غائباً أخذ من الحاضر ثلث ما في يده لأنه قدر ما يستحقه ثم إن حكم له القاضي على الغائب أخذ ثلث ما في يده أيضاً وإن لم يقض انتظر الغائب حتى يقدم لأن موضع عذر (فصل) إذا أخذ الأول الشقص كله بالشفعة فقدم الثاني فقال لا آخذ منك نصفه بل اقتصر على قذر نصيبي وهو الثلث فله ذلك لأنه اقتصر على بعض حقه وليس فيه ببعض الصفقة على المشتري فجاز كترك الكل، فإذا قدم الثالث فله أن يأخذ من الثاني ثلث ما في يده فيضيفه إلى ما في يد الأول
ويقسمانه نصفين فتصح قسمة الشقص من ثمانية عشر سهما لأن الثالث أخذ حقه من الثاني ثلث الثلث ومخرجه تسعة فيضمه إلى الثلثين وهي ستة صارت سبعة ثم قسما السبعة نصفين لا تنقسم فاضرب اثنين في تسعة يكن ثمانية عشر للثاني أربعة ولكل واحد من شريكيه سبعة، وإنما كان كذلك لأن الثاني ترك سدساً كان له أخذه وحقه منه ثلثاه وهو السبع فيوفر ذلك على شريكيه في الشفعة، فللأول والثالث أن يقولا نحن سواء في الاستحقاق ولم يترك واحد منا شيئاً من حقه فنجمع ما معنا فنقسمه فيكون على ما ذكرنا، وإن قال الثاني أنا آخذ الربع فله ذلك لما ذكرنا في التي قبلها، فإذا قدم الثالث أخذ منه

(5/494)


نصف سدس وهو ثلث في يده فضمنه إلى ثلاثة الأرباع وهي تسعة يصير الجميع عشرة فيقسمانها لكل واحد منهما خمسة وللثاني سهمان وتصح من اثني عشر (مسألة) (وإن كان المشتري شريكاً فالشفعة بينه وبين الآخر) وللآخر الأخذ بقدر نصيبه وبه قال أبو حنيفة والشافعي وحكي عن الحسن والشعبي والبتي لا شفعة للآخر لأنها تثبت لدفع ضرر الشريك الداخل وهذا شركته متقدمة فلا ضرر في شرائه، وحكي ابن الصباغ عنهم أن الشفعة كلها لغير المشتري ولا شئ للمشتري فيها لأنها تستحق عليه فلا يستحقها على نفسه ولنا أنهما تساويا في الشركة فتساويا في الشفعة كما لو اشترى أجنبي بل المشتري أولى لأنه قد ملك الشقص المشفوع من غير نظر إلى المشتري وقد حصل شراؤه والثاني لا يصح أيضا لا نالا نقول أنه يأخذ من نفسه بالشفعة وإنما يمنع الشريك أن يأخذ قدر حقه بالشفعة فيبقى على ملكه ثم لا يمتنع أن يستحق الإنسان على نفسه لأجل تعلق حق الغير به الا ترى أن العبد المرهون إذا جنى على عبد آخر لسيده ثبت للسيد على عبده أرش الجناية لأجل تعلق حق المرتهن ولو لم يكن رهناً ما تعلق به، إذا ثبت هذا فإن لشريك المشتري أخذ بقدر نصيبه لا غير أو العفو (مسألة) (وإن ترك المشتري شفعته ليوجب الكل على شريكه لم يكن له ذلك) إذا قال المشتري قد أسقطت شفعتي فخذ الكل أو أترك لم يلزمه ذلك ولم يصح إسقاط المشتري

(5/495)


لأن ملكه إستقر على قدر حقه فجرى مجرى الشفيعين إذا أخذا بالشفعة ثم عفاأحدهما عن حقه ولذلك لو حضر أحد الشفيعين فأخذ جميع الشقص بالشفعة ثم حضر الآخر فله أخذ النصف من ذلك فإن قال الأول خذ الكل أودع فإني قد أسقطت شفعتي لم يكن له ذلك، فإن قيل هذا تبعيض للصفقة على المشتري قلنا هذا تبعيض اقتضاه دخوله في العقد فصار كالرضى منه به كما قلنا في الشفيع الحاضر إذا أخذ جميع الشقص وكما لو اشترى شقصاً وسيفاً (مسألة) (وإذا كانت دار بين اثنين فباع أحدهما نصيبه لأجنبي صفقتين ثم علم الشريك فله أن يأخذ بالبيعين وله أن يأخذ بأحدهما، فإن أخذ بالثاني شاركه المشتري في شفعته في أحد الوجهين وإن أخذ بالأول لم يشاركه وإن أخذ بهما جميعاً لم يشاركه في شفعة الأول، وهل يشاركه في شفعة الثاني؟ على وجهين) وجملة ذلك أن الشريك إذا باع بعض الشقص لاجنبي ثم باعه باقيه في صفقة أخرى ثم على الشفيع فله أخذ المبيع الأول والثاني وله أخذ أحدهما، فإن أخذ الأول لم يشاركه في شفعته أحد، وإن أخذ بالثاني فهل يشاركه المشتري في شفعته بنصيبه الأول؟ فيه ثلاثة أوجه (أحدها) يشاركه فيها وهو مذهب أبي حنيفة وبعض أصحاب الشافعي لأنه شريك في وقت البيع الثاني بملكه الذي إشتراه أولاً (والثاني) لا يشاركه لأن ملكه على الأول لم يستقر لكون الشفيع يملك أخذه (والثالث) إن عفا الشفيع عن

(5/496)


الأول شاركه في الثاني وإن أخذ بهما جميعاً لم يشاركه وهذا مذهب الشافعي لأنه إذا عفا عنه إستقر ملكه بخلاف ما إذا أخذ، فإن قلنا يشاركه في الشفعة ففي قدر ما يستحق وجهان أحدهما ثلثه والثاني نصفه بناء على الروايتين في قسم الشفعة على قدر الأملاك أو عدد الرؤوس فإذا قلنا يشاركه فعفا له عن الأول صار له ثلث العقار في أحد الوجهين وفي الآخر ثلاثة أثمانه وباقيه لشريكه وإن لم يعف عن الأول فله نصف سدسه في أحد الوجهين وفي الآخر ثمنه والباقي لشريكه، وإن باعه الشريك الشقص في ثلاث صفقات متساوية فحكمه حكم مالو باعه لثلاثة أنفس على ما نذكره ويستحق ما يستحقون وللشفيع ههنا مثل ماله مع الثلاثة والله أعلم
(فصل) وإن كانت دار بين ثلاثة فوكل أحدهم شريكه في بيع نصيبه مع نصيبه فباعهما لرجل واحد فلشريكهما الشفعة فيهما، وهل له أخذ أحذ النصيبين دون الآخر؟ فيه وجهان (أحدهما) له ذلك لأن المالك اثنان فيما بيعان فكان له أخذ نصيب أحدهما كما لو توليا العقد (والثاني) ليس له ذلك لأن الصفقة واحدة وفي أخذ أحدهما تبعيض الصفقة على المشتري فلم يجز كما لو كانا لرجل واحد، وان وكل رجل رجلاً في شراء نصف نصيب أحد الشركاء فاشترى الشقص كله لنفسه ولموكله فلشريكه أخذ نصيب أحدهما لأنهما مشتريان أشبه مالو وليا العقد، والفرق بين هذه الصورة

(5/497)


والتي قبلها أن أخذ أحد النصيبين لا يفضي إلى تبعيض الصفقة على المشتري ولأنه قد يرضى شركة أحد المشتريين دون الآخر بخلاف التي قبلها فإن المشتري واحد (مسألة) (وإن اشترى إثنان حق واحد فللشفيع أخذ حق أحدهما) وبه قال مالك والشافعي وأبو حنيفة في إحدى الروايتين عنه وقال في الأخرى يجوز له ذلك بعد القبض ولايجوز قبله لأنه قبل القبض يبعض صفقة البائع ولنا أنهما مشتريان فجاز للشفيع أخذ نصيب أحدهما كما بعد القبض وما ذكروه ممنوع على أن المشتري الآخر يأخذ نصيبه فلا يكون تبعيضاً فإن باع إثنان من إثنين فهي أربعة عقود وللشفيع أخذ الكل أو ما شاء منها (فصل) وإذا باع شقصاً لثلاثة دفعة واحدة فلشريكه أن يأخذ من الثلاثة وله أن يأخذ بمن أحدهم وله أن يأخذ من إثنين دون الثالث لأن كل عقد منها منفرد فلا يتوقف الأخذ به على الأخذ بما في العقد الآخر كما لو كانت متفرقة وإذا أخذ نصيب أحدهم لم يكن اللاخرين مشاركته في الشفعة لأن ملكهما لم يسبق ملك من أخذ نصيبه ولا يستحق الشفعة إلا بملك سابق، فأما إن باع نصيبه لثلاثة في ثلاثة عقود متفرقة ثم على الشفيع فله أيضاً أن يأخذ الثلاثة وله أن يأخذ ما شاء منها فإن أخذ نصيب الأول لم يكن للآخرين مشاركته في شفعته لأنهما لم يكن لهما ملك حين بيعه وإن أخذ

(5/498)


نصيب الثاني وحده لم يملك الثالث مشاركته لذلك ويشاركه الأول في شفعته لأن ملكه سابق لشراء الثاني فهو شريك في إستحقاقها حال شرائه ويحتمل أن لا يشاركه لأن ملكه حال شراء الثاني يستحق أخذه بالشفعة فلا يكون سبباً في إستحقاقها، وإن أخذ من الثالث وعفا عن الأولين ففي مشاركتهما له وجهان، وإن أخذ من الثلاثة ففيه وجهان (أحدهما) لا يشاركه واحد منهم لأن املاكهم قد استحقاقها بالشفعة فلا يستحق عليه بها شفعة (والثاني) يشاركه الثاني في شفعة الثالث وهو قول أبي حنيفة وبعض أصحاب الشافعي لأنه كان مالكا ملكا صحيحا شراء الثالث ولذلك إستحق مشاركته إذا عفا عن شفعته فكذلك اذالم يعف لا إنما إستحق الشفعة بالملك الذي صار به شريكاً لا بالعفو عنه ولذلك قلنا في الشفيع إذا لم يعلم بالشفعة حتى باع نصيبه إن له أخذ نصيب المشتري الأول وللمشتري الأول أخذ نصيب المشتري الثاني، وعلى هذا يشاركه الأول في شفعة الثاني والثالث جميعا.
قعلى هذا إذا كانت دار بين اثنين نصفين فباع أحدهما نصيبه لثلاثة في ثلاثة عقود في كل عقد سدساً فللشفيع السدس الأول وثلاثة أرباع الثاني وثلاثة أخماس الثالث وللمشتري الأول ربع السدس الثاني وخمس الثالث وللمشتري

(5/499)


الثاني خمس الثالث فتصح المسألة من مائة وعشرين سهماً للشفيع الأول مائة وسبعة أسهم وللثاني تسعة وللثالث أربعة، وإن قلنا إن الشفعة على عدد الرؤوس فللمشتري الأول نصف السدس الثاني وثلث الثالث وللثاني ثلث الثالث وهو نصف التسع فتصح من ستة وثلاثين فلشفيع تسعة وعشرون وللثاني خمسة وللثالث سهمان (فصل) دار بين أربعة أرباعاً باع ثلاثة منهم في عقود متفرقة ولم يعلم شريكهم ولا بعضهم ببعض فلذي لم يبع الشفعة في الجميع، وهل يستحق البائع الثاني والثالث الشفعة فيما باعه البائع الأول؟ على وجهين، وكذلك هل يستحق الثالث الشفعة فيما باعه الأول والثاني؟ على وجهين وهل يستحق مشتري الربع الأول الشفعة فيما باعه الثاني والثالث؟ أو هل يستحق الثاني شفعة الثالث على ثلاثة أوجه (أحدها) يستحقان لأنهما مالكان حال البيع (والثاني) لا حق لهما لأن ملكهما متزلزل يستحق أخذه بالشفعة فلا تثبت به (والثالث) إن عفا عنهما أخذ وإلا فلا فإذا قلنا يشترك الجميع فللذي لم يبع ثلث كل ربع لان
له شريكين فصار له الربع مضموما إلى ملكه فكمل له النصف للبائع الثالث والمشتري الأول الثلث لكل واحد منهما سدس لأنه شريك في شفعة مبيعين وللبائع الثاني والمشتري الثاني السدس لكل واحد منهما نصفه لأنه شريك في شفعة بيع واحد وتصح من اثني عشر (مسألة) (وإن اشترى واحد حق إثنين أو اشترى شقصين من دارين صفقة واحدة فللشفيع

(5/500)


أخذا أحدهما على أصح الوجهين) إذا اشترى رجل من رجلين شقصا صفقة واحدة فللشفيع أخذ نصيب أحدهما دون الآخر وبه قال الشافعي وحكي عن القاضي أنه لا يملك ذلك وهو قول أبي حنيفة ومالك لئلا تتبعض صفقة المشتري ولنا أن عقد الإثنين مع واحد عقدان لأنه مشترمن كل واحد منهما ملكه بثمن مفرد فكان للشفيع أخذه كما لو أفرده بعقد وبهذا ينفصل عما ذكروه، وأما إذا باع شقصين من أرضين صفقة واحدة لرجل واحد وكان الشريك في أحدهما غير الشريك في الآخر فلهما أن يأخذا ويقسما الثمن على قدر القيمتين، وإن أخذ أحدهما دون الآخر جازو يأخذ الشقص الذي في شركته بحصته من الثمن، ويتخرج أن لا شفعة له لأن فيه تبعيض الصفقة على المشتري وذلك ضرر به وليس له أخذهما معاً لأن أحدهما لا شركة له فيه ولا هو تابع لما فيه الشفعة فجرى مجرى الشقص والسيف على ما نذكره، وإن كان الشريك فيهما واحدا فله أخذهما وتركهما لأنه شريك فيهما وله أخذ أحدهما دون الآخر وهو منصوص الشافعي، وفيه وجه آخر أنه لا يملك ذلك، ومتى أختاره سقطت الشفعة فيهما لأنه أمكنه أخذ المبيع كله فلم يملك أخذ بعضنه كما لو كان شقصاً واحداً ذكره أبو الخطاب وبعض الشافعية ولنا أنه يستحق كل واحد منهما بسبب غير الآخر فجرى مجرى الشريكين ولأنه لو جرى مجرى

(5/501)


الشقص الواحد لوجب إذا كانا شريكين فترك أحدهما شفعته أن يكون للآخر أخذ الكل والأمر بخلافه (مسألة) (وإن باع شقفصا وسيفاً فللشفيع أخذ الشقص بحصته من الثمن ويحتمل أن لا يجوز) إذا باع شقصا مشفوا ومعه مالاً شفعة فيه كالسيف والثوب في عقد واحد ثبتت الشفعة في الشقص
بحصته من الثمن دون ما معه فيقوم كل واحد منهما ويقسم الثمن على قدر قيمتهما فما يخص الشقص بأخذ به الشفيع وبه قال أبو حنيفة والشافعي، ويحتمل أن لا يجب لئلا تتبعض شفعة المشتري وفي ذلك إضرار به أشبه مالو أراد أخذ بعض الشقص وقال مالك تثبت الشفعة فيهما لذلك ولنا أن السيف لا شفعة فيه ولا هو تابع لما فيه الشفعة فلم يؤخذ بالشفعة كما لو أفرده والضرر اللاحق بالمشتري هو ألحقه بنفسه لجمعه في العقد بين ما تثبت فيه الشفعة وما لا تثبت ولأن في الأخذ بالكل أضراراً بالمشتري أيضاً لأنه ربما كان غرضه في ابقاء السيف له ففي أخذه منه إضرار به من غير سبب يقتضيه (مسألة) (وإن تلف بعض المبيع فله أخذ الباقي بحصته من الثمن وقال ابن حامد إن كان تلفه بفعل الله تعالى فليس له أخذه إلا بجميع الثمن) إذا تلف الشقص أو بعضه في يد المشتري فهو من ضمانه لأنه ملكه تلف في يده، فإن أراد

(5/502)


الشغيغ الأخذ إذا تلف بعضه أخذ الموجود بحصته من الثمن سواء كان التلف بفعل الله تعلى أو بفعل آدمي وسواء تلف بإختيار المشتري كنقضه البناء أو بغير اختياره مثل أن انهدم، ثم إن كانت الأبعاض موجودة أخذها مع العرصة بالحصة وإن كانت معدومة أخذ العوض وما بقي من البناء، وهذا ظاهر كلام أحمد في رواية ابن القاسم وهو قول الثوري والعنبري وأبي يوسف وقول للشافعي، وقال ابن حامد إن كان التلف بعفل آدمي كما ذكرنا وإن كان بفعل الله تعالى كانهدام البناء بنفسه أو حريق أو غرق فليس للشغيع أخذ الباقي إلا بكل الثمن أو يترك وهو قول أبي حنيفة وقول للشافعي لأنه متى كان النقص بفعل آدمي رجع بدله إلى المشتري فلا يتضرر ومتى كان بغير ذلك لم يرجع إليه شئ فيكون الأخذ منه إضراراً به والضرر لا يزال بالضرر.
ولنا أنه تعذر على الشفيع أخذ الجميع وقدر على أخذ البعض فكان له بالحصة كما لو تلف بفعل سواء وكما لو كان له شفيع آخر، أو نقول أخذ بعض ما دخل معه في العقد فأخذه بالحصة كما لو كان معه سيف، وأما الضرر فإنما حصل بالتلف ولا صنع للشفيع فيه والذي يأخذه الشفيع يؤدي ثمنه فلا يتضرر المشتري بأخذه وإنما قلنا يأخذ الأبعاض وإن كانت منفصلة لأن استحقاقه
كان حال عقد البيع وفي تلك الحال كان متصلاً اتصالاً ليس مآله إلى الانفصال وانفصاله بعد ذلك لا يسقط حق الشفعة، ويفارق الثمرة غير المؤبرة إذا أبرت فإن مآلها إلى الإنفصال والظهور فإذا ظهر فقد انفصلت فلم تدخل في الشفعة، وإن نقصت القيمة مع بقاء صورة المبيع مثل إن أنشق الحائط واستهدم

(5/503)


البناء وشعث الشجر وبارت الأرض فليس له إلا أن يأخذ بجميع الثمن أو يترك لأن هذه المعاني لا يقابلها الثمن بخلاف الأعيان، ولهذا لو بنى المشتري أعطاه الشفيع قيمة بنائه، ولو زاد المبيع زيادة متصلة دخلت في الشفعة.
(فصل) (الشرط الخامس أن يكون للشفيع ملك سابق) لأن الشفعة إنما ثبتت للشريك لدفع الضرر عنه وإذا لم يكن له ملك سابق فلا ضرر عليه فلا تثبت له الشفعة (مسألة) (فإن اشترى إثنان دارا صفقة واحدة فلا شفعة لأحدهما على صاحبه) لأنه لا مزية لأحدهما على صاحبه لتساويهما.
(مسألة) (فإن ادعى كل واحد منهما السبق فتحالفا أو تعارضت بينتا هما فلا شفعة لهما) إذا كانت دار بين رجلين فادعى كل واحد منهما على صاحبه أنه يستحق ما في يده بالشفعة سئلا متى ملكتماها؟ فإن قالا ملكناها دفعة واحدة فلا شفعة لأحدهما على الآخر لأن الشفعة إنما ثبتت بملك سابق في ملك متجدد بعده وإن قال كل واحد منهما ملكي سابق ولأحدهما بينة بما ادعاه قضي له وإن كان لكل واحدم منهما بينة قدم أسبقهما تاريخاً فإن شهدت بينة كل واحد منهما بسبق ملكه وتجدد ملك صاحبه تعارضتا، وإن لم يكن لواحد منهما بينة سمعنا دعوى السابق وسألنا خصمه فإن أنكر فالقول

(5/504)


قوله مع يمينه فإن حلف سقطت دعوى الأول ثم نسمع دعوى الثاني على الأول فإن أنكر وحلف سقطت دعواهما جميعاً وإن ادعى الأول فنكل الثاني عن اليمين قضينا عليه ولم نسمع دعواه لأن خصمه قد استحق ملكه وإن حلف الثاني ونكل الأول قضينا عليه (مسألة) (ولا شفعة بشركة الوقف في أحد الوجهين)
ذكره القاضيان ابن أبي موسى وأبو يعلى وهو ظاهر مذهب الشافعي لأنه لا يؤخذ بالشفعة فلا تجب به كالمجاور وما لا ينقسم ولأننا إن قلنا هو غير مملوك فالموقوف عليه غير مالك وإن قلنا هو مملوك فملكه غير تام لأنه لا يبيح إباحة التصرف في الرقبة فلا يملك به ملكاً تاماً، وقال أبو الخطاب إن قلنا هو مملوك وجبت به الشفعة لأنه مملوك بيع في شركته شقص فوجبت به الشفعة كالطلق ولأن الضرر يندفع عنه بالشفعة فوجبت فيه كوجوبها في الطلق وإنما لم يستحق بالشفعة لأن الأخذ بها بيع وهو مما لا يجوز بيعه (فصل) وإن تصرف المشتري في المبيع قبل الطلب بوقف أو هبة سقطت الشفعة نص عليه في رواية علي بن سعيد وبكر بن محمد وحكي ذلك عن الماسرجسي في الوقف لأن الشفعة إنما تثبت في المملوك وقد خرج بهذا عن كونه مملوكاً قال ابن أبي موسى من اشترى داراً فجعلها مسجداً فقد استهلكها

(5/505)


ولا شفعة فيها ولأن في الشفعة ههنا إضراراً بالموهوب له والموقوف عليه لأن ملكه يزول عنه بغير عوض ويزال الضرر بالضرر بخلاف البيع فإنه إذا فسخ البيع الثاني رجع المشتري الثاني بالثمن الذي أخذ منه فلا يلحقه ضرر، ولأن ثبوت الشفعة ههنا يوجب رد العوض إلى غير المالك وسلبه عن المالك وفي ذلك ضرر فيكون منفياً، وقال أبو بكر للشفيع فسخ ذلك وأخذه بالثمن الذي وقع به البيع وهذا قول مالك والشافعي وأصحاب الرأي لأن الشفيع يملك فسخ البيع الثاني والثالث مع إمكان الأخذ بهما فلأن يملك فسخ عقد لا يمكنه الأخذ به أولى، ولأن حق الشفيع أسبق وجنبته أقوى فلم يملك المشتري تصرفا يبطل حقه ولا يمتنع أن يبطل الوقف لأجل حق الغير كما لو وقف المريض أملاكه وعليه دين فإنه إذا مات رد الوقف إلى الغرماء والورثة فيما زاد على ثلثه بل لهم إبطال العتق والوقف أولى، فإذا قلنا بثبوت الشفعة أخذ الشفيع الشقص ممن هو في يده ويفسخ عقده ويدفع الثمن إلى المشتري وحكي عن مالك أنه يكون للموهوب له لأنه يأخذ ملكه.
ولنا أن الشفيع يبطل الهبة ويأخذ الشقص بحكم العقد الأول ولو لم يكن وهب كان الثمن له فكذلك بعد الهبة المفسوخة
(مسألة) (وإن باع فله الأخذ بأي البيعين شاء فإن أخذ بالأول رجع الثاني على الأول) إذا تصرف المشتري في المبيع قبل أخذ الشفيع أو قبل علمه صح تصرفه لأنه ملكه وصح قبضه

(5/506)


له ولم يبق إلا أن الشفيع ملك أن يتملكه عليه وذلك لا يمنع من تصرفه كما لو كان أحد العوضين في البيع معيناً لم يمنع التصرف في الآخر، والموهوب له يجوز له التصرف في الهبة وإن كان الواصب ممن له الرجوع فيه مفتى تصرف فيه تصرفاً تجب به الشفعة كالبيع فللشفيع الخيار إن شاء فسخ البيع الثاني وأخذه بالبيع الأول بثمنه لأن الشفعة وجبت له قبل تصرف المشتري وإن شاء أمضى تصرفه وأخذ بالشفعة من المشتري الثاني لأنه شفيع في العقدين فكان له الأخذ بأيهما شاء، وإن تبايع ذلك ثلاثة فله أن يأخذ بالبيع الأول وينفسخ العقدان الآخران وله أن يأخذه بالثاني وينفسخ الثالث وحده وله ان يأخذه بالثلث ولا ينفسخ شئ من العقود، فإذا أخذه من الثالث دفع إليه الثمن الذي اشترى به ورجع الثالث عليه بما أعطاه لأنه قد انفسخ عقده وأخذ الشقص منه فرجع بثمنه على الثاني لأنه أخذه منه وإن أخذ بالبيع الأول دفع إلى المشتري الأول الثمن الذي اشترى به وانفسخ عقد الآخرين ورجع الثالث على الثاني بما أعطاه والثاني على الأول بما أعطاه، فإن كان الأول اشتراه بعشرة ثم اشتراه الثاني بعشرين ثم اشتراه الثالث بثلاثين فأخذه بالبيع الأول دفع إلى الأول عشرة وأخذ الأول من الثاني عشرين وأخذ الثالث من الثاني ثلاثين لأن الشقص إنما يؤخذ من الثالث لكونه في يده وقد انفسخ عقده فيرجع بثمنه الذي ورثه ولا نعلم في هذا خلافا، وبه يقول مالك والشافعي والعنبري وأصحاب الرأي وما كان في معنى البيع مما تجب به الشفعة فهو كالبيع على ما ذكرنا وإن كان مما لا تجب به الشفعة فو كالهبة والوقف على ما ذكرنا من الخلاف فيه والله أعلم

(5/507)


(مسألة) (وإن فسخ العقد بعيب أو إقالة أو تحالف فللشفيع أخذه ويأخذه في التحالف بما حلف عليه البائع) إذا رد المشتري الشقص بعيب أو قايل البائع فللشفيع فسخ الإقالة والرد والأخذ بالشفعة لأن
حقه سابق عليهما ولا يمكنه الأخذ معهما فان تحالفها على الثمن وفسخا البيع فللشفيع أن يأخذ الشقص بما حلف على البائع لأن البائع مقر بالبيع الثمن الذي حلف عليه ومقر للشفيع بإستحقاق الشفعة بذلك فإذا بطل حق المشتري بإنكاره لم يبطل حق الشفيع بذلك وله أن يبطل فسخهما ويأخذه لأن حقه أسبق (فصل) وإن اشترى شقصاً بعبد ثم وجد بائع الشقص بالعبد عيباً فله رد العبد وإسترجاع الشقص ويقدم على حق الشفيع لأن في تقديم حق الشفيع إضراراً بالبائع بإسقاط حقه من الفسخ الذي استحقه والشفعة ثبتت لإزالة الضرر فلا تثبت على وجه يحصل به الضرر فإن الضرر لا يزال بالضرر وقال أصحاب الشافعي يقدم حق الشفيع في أحد الوجهين لأن حقه أسبق فوجب تقديمه كما لو وجد المشتري بالشقص عيباً فرده ولنا أن في الشفعة إبطال حق البائع وحقه أسبق لأنه استند إلى وجود العيب وهو موجود حال البيع والشفعة ثبتت بالبيع فكان حق البائع سابقاً وفي الشفعة إبطاله فلم تثبت، وينارق ما إذا كان

(5/508)


الشقص معيباً فإن حق المشتري إنما هو في استرجاع الثمن قد تحصل له من الشفيع فلا فائدة في الرد وفي مسئلتنا حق البائع في استرجاع الشقص ولا يحتمل ذلك مع الأخذ بالشعفة فافترقا، فإن لم يرد البائع العبد المعيب حتى أخذ الشفيع كان له رد العبد ولم يملك استرجاع المبيع لان الشفيع ملكب بالأخذ فلم يملك البائع إبطال ملكه كما لو باعه المشتري لاجني فإن الشفعة بيع في الحقيقة ولكن يرجع بقيمة الشقص لأنه بمنزلة التالف والمشتري قد أخذ من الشفيع قيمة العبد فهل يتراجعان؟ فيه وجهان (أحدهما) لا يتراجعان لأن الشفيع أخذ بالثمن الذي وقع عليه العقد وهو قيمة العبد صحيحا لاعيب فيه بدليل أن البائع إذا علم بالعيب ملك رده ويحتمل أن يأخذه بقيمته معيباً لأنه إنما أعطى عبداً معيباً فلا يأخذ قيمة غير ما أعطي (والثاني) يتراجعان لأن الشفيع إنما يأخذ بالثمن الذي استقر عليه العقد والذي استقر عليه العقد قيمة الشقص فإذا قلنا يتراجعان فأيهما كان ما دفعه أكثر رجع بالفضل على صاحبه، وإن لم يرد البائع العبدو لكن أخذ أرشه لم يرجع المشتري على الشفيع بشئ
لأنه إنما دفع إليه قيمة العبد غير معيب وإن أدى قيمته معيباً رجع المشتري عليه بما أدى من أرشه وإن عفا عنه ولم يأخذ أرشاً لم يرجع الشفيع عليه بشئ لأن البيع لازم من جهة المشتري لا يملك فسخه فاشبه مالو حط عنه بعض الثمن بعد لزوم العقد، وإن عاد الشقص إلى المشتري ببيع أو هبة أو إرث أو غيره فليس للشفيع أخذه بالبيع الأول لأن ملك المشتري زال عنه وإنقطع حقه منه وإنتقل حقه إلى

(5/509)


القيمة فإذا أخذها لم يبق له حق بخلاف مالو غصب شيئاً لم يقدر على رده فأدى قيمته ثم قدر عليه فإنه يرده لأن ملك المغصوب منه لم يزل عنه (فصل) ولو كان ثمن الشقص مكيلا أو موزونا فتلف قبل قبضه بطل البيع وبطلت الشفعة لأنه تعذر التسليم فتعذر إمضاء العقد فلم تثبت الشفعة كما لو فسخ البيع في مدة الخيار بخلاف الإقالة والرد بالعيب وإن كان الشفيع قد أخذ الشقص فهو كما لو أخذه في المسألة التي قبلها لان لمشتري النقص التصرف فيه قبل نقبيض ثمنه فأشبه مالو أشتراه منه أجنبي (فصل) فإن اشترى شقصا بعبد أو ثمن معين فخرج مستحقاً فالبيع باطل ولا شفعة فيه لأنها إنما تثبت في عقد ينقل الملك إلى المشتري وهو العقد الصحيح فأما الباطل فوجوده كعدمه فإن كان الشفيع قد أخذ بالشفعة لزمه رد ما أخذ على البائع ولا يثبت ذلك إلا ببينة أو اقرارا من الشفيع والمتبايعين وإن أقر المتبايعان وأنكر الشفيع لم يقبل قولهما عليه وله الأخذ بالشفعة ويرد العبد إلى صاحبه ويرجع البائع على المشتري بقيمة الشقص وإن أقر الشفيع أو المشتري دون البائع لم تثبت الشفعة ويجب على المشتري رد قيمة العبد على صاحبه ويبقى الشقص معه يزعم أنه للبائع والبائع ينكره ويدعي عليه وجوب رد العبد والمشتري ينكره فيشتري الشقص منه ويتبار آن، وإن أقر الشفيع والبائع وأنكر المشتري وجب على البائع رد العبد لعى صاحبه ولم تثبت الشفعة ولم يملك البائع مطالبة المشتري بشئ لأن البيع صحيح في الظاهر وقد أدى ثمنه الذي هو ملكه في الظاهر، ان أقر الشفيع وحده

(5/510)


لم تثبت الشفعة ولا يثبت شئ من أحكام البطلان في حق المتبايعين، فأما إن اشترى الشقص بثمن في
في الذمة ثم نقد الثمن فبان مستحقاً كانت الشفعة واجبة لأن البيع صحيح، فإن تعذر قبض الثمن من المشتري لإعسار أو غيره فللبائع فسخ البيع ويقدم حق الشفيع لأن بالأخذ بها يحصل للمشتري ما يؤديه ثمناً فتزول عسرته ويحصل الجمع بين الحقين فكان أولى (فصل) واذا وجبت الشفعة وقضى القاضي بها والشقص في يد البائع ودفع الثمن إلى المشتري فقال البائع للثفيع أقلني فأقاله لم تصح الإقالة لأنها تصح بين المتبايعين وليس بين الشفيع والبائع بيع وإنما هو مشتر من المشتري فإن باعه إياه صح لأن العقار يجوز التصرف فيه قبل قبضه (مسألة) (وإن أجره المشتري أخذه الشفيع وله الأجرة من يوم أخذه) لأنه صار ملكه بأخذه.
(مسألة) (وإن استغله المشتري فالغلة له) لانها نماء ملكه (مسألة) (وإن أخذه الشفيع وفيه زرع أو ثمرة ظاهرة فهي للمشتري مبقاة إلى الحصاد والجذاذ) إذا زرع المشتري الأرض فللشفيع الأخذ بالشفعة ويبقى زرع المشتري إلى الحصاد لأن ضرره لا يتباقي ولا أجرة عليه لانه زرعه في ملكه ولأن الشفيع إشترى الأرض وفيها زرع للبائع فكان له مبقى إلى الحصاد بلا أجرة كغير المشفوع وإن كان في الشجر ثمر ظاهر أثمر في ملك المشتري فهو له مبقى إلى الجذاذ كالزرع

(5/511)


(فصل) وإذا نمى المبيع في يد المشتري لم يخل من حالين أحدهما) أن يكون نماء منتصلا كالشجر إذا كبر أو ثمرة غير ظاهرة فأن الشفيع يأخذه بزيادته لأنها زيادة غير متميزة فتبعت الأصل كما لو رد بعيب أو خيار أو إقالة، فإن قيل فلم لا يرجع الزوج في نصفه زائداً إذا طلق قبل الدخول؟ قلنا لأن الزوج يقدر على الرجوع بالسيمة إذا فاته الرجوع في العين وفي مسئلتنا إذا لم يرجع في الشقص سقط حقه من الشفعة فلم يسقط حقه من الأصل لأجل ما حدث من البائع وإذا أخذ الأصل تبعه نماؤه المتصل كما ذكرنا في الفسوخ كلها (الحال الثاني) أن تكون الزيادة مننفصلة كالغلة والأجرة والطلع المؤبرو الثمرة الظاهرة فهي للمشتري لأنها حدثت في ملكه وتكون مبقاة في رءوس النخل إلى الجذاذ لأن أخذ الشفيع من يشتري شراء ثان فيكون حكمه حكم مالو اشترى برضاه وإن اشتراه وفيه
طلع غيره مؤبر فأبرأ ثم أخذه الشفيع أخذ الأصل دون الثمرة ويأخذ الأرض والنخيل بحصتهما من الثمن كما لو كما لو كان المبيع شقصا (مسألة) وإن قاسم المشتري وكيل الشفيع أو قاسم الشفيع لكونه أظهر له زيادة في الثمن أو نحوه وغرس أو بنى فللشفيع أن يدفع إليه قيمة الغراس والبناء ويملكه أو يقلعه ويضمن النقص فإن اختار الشفيع أخذه واختار المشتري قلعه فله ذلك إذا لم يكن فيه ضرر بالقلع) وجملة ذلك أنه يتصور بناء المشتري وغرسه في الشقص المشفوع على وجه مباح في مسائل (منها)

(5/512)


أن يظهر المشتري أنه اشتراه بأكثر من ثمنه أو أنه وهب له أو غير ذلك مما يمنع الشفيع من الأخذ بها فيتركها ويقاسمه ثم يبني المشتري ويغرس فيه (ومنها) أن يكون غائبا فيقاسمه وكيله أو صغيراً فيقاسمه وليه أو نحو ذلك ثم يقدم الغائب أو يبلغ الصبي فيأخذ بالشفعة، وكذلك إن كان غائباً أو صغيراً فطالب المشتري الحاكم بالقسمة فقاسم ثم قدم الغائب وبلغ الصبي فيأخذ بالشفعة بعد غرس المشتري وبنائه فإن للمشتري قلع غرسه وبنائه إن اختار ذلك لأنه ملكه فإذا قلعه فلليس عليه تسوية الحفر ولا نقص الأرض ذكره القاضي وهو قول الشافعي لأنه غرس وبنى في ملكه وما حدث من النقص إنما حدث في ملكه وذلك مما لا يقابله ثمن، وظاهر كلام الخرقي أن عليه ضمان النقص الحاصل بالقلع لأنه اشترط في قلع الغرس والبناء عدم الضرر وذلك لأنه نقص دخل على ملك غيره لأجل تخليص ملكه فلزمه ضمانة كما لو كسر مجبرء غيره لا خراج ديناره منها، قولهم أن النقص حصل في ملكه ليس كذلك فإن النقص الحاصل بالقلع إنما حصل في ملك الشفيع فأما نقص الأرض الحاصل بالغرس والبناء فلا يضمنه لما ذكروه، فإن لم يختر المشتري القلع فللشفيع الخيار بين ثلاثة أشياء: ترك الشفعة وبين دفع قيمة الغراس والبناء فيملكه مع الأرض وبين قلع الغراس والبناء وبضمن له ما نقص بالقلع.
وبهذا قال الشعبي والاوزاعي وابن أبي ليلى ومالك والليث والشافعي والبتي وسوار واسحاق، وقال حماد بن أبي سليمان والثوري وأصحاب الرأي يكلف المشتري القلع ولا شئ له لأنه بنى فيما استحق عليه أخذه فأشبه الغاصب ولأنه بنى في حق غيره بغير إذنه فأشبه مالو كانت مستحقة

(5/513)


ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم (لا ضرر ولا إضرار) ولا يزول الضرر عنهما إلا بذلك ولأنه بنى في ملكه الذي ملك بيعه فلم يكلف قلعه مع الإضرار كما لو لم يكن مشفوعاً، وفارق ما قاسوا عليه فإنه بنى في غير ملكه، ولأنه عرق ظالم وليس لعرق ظالم حق.
إذا ثبت هذا فإنه لا يمكن إيجاب قيمته مستحقاً للبقاء في الأرض لأنه لا يستحق ذلك، ولا قيمته مقلوعاً لأنه لو وجبت قيمته مقلوعا لوجب قلعة ولم يضمن شيئاً ولأنه قد يكون مما لا قيمة له إذا قلعه، ولم يذكر أضحابنا كيفية وجوب القيمة فالظاهر أن الأرض تقوم مغروسة مبنية ثم تقوم خالية منها فيكون ما بينهما قيمة الغرس والبناء فيدفعه الشفيع إلى المشتري إن أحب أو ما نقص مننه إن اختار القلع لأن ذلك هو الذي زاد بالغرس والبناء، ويحتمل أن يقوم والبناء مستحق للترك بالأجرة أو لأخذه بالقيمة إذا امتنعا من قلعة، فإن كان للغرس وقت يقلع فيه فيكون له قيمة وإن قلع قبله لم يكن له قيمة أو تكون قيمته قليلة فاختار الشفيع قلعه قبل وقته فله ذلك لأنه يضمن النقص فينجبر به ضرر المشتري سواء كثر النقص أو قل ويعود ضرر كثرة النقص على الشفيع وقد رضي بتحمله، وإن غرس أو بنى مع الشفيع أو وكيله في المشاع ثم أخذه الشفيع فالحكم في أخذ نصيبه من ذلك كالحكم في أخذ جميعه بعد المقاسمة (مسألة) (فإن باع الشفيع ملكه قبل العلم لم تسقط شفعته في أحد الوجهين وللمشتري الشفعة فيما باعه الشفيع في أصح الوجهين)

(5/514)


وجملة ذلك أن الشفيع إذا باع ملكه عالماً بالحال سقطت شفعته لأنه لم يبق له ملك يستحق به، ولانه الشفعة تثبت لإزالة الضرر الحاصل بالشركة، وقد زال ذلك بييعه، وإن باع بعضه ففيه وجهان (أحدهما) تسقط أيضاً لأنها استحقت بجميعه، وإذا باع بعضه سقط ما تعلق بذلك من الشفعة فسقط باقيها لأنها لا تتبعض فيسقط جميعها بسقوط بعضها كالرق والنكاح وكما لو عفا عن بعضها (والثاني) لا تسقط لأنه قد بقي من نصيبه ما يستحق به الشفعة في جميع المبيع لو انفرد، وفكذلك إذا بقي، وللمشتري الأول الشفعة على الثاني في المسألة الأولى، وفي الثانية إذا قلنا بسقوط شفعة البائع الأول
لأنه شريك في المبيع، وإن قلنا لا تسقط شفعة البائع فله أخذ الشقص من المشتري الأول، وهل للمشتري الأول شفعة على المشتري الثاني؟ فيه وجهان (أحدهما) له الشفعة لأنه شريك فإن الملك ثابت له يملك التصرف فيه بجميع التصرفات ويستحق نماء وفوائده، واستحقاق الشفعة به من فوائده (والثاني) لا شفعة له لأن ملكه يؤخذ بها فلا تؤخد الشفعة به ولان ملكه متزلزل ضعيف فلا يستحق الشفعة به لضعفه، قاغل شيخنا والأول أقيس فإن استحقاق أخذه منه لا يمنع أن يستحق به الشفعة كالصداق قبل الدخول والشقص الموهوب للولي.
فعلى هذا للمشتري الأول الشفعة على المشتري الثاني سواء أخذ منه المبيع بالشفعة أو لم يؤخذ، وللبائع الثاني إذا باع بعض الشقص الأخذ من المشتري الأول في أحد الوجهين، فأما إن باع الشفيع ملكه قبل علمه بالبيع الأول فقال القاضي تسقط شفعته

(5/515)


أيضاً لما ذكرناه وهو مذهب الشافعي ولأنه زال السبب الذي يستحق به الشفعة وهو الملك الذي يخاف الضرر بسببه فصار كمن اشترى معيباً لا يعلم عيبه حتى زال أو حتى باعه.
فعلى هذا حكمه حكم مالو باع مع علمه سواء فيما إذا باع جميعه أو بعضه، وقال أبو الخطاب لا تسقط شفعته لأنها ثبتت له ولم يوجد منه رضي بتركها ولا ما يدل على إسقاطها والأصل بقاؤها بخلاف ما إذا علم فإن بيعه دليل على رضاه بتركها.
فعلى هذا للبائع الثاني أخذ الشقص من المشتري الأول فإن عفا عنه فللمشتري الأول أخذ الشقص من المشتري الثاني، وإن أخذ منه فهل للمشتري الأول الأخذ من الثاني؟ على وجهين (أولاهما أن له الأخذ لأن ملكه كان ثابتاً حال البيع ولم يوجد منه ما يمنع ذلك (مسألة) (وإن مات بطلت شفعته إلا أن يموت بعد طلبها فتكون لوارثه) وجملة ذلك أن الشفيع إذا مات قبل الأخذ بالشفعة فإن كان قبل الطلب بها سقطت ولا تنقل إلى الورثة، قال أحمد الموت يبطل به ثلاثة أشياء الشفعة والحد إذا مات المقذوف والخيار إذا مات الذي اشترط الخيار، لم يكن للورثة هذه الثلاثة أيضاً إنما هي بالطلب فإذا لم يطلب فليس تجب إلا أن يشهد أني على حقي من كذا وكذا وإني قد طلبته فإن مات بعده كان لوارثه الطلب به، وروي سقوط الشفعة بالموت عن الحسن وابن سيرين والشعي والنخعي وبه قال الثوري واسحاق وأصحاب الرأي
وقال مالك والشافعي والعنبري يورث، قال أبو الخطاب ويتخرج لنا مثل ذلك لأنه خيار ثابت لدفع الضرر عن المال فيورث كخيار الرد بالعيب

(5/516)


ولنا أنه حق فسخ ثبت لا لفوات جزء فلم يورث كالرجوع في الهبة ولأنه نوع خيار جعل للتمليك أشبه خيار القبول فأما خيار الرد بالعيب فانه لا ستدارك جزء فات من المبيع (فصل) فإن مات بعد طلب الشفعة انتقل حق المطالبة بالشفعة إلى الورثة قولاً واحداً ذكره أبو الخطاب، وقد ذكرنا نص أحمد عليه لأن الحق يتقرر بالطلب ولذلك لا يسقط بتأخير الحق بعده وقبله يسقط، وقال القاضي يصير الشقص ملكاً للشفيع بنفس المطالبة والأول أصح فإنه لو صار ملكاً للشفيع لم يصح العفو عن الشفعة بعد طلبها كما لا يصح العفو عنها بعد الأخذ بها.
فإذا ثبت هذا فإن الحق ينتقل إلى جميع الورثة على قدر ارثهم لأنه حق مالي موروث فينتقل إلى الجميع كسائر الحقوق المالية وسواء قلنا الشفعة على قدر الأملاك أو على عدد الرؤوس لأن هذا ينتقل إليهم من موروثهم فإن ترك بعض الورثة حقه توفر الحق على باقي الورثة ولم يكن لهم إلا أن يأخذوا الكل أو يتركوا كالشفعاء إذا عفا بعضهم عن شفعته لأنا لو جوزنا أخذ بعض الشقص لتشقص المبيع وتبعضت الصفقة على المشتري وهذا ضرر في حقه (فصل) وان أشهد الشفيع على مطالبته بها للعذر ثم مات لم تبطل وللورثة المطالبة بها نص عليه أحمد لأن الإشهاد على الطلب عند العجز عنه يقوم مقامه فلم تسقط الشفعة بالموت بعده كنفس الطلب

(5/517)


(فصل) وإذا بيع شقص له شفيعان فعفاعنها أحدهما وطالب بها الآخر ثم مات الطالب فورثه العافي فله أخذ الشقص بها لأنه وارث لشفيع مطالب بالشفعة فملك الأخذ بها كالأجنبي وكذلك لو قذف رجل أمهما وهي ميتة فعفا أحدهما وطلب الآخر ثم مات الطالب فورثه العافي ثبت له استيفاؤه بالنيابة عن أخيه الميت إذا قلنا بوجوب الحد بقذفها
(فصل) ولو مات مفلس وله شقص فباع شريكه كان لورثته الشفعة وهذا مذهب الشافعي، وقال أبو حنيفة لا شفعة لهم لأن الحق النتقل إلى الغرماء ولنا أنه بيع في شركة ما خلفه موروثهم شقص فكان لهم المطالبة بشفعته كغير المفلس، ولا نسلم أن التركة انتقلت إلى الغرماء بل هي للورثة بدليل أنها لو نمت أو زاد ثمنا لحسب على الغرماء في قضاء ديونهم، وإنما تعلق حقهم به فلم يمنع ذلك من الشفعة كما لو كان لرجل شقص مرهون فباع شريكه فإنه يستحق الشقعة به، ولو كانت للميت دار فبيع بعضها في قضاء دينه لم يكن للورثة شفعة لأن البيع يقع لهم فلا يستحقون الشفعة على أنفسهم ولو كان الورث شريكا للمورث فباع نصيب الموروث في دينه فلا شفعة أيضا لانه نصيب الموروث انتقل بموته إلى الوارث فإذا بيع فقد بيع ملكه فلا يستحق الشفعة على نفسه (فصل) ولو اشترى شقصا مشفوعاً ووصى به ثم مات فللشفيع أخذه بالشفعة لأن حقه أسبق

(5/518)


من حق الموصى له فإذا أخذه دفع الثمن إلى الورثة وبطلت الوصية لأن الموصى به ذهب فبطلت الوصية به كما لو تلف، ولا يستحق الموصى له بدله لأنه لم يوص له إلا بالشقص، وقد فات بأخذه، ولو وصى رجل لانسان بتقص ثم مات فبيع في شركته شقص قبل قبول الموصى له فالشفعة للورثة في الصحيح لأن الموصى به لا يصير للموصى له إلا بعد القبول ولم يوجد فيكون باقياً على ملك الورثة، ويحتمل أن يكون للموصى له إذا قلنا إن الملك ينقل إليه بمجرد الموت فإذا قبل الوصية استحق المطالبة لأننا تبينا أن الملك كان له فكان المبيع في شركته، ولا يستحق المطالبة قبل القبول لأنا لا نعلم أن الملك له قبل القبول لأنا لا نعلم أن الملك له قبل القبول وإنما يتبين ذلك بقبوله فإن قبل تبينا انه كانله وإن رد تبينا أنه كان للورثة ولا يستحق الورثة المطالبة أيضاً لذلك ويحتمل أن لهم المطالبة لأن الأصل عدم القبول وبقاء الحق لهم، ويفارق الموصى له من وجهين (أحدهما) أن الأصل عدم القبول منه (والثاني) أنه يمكنه أن يقبل ثم يطالب بخلاف الوارث فإنه لا سبيل له إلى فعل ما يعلم به ثبوت الملك له أو لغيره فإذا طالبوا ثم قبل الوصي الوصية كانت الشفعة له ويفتقر إلى الطلب منه لان الطلب الاول يتبين نه من غير المستحق، وإن قلنا بالرواية الأولى
فطالب الورثة بالشفعة فلهم الأخذ بها وإذا قبل الوصي أخذ الشقص الموصى به دون الشقص المشفوع لأن الشقص الموصى به إنما انتقل إليه بعد الأخذ بشفعته فأشبه ما لو أخذ بها الموصى في حياته، وإن لم يطالبوا بالشفعة حتى قبل الموصى له فلا شفعة له لأن البيع وقع قبل ثبوت الملك له وحصول شركته وفي ثبوتها للورثة وجهان بناء على مالو باع الشفيع نصيبه قبل علمه ببيع شريكه

(5/519)


(فصل) ولو اشترى رجل شقصاً ثم ارتد فقتل أو مات فللشفيع أخذه بالشقعة لأنها وجبت بالشراء وانتقاله إلى المسلمين بقتله أو موته لا يمنع الشفعة كما لو مات على الإسلام فورثه ورثته أو صار ماله لبيت المال لعدم ورثته والمطالب بالشفعة وكيل بيت المال (فصل) وإذا اشترى المرتد شقصا فتصرفه موقوف فإن قتل على ردته أو مات عليها تبينا أن شراءه باطل ولا شفعة فيه وإن أسلم تبينا صحته وثبوت الشفعة فيه، وقال أبو بكر تصرفه غير صحيح في الحالين لأن ملكه يزول بردنه فإذا أسلم عاد اليه تمليكا مستأنفا، وقال الشافعي وأبو يوسف تصرفه صحيح في الحالين وتجب الشفعة فيه، ومبنى الشفعة ههنا على صحة تصرف المرتد ويذكر في غير هذا الموضع، وإن بيع شقص في شركة المرتد وكان المشتري كافراً فأخذه بالشفعة انبنى على ذلك أيضاً لأن اخذ بالشفعة شراء للشقص من المشتري فأشبه شراءه لغيره، فإن ارتد الشفيع المسلم وقتل بالردة أو مات عليها انتقل ماله إلى المسلمين، فان كان طالب بالشفعة انتقلت أيضاً إلى المسلمين ينظر فيها الإمام أو نائبه وإن قتل أو مات قبل طلبها بطلت شفعته كما لو مات على إسلامه، ولو مات الشفيع المسلم ولم يحلف وارثاً سوى بيت المال انتقل نصيبه إلى المسلمين إن مات بعد الطلب والافلا (فصل) قال رحمه الله (ويأخذ الشفيع بالثمن الذي وقع عليه العقد فإن عجز عنه أو عن بعضه سقطت شفعته) وجملة ذلك أن الشفيع يأخذ الشقص من المشتري بالثمن الذي استقر عليه العقد لما روي في

(5/520)


حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (هو أحق به بالثمن) رواه الجوزجاني في كتابه ولأن الشفيع إنما استحق الشقص بالبيع فكان مستحقاً له بالثمن كالمشتري فإن قيل أن الشفيع إستحق أخذه بغير رضا مالكه
فينبغي أن يأخذ بقيمته كالمضطر يأخذ طعام غيره، قلنا المضطر استحق أخذه بسبب حاجة خاصة فكان المرجع في بدله إلى قيمته والشفيع استحقه لا جل البيع ولهذا لو انتقل بهبة أو ميراث لم يستحق الشفعة وإذا استحق ذلك بالبيع وجب أن يكون بالعوض الثابت بالبيع.
إذا ثبت هذا فإننا نتظر في الثمن فإن كان دراهم أو دنانير أعطاه الشفيع مثله (فصل) ولا يأخذ بالشفعة من لا يقدر على الثمن لأن في أخذه بدون دفع الثمن أضراراً بالمشتري ولا يزال الضرر بالضرر، فإن أحضر رهناً أو ضميناً لم يلزم المشتري قبوله لأن عليه ضرراً في تأخير الثمن فلم يلزم المشتري ذلك كما لو أراد تأخير ثمن حال، وإن بذل عوضاً عن الثمن لم يلزمه قبوله لأنها معاوضة فلم يجبر عليها، وإذا أخذ بالشفعة لم يلزم المشتري تسليم الشقص حتى يقبض الثمن فإن كان موجوداً سلمه وإن تعذر في الحال فقال أحمد في رواية حرب ينظر الشفيع يوماً أو يومين بقدر ما يرى الحاكم فإذا كان أكثر فلا وهذا قول مالك، وقال ابن شبرمة وأصحاب الشافعي نيظر ثلاثاً لأنها آخر حد القلة فإن أحضر الثمن والافسخ عليه، وقال أبو حنيفة وأصحاب لا يأخذ بالشفعة ولا

(5/521)


يقتضي القاضي بها حتى يحضر الثمن لأن الشفيع يأخذ الشقص بغير احتيار المشتري فلا يستحق ذلك إلا بإحضار عوضه كتسليم المبيع ولنا أنه تملك للمبيع بعوض فلا يفف على إحضار العوض كالبيع، وأما التسليم في البيع فالتسليم في الشفعة مثله وكون الاخذ بغير اختيار المشتري يدل على قوته فلا يمنع من اعتباره في الصحة، ومتى أجلناه مدة فأحضر الثمن فيها والافسخ الحاكم الأخذ ورده إلى المشتري، وكذا لو هرب لشفيع بعد الأخذ قال شيخنا والأولى إن للمشتري الفسخ من غير حاكم لأنه فات شرط الأخذ ولأنه تعذر على البائع الوصول إلى الثمن فملك الفسخ كغير من أخذت الشفعة منه، وكما لو أفلس الشفيع والشفعة لا تقف على حكم الحاكم فلا يقف فسخ الأخذ بها على الحاكم كفسخ غيرها من البيوع وكالرد بالعيب ولأن وقف ذلك على الحاكم يفضي إلى الضرر بالمشتري لأنه قد يتعذر عليه إثبات ما يدعيه وقد يصعب عليه حضور مجلس الحاكم لبعده أو غير ذلك فلا يشرع فيها ما يفضي إلى الضرر، ولأنه لو وقف الأمر على الحاكم لم يملك
الاخذ الابعد احضار الثمن لئلا يفضي إلى هذا الضرر، وإن أفلس الشفيع خير المشتري بين الفسخ وبين أن يضرب مع الغرماء بالثمن كالبائع إذا أفلس المشتري (مسألة) (وما يزاد في ثمن أو يحط منه في مدة الخيار يلحق به وما بعد ذلك لا يلحق به) قد ذكرنا أن الشفيع إنما يستحق الشقص بالثمن الذي استقر عليه العقد فلو تبايعا بقدر ثم غيراه

(5/522)


في زمن الخيار بزيادة أو نقص ثبت ذلك التغيير في حق الشفيع لأن حق الشفيع إنما يثبت إذا تم العقد وإنما يستحق بالثمن الذي هو ثابت حال استحقاقه ولأن زمن الخيار بمنزلة حالة العقد والتعيير يلحق بالعقد فيه لأنهما على اختيارهما فيه كما لو كانا في حال العقد، فأما إذا انقضى الخيار وانبرم العقد فزادا أو نقصا لم يلحق بالعقد لأن الزيادة بعده هبة تعتبر لها شروط الهبة والنقص إبراء مبتدأ، ولا يثبت ذلك في حق الشفيع وبه قال الشافعي، وقال أبو حنيفة يثبت النقص في حق الشفيع دون الزيادة وإن كانا عنده ملحقان بالعقد لأن الزيادة تضر بالشفيع فلم يملكاها بخلاف النقص، وقال مالك إن بقي ما يكون ثمناً أخذ به وإن حظ الأكثر أخذه بجميع الثمن الأول.
ولنا أن ذلك يعتبر بعد استقرار العبد فلم يثبت في حق الشفيع كالزيادة ولأن الشفيع استحق الأخذ بالثمن الأول قبل التغيير فلم يؤثر التغيير بعد ذلك فيه كالزيادة وما ذكروه من العذدر لا يصح لأن ذلك لو لحق العقد لزم الشفيع وإن أضر به كالزيادة في مدة الخيار ولأنه حط بعد لزوم العقد فأشبه حط الجميع أو الأكثر عند مالك (مسألة) (وإن كان مؤجلا أخذه الشفيع بالأجل إن كان مليئاً وإلا أقام كفيلا مليئاً وأخذه به) وبهذا قال مالك وعبد الملك وإسحاق، وقال الثوري لا يأخذها إلا بالنقد حالا، وقال أبو حنيفة لا يأخذ إلا بثمن حال أو ينتظر مضي الأجل ثم يأخذ، وعن الشافعي كمذهبنا ومذهب أبي حنيفة

(5/523)


لأنه لا يمكنه أخذه بالمؤجل لأنه يقضي إلى أن يلزم المشتري قبول ذمة الشفيع والذمم لا تتماثل وإنما يأخذ بمثله ولا يلزمه أن يأخذ بمثله حالا لئلا يلزمه أكثر مما يلزم المشتري ولا بسلعة
بمثل الثمن إلى الأجل لأنه انما يأخذه بمثل الثمن أو القيمة والسلعة ليست واحداً منهما فلم يبق إلا التخيير ولنا أن الشفيع تابع للمشتري في قدر الثمن وصفته والتأجيل من صفاته ولأن في الحلول زيادة على التأجيل فلم يلزم الشفيع كزيادة القدر، وما ذكروه من اختلاف الذمم فأنا لا نوجبها حتى توجد الملاءة في الشفيع أو في الضامن بحيث ينحفظ المال فلا يضر اختلافهما فيها وراء ذلك، كما لو اشترى الشقص بسلعة وجبت قيمتها ولا يضر اختلافهما، ومتى أخذه الشفيع بالأجل فمات الشفيع أو المشتري وقننا يحل الدين بالموت حل الدين على الميت منهما دون صاحبه لأن سبب حلوله الموت فاختص بمن وجد في حقه (مسألة) (وإن كان الثمن عرضاً أعطاه مثله إن كان ذا مثل وإلا أعطاه قيمته) أما إذا كان من المثليات كالحبوب والأدهان فهو كالأثمان قياساً عليها فيعطيه الشفيع مثلها مثلها هكذا ذكره أصحابنا وهو قول أصحاب الرأي وأصحاب الشافعي لأن هذا مثل من طريق الصورة والقيمة فكان أولى من الممائل في إحداهما ولأن الواجب بذل الثمن فكان مثله كبدل العرض والمتلف وإن كان

(5/524)


مما لا مثل له كالثياب والحيوان فإن الشفيع يستحق الشقس بقيمة الثمن وهذا قول: أكثر أهل العلم وبه يقول أصحاب الرأي والشافعي وحكي عن الحسن وسوار أن الشفعة لا تجب ههنا لأنها تجب بمثل الثمن وهذا لا مثل له فتعذر الأخذ فلم يجب كما لو جهل الثمن ولنا أنه أحد نوعي الثمن فجاز أن تثبت به الشفعة في المبيع كالمثلى وما ذكروه لا يصح لان الثمل يكون من طريق الصورة ومن طريق القيمة كبدل المتلف (فصل) وإن كان الثمن تجب قيمته فإنها تعتبر وقت البيع لأنه وقت الاستحقاق والاعتبار بعد ذلك بالزايدة والنقص في القيمة، وإن كان فيه خيار اعتبرت القيمة حين انقضاء الخيار واستقرار العقد لأنه حين استحقاق الشفعة وبه قال الشافعي، وحكي عن مالك أنه يأخذه بقيمته يوم المحاكمة وليس بصحيح لأن وقت الإستحقاق وقت العقد وما زاد بعد ذلك حصل في ملك البائع فلا يكون للمشتري وما نقص فمن
مال البائع فلا ينقص حق المشتري (مسألة) (وإن اختلفا في قدر الثمن فالقول قول المشتري إلا أن تكون للشفيع بينة) اذ اختلف الشفيع والمشتري في الثمن فقال المشتري اشتريته بمائة فقال الشفيع بل بخمسين فاقول قول المشتري لأنه العاقد فهو أعرف بالثمن ولأن الشقص ملكه فلا ينزع عنه بالدعوى بغير بينة وبهذا قال الشافعي، قان قيل فهلا قلتم القول قول الشفيع لأنه غارم ومنكر للزيادة فهو كالغاصب

(5/525)


والمتلف والضامن نصيب شريكه إذا أعتق؟ قلنا الشفيع ليس بغارم لأنه لا شئ عليه وإنما يريد أن يملك الشقص بثمنه بخلاف الغاصب والمتلف والمعتق، فأما إن كان للشفيع بينة حكم له بها وكذلك إن كان للمشتري بينة حكم بها واستغنى عن يمينه ويثبت ذلك بشاهد ويمين وشهادة رجل وامرأتين، ولا تقبل شهادة البائع لأنه إذا شهد للشفيع كان متهماً لأنه يطلب تقليل الثمن خوفاً من الدرك عليه، فإن أقام كل واحد منهما بينة احتمل تعارضهما لأنهما يتنازعان فيما وقع عليه العقد فيصيران كمن لابينة لهما، وذكر الشريف أن بينة الشفيع تقدم لأنها خارجة ويقتضيه قول الخرقي لأن بينة الخارج عنده تقدم على بينة الداخل والشفيع خارج وهو قول أبي حنيفة وقال صاحباه تقدم بنية المشتري لأنها ترجح بقول المشتري فإنه مقدم على قول الشفيع، ويخالف الخارج والداخل لأن بينة الداخل يجوز أن تكون مستندة إلى يده وفي مسئلتنا البينة تشهد على نفس العقد كشهادة بينة الشفيع ولنا أنهما بينتان تعارضتا فقدمت بينة من لا يقبل قوله عند عدمها كالداخل والخارج ويحتمل أن يقرع بينهما لأنهما يتنازعان في العقد ولا يدلهما عليه فصار كالمتنازعين عينا في يد غيرهما (فصل) فإن قال المشتري لا أعلم قدر الثمن فالقول قوله لأن ما يدعيه ممكن يجوز أن يكون اشتراه جزافاً أو بثمن نسي قدره ويحلف فإذا حلف سقطت الشفعة لأنها لا تستحق بغير بدل

(5/526)


ولا يمكن أن يدفع إليه مالا يدعيه فإن ادعى أنك فعلت ذلك تحليلا على إسقاط الشفعة حلف على نفي ذلك (فصل) فان اشترى شقصا بعرض واختلفا في قيمته فإن كان موجوداً عرضناه على المقومين وإن
تعذر إحضاره فالقول قول المشتري كما لو اختلفا في قدره فإن ادعى جهل قيمته فهو على ما ذكرنا فيما إذا ادعى جهل ثمنه وإن اختلفا في الغراس والبناء في الشقص فقال المشتري أنا أحدثته فأنكر فالقول قول المشتري لأنه ملكه والشفيع يريد تملكه عليه فكان القول قول المالك (مسألة) (وإن قال المشتري اشتريته بألف وأقام البائع بينة أنه باعه بألفين فللشفيع أخذه بألف فإن قال المشتري غلطت فهل يقبل قوله مع يمينه؟ على وجهين) وجملة ذلك أن للشفيع أن يأخذه بما قال المشتري لأن المشتري مقر له باستحقاقه بألف ويدعي أن البائع ظلمه وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة أن حكم الحاكم بألفين أخذه الشفيع بهما لأن الحاكم إذا حكم عليه بالبينة بطل قوله وثبت ما حكم به ولنا أن المشتري يقر بأن هذه البينة كاذبة وأنه ظلم بألف فلم يحكم له به وإنما حكم بها للبائع لأنه لا يكذبها فإن قال المشتري صدقت البينة وكنت أنا كاذباً أو ناسياً ففيه وجهان (أحدهما) لا يقبل رجوعه لأنه رجوع عن إقرار تعلق به حق آدمي غيره فاشبه مالو أقر له بدين (والثاني) يقبل

(5/527)


قوله وقال القاضي هو قياس المذهب عندي كما لو أخبر في المرابحة بثمن ثم قال غلطت والثمن أكثر قبل قوله مع يمينه بل ههنا أولى لأنه قد قامت البينة بكذبة وحكم الحاكم بخلاف قوله فقبل رجوعه عن الكذب، وإن لم تكن للبائع بينة فتحالفا فللشفيع أخذه بما حلف عليه البائع، فإن أراد أخذه بما حلف عليه المشتري لم يكن له ذلك لأن للبائع فسخ البيع وأخذه بما قال المشتري يمنع ذلك، ولأنه يفضي إلى إلزام العقد بما حلف عليه المشتري ولا يملك ذلك، فإن رضي المشتري بأخذه بما قال البائع جاز وملك الشفيع أخذه بالثمن الذي حلف عليه المشتري لأن حق البائع من الفسخ قد زال فإن عاد المشتري فصدق البائع وقال الثمن ألفان وكنت غالطاً فهل للشفيع أخذه بالثمن الذي حلف عليه؟ فيه وجهان كما لو قامت به بينة (فصل) ولو اشترى شقصاً له شفيعان فادعى على أحد الشفيعين أنه عفا عن الشفعة وشهد له بذلك الشفيع الآخر قبل عفوه عن شفعته لم تقبل شهادته لأنه يجر إلى نفسه نفعاً وهو توفر الشفعة عليه
فإذا ردت شهادته ثم عفا عن الشفعة ثم أعاد تلك الشهادة لم تقبل لأنها ردت للتهمة فلم تقبل بعد زوالها كشهادة الفاسق إذا ردت ثم تاب وأعادها لم تقبل، ولو لم يشهد حتى عفا قبلت شهادته لعدم التهمة ويحلف المشتري مع شهادته ولو لم تكن بينة فالقول قول المنكر مع يمينه وإن كانت الدعوى على

(5/528)


الشفيعين معاً فحلفا ثبتت الشفعة وإن حلف أحدهما ونكل الآخر نظرنا في الحالف فإن صدق شريكه في الشفعة في أنه لم يعف لم يحتج إلى يمين وكانت الشفعة بينهما لأن الحق له فإن الشفعة تتوفر عليه إذا سقطت شفعة شريكه وإن ادعى أنه عفا فنكل قضي له بالشفعة كلها وسواء ورثا الشفعة أو كانا شريكين، فإن شهد أجنبي بعفو أحد الشفيعين واحتيج إلى يمين معه قبل عفو الآخر حلف وأخذ الكل بالشفعة وإن كان بعده حلف المشتري وسقطت الشفعةء وإن كانوا ثلاثة شفعاء فشهد اثنان منهم على الثالث بالعفو بعد عفوهما قبلت وإن شهدا قبله ردت، وإن شهدا بعد عفو أحدهماو قبل عفو الآخر ردت شهادة غير العافي وقبلت شهادة العافي وإن شهد البائع بعفو الشفيع عن شفعته بعد قبض الثمن قبلت شهادته، وإن كان قبله قبلت شهادة قبلت في أحد الوجهين لأنهما سواء عنده (والثاني) لا تقبل لأنه يحتمل أن يكون قصد ذلك ليسهل استيفاء الثمن لأن المشتري يأخذ الشقص من الشفيع فيسهل عليه وفاؤه أو يتعذر على المشتري الوفاء لفلسه فيستحق استرجاع المبيع، وإن شهد لمكاتبه بعفو شفعته أو شهد بشراء شئ لمكاتبه فيه شفعة لم تقبل لأن المكاتب عبده فلا تقبل شهادته له كمدبره ولأن ما يحصل للمكاتب ينتفع به السيد لأنه إن عجز صار له وإن لم يعجز سهل عليه وفاؤه وإن شهد على مكانبه بشئ من ذلك قبلت شهادته لأنه غير متهم فأشبه الشهادة على ولده (مسألة) (وإن ادعى أنك اشتريته بألف قال بل اتهبته أو ورثته فالقول قوله مع يمينه فإن نكل

(5/529)


أو قامت للشفيع بينه فله أخذه ويقال للمشتري إما أن تقبل الثمن أو تبرئ منه) وجملة ذلك أنه إذا ادعى الشفيع على بعض الشركاء أنك اشتريت نصيبك فلي أخذه بالشفعة فانه يحتاج الى تحرير دعواه فيحدد المكان الذي فيه الشقص ويذكر ققدر الشقص والثمن ويدعي
الشفعة فيه فإذا ادعى سئل المدعى عليه فإن أقر لزمه وإن أنكر وقال إنما اتهبته أو ورثته فلا شفعة لك فيه فالقول قول من ينفيه كما لو ادعى عليه نصيبه من غير شفعة فإن حلف برئ وإن نكل قضي عليه وإن قال لا يستحق علي شفعة فالقول قوله مع يمينه ويكون يمينه على حسب قوله في الإنكار وإذا نكل وقضي عليه بالشفعة عرض عليه الثمن فإذا أخذه دفع إليه، وإن قال لا أستحقه ففيه ثلاثة أوجه (أحدها) يقر في يد الشفيع إلى أن يدعيه المشتري فيدفع إليه كما لو أقر له بدار فأنكرها (والثاني) يأخذه الحاكم فيحفظه لصاحبه إلى أن يدعيه، ومتى ادعاه المشتري دفع إليه (والثالث) يقال له إما أن تقبضه وإما أن تبرئ منه كسيد المكاتب إذا جاءه المكاتب بمال الكتابة فادعى أنه حرام احتاره القاضي، وهذا يفارق المكاتب لأن سيده يطالبه بالوفاء من غير هذا الذي أتاه به فلا يلزمه ذلك بمجرد دعوى سيده تحريم ما أتاه به وهذا لا يطالب الشفيع بشئ فلا ينبغي أن يكلف الإبراء مما يدعيه والوجه الأول أولى إن شاء الله تعالى

(5/530)


(فصل) فإن قال اشتريته لفلان وكان حاضراً استدعاه الحاكم وسأله فإن صدقه كان الشراء له والشفعة عليه، وإن قال هذا ملكي ولم أشتره انتقلت الخصومة اليه وإن كذبه حكم بالشراء لمن اشتراه وأخذه منه بالشفعة وإن كان المقر له غائباً أخذه الحاكم ودفعه إلى الشفيع وكان الغائب على حجته إذا قدم لأننا لو وقفنا الأمر في الشفعة إلى حضور المقر له كان في ذلك إسقاط الشفعة لأن كل مشتر يدعي أنه لغائب، وإن قال اشتريته لإبني الطفل أو لهذا الطفل وله عليه ولاية لم تثبت الشفعة في أحد الوجهين لأن الملك ثبت للطفل ولا تجب الشفعة باقرار الولي عليه لأنه إيجاب حق في مال صغير باقرار وليه (والثاني) تثبت لأنه يملك الشراء له فصح إقراره فيه كما يصح إقراره بعيب في مبيعه، فأما إن ادعى عليه شفعة في شقص فقال هذا لفلان الغائب أولفلان الطفل ثم أقر بشرائه له لم تثبت فيه الشفعة إلا أن تثبت ببينة أو يقدم الغائب ويبلغ الطفل فيطالبهما بها لأن الملك ثبت لهما بإقراره به وإقراره بالشراء بعد ذك اقرار في ملك غيره فلا يقبل بخلاف ما إذا أقر بالشراء ابتداء لأن الملك ثبت لهما بذلك الإقرار المثبت للشفعة فثبتا جميعاً وإن لم يذكر سبب الملك لم يسأله الحاكم عنه ولم يطالب ببيانه لأنه لو صرح
بالشراء لم تثبت به شفعة فلا فائدة في الكشف عنه ومذهب الشافعي في هذا الفصل كله كمذهبنا.
(فصل) وإذا كانت دار بين حاضر وغائب فادعى الحاضر على من في يده نصيب الغائب أنه اشتراه

(5/531)


منه وأنه يستحقه بالشفعة فصدقة فللشفيع أخذه بالشفعة لأن من في يده العين يصدق في تصرفه فيما في يده، وبهذا قال أبو حنيفة وأصحابه ولأصحاب الشافعي في ذلك وجهان (أحدهما) ليس له أخذه لأن هذا إقرار على غيره ولنا أنه أقر بما في يده فقبل اقراره كما لو أقر بأصل ملكه، وهكذا لو ادعى عليه أنك بعت نصيب الغائب بإذنه وأقر له الوكيل كان كإقرار البائع بالبيع فإذا قدم الغائب فأنكر البيع أو الإذن في البيع فالقول قوله مع يمينه وينتزع الشقص ويطالب بأجرته من شاء منهما ويستقر الضمان على الشفيع لأن المنافع تلفت تحت يده، فإن طالب الوكيل رجع عل الشفيع وإن طالب الشفيع لم يرجع على أحد وإن ادعى على الوكيل إنك اشتريت الشقص الذي في يدك فأنكر وقال إنما أنا وكيل فيه أو مستودع له فالقول قوله مع يمينه وإن كان للمدعي بينة حكم بها وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي مع أن أبا حنيفة لا يرى القضاء على الغائب لأن القضاء ههنا على الحاضر لوجوب الشفعة عليه واستحقاقه إنتزاع الشقص من يده فحصل القضاء على الغائب ضمناً، فإن لم تكن بينة وطلب الشفيع بينه ونكل الوكيل عنها احتمل أن يقضي عليه لأنه لو أقر لقضي عليه فكذلك إذا نكل واحتمل أن لا يقضي عليه لأنه قضاء على الغائب

(5/532)


بغير بينة ولا إقرار من الشقص في يده (فصل) وإذا ادعى على رجل شفعة في شقص اشتراه فقال ليس له ملك في شركتي فعلى الشفيع إقامة البينة بالشركة وبه قال أبو حنيفة ومحمد والشافعي، وقال أبو يوسف إذا كان في يده استحق الشفعة به لأن الظاهر من اليد الملك ولنا إن الملك لا يثبت بمجرد اليد وإذا لم يثبت الملك الذي يستحق به الشفعة لم تثبت ومجرد الظاهر لا يكفي كما لو ادعى ولد أمة في يده فإن ادعى أن المدعي عليه يعلم أنه شريك فعلى المشتري اليمين أنه
لا يعلم ذلك لا نها يمين على نفي فعل الغير فمكانت على العلم كاليمين على نفي دين الميت فإذا حلف سقطت دعواه وإن نكل قضى عله (فصل) إذا ادعى على شريكه أنك اشتريت نصيبك من عمرو فلي شفعته فصدقه عمرو وأنكر الشريك وقال بل ورثته من أبي فأقام المدعي بينة أنه كان ملك عمر ولم تثبت الشفعة بذلك وقال محمد تثبت ويقال له اما ان تدفعه وتأخذ الثمن وإما أن ترده إلى البائع فيأخذه الشفيع لأنهما شهدا بالملك لعمرو فكأنهما شهدا بالبيع ولنا أنهما لم يشهدا بالبيع وإقرار عمرو على المنكر بالبيع لا يقبل لأنه إقرار على غيره فلا يقبل في حقه ولا تقبل شهادته عليه وليست الشفعة من حقوق العقد فيقبل فيها قول البائع فصار بمنزلة مالو

(5/533)


حلف أني ما اشتريت الدار فقال من كانت الدارملكه أنا بعته إياها لم يقبل عليه في الحنث ولا يلزم إذا أقر البائع بالبيع والشقص في يده وأنكر المشتري الشراء لأن الذي في يده الدار مقربها للشفيع ولا منازع له فيها سواه وههنا من الدار في يده يدعيها لنفسه والمقر بالبيع لا شئ في يده ولا يقدر على تقسيم الشقص فافترقا (مسألة) (وإن كان عوضاً في الخلع والصداق والصلح عن دم العمد وقلنا بوجوب الشفعة فيه فقال القاضي يأخذه بقيمته) قال وهو قياس قول ابن حامد وهو قول مالك وابن شبرمة وابن أبي ليلى لأنه ملك الشقص القابل للشفعة ببدل ليس له مثل فوجب الرجوع الى قيمته في الأخذ بالشفعة كما لو باعه بسلعة لامثل لها ولا ننا لو أوجبنا مهر المثل لا فضى إلى تقويم البضع على الأجانب وأضر بالشفيع لأن المهر يتفاوت مع المسمى لتسامح الناس فيه في العادة بخلاف البيع وقال غير القاضي يأخذه بالدية ومهر المثل وحكاه الشريف أبو جعفر عن ابن حامد وهو قول العكلي والشافعي لأنه ملك الشقص ببدل ليس له مثل فيجب الرجوع إلى قيمة البدل إذا لم يكن نقداً ولا مثلياً وعوض الشقص هو البضع وقيمة البضع مهر المثل.

(5/534)


(فصل) قال الشيخ رحمه الله تعالى (ولا شفعة في بيع الخيار قبل انقضائه نص عليه ويحتمل أن تجب) لا تثبت الشفعة في بيع الخيار قبل انقضائه سواء كان الخيار لهما أو لأحدهما وحده أيهما كان، وقال أبو الخطاب يتخرج أن تثبت الشفعة لأن الملك انتقل فثبتت الشفعة في مدة الخيار كما بعد إنقضائه، وقال أبو حنيفة إن كان الخيار للبائع أو لهما لم تثبت الشفعة حتى يتقضي لأن في الأخذ بها اسقاط حق البائع من الفسخ وإلزام البيع في حقه بغير رضاه ولأن الشفيع إنما يأخذ من المشتري ولم ينتقل الملك إليه وإن كان الخيار للمشتري فقد انتقل الملك إليه ولا حق لغيره فيه والشفيع يملك أخذه بعد لزوم البيع واستقرار الملك فلأن يملك ذلك قبل لزومه أولى وغاية ما يقدر ثبوت الخيار له وذلك الا يمنع الأخذ بالشفعة كما لو وجد به عيبا وللشافعي قولان كالمذهبين ولنا أنه مبيع فيه الخيار فلم تثبت الشفعة كما لو كان للبائع وذلك لأن الأخذ بالشفعة يلزم المشتري بالعقد بغير رضاه ويوجب العهدة عليه ويفوت حقه من الرجوع في عين الثمن فلم يجز كما لو كان الخيار للبائع فإننا إنما منعنا من الشفعة لما فيه من إبطال خيار البائع وتفويت حق الرجوع في عين ماله وهما في نظر الشرع على السواء، وفارق الرد بالعيب فإنه إنما تثبت لا ستدارك الظلامة وذلك يزول بأخذ الشفيع فإن باع الشفيع حصته في مدة الخيار عالماً ببيع الأول سقطت شفعته وقد ذكرنا ذلك فيما مضى

(5/535)


(فصل) وبيع المريض كبيع الصحيح في الصحة وثبوت الشفعة وسائر الأحكام إذا باع بثمن المثل سواء كان لوارث أو غير وارث وبهذا قال الشافعي وأبو يوسف ومحمد وقال أبو حنيفة لا يصح بيع المريض مرض الموت لوارثه لأنه محجور عليه في حقه فلم يصح بيعه كالصبي ولنا أنه إنما حجر عليه في التبرع في حقه فلم يمنع الصحة فيما سواه كالأجنبي إذا لم يزد على التبرع بالثلث وذلك لأن الحجر في شئ لا يمنع صحة غيره كما أن الحجر على المرتهن في الرهن لا يمنع التصرف في غيره والحجر على المفلس في ماله لا يمنع التصرف في ذمته، فإما بيعه بالمحاباة فلا
يخلو إما أن يكون لوارث أو لغيره فإن كان لوارث بطلت المحاباة لأنها في المرض بمنزلة محاباة الوصية في الوصية لوارث لا تجوز ويبطل البيع في قدر المحاباة من المبيع وهل يصح فيما عداه؟ فيه ثلاثة أوجه (أحدها) لا يصح لأن المشتري أبرأ الضامن في كل المبيع فلم يصح في بعضه كما لو قال بعتك هذا الثوب بعشرة فقال قبلت البيع في نصفه أو قال قبلته بخمسة أو قبلت نصفه بخمسة ولأنه لا يمكن تصحيح البيع على الوجه الذي تواجبا عليه فلم يصح لتفريق الصفقة (الثاني) أن يبطل البيع في قدر المحاباة ويصح فيما يقابل الثمن المسمى وللمشتري الخيار بين الأخذ والفسخ لأن الصفقة تفرقت عليه وللشفيع أخذ ما صح فيه البيع وإنما قلنا بالصحة لأن البطلان إنما جاء من المحاباة فاختص بما قابلها (الثالث) أنه يصح في الجميع ويفف على إجازة الورثة لأن الوصية للوارث صحيحة في أصح الروايتين وتقف على إجازة الورثة فكذلك

(5/536)


المحاباة له فإن أجازوا المحاباة صح البيع في الجميع ولا خيار للمشتري ويملك الشفيع الأخذ به لأنه يأخذ بالثمن، وإن ردوا بطل البيع في قدر المحاباة وصح فيما بقي ولا يملك الشفيع الأخذ قبل إجازة الورثة وردهم لأن حقهم متعلق بالبيع فلم يملك إبطاله وله أخذ ما صح البيع فيه فإن اختار المشتري الرد في هذه الصورة وفي التي قبلها واختار الشفيع الأخذ بالشفعة قدم الشفيع لأنه لا ضرر على المشتري وجرى مجرى المعيب إذا رضيه الشفيع بعيبه (فصل) إذا كان المشتري أجنبياً والشفيع أجنبي فن لم تزد المحاباة على الثلث صح البيع وللشفيع الأخذ بذلك الثمن لأن البيع حصل به فلا يمنع منها كون المبيع مسترخصاً فإن زادت على الثلث فالحكم فيه حكم أصل المحاباة في حق الوارث وإن كان الشفيع وارثًا ففيه وجهان (أحدهما) له الأخذ بالشفعة لأن المحاباة وقعت لغيره فلم يمنع منها تمكن الوارث من أخذها كما لو وهب غريم وارثه مالاً فأخذه الوارث (والثاني) يصح البيع ولا تجب الشفعة وهو قول أصحاب أبي حنيفة لأننا لو أثبتناها جعلنا للموروث سبيلاً إلى إثبات حق لوارثه في المحاباة، ويفارق الهبة لغريم الوارث لأن استحقاق الوارث الأخذ بدينه لامن جهة الهبة وهذا استحاقه بالبيع الحاصل من موروثه فافترقا.
ولأصحاب الشافعي في هذا خمسة أوجه وجهان كهذين (والثالث) أن البيع باطل من أصله لا فضائه إلى إيصال المحاباة إلى الوارث

(5/537)


وهذا فاسد لأن الشفعة فرع للبيع ولا يبطل الأصل فرعه وعلى الوجه الأول ما حصلت للوارث المحاباة إنما حصلت لغيره ووصلت إليه بجبهة الأخذ من المشتري فأشبه هبة غريم الوارث (الوجه الرابع) أن للشفيع أن يأخذ بقدر ما عدا المحاباة بجميع الثمن بمنزلة هبة المقابل للمحاباة لأن المحاباة بالنصف مثلاً هبة للنصف وهذا لا يصح لأنه لو كان بمنزلة هبة النصف ما كان للشفيع الأجنبي أخذ الكل لأن الموهوب لا شفعة فيه (الخامس) أن البيع يبطل في قدر المحاباة وهو فاسد لأنها محاباة لأجنبي بما دون الثلث فلا يبطل كما لو لم يكن الشقص مشفوعاً (فصل) ويملك الشفيع الشقص بأخذه وبكل لفظ يدل على أخذه بأن يقول قد أخذته بالثمن أو تملكته بالثمن ونحو ذلك إذ كان الشقص والثمن معلومين ولا يفتقر إلى حكم حاكم وبهذا قال الشافعي، وقال القاضي وابو الخطاب يملكه بالمطالبة لأن البيع السابق سبب فإذا انضمت إليه المطالبة كان كالإيجاب في البيع إذا نضم إليه القبول، وقال أبو حنيفة لا يحصل إلا بحكم حاكم لأنه نقل للملك عن مالكه إلى غيره قهراً فاقتقر إلى حكم حاكم كأخذ دينه ولنا أنه حق ثبت بالنص والإجماع فلم يفتقر إلى حكم حاكم كالرد بالعيب وبهذا ينتقض ما ذكروه ويأخذ الزوج نصف الصداق بالطلاق قبل الدخول ولأنه مال يتملكه قهراً فملكه بالأخذ كالغنائم والمباحات، ومكله باللفظ الدال على الأخذ لأنه بيع في الحقيقة لكن الشفيع يستقل به فاستقل باللفظ الدال عليه، وقولهم يملك المطالبة بمجردها لا يصح لأنه لو ملك بها لما سقطت الشفعة بالعفو بعد

(5/538)


المطالبة ولوجب إذا كان له شفيعان فطلبا الشفعة ثم ترك أحدهما أن يكون للآخر أخذ قدر نصيبه ولا يملك أخذ نصيب صاحبه.
إذ ثبت هذا فإنه إذا قال قد أخذت الشقص بالثمن الذي ثم عليه العقد وهو عالم بقدره وبالمبيع صح الأخذ وملك الشقص ولا خيار له ولا للمشتري لأن الشقص يؤخذ قهراً والمقهور لا خيارن له والآخذ قهراً لا خيار له أيضاً كمسترجع المبيع لعيب في ثمنه أو الثمن لعيب في الميبع وإن كان الثمن مجهولاً أو الشقص لم يملكه بذلك لأنه بيع في الحقيقة فيعتبر العلم بالعوض كسائر البيوع
وله المطالبة بالشفعة ثم يتعرف مقدار الثمن من المشتري أو من غيره والمبيع فيأخذه بثمنه ويحتمل أن له الأخذ مع جهالة الشقص بناء على بيع الغائب (مسألة) (وإن أقر البائع بالبيع وأنكر المشتري فهل تجب الشفعة؟ على وجهين (أحدهما) تجب الشفعة وهو قول أبي حنيفة والمزني (والثاني) لا تجب ونصره الشريف أبو جعفر في مسائله وهو قول مالك وابن شريح لأن الشفعة فرع للبيع ولم يثبت فلا يثبت فرعه ولأن الشفيع إنما يأخذ الشقص من المشتري وإذا أنكر البيع لم يمكن الأخذ منه، ووجه الأول أن البائع أقر بحقين حق للشفيع وحق للمشتري فإذا سقط حق المشتري بإنكاره ثبت حق الشفيع كما لو أقر بدار لرجلين فأنكر أحدهما ولأنه أقر للشفيع أنه مستحق لأخذ هذه الدار والشفيع يدعي ذلك فوجب قبوله كما لو أقر أنها ملكه، فعلى هذا يقبض الشفيع من البائع ويسلم إليه الثمن ويكون درك الشفيع على البائع لأن القبض منه ولم يثبت

(5/539)


الشراء في حق المشتري وليس للشفيع ولا للبائع محاكمة المشتري ليثبت البيع في حقه وتكون العهدة عليه لأن مقصود البائع الثمن وقد حصل من الشفيع ومقصود الشفيع أخذ الشقص وضمان العهدة وقد حصل من البائع فلا فائدة في المحاكمة، فان قيل أليس لو ادعى على رجل ديناً فقال آخر أنا أدفع إليك الدين الذي تدعيه ولا تخاصمه لا يلزمه قبوله فهلا قلتم ههنا كذلك؟ قلنا في الدين عليه منة في قبوله من غير غريمه وههنا بخلافه، ولأن البائع يدعي أن الثمن الذي يدفعه الشفيع حق للمشتري عوضاً عن هذا البيع فصار كالنائب عن المشتري في دفع الثمن، والبائع كالنائب عنه في دفع الشقص بخلاف الدين فلن كان البائع مقرار بقبض الثمن من المشتري بقي الثمن الذي على الشفيع لا يدعيه أحد لأن البائع يقول هو للمشتري والمشتري يقول لا أستحقه ففيه ثلاثة أوجه (أحدها) أن يقال للمشتري إما أن تقبضه وإما أن تبرئ منه (والثاني) يأخذه الحاكم عنده (والثالث) يبقى في ذمة الشفيع وفي جميع ذلك متى ادعاه البائع أو المشتري دفع إليه لأنه لأحدهما، وإن تداعياء جميعاً فأقر المشتري بالبيع وأنكر البائع أنه ما قبض منه شيئاً فهو للمشتري لأن البائع قد أقر له به ولأن البائع إذ أنكر القبض لم يكن مدعياً لهذا الثمن لأن البائع لا يستحق علي الشفيع ثمنا إنما يستحقه على المشتري وقد أقر بالقبض منه وأما المشتري
فإنه يدعيه وقد أقر له باستحقاقه فوجب دفع إليه (مسألة) (وعهدة الشفيع على المشتري وعهدة المشتري على البائع)

(5/540)


إذا أخذ الشفيع الشقص فظهر مستحقاً فرجوعه بالثمن على المشتري ويرجع المشتري على البائع وإن وجده معيباً فله رده على المشتري أو أخذ أرشه منه والمشتري يرد على البائع أو بأخذ الأرش منه سواء قبض الشقص من المشتري أو من البائع وبه قال الشافعي، وقال ابن أبي ليلى وتبقى عهدة الشفيع على البائع لأن الحق ثبت له بإيجاب البائع فكان رجوعه عليه كالمشتري، وقال أبو حنيفة إن أخذ، من المشتري فالعهدة عليه وإن أخذه من البائع فالعهدة عليه لأن الشفيع إذا أخذه من البائع تعذر قبض المشتري فينفسخ البيع بين البائع والمشتري فكأن الشفيع أخذه من البائع مالكاً من جهته فكانت عهدته عليه ولنا أن الشفعة مستحقة بعد الشراء وحصول الملك للمشتري ثم يزول الملك من المشتري إلى الشقص بالثمن فكانت العدة عليه كما لو أخذه منه ببيع ولأنه ملكه من جهة المشتري بالثمن فملك رده عليه بالعيب كالمشتري في البيع الأول، وقياسه على المشتري في جعل عهدته على البائع لا يصح لأن المشتري ملكه من البائع بخلاف الشفيع، وأما إذا أخذه من البائع فالبائع نائب عن المشتري في التسليم المستحق عليه ولو انفسخ العقد بين المشتري والبائع بطلت الشفعة لأنها استحقت به (فصل) وحكم الشفيع في الرد بالعيب حكم المشتري من المشتري فإن علم المشتري بالعيب ولم يعلم الشفى فللشفيع رده على المشتري أو أخذ أرشه منه وليس للمشترى شئ ويحتمل أن لا يملك الشفيع

(5/541)


أخذ الأرش لأن الشفيع يأخذ بالثمن الذي استقر عليه العقد فإذا أخذ الارش فما أخذه بالثمن الذي استقر على المشتري وإن علم الشفيع وحده فليس لواحد منهما رد ولا أرش لأن الشفيع أخذه عالما بعيبه فلم يثبت له رد ولا أرش كالمشتري إذا علم العيب والمشتري قد استغنى عن الرد لزوال ملكه عن المبيع وحصول الثمن له من الشفيع ولم يملك الأرش لأنه استدرك ظلامته ورجع إليه جميع الثمن فأشبه ما لورده على
البائع ويحتمل أن يملك أخذ الأرش لأنه بدل عن الجزء الفائت من المبيع فلم يسقط بزوال ملكه عن المبيع كما لو اشترى قفيزين فتلف أحدهما وأخذ الآخر فعلى هذا ما يأخذه من الأرش يسقط عن الشفيع من الثمن بقدره لأن الشقص يجب عليه بالثمن الذي استقر عليه العقد فأشبه مالو أخذ الأرش قبل أخذ الشفيع منه وإن علما جميعاً فليس لواحد منهما رد ولارش لأن كل واحد منهما دخل على بصيرة ورضي ببذل الثمن فيه بهذه الصفة، وإن لم يعلما فللشفيع رده على المشتري وللمشتري رده على البائع فإن لم يرلد الشفيع فلا رد للمشتري لما ذكرنا أولا، وإن أخذ الشفيع أرشه من المشتري فللمشتري أخذه من البائع وإن لم يأخذ منه فلا شئ للمشتري ويحتمل أن يملك أخذه على الوجه الذي ذكرناه فإذا آخذه فإن كان الشفيع لم يسقطه عن المشتري سقط عنه من الثمن بقدرة لأنه الثمن الذي استقر عليه البيع وسكوته لا يسقط حقه، وان أسقطه عن المشتري نوفر عليه كما لو زاده على الثمن باختياره، فأما إن اشتراه بالبراءة من كل عيب فالصحيح في المذهب أنه لا يبرأ وحكمه حكم مالو لم يشترط وفيه رواية

(5/542)


أخرى أنه يبرأ إلا أن يكون البائع علم بالعيب فدلسه واشترط البراءة، فعلى هذه الرواية إن علم الشفيع باشتراط البراءة فحكمه حكم المشتري لأنه دخل على شرائه فصار كمشتريين اشترطا البراءة وإن لم يعلم ذلك فحكمه حكم مالو علمه المشتري دون الشفيع (مسألة) (وإن أبى المشتري قبض المبيع أجبره الحاكم عليه ثم يأخذه الشفيع منه قاله القاضي قال وليس له أخذه من البائع وهذا أحد الوجهين لأصحاب الشافعي لأن الشفيع يشتري الشقص من المشتري فلا يأخذه من غيره، وبنوا ذلك على أن البيع لا يتم إلا بالقبض فإذا فات القبض بطل العقد وسقطت الشفعة وقال أبو الخطاب قياس المذهب أن يأخذه الشفيع من يد البائع ويكون كأخذه من المشتري وهو قول أبي حنيفة لأن العقد يلزم في بيع العقار قبل قبضه ويدخل المبيع في ملك المشتري وضمانه ويجوز له التصرف فيه بنفس العقد فصار كما لو قبضه المشتري والله أعلم (مسألة) (ولو ورث إثنان شقصاً عن أبيهما فباع أحدهما نعيبه فالشفعة بين أخيه وشريك أبيه) وبه قال أبو حنيفة والشافعي في الجديد وقال في القديم الأخ أحق بالشفعة وبه قال مالك لأن أخاه
أخص بشركته من شريك أبيه لاشتراكهما في سبب المالك ولنا أنهما شريكان حال ثبوت الشفعة فكانت بينهما كما لو ملكوا كلهم بسبب واحد ولأن الشفعة ثبتت لدفع ضرر الشريك الداخل على شركائه بسنبب شركته وهو موجود في حق الكل وما ذكروه لاأصل

(5/543)


له ولم يثبت اعتبار الشرع له في موضع والإعتبار بالشركة لا بسببها وهكذا لو اشترى رجل نصف دار ثم اشترى إثنان نصفها الآخر أو ورثاه أو اتهباه أو وصل إليهما بسبب من أسباب الملك فباع أحدهما نصيبه، أو ورث ثلاثة دارا فباع أحدهم نصيبه من إثنين ثم باع أحد الشريكين نصيبه فالشفعة بين جميع الشركاء وكذلك لو مات رجل وخلف ابنين وأختين فباعت إحدى البنتين نصيبها أو إحدى الأختين فالشفعة بين جميع الشركاء، ولو مات رجل وترك ثلاث بنين وأرضاً فمات أحدهم عن ابنين فباع أحد العمين نصيبه فالشفعة بنى أخيه وابي أخيه، ولو خلف ابنين أو وصى بثلثه لا ثنين فباع أحد الشريكين الوصيين أو أحد الإبنين فالشفعة بين شركائه كلهم ولمخالفينا في هذه المسائل اختلاف يطول ذكره (مسألة) (ولا شفعة لكافر على مسلم) روى ذلك عن الحسن والشعبي ويقال الثوري ومالك والشافعي وأصحاب الرأي وجماعة من أهل العلم تجب له الشفعة لعموم قوله عليه السلام (لا يحل له أن يبيع حتى يستأذن شريكه وان باع ولم يؤذنه فهو أحق به) ولأنه خيار ثابت لدفع الضرر بالشراء فاستوى فيه المسلم والكافر كالرد بالعيب ولنا ما ورى الدارقطني في كتاب العلل بإسناده عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (لا شفعة لنصراني) وهذا يخص عموم ما احتجوا به ولأنه معنى يختص العقار فأشبه الإستعلاء في البنيان يحققه أن الشفعة إنما تثبت للمسلم دفعاً للضرر عن ملكه وقدم دفع ضرره على دفع ضرر المشتري ولا يلزم من تقديم دفع ضرر

(5/544)


المسلم على المسلم تقديم دفع اضرر الذمي فإن حق المسلم أرجح ورعايته أولى ولأن ثبوت الشفعة في محل الإجماع على خلاف الأصل رعاية لحق الشريك المسلم وليس الذمي في معنى المسلم فيبقى فيه على مقتضى الأصل وتثبت الشفعة للمسلم على الذمي لعموم الأدلة ولأنها إذا تثبت للمسلم على المسلم مع عظم حرمته فلان
تثبت على الذمي مع دناءته أولى (فصل) وتثبت للذمي على الذمي لعموم الاخبار ولأنهما تساويا في الدين فتثبت لأحدهما على الآخر كالمسلمين ولا نعلم في هذا خلافا نبايعوا بخمر أو خنزير وأخذ الشفيع بذلك لم ينقض ما فعلوه، وإن جرى التقابض بين المتبايعين دون الشفيع وترافعوا إلينا لم نحكم له بالشفعة وبه قال الشافعي وقال أبو الخطاب إن تبايعوا بخمر وقلنا هي مال لهم حكمنا لهلهم بالشفعة وقال أبو حنيفة تثبت الشفعة إذا كان الثمن خمراً لأنها مال لهم فاشبه مالو تبايعوا بدراهم لكن إن كان الشفيع ذمياً أخذه بمثله وان كان مسلما أخذه بقيمة الخمر ولنا أنه عقد بخمر فلم تثبت فيه الشفعة كما لو كان بين مسلمين ولأنه عقد بثمن محرم أشبه البيع بالخنزير والميتة، ولا نسلم أن الخمر مال لهم فإن الله تعالى حرمه كما حرم الخنزير واعتقادهم حله لا يجعله مالا كالخنزير، وإنما لم ينتقض عقد هم إذا تقابضوا لأننا لا نتعرض لما فعواه مما يعتقدونه في دينهم ما لم يتحاكموا إلينا قبل تمامه ولو تحاكموا إلينا قبل التقابض لفسخناه.
فأما أهل البدع فتثبت الشفعة لمن حكمنا بإسلامه منهم كالفاسق بالأفعال لعموم الأدلة التي ذكرناها، وروى حرب عن أحمد أنه سئل عن أصحاب البدع هل لهم شفعة؟ وذكر

(5/545)


له عن ابن ادريس أنه قال ليس للرافضة شفعة فضحك، وقال أراد أن يخرجهم من الإسلام فظاهر هذا أنه أثبت لهم الشفعة، وهذا محمول على غير الغلاة منهم فأما الغلاة كالعتقد أن جبريل غلط في الرسالة فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وإنما أرسل إلى علي ونحوه ومن حكم بكفره من الدعاة إلى القول بخلق القرآن فلا شفعة له لأن الشفعة إذا لم تثبت للذمي الذي يقر على كفره فغيره أولى (فصل) وتثبت الشفعة للبدوي على القروي وللقروي على البدوي في قول أكثر أهل العلم، وقال الشعبي والبتي لا شفعة لمن لم يسكن المصر وعموم الادلة واشتراكها في المعنى المقتضي لوجوب الشفعة يدل على ثبوتها لهم (فصل) قال أحمد في رواية حنبل لا نرى في أرض السواد شفعة لأن عمر رضي الله عنه وقفها على المسلمين فلا يجوز بيعها والشفعة إنما تكون في البيع وكذلك الحكم في سائر الأرض التي وقفها عمر وهي التي فتحت عنوة في زمنه ولم يقسمها كأرض الشام ومصر وكذلك كل أرض فتحت عنوة ولم تقسم بين
الغانمين الا أن يحكم ببيعها حاكم أو يفعله الإمام أو نائبه فان فعل ذلك ثبتت فيه الشفعة لأنه فصل مختلف فيه ومتى حكم الحاكم في المختلف فيه بشئ نفذ حكمه (مسألة) (وهل تجب الشفعة للمضارب على رب المال ولرب المال على المضارب فيما يشتريه من مال المضاربة؟ على وجهين)

(5/546)


إذا بيع شقص في شركة مال المضاربة فللعامل الأخذ بها إذا كان الحظ فيها، فإن تركها فلرب المال الأخذ لأن مال المضاربة ملكه ولا ينفذ عفو العامل لأن الملك لغيره فلم ينفذ عفوه كالمأذون له، فإن اشترى المضارب بمال المضاربة شقصا في شركة رب المال فهل لرب المال فيه شفعة؟ على وجهين مبنيين على شراء رب المال من مال المضاربة وقد ذكرناهما، وإن كان المضارب شفيعة ولا ربح في المال فله الأخذ بها لأن الملك لغيره، وإن كان فيه ربح وقلنا لا يملك بالظهور فكذلك، وإن قلنا يملك بالظهور ففيه وجهان كرب المال ومذهب الشافعي في هذا كله على ما ذكرنا، فان باع المضارب شقصاً في شركته لم يكن له أخذه بالشفعة لأنه متهم فأشبه شراءه من نفسه (فصل) إذا كانت دار بين ثلاثة فقارض واحد منهم أحد شريكيه بألف فاشترى به نصف نصيب الثالث لم تثبت فيه شفعة في أحد الوجهين لأن أحد الشريكين رب المال والآخر العامل فهما كالشريكين في المتاع فلا يستحق أحدهما على الآخر شفعة، وإن باع الثالث باقي نصيبه لا جنبي كانت الشفعة مستحقة يبنهم أخماساً لرب المال خمساها وللعامل مثله ولرب المضاربة خمسها بالسدس الذي له فيجعل مال المضاربة كشريك آخر لأن حكمه متميز عن مال كل واحد منهما (فصل) فإن كانت الدار بين ثلاثة أثلاثا فاشترى أجنبي نصيب أحدهم فطالبه أحد الشريكين بالشفعة فقال إنما اشتريته لشريكك لم تؤثر هذه الدعوى في قدر ما يستحق من الشفعة فإن الشفعة بين

(5/547)


الشريكين نصفين سواء اشتراها الأجنبي لنفسه أو للشريك الآخر، وإن ترك المطالب بالشفعة حقه منها بناء على هذا القول ثم تبين كذبه فلم تسقط شفعته، وإن أخذ نصف المبيع كذلك ثم تبين كذب
المشتري وعفا الشريك عن شفعته فله أخذ نصيبه من الشفعة لأن اقتصاره على أخذ النصف انبنى على خبر المشتري فلم يؤثر في إسقاط الشفعة واستحق أخذ الباقي لعفو شريكه عنه، وإن امتنع من أخذ الباقي سقطت شفعته كلهما لأنه لا يملك تبعيض صفقة المشتري ويحتمل أن لا يسقط حقه من النصف الذي أخذه ولا يبطل أخذه له لأن المشتري أقر بما تضمن استحقاقه لذلك فلا يبطل برجوعه عن إقراره، وإن أنكر الشريك كون الشراء له وعفا عن شفعته وأصر المشتري على الإقرار للشريك به فللشفيع أخذ اكل لأنه لا منازع له في استحقاقه وله الاقتصار علين النصف لاقرار المشتري له باستحقاق ذلك (فصل) فإن قال أحد الشريكين للمشتري شراؤك باطل وقال الآخر هو صحيح فالشفعة كلها للمعترف بالصحة، وكذلك إن قال ما اشتريته إنما اتهبته وصدقه الآخران اشتراه فالشفعة لمصدق بالشراء لأن شريكه مسقط لحقه باعترافه أنه لا بيع أو لا بيع صحيح، ولو احتال المشتري على إسقاط الشفعة بحيلة لا نسقطها فقال أحد الشفيعين قد سقطت الشفعة توفرت على الآخر لاعتراف صاحبه بسقوطها، ولو توكل أحد التفيعين في البيع أو الشراء أو ضمن عهدة المبيع أو عفا عن الشفعة قبل

(5/548)


البيع وقال لاشفعة لي لذلك توفرت على الآخر، وإن اعتقد أن له شفعة وطالب بها فارتفعا إلى حاكم فحكم بأنه لاشفعة له توفرت على الآخر لأنها سقطت بحكم الحاكم فأشبه مالو سقطت بإسقاط المستحق (فصل) إذا ادعى رجل على آخر ثلث دار فأنكره ثم صالحه عن دعواه بثلث دار أخرى صح ووجبت الشفعة في الثلث المصالح به لأن المدعي يزعم أنه محق في دعواه وأن ما أخذه عوض عن الثلث الذى ادعاه فلزمه حكم دعواه ووجبت الشفعة، ولا شفعة على المنكر في الثلث المصالح عنه لأنه يزعم أنه على ملكه لم يزل وإنما دفع ثلث داره إلى المدعي اكتفاء لشرء ودفعا لضرر الخصومة واليمين عن نفسه فلم تلزمه فيه شفعة، وإن قال المنكر للمدعي خذ الثلث الذي تدعيه بثلث دارك ففعل فلا شفعة على المدعي فيما أخذه وعلى المنكر الشفعة في الثلث الذي يأخذه لأنه يزعم أنه أخذه عوضاً عن ملكه الثابت له وقال أصحاب الشافعي تجب الشفعة في الثلث الذي أخذه المدعي أيضاً لأنها معاوضة من الجانبين
بشقصين فوجبت الشفعة فيهما كما لو كانت بين مقرين ولنا أن المدعي يزعم أن ما أخذه كان ملكاً له قبل الصلح ولم يتجدد له عليه ملك وإنما استنقذه بصلحه فلم تجب فيه شفعة كما لو أقر له به (فصل) إذا كانت دار بين ثلاثة أثلاثاً فاشترى أحدهم نصيب أحد شريكيه ثم باعه لأجنبي ثم علم شريكه فله أن يأخذ بالعقدين وله الأخذ بأحدهما لأنه شريك فيهما فإن أخذ بالعقد الثاني أخذ جميع ما في يد مشتريه لانه لا شريك له في شفعته وإن أخذ العقد الأول ولم يأخذ بالثاني أخذ نصف المبيع

(5/549)


وهو السدس لأن المشتري شريكه في شفعته، ويأخذ نصفه من المشتري الأول ونصفه من المشتري الثاني لأن شريكه لما اشترى الثلث كان بينهما نصفين لكل واحد منهما السدس فإذا باع الثلث من جميع ما في يده وفي يده ثلثان فقد باع نصف ما في يده والشفيع يستحق ربع ما في يده وهو السدس فصار منقسما في يديهما نصفين فيأخذ من كل واحد منهما نصفه وهو نصف السدس ويدفع ثمنه إلى الأول ويرجع المشتري الثاني على الأول بربع الثمن الذي اشترى به وتكون المسألة من اثنى عشرثم ترجع إلى أربعة للشفيع نصف الدار ولكل واحد من الآخرين الربع، وإن أخذ بالعقدين أخذ جميع ما في يد الثاني وربع ما في يد الأول فصار له ثلاثة أرباع الدار ولشريكه الربع ويدفع الى الأول نصف الثمن الأول ويدفع إلى الثاني ثلاثة أربع الثمن الثاني ويرجع الثاني على الأول بربع الثمن الثاني لانه يأخذ الثمن الأول ويدفع إلى الثاني ثلاثة أرباع الثمن الثاني ويرجع الثاني على الأول بربع الثمن الثاني لأنه يأخذ نصف ما اشتراه الأول وهو اسدس فيدفع إليه نصف الثمن لذلك، وقد صار نصف هذا النصف في يد الثاني وهو ربع ما في يده فيأخذه منه ويرجع الثاني على الأول بثمنه وبقي المأخوذ من الثاني ثلاثة أرباع ما اشتراه فأخذها منه ودفع إليه ثلاثة أرباع الثمن، وإن كان المشتري الثاني هو البائع الأول فالحكم على ما ذكرنالا يختلف، وإن كانت الدار بين الثلاثة أرباعا لأحدهم نصفها وللآخرين نصفها بينهما فاشترى صاحب النصف من أحد شريكيه ربعه ثم باع ربعاً مما في يده لا جنبي ثم علم شريكه فأخذ بالبيع الثاني أخذ جميعه ودفع إلى المشتري ثمنه وإن أخذ بالبيع الأول وحده أخذ ثلث المبيع وهو

(5/550)


نصف سدس لأن المبيع كله ربغ فثلثه نصف سدس ويأخذ ثلثيه من المشتري الأول وثلثه من الثاني ومخرج ذلك من ستة ثلاثين النصف ثمانية عشر ولكل واحد منهما تسعة فلما اشترى صاحب النصف تسعة كانت شفعتها بينه وبين شريكه الذي لم يبع أثلاثاً لشريكه ثلثها ثلاثة، فلما باع صاحب النصف ثلث ما في يده حصل في المبيع من الثلاثة ثلثها وهو سهم بقي في يد البائع منها سهمان فيرد الثلاثة إلى الشريك يصير في يده اثنا عشروهي الثلث ويبقى في يد المشتري الثاني ثمانية وهي تسعان وفي يد صاحب النصف ستة عشر وهي أربعة أتساع ويدفع الشريك الثمن إلى المشتري الأول ويرجع المشتري الثاني عليه بتسع الثمن الذي اشترى به لأنه قد أخذ منه تسع مبيعه، وإن أخذ بالعقدين أخذ من من الثاني جميع ما في يده وأخذ من الأول نصف التسع وهي سهمان من ستة وثلاثين فيصير في يده عشرون سهماو هي خمسة أتساع ويبقى في يد الأول ستة عشر سهما وهي أربعة أتساع ويدفع إليه ثلث الثمن الأول ويدفع إلى الثاني ثمانية أتساع الثمن الثاني ويرجع الثاني على الأول بتسع الثمن الثاني (فصل) إذا كانت دار بين ثلاثة لزيد نصفها ولعمر وثلثها ولكبر سدسها فاشترى بكر من زيد ثلث الدار ثم باع عمراً سدسها ولم يعلم عمرو بشرائه للثلث ثم علم فله المطالبة بحقه من شفعة الثلث وهو ثلثاه وهو تسعاً الدار فيأخذ من بكر ثلثي ذلك وقد حصل ثلثه الباقي في يده بشرائه للسدس فيفسخ بيعه في ويأخذه بشفعة البيع الأول ويبققى من بيعه خمسة أتساعه لزيد ثلث شفعته فتقسم بينهما أثلاثاً وتصح المسألة من مائة واثنبين وستين سهماً الثلث المبيع أربعة وخسمون لعمرو ثلثاها بشفعته ستة وثلاثون سهما يأخذ ثلثها من بكر وهي أربعة وعشرون سهماً وثلثها في يده إثنا عشر سهماً والسدس الذي

(5/551)


اشتراه سبعة وعشرون سهماً قد أخذ منها إثنا عشر بالشفعة بقي منها خمسة عشر له ثلثاها عشرة ويأخذ منها زيد خمسة فحصل لزيد إثنان وثلاثون سهما ولكبر ثلاثون سهما ولعمرو مائة سهم وذلك نصف الدار وتسعها ونصف تسع تسعها، ويدفع بكر إلى عمر وثلثي الثمن في البيع الأول وعلى زيد خمسة أتساع الثمن الثاني بينهما أثلاثاً، فإن عفا عمرو عن شفعة الثلث فشفعة السدس الذي اشتراه بينه وبين زيد
أثلاثاً، ويحصل لعمرو أربعة أتساع الدار ولزيد تسعاها ولبكر ثلثها وتصح من تسعة، وإن باع بكر السدس لأجنبي فهو كبيعة إياه لعمرو إلا أن لعمرو العفو عن شفعته في السدس بخلاف ما إذا كان هو المشتري فإنه لا يصح عفو عن نصيبه منها، وإن باع بكر الثلث لأجنبي فلعمرو ثلثا شفعة المبيع الأول وهو التسعان يأخذ ثلثهما من بكر وثلثيهما من المشتري الثاني وذلك تسع وثلث تسع يبقى في يد الثاني سدس وسدس تسع وهو عشرة من أربعة وخمسين بين عمرو وزيد أثلاثاً، وتصح أيضاً من مائة واثنين وستين ويدفع عمرو إلى بكر ثلثي ثمن مبيعه ويدفع هو وز يد إلى المشتري الثاني ثمن خمسة أتساع مبيعه بينهما أثلاثًا، ويرجع المشتري الثاني على بكر بثمن أربعة أتساع مبيعه، وإن لم يعلم عمرو حتى باع مما في يديه سدساً لم تبطل شفعته في أحد الوجوه وله أن يأخذ بها كما لو لم يبع شيئاً (والثاني) تبطل شفعته كلها (والثالث) تبطل في قدر ما باع وتبقى فيما لم يبع وقد ذكرنا توجيه هذه، والوجوه فأما

(5/552)


شفعة ما باعه ففيها ثلاثة أوجه (أحدها) أنها بين المشتري الثاني وزيد وبكر أرباعاً للمشتري نصفها ولكل واحد منهم ربعها على قدر أملاكهم حين بيعه (والثاني) أنها بين زيد وبكر على أربعة عشر سهما زيد تسعة ولبكر خمسة لأن لزيد السدس ولبكر سدس يستحق منه أربعة أتساعه بالشفعة فيبقى معه خمسة أتساع السدس ملكه مستقر عليها فأضفناها إلى سدس زيد وقسمنا الشفعة على ذلك ولم نعط المشتري الثاني ولا بكراً بالسهام المستحقة بالشفعة شيئاً لأن الملك عليها غير مستقر (والثالث) إن عفا لهم عن التفعة إستحقوا بها وإن أخذت بالشفعة لم يستحقوا بها شيئاً وان عفا عن بعضهم دون بعض استحق المعفو عنه، بسهامه دون غير المعفو عنه وما بطلت الشفعة فيه ببيع عمرو فهو بمنزلة المعفو عنه فيخرج في قدره وجهان، ولو استقصينا فروع هذه المسألة على سبيل البسط لطال وخرج إلى الأملال (فصل) إذا كانت دار بين أربعة أرباعاً فاشترى اثنان منهم نصيب أحدهم إستحق الرابع الشفعة عليهما واستحق كل واحد من المشتريين الشفعة على صاحبه فإن طالب كل واحد منهم بشفعته قسم المبيع بينهم أثلاثاً وصارت الدار ببنهم كذلك، وإن عفا الرابع وحده قسم المبيع بين المشتريين نصفين وكذلك إن عفا الجميع عن شفعتهم فيصير لهما ثلاثة أرباع الدار وللرابع الربع بحاله وإن طالب الرابع
وحده أخذ منهما نصف المبيع لأن كل واحد منهما له من الملك مثل ما للمطالب فشفعة مبيعه بينه وبين شفعيه نصفين فيحصل للرابع ثلاثة أثمان الدار وباقيها بينهما نصفين، وتصح من ستة عشر، وإن طالب الرابع وحده أحدهما دون الآخر قاسمه الثمن نصفين فيحصل للمعفو عنه ثلاثة أثمان والباقي بين الرابع والآخر نصفين وتصح من ستة عشر، وإن عفا أحد المشترين ولم يعف الآخر ولا الرابع قسم مبيع المعفو عنه بينه وبين الرابع نصفين ومبيع الآخر بينهم أثلاثاً فيحصل للذي لم يعف عنه ربع

(5/553)


وثلث ثمن وذلك سدس وثمن والباقي بين الآخرين نصفين وتصح من ثمانية وأربعين، وإن عفا الرابع عن أحدهما ولم يعف أحدهما عن صاحبه أخذ ممن لم يعف عنه ثلث الثمن والباقي بينهما نصفين ويكون الرابع كالعافي في التي قبلها وتصح أيضاً من ثمانية وأربعين، وإن عفا الرابع وأحدهما عن الآخر ولم يعف الآخر فلغير العافي ربع وسدس والباقي بين العافيين نصفين لكل واحد منهما سدس وثمن وتصح من أربعة وعشرين وما يفرع من المسائل فهو على مساق ما ذكرناه باب المساقاة وهي أن يدفع إنسان شجرة إلى آخر ليقوم بسقيه وعمل سائر ما يحتاج إليه يجزء معلوم له من الثمرة، وسميت مساقاة لأنها مفاعلة من السقي لأن أهل الحجاز أكثر حاجتهم إلى السقي لكونهما يسقون من الآبار، فسميت بذلك والأصل في جوازها السنة والإجماع أما السنة فما روى عبد الله بن عمر قال عامل رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل خيبر بشطر ما يخرج منها من ثمر أو زرع متفق عليه، وأما الإجماع فقال أبو جعفر علي بن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وعن آبائه عامل رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل خيبر بالشطر ثم أبو بكر ثم عمر وعثمان وعلي ثم أهلوهم إلى اليوم يعطون الثلث والربع وهذا عمل به الخلفاء الراشدون مدة خلافتهم واشتهر ذلك ولم ينكره منكر فكان إجماعاً

(5/554)


(مسألة) (تجوز المساقاة في ثمر النخل وفي كل شجر له ثمر مأكول ببعض ثمرته) هذا قول الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم وبه قال سعيد بن المسيب وسالم ومالك والثوري والاوزاعي
وأبو يوسف ومحمد واسحاق وأبو ثور، وقال داود لا تجوز إلا في تمر النخل لأن الخبر إنما ورد بها فيه، وقال الشافعي لا تجوز إلا في النخل والكرم لأن الزكاة تجب في ثمرتهما، وفي سائر الشجر قولان (أحدهما) لا تجوز فيه لأن الزكاة لا تجب في نمائها فأشبه مالا ثمرة له، وقال أبو حنيفة، وزفر لا تجوز بحال لأنها إجارة بثمرة لم تخلق أو إجارة بثمرة مجهولة أشبه إجارته بثمرة غير الشجر الذي يسقيه ولنا ما ذكرنا من الحديث والاجماع ولا يجوز التعويل على ما خالفهما فإن قيل راوي حديث خيبر ابن عمر وقد رجع عنه فقال.
كنا نخابر أربعين سنة حتى حدثنا رافع بن خديج أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن المخابرة ولا ينعقد الاجماع مع مخالفته، ويدل على نسخ حديث ابن عمر أيضاً رجوعه عن العمل به إلى حديث رافع، قلنا لا يجوز حمل حديث رافع على ما يخالف الإجماع ولا حديث ابن عمر لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يزل يعامل أهل خيبر حتى مات ثم عمل به الخلفاء بعده ثم من بعدهم فكيف يتصور نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن شئ ثم يخالفه؟ أم كيف يعمل ذلك في عصر الخلفاء ولم يخبرهم من سمع النهي وهو حاضر معهم وعالم يفعلهم؟ فلو صح خبر رافع لوجب حمله على ما يوافق السنة والإجماع، على أنه قد روي في تفسير خبر

(5/555)


رافع عنه ما يدل على صحة قولنا فروى البخاري بإسناده عنه قال كنا نكري الأرض بالناحية منها تسمى لسيد الأرض فربما يصاب ذلك وتسلم الأرض وربما تصاب الأرض ويسلم ذلك فنهينا فأما الذهب والورق فلم يكن يومئذ، وروي تفسيره أيضا بشئ غير هذا من أنواع الفساد وهو مضطرب جداً، قال الأثرم سمعت أبا عبد الله يسئل عن حديث رافع نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المزارعة فقال رافع يروى عنه في هذا ضروب وكأنه يريد أن اختلاف الرويات عنه يوهن حديثه، وقال طاوس إن أعلمهم يعني ابن عباس أخبرني أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينه عنه ولكن قال (لأن يمنح أحدكم أخاه أرضه خير من أن يأخذ عليها خراجاً معلوماً) رواه البخاري ومسلم وأنكر زيد بن ثابت حديث رافع، عليه فكيف يجوز نسخ أمر فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى مات وهو يفعله ثم أجمع عليه خلفاؤه وأصحابه بعده؟ ولا يجوز العمل به ولو لم يخالفه غيره ورجوع ابن عمر إليه يحتمل أنه رجع عن شئ من المعاملات الفاسدة التي فسرها رافع في حديثه، وأما غير ابن عمر فقد أنكر
على رافع ولم يقبل حديثه وحمله على أنه غلط في روايته، والمعنى يدل على ذلك فإن كثيراً من أهل النخيل والشجر يعجزون عن عمارته وسقيه ولا يمكنهم الإستئجار عليه وكثير من الناس لا شجر لهم ويحتاجون إلى الثمر ففي تجويز المساقاة دفع الحاجتين وتحصيل لمصلحة الفئين

(5/556)


فجاز كالمصاربة بالأثمان، فأما قياسهم فيبطل بالمضاربة فإنه يعمل في المال بنمائه وهو معدوم مجهول وقد جاز بالإجماع وهذا في معناه، ثم إن الشارع قد جوز العقد في الإجارة على المنافع المعدومة للحاجة فلم لا يجوز على الثمرة المعدومة للحاجة؟ مع أن القياس إنما يكون في إلحاق المسكوت عنه بالمنصوص عليه أو الجمع عليه، فأما في إبطال نص وخرق إجماع بقياس نص آخر فلا سبيل إليه، وأما تخصيص ذلك بالنخل أو به وبالكرم فيخالف عموم قوله عامل رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل خيبر بشطر ما يخرج منها من زرع أو ثمر وهذا عام في كل ثمر ولا تكاد بلد ذات أشجار تخلو من شجر غير النخل وقد جاء في لفظ بعض الأخبار أن النبي صلى الله عليه وسلم عامل أهل خيبر بشطر ما يخرج من النخل والشجر رواه الدارقطني ولأنه شجر يثمر كل حول فأشبه النخل والكرم ولأن الحاجة تدعو إلى المساقاة عليه كالنخل وأكثر لكثرته فأشبه النخل ووجوب الزكاة ليس من العلة المجوزة للمساقاة ولا أثر فيها وإنما العلة ما ذكرناه (فصل) فأما مالا ثمر له كالصفصاف والجوز أو له ثمر غير مقصود كالصنوبر والارز فلاتجوز المساقاة عليه وبه قال مالك والشافعي ولا نعلم فيه خلافاً لأنه غير منصوص عليه ولا في معنى المنصوص ولأن المساقاة إنما تجوز بجزء من الثمرة وهذا لا ثمرة له إلا أن يكون مما يقصد ورقة أو زهرة كالتوت

(5/557)


والورد فالقياس يقتضي جواز المساقاة عليه لأنه في معنى الثمر لكونه مما يتكرر كل عام ويمكن أخذه والمساقاة عليه بجزء منه فيثبت له حكمه (مسألة) (وتصح بلفظ المساقاة) لأنه موضوعها حقيقة وبلفظ المعاملة لقوله في الحديث عامل أهل خيبر على شطر ما يخرج منها، وتصح بكل ما يؤدي معناها من الألفاظ نحو فالحتك واعمل في
بستاني هذا حتى تكمل ثمرته وما أشبهه لأن القصد المعني فإذا أتى بأي لفظ دل عليه صح كالبيع (مسألة) (وتصح بلفظ الإجارة في أحد الوجهين) لأنه مؤد للمعنى فصح به العقد كسائر الألفاظ المتفق عليها والثاني لا تصح وهو اختيار أبي الخطاب لأن الإجارة يشترط لها كون العوض معلوماً وتكون لازمه والمساقاة بخلافه والأول أقيس لما ذكرنا (مسألة) (وقد نص أحمد في رواية جماعة فيمن قال أجرتك هذه الأرض بثلث مايخرج منها أنه يصح وهذه مزارعة بلفظ الإجارة ذكره أبو الخطاب) فمعنى قوله أجرتك هذه الأرض بثلث أي زارعتك عليها بثلث عبر عن المزاعة بالإجارة على سبيل المجاز كما يعبر عن الشجاع بالأسد، فعلى هذا يكون نهيه عليه السلام عنها بثلث أو ربع إنما ينصرف إلى الإجارة الحقيقة لاعن المزارعة وقال أكثر أصحابنا هي إجارة لأنها مذكورة بلفظها فتكون إجارة حقيقة وتصح بعض الخارج من الأرض كما تصح بالدراهم قال شيخنا والأول أقيس وأصح لما سبق

(5/558)


(مسألة) (وهل تصح على ثمرة موجودة، على روايتين (إحداهما تجوز اختارها أبو بكر وهو قول مالك وأبي يوسف ومحمد وأبي ثور وأحد قولي الشافعي لانها إذا جازت مع كثرة الغرر فيها فمع وجودها وقلة الغرر فيها أولى وإنما تصح إذا بقي من العمل ما تزيد به الثمرة كالتأبير والسقي وإصلاح الثمرة فإن ببقي مالا تزيد به الثمرة كالجذاذ ونحوه لم يجز بغير خلاف (والثانية) لا يجوز وهو القول الثاني للشافعي لأنه ليس بمنصوص عليه ولا في معنى المنصوص فإن النبي صلى الله عليه وسلم عامل أهل خيبر على الشطر مما يخرج من زرع أو ثمر، ولأن هذا يفضي إلى أن يستحق بالعقد عوضاً موجوداً ينتقل الملك فيه عن رب المال إلى المساقي فلم يصح كما لو بدا صلاح الثمرة ولأنه عقد على العمل في المال ببعض نمائه فلم يجز بعد ظهور النماء كالمضاربة ولأن هذا يجعل إجارة بمعلوم ومجهول فلم يصح كما لو استأجره على العمل بذلك، وقولهم إنهما أقل غررا قلنا قلة الغرر ليس من المقتضي للجواز ولا كثرته الموجودة في محل النص مانعة منه فلا تؤثر قلته شيئاً، والشرع ورد به على وجه لا يستحق العامل فيه عوضاً موجوداً ولا ينتقل إليه من ملك رب المال شئ وإنما
يحدث النماء الموجود على ملكهما على ما شرطاه فلم تجز مخالفة هذا الموضوع ولا إثبات عقد ليس في معناه الحاقاً به كما لو بدا صلاح الثمرة وكالمضاربة بعدن ظهور الربح، ومن نصر الوجه الأول قال نص النبي صلى الله عليه وسلم على المساقاة على الثمرة المعدومة بجزء منها نبيه على جوازها على الموجودة لما

(5/559)


ذكرنا، ولا يصح القياس على المضاربة إذا ظهر الربح لأنها لا تحتاج إلى عمل وههنا يحتاج إليه فلا يصح القياس، ونظير ذلك المساقاة على الثمرة بعد بدو صلاحها فإنه لا يصح بغير خلاف علمناه لكون العمل لا يزيد في الثمرة بخلاف الرواية الأولى فإن العمل يزيد فيها فافترقا (فصل) وإذا ساقاه على ودي النخل أو صغار الشجر إلى مدة يحمل فيها غالباً بجزء من الثمرة صح لأنه ليس فيه أكثر من أن عمل العامل يكثر وذلك لا يمنع الصحة كما لو جعل له سهم من ألف، وفيه الأقسام التي نذكرها في كبار النخل والشجر فإن قلنا المساقاة عقد جائز لم يحتج إلى ذكر مدة وان قلناهو لازم اشترط ذكر المدة وسنذكره (مسألة) (وإن ساقاه على شجر بغرسه ويعمل عليه حتى يثمر بجزء من الثمرة صح) والحكم فيه كالحكم فيما إذا ساقاه على صغار الشجر على ما بينته قال أحمد في رواية المروذي فيمن قال لرجل اغرس في أرضي هذه شجراً أو نخلاً فما كان من غلة فلك بعملك كذا وكذا سهماً من كذا وكذا فأجازه، واحتج بحديث خيبر في الزرع والنخل لكن يشترط أن يكون الغرس من رب الأرض كما يشترط في المزارعة كون البذر من رب الأرض، فإن كان من العامل خرج على الروايتين في المزارعة إذا شرط البذر من العامل، وقال القاضي المعاملة باطلة وصاحب الأرض بالخيار بين تكليفه قلعها ويضمن له نقصها وبين تركها في أرضه ويدفع إليه قيمتها كالمشتري إذا غرس في الأرض ثم جاء الشفيع

(5/560)


فاخذها وإن اختار العامل قلع شجره فله ذلك سواء بذلك بذل له القيمة أو لم يبذلها لأنه ملكه فلم يمنع من تحويله وإن اتفقا على إبقاء الغرس ودفع أجر الأرض جاز (فصل) ولو دفع أرضه إلى رجل يغرسها على أن الشجر بينهما لم يجر ويحتمل الجواز بناء على
المزارعة فإن المزارع يبذر الأرض فتكون بينه وبين صاحب الأرض وهذا نظيره، فأما إن دفعها على أن الأرض والشجر بينهما فذلك فاسد وجهاً واحداً وبه قال مالك والشافعي وأبو يوسف ومحمد ولا نعلم فيه مخالفاً لأنه يشترط اشتراكهما في الأصل ففسد كما لو دفع إليه الشجر أو النخيل ليكون الأصل والثمرة بينهما أو شرط في المزارعة كون الأرض والزرع بينهما (فصل) ومن شرط صحة المساقاة تقدير نصيب العامل بجزء معلوم من الثمرة كالثلث والربح لحديث ابن عمر في خيبر وسواء قل الجزء أو كثر فلو جعل للعامل جزءاً من مائة جزء أو جعل الجزء لنفسه والباقي للعامل جاز إذا لم يفعل ذلك حيلة، فإن عقد على جزء مبهم كالسهم والجزء والنصيب لم يجز لأنه إذا لم يكن معلوماً لم يمكن القسمة بينهما ولو جعل له آصعا معلومة أو جعل مع الجزء المعلوم آصعاً لم يجز لأنه ربما لم يحصل ذلك أو لم يحصل غيره فيستضر رب الشجر أو يكثر الحاصل فيتضرر العامل وكذلك إن شرط له ثمر شجر بعينه لأنه قد لا يحمل وقد لا يحمل غيرها ولهذه العلة نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن المزارعة التي يجعل فيها لرب الأرض مكاناً معيناً وللعامل مكانا معينا قال رافع كنا نكتري الأرض على أن لنا

(5/561)


هذه ولهم هذه فربما أخرجت هذه ولم تخرج هذه فنهانا عن ذلك، فأما الذهب والورق فلم ينهنا متفق عليه، فمتى شرط شيئاً من هذه الشروط الفاسدة فسدت المسافاة، والثمرة كلها لرب المال لأنها نماء ملكه وللعامل أجر مثله كالمضاربة الفاسدة (فصل) ولا يحتاج أن يشرط لرب المال لأنه يأخذ بماله لا بالشرط فإذا قال ساقيتك على أن لك ثلث الثمرة صح والباقي لرب المال، وإن قال على أن لي ثلث الثمرة فقال ابن حامد يصح وقيل لا يصح وقد ذكرنا تعليل ذلك في المضاربة، وإن اختلفا في الجزء المشروط فهو للعامل لأنه إنما يستحق بالشرط كما ذكرنا، وفان اختلفا في قدر المشروط للعامل فقال ابن حامد القول قول رب المال وقال مالك القول قول العامل إذا ادعى ما يشبه لأنه أقوى سبباً لتسلمه الحائط والعمل، وقد ذكرنا في المضارب رواية أن القول قول إذا ادعى أجر المثل فيخرج ههنا مثله وقال الشافعي يتحالفان وكذلك إن اختلفا فيما تتاولته المساقاة من الشجر
ولنا أن رب المال منكر للزيادة التي ادعاها العامل فكان القول قوله فإن كان مع أحدهما بينة حكم بها وإن كان مع كل واحد منهما بينة انبنى على بينة الداخل والخارج فإن كان الشجر لا ثنين فصدق أحدهما العامل وكذبه الآخر أخذ نصيبه مما يدعيه من مال المصدق وإن شهد على المنكر قبلت شهادته إذا كان عدلاً لأنه لا يجر إلى نفسه نفعاً ولا يدفع عنها ضرراً ويحلف مع شاهده وإن لم يكن عدلاً

(5/562)


كانت شهادته كعدمه ولو كانا عاملين ورب المال واحداً فشهد أحدهما على صاحبه قبلت شهادته لما ذكرنا (فصل) وإذا كان في البستان شجر من أجناس كالتين والزيتون والكرم فشرط للعامل من كل جنس قدراً كنصف ثمر التين وثلث الزيتون وربع الكرم، أو كان فيه أنواع من جنس فشرط من كل نوع قدراً وهما يعرفان قدر كل نوع صح لأن ذلك كثلاثة بساتين ساقاة على كل بستان بقدر مخالف للقدر المشروط من الآخر، وإن لم يعلما قدره أو أحدهما لم يجز للجهالة، ولو قال ساقيتك على هذين البساتين بالنصف من هذا والثلث من هذا صح لأنها صفقة واحدة جمعت عوضين فصار كقوله بعتك داري هاتين هذه بألف وهذه بمائة، وإن قال بالنصف من أحدهما والثلث من الآخر ولم يعينه لم يصح الجهالة لأنه لا يعلم الذي يستحق نصفه، لو ساقاه على بستان واحد نصفه هذا بالنصف ونصفه هذا بالثلث وهما متميزان صح لأنهما كبستانين (فصل) فإن كان البستان لإثنين فساقيا عاملاً واحداً على أن له نصف نصيب أحدهما وثلث نصيب الآخر والعامل عامل ما لكل واحد منهما جاز لأن عقد الواحد مع الإثنين عقدان، ولو أفرد كل واحد منهما بعقد كان له أن يشرط ما اتفقا عليه وإن جهل نصيب كل واحد منهما لم يجز لأنه غرر فأنه قد يقل نصيب من شرط له النصف فيقل حظه، وقد يكثر فيتوفر حظه، فأما إن شرطا قدراً واحداً من مالهما جاز وإن لم يعلم قدر مالكل واحد منهما لأنها جهالة لا غرر فيها ولا ضرر فهو كا لو قالا بعناك

(5/563)


دارنا هذه بألف ولم يعلم نصيب كل واحد منهما جاز لأنه أي نصيب كان فقد علم عوضه وعلم جملة المبيع فصح كذلك ههنا، ولو ساقى واحد إثنين جاز ويجوز أن يشرط لهما التساوي في النصيب وان
يشرط لأحدهما أكثر من الآخر (فصل) ولو ساقاه ثلاث سنين على أن له في الأولى النصف وفي الثانية الثلث وفي الثالثة الربع جاز لأنه قدر ماله في كل سنة معلوم فصح كما لو شرط له من كل نوع قدراً (فصل) ولا تصح المساقاة إلا على شجر معلوم بالرؤية أو بالصفة التي لا يختلف معها كالبيع وإن ساقاه على بستان لم يره ولم يوصف له لم يصح لأنه عقد على مجهول أشبه البيع وإن ساقاه على أحد هذين الحائطين لم يصح لأنها معاوضة يختلف العوض فيها باختلاف الأعيان فلم يجز على غير معين كالبيع.
(فصل) وتصح على البعل كما تصح على السقي وبه قال مالك ولا نعلم فيه خلافاً عند من يجوز المساقاة لأن الحاجة تدعوا إلى المعاملة في ذلك كدعائها إلى المعاملة في غيره فيقاس عليه (مسألة) (والمساقاة عقد جائز في ظاهر كلامه) وكذلك المزارعة أو ما إليه أحمد في رواية الاثرم قد سئل عن الاكار يخرج من غير أن يخرجه صاحب الضيعة فلم يمنعه من ذلك ذكره ابن حامد وهو قول بعض أصحاب الحديث، وقال بعض أصحابنا

(5/564)


هو لازم وهو قول أكثر الفقهاء لأنه عقد معاوضة فكان لازما كالإجارة لأنه لو كان جائزاً كان لرب المال فسخه إذا ظهرت الثمرة فيسقط سهم العامل فيتضرر ولنا ما روى مسلم عن ابن عمر أن اليهود سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقرهم بخيبر على أن يعملوها ويكون لرسول الله صلى الله عليه وسلم شطر ما يخرج منها من زرع أو ثمر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (نقر كم على ذلك ما شئنا) ولو كان لازماً لم يجز بغير تقدير مدة ولا أن يجعل الخيرة إليه في مدة إقرارهم، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم لو قدر لهم مدة لنقل لأن هذا مما يحتاج إليه فلا يجوز الإخلال بنقله وعمر رضي الله عنه إجلاهم من أرض الحجاز وأخرجهم من خيبر ولو كانت لهم مدة مقدرة لم يجز إخراجهم فيها ولأنه عقد على جزء من نماء المال فكان جائزاً كالمضاربة، وفارق الإجارة لأنها بيع فكانت لازمه كبيع الأعيان ولأن عوضها معلوم أشبهت البيع وقياسهم ينتقض بالمضاربة وهي أشبه بالمساقاة من الإجارة فقياسها عليها أولى
وقولهم إنه يفضي الى أن رب المال يفسخ بعد إدراك الثمرة قلنا إذا ظهرت الثمرة ظهرت على ملكيهما فلا يسقط حق العامل منها بفسخ ولاغيره كما إذا فسخ المضارب بعد ظهور الربح، فعلى هذا لا يفتقر إلى ذكر مدة لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يضرب لأهل خيبر مدة معلومة ولا خلفاؤه حين عاملوهم، ولأنه عقد جائز فلم يفتقر إلى ضرب مدة كالمضاربة وسائر العقود الجائزة، ومتى فسخ أحدهما بعد ظهور الثمرة فهي بينهما على ما شرطاه وعلى العامل تمام العمل كما يلزم المضارب بيع العروض إذا فسخت المضاربة بعد

(5/565)


ظهور الربح وإن فسخ العامل قبل ذلك فلا شئ له لأنه رضي بإسقاط حقه فهو كعامل المضاربة إذا فسخ قبل ظهور الربح وعامل الجعالة إذا فسخ قبل اتمام عمله، فان فسخ رب المال قبل ظهور الثمرة فعليه أجر المثل للعامل لأنه منعه إتمام عمله الذي يستحق به العوض فأشبه مالو فسخ الجاعل قبل إتمام عمل الجعالة وفارق رب المال في المضاربة إذا فسخها قبل ظهور الربح لأن عمل هذا مفض إلى ظهور الثمرة غالباً فلولا السفخ لظهرت الثمرة فملك نصيبه منها وقد قطع ذلك بفسخه فأشبه فسخ الجعالة بخلاف المضاربة فإنه لا يعلم إفضاؤها إلى الربح ولأن الثمرة إذا ظهرت في الشجر كان العمل عليها في الإبتداء من أسباب ظهورها والربح إذا ظهر في المضاربة قد لا يكون للعمل الأول فيه أثر أصلا (مسألة) (فان قلناهي عقد لازم فلا تصح إلا على مدة معلومة) وهذا قول الشافعي وقال أبو ثور تصح وتقع على سنة واحدة وأجازه بعض الكوفبين استحساناً ولأنه لما شرط له جزءاً من الثمرة كان ذلك دليلاً على إرادة مدة تحصل فيها الثمرة ولنا أنه عقد لازم فوجب تقديره بمدة معلومة كالإجارة ولأن المساقاة أشبه بالإجارة لأنها تقتضي العمل على العين مع بقائها ولأنها إذا وقعت مطلقة لم يمكن حملها على إطلاقها مع لزومها لأنها تفضي إلى أن العامل يستبد بالشجر كل مدته فيصير كالمالك ولا يمكن تقديره بالسنة لأنه تحكم وقد تكمل الثمرة في أقل من السنة فعلى هذا لاتتقدر أكثر المدة بل يجوز ما يتفقان عليه من المدة التي يبقى الشجر فيها وإن طالت وقيل لا يجوز

(5/566)


أكثر من ثلاثين سنة وهذا تحكم وتوقيت لا يصار إليه إلا بنص أو إجماع فأما أقل المدة فتقدر بمدة
تكمل فيها الثمرة ولا يجوز على أقل منها لأن المقصود اشتراكهما في الثمرة ولا يوجد في أقل من هذه المدة (مسألة) (فإن شرطا مدة لا تكمل فيها لم يصح) لذلك فإذا عمل فيها فظهرت الثمرة فيها ولم تكمل فله أجرة مثله في أحد الوجهين وفي الآخر لا شئ له لأنه رضي بالعمل بغير عوض فهو كالمتبرع والأول أصح لأن هذا لم يرض إلا بعوض وهو جزء من الثمرة وذلك الجزء موجود لكن لا يمكن تسليمه إليه فلما تعذر دفع العوض الذي اتفقا عليه كان له أجر مثله كما في الإجارة الفاسدة بخلاف المتبرع فإنه رضي بغير شئ، وإن لم تظهر الثمرة فلا شئ له في أصح الوجهين لأنه رضي بالعمل بغير عوض (فصل) فإن ساقاه إلى مدة تكمل فيها الثمرة غالباً فلم تحمل تلك السنة فلا شئ للعامل لأنه عقد صحيح لم يظهر فيه النماء أشبه المضاربة إذا لم يربح فيها وإن ظهرت الثمرة ولم تكمل فله نصيبه منها وعليه إتمام العمل فيها كما لو انفسخت قبل كمالها (مسألة) (وإن شرطا مدة قد تكمل فيها الثمرة وقد لا تكمل ففي صحة المساقاة وجهان) (أحدهما) تصح لان الشجر يحتمل أن يحمل ويحتمل أن لا يحمل والمساقاة جائزة فيه (والثاني) لا يصح لأنه عقد على معدوم ليس الغالب وجوده فلم يصح كالسلم في مثل ذلك ولأن ذلك غرر أمكن

(5/567)


التحرز منه فلم يجز العقد معه كما لو شرط ثمرة نخلة بعينها، وفارق ما إذا شرط مدة تكمل فيها الثمرة فإن الغالب أن الشجر يحمل وإحتمال ان لا يحمل نادر لم يمكن التحرز عنه، فإن قلنا العقد صحيح فله حصته من الثمر فإن لم يحمل فلا شئ له وإن قلنا هو فاسد استحق أجر المثل سواء حمل أو لم يحمل لأنه لم يرض بغير عوض ولم يسلم له العوض فاستحق أجر المثل بخلاف مااذا شرطا مدة لا يحمل في مثلها، وفيه وجه آخر أنه لا شئ له كما لو اشترطاه مدة لا يحمل فيها الشجر غالباً ومتى خرجت الثمرة قبل انقضاء المدة فله حقه منها إذا قلنا بصحة العقد وإن خرجت بعدها فلا شئ له فيها ومذهب الشافعي في هذا قريب مما ذكرنا (مسالة) (وإن مات العامل تم الوارث فإن لم يكن له وارث أقام الحاكم مقامه من تركته)
وجملة ذلك إنا قد ذكرنا أن ظاهر المذهب أن المساقاة عقد جائز لا يفتقر إلى ذكر مدة لأن ابقاء ها إليهما وفسخها جائز لكل واحد منهما فلم تحتج الى مدة، فإن قدرها بمدة، جاز لأنه لا ضرر في ذلك وقد يناه في المضاربة والمساقاة مثلها، فعلى هذا تنفسخ بموت كل واحد منهما وجنونه والحجر عليه للسفه كالمضاربة ويكون الحكم فيها كما لو فسخها أحدهما، فأما إن قلنا بلزومها لم ينفسخ العقد ويقوم الوارث مقام الميت منهما لأنه عقد لارم أشبه الاجارة، فانه كان الميت العامل فأبى وارثه القيام مقامه لم يجبر لأن الوارث لا يلزمه من الحقوق التى على مورته إلا ما أمكن دفعه من تركته والعمل ليس مما يمكن فيه ذلك

(5/568)


فعلى هذا يستأجر الحاكم من التركة من يعمل فإن لم يكن له تركة أو تعذر الاستجار فلرب المال الفسخ لأنه تعذر استيفاء المعقود عليه فثبت الفسخ كما لو تعذر ثمن المبيع قبل قبضه (مسألة) (فإن فسخ بعد ظهور الثمرة فهي بينهما فإن فسخ قبل ظهورها فهل للعامل أجرة؟ على وجهين) أما إذا فسخ بعد ظهور الثمرة فهي بينهما كما إذا انفسخت المضاربة بعد ظهور الربح، فعلى هذا يباع من نصيب العامل ما يحتاج إليه لأجر ما بقي من العمل واستؤجر من يعمل ذلك وإن إحتيج إلى بيع الجميع بيع ثم لا يخلو إما أن يكون قد بد اصلاح الثمرة أو لافان كان قد بداصلاحها خير المالك بين البيع والشراء فإن اشترى نصيب العامل جاز وإن اختار بيع نصبيبه باعه وباع الحاكم نصيب العامل وإن أبى البيع والشراء باع الحاكم نصيب العامل وحده وما بقي على العامل يستأجر من يعمله والباقي لورثته، وإن كانت لم يبد صلاحها خير المالك أيضاً فإن ببع لا جنبي لم يجز إلا بشرط القطع، ولا يجوز بيع نصيب العامل وحده لأنه لا يمكن قطعه إلا بقطع نصيب المالك ولا يجوز ذلك إلا بإذنه وهل يجوز شراء المالك لها؟ على وجهين (أحدهما) لا يجوز كالأجنبي (والثاني) يجوز كما إذا بع نخلاً مؤبراً جاز للمشتري أن يبتاع الثمرة التي للبائع من غير شرط القطع وهكذا الحكم إذا انفسخت المساقاة بموت العامل إذا قلنا بجوازها وأبى الوارث العلم، فأما إن فسخ قبل ظهور الثمرة فللعامل الاجر في أحد الوجهين لأنه عمل بعوض لم يصح له فكانت له الأجرة

(5/569)


كما لو فسخ بغير عذر (والثاني) لا شئ له لأن الفسخ مستند إلى موته ولا صنع لرب المال فيه أشبه إذا فسخ العامل قبل ظهور الثمرة (مسألة) (وكذلك إن هرب العامل ولم يوجد له ما ينفق عليها فهو كما لو مات) إن كان العقد جائزاً فلرب الأرض الفسخ وإن قلنا بلزومه فوجد الحاكم له مالا أو أمكنه الإقتراض عليه من بيت المال أو غيره فعل وإن لم يمكنه ووجد من يعمل بأجرة مؤجلة إلى وقت إدراك الثمرة فعل فإن تعذر ذلك فلرب المال الفسخ لما ذكرنا، وأما الميت فلا يقترض عليه لأنه لا ذمة له والأولى في هذه الصورة أن لا يكون للعامل أجرة لأنه ترك العمل إختياراً منه فلم يكن له أجره كما لو ترك العمل من غير هرب مع القدرة عليه (مسألة) (فإن عمل فيها رب المال بإذن حاكم أو إشهاد رجع به وإلا فلا) قد ذكرنا أن لرب المال الفسخ فإن اختار البقاء على المساقاة لم تنفسخ إذا قلنا بلزومها ويستأذن الحاكم في الإنفاق على الثمرة ويرجع بما أنفق فإن عجز عن إستئذان الحاكم فأفق بنية الرجوع وأشهد على الإنفاق بشرط الرجوع رجع بما أنفق وهذا أحد الوجهين لأصحاب الشافعي لأنه مضطر، وإن أمكنه استئذان الحاكم وأنفق بنية الرجوع ولم يستأذنه فهل يرجع بذلك؟ على وجهين بناء على ما إذا قضى دينه بغير إذنه، فإن تبرع بالإنفاق لم يرجع كما لو تبرع بالصدقة والحكم فيما إذا أنفق على الثمرة بعد فسخ العقد إذا تعذر بيعها كالحكم ههنا سواء

(5/570)


(فصل) قال رحمه الله (ويلزم العامل ما فيه صلاح الثمرة وزيادتها من السقي والحرث والزبار والتفليح والتشميس وإصلاح طرق الماء وموضع الشمس) وجملة ذلك أنه يلزم العامل بإطلاق عقد المساقاة ما فيه صلاح الثمرة وزيادتها من حرث الأرض تحت الشجرة والبقر التي تحرث وآلة الحرث وسقي الشجر وإستقاء الماء وإصلاح طرق الماء وقطع الحشيش المضر والشوك وقطع الشجر اليابس وزبار الكرم وقطع ما يتحاج إلى قطعه وتسوية الثمرة وإصلاح الأجاحين وهي الحفر التي يجتمع فيها الماء على أصول التحل وإدارة الدولاب وحفظ
الثمر في الشجر وبعده حتى يقسم، وإن كان مما يشمس فعليه تشميسه لأن إطلاق عقد المساقاة يقتضي ذلك فإن موضوعها على أن العمل من العامل (مسألة) (وعلى رب المال ما فيه حفظ الأصل من شد الحيطان وأجر الأنهار وحفر البئر والدولاب وما يدبره) وكذلك شراء ما يلقح به إذا أطلقا العقد وإن شرطا ذلك كان تأكيداً وقيل ما يتكرر كل عام فهو على العامل ومالا فلا، قال شيخنا وهذا صحيح إلا في شراء ما يلقح به فإنه على رب المال وإن تكرر لأن هذا ليس من العمل، فأما البقرة التي تدير الدولاب فقال أصحابنا هي على رب المال لأنها ليست من العمل أشبه ما يلقح به، قال شيخنا والأولى أنها على العامل لأنها تراد للعمل أشبهت بقر الحرث ولأن

(5/571)


إستقاء الماء على العامل إذا لم يحتج إلى بهيمة فكان عليه وإن احتاج إليها كغيره من الأعمال وقال بعض أصحاب الشافعي ما يتعلق بالأصول والثمرة معا ككسح النهر هو على من شرط عليه منهما وإن أهمل شرط ذلك على أحدهما لم تصح المساقاة وقد ذكرنا ما يدل على أنه من العامل، فأما تسميد الأرض بالزبل إذا احتاجت إليه فتحصيله على رب المال لأنه ليس من العمل أشبه ما يلقح به وتفريقه في الأرض على العامل كالتلقيح.
(فصل) فإن شرطا على أحدهما شيئاً مما يلزم الآخر فقال القاضي وابو الخطاب لا يجوز ذلك فعلى هذا تفسد المساقاة وهو مذهب الشافعي لأنه شرط يخالف مقتضى العقد فأفسده كالمضاربة إذا شرط العمل فيها على رب المال، وقد روي عن أحمد ما يدل على صحة ذلك فإنه ذكر أن الجذاذ عليهما فإن شرطه على العامل جاز لأنه شرط لا يخل بمصلحة العقد ولا مفسدة فيه فصح كتأجيل الثمن في البيع وشرط الرهن والضمين والخيار فيه لكن يشترط أن يكون ما يلزم كل واحد منهما من العمل معلوماً لئلا يفضي إلى التنازع فيختل العمل، وإن لا يكون على رب المال أكثر العمل ولا نصفه لأن العامل إنما يستحق بعمله فإذا لم يعمل أكثر العمل كان وجود عمله كعدمه فلا يستحق شيئاً (فصل) فإن شرط أن يعمل معه غلمان رب المال فهو كعمل رب المال فأن يد الغلام كيد مولاه وقال
أبو الخطاب فيه وجهان أحدهما كما ذكرنا والثاني يجوز لأن غلمانه ماله فجاز أن يجعل تبعاً لماله كثور

(5/572)


الدولاب وكما يجوز في القراض أن يدفع إلى العامل بهيمة يحمل عليها، وأما رب المال لا يجوز جعله تبعاً وهذا قول مالك والشافعي ومحمد بن الحسن، فإذا شرط غلماناً يعملون معه فنفقتهم على ما يشترطان عليه فإن أطلقا فهي على رب المال وبهذا قال الشافعي وقال مالك نفقتهم على المساقي ولا ينبغي أن يشرطها على رب المال لأن العمل على المساقي فمؤنة من يعمله عليه كمؤنة غلمانه ولنا أنه مملوك رب المال فكانت نفقته عليه عند الإطلاق كما لو أجرة فإن شرطها على العامل جاز ولا يشترط تقديرها وبه قال الشافعي وقال محمد بن الحسن يشترط لأنه إشترط عليه مالا يلزمه فوجب أن يكون معلوماً كسائر الشروط ولنا أنه لو وجب تقديرها لوجب ذكر صفاتها ولا يجب ذلك فلم يجب تقدبرها ولابد من معرفة الغلمان المشروط عملهم برؤية أو صفة تحصل بها معرفتهم كما في عقد الإجارة (فصل) فإن شرط العامل أن أجر الأجراء الذين يحتاج الى الاستعانة بهم من الثمرة وقدر الأجرة لم يصح لأن العمل عليه فإذا شرط أجرة من المال لم يصح كما لو شرط لنفسه أجر عمله وكذلك إن لم يقدره لذلك لأنه مجهول، ويفارق هذا ما إذا شرط المضارب أجر من يحتاج إليهم من الحمالين ونحوهم لأن ذلك لا يلزم العامل فكان على المال ولو شرط أجرما يلزمه عمله بنفسه لم يصح (مسألة) (وحكم العامل حكم المضارب فيما يقبل قوله فيه وفيما يرد)

(5/573)


لأن رب المال ائتمنه فأشبه المضارب فإن إتهم حلف وإن ثبتت خيانته ضم إليه من اشاء ربه كالوصي إذا ثبتت خيانته فإن لم يمكن حفظه استؤجر من ماله من يعمل عمله، وبهذا قال الشافعي وقال أصحاب مالك لا يقام غيره مقامه بل يحفظ منه لأن فسقه لا يمنع استيفاء المنافع المقصودة منه فأشبه ما لو فسق بغير الخيانة ولنا أنه تعذر استيفاء المنافع المقصودة منه فاستوفيت بغيره كما لو هرب ولانسلم إمكان استيفاء المنافع
منه لأنه لا يؤمن من تركها ولا يوثق منه بفعلها ولا نقول إن له فسخ المساقاة وإنما نقول لما لم يمكن حفظها من خيانتك أقم غيرك يعمل ذلك وارفع يدك عنها لأن الأمانة قد تعذرت في حقك فلا يلزم رب المال أئتمانك وفارق فسقه بغير الخيانة فإنه لا ضرر على رب المال فيها وههنا يفوت ماله، فإن عجز عن العمل لضعفه مع أماننه ضم إليه غيره ولا تنزع يده لأن العمل مستحق عليه ولا ضرر في بقاء يده عليه وإن عجز بالكلية أقام مقامه من يعمل والأجرة عليه في الموضعين لأن عليه تمام العمل وهذا من تمامه (فصل) ويملك العامل حصته من الثمرة بظهورها فلو تلفت كلها إلا واحدة كانت بينهما وهذا أحد قولي الشافعي والثاني يملكه بالمقاسمة كالمضارب ولنا أن الشرط صحيح فيثبت مقتضاه كسائر الشروط الصحيحة ومقتضاه كون الثمرة بينهما على كل حال، وأما القراض فنقول إنه يملك الربح بالظهور كمسئلتنا وإن سلم فالفرق بينهما أن الربح وقاية

(5/574)


لرأس المال فلم يملك حتى سلم رأس المال لربه وهذا ليس بوقاية لشئ فإنه لو تلفت الأصول كلها كان الثمر بينهما.
إذا ثبت ذلك فإنه يلزم كل واحد منهما زكاة حصته إذا بلغت نصاباً نص عليه أحمد في المزارعة فإن لم تبلغ نصاباً الا بجمعهما لم تجب الاعلى قولنا أن الخلطة تؤثرفي غير السائمة، فيبدأ بإخراج الزكاة ثم يقسمان ما بقي فإن بلغت حصة أحدهما نصاباً دون الآخر فعلى من بلغت حصته نصاباً الزكاة وحده يخرجها بعد المقاسمة إلا أن يكون لمن لم تبلغ حصته نصاباً ما يتم به النصاب من موضع آخر فيجب عليهما جميعاً، وإن كان أحدهما لا زكاة عليه كالمكاتب والذمي فعلى الآخر زكاة حصته إن بلغت نصاباً وبهذا كله قال مالك والشافعي وقال الليث إن كان شريكه نصرانياً أعلمه أن الزكاة مؤداة في الحائط ثم يقاسمه بعد الزكاة ما بقي ولنا أن النصراني لا زكاة عليه فلم يخرج من حصته شئ كما لو انفرد بها وقد روى أبو داود سنته عن عائشة رضي الله عنها قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبعث عبد الله بن رواحة فخيرض النخيل حين يطيب قبل أن يؤكل ثم يخبر يهود خيبر أيأخذونه بذلك الخرص أم يدفعونه إليهم بذلك الخرص؟ لكي تحصى الزكاة قبل أن تؤكل الثمار ويفترق قال جابر خرصها ابن رواحة أربعين ألف وسق وزعم
أن اليهود لما خيرهم ابن رواحة أخذوا الثمر وعليهم عشرون ألف وسق (فصل) وإن ساقاة على أرض خراجيه فالخراج على رب المال لأنه يجب على الرقبة بدنه أليل

(5/575)


تجب سواء أثمرت الشجرة أو لم تثمر ولأن الخراج يجب أجرة للأرض فكان على رب الأرض كما لو اسنأجر أرضا وزارع غيره فيها وبه قال الشافعي، وقد نقل أحمد في الذي يتقبل الأرض البيضاء لعمل عليها وهي من أرض السواد يقبلها من السلطان فعلى من تقبلها أن يؤدي وظيفة عمر رضي الله عنه ويؤدي العشر بعد وظيفة عمر وهذا معناه والله أعلم إذا دفع السلطان أرض الخراج إلى رجل يعملها ويؤدي خراجها فأنه يبدأ بخراجها ثم يزكي ما بقي كما ذكر الخراقي في باب الزكاة ولا تنافي بين ذلك وبين ما ذكرناه ههنا (فصل) ولا يجوز أن يجعل له فضل دراهم زائدة على ما شرط له من الثمرة بغير خلاف لأنه ربما يحدث من النماء بقدر تلك الدراهم فيضر برب المال ولذلك معنا من إشتراط أقفزة معلومة فإن جعل له ثمرة سنة غير السنة التي ساقاه عليها فيها أو ثمر شجر غير الشجر الذي ساقاه عليه لم يجز وكذلك لو شرط عليه في غير الشجر الذي ساقاه عليه أو عملا في السنة فهذا يفسد العقد سواء جعل ذلك كله حقه أو بعضه أو جميع العمل أو بعضه لأنه يخالف موضع المساقاة إذ موضوعها أن يعمل في شجر معين بجزء مشاع من ثمرته في ذلك الوقت الذي يستحق عليه فيه العمل (فصل) إذا ساقاه رجلاً أو زارعة فعامل العامل غيره على الأرض أو الشجر لم يجز وبه قال أبو يوسف وأبو ثور وأجازه مالك إذا جاء برجل أمين

(5/576)


ولنا أنه عامل في المال بجزء من نمائه فلم يجز أن يعامل غيره فيه كالمضارب ولأنه إنما أذن له في العمل فيه فلم يجز أن يأذن لغيره كالوكيل، فأما إن استأجر أرضاً فإنه يزارع غيره فيها لأن منافعها صارت مستحقة له فملك المزارعة فيها كالمالك والأجرة على المستأجر دون المزارع كما ذكرنا في الخراج وكذلك يجوز لمن في يده أرض خراجية أن يزارع فيها لأنها كالمستأجرة وللموقوف عليه أن يزارع
في الوقف ويساقي على شجره لأنه أما مالك لرقبة ذلك أو بمنزلة المالك ولا نعلم فيه خلافا عند من أجاز المساقاة والمزارعة (فصل) وإن ساقاه على شجرفبان مستحقاً بعد العمل أخذه وبه وثمرته لأنه عين ماله ولاحق للعامل في ثمرته ولانه عمل فيها بغير إذن مالكها ولا أجرة له لذلك وله على الغاصب أجر مثله لأنه غره واستعمله فأشبه مالو غصب نقرة واستأجر من ضربها دراهم، وإن شمس الثمرة فلم تنقص أخذهما ربها وإن نقصت فله أرش نقصها ويرجع به على من شاء منهما ويستقر الضمان على الغاصب، وان استحقت بعد أن اقتسماها وأكلاها فللمالك تضمين من شاء منهما فإن ضمن الغاصب فله تضمينه الكل وله تضمينه قدر نصيبه وتضمين العامل قدر نصيبه لأن الغاصب سبب يد العامل فلزمه ضمان الجميع فإن ضمنه الكل رجع على العامل بقدر نصيبه لأن التلف حصل في يده فاستقر الضمان عليه ويرجع العامل على الغاصب بأجر مثله ويحتمل أن لا يرجع الغاصب على العامل بشئ لأنه غره فلم يرجع عليه كما لو أطعم إنساناً

(5/577)


شيئاً وقال كله فإنه طعامي ثم تبين أنه مغصوب، وإن ضمن العامل احتمل أنه لا يضمنه إلا نصيبه خاصة لأنه ما قبض الثمرة كلها وإنما كان مراعياً لها وحافظاً فلا يلزمه ضمانها ما لم يقبضها ويحتمل أن يضمنه الكل لانه يده ثبتت على الكل مشاهدة بغير حق فإن ضمنه الكل رجع على الغاصب ببدل نصيبه منها وأجر مثله، وإن ضمن كل واحد منهما ما صار إليه رجع العامل على الغاصب بأجر مثله لا غير وإن تلفت الثمرة في شجرها أو بعد الجذاذ قبل القسمة فمن جعل العامل قابضاً لها بثبوت يده على حائطها قال يلزمه ضمانها ومن قال لا يكون قابضاً إلا بأخذ نصيبه منها قال لا يلزمه الضمان ويكون على الغاصب (مسألة) (وإن شرط إن سقى سيحاً فله الربع وإن سقى بكلفة فله النصف أو إن زرعها شعيراً فله الربع وإن زرعها حنطة فله النصف لم يصح في أحد الوجهين) لأن العمل مجهول والنصيب مجهول وهو في معنى يعتين في بيعه (والثاني) يصح بناء على قوله في الإجارة إن خطته روميا فلك درهم وإن خطته فارسيا فلك نصف درهم فإنه ثصح في المنصوص عنه
وهذا مثله، فأما إن قال ما زرعتها من شئ فلي نصفه صح لأن النبي صلى الله عليه وسلم ساقى أهل خيبر بشطر ما يخرج منها من زرع أو ثمر ولو جعل له في المزارعة ثلث الحنطة ونصف الشعير وثلثي الباقلا وبينا قدر ما يزرع من كل واحد من هذه الأنواع أما بتقدير البذر أو تقدير المكان وتعيينه مثل أن يقول

(5/578)


تزرع هذا المكان قحما وهذا شعيراً أو تزرع مدين حنطة ومدي شعير جاز لأن كل واحد من هذه طريق إلى العلم فاكتفى به (مسألة) (وإن قال ما زرعت من شعير فلي ربعه وما زرعت من حنطة فلي نصفه لم يصح) لأن ما يزرعه من كل واحد منهما مجهول القدر فهو كما لو شرطه له في المساقاة ثلث هذا النوع ونصف النوع الآخر وهو جاهل بما فيه منهما (مسألة) (ولو قال سافيتك هذا البستان بالنصف على أن أساقيك الآخر بالربع لم يصح وجهاً واحداً) لأنه يشرط عقداً في عقد فصار في معنى قوله بعتك هذا على أن تبيعني هذا وتشتري منى هذا وإنما فسد لمعنيين (أحدهما) أنه شرط في العقد عقداً آخر والنفع الحاصل بذلك مجهول فكأنه شرط العوض في مقابلة معلوم ومجهول (الثاني) أن العقد الآخر لا يلزم بالشرط فيسقط الشرط وإذا سقط وجب رد الجزء الذي تركه من العوض لا جله وذلك مجهول فيصير الكل مجهولا (فصل) ولو قال لك الخمسان إن كانت عليك خسارة وإن لم يكن عليك خسارة فلك الربع لم يصح نص عليه أحمد وقال هذا شرطان في شرط وكرهه، قال شيخنا ويخرج فيها مثل ما إذا شرط إن سقى سيحاً له الربع وإن سقى بكلفة فله النصف

(5/579)


(فصل) وان ساقى أحد الشريكين شريكه وجعل له من الثمر أكثر من نصيبه مثل أن يكون الأصل بينهما نصفين فجعل له ثلثي الثمرة صح وكان السدس حصته من المساقاة فصار كأنه قال ساقيتك على نصيبي بالثلث وإن جعل الثمرة بينهما نصفين أو جعل للعامل الثلث فهي مساقاة فاسدة لأن العامل يستحق نصفها
بملكه فلم يجعل له في مقابلة عمله شيئاً وإذا شرط له الثلث فقد شرط أن غير العامل يأخذ من نصيب العامل ثلثه ويستعمله بلا عوض فلا يصح فإذا عمل في الشجر بناء على هذا كانت الثمرة بينهما بحكم الملك ولا يستحق العامل بعمله شيئاً لأنه تبرع به لرضاه بالعمل بغير عوض فاشبه مالو قال له أنا أعمل فيه بغير شئ وذكر أصحابنا وجهاً آخر أنه يستحق أجر المثل لأن المساقاة تقتضي عوضاً فلم تسقط برضاه بإسقاطه كالنكاح إذا لم يسلم له المسمى يجب فيه مهر المثل ولنا أنه عمل في مال غيره متبرعاً فلم يستحق عوضاً كما لو لم يعقد المساقاة ويفارق النكاح من وجهين (أحدهما) أن عقد النكاح صحيح فوجب به العوض لصحته وهذا فاسد لا يوجب شيئاً (والثاني) أن الابضاع لاتستباح بالبذل والإباحة والعمل ههنا يستباح بذلك، ولأن المهر في النكاح لا يخلو من أن يكون واجباً بالعقد أو بالإصابة أو بهما فإن وجب بالعقد لم يصح قياس هذا عليه لوجهين (أحدهما) أن النكاح صحيح وهذا فاسد (والثاني) أن العقد ههنا لو أوجب لا وجب قبل العمل ولا خلاف أن هذا لا يوجب قبل العمل شيئاً وإن وجب بالإصابة لم يصح القياس عليه أيضاً لوجهين (أحدهما) أن الاصابة لاتستباح بالإباحة والبذل بخلاف العمل (والثاني) أن الإصابة لو خلت من العقد لأوجبت وهذا بخلافه وإن وجب بهما امتنع القياس عليه أيضاً لهذه الوجوه كلها، فأما إن ساقى أحدهما شريكه على أن يعملا معاً فالمساقاة فاسدة والثمرة بينهما على قدر ملكيهما ويتقاصان العمل إن تساويا فيه، وإن كان لأحدهما فضل نظرت فإن كان قد شرط له فضل في مقابلة عمله استحق ما فضل له من أجر المثل وإن لم يشرط فليس له شئ الاعلى الوجه اذي ذكره أصحابنا وتكلمنا عليه

(5/580)


فصل في المزارعة (مسألة) (تجوز المزارعة بجزء معلوم يجعل للعامل من الزرع في قول أكثر أهل العلم قال البخاري قال أبو جعفر ما بالمدينة أهل بيت إلا ويزرعون على الثلث والربع وزارع علي وسعد وابن مسعود وعمر بن عبد العزيز والقاسم وعروة وآل أبي بكر وآل علي وابن سيرين، وهو قول سعيد بن المسيب وطاوس وعبد الرحمن

(5/581)


ابن الاسود وموسى بن طلحة والزهري وعبد الرحمن بن أبى ليلى وابنه وأبي يوسف ومحمد وروي ذلك عن معاذ والحسن وعبد الرحمن بن مرثد، قال البخاري وعامل عمر الناس على أنه ان جاء عمر بالبذر من عنده فله الشطر وإن جاءوا بالبذر فلهم كذا وكذا.
وكرهها عكرمة ومجاهد والنخعي ومالك وأبو حنيفة وروي عن ابن عباس الأمران جميعاً، وأجازها الشافعي في الأرض بين النخل إذا كان بياض الأرض أقل فإن كان أكثر فعلى وجهين، ومنهما في الأرض البيضاء لما روى رافع بن خديج قال كنا نخابر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر أن بعض عمومته أتاه فقال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أمر كان لنا نافعاً وطواعية رسول الله صلى الله عليه وسلم أنفع قلنا ما ذاك؟ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من كانت له أرض فليزرعها ولا يكريها بثلث ولا بربع ولا بطعام مسمى) وعن ابن عمر قال ما كنا نرى بالمزارعة بأساً حتى سمعت رافع بن خديج يقول نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها وقال جابر نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المخابرة، وهذه كلها أحاديث صحاح متفق عليها والمخابرة المزارعة واشتقاقها من الخبار وهي الأرض اللينة والخبير الأكار وقيل المخابرة معاملة أهل خيبر وقد جاء حديث جابر مفسراً فروى البخاري عن جابر قال كانوا يزرعونها بالثلث والربع والنصف فقال النبي صلى الله عليه وسلم (من كانت له أرض فلبزرعها أو لمينحها فان لم يفعل فليمسك أرضه) وروي تفسيرها عن زيد بن ثابت فروى أبو داود بإسناده عن زيد بن ثابت قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المخابرة قلت وما المخابرة؟ قال ((أن يأخذ الأرض بنصف أو ثلث أو ربع) ولنا ما روى ابن عمر قال أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عامل أهل خيبر بشطر ما يخرج منها من زرع أو ثمر متفق عليه، وقد روى ذلك عن ابن عباس وجابر بن عبد الله وقال أبو جعفر عامل رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل خبير بالشطر ثم أبو بكر ثم عمر وعثمان وعلي ثم أهلوهم إلى اليوم يعطون الثلث والربع وهذا صحيح مشهور عمل به رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى مات ثم خلفاؤه الراشدون حتى ما تواثم أهلوهم ثم من بعدهم لم يبق بالمدينة أهل بيت إلا عمل به وعمل به أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم من بعده

(5/582)


فروى البخاري عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم عامل أهل خيبر بشطر ما يخرج منها من زرع أو ثمر فكان يعطي أزواجه مائة وسق ثمانون وسقاً تمراً وعشرون وسقاً شعيراً فقسم عمر خيبر فخير أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقطع لهن من الماء والأرض أو يمضي لهن الأوسق فمنهن من اختار الأرض ومنهن من اختار الوسق فكانت عائشة إختارت الأرض، فإن قيل حديث خيبر منسوخ بخبر رافع قلنا مثل هذا لا يجوز أن ينسخ لان التسخ إنما يكون في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم فاما شئ عمل به إلى أن مات ثم عمل به خلفاؤه بعده وأجمعت الصحابة رضي الله عنهم عليه وعملوا به ولم يخالف فيه منهم أحد فكيف يجوز نسخه ومتى نسخ؟ فإن كان نسخ في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم فكيف عمل به بعد نسخه؟ وكيف خفي نسخه فلم يبلغ خلفاءه مع اشتهار قصة خيبر وعملهم فيها؟ وأبن كان راوي النسخ حتى لم يذكره ولم يخبرهم به فأما ما احتجوا به فالجواب عن حديث رافع من أربعة أوجه (أحدها) أنه قد فسر المنهي عنه في حديثه بما لا يختلف في فساده فإنه قال كنا من أكثر الأنصار حقلا فكنا فكري الأرض على أن لنا هذه، ولهم هذه فربما أخرجت هذه ولم تخرج هذه فنهانا عن ذلك فأما الذهب والورق فلم ينهنا متفق عليه وفي لفظ فأما بشئ معلوم مضمون فلا بأس، وهذا خارج عن محل الخلاف فلا دليل فيه عليه ولا تعارض بين الحديثين (والثاني) أن خبره ورد في الكراء بثلث أو ربع والنزاع في المزارعة

(5/583)


ولم يدل حديثه عليها أصلاً وحديثه الذي فيه المزارعة يحمل على الكراء أيضاً لأن القصة واحدة أتت بألفاظ مختلفة فيجب تفسير أحد اللفظين بما يوافق الآخر (الثالث) أن أحاديث رافع مضطربة جداً مختلفة اختلافاً كثيرا يوجب ترك العمل بها لو انفردت فكيف تقدم على مثل حديثنا، قال الامام أحمد حديث رافع ألوان وقال ابن المنذر قد جاءت الأخبار عن رافع بعلل تدل على أن النهي كان لذلك (منها) الذي ذكرنا (ومنها) خمس أخرى وقد أنكره فقيهان من فقهاء الصحابة زيد بن ثابت وابن عباس، قال زيد أنا أعلم بذلك منه وإنما سمع النبي صلى الله عليه وسلم الرجلين قد اقتتلا فقال (إن كان هذا شأنكم فلا تكرو المزارع) رواه أبو داود، وروي البخاري عن عمرو
ابن دينار قال قلت لطاوس لو تركت المخابرة فإنهم يزعمون أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عنها قال إن أعلمهم يعني ابن عباس أخبرني أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينه عنها ولكن قال (أن يمنع أحدكم خير له من أن يأخذ عليها خراجاً معلوماً) ثم أن أحاديث رافع منها ما يخالف الإجماع وهو النهي عن كراء المزارع على الإطلاق ومنها مالا يختلف في فساده كما قد بينا، وتارة يحدث عن بعض عمومته وتارة عن سماعة وتارة عن ظهير بن رافع وإذا كانت أخبار رافع هكذا وجب إطراحها واستعمال الأخبار الواردة في شأن خيبر الجارية مجرى التواتر التي لا اختلاف فيها وقد عمل بها الخلفاء الراشدون وغيرهم فلا معنى لتركها بمثل هذه الأحاديث والجواب الرابع أنه لو قدر صحة خبر رافع وامتنع تأويله وتعذر الجمع وجب حمله على أنه منسوخ

(5/584)


لأنه لا بد من نسخ أحد الخبرين ويستحيل القول بنسخ خبر خيبر لكونه معمولاً به من جهة النبي صلى الله عليه وسلم الى حين موته ثم من بعده إلى عصر التابعين فمتى كان نسخه؟ فأما حديث جابر في النهي عن المخابرة فيجب حمله على أحد الوجوه التي حمل عليها خبر رافع فإنه قد روي حديث خيبر أيضاً فيجب الجمع بين حديثيه مهما أمكن ثم لو حمل على المزارعة لكان منسوخاً بقصة خيبر لا ستحالة نسخها كما ذكرنا وكذلك القول في حديث زيد بن ثابت، فإن قال أصحاب الشافعي تحمل أحاديثكم على الأرض التي بين النخيل وأحاديث النهي على الأرض البيضاء جمعاً بينهما قلنا هذا بعيد لوجوه خمسة (أحدهما) أنه يبعد أن تكون بلدة كبيرة يأني منها أربعون ألف وسق ليس فيها أرض بيضاء ويبعد أن يكون قد عاملهم على بعض الأرض دون بعض فينقل الرواة كلهم القصة على العموم من غير تفصيل مع الحاجة إليه (الثاني) أن ما يذكرونه من التأويل لا دليل عليه وما ذكرناه دلت عليه بعض الروايات وفسره رواية بما ذكرناه، وليس معهم سوى الجمع بين الأحاديث والجمع بينهما بحمل بعضها على ما فسره رواية به أولى من التحكم بما لادليل عليه (الثالث) أن قولهم يفضي إلى تقييد كل واحد من الحديثين وما ذكرناه حمل لأحدهما على بعض محتملاته لاغير (الرابع) أن فيما ذكرناه موافقة عمل الخلفاء الراشدين وأهليهم وفقهاء الصحابة وهم أعلم بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم
وسنته ومعانيها فكان أولى من قول من خالفهم (الخامس) أن ما ذهبنا إليه مجمع عليه على ما رواه أبو جعفر رحمه الله عليه وما روي في مخالفته فقد بينا فساده فيكون هذا إجماع من الصحابة رضي الله عنهم

(5/585)


فلا يسوع لأحد خلافه والقياس يقتضيه فإن الأرض عين تنمى بالعمل فجازت المعاملة عليها ببعض نمائها كالمال في المضاربة والنخل في المساقاة، ولأنه أرض فجازت المزارعة عليها كالأرض بين النخل، ولأن الحاجة داعية إلى المزارعة لأن أصحاب الأرض لا يقدرون على زرعها والعمل عليها والأكرة يحتاجون إلى الزرع ولا أرض لهم فاقتضت الحكمة جواز المزارعة كما قلنا في المضاربة والمساقاة بل ههنا آكد لأن الحاجة إلى الزرع آكد منها إلى غيره لكونه قوتاً ولأن الأرض لا يفتفع بها إلا بالعمل فيها بخلاف المال والله أعلم (مسألة) (فان كان في الأرض شجر فزارعه الأرض وساقاه على الشجر صح) سواء قل بياض الأرض أو كثر نص عليه أحمد وقال قد دفع النبي صلى الله عليه وسلم خيبر على هذا وبهذا قال كل من أجاز المزارعة في الأرض المفردة، فإذا قال ساقيتك على الشجر وزارعتك على الأرض بالنصف جاز وكذلك إن قال عاملتك على النصف لأن المعاملة تشملهما، وإن قال زارعتك الأرض بالنصف وساقيتك على الشجر بالربع جاز كما يجوز أن يساقيه على أنواع من الشجر ويجعل له في كل نوع قدراً، وإن قال ساقيتك على الأرض والشجر بالنصف جاز لان المزارعة مساقاة من حيث إنها تحتاج الى السقي، وقال أصحاب الشافعي لا يصح لأن المساقاة لا نتناول الأرض فصح في النخل وحده وقيل ينبني على تفريق الصفقة

(5/586)


ولنا أنه عبر عن عقد بلفظ عقد يشاركه في المعنى المشهور به في الإشتقاق فصح كما لو عقد بلفظ البيع في السلم، وهكذا إن قال في الأرض البيضاء ساقيتك على هذه الأرض بنصف ما يزرع فيها، فإن قال ساقيتك على الشجر بالنصف ولم يذكر الأرض لم تدخل في العقد، وليس للعامل أن يزرع وبه قال الشافعي، وقال مالك وأبو يوسف: الداخل زرع البياض، فإن تشارطا أن ذلك بينهما فهو جائز، وإن اشترط
صاحب الأرض أنه يزرع البياضن لم يصح لأن الداخل يسقي لرب الأرض فتلك زيادة ازدادها عليه ولنا أن هذا لم يتناوله العقد فلم يدخل فيه كما لو كانت أرضاً منفردة (فصل) وإن زارعه أرضاً فيها شجرات يسيرة لم يجز أن يشترط العامل ثمرتها وبه قال الشافعي وابن المنذر وأجازه مالك اذا كان الشجر يقدر الثلث أو أقل لأنه يسير فيدخل تبعاً، ولنا أنه اشترط الثمرة كلها فلم يجز كما لو كان الشجر أكثر من الثلث (فصل) وإن أجره بياض الأرض وساقاه على الشجر الذي فيها جاز لأنهما عقدان يجوز افراد كل واحد منهما فجاز الجمع بينهما كالبيع والإجارة، وقيل لا يجوز بناء على الوجه الذي لا يجوز الجمع بينهما في الأصل والأول أولى إلا أن يفعلا ذلك حيلة على شراء الثمرة قبل وجودها أو قبل بدو صلاحها فلا يجوز سواء جمعا بين العقدين أو عقدا أحدهما بعد الآخر لما ذكرنا في إبطال الحيل (مسألة) (ولا يشترط كون البذر من رب الأرض وظاهر المذهب اشتراطه) اختلفت الرواية عن أحمد في هذه المسألة فروى عنه اشتراط كون البذر من رب الأرض نص

(5/587)


عليه في رواية جماعة وهو اختيار الخرقي وعامة الأصحاب وهو قول ابن سيرين والشافعي واسحاق لأنه عقد يشترك رب المال والعامل في نمائه فوجب أن يكون رأس المال كله من عند أحدهما كالمساقاة والمضاربة، وروي عنه ما يذل على أن البذر يجوز أن يكون من العامل فإنه قال في رواية منها في الرجل يكون له الأرض فيها نخل وشجر يدفعها إلى قوم يزرعون الأرض ويقومون على الشجر على أنه له النصف ولهم النصف فلا بأس بذلك فدفع النبي صلى الله عليه وسلم خيبر على هذا، فأجاز دفع الأرض ليزرعها من غير ذكر البذر، فعلى هذا أيهما أخرج البذر جاز، روي نحو ذلك عن عمر رضي الله عنه وهو قول أبي يوسف وطائفة من أهل الحديث وهو أصح إن شاء الله تعالى وروي عن سعد وابن مسعود وابن عمر أن البذر من العامل، ولعلهم أرادوايه أنه يجوز أن يكون من العامل فيكون كقول عمر ولا يكون قولاً ثالثاً، والدليل على ذلك قول ابن عمر دفع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يهود خيبر نخل خيبر وأرضها على أن يعملوها من أموالهم ولرسول الله صلى الله عليه وسلم شطر ثمرها
وفي لفظ على أن يعملوها ويزرعوها ولهم شطر ما يخرج منها فجعل عملها من أموالهم وزرعها عليهم ولم يذكر شيئاً آخر وظاهره أن البذر من أهل خيبر، والأصل المعمول به في المزارعة قصة خيبر ولم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم إن البذر على المسلمين ولو كان شرطا لما أخل بذكره ولو فعله النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لنقل ولم يجز ترك نقله ولأن عمر رضي الله عنه فعل الأمرين جميعاً فروي البخاري عنه أنه عامل الناس على

(5/588)


أنه إن جاء عمر بالبذر من عنده فله الشطر وان جاء وابالبذر فلهم كذا، وظاهر هذا أن ذلك اشتهر فلم ينكر فكان اجماعا، فإن قيل هذا بمنزلة بيعتين في بيعه فكيف يفعله عمر؟ قلنا يحمل على أنه فعل ذلك ليخيرهم في أي العقدين شاءوا فمن اختار عقداً عقده معه معيناً كما لو قال في البيع إن شئت بعتك بعشرة صحاح وإن شئت بأحد عشر مكسرة فاختار أحدهما فعقد البيع عليه معيناً، ويجوز أن يكون مجيئه بالبذر أو شروعه في العمل بغير بذر مع إقرار عمر له على ذلك وعمله به جرى مجرى العقد، ولهذا روي عن أحمد صحة الإجارة فيما إذا قال إن خطته روميا فلك درهم وإن خطته فارسيا فلك نصف درهم، وما ذكره أصحابنا من القياس يخالف ظاهر النص والإجماع الذي ذكرنا هما فكيف يعمل به؟ ثم هو منتقض بما إذا اشترك مالان ببدن صاحب أحدهما (فصل) فإن كان البذر منهما نصفين وشرطا أن الزرع بينهما نصفان فهو بينهما سواء قلنا بصحة المزارعة أو فسادها لأنها إن كانت صحيحة فالزرع بينهما على ما شرطاه وإن كانت فاسدة فلكل واحد منهما بقدر بذره لكن إن حكمنا بصحتها لم يرجع أحدهما على صاحبه بشئ وان وإن قلنا من شرط صحتها أن يكون البذر من رب الأرض فهي فاسدة فعلى العامل نصف أجر الأرض وله على رب الأرض نصف أجر عمله فيتقاصان بقدر الأقل منهما ويرجع أحدهما على صاحبه بالفضل، وإن شرطا التفاضل في الرزع وقلنا بصحتها فالزرع بينهما على ما شرطاه ولا تراجع وإن قلنا بفسادها فالزرع بينهما

(5/589)


على قدر البذر ويتراجعان كما ذكرنا وكذلك إن تفاضلا في البذر وشرطا التساوي في الزرع أو شرطا لأحدهما أكثر من قدر بذره أو أقل
(فصل) فإن قال صاحب الأرض أجرتك نصف أرضي بنصف البذر ونصف منفعتك ومنفعة بقرك وآلتك وأخرج المزارع البذر كله لم يصح لأن المنفعة غير معلومة وكذلك لو جعلها أجرة لأرض أخرى أو داراً لم يجز والزرع كله للمزارع وعليه أجر مثل الأرض فإن أمكن علم المنفعة وضبطها بما لا يختلف معه ومعرفة البذز جاز كان الزرع بينهما ويحتمل أن لا يصح لأن البذر عوض في الإجارة فيشترط قبضه كما لو كان مبيعاً وما حصل فيه قبض وإن قال أجرتك نصف أرضي بنصف منفعتك ومنفعة بقرك وآلتك وأخرجا البذر فهي كالتي قبلها إلا أن الزرع يكون بنهما على كل حال (مسألة) (فإن شرط أن يأخذ رب الأرض مثل بذره ويقتسما الباقي لم يصح) لأنه كأنه اشترط لنفسه قفزاناً معلومة وهو شرط فاسد تفسديه المزارعة لأن الأرض ربما لا تخرج إلا تلك القفزان فيختص رب المال بها وربما لا تخرجه وموضوع المرزاعة على اشتراكهما في الزرع (مسألة) (وكذلك لو شرطا لأحدهما دراهم معلومة أو زرع ناحية معينة أو شرط لأحدهما ما على الجداول إما منفرداً أو مع نصيبه فهو فاسد بإجماع العلماء) لأن الخبر صحيح في النهي عنه غير معارض ولا منسوخ ولأنه ربما تلف ما عين لأحدهما دون الآخر فينفرد أحدهما بالغلة دون صاحبه

(5/590)


(مسألة) (ومتى فسد فالزرع لصاحب البذر) لأنه عين ماله ينقلب من حال إلى حال وينمي فهو كصغار الشجر إذا غرس فطال وعليه إجرة صاحبه فإن كان البذر من العامل فعليه إجرة الأرض لأن ربها إنما بذلها بعوض لم يسلم له فرجع إلى عوض منافعها الفائتة بزرعها على الزرع وإن فسدت والبذر من رب الأرض فالزرع له لما ذكرنا وعليه مثل أجر العامل لذلك وإن كان منهما فالزرع بينهما على قدر البذر ويتراجعان بما يفضل لأحدهما على ما ذكرنا (مسألة) وحكم المزارعة حكم المساقاة) فيما ذكرنا من الجواز واللزوم وأنها لا تجوز إلا بجزء للعامل من الزرع وما يلزم العامل ورب الأرض
وغير ذلك من أحكامها لأنها معاملة على الأرض ببعض نمائها (مسألة) (والحصاد على العامل نص عليه وكذلك الجذاذ وعنه أن الجذاذ عليهما) الجذاذ والحصاد واللقاط على العامل نص عليه أحمد في الحصاد وهو مذهب الشافعي لأنه من العمل فكان على العمل كالتشميس، وروى عن أحمد في الجذاذ أنه إذا شرط على العامل فجائز لأن العمل عليه وإن لم يشرطه فعلى رب المال بحصة ما يصير إليه وعلى العامل بحصة ما يصير إليه فجعل الجذاذ

(5/591)


عليهما وأجاز إشتراطه على العامل وهو قول بعض الشافعية، وقال محمد بن الحسن تفسد المساقاة بشرطه على العامل لأنه شرط ينافي مقتضى العقد، وإحتج من جعله عليهما بأنه بعد تكامل الثمرة وإنقضاء المعاملة فأشبه نقله إلى منزلة ولنا أن النبي صلى الله عليه وسلم دفع خيبر إلى يهود خيبر على أن يعملوها من أموالهم ولأن هذا من العمل أشبه التشميس وبه يبطل ما ذكروه، وفارق النقل إلى المنزل فأنه يكون بعد القسمة وزوال العقد فأشبه المخزن (فصل) وإن دفع رجل بذره إلى صاحب الأرض ليرزعه في أرضه ويكون ما يخرج بينهما فهو فاسد لأن البذر ليس من رب الأرض ولا من العامل ويكون الزرع لمالك البذر وعليه أجر الأرض والعمل ويتخرج أن تنبني صحته على إحدى الروايتين كالمسألة التي بعدها (مسألة) وإن قال أنا أزرع الأرض بذري وعواملي وتسفيها بمائك والزرع بيننا ففيها روايتان (إحداهما) لا تصح إختارها القاضي لأن موضوع المزراعة على أن من تكون أحدهما اقترض من الآخر العمل وصاحب الماء ليس منه أرض ولا عمل بذر ولأن الماء لا يباع ولا يستأجر فكيف تصح المزارعة به؟ (والثانية) تصح اختارها أبو بكر ونقلها عن أحمد يعقوب بن بختان وحرب لأن الماء أحد ما يحتاج إليه في الزرع فجاز أن يكون من أحدهما كالأرض والعمل والأول أصح لأن هذا ليس بمنصوص عليه ولا هو في معنى المنصوص

(5/592)


(فصل) وإن اشترك ثلاثة من أحدهم الأرض ومن الآخر البذر ومن الآخر البقر والعمل على
أن ما رزق الله تعالى بينهم فعملوا فهذا عقد فاسد نص عليه أحمد في رواية أبي داود ومنها واحمد ابن القاسم، وذكر حديث مجاهد في أربعة اشتركوا في زرع على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أحدهم علي الفدان وقال الآخر قبلي الأرض وقال الآخر قبلي البذر وقال الا خر قبلي العمل فجعل النبي صلى الله عليه وسلم الزرع لصاحب البذر وألغى صاحب الأرض وجعل لصاحب العمل كل يوم درهماً ولصاحب الفدان شيئاً معلوماً، فقال أحمد لا يصح والعمل على غيره وذكر هذا الحديث سعيد بن منصور عن الوليد ابن مسلم عن الأوزاعي عن واصل بن أبي جميل عن مجاهد وقال في آخره فحدثبت به مكحو لا فقال ما يسرني بهذا الحديث وصيفا، وحكم هذه المسألة حكم المسألة التي ذكرنا ها في أول الفصل وهما فاسدتان لأن موضوع المزارعة على أن البذر من رب الأرض أو من العامل وليس هو واحد منهما، وليست شركة لأن الشركة تكون بالأثمان فإن كانت بالعروض اعتبر كونها معلومة ولم يوجد شئ من ذلك ههنا، ولا هي إجارة لأن الإجارة تفتقر إلى مدة معلومة وعوض معلوم وبهذا قال مالك والشافعي وأصحاب الرأي.
فعلى هذا يكون الزرع لصاحب البذر لأنه نماء ماله ولصاحبيه عليه أجر مثلهما لأنهما دخلا على أن يسلم لهما المسمى فإذا لم يسلم عاد إلى بدله وبهذا قال الشافعي وأبو ثور، وقال أصحاب الرأي يتصدق بالفضل والصحيح أن النماء لصاحب البذر لا تلزمه الصدقة به كسائر ماله

(5/593)


(فصل) فإن كانت الأرض لثلاثة فاشتركوا على أن يزرعوها ببذرهم ودوابهم وأعوانهم على أن ما أخرج الله بينهم على قدر مالهم جاز وبه قال مالك والشافعي وابن المنذر ولا نعلم فيه خلافا لأن أحدهم لا يفضل صاحبه بشئ فصل فان زارع رجلاً أو آجره أرضه فزرعها وسقط منن الحب شئ فنبت في تلك الأرض عاماً آخر فهو لصاحب الأرض نص عليه أحمد في رواية أبي داود ومحمد بن الحارث، وقال الشافعي هو هو لصاحب الحب لأنه عين ماله فهو كما لو بذره قصداً ولنا أن صاحب الحب أسقط حقه منه بحكم العرف وزال ملكه عنه لأن العادة ترك ذلك لمن يأخذه ولهذا أبيح له التقاطه ورعيه ولا نعلم خلافاً في إباحة التقاط ما خلفه الحصادون من سنبل وحب
وغيرهما فجرى ذلك مجرى نبذه على سيبل الترك له وصار كالشئ التافه يسقط منه الثمرة والقمة ونحوهما والنوى لو التقطه إنسان فغرسه كان له دون من سقط منه كذا هذا (مسألة) (وإن زارع شريكه في نصيبه صح) إذا جعل له في الزرع أكثر من نصيبه مثل أن تكون الأرض بينهما نصفين فجعل للعامل الثلثين صح وكان السدس حصته من المزارعة فصار كأنه قال زارعتك على نصيبي بالثلث فصح كما لو زارع

(5/594)


أجنبياً، وفيه وجه آخر أنه لا يصح لأن النصف للمزارع ولا يصح إن يزارع الإنسان لنفسه فإذا فسد في نصيبه فسد في الجميع كما لو جمع في البيع بين ما يصح ومالا يصح والأول أصح إن شاء الله تعالى وقد ذكرنا في المساقاة نحو هذا (فصل في إجارة الأرض) تجوز إجارتها بالذهب والفضة وسائر العروض غير المطعوم في قول عامة أهل العلم، قال أحمد: قلما إختلفوا في الذهب والورق، وقال ابن المنذر: اجمع عوام أهل العلم على أن إكتراء الأرض وقتاً معلوماً جائز بالذهب والفضة.
وروي هذا القول عن سعد ورافع بن خديج وابن عمر وابن عباس وبه قال سعيد بن المسيب وعروة والقاسم ومالك والليث والشافعي واسحاق وأبو ثور وأصحاب الرأي أروي عن طاوس والحسن كراهة ذلك لما روى رافع أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن كراء المزارع متفق عليه.
ولنا أن رافعاً قال أما بالذهب والورق فلم ينهنا يعني النبي صلى الله عليه وسلم متفق عليه ولمسلم (اما بشئ معلوم مضمون فلا بأس) وعن حنظلة بن قيس أنه سأل رافع بن خديج عن كراء الأرض فقال نهى رسول

(5/595)


الله صلى الله عليه وسلم عن كراء الأرض فقلت بالذهب والفضة؟ قال إنما نهى عنها ببعض ما يخرج منها أما بالذهب والفضة فلا بأس متفق عليه، وعن سعد قال: كنا نكري الأرض بما على السواقي وما سعد بالماء منها فنهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك وأمرنا أن نكربها بذهب أو فضة.
رواه أبو داود، ولأنها عين
يمكن استيفاء المنفعة المباحة منها مع بقائها فجازت إجارتها بالأثمان ونحوها كالدور، والحكم في العروض كالحكم في الأثمان.
وأما حديثهم فقد فسره الراري بما ذكرنا عنه فلا يجوز الاحتجاج به على غيره وحديثنا مفسر لحديثهم فان راويهما واحد وقد رواه عاماً وخاصاً فيحمل العام على الخاص مع موافقة الخاص لسائر الأحاديث والقياس وقول أكثر أهل العلم فأما إجارتها بطعام فتقسم ثلاثة أقسام (أحدها) أن يؤجرها بطعام معلوم غير الخارج منها فيجوز نص عليه أحمد في رواية الحسن بن ثواب وهو قول أكثر أهل العلم منهم سعيد بن جبير وعكرمة والنخعي والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي، ومنع منه مالك حتى منع إجارتها باللبن والعسل، وقد روي عن أحمد أنه قال ربما تهيبته، قال القاضي هذا من أحمد على سبيل الورع ومذهبه الجواز، وإحتج مالك بما روى رافع بن خديج عن بعض عمومته قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من كانت له أرض

(5/596)


فلا يكريها بطعام مسمى) رواه أبو داود وابن ماجه.
وروى ظهير بن رافع قال: دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال (ما تصنعون بمحاقلكم؟) قلت نؤاجرها على الربع أو على الأوسق من التمر أو الشعير قال (لا تفعلوا أزرعوها أو أمسكوها) متفق عليه.
وروى أبو سعيد قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المحاقلة والمحاقلة إستكراء الأرض بالحنطة ولنا قول رافع فاما بشئ معلوم مضمون فلا بأس به ولأنه عوض معلوم مضمون لا يتخذ وسيلة إلى الربا فجازت إجارتها بها كالأثمان وحديث رافع وظهير قد سبق الكلام عليه في المزارعة على انه يحتمل النهي عن إجارتها بذلك إذا كان خارجاً منها، ويحتمل النهي عنه إذا أجرها بالربع والأوسق وحديث أبي سعيد يحتمل المنع من كرائها بالحنطة إذا أكتراها لزرع الحنطة (القسم الثاني) إجارتها بطعام معلوم من جنس ما يزرع فيها كإجارتها بقفزان حنطة ليزرعها فقال أبو الخطاب فيها روايتان (إحداهما) المنع وهي التي ذكرها القاضي مذهبا وهي قوال مالك لما ذكرنا من الأحاديث ولأنه ذريعة إلى المزارعة عليها بشئ معلوم من الخارج منها لأنه يجعل مكان قوله زارعتك أجرتك فتصير

(5/597)


مالك بما روى رافع بن خديج عن بعض عمومته قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من كانت له أرض

(5/598)


فلا يكريها بطعام مسمى) رواه أبو داود وابن ماجه.
وروى ظهير بن رافع قال: دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال (ما تصنعون بمحاقلكم؟) قلت نؤاجرها على الربع أو على الأوسق من التمر أو الشعير قال (لا تفعلوا أزرعوها أو أمسكوها) متفق عليه.
وروى أبو سعيد قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المحاقلة والمحاقلة إستكراء الأرض بالحنطة ولنا قول رافع فاما بشئ معلوم مضمون فلا بأس به ولأنه عوض معلوم مضمون لا يتخذ وسيلة إلى الربا فجازت إجارتها بها كالأثمان وحديث رافع وظهير قد سبق الكلام عليه في المزارعة على انه يحتمل النهي عن إجارتها بذلك إذا كان خارجاً منها، ويحتمل النهي عنه إذا أجرها بالربع والأوسق وحديث أبي سعيد يحتمل المنع من كرائها بالحنطة إذا أكتراها لزرع الحنطة (القسم الثاني) إجارتها بطعام معلوم من جنس ما يزرع فيها كإجارتها بقفزان حنطة ليزرعها فقال أبو الخطاب فيها روايتان (إحداهما) المنع وهي التي ذكرها القاضي مذهبا وهي قوال مالك لما ذكرنا من الأحاديث ولأنه ذريعة إلى المزارعة عليها بشئ معلوم من الخارج منها لأنه يجعل مكان قوله زارعتك أجرتك فتصير

(5/597)


مزارعة بلفظ الإجارة والذرائع معتبرة (والثانية) جواز ذلك اختارها أبو الخطاب وهو قول أبي حنيفة والشافعي لما ذكرنا في القسم الأول ولأن ما جازت إجارته بغير المطعوم جازت به كالدور (القسم الثالث) إجارتها بجزء مشاع مما يخرج منها كنصف وثلث فالمنصوص عن أحمد جوازه وهو قول أكثر الأصحاب، واختار أبو الخطاب أنها لا تصح وهو قول أبي حنيفة والشافعي وهو الصحيح إن شاء الله تعالى لما تقدم من الأحاديث في النهي من غير معارض لها، ولأنها إجارة بعوض مجهول فلم تصح كإجارتها بثلث ما يخرج من أرض أخرى، فأما نص أحمد في الجواز فيتعين حمله على المزارعة بلفظ الإجارة فيكون حكمها حكم المزراعة فيما ذكرنا من أحكامها، ذكرناه في المساقاة (تم بحمد الله وعونه الجزء الخامس.
)

(5/598)


بسم الله الرحمن الرحيم (باب الإجارة) والأصل في جوازها الكتاب والسنة والإجماع، أما الكتاب فقوله تعالى (فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن) وقال تعالى قالت إحداهما يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين * قال إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني ثماني حجج) وروى ابن ماجة في سننه عن عتبة بن الندر قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ (طس) حتى إذا بلغ قصة موصى قال " إن موسى عليه السلام أجر نفسه ثماني حجج أو عشراً على عفة فرجه وطعام بطنه " وقال الله تعالى (قال لو شئت لاتخذت عليه أجرا) وهذا يدل على جواز أخذ الأجرة على إقامة الجدار وأما السنة فثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر استأجرا رجلا من بني الديل هادياً خريتاً.
وروي البخاري عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " قال الله عزوجل ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة: رجل

(6/2)


أعطى بى ثمن غدر، ورجل باع حراً فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيراً فاستوفى منه ولم يوفه أجره " وأجمع أهل العلم في كل عصر على جواز الإجارة إلا ما يحكى عن عبد الرحمن بن الأصم أنه قال: لا يجوز
ذلك لأنه غرر يعني أنه يعقد على منافع لم تخلق.
وهذا غلط لا يمنع انعقاد الإجماع الذي سبق في الأعصار وسائر الأمصار.
والعبرة أيضا دالة عليها فإن الحاجة إلى المنافع كالحاجة إلى الأعيان فلما جاز العقد على الأعيان وجب أن تجوز الإجارة على المنافع، ولا تخقى حاجة النا س إلى ذلك فإنه ليس لكل أحد دار يملكها ولا يقدر كل مسافر على بعير أو دابة يملكها ولا يلزم أصحاب الأملاك إسكانهم وحملهم تطوعا، وكذلك أصحاب الصنائع يعملون بأجر ولا يمكن كل أحد عمل ذلك ولا يجد متطوعا به، فلابد من الإجارة لذلك بل ذلك مما جعله الله تعالى طريقا إلى الرزق حتى إن أكثر المكاسب بالصنائع، وما ذكره من الغرر لا يلتفت إليه مع ما ذكرنا من الحاجة فإن العقد على المنافع لا يمكن بعد وجودها لأنها تتلف بمضي الأوقات فاحتيج إلى العقد عليها قبل وجودها كالسلم في الأعيان.
واشتقاق الإجارة من الأجر وهو العوض، قال الله تعالى (قال لو شئت لاتخذت عليه أجرا) ومنه سمي الثواب أجراً لأن الله تعالى يعوض العبد به على طاعته، أو صبره على مصيبته * (مسألة) * (وهي عقد على المنافع تنعقد بلفظ الإجارة والكراء وما في معناهما، وفي لفظ البيع وجهان) الإجارة عقد على المنافع في قول أكثر العلماء منهم أبو حنيفة ومالك وأكثر الشافعية، وذكر

(6/3)


بعضهم أن المعقود عليه العين لأنها الموجودة والعقد يضاف إليها فيقول أجرتك داري ولنا أن المعقود على المستوفى بالعقد وذلك هو المنافع دون الأعيان ولان الأجر في مقابلة المنفعة وبهذا يضمن دون العين وما كان العوض في مقابلته فهو المعقود عليه وإنما أضيف العقد إلى العين لأنها محل المنفعة، وكما يضاف عقد المساقاة إلى البستان والمعقود عليه الثمرة، ولو قال أجرتك منفعة داري جاز (فصل) وهي نوع من البيع لأنها تمليك من كل واحد منهما لصاحبه فهي بيع المنافع والمنافع كالأعيان لأنها يصح تمليكها في الحياة وبعد الموت وتضمن باليد والإتلاف وتكون عوضا عينا ودينا وإنما اختصت باسم كالصرف والسلم مع كونه بيعا، فعلى هذا تنعقد بلفظ الإجارة والكراء لأنهما موضوعان لها، وكذلك كل ما يؤدي معناهما لحصول المقصود به، وهل تنعقد بلفظ البيع؟ فيه
وجهان [أحدهما] تنعقد به لأنها بيع فانعقدت بلفظه كالصرف [والثاني] لا تنعقد به لأن فيها معنى خاصا فافتقرت إلى لفظ يدل على ذلك المعنى، ولأن الإجارة تضاف إلى العين التي يضاف إليها البيع إضافة واحدة فاحتيج إلى لفظ يعرف ويفرق بينهما كالعقود المتباينة.
ولأنها عقد يخالف البيع في الحكم والاسم أشبه النكاح (فصل) ولا تصح إلا من جائز التصرف لأنه عقد تمليك في الحياة أشبه البيع

(6/4)


* (مسألة) * (ولا تصح إلا بشروط ثلاثة (أحدها) معرفة المنفعة إما بالعرف كسكنى الدار شهراً وخدمة العبد سنة وإما بالوصف كحمل زبرة حديد وزنها كذا إلى موضع معين أو بناء حائط يذكر طوله وعرضه وسمكه وآلته) وجملة ذلك أنه لابد من معرفة المنفعة في الإجارة لأنها المقعود عليها فاشترط العلم بها كالمبيع فإن معرفته شرط في صحة البيع فكذلك معرفة المنفعة في الاجارة فإن بيع المجهول لا يصح إجماعاً، فإن كان لها عرف كسكنى الدار شهراً لم يحتج إلى ذكرها لأنه لا يكتري إلا لذلك فاستغني عن ذكرها كالبيع بثمن مطلق في موضع فيه نقد معروف، وخدمة العبد سنة كسكنى الدار لأنها معلومة بالعرف، وأما إن اكترى لحمل زبرة حديد إلى موضع معين فلابد من ذكر الوزن ههنا والمكان الذي تحمل إليه لأن المنفعة إنما تعرف بذلك * (مسألة) * (أو بناء حائط بذكر طوله وعرضه وسمكه وآلته وإجارة أرض معينة لزرع كذا أو غرس أو بناء معلوم) وجملة ذلك أنه يجوز الاستئجار للبناء ويقدر بالزمان والعمل، فإن قدر بالعمل فلابد من معرفة موضعه لأنه يختلف بقرب الماء وسهولة التراب ولابد من ذكر طوله وعرضه وسمكه وآلة البناء من طين أو لبن أو آجر أو حجارة أو شيد أو غير ذلك.
قال ابن أبي موسى: وإذا استأجره لبناء ألف لبنة

(6/5)


في جدار أو استأجره يبني له فيه يوما فعمل ما استؤجر عليه ثم سقط الحائط فله أجره لأنه وفى العمل
فإن قال ارفع لي هذا الحائط عشرة أذرع فرفع بعضه فسقط فعليه إعادة ما سقط وإتمام ما وقعت عليه الإجارة من الذرع، هذا إذا لم يكن سقوطه في الأول لأمر من جهة العامل فأما إن فرط أو بناه محلولا أو نحو ذلك فسقط فعليه إعادته وغرامة ما تلف به (فصل) ويجوز الاستئجار لتطيبن السطوح والحيطان وتجصيصها ولا يجوز على عمل معين لأن الطين يختلف في الرقة والغلط، والأرض تختلف منها العالي والنازل، وكذلك الحيطان فلذلك لم يجز إلا على مدة (فصل) وإذا استأجر داراً جاز إطلاق العقد ولم يحتج إلى ذكر السكنى ولا صفتها لما ذكرنا، وهذا مذهب الشافعي وأصحاب الرأي.
وقال أبو ثور لا يجوز حتى يقول أبيت تحتها أنا وعيالي لأن السكنى تختلف، ولو اكتراها ليسكنها فتزوج امرأة لم يكن له أن يسكنها معه ولنا أن الدار لا تكترى إلا للسكنى فاستغني عن ذكره كإطلاق الثمن في بلد فيه نقد معروف والتفاوت في السكنى يسير فلم يحتج إلى ضبطه لما ذكرنا.
وما ذكروه لا يصح فإن الضرر لا يكاد يختلف بكثرة من يسكن وقلتهم ولا يمكن ضبط ذلك فاجتزئ فيه بالعرف كما في دخول الحمام وشبهه، ولو اشترط ما ذكره لوجب أن يذكر عدد السكان وأن لا يبيت عنده ضيف ولا غير من ذكره ولكان ينبغي أن يعلم صفة الساكن كما يعلم ذلك فيها إذا اكترى للركوب

(6/6)


(فصل) قد ذكرنا أنه يجوز الاستئجار للخدمة كل شهر بشئ معلوم وسواء كان الأجير رجلاً أو امرأة حرا أو عبدا وبهذا قال الشافعي وابو حنيفة وابو ثور لانه يجوز النيابة فيه ولا يختص فاعله بكونه من أهل القربة.
قال أحمد أجير المشاهرة يشهد الأعياد والجمعة وإن لم يشترط ذلك، قيل له فيتطوع بالركعتين قال ما لم يضر صاحبه، وإنما أباح ذلك لأن أوقات الصلاة مستثناة من الخدمة ولهذا وقعت مستثناة في حق المعتكف لترك معتكفه لها، وقال ابن المبارك لا بأس أو يصلي الأجير ركعات من السنة وقال أبو ثور وابن المنذر ليس له منعه منها، قال أحمد يجوز أن يستأجر الأمة والحرة للخدمة ولكن يصرف وجهه عن النظر ليست الأمة مثل الحرة ولا يخلو معها في بيت ولا ينظر إليها متجردة ولا إلى شعرها إنما قال ذلك لأن حكم
النظر بعد الإجارة كحكمه قبلها وفرق بين الحرة والأمة لأنهما يختلفان قبل الإجارة فكذلك بعدها (فصل) إذا استأجر أرضاً احتاج إلى ذكر ما تكترى له من غراس أو بناء أو زرع لأنها تكترى لذلك كله وضرره يختلف فوجب بيانه، وفي إجارة الأرض للزرع اختلاف ذكرناه في باب المساقاة (فصل) ويجوز الاستئجار لضرب اللبن لما ذكرنا ويكون على مدة أو عمل فإن قدره بالعمل احتاج إلى تعيين عدده وذكر قالبه وموضع الضرب لأن الأرض تختلف باختلافه لكون التراب في بعض الأماكن أسهل والماء أقرب فإن كان هناك قالب معروف لا يختلف جاز كما إذا كان المكيال معروفا، وإن قدره بالطول

(6/7)


والعرض والسمك جاز ولا يكتفى بمشاهدة قالب الضرب إذا لم يكن معروفا لان فيه غرار وقد يتلف القالب فلا يصح كما لو اسلم في مكيال بعينه * (مسألة) * (وإن استأجر للركوب ذكر المركوب فرساً أو بعيراً أو نحوه) لأن منافعها تختلف وتشترط معرفته برؤية أو صفة لأنه يصح بيعه بهما وذكر المهمليج والقطوف لأن سيرهما يختلف ومعرفة ما يركب به من سرج أو غيره لأنه يختلف بالركوب والراكب ولا يحتاج إلى ذكر الذكورة والأنوثة لأن التفاوت بينهما يسير وقال القاضي يفتقر لتفاوتهما ولابد من معرفة الراكب برؤية أو صفة ذكره الخرقي وقال الشريف لا يجزئ فيه إلا بالرؤية لأن الصفة لا تأتي عليه ولابد من معرفة المحامل والأوطئة والأغطية والمعاليق كالقدر والسطحة ونحوهما إما برؤية أو صفة أو وزن * (مسألة) * (فإن كان للحمل لم يحتج إلى ذكره) لعدم الغرض في معرفته فإن اتفق وجود غرض في الحمولة مثل أن يكون المحمول شيأ تضره كثرة الحركة كالفاكهة والزجاج أو كون الطريق مما يعسر على بعضها دون بعض فينبغي أن يذكره في الإجارة ذكره شيخنا، وتشترط معرفة المتاع برؤية أو صفة ويذكر جنسه من حديد أو قطن أو نحوه لأن ضرره يختلف وقدره بالوزن إن كان موزونا أو بالكيل إن كان مكيلاً لأن البيع يصح بكلا الأمرين، ويحصل بالمشاهدة لأنها من أعلى طرق العلم وبالصفة إذا ذكر القدر والجنس، وذكر ابن عقيل أنه إذا قال أجرتكها لتحمل عليها

(6/8)


ثلثمائة رطل مما شئت جاز وملك ذلك لكن لا يحمله حملا يضر بالحيوان فلو أراد حمل حديد أو زئبق ينبغي أن يفرقه على ظهر الحيوان فلا يجتمع في موضع واحد من ظهره ولا يجعله في وعاء يموج فيه فيكد البهيمة ويتعبها وإن اكترى ظهرا للحمل موصوفا بجنس فأراد حمله على غير ذلك الجنس وكان الطالب لذلك المستأجر لم يقبل منه لأنه لا يملك المطالبة بما لم ينعقد عليه، ان طلبه المؤجر وكان يقوت به غرض المستأجر مثل أن يكون غرضه الاستعجال في السير أو أن لا ينقطع عن القافلة فيتعين الخيل أو البغال أو يكون غرضه السكون لكون المحمول مما يضره الهز أو قوتها وصبرها لطول الطريف وثقل الحمولة فيعين الإبل لم يجز العدول عنه لأنه يفوت غرض المستأجر فلم يجز ذلك كما في المركوب، وإن لم يفوت غرضا جاز كما يجوز لمن اكترى على حمل شئ حمل مثله، فإن اكترى بهيمة لحمل ما شاء لم يصح لأنه يدخل فيه ما يقتل البهيمة وكذلك إن شرط طاقتها لأنه لا ضابط له * (فصل) * قال رضي الله عنه (الثاني معرفة الأجرة بما يحصل به معرفة الثمن قياسا عليه ولا نعلم في ذلك خلافا وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " من استأجر أجيراً فليعلمه أجره " ويعتبر العلم بالرؤية أو بالصفة كالبيع، فإن كان العوض معلوما بالمشاهدة دون القدر كالصبرة جاز في أحد الوجهين كالثمن في البيع والثاني لا يجوز لأنه قد ينفسخ العقد بعد تلف الصبرة فلا يدرى بكم يرجع فاشترط معرفة قدره كعوض السلم والأول أولى لما ذكرنا، وما قاسوا عليه ممنوع ثم الفرق بينهما أن المنفعة ههنا أجريت مجرى الأعيان

(6/9)


لأنها متعلقة بعين حاضرة والسلم يتعلق بمعدوم فافترقا وللشافعي نحو ما ذكرنا في هذا الفصل (فصل) وكل ما جاز أن يكون ثمناً في البيع جاز عوضا في الإجارة لأنه عقد معاوضة أشبه البيع (1) * (مسألة) * (يجوز أن يستأجر الأجير بطعامه وكسوته وكذلك الظئر) اختلفت الرواية عن أحمد رحمه الله فمن استأجر أجيراً بطعامه وكسوته أو جعل له أجراً وشرط طعامه وكسوته فروي عنه جواز ذلك وهو مذهب مالك وإسحاق، وروي عن أبي بكر وعمر وأبي موسى رضي الله عنهم أنهم استأجروا الأجراء بطعامهم وكسوتهم.
وروي عنه أن ذلك جائز في الظئر دون غيرها.
اختاره القاضي وهو مذهب أبي حنيفة لأن ذلك مجهول وإنما جاز في الظئر لقول
الله تعالى (وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف) أوجب لهن النفقة والكسوة على الرضاع ولم يفرق بين المطلقة وغيرها بل في الآية قرينة تدل على طلاقها لأن الزوجة تجب نفقتها وكسوتها بالزوجية وإن لم ترضع، ولأن الله تعالى قال (وعلى الوارث مثل ذلك) والوارث ليس بزوج.
ولأن المنفعة في الرضاع والحضانة غير معلومة فجاز أن يكون عوضها كذلك.
وروي عنه رواية ثالثة أن ذلك لا يجوز بحال في الظئر ولا في غيرها وبه قال الشافعي وأبو يوسف ومحمد وأبو ثور وابن المنذر لأن ذلك يختلف اختلافا كثيرا متبايناً فيكون مجهولاً والأجر من شرطه أن يكون معلوما ولنا ما روى ابن ماجة عن عتبة بن الندر قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ (طس) حتى إذا
__________
(1) هذا الفصل بنصه مكرر مع ما ينافي له في صحيفة 17 ولا معنى لذكره ههنا

(6/10)


بلغ قسة موسى عليه السلام قال " إن موسى آجر نفسه ثماني سنين أو عشراً على عفة فرجه وطعام بطنه " وشرع من قبلنا شرع لنا ما لم يثبت نسخه.
وعن أبي هريرة أنه قال كنت أجيراً لابنة غزوان بطعام بطني وعقبة رجلي أحطب لهم إذا نزلوا وأحدوا بهم إذا ركبوا.
رواه الاثرم وابن ماجة، ولأنه فعل من ذكرنا من الصحابة فلم ينكر فكان اجماعا، ولأنه قد ثبت في الظئر في الآية فيثبت في غيرها بالقياس عليها، ولأنه عوض منفعة فقام العرف فيه مقام التسمية كنفقة الزوجة، ولأن للكسوة عرفاً وهي كسوة الزوجات وللإطعام عرف وهو الاطعام في الكفارات فجاز إطلاقه كنقد البلد.
ونخص أبا حنيفة بأن ما جاز عوضا في الرضاع جاز في الخدمة كالأثمان إذا ثبت هذا وتشاحا في قدر الطعام والكسوة رجع في القوت إلى الإطعام في الكفارة وفي الملبوس إلى أقل ملبوس مثله لأن الإطلاق فيه يجزئ فيه أقل ما يتناوله اللفظ كالوصية.
ويحتمل أن يحمل على الملبوس في الكفارة كالمطعوم.
قال أحمد إذا تشاحا في الطعام حكم به بمد كل يوم ذهب به إلى ظاهر ما أمر الله من إطعام المساكين ففسرت ذلك السنة بأنه مد لكل مسكين، ولأن الإطعام مطلق في الموضعين فما فسر به أحدهما يفسر به الآخر، وليس له إطعام الأجير إلا ما يوافقه من الأغذية لأن عليه ضرراً ولا يمكنه استيفاء الواجب له منه
(فصل) فإن شرط الأجير كسوة ونفقة معلومة موصوفة كصفتها في السلم جاز عند الجميع وإن لم يشرط

(6/11)


طعاماً ولا كسوة فنفقته وكسوته على نفسه وكذلك الظئر، قال إبن المنذر لا أعلم عن أحد خلافاً فيما ذكرت وإن شرط للأجير طعام غيره وكسوته موصوفاً جاز لأنه معلوم فهو كما لو شرط دراهم معلومة ويكون ذلك للأجير إن شاء أطعمه وإن شاء تركه، وإن لم يكن موصوفاً لم يجز لأن ذلك مجهول احتمل فيما إذا شرطه للأجير للحاجة إليه وجري العادة به فلا يلزم احتمالها مع عدم ذلك ولو استأجر دابة بعلفها أو بأجر مسمى وعلفها لم يجز لأنه مجهول ولا عرف له يرجع إليه ولا نعلم احدا قال بجوازه إلا أن يشترطه موصوفاً فيجوز (فصل) فإن استغنى الأجير عن طعام المستأجر بطعام نفسه أو غيره أو عجز عن الأكل بمرض أو غيره لم تسقط نفقته وكان له المطالبة بها لأنه عوض فلا يسقط بالغنى عنه كالدراهم، وإن احتاج الى دواء لمرضه لم يلزم المستأجر لأنه لم يشترط له إلا طعام الأصحاء لكن يلزمه بقدر طعام الصحيح لأن ما زاد على ذلك لم يقع العقد عليه فلم يلزم كالزائد في القدر (فصل) فإن قبض الأجير طعامه فأحب أن يستفضل بعضه لنفسه وكان المستأجر دفع إليه أكثر من الواجب له ليأكل منه قدر حاجته ويفضل الباقي أو كان في تركه لأكله كله ضرر على المستأجر بأن يضعف عن العمل أو يقل لان الظئر منع منه لأنه في الصورة الأولى لم يملكه وإنما أباحه قدر حاجته وفي الثانية على المستأجر ضرر بتفويت بعض منفعته عليه فمنع منه كالجمال إذا امتنع من علف الجمال وإن دفع إليه قدر الواجب فقط أو أكثر منه فملكه إياه ولم يكن في تفضيله لبعضه ضرر بالمستأجر جاز لأنه ضرر لاحق فيه

(6/12)


على المستأجر أشبه الدراهم (فصل) فإن قدم إليه طعاماً ما فنهب أو تلف قبل أكله وكان على مائدة لا يخصه فيها بطعامه فهو من ضمان المستأجر لكونه لم يسلم إليه وإن خصه بذلك وسلمه إليه فهو من مال الأجير لأنه يسلم عوضه على وجه التمليك أشبه البيع (فصل) قال أحمد في رواية مهنا لا بأس ان يحصد الزرع ويصرم النخل بسدس ما يخرج منه
وهو أحب إلي من المقاطعة إنما جاز ههنا لأنه معلوم بالمشاهدة وهي أعلى طرق العلم ومن علم شيئا علم جزأه المشاع فيكون أجراً معلوماً.
واختاره على المقاطعة مع وجودها لأنه ربما يخرج من الزرع مثل الذي قاطع عليه وههنا هو أقل منه يقيناً (فصل) يجوز استئجار الظئر بطعامها وكسوتها وفيه خلاف ذكرناه.
وقد أجمع أهل العلم على استئجار الظئر وهي المرضعة لقول الله تعالى [فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن] واسترضع النبي صلى الله عليه وسلم لولده إبراهيم.
ولأن الحاجة تدعو إليه أكثر من الحاجة الى غيره فإن الطفل في العادة إنما يعيش بالرضاع وقد يتعذر رضاعه من أمه فجاز ذلك كالإجارة في سائر المنافع، فإن استأجرها للرضاع دون الحضانة أو للحضانة دون الرضاع أو لهما جاز، وإن أطلق العقد على الرضاع دخلت فيه الحضانة في أحد الوجهين وهو قول أصحاب الرأي لأن العرف جار بأن المرضعة تحضن الصبي فحمل الإطلاق عليه

(6/13)


[الثاني] لا تدخل وهو قول أبي ثور وابن المنذر لأن العقد ما تناولها ولأصحاب الشافعي كهذين الوجهين، والحضانة تربية الصبي وحفظه وجعله في سريره وربطه ودهنه وكحله وتنظيفه وغسل خرقه أشباه ذلك واشتقاقه من الحضن وهو ما تحت الإبط وما يليه وسميت التربية حضانة تجوزا من حضانة الطير لبيضه وفراخه لأنه يجعلها تحت جناحه فسميت تربية الصبي بذلك أخذاً من فعل الطائر (فصل) ولهذا العقد أربعة شروط أحدها العلم بمدة الرضاعة لأنه لا يمكن تقديره إلا بها لأن السقي والعمل فيها يختلف (الثاني) معرفة الصبي بالمشاهدة لأن الرضاع يختلف بكبر الصبي وصغره وتهمته وقناعته وقال القاضي يعرف بالصفة كالراكب (الثالث) موضع الرضاع لأنه يختلف فيشق عليها في بيته ويسهل في بيتها (الرابع) معرفة العوض لما ذكرنا (فصل) والمعقود عليه في الرضاع خدمة الصبي وحمله ووضع الثدي في فيه واللبن تبع كالصبغ في إجارة الصباغ وماء البئر في الدار لأن اللبن عين فلا يعقد عليه في الإجارة كلبن غير الآدمي، وقيل هو اللبن قال القاضي وهو أشبه لأنه المقصود دون الخدمة ولهذا لو أرضعته ولم تخدمه استحقت الأجرة ولو خدمته ولم ترضعه لم تستحق شيئاً ولأن الله تعالى قال (فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن) فجعل الأجر
مرتباً على الرضاع فيدل على أنه المعقود عليه ولأن العقد لو كان على الخدمة لما لزمها سقيه لبنها وإنما جاز العقد عليه مع كونه عيناً رخصة لأن غيره لا يقول مقامه ولا ضرورة تدعوا إلى استيفائه وإنما جاز في الآدميين

(6/14)


دون سائر الحيوان للضرورة إلى حفظ الآدمي والحاجة إلى بقائه (فصل) وعلى المرضعة أن تأكل وتشرب ما يدر لبنها ويصلح به وللمكتري مطالبتها بذلك لأنه من تمام التمكين من الرضاع وفي تركه إضرار بالصبي فإن لم ترضعه لكن سقته لبن الغنم أو أطعمته فلا أجر لها لأنها لم توف المعقود عليه أشبه ما لو استأجرها لخياطة ثوب فلم تخطه فإن دفعته إلى خادمها فأرضعته فكذلك وبه قال أبو ثور وقال أصحاب لها أجرها لأن رضاعه حصل بفعلها ولنا أنها لم ترضعه أشبه ما لو سقته لبن الغنم فإن قالت أرضعته فأنكر المسترضع فالقول قولها لأنها مؤتمنة * (مسألة) * (ويستحب أن تعطى عند الفطام عبداً أو وليدة إذا كان المسترضع موسراً) لما روى أبو داود بإسناده عن هشام بن عروة عن أبيه عن حجاج بن حجاج الأسلمي عن أبيه قال قلت يا رسول الله ما يهب عني مذمة الرضاع قال " الغرة أو الأمة " قال الترمذي حسن صحيح المذمة بكسر الذال من الذمام وبفتحها من الذم قال ابن عقيل إنما خص الرقبة بالمجازاة دون غيرها لأن فعلها من الرضاعة والحضانة سبب حياة الولد وبقائه وحفظ رقبته فاستحب جعل الجزاء هبتها رقبة للتناسب بين النعمة والشكر ولهذا جعل الله تعالى المرضعة أماً فقال سبحانه (وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم) وقال النبي صلى الله عليه وسلم لا يجزي ولد والده إلا أن يجده مملوكاً فيعتقه " وإن كانت المرضعة مملوكة استحب إعتاقها لأنه يحصل أخص الرقاب بها لها وتحصل به المجازاة التي جعلها النبي صلى الله عليه وسلم مجازاة للوالد من النسب

(6/15)


(فصل) ويجوز للرجل أن يؤجر أمته ومدبرته وأم ولده والمعلق عتقها بصفة والمأذون لها في التجارة للإرضاع لأنه عقد على منفعتها أشبه إجارتها للخدمة وليس لواحدة منهن إجارة نفسها لأن منفعتها لسيدها فان كان لها ولد لم يجز إجارتها للإرضاع إلا أن يكون فيها فضل عن ريه لأن الحق لولدها ليس لسيدها إلا الفاضل عنه فإن كانت مزوجة لم تجز إجارتها لذلك إلا بإذن الزوج لأنه يفوت حقه
لاشتغالها عنه بالرضاع والحضانة فإن أجرها للرضاع ثم زوجها صح النكاح ولا تنفسخ الإجارة وللزوج الاستمتاع بها وقت فراغها من الرضاع والحضانة وقال مالك ليس لزوجها وطؤها الا برضى المستأجر لأنه ينقص اللبن وقد يقطعه ولنا أن وطئ الزوج مستحق فلا يسقط لأمر مشكوك فيه، وليس للسيد إجارة مكاتبته لأن منافعها لها ولذلك لا يمكن تزويجها ولا وطؤها ولا إجارتها لغير الرضاع ولها أن تؤجر نفسها لأنه من الاكتساب * (مسألة) * (وإن دفع ثوبه إلى خياط أو قصار ليعملاه ولهما عادة بأجرة صح ولهما ذلك وإن لم يعقدا عقد إجارة وكذلك دخول الحمام والركوب في سفينة الملاح) إذا دفع ثوبه الى خياط ليخيطه أو قصار ليقصره من غير عقد ولا شرط ولا تعريض بأجر مثل أن يقول خذ هذا فاعمله وأنا أعلم أنك إنما تعمله بأجر وكان الخياط والقصار منتصبين لذلك ففعلا ذلك فلهما الأجر وقال أصحاب الشافعي لا أجر لهما لأنهما فعلا ذلك من غير عوض جعل لهما أشبه ما لو تبرعا بعمله

(6/16)


ولنا أن العرف الجاري بذلك يقوم مقام القول فصار كنقد البلد وكما لو دخل حماما أو جلس في سفينة ملاح ولأن شاهد الحال يقتضيه فصار كالتعريض فأما إن لم يكونا منتصبين لذلك لم يستحقا أجرا إلا بعقد أو شرط العو ض أو تعريض به لأنه لم يجر عرف يقوم مقام العقد فهو كما لو تبرع به أو عمله بغير إذن مالكه وكذلك لو دفع ثوبه إلى رجل ليبيعه وكان منتصبا يبيع للناس بأجر مثله فهو كالقصار والخياط فيما ذكرنا له الأجر نص عليه أحمد، وإن لم يكن كذلك فلا شئ له لما تقدم، ومتى دفع ثوبه الى أحد هؤلاء ولم يقاطعه على أجر فله أجر المثل لأن الثياب يختلف أجرها ولم يعين شيأ فجرى مجرى الإجارة الفاسدة، فإن تلف الثوب من حرزه أو بغير فعله فلا ضمان عليه لأن ما لا يضمن في العقد الصحيح لا يضمن في الفاسد (فصل) إذا استأجر رجلا ليحمل له كتابا إلى مكة أو غيرها إلى إنسان فحمله فوجد المحمول إليه غائباً فرده استحق الأجر لحمله في الذهاب والرد لأنه حمله في الذهاب بإذن صاحبه صريحا وفي الرد تضمنا لأن تقدير كلامه وإن لم تجد صاحبه فرده إذ ليس سوى رده إلا تضييعه وقد علم أنه لا يرضى تضييعه فتعين رده * (مسألة) * (ويجوز إجارة دار بسكنى دار وخدمة عبد وتزويج امرأة)
وجملة ذلك أن كل ما جاز أن يكون ثمنا في البيع جاز عوضا في الإجارة لأنه عقد معاوضة أشبه البيع فعلى هذا يجوز أن يكون العوض عينا أو منفعة أخرى سواء كان الجنس واحدا كمنفعة دار بمنفعة أخرى ومختلفة كمنفعة دار بمنفعة عبد قال أحمد لا بأس أن يكتري بطعام موصوف معلوم وبه قال الشافعي قال

(6/17)


الله تعالى إخبارا عن شعيب أنه قال (إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني ثماني حجج) فجعل النكاح عوض الإجارة، وقال أبو حنيفة فيما حكى عنه لا تجوز إجارة دار بسكنى أخرى ولا يجوز إلا أن يختلف جنس المنفعة كسكنى دار بمنفعة بهيمة لأن الجنس الواحد عنده يحرم النساء فيه، وكره الثوري الإجارة بطعام موصوف والصحيح جوازه وهو قول إسحاق وأصحاب الرأي وقياس قول الشافعي لأنه عوض يجوز في البيع فجاز في الإجارة كالذهب والفضة وما قاله أبو حنيفة لا يصح لأن المنافع في الإجارة ليست في تقدير النسيئة ولو كانت نسيئة ما جاز في جنسين لأنه يكون بيع دين بدين * (مسألة) * (وتجوز إجارة الحلي بأجرة من جنسه وقيل لا يصح) تجوز إجارة الحلي نص عليه أحمد في رواية ابنه عبد الله وبه قال الثوري والشافعي واسحاق وأبو ثور وأصحاب الرأي وروى عن أحمد أنه قال في إجارة الحلي ما أدري ما هو؟ قال القاضي هذا محمول على إجارته بأجرة من جنسه فأما بغير جنسه فلا بأس لتصريح أحمد بجوازه وقال مالك في إجارة الحلي والثياب هو من المشتبهات ولعله يذهب إلى أن المقصود بذلك الزينة وليس ذلك من المقاصد الأصلية ومن منع ذلك بأجر من جنسه احتج بأنها تحتك بالاستعمال فيذهب منه أجزاء وان كانت بسيرة فيحصل الأجر في مقابلتها ومقابلة الانتفاع بها فيفضي إلى بيع ذهب بذهب وشئ آخر ولنا أنها عين ينتفع بها منفعة مباحة مقصودة مع بقاء عينها فأشبهت سائر ما يجوز إجارته والزينة من

(6/18)


المقاصد الأصلية فإن الله تعالى امتن بها علينا بقوله (لتركبوها وزينة) وقوله (قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده) وأباح الله تعالى من التحلي واللباس ما حرم على الرجال لحاجتهن إلى التزين للأزواج وأسقط الزكاة عن حليهن معونة لهن على اقتنائه، وما ذكروه من نقصها بالاحتكاك لا يصح لأن ذلك يسير لا يقابل
بعوض ولا يكاد يظهر في وزن ولو ظهر فالأجر في مقابلة الانتفاع لا في مقابلة الأجزاء لأن الأجر في الإجارة إنما هو عوض المنفعة كما في سائر المواضع ولو كان في مقابلة الجزء الذاهب لما جاز إجارة أحد النقدين بالآخر لإفضائه إلى التفرق في معاوضة أحدهما بالآخر قبل القبض (فصل) ولو استأجر من يسلخ له بهيمة بجلدها لم يجز لأنه لا يعلم هل يخرج الجلد سليماً أو لا وهل هو ثخين أو رقيق؟ ولأنه لا يجوز أن يكون عوضاً في البيع فلا يجوز أن يكون عوضاً في الإجارة كسائر المجهولات فإن سلخه بذلك فله أجر مثله وإن استأجره لطرح ميتة بجلدها فهو أبلغ في الفساد لأن جلد الميتة نجس لا يجوز بيعه وقد خرج بموته عن كونه ملكا وله أجر مثل إن فعل (فصل) ولو استأجر راعياً لغنم بثلث درها وصوفها وشعرها ونسلها أو نصفه أو جميعه لم يجز نص عليه أحمد في رواية سعيد بن محمد النسائي لأن الأجر غير معلوم ولا يصلح عوضاً في البيع، قال اسمعيل بن سعيد سألت أحمد عن الرجل يدفع البقرة إلى الرجل على أن يعلفها ويحفظها وولدها بينهما فقال أكره ذلك وبه قال أبو أيوب وأبو خيثمة ولا أعلم فيه مخالفاً لأن العوض معدوم مجهول لا يدرى ايو جدام لا، والأصل عدمه

(6/19)


ولا يصلح أن يكون ثمنا، فإن قيل فقد جوزتم دفع الدابة إلى من يعمل عليها بنصف مغلها قلنا إنما جاز ثم تشبيهاً بالمضاربة ولأنها عين تنمى بالعمل فجاز اشتراط جزء من النماء كالمضاربة والمساقاة وفي مسئلتنا لا يمكن ذلك لأن النماء الحاصل في الغنم لا يقف حصوله على عمله فيها فلم يمكن إلحاقه بذلك، وذكر صاحب المحرر رواية أخرى أنه يجوز بناء على ما إذا دفع دابته أو عبده يجزء من كسبه والأول ظاهر المذهب لما ذكرنا من الفرق، وعلى قياس ذلك إذا دفع نحله إلى من يقوم عليه بجزء من عسله وشمعه يخرج على الروايتين فإن اكتراه على رعيها مدة معلومة بجزء معلوم منها صح لأن العمل والمدة والأجر معلوم فصح كما لو جعل الأجر دراهم ويكون النماء الحاصل بينهما بحكم الملك لأنه ملك الجزء المجعول له منها في الحال فكان له نماؤه كما لو اشتراه * (مسألة) * وإن قال إن خطت الثوب اليوم فلك درهم وإن خطته غدا فلك نصف درهم فهل يصح؟ على روايتين)
(إحداهما) لا يصح وله أجر المثل نقلها أبو الحارث عن أحمد وهو مذهب ملك والثوري والشافعي واسحاق وابو ثور لأنه عقد واحد اختلف فيه العوض بالتقديم والتأخير فلم يصح كما لو قال بعتك بدرهم نقدا وبدرهمين نسيئة (والثانية) يصح وهو قول الحارث العكلي وأبي يوسف ومحمد لأنه سمى لكل عمل عوضا معلوما فصح كما لو قال كل دلو بتمرة، وقال أبو حنيفة إن خاطه اليوم فله درهم وإن خاطه غدا لم يزد على درهمين وقد ينقص عن نصف درهم لأن المؤجر قد جعل له نصف درهم فلا ينقص منه وقد رضي في أكثر العمل

(6/20)


بدرهم فلا يزاد عليه وهذا لا يصح لأنه إن صح العقد فله المسمى وإن فسد فوجوده كعدمه فيجب أجر المثل كسائر العقود الفاسدة * (مسألة) * (وإن قال إن خطته روميا فلك درهم، وإن خطته فارسيا فلك نصف درهم فهل يصح؟ على وجهين) بناء على التي قبلها والخلاف فيها كالتي قبلها إلا أن أبا حنيفة وافق صاحبيه في الصحة ههنا ولنا أنه عقد معاوضة لم يتعين فيه العوض ولا المعوض فلم يصح كما لو قال بعتك هذا بدرهم أو هذا بدرهمين، وفارق هذا كل دلو بتمرة من وجهين (أحدهما) أن العمل الثاني ينضم إلى العمل الأول ولكل واحد منهما عوض مقدر فأشبه ما لو قال بعتك هذه الصبرة كل قفيز بدرهم وههنا الخياطة واحدة يشرط فيها عوضا إن وجدت على صفة وعوضا إن وجدت على أخرى أشبه ما لو باعه بعشرة صحاح أو إحدى عشرة مكسرة (والثاني) أنه وقف الإجارة على شرط بقوله إن خطته كذا فلك كذا وإن خطته كذا فلك كذا بخلاف قوله كل دلو بتمرة (فصل) نقل مهنا عن أحمد فيمن استأجر من جمال إلى مصر بأربعين دينارا فإن نزل دمشق فكراؤه ثلاثون فإن نزل الرقة فكراؤه عشرون، فقال إن اكترى إلى الرقة بعشرة واكترى إلى دمشق بعشرة وإلى مصر بعشرة جاز ولم يكن للجمال أن يرجع فظاهر هذا أنه لم يحكم بصحة العقد الأول

(6/21)


لأنه في معنى بيعتين في بيعة لكونه خيره بين ثلاثة عقود، ويتخرج فيه أن يصح بناء على المسئلتين قبل
هذا، ونقل عن أحمد في رجل استأجر رجلا يحمل له كتابا إلى الكوفة وقال إن أوصلت الكتاب يوم كذا فلك عشرون وإن تأخرت بعد ذلك بيوم فلك عشرة فالإجارة فاسدة وله أجر مثله مثل الذي قبله * (مسألة) * (وإن أكراه دابة وقال إن رددتها اليوم فكراؤها خمسة وإن رددتها غذا فكراؤها عشرة فقال أحمد لا بأس به نقل عبد الله فيمن اكترى دابة وقال إن رددتها غدا فكراؤها عشرة، وإن رددتها اليوم فكراؤها خمسة لا بأس به، وهذه الرواية تدل على صحة الإجارة والظاهر عن أحمد برواية الجماعة فيما ذكرنا فساد العقد على قياس بيعتين في بيعه، وقال القاضي يصح في اليوم الأول دون الثاني وقياس حديث علي والأنصاري صحته فإن عليا أجر نفسه ليهودي يستقي له كل دلو بتمرة وكذلك الأنصاري وسنذكره * (مسألة) * (وإن أكراه دابة عشرة أيام بعشرة دراهم فما زاد فله بكل يوم درهم فقال أحمد في رواية أبي الحارث هو جائز) ونقل ابن منصور عنه فيمن اكترى دابة من مكة إلى جدة بكذا فإن ذهب إلى عرفات بكذا فلا بأس، ونقل عبد الله عنه لو قال اكتريتها بعشرة فما حبسها فعليه في كل يوم عشرة أنه يجوز وهذه الروايات تدل على أن مذهبه أنه متى قدر لكل عمل معلوم أجراً معلوما صح، وتأول القاضي هذا كله على أنه يصح في الأول ويفسد في الثاني لأن مدته

(6/22)


غير معلومة فلم يصح العقد فيه كما لو قال استأجرتك لتحمل لي هذه الصبرة وهي عشرة أقفزة بدرهم وما زاد فبحساب ذلك.
قال شيخنا: والظاهر عن أحمد خلاف هذا فإن قوله فهو جائز عاد إلى جميع ما قبله وذلك قوله لا بأس، ولأن لكل عمل عوضا معلوما فيصح كما لو استقى له كل دلو بتمرة وقد ثبت الأصل بالخبر الوارد فيه ومسائل الصبرة لا نص فيها عن الإمام وقياس نصوصه صحة الإجارة وإن سلم فسادها فلان القفزان التي شرط عملها غير معلومة بتعيين ولا صفة وهي مختلفة فلم يصح العقد لجهالتها بخلاف الأيام فإنها معلومة * (مسألة) * (ونص أحمد على أنه لا يجوز أن يكتري لمدة غزاته) وهذا قول أكثر أهل العلم منهم الاوزاعي والشافعي وأصحاب الرأي، وقال مالك قد عرف وجه ذلك وأرجو أن يكون خفيفا
ولنا أن المدة مجهولة والعمل مجهول فلم يجز كما لو اكتراها لمدة سفره في تجارته ولأن مدة الغزاة تطول وتقصر ولا حد لها تعرف به والعمل فيها يقل ويكثر ونهاية سفرهم تقرب وتبعد فلم يجز التقدير بها كغيرها من الأسفار المجهولة فان فعل ذلك فله أجر المثل كالإجارات الفاسدة * (مسألة) * (وإن سمى لكل يوم شيئا معلوما فجائز)

(6/23)


وقال الشافعي لا يصح لأن مدة الإجارة مجهولة.
ولنا أن علياً رضي الله عنه أجر نفسه كل دلو بتمرة وكذلك الأنصاري فلم ينكره النبي صلى الله عليه وسلم ولأن كل يوم معلوم مدت وأجره فصح كما لو أجره شهراً كل يوم بدرهم أو استأجره لنقل صبرة معلومة كل قفيز بدرهم.
إذا ثبت هذا فلا بد من تعيين ما يستأجر له من ركوب أو حمل معلوم، ويستحق الأجر المسمى لكل يوم سواء أقامت أو سارت لأن المنافع ذهبت في مدته أشبه ما لو اكترى دارا وغلقها ولم يسكنها * (مسألة) * (وإن أكراه كل شهر بدرهم أو كل دلو بتمرة فالمنصوص عن أحمد أنه يصح وكلما دخل شهر لزمهما حكم الإجارة ولكل واحد منهما الفسخ عند انقضاء كل شهر، وقال أبو بكر وابن حامد لا يصح) اختلف أصحابنا في ذلك فقال القاضي يصح ونص عليه أحمد في رواية ابن منصور وهو اختيار الخرقي لأن الشهر الأول تلزم الإجارة فيه بإطلاق العقد لأنه معلوم يلي العقد وأجره معلوم وما بعده من الشهور يلزم العقد فيه بالتلبس به وهو السكنى في الدار إن أجره دارا لأنه مجهول حال العقد فإذا تلبس به تعين الدخول فيه فصح بالعقد الأول، وإن لم تتلبس به أو فسخ العقد عند انقضاء الأول انفسخ وكذلك حكم كل شهر يأتي وهذا مذهب ابي ثور وأصحاب الرأي، وحكي عن مالك نحو هذا إلا أن الإجارة لا تكون لازمة عنده لأن المنافع مقدرة بتقدير الأجر فلا يحتاج إلى ذكر المدة إلا في اللزوم واختار أبو بكر عبد العزيز وابن حامد وابن عقيل أن العقد لا يصح وهو قال الثوري والصحيح

(6/24)


من قولي الشافعي لأن كل اسم للعدد فإذا لم يقدره كان مجهولا فيكون فاسداً كقوله أجرتك أشهرا وحمل أبو بكر وابن حامد كلام أحمد على أنه وقع على أشهر معينة، ووجه الأول أن عليا استقى لرجل
من اليهود كل دلو بتمرة وجاء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأكل منه قال كنت أدلو الدلو بتمرة واشترطها جلدة وعن رجل من الانصار أنه قال ليهودي أسقي نخلك؟ قال نعم كل دلو بتمرة فاشترط الأنصاري أن لا يأخذه خدرة ولا تارزة ولا حشفة ولا يأخذ إلا جلدة فاستقى بنحو من صاعين فجاء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
رواهما ابن ماجة وهو نظير مسألة إجارة الدار، ونص في المسألة الأخرى، ولأن شروعه في كل شهر مع ما تقدم العقد من الاتفاق على تقدير أجره والرضى ببذله به جرى مجرى ابتداء العقد عليه وصار كالبيع بالمعاطاة إذا وجد من المساومة مادل على التراضي بها.
فعلى هذا متى ترك التلبس به في شهر لم تلزم الإجارة فيه لعدم العقد وكذلك إن فسخ وليس بفسح في الحقيقة لأن العقد الثاني ما ثبت والقياس يقتضي عدم الصحة لأن العقد تناول جميع الأشهر وذلك مجهول ثم لا وجه لاعتبار الشروع في الشهر الذي يلي الأول مع كون الشهور كلها داخلة في اللفظ، فأما أبو حنيفة فذهب إلى أنهما إذا تلبسا بالشهر الثاني فقد اتصل القبض بالعقد الفاسد، قال شيخنا ولا يصح هذا العذر لأن العقد الفاسد في الأعيان لا يلزم بالقبض ولا يضمن بالمسمى تم ثم لم يحصل القبض ههنا إلا فيما استوفاه وقول مالك لا يصح لأن الإجارة من العقود اللازمة فلا يجوز أن تكون جائزة

(6/25)


(فصل) إذا قال أجرتك داري عشرين شهرا كل شهر بدرهم جاز بغير خلاف لأن المدة معلومة والأجر معلوم وليس لواحد منهما فسخ بحال لأنها مدة واحدة فأشبه ما لو قال أجرتك عشرين شهراً بعشرين درهما، فإن قال أجرتكها شهرا بدرهم وما زاد فبحساب ذلك صح في الشهر الأول لأنه أفرده بالعقد وبطل في الزائد لأنه مجهول، ويحتمل أن يصح في كل شهر تلبس به كما لو قال أجرتكها كل شهر بدرهم لأن معناهما واحد، ولو قال أجرتكها هذا الشهر بدرهم وكل شهر بعد ذلك بدرهم أو بدرهمين صح في الأول وفيما بعده وجهان لما ذكرنا (فصل) في مسائل الصبرة وهي عشر مسائل (إحداها) أن يقول استأجرتك لحمل هذه الصبرة إلى مصر بعشرة فهي صحيحة بغير خلاف نعلمه لأن الصبرة معلومة بالمشاهدة فجاز الاستئجار عليها كما لو علم كيلها (الثانية) قال استأجرتك لتحملها كل قفيز بدرهم فيصح وبه قال الشافعي وقال أبو حنيفة يصح في قفيز ويبطل
فيما زاد، ومبني الخلاف على الخلاف في بيعها وقد ذكرناه (الثالثة) قال لتحملها لي نفيرا بدرهم وما زاد فبحساب ذلك فيجوز كما لو قال كل قفيز بدرهم وكذلك كل لفظ يدل على إرادة حمل جميعها كقوله لتحمل قفيزاً منها بدرهم وسائرها أو باقيها بحساب ذلك أو قال وما زاد بحساب ذلك يريد باقيها كله إذا فهما ذلك من اللفظ لدلالته عندهما عليه أو لقرينة صرفت إليه (الرابعة) قال لتحمل قفيزاً منها بدرهم وما زاد فبحساب ذلك يريد مهما حملته من باقيها فلا يصح ذكره القاضي وهو مذهب الشافعي لأن المعقود عليه بعضها وهو مجهول.
ويحتمل أن يصح لأنه في معنى كل دلو بتمرة (الخامسة) قال لتنقل لي منها كل

(6/26)


قفيز بدرهم فهي كالرابعة سواء (السادسة) قال لتحمل لي منها قفيزاً بدرهم على أن تحمل الباقي بحساب ذلك فلا يصح لأنه في معنى بيعتين في بيعه.
ويحتمل أن يصح لأن معناه لتحمل لي كل قفيز منها بدرهم (السابعة) قال لتحمل لي هذه الصبرة كل قفيز بدرهم وتنقل لي صبرة أخرى في البيت بحساب ذلك، فإن كانا يعلمان الصبرة التي في البيت بالمشاهدة صح فيهما لأنهما كالصبرة الواحدة وإن جهل أحدهما صح في الأولى وبطل في الثانية لأنهما عقدان أحدهما على معلوم والثاني على مجهول فصح في المعلوم وبطل في المجهول كما لو قال بعتك عبدي هذا بعشرة وعبدي الذي في البيت بعشرة [الثامنة] قال لتحمل لي هذه الصبرة والتي في البيت بعشرة فإن كانا يعلمان التي في البيت صح فيهما وإن جهلاها بطل فيهما لأنه عقد واحد بعوض واحد على معلوم ومجهول بخلاف التي قبلها، فإن كانا يعلمان التي في البيت لكنها مغصوبة أو امتنع تصحيح العقد فيها لمانع اختص بها بطل العقد فيها، وفي صحته في الأخرى وجهان بناء على تفريق الصفقة إلا أنها إن كانت قفزانها معلومة أو قدر إحداهما معلوم من الأخرى فالأولى صحته لان قسط لاجر فيها معلوم، وإن لم يكن كذلك فالأولى بطلانه لجهالة العوض فيها (التاسعة) قال لتحمل لي هذه الصبرة وهي عشرة أقفزة بدرهم فإن زادت على ذلك فالزائد بحساب ذلك صح في العشرة لأنها معلومة ولم يصح في الزيادة لأنها مشكوك فيها ولا يجوز العقد على ما يشك فيه (العاشرة) قال لتحمل لي هذه الصبرة كل قفيز بدرهم فإن قدم لي طعام فحملته فبحساب ذلك صح أيضا في الصبرة وفسد في الزيادة لما ذكرنا

(6/27)


* (فصل) * قال المصنف رحمه الله [الثالث أن تكون المنفعة مباحة مقصودة فلا يجوز على الزنا والزمر والغناء ولا إجارة دار ليجعلها كنيسة أو بيت نار، أو لبيع الخمر أو القمار] وجملة ذلك أن من شرط صحة الإجارة أن تكون المنفعة مباحة فإن كانت محرمة كالزنا والزمر والنوح والغناء لم يجز الاستئجار لفعله وبه قال مالك والشافعي وأبو حنيفة وصاحباه وأبو ثور، وكره ذلك الشعبي والنخعي لأنه محرم فلم يجز الاستئجار عليه كإجارة الأمة للزنا.
قال إبن المنذر أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على إبطال إجارة النائحة والمغنية (فصل) ولا يجوز استئجار كاتب ليكتب له غناء أو نوحا، وقال أبو حنيفة يجوز.
ولنا أنه انتفاع بمحرم اشبه ما ذكرنا، ولا يجوز الاستئجار على كتب شعر محرم ولا بدعة ولا شئ محرم لذلك (فصل) ولا تجوز إجارة داره لمن يتخذها كنيسة أو بعية أو لبيع الخمر أو القمار وبه قال الجماعة، وقال أبو حنيفة إن كان بيتك في السواد فلا بأس وخالفه صاحباه، واختلف أصحابه في تأويل قوله ولنا أنه فعل محرم فلم تجز الإجارة عليه كإجارة عبده للفجور، ولو اكترى ذمي من مسلم داراً فأراد بيع الخمر فيها فلصاحب الدار منعه، وبذلك قال الثوري.
وقال أبو حنيفة إن كان بيتك في السواد والجبل فله أن يفعل ما يشاء.
ولنا أنه محرم جاز المنع منه في المصر فجاز في السواد كقتل النفس المحرمة

(6/28)


* (مسألة) * (ولا يجوز الاستئجار على حمل الميتة والخمر وعنه يصح للحر أكل أجرته) لا يجوز الاستئجار على حمل الخمر لمن يشتريها أو يأكل الميتة ولا على حمل خنزير لذلك، وبه قال أبو يوسف ومحمد والشافعي.
وقال أبو حنيفة يجوز لأن العمل لا يتعين عليه بدليل أنه لو حمله مثله جاز لأنه لو قصد إراقته أو طرح الميتة جاز.
وقد روي عن أحمد فيمن حمل خنزيراً لذمية أو خمراً لنصراني أكره أكل كرائه ولكن يقضى للحمال بالكراء فإذا كان لمسلم فهو أشد.
قال القاضي: هذا محمول على أنه استأجره ليريقها فأما للشرب فمحظور لا يحل أخذ الأجر عليه قال شيخنا: وهذا تأويل بعيد لقوله: أكره أكل كراة وإذا كان لمسلم فهو أشد والمذهب خلاف
هذه الرواية لأنه استئجار لفعل محرم فلم يصح كالزنا؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟ صلى الله عليه وسلم؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟ والمحمولة إليه.
وقول أبي حنيفة لا يتعين يبطل بما لو إستأجر أرضا ليتخذها مسجدا، فأما حمل الخمر لإراقتها والميتة لطرحها والاستئجار لكسح الكنيف فجائر لأن ذلك مباح، وقد استأجر النبي صلى الله عليه وسلم أبا طيبة فحجمه.
وقال أحمد في رواية ابن منصور فيمن يؤاجر نفسه لنظارة كرم نصراني: يكره ذلك لأن الأصل في ذلك راجع إلى الخمر (فصل) قد ذكرنا أن الاستئجار لكسح الكنيف جائز إلا أنه يكره له أكل أجرته كأجرة الحجام بل هذا أولى.
وقد روى سعيد بن منصور أن رجلا حج وأتى ابن عباس فقال له إني رجل أكنس فما ترى في مكسبي؟ قال أي شئ تكنس؟ قال العذرة، قال: ومنه حججت ومنه تزوجت؟ قال نعم.
قال أنت خبيث وحجك خبيث وما تزوجت خبيث.
ونحو هذا.
ولأن فيه دناءة فكره

(6/29)


كالحجامة.
وإنما قلنا بجواز الإجارة عليه لدعو الحاجة إليه ولا يندفع ذلك إلا بالإباحة فجاز كالحجامة (فصل) ويشترط أن تكون المنفعة مقصودة فلا يجوز استئجار شمع ليتجمل به وبرده ولا طعام ليتجمل به على مائدته ثم يرده ولا النقود ليتجمل بها الدكان لأنها لم تخلق لذلك ولا تراد له فبذل العوض فيه سفه وأخذه من أكل المال بالباطل، وكذلك استئجار ثوب ليوضع على سرير الميت لما ذكرنا * (فصل) * (قال الشيخ رحمه الله) والإجارة على ضربين (أحدهما) إجارة عين.
فتجوز إجارة كل عين يمكن استيفاء المنفعة المباحة منها مع بقائها) كالأرض والدار والعبد والبهيمة والثياب والفساطيط والحبال والخيام والمحامل والسرج واللجام والسيف والرمح وأشباه ذلك.
وقد ذكرنا بعض ذلك في مواضعه * (مسألة) * (ويجوز له استئجار حائط ليضع عليه أطراف خشبه) إذا كان الخشب معلوماً والمدة معلومة وبه قال الشافعي.
وقال أبو حنيفة لا يجوز.
ولنا أن هذه منفعة مقصودة مقدور على تسليمها واستيفائها فجازت الإجارة عليها كاستئجار السطح للنوم عليه * (مسألة) * (ويجوز استئجار حيوان ليصيد به إلا الكلب) يجوز استئجار الفهد والبازي والصقر ونحوه للصيد في مدة معلومة لأن فيه نفعاً مباحا تجوز إعارته فجازت إجارته له كالدابة، فأما إجارة سباع البهائم والطير التي لا تصلح للصيد فلا تجوز إجارتها لأنه
لا نفع فيها وكذلك إجارة الكلب والخنزير لأنه لا يجوز بيعه.
ويتخرج جواز إجارة الكلب الذي يباح اقتناؤه لأن فيه نفعا مباحا تجوز إعارته له فجاز إجارته له كغيره.
ولأصحاب الشافعي وجهان كهذين

(6/30)


* (مسألة) * (ويجوز استئجار كتاب ليقرأ فيه إلا المصحف في أحد الوجهين) تجوز إجارة كتب العلم التي يجوز بيعها للانتفاع بها من القراءة فيها والنسخ منها والرواية وغير ذلك من الانتفاع المقصود المحتاج إليه.
وهذا مذهب الشافعي، ومقتضى قول أبي حنيفة أنه لا تجوز إجارتها لأنه علل منع إجارة المصحف بأنه ليس في ذلك أكثر من النظر إليه ولا تجوز الإجارة لمثل ذلك كما يجوز أن يستأجر سقفا لينظر إلى عمله ولنا أن فيه نفعاً مباحا يحتاج إليه تجوز الإعارة له فجازت الإجارة له كسائر المنافع.
وفارق النظر إلى السقف فإنه لا حاجة إليه ولا جرت العادة بالإعارة من أجله، وتجوز إجارة كتاب فيه خط حسن ينقل منه ويكتب عليه على قياس ذلك (فصل) وفي اجارة المصحف وجهل [أحدهما] لا يصح إجارته لأنه لا يصح بيعه إجلالا لكتاب الله تعالى وكلامه عن المعاوضة به وابتذاله بالثمن في البيع والاجرة في الإجارة [والثاني] يصح وهو مذهب الشافعي لأنه انتفاع مباح تجوز الإعارة من أجله فجازت إجارته كسائر الكتب، ولا يلزم من عدم جواز البيع عدم جواز الإجارة كالحر (فصل) والذي يحرم بيعه تحرم إجارته إلا الحر والوقف وأم الولد فإنه يجوز إجارتها وإن حرم بيعها، وما عدا ذلك لا تجوز إجارته، وسنذكر ذلك إن شاء الله تعالى

(6/31)


* (مسألة) * (ويجوز استئجار النقد للتحلي والوزن لا غير) إذا كان في مدة معلومة وبه قال أبو حنيفة وهو أحد الوجهين لأصحاب الشافعي والوجه الآخر أنه لا تجوز إجارتها لأن هذه المنفعة ليست المقصود منها ولذلك لا نضمن منفعتها بعصبها فاشبهت الشمع ولنا أنها عين أمكن الانتفاع بها مع بقاء عينها منفعة مباحة فاشبهت الحلي، وفارق الشمع فإنه لا ينتفع به
إلا بما يتلف عينه * (مسألة) * (فإن أطلق الإجارة لم يصح في أحد الوجهين ويصح في الآخر وينتفع بها في ذلك) وهذا اختيار أبي الخطاب لأن منفعتها في الإجارة متعينة في التحلي والوزن وهما متقاربان فوجب أن نحمل الإجارة عند الإطلاق عليهما كاستئجار الدار مطلقا فإنه يتناول السكنى ووضع المتاع فيها، فعلى هذا ينتفع بها فيما شاء منهما، وقال القاضي لا تصح الإجارة وتكون قرضاً وهذا مذهب أبي حنيفة لأن الإجارة تقتضي الانتفاع والانتفاع المعتاد بالدراهم والدنانير إنما هو بأعيانها فإذا أطلق الانتفاع حمل على الانتفاع المعتاد، وقال أصحاب الشافعي لا تصح الإجارة ولا تكون قرضا لأن التحلي ينقصها والوزن لا ينقصها فقد اختلفت جهة الانتفاع فلم يجز إطلاقها، ولا يجوز أن يعبر بها عن القرض لأن القرض تمليك للعين والإجارة تمليك المنفعة تقتضي الانتفاع مع بقاء العين فلم يجز التعبير بأحدهما عن الآخر، ولأن التسمية والالفاظ تؤخذ نقلا ولم يعهد في اللسان التعبير بالإجارة عن القرض، قال شيخنا وقول أبي الخطاب أصح

(6/32)


إن شاء الله تعالى لأن العقد متى أمكن حمله على الصحة كان أولى من إفساده وقد أمكن حملها على إجارتها للجهة التي تجوز إجارتها فيها، وقول القاضي لا يصح لما ذكرنا، وما ذكر أصحاب الشافعي من نقص العين بالاستعمال في التحلي فبعيد فإن ذلك يسير لا أثر له فوجوده كعدمه (فصل) ويجوز أن يستأجر نخلا ليجفف عليه الثياب ويبسطها عليه ليستظل بظلها ولأصحاب الشافعي في ذلك وجهان لما ذكروه في الأثمان ولنا أنها لو كانت مقطوعة لجاز استئجارها لذلك فكذلك النابتة وذلك لأن الانتفاع يحصل بهما على السواء في الحالتين فما جاز في إحداهما يجوز في الأخرى ولأنها شجرة فجاز استئجارها لذلك كالمقطوعة ولأنها منفعة مقصودة يمكن استيفاؤها مع بقاء العين فجاز العقد عليها كما لو كانت مقطوعة (فصل) ويجوز استئجار ما يبقى من الطيب والصندل وقطع الكافور والند لشمه للمرضى وغيرهم مدة ثم يرده لأنها منفعة أشبهت الوزن والتحلي مع أنه لا ينفك من أخلاق وبلى (فصل) يجوز استئجار دار يتخذها مسجدا يصلي فيه وبه قال مالك والشافعي وقال أبو حنيفة لا يجوز
لأن فعل الصلاة لا يجوز استحقاقه بعقد الإجارة بحال فلا تجوز الإجارة لذلك ولنا أن هذه منفعة مباحة يمكن استيفاؤها من العين مع بقائها فجاز استئجار العين لها كالسكنى ويفارق الصلاة فإنها لا تدخل النيابة فيها بخلاف المسجد * (مسألة) * (ويجوز استئجار ولده لخدمته وامرأته لرضاع ولده وحضانته)

(6/33)


يجوز استئجار ولده لخدمته كالأجنبي واستئجار أمه وأخته وابنته لرضاع ولده وكذلك سائر أقاربه بغير خلاف كالأجانب، فأما استئجار امرأته لرضاع ولده منها فيجوز في الصحيح من المذهب قال الخرقي إن أرادت الأم أن ترضع ولدها بأجرة مثلها فهي أحق به من غيرها سواء كانت في جبال الزوج أو مطلقة وقال القاضي لا يجوز وتأول كلام الخرقي على أنها في حبال زوج آخر وهو قول أصحاب الرأي وحكى عن الشافعي لأنه قد استحق حبسها والاستمتاع بها بعوض فلا يجوز أن يلزمه آخر لذلك ولنا أن كل عقد يصح أن تعقده مع غير الزوج يصح أن تعقده معه كالبيع ولأن منافعها في الرضاع والحضانة غير مستحقة للزوج بدليل أنه لا يملك إجبارها على ذلك ويجوز أن تأخذ عليها العوض من غيره فجاز لها أخذه منه كثمن مالها، قولهم أنها استحقت عوض الحبس والاستمتاع قلنا هذا غير الحضانة واستحقاق منفعة من وجه لا يمنع استحقاق منفعة سواها بعوض آخر كما لو استأجرها ثم تزوجها، وتأويل القاضي كلام الخرقي يخالف الظاهر من وجهين (أحدهما) أن الألف واللام في الزوج للمعهود وهو أبو الطفل (الثاني) أنها إذا كانت في حبال زوج آخر لا تكون أحق به بل يسقط حقها من الحضانة ثم ليس لها أن ترضع إلا بإذن زوجها ففسد التأويل * (مسألة) * (ولا تصح الإجارة إلا بشروط خمسة أحدها أن يعقد على نفع العين دون أجزائها)

(6/34)


لأن الإجارة بيع المنافع فأما الأجزاء فلا تدخل في الإجارة فلا يصح إجارة الطعام للأكل ولا الشمع ليشعله لأن هذا لا ينتفع به إلا بإتلاف عينه فلم يجز كما لو استأجر ديناراً لينفقه، فإن استأجر شمعة ليسرجها ويرد بقيتها وثمن ما ذهب وأجر الباقي فهو فاسد لأنه يشمل بيعا وإجارة وما وقع عليه البيع
مجهول وإذا جهل البيع جهل المستأجر أيضا فيفسد العقدان * (مسألة) * (ولا يجوز استئجار حيوان ليأخذ لبنه) كاستئجار الإبل والبقر والغنم ليأخذ لبنها أو ليسترضعها لسخالها ونحوها ولا ليأخذ صوفها وشعرها ووبرها ولا استئجار شجرة ليأخذ ثمرتها أو شيئاً من عينها لما ذكرناه * (مسألة) * (إلا في الظئر ونفع البئر يدخل تبعا) أما الظئر فقد سبق ذكرها، وأما نفع البئر فقال ابن عقيل يجوز استئجار البئر ليستقي منه أياما معلومة ودلاء معلومة لأن هواء البئر وعمقها فيه نوع انتفاع بمرور الدلو فهى، فأما الماء فيؤخذ على أصل الإباحة (فصل) ولا يجوز استئجار الفحل الضرب وهو ظاهر مذهب الشافعي وأصحاب الرأي

(6/35)


وخرج أبو الخطاب وجهاً في جوازه بناء على إجارة الظئر للرضاع لأن الحاجة تدعو إليه وهو قول الحسن وابن سيرين ولنا أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن عسب الفحل متفق عليه ولأن المقصود الماء الذي يخلق منه الولد فيكون عقد الإجارة لاستيفاء عين فهو كإجارة الغنم لأخذ لبنها، ولأن الماء محرم لا قيمة له فلم يجز أخذ العوض عنه كالميتة، فأما من أجازه فينبغي أن يوقع العقد على العمل ويقدره بمرة أو مرتين، وقيل يقدره بالمدة وهو بعيد فإن من أراد إطراق فرسه مرة فقدره بمدة تزيد على قدر الفعل لم يكن استيعابها به وربما لا يحصل الفعل في المدة ويتعذر ضبط مقدار الفعل فيتعين التقدير بالفعل إلا أن يكتري فحلا لإطراق ماشية كثيرة كتيس يتركه في غنمه فإنه إنما يكتريه مدة معلومة.
والمذهب أنه لا يجوز إجارته لما ذكرنا فإن احتاج إلى ذلك ولم يجد من يطرق له جاز له أن يبذل الكراء، وليس للمطرق أخذه لأن ذلك بذل مال لتحصيل منفعة مباحة تدعو الحاجة إليها فجاز كشراء الأسير ورشوة الظالم ليدفع ظلمه، وإن أطرق إنسان فحله بغير إجارة ولا شرط فأهديت له هدية أو أكرم بكرامة لذلك فلا بأس لأنه فعل معروفا فجازت مجازاته عليه كما لو أهدى هدية فجوزي عليها
* (مسألة) * (الثاني معرفة العين برؤية أو صفة في أحد الوجهين ويصح في الآخر بدونه وللمستأجر خيار الرؤية)

(6/36)


يشترط معرفة العين المستأجرة بالمشاهدة إن كانت لا تنضبط بالصفات، أو بالصفة إن كانت تنضبط قياساً على البيع، وفيه وجه آخر أنه لا يشترط ويثبت للمستأجر خيار الرؤية وهو قول أصحاب الرأي، والخلاف ههنا مبني على الخلاف في البيع، وقد ذكرناه والمشهور الأول.
فعلى هذا إذا كانت مما لا ينضبط بالصفة كالدور والحمام فلابد من رؤيتها كالبيع لأن الغرض يختلف بصغرها وكبرها ومرافقها ومشاهدة قدر الحمام ليعلم كبرها من صغرها ومعرفة مائه ومشاهدة الإيوان ومطرح الرماد وموضع الزبل ومصرف ماء الحمام، فمتى أخل بهذا أو بعضه لم يصح للجهالة بما يختلف به الغرض، وقد كره أحمد كراء الحمام لأنه يدخله من يكشف عورته فيه قال ابن حامد هو على طريق كراهة التنزيه دون التحريم فأما العقد فصحيح في قول أكثر أهل العلم، قال ابن المنذر أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم أن كراء الحمام جائز إذا حدده وذكر جميع آلته شهوراً مسماة وهذا قول مالك والشافعي وأبي ثور وأصحاب الرأي لأن المكتري إنما يأخذ الأجر عوضا عن دخول الحمام والاغتسال بمائه وأحوال المسلمين محمولة على السلامة وإن وقع من بعضهم فعل ما لا يجوز لم يحرم الأجر المأخوذ منه كما لو اكترى دارا ليسكنها فشرب فيها خمراً * (مسألة) * (الثالث القدرة على التسليم فلا تصح إجارة الآبق والشارد والمغصوب من غير غاصبه إذا لم يقدر على أخذه منه) لأنه لا يمكن تسليم المعقود عليه فلم تصح إجارته كبيعه * (مسألة) * (ولا تجوز إجارة المشاع مفرداً لغير شريكه وعنه ما يدل على الجواز

(6/37)


قال أصحابنا لا تجوز إجارة المشاع لغير الشريك إلا أن يؤجر الشريكان معا وهذا قول أبي حنيفة وزفر لأنه لا يقدر على تسليمه فلم تصح إجارته كالمغصوب، يحقق ذلك أنه لا يقدر على تسليمه إلا بتسليم نصيب الشريك ولا ولاية له على مال شريكه، واختار أبو حفص العكبري جوازه، وقد أومأء إليه أحمد وهو قول مالك والشافعي وأبي يوسف ومحمد لأنه معلوم يجوز بيعه فجازت إجارته
كالمفرد ولأنه عقد في ملكه يجوز مع شريكه فجاز مع غيره كالبيع، ومن نصر الأول فرق بين محل النزاع وبين ما إذا أجره الشريكان أو أجره لشريكه فإنه يمكن التسليم إلى المستأجر فأشبه إجارة المغصوب من غاصبه دون غيره، وإن كانت لواحد فأجر نصفها صح لأنه يمكنه تسليمه ثم إن أجر نصفها الآخر للمستأجر الأول صح لإمكان تسليمه إليه، وإن أجره لغيره ففيه وجهان كالمسألة التي قبلها لأنه لا يمكنه تسليم ما أجره إليه، وإن أجر الدار لاثنين لكل واحد منهما نصفها فكذلك لأنه لا يمكنه تسليم نصيب كل واحد إليه (فصل) ولا تجوز إجارة المسلم للذمي لخدمته نص عليه أحمد في رواية الأثرم فقال إن أجر نفسه من الذي في خدمته لم يجز، وإن كان في عمل شئ جاز وهذا أحد قولي الشافعي، وقال في الآخر تجوز لأنه يجوز له إجارة نفسه في غير الخدمة فجاز فيها كإجارته من المسلم ولنا أنه عقد يتضمن حبس المسلم عند الكافر وإذلاله له واستخدامه أشبه البيع، يحققه أن عقد

(6/38)


الإجارة للخدمة يتعين فيها حبسه مدة الإجارة واستخدامه، والبيع لا يتعين فيه ذلك فإذا منع فالمنع من الإجارة أولى، فأما إن أجر نفسه منه في عمل معين في الذمة كخياطة ثوب جاز بغير خلاف نعلمه لأن علياً رضي الله عنه أجر نفسه من يهودي يستقي له كل دلو بتمرة وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فلم ينكره، وكذلك الأنصاري ولأنه عقد معاوضة لا يتضمن إذلال المسلم ولا استخدامه فأشبه مبايعته فإن آجر نفسه منه لغير الخدمة مدة معلومة جاز أيضا في ظاهر كلام أحمد لقوله: وإن كان في عمل شئ جاز ونقل عنه أحمد بن سعيد لا بأس ان يؤجر نفسه من الذمي وهذا مطلق في نوعي الإجارة، وذكر بعض أصحابنا أن ظاهر كلام أحمد منع ذلك وأشار إلى ما رواه الأثرم واحتج بأنه عقد يتضمن حبس المسلم أشبه البيع، والصحيح ما ذكرنا فإن كلام أحمد يدل على خلاف ما قاله، وإنه خص المنع بالإجارة للخدمة وأجاز إجارته للعمل وهذا إجارة للعمل، ويفارق البيع فإن فيه إثبات الملك على المسلم ويفارق إجارته للخدمة لتضمنها الإذلال (فصل) نقل إبراهيم الحربي أنه سئل عن الرجل يكتري الديك ليوقظه لوقت الصلاة
لا يجوز لأن ذلك يقف على فعل الديك، ولا يمكن استخراج ذلك منه بضرب ولا غيره وقد يصيح وقد لا يصيح وربما صاح بعد الوقت * (مسألة) * (الشرط الرابع اشتمال العين على المنفعة)

(6/39)


فلا يجوز استئجار بهيمة زمنة للحمل ولا أرض لا تنبت الزرع لأن الإجارة عقد على المنفعة ولا يمكن تسليم هذه المنفعة من هذه العين فلا تجوز إجارتها كالعبد الآبق * (مسألة) * (الخامس كون المنفعة مملوكة للمؤجر أو مأذونا له فيها) لأنه تصرف فيما لا يملكه ولا أذن فيه مالكه فلم يجز كبيعه، ويحتمل أن يجوز ويقف على إجازة المالك بناء على بيع العين بغير إذن مالكها * (مسألة) * (يجوز للمستأجر إجارة العين لمن يقوم مقامه من المؤجر وغيره) يجوز للمستأجر إجارة العين المستأجرة إذا قبضها نص عليه أحمد وهو قول سعيد بن المسيب وابن سبرين ومجاهد وعكرمة وأبي سلمة بن عبد الرحمن والنخعي والشعبي والثوري والشافعي وأصحاب الرأي، وذكر القاضي فيه رواية أخرى أنه لا يجوز لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ربح ما لم يضمن والمنافع لم تدخل في ضمانه، ولأنه عقد على ما لم يدخل في ضمانه فلم يجز كبيع المكيل والموزون قبل قبضه، والأول أصح لأن قبض العين قام مقام قبض المنافع بدليل أنه يجوز التصرف فيها فجاز العقد عليها كبيع الثمرة على الشجرة وبهذا الأصل يبطل قياس الرواية الأخرى.
إذا ثبت هذا فإنه لا تجوز إجارته إلا لمن يقوم مقامه أو دونه في الضرر لأن هذه المنفعة صارت مملوكة له فله أن يستوفيها بنفسه وبنائه، والمستأجرة لا يجوز إجارتها لمن هو أكثر ضرراً منه ولا لمن يخالف ضرره ضرره لما نذكره

(6/40)


(فصل) فأما إجارتها قبل قبضها فتجوز من غير المؤجر في أحد الوجهين وهو قول بعض الشافعية لأن قبض العين لا ينتقل به الضمان إليه فلم يقف جواز التصرف عليه، والثاني لا يجوز وهو قول أبي حنيفة، والمشهور من قولي الشافعي لأن المنافع مملوكة بعقد معاوضة فاعتبر في جواز العقد عليها
القبض كالأعيان، وأما إجارتها للمؤجر قبل القبض فإذا قلنا لا يجوز من غير المؤجر ففيها ههنا وجهان (أحدهما) لا يجوز كغيره (والثاني) يجوز لأن القبض لا يتعذر عليه بخلاف الأجنبي وأصلهما بيع الطعام قبل قبضه وهل يصح من بائعه؟ على روايتين وتجوز إجارتها من المؤجر بعد قبضها وبه قال الشافعي، وقال أبو حنيفة لا يجوز لأنه يؤدي إلى تناقض الأحكام لأن التسليم مستحق من المكري فإذا اكتراها صار مستحقاً له فيصير مستحقا لما يستحق عليه وهو تناقض ولنا أن كل عقد جاز مع الأجنبي جاز مع العاقد كالبيع وما ذكروه لا يصح لأن التسليم قد حصل وهذا المستحق له تسليم آخر ثم يبطل بالبيع فإنه يستحق عليه تسليم العين، فإذا اشتراها استحق تسليمها فإن قبل التسليم ههنا مستحق في جميع المدة قلنا المستحق تسليم العين، وقد حصل وليس عليه تسليم آخر غير أن العين من ضمان المؤجر فإذا تعذرت المنافع بتلف الدار أو غصبها رجع عليها لأنها تعذرت بسبب كان في ضمانه

(6/41)


* (مسألة) * (وتجوز إجارتها بمثل الأجرة وزيادة، وعنه لا تجوز بزيادة، وعنه إن جدد فيها عمارة جازت الزيادة وإلا فلا) إذا قلنا بجواز إجارة العين المستأجرة جازت بمثل الأجرة وزيادة نص عليه أحمد، وروي عن عطاء والحسن والزهري وبه قال الشافعي وأبو ثور وابن المنذر، وعن أحمد لا تجوز بزيادة تروى كراهة ذلك عن ابن المسيب وأبي سلمة وابن سيرين ومجاهد وعكرمة والنخعي وعنه إن جدد فيها عمارة جازت الزيادة وإلا فلا فإن فعل تصدق بالزيادة روى ذلك عن الشعبي وبه قال الثوري وأبو حنيفة لأنه يربح بذلك فيما لم يضمن، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ربح ما لم يضمن ولأنه يربح فيما لم يضمن فلم يجز كما لو ربح في الطعام قبل قبضه ويخالف ما إذا عمل فيها فإن الربح في مقابلة العمل، وعن أحمد رواية أخرى أن أذن له المالك في الزيادة جاز وإلا لم يجز ولنا أنه عقد يجوز برأس المال فجاز بزيادة كبيع المبيع بعد قبضه وكما لو أحدث فيها عمارة لا يقابلها جزء من الأجر، وأما الخبر فإن المنافع قد دخلت في ضمانه من وجه بدليل أنها لو فاتت من غير
استيفائه كانت من ضمانه، والقياس على بيع الطعام قبل قبضه لا يصح فإنه لا يجوز وإن لم يربح فيه، وتعليلهم بأن الربح في مقابلة عمله ملغي بما إذا كنس الدار ونظفها فإن ذلك يزيد في أجرها عادة والله أعلم

(6/42)


(فصل) وسئل أحمد عن الرجل يتقبل العمل من الأعمال فيقبله بأقل من ذلك أيجوز له الفضل؟ قال ما أدري هي مسألة فيها بعض الشئ، قلت أليس كان الخياط أسهل عندك إذا قطع الثوب أو غيره إذا عمل في العمل شيئا؟ قال إذا عمل فهو أسهل.
قال النخعي لا بأس ان يتقبل الخياط الثياب بأجر معلوم ثم يقبلها بعد ذلك بعد أن يعين فيها أو يقطع أو يعطيه سلوكا أو إبراً فإن لم يعين فيها بشئ فلا يأخذن فضلا.
وهذا يحتمل أن يكون النخعي قاله بناء على مذهبه في أن من استأجر شيئاً لا يؤجره بزيادة، وقياس المذهب جواز ذلك سواء أعان فيها بشئ أو لم يعن لأنه إذا جاز أن يقبله بمثل الأجر الأول جاز بزيادة عليه كالبيع وكإجارة العين * (مسألة) * (وللمستعير إجارتها إذا أذن له المعير مدة بعينها) لأنه لو أذن له في بيعها جاز فكذلك إذا أذن له في إجارتها ولأن الحق له فجاز باذنه ولابد من تعيين المدة في الإذن لأن الإجارة عقد لازم لا تجوز إلا مدة معينة * (مسألة) * (وتجوز إجارة الوقف) لأن منافعه مملوكة للموقوف عليه فجاز إجارتها كالمستأجر * (مسألة) * (فإن مات المؤجر فانتقل إلى من بعده لم تفسخ الإجارة في أحد الوجهين) وللثاني حصته من الأجر لأنه أجر ملكه في زمن ولايته فلم تبطل بموته كما لو أجر ملكه الطلق

(6/43)


(والثاني) تنفسخ الإجارة فيما بقي من المدة لأنا تبينا أنه أجر ملكه وملك غيره فصح في ملكه دون ملك غيره كما لو أجر دارين إحداهما له والأخرى لغيره بخلاف الطلق فإن المالك يملك من جهة الموروث فلا يملك إلا ما خلفه، وما تصرف فيه في حياته لا ينتقل الى الوارث والمنافع التي أجرها قد خرت عن ملكه بالإجارة فلا تنتقل الى الوارث، والبطن الثاني في الوقف يملكون من جهة الواقف
فما حدث فيها بعد البطن الأول كان ملكا لهم فقد صادف تصرف المؤجر في ملكهم من غير إذنهم ولا ولاية له عليهم ويتخرج أن تبطل الإجارة كلها بناء على تفريق الصفقة وهذا التفصيل مذهب الشافعي فعلى هذا إن كان المؤجر قبض الأجر كله وقلنا تنفسخ الإجارة فلمن انتقل إليه الوقف أخذه ويرجع المستأجر على ورثة المؤجر بحصة الباقي من الأجر.
وإن قلنا لا تنفسخ رجع من انتقل إليه الوقف على التركة بحصته * (مسألة) * (وإن أجر الولي اليتيم أو ماله مدة فبلغ في أثنائها فليس له فسخ الإجارة ذكره أبو الخطاب) لأنه عقد لازم عقده بحق الولاية فلم يبطل بالبلوغ كما لو باع داره أو زوجه، ويحتمل أن تبطل الاجارة فيما يعد البلوغ لزوال الولاية لما ذكرنا في إجارة الوقف.
ويحتمل أنه إذا أجره مدة يتحقق فيها بلوغه وهو أن يؤجر ابن أربع عشرة سنتين فيبطل في السادس عشر لأننا نتيقن أنه أجره فيها بعد بلوغه، وهل يصح في الخامس عشر؟ على وجهين بناء على تفريق الصفقة، وإن لم يتحقق فيها بلوغه

(6/44)


كالذي أجره الخامس عشر وحده فبلغ في أثنائه فيكون فيه ما ذكرنا في صدر الفصل، لأنا لو قلنا يلزم الصبي بعقد الولي مدة يتحقق فيها بلوغه أفضى إلى أن يعقد على منافعه طول عمره وإلى أن يتصرف فيه في غير زمن ولايته عليه، ولا يشبه النكاح لأنه لا يمكن تقدير مدته فإنه إنما يعقد للأبد، وبهذا قال الشافعي، وقال أبو حنيفة إذا بلغ لصبي فله الخيار لأنه عقد على منافعه في حال لا يملك التصرف في نفسه فإذا ملك ثبت له الخبيار كالأمة إذا عتقت تحت زوج ولنا أنه عقد لازم عقد عليه قبل أن يملك التصرف فإذا ملكه لم يثبت له الخيار كالأب إذا زوج ولده والأمة إنما ثبت لها الخيار إذا عتقت تحت عبد لأجل العيب لا لما ذكره، بدليل أنها لو عتقت تحت حر لم يثبت لها الخيار، إن مات الولي المؤجر للصبي أو ماله أو عزل وانتقلت الولاية إلى غيره لم يبطل عقده لأنه تصرف وهو من أهل التصرف في محل ولايته فلم يبطل تصرفه بموته أو عزله كما لو مات ناظر الوقف أو عزل أو مات الحاكم بعد تصرفه فيما له النظر فيه، ويفارق ما لو أجر الموقوف عليه الوقف مدة ثم مات في أثنائها لأنه أجر ملك غيره بغير إذنه في مدة لا ولاية له فيها، وههنا إنما يثبت للوالي الثاني التصرف
فيما لم يتصرف فيه الاولى وهذا العقد قد تصرف فيه الأول فلم يثبت للثاني ولاية على ما تناوله الخبر * (مسألة) * (فإن أجر السيد عبده مدة ثم أعتقه في أثنائها صح العتق) ولم يبطل عقد الإجارة في قياس المذهب ولا يرجع العبد على مولاه بشئ.
وهذا أحد قولي

(6/45)


الشافعي، وقال في القديم يرجع على مولاه بأجر المثل لانه المنافع تستوفى منه بسبب كان من جهة السيد فرجع عليه كما لو أكرهه بعد عتقه على ذلك العمل ولنا أنها منفعة استحقت بالعقد قبل العتق فلم يرجع ببدلها كما لو زوج أمته ثم أعتقها بعد دخول الزوج بها فإن ما يستوفيه السيد لا يرجع به عليه.
ويخالف المكره فإنه تعدى بذلك، وقال أبو حنيفة للعبد الخيار في الفسخ أو الإمضاء كالصبي إذا بلغ للمعنى الذي ذكره.
ثم ولنا أنه عقد لازم على ما يملك فلم ينفسخ بالعتق ولا يزول ملكه عنه كما لو زوج أمته ثم باعها إذا ثبت هذا فإن نفقة العبد إذا لم تكن مشروطة على المستأجر فهي على معتقه لأنه كالباقي في ملكه لكونه يملك عوض نفعه، ولأن العبد عاجز عن نفقته لأنه مشغول بالإجارة ولم تجب على المستأجر لأنه استحق منفعته بعوض غير نفقته لم يبق إلا أنها على المولى، ويتخرج أن تنفسخ الإجارة كالصبي والله أعلم * (فصل) * قال رحمه الله (وإجارة العين تنقسم إلى قسمين (أحدهما) أن تكون على مدة كإجارة الدار شهراً والأرض عاما والعبد للخدمة أو للرعي مدة معلومة ويسمى الأجير فيها الأجير الخاص) تكون في الآدمي وغيره، فأما غير الآدمي فمثل إجارة الدار شهراً والأرض عاما.
وأما إجارة الآدمي فمثل أن يستأجر رجلا يبني معه يوما أو يخيط له شهراً فهذا يسمى الأجير الخاص لأن المستأجر يختص بمنفعته في مدة الإجارة لا يشاركه فيها غيره * (مسألة) * (ويشترط أن تكون المدة معلومة يغلب على الظن بقاء العين فيها وإن طالت)

(6/46)


أما ضبطها بالشهر والسنة فلا نعلم فيه خلافاً وإنما اشترط العلم بالمدة لأنها هي الضابطة فاشترط معرفتها كعدد المكيلات فيما بيع بالكيل، فإن قدر المدة بسنة مطلقة حمل على السنة الهلالية لأنها المعهودة
قال الله تعالى (يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج) فوجب أن يحمل العقد عليه، فإن قال هلالية كان توكيداً، وإن قال عددية أو سنة بالأيام فهي ثلثمائة وستون يوماً لأن الشهر العددي ثلاثون يوما.
وإن استأجر سنة هلالية في أولها عد اثني عشر شهرا بالأهلة سواء كان الشهر تاما أو ناقصاً لأن الشهر الهلالي ما بين هلالين ينقص مرة ويزيد أخرى.
وكذلك إن كان العقد على أشهر دون السنة، وإن جعلا المدة سنة رومية أو شمسية أو فارسية أو قبطية وهما يعلمانها جاز وهي ثلثمائة وخمسة وستون يوما وربع يوم وإن جهلا ذلك أو أحدهما لم يصح (فصل) فإن أجره إلى العيد انصرف إلى الذي يليه وتعلق بأول جزء منه لأنه جعل غاية فتنتهي مدة الإجارة بأوله.
وقال القاضي: لابد من تعيين العيد فطراً أو أضحى من هذه السنة أو من سنة كذا.
وكذلك الحكم إن علقه بشهر يقع اسمه على شهرين كجمادى وربيع يجب على قوله ان يذكر الأول أو الثاني من سنة كذا.
وإن علقه بشهر مفرد كرجب فلابد أن يبينه من أي سنة، وإن علقه بيوم بينه من أي أسبوع، وإن علقه بعيد من أعياد الكفار وهما يعلمانه صح وإلا لم يصح (فصل) ولا تتقدر أكثر مدة الإجارة بل يجوز أجرة العين مدة يغلب على الظن بقاء العين فيها

(6/47)


وإن طالت.
وهذا قول عامة أهل العلم، غير أن أصحاب الشافعي اختلفوا في مذهبه فمنهم من قال له قولان (أحدهما) كما ذكرنا وهو الصحيح (والثاني) لا يجوز أكثر من سنة لأن الحاجة لا تدعو إلى أكثر منها ومنهم من قال له قول ثالث أنها لا تجوز أكثر من ثلاثين سنة.
وحكى القاضي في كتاب الخلاف عن ابن حامد أن أصحابنا اختلفوا في مدة الإجارة فمنهم من قال لا تجوز أكثر من سنة.
واختاره ومنهم من قال إلى ثلاثين سنة لأن الغالب أن الأعيان لا تبقى أكثر منها وتتغير الأسعار والأجر ولنا قوله تعالى إخبارا عن شعيب عليه السلام أنه قال (على أن تأجرني ثماني حجج) وشرع من قبلنا شرع لنا ما لم يقم على نسخه دليل.
ولأن ما جاز العقد عليه سنة جاز أكثر منها كالبيع والنكاح والمساقاة والتقدير بسنة وثلاثين تحكم لا دليل عليه وليس هو بأولى من التقدير بزيادة عليه أو نقصان منه (فصل) إذا استأجر سنين لم يحتج إلى تقسيط الأجر على كل سنة في ظاهر كلام أحمد كما لو
استأجر سنة لم يحتج إلى تقسيط أجر كل شهر بالاتفاق، وكذلك لا يفتقر إلى تقسيط أجر كل يوم إذا استأجر شهراً، ولأن المنفعة كالأعيان في البيع، ولو اشتملت الصفقة على أعيان لم يلزمه تقدير ثمن كل عين كذلك، ههنا وقال الشافعي في أحد قوليه يفتقر إلى تقسيط أجر كل سنة لأن المنافع تختلف باختلاف السنين فلا يأمن ان ينفسخ العقد فلا يعلم بم يرجع وهذا يبطل بالشهور فإنه لا يفتقر الى تقسيط الأجر على كل شهر مع الاحتمال الذي ذكروه

(6/48)


* (مسألة) * (ولا يشترط أن تلي العقد فلو أجره سنة خمس في سنة أربع صح) سواء كانت العين مشغولة وقت العقد أو لم تكن وكذلك إن أجره شهر رجب في المحرم وبه قال أبو حنيفة وقال الشافعي لا يصح إلا أن يستأجرها من هي في إجارة، ففيه قولان لأنه عقد على ما يمكن تسليمه في الحال فأشبه إجارة العين المغصوبة قال ولا يجوز أن يكتري بعيراً بعينه إلا عند خروجه لذلك ولنا أنها مدة يجوز العقد عليها مع غيرها فجاز العقد عليها مفردة مع عموم الناس كالتي تلي العقد وإنما تشترط القدرة على التسليم عند وجوبه كالسلم فانه لا يشترط وجود القدرة عليه حين العقد، ولا فرق بين كونها مشغولة أو غير مشغولة لما ذكرناه، وما ذكره يبطل بما إذا أجرها من المكتري فان يصح مع ما ذكروه.
إذا ثبت هذا فإن الإجارة إن كانت على مدة تلي العقد لم يحتج الى ذكر ابتدائها من حين العقد وإن كانت لا تليه فلابد من ذكره لأنها أحد طرفي العقد فاحتيج إلى معرفته كالانتهاء، وإن أطلق فقال أجرتك سنة أو شهراً صح وكان ابتداؤها من حين العقد وهو قول أبي حنيفة ومالك وقال الشافعي وبعض أصحابنا لا يصح حتى يسمي الشهر ويذكر أي سنة هي قال أحمد في رواية إسماعيل ابن سعيد إذا استأجر أجيراً شهراً فلا يجوز حتى يسمي الشهر ولنا قول الله تعالى حكاية عن شعيب عليه السلام قال (على أن تأجرني ثماني حجج) لم يذكر ابتداءها ولأنه تقدير بمدة ليس فيها قربة فإذا أطلقها وجب أن تلي السبب كمدة السلم والايلاء وتفارق النذر فإنه قربة

(6/49)


(فصل) إذا تمت الإجارة وكانت على مدة ملك المستأجر المنافع المعقود عليها إلى المدة وتحدث
على ملكه وبه قال الشافعي وقال أبو حنيفة تحدث على ملك المؤجر ولا يملكها المستأجر بالعقد لأنها معدومة فلا تكون مملوكة كالولد والتمرة ولنا أن الملك عبارة عن حكم يحصل به تصرف مخصوص وقد ثبت ان المنفعة المستقبلة كان لمالك العين أن يتصرف فيها كتصرفه في العين فلما أجرها كان المستأجر مالكا للتصرف فيها كما كان يملكه المؤجر فثبت أنها كانت مملوكة لمالك العين ثم انتقلت إلى المستأجر بخلاف الولد والتمرة فإن المستأجر لا يملك التصرف فيها قولهم إن المنفعة معدومة قلنا هي مقدرة الوجود لأنها جعلت موردا للفعل والقدر لا يرد إلا على موجود * (مسألة) * (وإذا أجره في أثناء شهر سنة استوفى شهراً بالعدد وسائرها بالأهلة) لأنه تعذر إتمامه بالهلال فتممناه بالعدد وأمكن استيفاء ما عداه بالهلال فوجب ذلك لأنه الأصل وعنه يستوفي الجميع بالعدد لأنها مدة يستوفى بعضها بالعدد فوجب استيفاء جميعها به كما لو كانت المدة شهراً واحداً ولأن الشهر الأول ينبغي أن يكمل من الشهر الذي يليه فيحصل ابتداء الشهر الثاني في أثنائه وكذلك كل شهر يأتي بعده ولابي حنيفة والشافعي كالروايتين، وكذلك الحكم في كل ما يعتبر فيه الأشهر كعدة الوفاة وشهري صيام الكفارة

(6/50)


(فصل) ومن اكترى دابة إلى العشاء فآخر المدة غروب الشمس وبه قال الشافعي وقال أبو حنيفة وأبو ثور آخرها زوال الشمس لأن العشاء آخر النهار وآخره النصف الآخر من الزوال وكذلك جاء في حديث ذي اليدين عن أبي هريرة قال صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إحدى صلاة العشي يعني الظهر أو العصر هكذا تفسيره ولنا قوله تعالى (من بعد صلاة العشاء) يعني العتمة وقال النبي صلى الله عليه وسلم " لولا أن أشق على أمتي لأخرت العشاء إلى ثلث الليل " وإنما تعلق الحكم بغروب الشمس لأن هذه الصلاة تسمى العشاء الآخرة فيدل على أن الأولى المغرب وهو في العرف كذلك فوجب أن يتعلق الحكم به لأن المدة إذا جعلت إلى وقت تعلقت بأوله كما لو جعلتا إلى الليل، وما ذكروه لا يصح لأن لفظ العشي غير لفظ
العشاء فلا يجوز الاحتجاج بأحدهما على الآخر حتى يقوم دليل على أن معنى اللفظين واحد ثم لو ثبت أن معناهما واحد غير أن أهل العرف لا يعرفون غير ما ذكرنا، فإن اكتراها إلى الليل فهو إلى أوله وكذلك إن اكتراها إلى النهار فهو إلى أوله، ويتخرج أن يدخل الليل في المدة الأولى والنهار في الثانية لما ذكرنا في مدة الخيار، وإن اكتراها نهاراً فهو إلى غروب الشمس وإن اكتراها ليلة فهي إلى طلوع الفجر في قول الجميع لأن الله تعالى قال في ليلة القدر (سلام هي حتى مطلع الفجر) وقال (أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم) ثم قال (فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم وكلوا

(6/51)


واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل) (فصل) وإن اكترى فسطاطا إلى مكة ولم يقل متى اخرج فالكراء فاسد وبه قال أبو ثور وهو قياس قول الشافعي وقال أصحاب الرأي يجوز استحسانا بخلاف القياس ولنا أنها مدة غير معلومة الابتداء فلم يجز كما لو قال أجرتك داري من حين يخرج الحاج إلى رأس السنة وقد اعترفوا بمخالفته الدليل وما ادعوه دليلا تمنع كونه دليلا (القسم الثاني) إجارتها العمل معلوم كإجارة الدابة للركوب إلى موضع معين أو بقر لحرث مكان أو دياس زرع واستئجار عبد ليدله على طريق أو رحى لطحن قفزان معلومة فيشترط معرفة العمل وضبطه بما لا يختلف لأن الإجارة عقد معاوضة فوجب أن يكون العوض فيها معلوما لئلا يفضي إلى الاختلاف والتنازع كقولنا في البيع، والعلم بمقدار المنفعة إما أن يحصل بتقدير المدة كما ذكرنا في إجارة الدار وخدمة العبد مدة معلومة وإما بتقدير العمل ووصف ما يعمله وضبطه بما لا يختلف فيه كالمبيعات (فصل) يجوز أن يكتري بقرا لحرث مكان لأن البقر خلقت للحرث ولذلك وقال النبي صلى الله عليه وسلم " بينما رجل يسوق بقرة أراد أن يركبها فقالت إني لم أخلق لهذا إنما خلقت للحرث " متفق عليه، ويحتاج إلى معرفة الأرض وتقدير العمل، فأما الأرض فلا تعرف إلا بالمشاهدة فإنها تختلف فتكون صلبة تتعب

(6/52)


البقر والحراث وتكون فيها حجارة تتعلق فيها السكة وتكون رخوة يسهل حرثها، ولا تنضبط بالصفة فتحتاج إلى الرؤية.
وأما تقدير العمل فيجوز بأحد شيئين إما بالمدة كيوم وإما بمعرفة الأرض كهذه
القطعة أو من ههنا إلى ههنا أو بالمساحة كجريب أو جريبين أو كذا ذراعا في كذا كل ذلك جائز لحصول العلم به فان قدره بالمدة فلابد من معرفة البقر التي يعمل عليها لأن الغرض يختلف باختلافها بالقوة والضعف ويجوز أن يستأجر البقر مفردة ليتولى رب الأرض الحرث بها ويجوز أن يستأجرها مع صاحبها ويجوز استئجارها بآلتها وبدونها وتكون الآلة من عند صاحب الأرض ويجوز استئجار البقر وغيرها لدواس الزرع لأنها منفعة مباحة مقصودة أشبهت الحرث ويجوز على مدة أو زرع معين أو موصوف كما ذكرنا في الحرث، ومتى كان على مدة احتيج إلى معرفة الحيوان لأن الغرض يختلف به فمنه ما روثه ظاهر ومنه نجس، ولا يحتاج إلى معرفة عين الحيوان ويجوز أن يستأجر الحيوان بآلته وغيرها مع صاحبه ومنفرداً كما ذكرنا في الحرث (فصل) ويجوز استئجار غنم لتدوس له طينا أو زرعا ولأصحاب الشافعي فيه وجه أنه لا يجوز لأنها منفعة غير مقصودة من هذا الحيوان.
ولنا أنها منفعة مباحة يمكن استيفاؤها أشبهت سائر المنافع المباحة وكالتي قبلها (فصل) وإن اكترى حيوانا لعمل لم يخلق له كمن استأجر البقر للركوب أو الحمل أو الإبل

(6/53)


والحمير للحرث جاز لأنها منفعة مقصودة أمكن استيفاؤها من الحيوان لم يرد الشرع بتحريمها فجاز كالتي خلقت له، ولأن مقتضى الملك جواز التصرف بكل ما تصلح له العين المملوكة ويمكن تحصيلها منها ولا يمتنع ذلك إلا بمعارض راجح أو ما ورد بتحريمه نص أو قياس صحيح أو رجحان مضرة على منفعة ولم يوجد شئ منها، كثير من الناس يحملون على البقر ويركبونها وفي بعض البلاد يحرث على الإبل والبغال والحمير فيكون معنى خلقها للحرث إن شاء الله تعالى أنه معظم نفعها ولا يمنع ذلك الانتفاع بها في شئ آخر كما أن الخيل خلقت للركوب والزينة ويباح أكلها، واللؤلؤ خلف للحلية ويجوز استعماله في الأدوية وغيرها (فصل) ويجوز استئجار بهيمة لإدارة الرحى ويفتقر لشيئين معرفة الحجر بالمشاهدة أو الصفة لأن عمل البهيمة يختلف فيه بثقله وخفته فيحتاج صاحبها إلى معرفته (الثاني) تقدير العمل بالزمان كيوم
أو يومين أو بالطعام فيقول قفيزاً أو قفيزين وذكر جنس المطحون إن كان يختلف لأن منه ما يسهل طحنه ومنه ما يشق، وإن اكتراها لإدارة دولاب فلابد من مشاهدته ومشاهدة دلائه لاختلافها وتقدير ذلك بالزمان أو ملء، هذا الحوض، وكذلك إن اكتراها للسقي بالغرب فلابد من معرفته ولأنه يختلف بكبره وصغره، ويقدر بالزمان أو الغروب أو بملء بركة، يجوز تقدير ذلك بسقي أرض لأن ذلك يختلف فقد تكون الأرض شديدة العطش لا يرويها القليل وتكون قريبة العهد بالماء فيرويها

(6/54)


اليسير، وإن قدره بسقي ماشية احتمل أن لا يجوز لذلك ويحتمل الجواز لأن شربها يتقارب في الغالب ويجوز استئجار دابة ليستقي عليها ماء، ولابد من معرفة الآلة التي يسقي فيها من راوية أو قرب أو جرار إما بالرؤية والماء بالصفة، ويقدر العمل بالزمان أو بالعدد أو بملء شئ معين، فإن قدره بعدد المرات احتاج إلى معرفة المكان الذي يستقي منه والذي يذهب إليه لأن ذلك يختلف بالقرب والبعد والسهولة والحزونة، وإن قدره إلى شئ معين احتاج إلى معرفته ومعرفة ما يستقي منه، ويجوز أن يكتري البهيمة بآلتها وبدونها مع صاحبها ووحدها، فإن اكتراها لبل تراب معروف جاز لأنه يعلم بالعرف وكل موضع وقع العقد على مدة فلابد من معرفة الظهر الذي يعمل عليه لأن الغرض يختلف باختلافها في القوة والضعف وإن وقع على عمل معين لم يحتج إلى ذلك لأنه لا يختلف ويحتمل أن يحتاج إلى ذلك في استقاء الما عليه لأن منه ما روثه وجسمه طاهر كالخيل والبقر ومنه ما روثه نجس وفي جسمه اختلاف كالبغال فربما نجس يد المستقي أو دلوه فيتنجس الماء به فيختلف الغرض بذلك فاحتيج إلى معرفته * (مسألة) * (يجوز استئجار رجل ليدله على طريق) لأن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر استأجرا عبد الله بن الأريقط هاديا خريتا وهو الماهر بالهداية ليدلهما على الطريق إلى المدينة

(6/55)


* (مسألة) * (ويصح استئجار رحى لطحن قفزان معلومة)
ويحتاج إلى معرفة جنس المطحون براً أو شعيراً أو ذرة أو غيره لأن ذلك يختلف فمنه ما يسهل طحنه ومنه ما يعسر فاحتيج إلى معرفته لتزول الجهالة (فصل) يجوز استئجار كيال أو وزان لعمل معلوم أو في مدة معلومة وبه قال مالك والثوري والشافعي وأصحاب الرأي لا نعلم فيه خلافاً، وقد روي في حديث سويد بن قيس أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاشترى رجل منا سراويل وثم رجل يزن بأجر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " زن وأرجح " رواه أبو داود (فصل) ويجوز استئجار رجل ليلازم غريما تستحق ملازمته وقد روي عن أحمد أنه كره ذلك وقال: غير هذا أعجب إلي وإنما كرهه لأنه يؤول إلى الخصومة وفيه تضييق على المسلم ولا يأمن أن يكون ظالما فيساعده على ظلمه وروي عنه أنه قال لا بأس به لأن الظاهر أنه بحق فإن الحاكم في الظاهر لا يحكم إلا بحق ولهذا أجزنا للموكل فعله (فصل) ويجوز الاستئجار لحفر الآبار والأنهار والقني لأنها منفعة معلومة يجوز التطوع بها فجاز الاستئجار عليها كالخدمة ولابد من تقدير العمل بمدة أو عمل معين فإن قدره بمدة نحو أن يستأجره شهرا ليحفر له بئراً أو نهراً لم يحتج إلى معرفة القدر وعليه الحفر في ذلك الشهر قليلا حفر أو كثير

(6/56)


قال شيخنا ويفتقر إلى معرفة الأرض التي يحفر فيها وقال بعض أصحابنا لا يحتاج إلى ذلك لأن الغرض لا يختلف بذلك والأول أولى إن شاء الله تعالى لأن الأرض الصلبة يشق حفرها واللينة يسهل، وإن قدره بالعمل فلابد من معرفة الموضع بالمشاهدة لكونها تختلف بالسهولة والصلابة وذلك لا ينضبط بالصفة، ويعرف دور البئر وعمقها وطول النهر وعرضه وعمقه لأن العمل يختلف بذلك، وإذا حفر بئراً فعليه شيل التراب لأنه لا يمكنه الحفر إلا بذلك فقد تضمنه العقد، فإن تهور تراب من جانبيها أو سقطت فيه بهيمة أو نحو ذلك لم يلزمه شيله وكان على صاحب البئر لأنه سقط فيها من ملكه ولا يتضمن عقد الإجارة رفعه، وإن وصل إلى صخرة أو جماد يمنع الحفر لم يلزمه حفره لأن ذلك مخالف لما شاهده من الأرض وإنما اعتبرت مشاهدة الأرض لأنها تختلف فإذا ظهر فيها ما يخالف المشاهدة كان له
الخيار في الفسخ فإن فسخ كان له الأجر بحصة ما عمل فيقسط الأجر على ما بقي وما عمل، فيقال كم أجر ما عمل وكم أجر ما بقي؟ فيقسط الأجر المسمى عليهما ولا يجوز تقسيطه على عدد الأذرع، لأن أعلى البئر يسهل نقل التراب منه وأسفله يشق ذلك فيه، وإن نبع منه ما منعه من الحفر فهو كالصخرة على ما ذكرنا (فصل) ويجوز استئجار ناسخ ينسخ له كتباً من الفقه والحديث والشعر المباح وسجلات نص عليه في رواية مثنى ابن جامع، وسأله عن كتابة الحديث بالأجر فلم ير به بأسا، ولابد من التقدير بالمدة

(6/57)


أو العمل فإن قدره بالعمل ذكر عدد الورق وقدره وعدد السطور في كل ورقة وقدر الحواشي ودقة القلم وغلظ فإن عرف الخط بالمشاهدة جاز وإن أمكن ضبطه بالصفة ضبطه والا فلابد من المشاهدة لأن الأجر يختلف باختلافه، ويجوز تقدير الأجر بأجزاء الفرع وبأجزاء الأصل، وإن قاطعه على نسخ الأصل بأجر واحد جاز فان أخطأ بالشئ اليسير عفي عنه لأنه لا يمكن التحرز منه، وإن كان كثيراً بحيث يخرج عن العادة فهو عيب يرد به، قال ابن عقيل ليس له محادثة غيره حال النسخ ولا التشاغل بما يشغل سره ويوجب غلطه ولا لغير تحديثه وشغله، وكذلك الأعمال التي تختل بشغل السر والقلب كالقصارة والنساجة ونحوهما، ويجوز أن يستأجر على نسخ مصحف في قول أكثر أهل العلم، منهم جابر بن زيد ومالك بن دينار وبه قال أبو حنيفة والشافعي وابو ثور وابن المنذر، وقال ابن سيرين لا بأس ان يستأجر الرجل شهراً ويستكتبه مصحفا، وكره علقمة كناية المصحف بالأجر ولعله يرى ذلك مما يختص كون فاعله من أهل القربة فكره الأجر عليه كالصلاة ولنا أنه فعل مباح يجوز أن ينوب فيه الغير عن الغير فجاز أخذ الأجرة عليه ككتابة الحديث، وقد جاء في الخبر " أحق ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله " (فصل) يجوز أن يستأجر لحصاد زرعه لا نعلم فيه خلافا وكان إبراهيم بن أدهم يؤجر نفسه لحصاد الزرع، ويجوز تقديره بمدة وبعمل مثل أن يقاطعه على حصاد زرع معين، ويجوز أن يستأجر رجلا لسقي

(6/58)


زرعه وتنقيته ودياسه ونقله إلى موضع معين، ويجوز أن يستأجر رجلا يحتطب له لأنه عمل مباح تدخله النيابة أشبه حصاد الزرع.
قال أحمد في رجل استأجر أجيراً على أن يحتطب له على حمارين كل يوم فكان الرجل ينقل عليهما وعلى حمير لرجل آخر ويأخذ منه الأجرة فإن كان يدخل عليه ضرر يرجع عليه بالقيمة، وظاهر هذا أن المستأجر يرجع على الأجير بقيمة ما استضر باشتغاله عن عمله لقوله إن كان يدخل عليه ضرر رجع بالقيمة فاعتبر الضرر.
وظاهر هذا أنه إذا لم يستضر لا يرجع بشئ لأنه اكتراه لعمل فوفاه على التمام فلم يلزمه شئ كما لو استأجره بعمل فكان يقرأ القرآن في حال عمله فإن ضر المستأجر رجع عليه بقيمة ما فوت عليه.
ويحتمل أنه أراد أنه يرجع عليه بقيمة ما عمله لغيره لأنه صرف منافعه المعقود عليها إلى عمل غير المستأجر فكان عليه قيمتها كما لو عمل لنفسه.
وقال القاضي معناه أنه يرجع عليه بالأجر الذي أخذه من الآخر لأن منافعها في هذه المدة مملوكة لغيره فما حصل في مقابلتها يكون الذي استأجره (فصل) يجوز الاستئجار لاستيفاء القصاص في النفس وما دونها، وبه قال مالك والشافعي وأبو ثور، وقال أبو حنيفة لا يجوز في النفس لأن عدد الضربات يختلف وموضع الضربات غير متعين إذ يمكن أن يضرب مما يلي الرأس ومما يلي الكتف فكان مجهولا ولنا أنه حق يجوز التوكيل في استيفائه لا يختص فاعله أن يكون من أهل القربة فجاز الاستئجار

(6/59)


عليه كالقصاص في الطرف.
وقوله إن عدد الضربات يختلف وهو مجهول يبطل بخياطه الثوب فإن عدد الغرزات مجهول، وقوله إن محله غير متعين، قلنا هو متقارب فلا يمنع ذلك صحته كموضع الخياطة من حاشية الثوب (فصل) ويجوز أن يستأجر سمساراً يشتري له ثيابا، ورخص فيه ابن سيرين وعطاء والنخعي، وكرهه الثوري وحماد ولنا أنها منفعة مباحة تجوز النيابة فيها فجاز الاستئجار عليها كالبناء، وتجوز على مدة معلومة مثل أن يستأجره عشرة أيام يشتري له فيها لأن المدة معلومة والعمل معلوم فأشبه الخياط والقصار، وإن عين
العمل دون الزمان فجعل له من كل ألف درهم شيئا معلوما صح أيضا، وإن قال كلما اشتريت ثوباً فلك درهم أجراً وكانت الثياب معلومة بصفة أو مقدرة بثمن جاز، وإن لم تكن كذلك فظاهر كلام أحمد أنه لا يجوز لأن الثياب تختلف باختلاف أثمانها والأجر يختلف باختلافها فإن اشترى فله أجر مثله، وهذا قول أبي ثور وابن المنذر لأنه عمل عملا بعوض لم يسلم له فكان له أجر المثل كسائر الإجارات الفاسدة (فصل) وإن استأجره ليبيع له ثيابا بعينها صح وبه قال الشافعي، وقال أبو حنيفة لا يصح لأن ذلك يتعذر عليه فأشبه ضراب الفحل وحمل الحجر الكبير ولنا أنه عمل مباح معلوم تجوز النيابة فيه فجاز الاستئجار عليه كشراء الثياب، ولأنه يجوز الاستئجار

(6/60)


عليه مقدراً بزمن فجاز مقدراً بالعمل كالخياطة وقولهم أنه يتعذر ممنوع فإن الثياب لا تنفك عن راغب فيها ولذلك صحت المضاربة ولا تكون إلا بالبيع والشراء بخلاف ما قاسوا عليه فإنه يتعذر، وإن استأجره على شراء ثياب معينة من رجل معين احتمل أن لا يصح لأنه قد يتعذر لامتناع صاحبها من البيع فيتعذر تحصيل العمل بحكم الظاهر بخلاف البيع ويحتمل أن يصح لأنه ممكن في الجملة فإن حصل من ذلك شئ استحق الأجر وإلا بطلت الإجارة كما لو لم يعين البائع ولا المشتري * (فصل) * قال الشيخ رحمه الله (الضرب الثاني عقد على منفعة في الذمة مضبوطة بصفات السلم كخياطة ثوب وبناء دار وحمل إلى موضع معين ولا يكون الأجير فيها إلا آدمياً جائز التصرف، ويسمى الأجير المشترك) يجوز للآدمي أن يؤجر نفسه بغير خلاف وقد أجر موسى عليه السلام نفسه لرعاية الغنم، واستأجر النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رضي الله عنه رجلا ليدلهما على الطريق ولأنه يجوز الانتفاع به مع بقاء عينه أشبه الدور، ثم إن إجارته تقع على مدة بعينها وعمل بعينه كإجارة موسى عليه السلام نفسه للرعي، وتقع على عمل موصوف في الذمة كالسلم، ومتى كان على عمل موصوف في الذمة لم يكن الأجير فيها إلا آدمياً جائز التصرف لأن الذمة لا تكون لغير الآدمي ولا تثبت المعاوضة لعمل في الذمة لغير جائز التصرف، ولابد أن يكون العمل الذي يتعلق بالذمة مضبوطا بصفات السلم ليحصل العلم به

(6/61)


ويسمى الأجير فيها الأجير المشترك مثل الخياط الذي يتقبل الخياطة لجماعة وكذلك القصار ومن في معناه فتكون منفعة مشتركة بينهم * (مسألة) * (ولا يجوز الجمع بين تقدير المدة والعمل كقوله استأجرتك لتخيط لي هذا الثوب في يوم، وعنه يجوز) لا يجوز الجمع بين تقدير المدة والعمل كقوله استأجرتك لتخيط لي هذا الثوب في يوم أو تبني هذه الدار في شهر وهو قول أبي حنيفة والشافعي لأن الجمع بينهما بزبد الإجارة غرراً لا حاجة إليه لأنه قد يفرغ من العمل قبل انقضاء المدة فإن استعمل في بقية المدة فقد زاد على ما وقع عليه العقد وإن لم يعمل كان تاركا للعمل في بعض المدة، فهذا غرر قد أمكن التحرز منه ولم يوجد مثله في محل الوفاق فلم يجز العقد معه، وروى عن أحمد فيمن اكترى دابة إلى موضع على أن يدخله في ثلاث فدخله في ست قال قد أضربه فقيل يرجع عليه بالقيمة؟ قالا لا ويصالحه، وهذا يدل على جواز تقديرهما جميعا وهو قول أبي يوسف ومحمد لأن الإجارة معقودة على العمل فالمدة إنما ذكرت للتعجيل فلا تمنع ذلك، فعلى هذا إذا تم العمل قبل انقضاء المدة لم يلزمه العمل في بقيتها لأنه وفى ما عليه قبل مدته فلم يلزمه شئ آخر كما لو قضى الدين قبل أجله، وإن مضت المدة قبل العمل فللمستأجر فسخ الإجارة لأن الأجير لم يف له بشرطه، فإن رضي بالبقاء عليه لم يملك الأجير الفسخ لأن الإخلال بالشرط منه فلا يكون ذلك وسيلة

(6/62)


له إلى الفسخ كما لو تعذر المسلم فيه في وقته لم يملك المسلم إليه الفسخ وملكه المسلم، فإن اختار إمضاء العقد طالبه بالعمل لا غير كالمسلم إذا صبر عند تعذر المسلم فيه إلى حين وجوده لم يكن له أكثر من المسلم فيه وإن فسخ العقد قبل العمل سقط الأجر والعمل، وإن كان بعد عمل بعضه فله أجر المثل لأن العقد قد انفسخ فسقط المسمى ورجع إلى أجر المثل * (مسألة) * (ولا تجوز الإجارة على عمل يختص فاعله أن يكون من أهل القربة كالحج والأذان، وعنه تجوز) معنى قوله يختص فاعله أن يكون من أهل القربة أنه يكون مسلما، وقد اختلفت الرواية عن أحمد
رحمه الله في الاستئجار على عمل يختص فاعله أن يكون مسلما كالإمامة والحج والأذان وتعليم القرآن فروي عنه أنها لا تصح وبه قال عطاء والضحاك بن قيس وأبو حنيفة والزهري، وكره إسحاق تعليم القرآن بأجر، قال عبد الله بن شقيق: هذه الزغفان التي يأخذها المسلمون من السحت، وكره أجر المعلم مع الشرط الحسن وابن سيرين وطاوس والشعبي والنخعي، وعن أحمد رواية أخرى أنه يجوز حكاها أبو الخطاب، ونقل أبو طالب عن أحمد أنه قال: التعليم أحب إلي من أن يتوكل لهؤلاء السلاطين، ومن أن يتوكل لرجل من عامة الناس في ضيعة، ومن أن يستدين ويتجر لعله لا يقدر على الوفاء فيلقى الله بأمانات الناس التعليم أحب إلى، وهذا يدل على أن منعه منه في موضع منعه للكراهة لا للتحريم

(6/63)


وممن أجاز ذلك مالك والشافعي، ورخص في أجور المعلمين أبو قلابة وأبو ثور وابن المنذر لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم زوج رجلاً بما معه من القرآن متفق عليه، فإذا جاز تعليم القرآن عوضاً في النكاح وقام مقام المهر جاز أخذ الأجرة عليه في الإجارة.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أحق ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله " حديث صحيح، وفي حديث أبي سعيد أن رجلا رقى رجلا بفاتحة الكتاب على جعل فبرأ وأخذ أصحابه الجعل فأتوا به النبي صلى الله عليه وسلم فأخبروه وسألوه فقال " لعمري لمن أكل برقية باطل لقد أكلت برقية حق، كلوا واضربوا لي معكم بسهم " حديث صحيح.
وإذا جاز أخذ الجعل جاز أخذ الأجر لأنه في معناه، ولأنه يجوز أخذ الرزق عليه من بيت المال فجاز أخذ الأجر عليه كبناء المساجد ولأن الحاجة تدعو إلى الاستنابة في الحج عمن وجب عليه وعجز عن فعله ولا يكاد يوجد متبرع بذلك فيحتاچ إلى بذل الأجر فيه ووجه الرواية الأولى ما روى عثمان بن أبي العاص قال إن آخر ما عهد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أتخذ مؤذنا لا يأخذ على أذانه أجراً.
قال الترمذي هذا حديث حسن.
وروي عبادة بن الصامت قال

(6/64)


علمت أناسا من أهل الصفة القرآن والكتابة فأهدى إلي رجل منهم قوسا قال قلت قوس وليست بمال قال قلت أتقلدها في سبيل الله وذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقص عليه القصة قال إن سرك أن
يقلدك الله قوسا من نار فاقبلها " وعن أبي بن كعب أنه علم رجلا سورة من القرآن فأهدى له خميصة أو ثوبا فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال " لو أنك لبستها أو أخذتها ألبسك الله مكانها ثوبا من نار " وعن أبي قال: كنت أختلف إلى رجل مسن قد أصابته علة قد احتبس في بيته أقرئه القرآن فكان عند فراغه مما أقرئه يقول لجارية له هلمي طعام أخي فيؤتى بطعام لا آكل مثله بالمدينة فحاك في نفسي منه شئ فذكرته للنبي صلى الله عليه وسلم فقال " إن كان ذاك الطعام طعامه وطعام أهله فكل منه، وإن كان يتحفك به فلا تأكله " وعن عبد الرحمن بن شبل الأنصاري قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " اقرءوا القرآن ولا تغلوا فيه ولا تجفوا عنه ولا تأكلوا به ولا تستكتروا به " روى هذه الأحاديث كلها الأثرم في سننه، ولأن من شرط صحة هذه الأفعال كونها قربة إلى الله تعالى فلم يجز أخذ الأجر عليها كما لو إستأجر قوما يصلون خلفه الجمعة أو التراويح.
فاما الاخد على الرقية فإن أحمد اختار جوازه وقال لا بأس، وذكر حديث أبي سعيد، والفرق بينه وبين ما اختلف فيه أن الرقية نوع مداواة والمأخوذ عليها جعل والمداواة يباح أخذ الأجر عليها والجعالة أوسع من الإجارة ولهذا تجوز مع جهالة العمل والمدة وقوله عليه السلام " أحق ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله " يعني الجعل أيضاً في الرقية لأنه ذكر ذلك في سياق خبر

(6/65)


الرقية، وأما جعل تعليم القرآن صداقا فعنه فيه اختلاف، وليس في الخبر تصريح بأن التعليم صداق إنما قال " زوجتكها بما معك من القرآن " فيحتمل أنه زوجها إياه بغير صداق إكراما له كما زوج أبا طلحة أم سليم على إسلامه ونقل عنه جوازه، والفرق بين المهر والأجر أن المهر ليس بعوض محض وإنما وجب نحلة ووصلة ولهذا جاز خلو العقد عن تسميته وصح مع فساده بخلاف الأجر في غيره (فصل) فأما الرزق من بيت المال فيجوز على ما يتعدى نفعه من هذه الأمور لأن بيت المال من مصالح المسلمين فإذا كان بذله لمن يتعدى نفعه إلى المسلمين محتاجا إليه كان من المصالح وكان له أخذه لأنه من أهله وجرى مجرى الوقف على من يقوم بهذه المصالح بخلاف الأجر (فصل) فإن أعطى المعلم شيئا من غير شرط جاز في ظاهر كلام أحمد فإنه قال في رواية أيوب ابن سافري لا يطلب ولا يشارط فإن أعطي شيئا أخذه، وقال في رواية أحمد بن سعيد أكره أجر
المعلم إذا شرط، وقال إذا كان المعلم لا يشارط ولا يطلب من أحد شيئاً إن أتاه شئ قبله كأنه يراه أهون، وكرهه طائفة من أهل العلم لما تقدم من حديث الفرس والخميصة التي أعطيها أبي وعبادة من غير شرط، ولأن ذلك قربة فلم يجز أخذ العوض عنه بشرط ولا بغيره كالصلاة والصيام ووجه الأول قول النبي صلى الله عليه وسلم " ما أتاك من هذا المال من غير مسألة ولا إشراف نفس فخذه وتموله فإنه رزق ساقه الله إليك " وقد أرخص رسول الله صلى الله عليه وسلم في أكل طعام الذي كان يعلمه إذا كان طعامه وطعام أهله ولأنه إذا

(6/66)


كان بغير شرط كان هبة مجردة فجاز كما لو لم يعلمه شيئاً، فأما حديث القوس والخميصة فقضيتان في عين فيحتمل أن النبي صلى الله عليه وسلم علم أنهما فعلا ذلك خالصا فكره أخذ العوض عنه من غير الله تعالى، ويحتمل غير ذلك، فأما ان أعطى المعلم أجراً على تعليم الخط وحفظه جاز نص عليه أحمد فقال: إن كان المعطي ينوي أنه يعطيه لحفظ الصبي وتعليمه فأرجو إذا كان كذا ولأن هذا مما يجوز أخذ الأجر عليه مفرداً فجاز مع غيره كسائر ما يجوز الاستئجار عليه وهكذا لو كان إمام المسجد قيما يكنسه ويسرج قناديله ويغلق بابه ويفتحه فأخذ أجراً على خدمته، أو كان النائب في الحج يخدم المستنيب له في طريق الحج وليشد له ويحج عن قريبه فدفع إليه أجراً لخدمته جاز ذلك انشاء الله تعالى (فصل) فأما ما لا يختص فاعله أن يكون من أهل القربة كتعليم الخط والحساب والشعر وشبهه وبناء المساجد والقناطر فيجوز أخذ الأجرة عليه لأنه يقع تارة قربة وتارة غير قربة فلم يمنع من الاستئجار لفعله كغرس الأشجار وبناء البيوت وكذلك في تعليم الفقه والحديث ذكره شيخنا، وذكر القاضي في الخلاف أنهما من القسم الأول، والأولى ما ذكره شيخنا لكون فاعله لا يختص أن يكون من أهل القربة، وأما ما لا يتعدى نفعه فاعله من العبادات المحضة كالصيام وصلاة الإنسان لنفسه وحجه عن نفسه، وأداء زكاة نفسه فلا يجوز أخذ الأجرة عليه بغير خلاف لأن الأجر عوض للانتفاع ولم يحصل لغيره ههنا انتفاع فأشبه إجارة الأعيان التي لا نفع فيها

(6/67)


* (مسألة) * وإن استأجر من بحجمه صح، ويكره للحر أكل أجرته ويطعمه الرقيق والبهائم،
وقال القاضي لا يصح) يجوز أن يستأجر حجاما ليحجمه وأجره مباح اختاره أبو الخطاب وهو قول ابن عباس قال أنا آكله وبه قال عكرمة والقاسم ومحمد بن علي بن الحسين وربيعة ويحيي الانصاري ومالك والشافعي وأصحاب الرأي، وقال القاضي لا يجوز وذكر أن أحمد نص عليه قال وإن أعطي شيئا من غير عقد ولا شرط فله أخذه وبصرفه في علف دابته وطعم عبيده ومؤنة صناعته ولا يحل أكله وممن كره كسب الحجام عثمان وأبو هريرة والحسن والنخعي لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال " كسب الحجام خبيث " متفق عليه وقال أطعمه ناضحك ورقيقك ولنا ما روى ابن عباس قال: احتجم النبي صلى الله عليه وسلم وأعطى الحجام أجره ولو علمه حراما لم يعطه متفق عليه، وفي لفظ ولو علمه خبيثا لم يعطه ولأنها منفعة مباحة لا يختص فاعلها أن يكون من أهل القربة فجاز الاستئجار عليها كالختان ولأن بالناس حاجة إليها ولا يجد كل أحد متبرعا بها فجاز الاستئجار عليها كالرضاع ولأن قول النبي صلى الله عليه وسلم في كسب الحجام " أطعمه رقيقك " دليل على إباحته إذ غير جائز أن يطعم رقيقه ما يحرم أكله فإن الرقيق آدمي يحرم عليه أكل ما حرم على الحر وتخصيص ذلك بما

(6/68)


أعطيه من غير استئجار تحكم لا دليل عليه، فعلى هذا تسمية كسبه خبيثا لا يلزم منه التحريم فقد سمى النبي صلى الله عليه وسلم الثوم والبصل خبيثين مع إباحتهما وإنما كره النبي صلى الله عليه وسلم ذلك للحر تنزيها له لدناءة صناعته وليس عن أحمد نص في تحريم كسب الحجام ولا استئجاره عليها وإنما قال نحن نعطيه كما أعطى النبي صلى الله عليه وسلم ونقول له كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عن أكله نهاه، وقال " أعلفه الناضح والرقيق " هذا معنى كلامه في جميع الروايات وليس هذا صريحاً في تحريمه بل فيه دليل على إباحته كما في قول النبي صلى الله عليه وسلم على ما بينا، فإن إعطاءه للحجام دليل إباحته إذ لا يعطيه ما يحرم عليه وهو عليه السلام يعلم الناس وينهاهم عن المحرمات فكيف يعطيهم إياها؟ فعلى هذا يكون نهيه عليه السلام عن أكله نهي كراهة لا نهي تحريم وكذلك قول الإمام أحمد فإنه لم يخرج عن قول النبي صلى الله عليه وسلم وفعله بل قصد اتباعه، وكذلك سائر من كرهه من الأئمة يتعين حمل قولهم على الكراهة فلا يكون في المسألة قائل بالتحريم.
إذا ثبت هذا فإنه
يكره للحر أكل أجرة الحجام ويكره تعلم صناعة الحجامة وإجارة نفسه لها لما ذكرنا من الأخبار ولأن فيها دناءة فكره الدخول فيها كالكسح، وفيما ذكرناه إن شاء الله جمع بين الأخبار وتوفيق بين الأدلة الدالة عليها فعلى هذا يطعمه الرقيق والبهائم كما جاء في الأخبار الصحيحة والله أعلم (فصل) فأما استئجار الحجام لغير الحجامة كالفصد وحلق الشعر وتقصيره والختان وقطع شئ من الجسد للحاجة إليه فجائز لأن قول النبي صلى الله عليه وسلم " كسب الحجام خبيث " يريد بالحجامة كما نهى عن مهر البغي

(6/69)


أي في البغاء، ولذلك لو كسب في بضاعة أخرى لم يكن خبيثا بغير خلاف وهذا النهي يخالف القياس فيختص بالمحل الذي ورد فيه ولأن هذه الأمور تدعو الحاجة إليها، ولا تحريم فيها فجازت الإجارة فيها كسائر المنافع المباحة (فصل) ويجوز أن يستأجر كحالا ليكحل عينه لأنه عمل جائز ويمكن تسليمه ويقدر على ذلك بالمدة لأن العمل غير مضبوط ويحتاج إلى بيان عدد ما يكحله في كل يوم مرة أو مرتين فإن قدرها بالبرء فقال القضي لا يجوز لأنه غير معلوم، وقال ابن أبي موسى لا بأس بمشارطة الطبيب على البرء، لأن أبا سعيد حين رقى الرجل شارطه على البرء، قال شيخنا والصحيح إن شاء الله جواز ذلك لكي يكون جعالة لا إجارة فإن الإجارة لابد فيها من مدة معلومة أو عمل معلوم والجعالة تجوز على عمل مجهول كرد اللقطة والآبق وحديث أبي سعيد في الرقية إنما كان جعالة فيجوز ههنا مثله.
إذا ثبت هذا فإن الكحل إن كان من العليل جاز لأن آلات العمل تكون من المستأجر كاللبن في البناء والطين والآجر ونحوها وإن شرطه على الكحال جاز، وقال القاضي يحتمل أن لا يجوز لأن الأعيان لا تملك بعقد الإجارة فلا يصح اشتراطه على العامل كلبن الحائط ولنا أن العادة جارية به ويشق على العامل تحصيله وقد يعجز عنه بالكلية فجاز ذلك كالصبغ من الصباغ والحبر والأقلام من الوراق وما ذكره ينتقض بهذين الأصلين، وفارق لبن الحائط لأن العادة تحصيل

(6/70)


المستأجر إياه ولا يشق ذلك بخلاف مسئلتنا، وقال أصحاب مالك يجوز أن يستأجر من يبني له جداراً
والآجر من عنده لأنه اشترى ما تتم به الصنعة التي عقد عليها فإذا كان معروفا جاز كما لو استأجره ليصبغ له ثوبا والصبغ من عنده ولنا أن عقد الإجارة عقد على المنفعة فإذا شرط بيع العين صار كبيعتين في بيعة ويفارق الصبغ من حيث إن الحاجة داعية إليه، لأن تحصيل الصبغ يشق على صاحب الثوب وقد يكون الصبغ لا يحصل إلا في خنب يحتاج إلى مؤنة كثيرة لا يحتاج إليها في صبغ هذا الثوب فجاز لمسيس الحاجة إليه بخلاف مسئلتنا (فصل) فإن استأجره مدة فكحله فيها فلم تبرأ عينه استحق الأجر وبه قال الجماعة، وحكي عن مالك انه لا يستحق أجراً حتى تبرأ عينه ولم يحك ذلك أصحابه وهو فاسد لأن المستأجر قد وفى العمل الذي وقع العقد عليه فوجب له الأجر وإن لم يحصل الغرض كما لو استأجره لبناء حائط يوما أو لخياطة قميص فلم يتمه فيه فإن برأت عينه في أثناء المدة انفسخت الإجارة فيما بقي من المدة لتعذر العمل فهو كما لو حجز عنه أمر غالب وكذلك لو مات فإن امتنع عن الاكتحال مع بقاء المرض استحق الكحال الأجر بمضي المدة كما لو استأجره يوما للبناء فلم يستعمله فيه، فأما إن شارطه على البرء فهي جعالة لا يستحق شيئاً حتى يوجد البرء سواء وجد قريباً أو بعيداً فإن برئ بغير كحله أو تعذر الكحل

(6/71)


لموته أو غير ذلك من الموانع التي من جهة المستأجر فله أجر مثله كما لو عمل العامل في الجعالة ثم فسخ العقد فإن امتنع لأمر من جهة الكحال أو غير المستأجر فلا شئ له وإن فسخ الجاعل الجعالة بعد عمل الكحال فعليه أجر عمله وإن فسخ الكحال فلا شئ له على ما يذكر في باب الجعالة إن شاء الله تعالى (فصل) ويصح أن يستأجر طبيبا لمداواته والكلام فيه كالكلام في الكحال سواء لأنه لا يجوز اشتراط الدواء على الطبيب لأنه إنما جاز في الكحال على خلاف الأصل للحاجة إليه وجري العادة به ولم يوجد ذلك المنع ههنا فيثبت الحكم فيه على وفق الأصل (فصل) ويجوز أن يستأجر من يقلع ضرسه لأنها منفعة مباحة مقصودة فجاز ذلك عليها كالختان فإن أخطأ فقلع غير ما أمر بقلعه ضمنه لأنه من جنايته وإن برأ الضرس قبل قلعه انفسخت الإجارة
لأن قلعه لا يجوز وإن لم يبرأ لكن امتنع المستأجر من قلعه لم يجبر عليه لأن إتلاف جزء الآدمي محرم في الأصل وإنما أبيح إذا صار بقاؤه ضرراً وذلك مفوض إلى كل إنسان في نفسه إذا كان أهلا لذلك فصاحب الضرس أعلم بمضرته ونفعه وقدر ألمه * (فصل) * قال رضي الله عنه (وللمستأجر استيفاء المنفعة بنفسه وبمثله فإذا اكترى داراً للسكنى فله أن يسكنها مثله لأنه لم يزد على استيفاء حقه ولأنه حقه فجاز أن يستوفيه بنفسه وبوكيله إذا كان مثله في الضرر أو دونه كقبض المبيع واستيفاء الدين ويضع فيه ما جرت عادة الساكن به من الرحل

(6/72)


والطعام ويخزن فيه الثياب وغيرها مما لا يضر بها ولا يسكنها من يضر بها كالقصارين والحدادين ولا يجعل فيها الدواب لأنها تروث فيها وتفسدها، ولا يجعل فيها السرجين ولا رحى ولا ما يضر بها ولا شيئا ثقيلا فوق سقف لأنه يثقله وقد يكسر خشبه فإن شرط ذلك جاز وبه قال الشافعي وأصحاب الرأي ولا نعلم فيه مخالفاً ولا يملك فعل ما يضر بها لأنه فوق المعقود عليه فلم يكن له فعله كما لو اشترى شيئا لم يملك أخذ أكثر منه فان جعل الدار مخزنا للطعام فقال أصحابنا يجوز ذلك لأنه يجوز أن يجعلها مخزنا لغيره ويحتمل أن لا يجوز لأنه يفضي إلى تخريق الفأر أرضها وحيطانها وذلك ضرر لا يرضى به صاحب الدار (فصل) وإن اكترى ظهرا ليركبه فله أن يركبه مثله ومن هو أخف منه ولا يركبه من هو أثقل منه لأن العقد اقتضى استيفاء منفعة مقدرة بذلك الراكب فكان له أن يستوفي ذلك بنفسه ونائبه وله استيفاء أقل منه لأنه بعض حقه وليس له استيفاء أكثر منه لأنه أكثر مما عقد عليه ولا يشترط التساوي في الطول والقصر ولا المعرفة بالركوب، وقال القاضي يشترط أن يكون مثله في هذه الأوصاف كلها لأن قلة المعرفة بالركوب يثقل على المركوب ويضر به قال الشاعر لم يركبوا الخيل إلا بعدما كبروا * فهم ثقال على أكفالها عنف

(6/73)


ولنا أن التفاوت في هذه الأمور مع التساوي في الثقل يسير فعفي عنه ولهذا لا يشترط ذكره
في الإجارة ولو اعتبر ذلك لاشتترطت معرفته في الإجارة كالثقل والخفة (فصل) فإن شرط أن لا يستوفي المنفعة بمثله ولا بمن دونه فقياس قول أصحابنا صحة العقد وبطلان الشرط فإنهم قالوا فيمن شرط أن يزرع في الأرض حنطة ولا يزرع غيرها يبطل الشرط ويصح العقد، يحتمل أن يصح الشرط وهو أحد الوجهين للشافعية لأن المستأجر يملك المنافع من جهة المؤجر فلا يملك ما لم يرض به ولأنه قد يكون له غرض في تخصيصه باستيفاء هذه المنفعة وقالوا في الوجه الآخر يبطل الشرط لأنه ينافي موجب العقد إذ موجبه ملك المنفعة والتسليط على استيفائها بنفسه ونائبه واستيفاء بعضها بنفسه وبعضها بنائبه والشرط ينافي ذلك فكان باطلا ولا يبطل به العقد في أصح الوجهين لأنه لا يؤثر في حق المؤجر نفعاً ولا ضراً فألغي وبطل العقد على مقتضاه والآخر يبطله لأنه ينافي مقتضاه أشبه ما لو شرط أن لا يستوفي المنافع * (مسألة) * (وله استيفاء المنفعة وما دونها في الضرر من جنسها) قال أحمد إذا استأجر دابة ليحمل عليها تمراً فحمل عليها حنطة أرجو أن لا يكون به بأس إذا كان الوزن واحداً وإن كانت المنفعة التي يستوفيها أكثر ضرراً أو مخالفة للمعقود عليها في الضرر لم يجز لأنه يستوفي أكثر من حقه أو غير ما يستحقه

(6/74)


* (مسألة) * (فإذا استأجر أرضا لزرع الحنطة فله زرع الشعير ونحوه وليس له زرع الدخن ونحوه ولا يملك الغرس ولا البناء ولو اكتراها لأحدهما لم يملك الآخر) وجملة ذلك أن إجارة الأرض صحيحة وقد ذكرناه ولا يصح حتى يرى الأرض لأن المنفعة تختلف باختلافها ولا تعرف إلا بالرؤية لكونها لا تنضبط بالصفة ولا يصح حتى يذكر ما يكتري له من زرع أو غرس أو بناء لأن الأرض تصلح لذلك كله وتأثيره في الأرض يختلف فوجب بيانه فإن قال أجرتكها لتزرعها أو تغرسها لم يصح لأنه لم يعين أحدهما لأنه أشبه ما لو قال بعتك أحد هذين العبدين، فإن قال لتزرعها ما شئت وتغرسها ما شئت صح وهذا منصوص الشافعي وخالفه أكثر أصحابه فقالوا لا يجوز لأنه لا يدري كم يزرع ويغرس وقال بعضهم يصح ويزرع نصفها ويغرس نصفها
ولنا أن العقد اقتضى إباحة هذين الشيئين فصح كما لو قال لتزرعها ما شئت ولأن اختلاف الجنسين كاختلاف النوعين، وقوله لتزرعها ما شئت إذن في نوعين وأنواع وقد صح فكذلك في الجنسين وله أن يغرسها كلها وأن يزرعها كلها كما لو أذن له في أنواع الزرع كله كان له زرعها نوعا واحداً وزرعها جميعها من نوعين وكذلك ههنا (فصل) فإن أكراها للزرع وحده ففيه أربع مسائل (إحداهن) أكراها للزرع مطلقا أو قال لتزرع ما شئت فيصح وله زرع ما شاء وهذا مذهب الشافعي وحكي عن ابن سريج أنه لا يصح

(6/75)


حتى يبين الزرع لأن ضرره يختلف فلم بصح بدون البيان كما لو لم يذكر ما يكتري له من زرع أو غرس أو بناء ولنا أنه يجوز استئجارها لأكثر الزرع ضرراً ويباح له جميع الأنواع لأنها دونه فإذا عمم أو أطلق تناول الأكثر وكان له ما دونه، ويخالف الأجناس المختلفة فإنه لا يدخل بعضها في بعض، فإن قيل فلو اكترى دابة للركوب لوجب تعيين الراكب قلنا لأن إجارة المركوب لأكثر الركاب ضررا لا تجوز بخلاف المزروع ولأن للحيوان حرمة في نفسه فلم يجز إطلاق ذلك فيه بخلاف الأرض، فإن قيل فلو استأجر داراً للسكنى مطلقا لم يجز أن يسكنها من يضر بها كالقصار والحداد فلم قلتم إنه يزرعها ما يضر بها؟ قلنا السكنى لا تقتضي ضرراً فلذلك منع من إسكان من يضر بها لأن العقد لم يقتضه والزرع يقتضي الضرر فإذا أطلق كان راضيا بأكثره فلهذا جاز، وليس له أن يغرس في هذه الأرض ولا يبني لأن ضرره أكثر من المعقود عليه (المسألة الثانية) أكراها لزرع حنطة أو نوع بعينه فإن له زرع ما عينه وما ضرره كضرره أو دونه ولا يتعين ما عينه في قول عامة أهل العلم إلا أهل الظاهر فإنهم قالوا لا يجوز له زرع غير ما عينه حتى لو وصف الحنطة بأنها سمراء لم يجز أن يزرع بيضاء لأنه عينه بالعقد فلم يجز العدول عنه كما لو عين المركوب أو عين الدراهم في الثمن ولنا أن المعقود عليه منفعة الأرض دون القمح ولهذا يستقر عليه الأجر بمضي المدة إذا تسلم الأرض ولم يزرعها وإنما ذكر القمح لتقدر به المنفعة فلم يتعين كما لو استأجر دارا ليسكنها فله أن

(6/76)


يسكنها غيره، وفارق المركوب والدراهم في الثمن فإنه معقود عليهما فتعينا والمعقود عليه ههنا منفة مقدرة وقد تعينت أيضا ولم يتعين ما قدرت به كما لا يتعين المكيال والميزان في المكيل والموزون، فعلى هذا يجوز له زرع القمح والشعير والباقلا لأنه أقل ضررا وليس له زرع الدخن والذرة والقطن لأنه إما أن يكون أكثر ضرراً فيأخذ فوق حقه أو يكون ضرره مخالفاً لضرر القمح فيأخذ ما لم يتناوله العقد ولا شيئاً من جنسه (المسألة الثالثة) قال ازرعها حنطة وما ضرره كضررها أو دونه فهذه كالتي قبلها إلا أنه لا مخالف فيها لأنه شرط ما اقتضاه الإطلاق وبين ذلك بصريح نصه فزال الإشكال (المسألة الرابعة) قال ازرعها حنطة ولا تزرع غيرها فذكر القاضي أن الشرط باطل لمنافاته مقتضى العقد لأنه يقتضي استيفاء المنفعة كيف شاء فلم يصح الشرط كما لو شرط عليه استيفاء المبيع بنفسه والعقد صحيح لأنه لا ضرر فيه ولا غرض لأحد المتعاقدين لأن ما ضرره مثله لا يختلف في غرض المؤجر فلم يؤثر في العقد فأشبه شرط استيفاء المبيع أو الثمن بنفسه وقد ذكرنا فيما إذا اشترط مكتري الدار أن لا يسكنها غيره وجها في صحة الشرط ووجها في فساد العقد فيخرج ههنا مثله (فصل) فإن أكراها للغراس ففيه ما ذكرنا من المسائل إلا أن يزرعها لأن ضرر الزرع أقل من ضرر الغراس وهو من جنسه لأن كل واحد منهما يضر بباطن الأرض وليس له البناء لأن ضرره مخالف لضرره فإنه يضر بظاهر الأرض وإن اكتراها للزرع لم يملك الغراس ولا البناء لأن ضرر الغرس أكثر

(6/77)


وضرر البناء مخالف لضرره، وإن اكتراها للبناء لم يكن له الغرس ولا الزرع لأن ضررهما يخالف ضرره (فصل) ولا تخلو الأرض من قسمين (أحدهما) أن يكون لها ماء دائم إما من نهر لم تجر العادة بانقطاعه أو لا ينقطع إلا مدة لا تؤثر في الزرع أو من عين تنبع أو بركة من مياه الأمطار يجتمع فيها الماء ثم تسقى به أو من بئر يقوم بكفايتها أو ما يشرب بعروقه لنداوة الأرض وقرب الماء الذي تحت الأرض فهذا كله دائم ويصح استئجاره للغرس والزرع وكذلك الأرض التي تشرب من مياه الأمطار ويكتفي بالمعتاد منها لأن ذلك بحكم العادة لا تنقطع إلا نادرا فهي كسائر الصور المذكورة (والثاني) أن لا يكون لها ماء دائم وهي نوعان (أحدهما) ما يشرب من زيادة معتادة تأتي وقت الحاجة كأرض
مصر الشاربة من زيادة النيل وما يشرب من زيادة الفرات وأشباه وأرض البصرة الشاربة من المد والجزر وأرض دمشق الشاربة من زيادة برد أو ما يشرب من الأودية الجارية من ماء المطر فتصح إجارتها قبل وجود الماء الذي تسقى به وبعده وحكي ابن الصباغ ذلك مذهباً للشافعي وقال أصحابه إن أكراها بعد الزيادة صح ولا تصح قبلها لأنها معدومة لا يعلم هل يقدر عليها أو لا ولنا أن هذا معتادا لظاهر وجوده فجازت إجارة الأرض الشاربة منه كالشاربة من مياه الأمطار ولأن ظن القدرة على التسليم في وقته يكفي في صحة العقد كالسلم في الفاكهة إلى أوانها (النوع الثاني) أن يكون مجئ الماء نادرا أو غير ظاهر كالأرض التي لا يكفيها إلا المطر الشديد الكثير الذي يدر

(6/78)


وجوده أو يكون شربها من فيض ماء وجوده نادر أو من زيادة نادرة في نهر أو عين غالبة فهذه أن أجرها بعد وجود ما يسقيها به صح لأنه أمكن الانتفاع بها وزرعها فجازت إجارتها كذات الماء الدائم، وإن أجرها قبله لم يصح لأنه يتعذر الزرع غالبا أو يتعذر المعقود عليه في الظاهر فلم تصح إجارتها كالآبق والمغصوب، وإن اكتراها على أنها لا ماء لها جاز لأنه يتمكن من الانتفاع بها بالنزول فيها ووضع رحله وجمع الحطب فيها وله أن يزرعها رجاء الماء وإن حصل له ماء قبل زرعها فله زرعها لأن ذلك من منافعها الممكن استيفاؤها، وليس له أن يبني ولا يغرس لأن ذلك يراد للتأبيد وتقدير الإجارة بمدة يقتضي تفريغها عند انقضائها، فإن قيل فلو استأجرها للغراس والبناء صح مع تقدير المدة؟ قلنا التصريح بالبناء والغراس صرف التقدير عن مقتضاه بظاهره في التفريغ عند انقضاء المدة إلا أن يشترط قلع ذلك عند انقضاء المدة فيصرف الغراس والبناء عما يراد له بظاهره بخلاف مسئلتنا، وإن أطلق إجارة هذه الأرض مع العلم بحالها وعدم مائها صح لأنهما دخلا في العقد على أنها لا ماء لها فأشبه ما لو شرطاه، وإن لم يعلم عدم مائها أو ظن المكتري أنه يمكن تحصيل ماء لها بوجه من الوجوه لم يصح العقد لأنه ربما دخل في العقد بناء على أن المالك يحصل لها ماء وأنه يكتريها للزراعة مع تعذرها وقيل لا يصح العقد على الإطلاق وإن علم حالها لأن إطلاق كراء الأرض يقتضي الزراعة والأولى صحته لأن العلم بالحال يقوم مقام الاشتراط كالعلم بالعيب يقوم مقام شرطه، ومتى كان لها ماء غير

(6/79)


دائم أو الظاهر انقطاعه قبل الزرع أو لا يكفي الزرع فهي كالتي لا ماء لها ومذهب الشافعي في هذا كله كما ذكرنا (فصل) وإن اكترى أرضا غارقة بالماء لا يمكن زرعها قبل انحساره عنها وقد ينحسر ولا ينحسر فالعقد باطل لان لانتفاع بها في الحال غير ممكن ولا يزول المانع غالبا، وإن كان ينحسر عنها وقت الحاجة إلى الزراعة كأرض مصر في وقت مد النيل صح لأن المقصود يتحقق بحكم العادة المستمرة، فإن كانت الزراعة فيها ممكنة ويخاف غرقها والعادة غرقها لم تجز إجارتها لأنها في حكم الغارقة بحكم العادة المستمرة (فصل) ومتى زرع فغرق الزرع أو هلك بحريق أو جراد أو برد أو غيره فلا ضمان على المؤجر ولا خيار للمكتري نص عليه أحمد ولا نعلم فيه خلافا وهو مذهب الشافعي، لأن التالف غير المعقود عليه وإنما تلف مال المكتري فيه فأشبه من اكترى دكانا فاحترق متاعه فيه ثم ان أمكن المكتري الانتفاع بالاض بغير الزرع أو بالزرع في بقية المدة فله ذلك، وان تعذر ذلك لزمه الأجر لأن تعذره لفوات وقت الزراعة بسبب غير مضمون على المؤجر لا لمعنى في العين، وإن تعذر الزرع بسبب غرق الأرض وانقطاع مائها فللمستأجر الخيار لأنه لمعنى في العين، وإن تلف الزرع بذلك فليس على المؤجر ضمانه لأنه لم يتلف بمباشرة ولا سبب، وإن قل الماء بحيث لا يكفي الزرع فله الفسخ لأنه عيب فإن كان ذلك بعد الزرع فله الفسخ أيضا ويبقى الزرع في الأرض إلى أن يستحصد وعليه من المسمى بحصته إلى

(6/80)


حين الفسخ وأجر المثل لما بقي من المدة لأرض لها مثل ذلك الماء وكذلك إن انقطع الماء بالكلية أو حدث بها عيب من غرق يهلك به بعض الزرع أو تسوء حالته به * (مسألة) * (وإن اكترى دابة للركوب أو الحمل لم يملك الآخر، وإن اكتراها لحمل الحديد أو القطن لم يملك الآخر) إذا اكترى دابة للركوب لم يملك الحمل عليها لأن الراكب يعين الظهر بحركته، وإن اكتراها ليحمل عليها فليس له ركوبها لأن الراكب يقعد في موضع واحد فيشتد على الظهر والمتاع يتفرق على
جنبيها، وإن اكتراها ليركبها عريا لم يجز أن يركب بسرج لأنه يحمل عليه أكثر مما عقد عليه، وإن اكتراها ليركبها بسرج فليس له ركوبها عريا لأن الركوب بغير سرج يحمى به الظهر فربما عقرها، وإن اكتراها ليركب بسرج لم يجز أن يركب بأثقل منه فإن اكترى حماراً بسرج لم يجز أن يركبه بسرج البرذون إن كان أثقل من سرجه، وإن اكترى دابة بسرج فركبها بأثقل منه أو أضر منه لم يجز، وإن كان أخف أو أقل ضرراً فلا بأس، وإن اكترى دابة ليحمل عليها حديداً لم يحمل عليها قطنا لأنه يتجافى وتهب فيه الربح فيتعب الظهر، وإن اكتراها لحمل القطن فليس له حمل الحديد لأنه يجتمع في موضع واحد فيثقل عليه والقطن يتفرق ويكثر ضرره ومتى فعل ما ليس له فعله كان ضامنا وعليه أجر المثل وهذا كله مذهب الشافعي وأبي ثور

(6/81)


(فصل) وإن اكترى دابة ليركبها في مسافة معينة معلومة أو يحمل عليها فيها فأراد العدول بها إلى ناحية أخرى مثلها في القدر وهي أضر منها أو يخالف ضررها ضررها بأن تكون إحداهما أخوف والأخرى أخشن لم يجز وإن كانت مثلها في السهولة والحزونة والأمن أو التي يعدل إليها أقل ضرراً فذكر القاضي أنه يجوز وهو قول أصحاب الشافعي لان المسافة عينت ليستوفي بها المنفعة ويعلم قدرها بها فلم تتعين كنوع المحمول والراكب قال شيخنا ويقوى عندي أنه متى كان للمكتري غرض في تلك الجهة المعينة لم يجز العدول إلى غيرها مثل من يكري جماله إلى مكة ليحج معها فلا يجوز له أن يذهب بها إلى غيرها، ولو أكراها إلى بغداد لكون أهله بها أو ببلد العراق فليس له الذهاب إلى مصر، ولو أكرى جماله جملة إلى بلد لم يجز التفريق بينها بالسفر ببعضها إلى جهة وبباقيها إلى غيرها وذلك لأنه عين المسافة لغرض في فواته ضرر فلم يجز تفويته كما في حق المكتري فإنه لو أراد حمله إلى غير المكان الذي اكترى إليه لم يجز وكما لو عين طريقا سهلا أو آمنا فأراد سلوك ما يخالفه في ذلك (فصل) إذا اكترى قميصاً ليلبسه جاز لأن الانتفاع به ممكن مع بقاء عينه ويجوز بيعه أشبه العقار ولابد من تقدير المنفعة بالمدة فإن كانت العادة في بلده نزع ثيابهم عند نوم الليل فعليه نزعه لان الإطلاق يحمل على العادة وله لبسه فيما سوى ذلك ولا يلزمه نزعه إذا نام نهاراً لأنه العرف ويلبس
القميص على ما جرت العادت به لا أن يتزر به لأنه يعتمد عليه فيشقه، وفي اللبس لا يعتمد ويجوز

(6/82)


الارتداء به لأنه أخف من اللبس ومن ملك شيئاً ملك ما هو أخف منه وقيل لا يجوز لأنه استعمال له بما لا تجري العادة به في القميص أشبه الاتزار به والله أعلم * (مسألة) * (وإن فعل ما ليس له فعله فعليه أجر المثل) لأنه استوفى منفعة غير التي عقد عليها لا يجوز له استيفاؤها فلزمه أجر المثل كالغاصب * (مسألة) * (وإن اكتراها لحمولة شئ فزاده أو إلى موضع فجاوزه فعليه الأجرة المذكورة وأجرة المثل للزائد، وقال أبو بكر عليه أجرة المثل للجميع) وجملة ذلك أن من اكترى دابة لحمولة شئ فزاد عليه كمن اكترى لحمل قفيزين فحمل ثلاثة أو إلى موضع فجاوزه مثل أن يكتريها من دمشق إلى القدس فيركبها إلى مصر وجب عليه الأجر المسمى وأجر المثل لما زاد وضمانها إن تلفت وهذا مذهب الشافعي ونص عليه أحمد فيما إذا استأجرها إلى موضع فجاوزه وإليه ذهب ابن شبرمة والحكم، والظاهر من قول الفقهاء السبعة، وقال الثوري وأبو حنيفة لا أجر عليه لما زاد لأن منافع الغصب غير مضمونة عندهما، وحكي عن مالك أنه إذا تجاوز بها إلى مسافة بعيدة خير صاحبها بين أجر المثل وبين المطالبة بقيمتها يوم التعدي لأنه متعدى بإمساكها فكان لصاحبها تضمينها إياه ولنا أن العين باقية بحالها يمكن أخذها فلم تجب قيمتها كما لو كانت المسافة قريبة وما ذكروه تحكم

(6/83)


لا دليل عليه ولا نظير له فلا يجوز المصير إليه وسيأتي الكلام مع أبي حنيفة في باب الغصب إن شاء الله وحكى القاضي أن قول أبي بكر فيما إذا اكترى لحمولة شئ فزاد عليه وجوب أجر المثل للجميع آخذاً من قوله فيمن استأجر أرضاً ليزرعها شعيراً فزرعها حنطة أن عليه أجر المثل للجميع لأنه عدل عن المعقود عليه إلى غيره فأشبه ما لو إستأجر أرضا فزرع أخرى فجمع القاضي بين مسألة الخرقي ومسألة أبي بكر وقال ينقل قول كل واحد من إحدى المسئلتين إلى الأخرى لتساويهما في أن الزيادة لا تتميز فيكون في
المسئلتين وجهان، وليس الأمر كذلك فإن بين المسئلتين فرقا ظاهراً فإن الذي حصل التعدي فيه في الحمل متميز عن المعقود عليه وهو القفيز الزائد بخلاف الزرع، ولأنه في مسألة الحمل استوفى المنفعة المعقود عليها وزاد وفي الزرع لم يزرع ما وقع العقد عليه ولهذا علله أبو بكر بأنه عدل عن المعقود عليه ولا يصح هذا القول في مسألة الحمل فإنه قد حمل المعقود عليه وزاد عليه بل إلحاق هذه المسألة بما إذا اكترى إلى مسافة فزاد عليها أشد وشبهها بها أشد لأنه في مسألة الحمل متعد بالزيادة وحدها وفي مسألة الزرع متعد بالزرع كله فأشبه الغاصب (فصل) فأما مسألة الزرع فيما إذا اكترى لزرع الشعير فزرع حنطة فقد نص أحمد في رواية عبد الله فقال: ينظر ما يدخل على الأرض من النقصان ما بين الحنطة والشعير فيعطى رب الأرض فجعل هذه المسألة كمسئلتي الخرقي في إيجاب المسمى وأجر المثل المزائد ووجهه أنه لما عين الشعير لم يتعين

(6/84)


ولم يتعلق العقد بعينه كما سبق ذكره ولهذا قلنا له زرع مثله وما هو دونه في الضرر فإذا زرع حنطة فقد استوفى حقه وزيادة أشبه ما لو اكتراها إلى موضع فجاوزه، وقد ذكرنا قول أبي بكر أن له أجر المثل لأنه عدل عن المعقود فإن الحنطة ليست بشعير وزيادة، وإن قلنا إنه قد استوفى المعقود عليه وزبادة غير أن الزبادة ليست متميزة عن المعقود عليه بخلاف مسئلتي الخرقي، وقال الشافعي المكري مخير بين أخذ الكراء وما نقصت الأرض عما ينقصها الشعير وبين أخذ كراء مثلها للجميع لأن هذه المسألة أخذت شبهاً من أصلين (أحدهما) إذا ركب دابة فجاوز بها المسافة المشترطة لكونه استوفى المعقود عليه وزيادة (والثاني) إذا استأجر أرضا فزرع غيرها لأنه زرع متعديا فلهذا خيره بينهما ولأنه وجد سبب يقتضي كل واحد من الحكمين وتعذر الجمع بينهما فكان له أوفرهما وفوض اختياره إلى المستحق كقتل العمد، والأولى إن شاء الله قول أبي بكر فإن هذا متعد بالزرع كله فكان عليه أجر المثل كالغاصب ولهذا ملك رب الأرض منعه من زرعه ويملك أخذه بنفقته إذا زرعه، ويفارق من زاد على حقه زيادة متميزة في كونه لم يتعد بالجميع إنما تعدى بالزبادة فقط ولهذا لا يملك المكري منعه من الجميع، ونظير هاتين المسئلتين من اكترى غرفة ليجعل فيها أقفزة حنطة فجعل أكثر منها ومن
اكتراها ليجعل فيها قنطار قطن فجعل فيها قنطار حديد ففي الأولى له المسمى وأجر الزيادة، وفي الثانية يخرج فيها من الخلاف كقولنا في مسألة الزرع وحكم المستأجر الذي يزرع أضر مما اكترى له

(6/85)


حكم الغاصب لرب الأرض منعه في الابتداء لما يلحقه من الضرر فإن زرع فرب الأرض مخير بين ترك الزرع بالأجر وبين أخذه ودفع النفقة، وإن لم يعلم حتى أخذ المستأجر زرعه فله الأجر على ما نذكر في الغصب (فصل) وإن اكترى دابة إلى مسافة فسلك أشق منها فهي كمسألة الزرع يخرج فيها وجهان وقياس منصوص أحمد أن له الأجر المسمى وزيادة لكون المسافة لا تتعين على قول اصحابنا وقياس قول أبي بكر أن له أجر المثل لأن الزيادة غير متميزة ولأنه متعد بالجميع بدليل أن لرب الدابة منعه من سلوك تلك الطريق كلها بخلاف من سلك تلك الطريق وجاوزها فإنه إنما يمنعه الزيادة لا غير، وإن اكترى لحمل قطن فحمل بوزنه حديداً أو بالعكس فعليه أجر المثل لأن ضرر أحدهما مخالف لضرر الآخر فلم يتحقق كون المحمول مشتملا على المستحق بعقد الإجارة وزيادة عليه بخلاف ما قبلها من المسائل وسائر مسائل العدوان يقاس على ما ذكرنا من المسائل ما كان متميزاً وما لم يكن متميزاً فتلحق كل مسألة بنظيرتها (فصل) وإن اكتراه لحمل قفيزين فحملهما فوجدهما ثلاثة فإن كان المكتري تولى الكيل ولم يعلم المكري بذلك فهو كمن اكترى لحمولة شئ فزاد عليه وإن كان المكري تولى كيله وتعبيته ولم يعلم المكتري فهو غاصب لا أجر له في حمله الزائد وإن تلفت دابته فلا ضمان لها لأنها تلفت بعدوان صاحبها

(6/86)


وحكمه في ضمان الطعام حكم من غصب طعام غيره، وإن تولى ذلك أجنبي ولم يعلما فهو متعد عليهما عليه لصاحب الدابة الأجر ويتعلق به ضمانها وعليه لصاحب الطعام ضمان طعامه وسواء كاله أحدهما ووضعه الآخر على ظهر الدابة أو كان الذي كاله وعبأه وضعه على ظهرها، وقال أصحاب الشافعي في أحد الوجهين إذا كاله المكتري ووضعه المكري على ظهر البهيمة لا ضمان على المكتري لأن المكري مفرط في حمله
ولنا أن التدليس من المكتري إذ أخبره بكيلها بخلاف ما هو به فلزمه الضمان كما لو أمر أجنبيا بتحميلها، فأما إن كالها المكتري ووضعها المكري على الدابة عالما بكيلها لم يضمن المكتري الدابة إذا تلفت لأنه فعل ذلك من غير تدليس ولا تغرير وله أجر القفيز الزائد في أحد الوجهين لأنهما اتفقا على حمله على سبيل الإجارة فجرى مجرى المعاطاة في البيع ودخول الحمام من غير تقدير أجر (والثاني) لا أجر له لأن المكتري لم يجعل له على ذلك أجراً، وإن كاله المكري وحمله المكتري على الدابة عالما بذلك من غير أن يأمره بحمله فعليه أجر القفيز الزائد وإن أمره بحمله ففي وجوب الأجر وجهان كما لو حمله المكري عليها لأنه إذا أمر به كان كفعله، وإن كاله أحدهما وحمله أجنبي فهو كما لو حمله الذي كاله وإن كان بأمر الآخر فهو كما لو حمله الآخر وإن حمله بغير أمرهما فهو كما لو كاله ثم حمله * (مسألة) * (وإن تلفت ضمنها إلا أن تكون في يد صاحبها فيضمن نصف قيمتها في أحد الوجهين) إذا تلفت الدابة التي تعدى فيها إما بزيادة على الحمل أو زيادة على المسافة ضمنها بقيمتها سواء

(6/87)


تلفت في الزبادة أو بعد ردها إلى المسافة وسواء كان صاحبها مع المكتري أو لم يكن هذا ظاهر كلام الخرقي والفقهاء السبعة إذا تلفت حال التعدي، وقال القاضي إن كان المكتري نزل عنها وسلمها إلى صاحبها ليمسكها أو يسقيها فتلفت فلا ضمان على المكتري وإن هلكت والمكتري راكب عليها أو حمله عليها ضمنها، وقال أبو الخطاب إن كانت يد صاحبها عليها احتمل أن يلزم المكتري جميع قيمتها واحتمل أن يلزمه النصف، وقال أصحاب الشافعي إن لم يكن صاحبها معها لزم المكتري جميع القيمة وإن كان معها فتلفت في يد صاحبها لم يضمنها المكتري لأنها تلفت في يد صاحبها أشبه ما لو تلفت بعد مدة التعدي، وإن تلفت تحت الراكب ففيه قولان (أحدهما) يلزمه نصف القيمة لأنها تلفت بفعل مضمون أشبه ما لو تلفت بجراحته وجراحة مالكها (والثاني) تقسط القيمة على المسافتين فما قابل مسافة الإجارة سقط ووجب الباقي ونحو هذا قول أبي حنيفة فإنه قال فيمن اكترى جملا لحمل تسعة فحمل عشرة فتلف فعلى المكتري عشر قيمته، قال شيخنا وموضع الخلاف في لزوم كمال القيمة إذا كان صاحبها مع راكبها أو تلفت في يد صاحبها، فأما إن تلفت حال التعدي ولم يكن صاحبها مع راكبها فلا
خلاف في ضمانها بكمال قيمتها لأنها تلفت في يد عادية فوجب ضمانها كالمغصوب، وكذلك إذا تلفت تحت الراكب أو تحت حمله وصاحبها معها لأن اليد للراكب وصاحب الحمل بدليل ما لو تنازعا دابة أحدهما راكبها أو له عليها حمل والآخر آخذ بزمامها كانت لصاحب الحمل والراكب ولأن الراكب متعد

(6/88)


بالزيادة وسكوت صاحبها لا يسقط الضمان كمن خرق ثياب انسان وهو ساكت ولأنها إن تلفت بسبب تعبها فالضمان على المتعدي كمن ألقى حجراً في سفينة موقرة فغرقها، فأما إن تلفت في يد صاحبها بعد نزول الراكب عنها وكان تلفها بسبب تعبها بالحمل والسير فهو كتلفها تحت الحمل والراكب، وإن كان بسبب آخر من افراس سبع أو سقوط في هوة فلا ضمان فيها لأنها لم تتلف في يد عادية ولا بسبب عدوان، وقولهم تلفت بفعل مضمون وغير مضمون أشبه ما لو تلفت بجراحين يبطل بما إذا قطع السارق ثم قطع آخر يده عدوانا فمات منهما، وفارق ما لو جرح نفسه وجرحه غيره لأن الفعلين عدوان فقسم الضمان عليهما (فصل) ولا يسقط الضمان بردها إلى المسافة وبه قال أبو حنيفة وأبو يوسف والشافعي وقال محمد يسقط كما لو تعدى في الوديعة ثم ردها ولنا أنها يد صارت ضامنة فلا يزول الضمان عنها إلا بإذن جديد ولم يوجد والأصل ممنوع إلا أن يردها إلى مالكها أو يجدد لها إذنا * (فصل) * قال الشيخ رحمه الله (ويلزم المؤجر كل ما يتمكن به من النفع كزمام الجمل ورحله وحزامه والشد عليه وشد الأحمال والمحامل والرفع والحط ولزوم البعير لينزل لصلاة الفرض ومفاتيح الدار وعمارتها وكل ما جرت عادته به

(6/89)


يلزم المكري كل ما جرت العادة أن يوطئ به للركوب من الحداجة للجمل والقتب وما يتمكن به الراكب من النفع كزمام الجمل والبرة التي في أنفه إن كانت العادة جارية بها والسرج واللجام للفرس والبردعة والأكاف للبغل والحمار على ما يقتضيه العرف يحمل الإطلاق عليه، وما زاد على ذلك من المحمل والمحارة والحبل الذي يشد به بين المحملين على المكتري لأنه من مصلحة الحمل وكذلك
الوطاء الذي يشد فوق الحداجة تحت المحمل وعلى المكري رفع المحمل وحطه وشده على الحمل ورفع الأحمال وشدها وحطها لأن هذا هو العرف وبه يتمكن من الركوب، ويلزمه القائد والسائق هذا إذا كان الكراء على أن يذهب مع المكتري، فإن كان على أن يتسلم الراكب البهيمة ليركبها بنفسه فكل ذلك عليه لأن الذي على المكري تسليم البهيمة وقد سلمها، فأما الدليل فهو على المكتري لأن ذلك خارج عن البهيمة المكتراة وآلتها فأشبه الزاد وقيل إن كان اكترى منه بهيمة بعينها فأجرة الدليل على المكتري لأن الذي عليه تسليم الظهر وقد سلمه، وإن كانت الإجارة على حمله إلى مكان معين في الذمة فهو على المكتري لأنه من مؤنة إيصاله إليه وتحصيله فيه، فإن كان الراكب ممن لا يقدر على الركوب والبعير قائم كالمرأة والشيخ والضعيف والسمين فعلى الجمال أن يبرك الجمل لركوبه ونزوله لأنه لا يتمكن منها إلا به وإن كان ممن يمكنه الركوب والنزول مع قيام البعير لم يلزم الجمال أن يبرك الجمل لإمكان استيفاء المعقود عليها، فإن كان قويا حال العقد فتجدد له الضعف أو بالعكس فالاعتبار بحال الركوب لأن العقد اقتضى ركوبه بحسب العادة، ويلزم الجمال أن يقف البعير لينزل لصلاة الفرض وقضاء حاجة الإنسان والطهارة ويدع البعير واقفا حتى يفعل ذلك لأنه لا يمكنه فعل شئ من هذا على ظهر البعير، وما يمكنه فعله عليه

(6/90)


من الأكل والشرب وصلاة النافلة لا يلزمه أن يقفه له من أجله فإن أراد المكتري إتمام الصلاة وطالبه الجمال بقصرها لم يلزمه ذلك بل تكون خفيفة في تمام (فصل) إذا اكترى ظهرا في طريق العادة فيه النزول والمشي عند اقتراب المنزل والراكب امرأة أو ضعيف لم يلزمه ذلك لأنه اكترى جميع الطريق كالمتاع، وإن كان جلداً قويا احتمل أن لا يلزمه أيضاً لأنه عقد على جميع الطريق ولم تجر له عادة بالمشي فلزم حمله في جميع الطريق أشبه الضعيف ويحتمل أن يلزمه لأنه متعارف والمتعارف كالمشروط (فصل) فإن كان المكتري داراً أو حماما فعلى المكري ما يتمكن به من الانتفاع كتسليم مفاتيح الدار والحمام لأن عليه التمكين من الانتفاع وتسليم مفاتيحها تمكين من الانتفاع، فإن ضاعت أو تلفت بغير تفريط المستأجر فعلى المؤجر بدلها لكونها أمانة في يد المستأجر فأشبه حيطان الدار وأبوابها وإن
سقط حائط أو خشبة أو انكسرت فعليه إبدالها وبناء الحائط، وعليه تبليط الحمام وعمل الأبواب والبرك ومجرى الماء لأن بذلك يحصل الانتفاع ويتمكن منه وما كان لاستيفاء المنافع كالحبل والدلو والبركة فعلى المكتري فأما التحسين والتزويق فلا يلزم واحدا منهما لأن الانتفاع ممكن بدونه * (مسألة) * (فأما تفريغ البالوعة والكنيف فيلزم المستأجر إذا سلمها فارغة) إن احتيج إلى تفريغ البالوعة والكنيف عند الكراء فعلى المكري لأنه مما يتمكن به من الانتفاع

(6/91)


وإن امتلأت بفعل المستأجر فتفريغها عليه وهذا قول الشافعي، وقال أبو ثور هو على رب الدار لأن به يتمكن من الانتفاع أشبه ما لو اكتراها وهي ملأى، وقال أبو حنيفة القياس أنه على المكتري والاستحسان أنه على رب الدار لأن ذلك عادة الناس ولنا أن ذلك حصل بفعل المكتري فكان عليه تنظيفه كما لو طرح فيها قماشا، والقول في تفريغ جية الحمام التي هي مصرف مائه كالقول في بالوعة الدار، وإن انقضت الإجارة وفي الدار زبل أو قمامة من فعل الساكن فعليه نقله وهذا قول الشافعي وأبي ثور وأصحاب الرأي (فصل) فإن شرط على مكتري الحمام أو غيره أن مدة تعطيله عليه لم يصح لأنه لا يجوز أن يؤجر مدة لا يمكنه الانتفاع في بعضها ولا يجوز أن يشرط أن يستوفي بقدرها عند انقضاء مدته لأنه يؤدي إلى أن يكون انتهاء مدة الإجارة مجهولا فإن أطلق وتعطل فهو عيب حادث والمكتري بالخيار بين الإمساك بكل الأجر وبين الفسخ ويتخرج أن له أرش العيب، كالمبيع المعيب فإن لم يعلم بالعيب حتى انقضت مدة الإجارة فعليه جميع الأجر لأنه استوفى المعقود عليه فأشبه ما لو علم العيب بعد العقد فرضيه ويتخرج أن له أرش العيب كما لو اشترى معيبا فلم يعلم عيبه حتى تلف في يده أو أكله (فصل) وإن شرط على المكتري النفقة الواجبة على المكري كعمارة الحمام فالشرط فاسد لأن العين ملك للمؤجر فنفقتها عليه، فإن أنفق بناء على هذا الشرط احتسب به على المكتري لأنه أنفقه

(6/92)


على ملكه بشرط العوض فإن اختلفا في قدر ما أنفق ولا بينة فالقول قول المكري لأنه منكر فإن لم
يشرط لكن أذن له في الإنفاق ليحتسب له به من الأجر ففعل ثم اختلفا فالقول قول المكري أيضاً، وإن أنفق من غير إذنه لم يرجع بشئ لأنه أنفق على ماله بغير إذنه نفقة غير واجبة على المالك أشبه ما لو عمر له داراً أخرى (فصل) ولا خلاف بين أهل العلم في جواز كراء الإبل وغيرها من الدواب إلى مكة وغيرها قال الله تعالى (والخيل والبغال والحمير لتركبوها) ولم يفرق بين المملوكة والمستأجرة، وروي عن ابن عباس في قوله تعالى (ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم) أن يحج ويكري ونحوه عن ابن عمر ولأن بالناس حاجة إليه، وقد فرض الله تعالى الحج على الناس وليس لكل أحد بهيمة يملكها ولا يحسن القيام بها والشد عليها فدعت الحاجة إلى استئجارها فجاز ذلك دفعا للحاجة.
إذا ثبت هذا فمن شرط صحة العقد معرفة المتعاقدين المعقود عليه لأنه عقد معاوضة أشبه البيع فأما الجمال فيحتاج إلى معرفة الراكبين بالرؤية أو بالصفة من المعرفة بالصفة تقوم مقام الرؤية إذا وصفهما بالطول والقصر والهزال والسمن والصغر والكبر والذكورية والأنوثية، وقال الشريف أبو جعفر وأبو الخطاب لا يكفي في ذلك الصفة لأنه يختلف بثقله وخفته وسكونه وحركته ولا ينضبط بالوصف فيجب تعيينه وهذا مذهب الشافعي ولهم في المحمل وجه أنه لا يكتفى فيه بالصفة ويجب تعيينه

(6/93)


ولنا أنه عقد معاوضة مضاف إلى حيوان فاكتفي فيه بالصفة كالبيع وكالمركوب في الإجارة ولأنه لو لم يكتف فيه بالصفة لما جاز للراكب أن يقيم غيره مقامه لأنه إنما يعلم كونه مثله لتساويهما في الصفات فما لا تأتي عليه الصفات لا يعلم تساويهما فيه ولأن الوصف يكتفى به في البيع فاكتفي به في الإجارة كالرؤية والتفاوت بعد ذكر الصفات يسير تجري المسامحة فيه كالمسلم فيه ويحتاج إلى معرفة الآلة التي يركبان فيها من محمل ومحارة وقتب وغير ذلك، وهل يكون مغطى أو مكشوفاً؟ فإن كان مغطى احتاج إلى معرفة الغطاء ويحتاج إلى معرفة الوطاء ومعرفة المعاليق التي معه من قربة وسطيحة وقدر وسفرة ونحوها وذكر سائر ما يحمل معه وبه قال الشافعي وأبو ثور وابن المنذر إلا أن الشافعي قال: يجوز إطلاق غطاء المحمل لأنه لا يختلف اختلافا كثيرا متباينا، وحكي عنه في المعاليق قول أنه يجوز إطلاقها ويحمل على العرف
وحكي عن مالك أنه يجوز إطلاق الراكبين لأن أجسام الناس متقاربة في الغالب، وقال أبو حنيفة إذا قال في المحمل رجلان وما يصلحهما من الوطاء والدثر جاز استحسانا لأن ذلك يتقارب في العادة فحمل على العادة كالمعاليق، وقال القاضي في غطاء المحمل كقول الشافعي ولنا أن هذا يختلف ويتباين كثيراً فاشترطت معرفته كالطعام الذي يحمله معه وقول مالك إن أجسام الناس متقاربة لا يصح فإن منهم الكبير والصغير والطويل والقصير والسمين والهزيل والذكر والأنثى ويختلفون بذلك ويتباينون كثيراً ويتفاوتون أيضاً في المعاليق منهم من يكثر الزاد والحوائج

(6/94)


ومنهم من يقنع باليسير ولا عرف له يرجع إليه فاشترطت معرفته كالمحمل والأوطئة، وكذلك غطاء المحمل من الناس من يختار الواسع النقيل الذي يشد على المحمل في الهواء ومنهم من يقنع بالضيق الخفيف فتجب معرفته كسائر ما ذكرنا، فإن رأى الراكبين أو وصفا له وذكر الباقي بأرطال معلومة جاز ذكره الخرقي، وأما الراكب فيحتاج إلى معرفة الدابة التي يركب عليها لأن الغرض يختلف بذلك ويحصل بالرؤية لأنها أعلى طرق العلم إلا أن يكون مما يحتاج إلى معرفة صفة المشي كالرهوال وغيره، وإما أن يجربه فيعلم ذلك برؤيته ويحصل بالصفة فإذا وجدت اكتفي بها لأنه يمكن ضبطه بالصفة فجاز العقد عليه كالبيع، فإذا استأجر بالصفة للركوب احتاج إلى ذكر الجنس فرسا أو بعيراً أو بغلا أو حماراً أو النوع فيقول في الإبل بختي أو عرابي وفي الخيل عرابي أو برذون وفي الحمير مصري أو شامي وإن كان في النوع ما يختلف كالمهملج من الخيل والقطوف احتيج إلى ذكره لأن الغرض يختلف به، وقد ذكرنا ذلك والخلاف فيه، قال شيخنا ومتى كان الكراء إلى مكة فالصحيح أنه لا يحتاج إلى ذكر الجنس ولا النوع لأن العادة أن الذي يحمل عليه في طريق مكة الجمال العراب دون البخاتي (فصل) إذا كان الكراء إلى مكة أو طريق لا يكون السير فيه إلى اختيار المتكاريين فلا وجه لذكر تقدير السير فيه لأن ذلك ليس إليهما ولا مقدور عليه لهما وإن كان في طريق السير فيه إليهما استحب ذكر قدر السير في كل يوم فإن أطلق وللطريق منازل معروفة جاز لأنه معلوم بالعرف، ومتى

(6/95)


اختلفا في ذلك وفي وقت السير ليلاً أو نهاراً أو في موضع المنزل إما في داخل البلد أو.
خارج منه حملا على العرف كما لو أطلقا الثمن في بلد فيه نقد معروف، وإن لم يكن للطريق عرف فقال القاضي لا يصح كما لو أطلقا الثمن في بلد لا عرف فيه، والأولى أن هذا ليس بشرط لأنه لو كان شرطا لما صح العقد بدونه في الطريق المخوف لأنه لم تجر العادة بتقدير السير في الطريق فإن اختلفا رجع إلى العرف في غير ملك الطريق (فصل) فإن شرط حمل زاد مقدر كمائة رطل وشرط أنه يبدل منها ما نقص بالأكل أو غيره فله ذلك وان شرط أن ما نقص بالأكل لا يبدله فليس له إبداله فإن ذهب بغير الأكل كسرقة أو سقوط فله إبداله لأن ذلك لم يدخل في شرطه، وإن أطلق العقد فله إبدال ما ذهب بسرقة أو سقوط أو أكل غير معتاد بغير خلاف وإن نقص بالأكل المضاد فله إبداله أيضا لأنه استحق حمل مقدار معلوم فملك إبدال ما نقص منه كما لو نقص بسرقة ويحتمل أن لا يملك ذلك لأن العرف جار بأن الزاد ينقص ولا يبدل فحمل العقد عليه عند الإطلاق وصار كالمصرح به، وقال الشافعي القياس أن له إبداله ولو قيل ليس له إبداله كان مذهبا لأن العادة أن الزاد لا يبقى جميع المسافة ولذلك يقل أجره عن أجر المتاع (فصل) إذا اكترى جملا ليحج عليه فله الركوب عليه إلى مكة ومن مكة إلى عرفة والخروج

(6/96)


عليه إلى منى لأن ذلك من تمام الحج، وقيل ليس له الركوب إلى منى لأنه بعد التحلل من الحج، والأولى أن له ذلك لأنه من تمام الحج وتوابعه ولذلك وجب على من وجب عليه دون غيره فدخل في قول الله تعالى (ولله على الناس حج البيت) ولو اكترى إلى مكة فقط فليس له الركوب إلى الحج لأنها زيادة ويحتمل أن له ذلك لأن الكراء إلى مكة عبارة عن الكراء للحج لكونها لا يكترى إليها إلا للحج غالبا فكان بمنزلة المكتري للحج (فصل) قال أصحابنا يصح كراء العقبة وهو مذهب الشافعي، ومعناها الركوب في بعض الطريق يركب شيئاً ويمشي شيئاً لأنه إذا جاز اكتراؤها في الجميع جاز في البعض ولابد من العلم بها إما بالفراسخ وإما بالزمان مثل أن يركب ليلا ويمشي نهاراً ويعتبر في هذا زمان السير دون زمان النزول، وإن
شرط إن يركب يوما ويمشي يوما جاز فإن أطلق احتمل الجواز وإحتمال أن لا يصح لأنه يختلف وليس له ضابط فيكون مجهولا، وإن اتفقا على أن يركب ثلاثة أيام ويمشي ثلاثة أو ما زاد ونقص جاز وإن اختلفا لم يجبر الممتنع منهما لأن فيه ضرراً على كل واحد منهما الماشي لدوام المشي عليه والدابة لدوام الركوب عليها لأنه إذا ركب بعد شدة التعب كان أثقل على البعير، وإن اكترى اثنان جملا يتعاقبان عليه جاز ويكون كراؤه كل الطريق والاستيفاء بينهما على ما يتفقان عليه، وإن تشاحا قسم بينهما لكل

(6/97)


واحد منهما فراسخ معلومة أو لأحدهما بالليل وللآخر بالنهار، وإن كان لذلك عرف رجع إليه وإن اختلفا في البادئ منهما أقرع، ويحتمل أن لا يصح كراؤها إلا أن يتفقا على ركوب معلوم لكل واحد منهما لأنه عقد على مجهول بالنسبة إلى كل واحد منهما فلم يصح كما لو اشتريا عبدين على أن لكل واحد منهما عبداً معينا منهما * (فصل) * قال الشيخ رحمه الله (والإجارة عقد لازم من الطرفين ليس لأحدهما فسخها) وبه قال مالك والشافعي وأصحاب الراي لأنها عقد معاوضة فكانت لازمة كالبيع ولأنها نوع من البيع وإنما اختصت باسم كالصرف والسلم لا أن يجد العين معيبة عيباً لم يكن علم به فله الفسخ بغير خلاف نعلمه قال ابن المنذر إذا اكترى دابة بعينها فوجدها جموحا أو عضوضا أو نفوراً أو بها عيب غير ذلك مما يفسد ركوبها فللمكتري الخيار إن شاء ردها وفسخ الإجارة، وإن شاء أخذها وهذا قول الثوري وأصحاب الرأي لأنه عيب في المعقود عليه فأثبت الخيار كالعيب في بيوع الأعيان، والعيب الذي يرد به ما تنقص به المنفعة كتعثر الظهر في المشي والعرج يتأخر به عن القافلة وربض البهيمة بالحمل وكونها جموحا أو عضوضا ونحو ذلك، وفي المكترى للخدمة ضعف البصر والجنون والجذام والبرص، وفي الدار انهدام الحائط والخوف من سقوطها وانقطاع الماء من بئرها أو تغيره بحيث يمنع الشرب والوضوء

(6/98)


وأشباه ذلك من النقائص، فإن رضي بالمقام ولم يفسخ لزمه جميع الأجرة لأنه رضي به ناقصا أشبه ما لو رضي بالمبيع معيبا، وإن اختلفا في الموجود هل هو عيب أو لا؟ رجع فيه الى أهل الخبرة مثل أن تكون
الدابة خشنة المشي أو أنها تتعب راكبها لكونها لا تركب كثيراً فإن قالوا هو عيب فله الفسخ وإلا فلا هذا إذا كان العقد تعلق بعينها فإن كانت موصوفة في الذمة لم ينفسخ العقد وعلى المكري إبدالها كالمسلم فيه إذا وجده معيبا أو على غير صفته فإن عجز عن إبدالها أو امتنع منه ولم يمكن إجباره فللمكتري الفسخ أيضا * (مسألة) * (وان بدا له قبل تقضي المدة فعليه الأجرة) قد ذكرنا أن الإجارة عقد لازم يقتضي تمليك المؤجر الأجر والمستأجر المنافع فإذا فسخ المستأجر الإجارة قبل انقضاء مدتها وترك الانتفاع اختياراً منه لم تنفسخ الإجارة وتلزمه الأجرة ولا يزول ملكه عن المنافع كما لو اشترى شيئاً وقبضه ثم تركه: قال الأثرم قلت لأبي عبد الله رجل اكترى بعيراً فلما قدم المدينة قال له فاسخني؟ قال ليس ذلك له قد لزمه الكراء قلت فإن مرض المستكري بالمدينة؟ فلم يجعل له فسخاً لأنه عقد لازم من الطرفين فلم يملك أحد المتعاقدين فسخه، وإن فسخه لم يسقط العوض الواجب كالبيع (فصل) قد ذكرنا أن المستأجر يملك المنافع بالعقد كما يملك المشتري المبيع بالبيع ويزول ملك المؤجر عنها كما يزول ملك البائع عن المبيع فلا يجوز له التصرف فيها لأنها صارت مملوكة لغيره فإن

(6/99)


تصرف فيها وكان ذلك في حال يد المستأجر قبل تقضي المدة مثل أن يكتري داراً سنة فيسكنها شهراً ويتركها فيسكنها المالك بقية السنة أو يؤجرها لغيره احتمل أن ينفسخ العقد فيما استوفاه المالك لأنه تصرف فيه قبل قبض المكتري له أشبه ما لو أتلف المكيل قبل تسليمه وسلم باقيه، فإن تصرف في بعض المدة دون بعض انفسخ العقد في قدر ما تصرف فيه خاصة، وعلى المستأجر أجر ما بقي فإن سكن المستأجر شهراً وسكن المالك عشرة أشهر لزم المستأجر أجر شهرين، وإن سكنها شهراً وسكن المالك شهرين ثم تركها فعلى المستأجر أجر عشرة أشهر واحتمل أن يلزم المستأجر أجر جميع المدة وله على المالك أجر المثل لما سكن أو تصرف فيه يسقط ذلك مما على المستأجر من الأجر ويلزمه الباقي لأنه تصرف فيما ملكه المستأجر عليه بغير إذنه أشبه ما لو تصرف في المبيع بعد قبض المشتري إياه وقبض
الدار ههنا قام مقام قبض المنافع بدليل أنه يملك التصرف في المنافع بالسكنى والإجارة وغيرها، فعلى هذا لو كان أجر المثل الواجب على المالك بقدر الأجر المسمى في العقد لم يجب على المستأجر شئ، وإن فضلت منه فضلة لزم المالك أداؤها إلى المستأجر، والأول أولى وهو ظاهر مذهب الشافعي وان تصرف المال قبل تسليمه العين أو امتنع من تسليمها حتى انقضت مدة الإجارة انفسخت الإجارة وجهاً واحداً لأن العاقد أتلف المعقود عليه قبل تسليمه فانفسخ العقد كما لو باعه طعاما فأتلفه قبل تسليمه، وإن سلمها إليه في أثناء المدة انفسخت فيما مضى، ويجب أجر الباقي بالحصة كالمبيع إذا سلم بعضه وأتلف بعضاً

(6/100)


* (مسألة) * (وإن حوله المالك قبل تقضيها فليس له أجر لما سكن نص عليه ويحتمل أن له من الأجرة بقسطه) إذا استأجر مدة فسكنه بعضها ثم أخرجه المالك ومنعه تمام السكنى فلا شئ له من الأجر نص عليه أحمد وذكره الخرقي ويحتمل أن له من الأجر بقسطه وهو قول أكثر الفقهاء لأنه استوفى ملك غيره على وجه المعاوضة فلزمه عوضه كالمبيع إذا استوفى بعضه ومنعه المالك بقيته ولنا أنه لم يسلم إليه ما تناوله عقد الإجارة فلم يستحق شيئاً كما لو استأجره لحمل كتاب إلى بلد فحمله بعض الطريق أو ليحفر له عشرين ذراعا فحفر له عشرا وامتنع من حفر الباقي وقياس الإجارة على الإجارة أولى من قياسها على البيع، والحكم فيمن اكترى دابة فامتنع المكتري من تسليمها في بعض المدة أو أجر نفسه أو عبده للخدمة مدة وامتنع من إتمامها أو أجر نفسه لبناء حائط أو خياطة أو حفر بئر أو حمل شئ إلى مكان وامتنع من إتمام العمل مع القدرة عليه كالحكم في العقار يمتنع من تسليمه وإنه لا يستحق شيئاً لما ذكرنا * (مسألة) * (وإن هرب الأجير حتى انقضت المدة انفسخت الإجارة، وان إن كانت على عمل خير للمستأجر بين الصبر والفسخ)

(6/101)


وجملة ذلك أنه إذا هرب الأجير أو شردت الدابة أو أخذ المؤجر العين وهرب بها أو منعه استيفاء المنفعة منها من غير هرب لم تنفسخ الإجارة لكن يثبت للمستأجر خيار الفسخ فإن انفسخ فلا كلام، وإن لم يفسخ وكانت الإجارة على مدة انفسخت بمضي المدة يوما فيوما فإن عادت العين في أثناء المدة استوفى ما بقي منها، وإن انقضت المدة انفسخت الإجارة لفوات المعقود عليه وإن كانت الإجارة على موصوف في الذمة كخياطة ثوب أو بناء حائط أو حمل إلى موضع معين استؤجر من ماله من يعمله كما لو أسلم إليه في شئ فهرب بيع من ماله فإن تعذر فللمستأجر الفسخ فإن لم يفسخ وصبر إلى أن يقدر عليه فله مطالبته بالعمل لأن ما في الذمة لا يفوت بهربه، وكل موضع امتنع الأجير من العمل فيه أو منع المؤجر المستأجر من الانتفاع إذا كان بعد عمل البعض فلا أجر له فيه على ما سبق إلا أن يرد العين قبل انقضاء المدة أو يتم العمل إن لم يكن على مدة قبل فسخ المستأجر فيكون له أجر ما عمل فأما إن شردت الدابة أو تعذر استيفاء المنفعة بغير فعل المؤجر فله من الأجر بقدر ما استوفى بكل حال * (مسألة) * (فإن هرب الجمال أو مات وترك الجمال أنفق عليها الحاكم من مال الجمال أو أذن للمستأجر في الإنفاق فإذا قدم باعها ووفى المنفق وحفظ باقي ثمنها لصاحبه) إذا هرب الجمال في بعض الطريق أو قبل الدخول فيها لم يخل من حالين (أحدهما) أن يهرب بجماله فان لم يجد المستأجر حاكما أو وجد حاكما لم يمكن إثبات الحال عنده أو أمكن ولم يحصل

(6/102)


له ما يستوفي به حقه منه فللمستأجر الفسخ لأنه تعذر عليه قبض المعقود عليه أشبه ما إذا أفلس المشتري فإن فسخ العقد وكان الجمال قد قبض الأجر كان ديناً في ذمته وإن اختار المقام على العقد وكانت الإجارة على عمل في الذمة فله ذلك، ومتى قدر على الجمال طالبه به وإن كان العقد على مدة انقضت في هربه انفسخت الإجارة وإن أمكن إثبات الحال عند الحاكم وكان العقد على موصوف غير معين لم ينفسخ العقد ويرفع الأمر إلى الحاكم ويثبت عنده حاله فإن وجد الحاكم للجمال مالا اكترى به وإن لم يجد له مالاً وأمكنه أن يقترض عليه ما يكتري له به فعل فإن دفع الحاكم المال إلى المكتري ليكتري به لنفسه جاز في ظاهر كلام أحمد، وإن كان القرض من المكتري جاز وصار ديناً في ذمة
الجمال وإن كان العقد على معين لم يجز إبداله ولا اكتراء غيره لأن العقد تعلق بعينه فيخير المكتري بين الفسخ أو الصبر إلى أن يقدر عليه فيطالبه بالعلم (الحال الثاني) إذا هرب وترك جماله فإن المكتري يرفع الأمر إلى الحاكم فإن وجد للجمال مالا استأجر به من يقوم مقامه في الإنفاق على الجمال والشد عليها وفعل ما يلزم الجمال فان لم يجد له غير الجمال وكان فيها فضلة عن الكراء باع بقدر ذلك وإن لم يكن فيها فضل أو لم يكن بيعه افترض عليه الحاكم كما ذكرنا، وإن أدان من المكتري وأنفق جاز، وإن أذن للمكتري في الأنفاق من ماله بالمعروف ليكون دينا على الجمال جاز لأنه موضع حاجة فإذا رجع واختلفا فيما أنفق وكان الحاكم قدر النفقة قبل قول

(6/103)


المكتري في ذلك دون ما زاد، وإن لم يقدر له قبل قوله في قدر النفقة بالمعروف لأنه أمين فأشبه الوصي إذا ادعى النفقة على الأيتام بالمعروف وما زاد لا يرجع به لأنه متطوع به، وإذا وصل المكتري رفع الأمر إلى الحاكم فيفعل ما يرى الحظ فيه من بيع الجمال فيوفي عن الجمال ما لزمه من الدين للمكتري أو لغيره ويحفظ باقي الثمن له وإن رأى بيع بعضها وحفظ باقيها والإنفاق على الباقي من ثمن ما باع جاز، وإن لم يجد حاكما أو عجز عن استئذانه فله أن ينفق عليها ويقيم مقام الجمال فيما يلزمه ولا يرجع بذلك إن فعله متبرعا وإن نوى الرجوع وأشهد على ذلك رجع به لأنه حال ضرورة وهذا أحد الوجهين لأصحاب الشافعي، وإن لم يشهد ونوى الرجوع ففي الرجوع وجهان (أحدهما) يرجع به لأن ترك الجمال مع العلم بأنها لابد لها من نفقة إذن في الإنفاق (والثاني) لا يرجع به لأنه يثبت لنفسه حقا على غيره وكذلك إن لم يشهده وأنفق محتسبا بالرجوع، قال شيخنا وقياس المذهب أن له الرجوع كقولنا يرجع بما أنفق على الآبق وعلى عيال الغائب وزوجاته والدابة المرهونة، فإن قدر على استئدان الحاكم فأنفق من غير استئذانه وأشهد على ذلك ففي رجوعه وجهان أيضا، وحكم موت الجمال حكم هربه وقال أبو بكر مذهب احمد ان الموت لا يفسخ الإجارة وله أن يركبها ولا يسرف في علفها ولا يقصر ويرجع بذلك في مال المتوفى، فإن لم يكن في يد المستأجر ما ينفق لم يجز أن يبيع منها شيئاً لأن البيع إنما يجوز من المالك أو نائبه أو ممن لا ولاية عليه

(6/104)


* (مسألة) * (وتنفسخ الإجارة بتلف العين المعقود عليها) وجملته أن من استأجر عينا مدة فحيل بينه وبين الانتفاع بها لم يخل من أقسام [أحدها] أن تتلف العين كدابة تنفق أو عبد يموت فتلك على ثلاثة أضرب [أحدها] أن تتلف قبل قبضها فإن الإجارة تنفسخ بغير خلاف نعلمه لأن المعقود عليه تلف قبل قبضه فأشبه ما لو تلف الطعام المبيع قبل قبضه [الثاني] أن تتلف عقيب قبضها فإن الإجارة تنفسخ أيضا ويسقط الأجر في قول عامة الفقهاء الا ابا ثور حكي عنه أنه قال يستقر الأجر لأن المعقود عليه تلف بعد قبضه أشبه المبيع.
وهذا غلط لأن المعقود عليه المنافع وقبضها باستيفائها أو التمكن من استيفائها ولم يحصل ذلك فأشبه تلفها قبل قبض العين [الثالث] أن تتلف بعد مضي شئ من المدة فإن الإجارة تنفسخ فيما بقي من المدة دون ما مضى ويكون للمؤجر من الأجر بقدر ما استوفى من المنفعة، قال أحمد في رواية ابراهيم بن الحارث: إذا اكترى بعيراً بعينه فنفق يعطيه بحساب ما ركب وذلك لما ذكرنا من أن المعقود عليه المنافع وقد تلف بعضها قبل قبضه فبطل العقد فيها تلف دون ما قبض كما لو اشترى صبرتين فقبض إحداهما وتلفت الأخرى قبل قبضها، ثم ننظر فإن كان أجر المدة متساويا فعليه بقدر ما مضى إن كان قد مضى النصف فعليه نصف الأجر وإن كان قد مضى الثلث فعليه الثلث كما يقسم الثمن على المبيع المتساوي، وإن كان مختلفاً كدار أجرها في الشتاء أكثر من أجرها في الصيف وأرض أجرها في الصيف أكثر من الشتاء،

(6/105)


أو دار لها موسم كدور مكة رجع في تقويمه الى أهل الخبرة ويسقط الأجر المسمى على حسب قيمة المنفعة كقسمة الثمن على الأعيان المختلفة في البيع، وكذلك لو كان الأجر على قطع مسافة كبعير استأجره على حمل شئ إلى مكان معين وكانت متساوية الأجزاء أو مختلفة وهذا ظاهر مذهب الشافعي * (مسألة) * (وموت الصبي المرتضع) إذا مات الصبي المرتضع انفسخ العقد لأنه يتعذر استيفاء المعقود عليه لأنه لا يمكن إقامة غيره مقامه لاختلاف الصبيان في الرضاع واختلاف اللبن باختلافهم فإنه قد يدر على أحد الولدين
دون الآخر وهذا منصوص الشافعي، وإذا انفسخ العقد عقيبه بطلت الإجارة من أصلها ورجع المستأجر بالأجر كله وإن كان في أثناء المدة رجع بحصة ما بقي وتنفسخ الإجارة بموت المرضعة لفوات المنفعة بهلاك محلها، وحكي عن أبي بكر أنها لا تنفسخ ويجب في مالها أجر من ترضعه تمام الوقت لأنه كالدين ولنا أنه هلك المعقود عليه أشبه ما لو هلكت البهيمة المستأجرة.
* (مسألة) * (وموت الراكب إذا لم يكن له من يقوم مقامه في استيفاء المنفعة) إذا مات المكتري ولم يكن له وارث يقوم مقامه في استيفاء المنفعة أو كان غائباً كمن يموت في طريق مكة ويخلف جمله الذي اكتراه وليس له عليه شئ يحمله ولا وارث له حاضر يقوم مقامه فظاهر كلام أحمد أن الإجارة تنفسخ فيما بقي

(6/106)


من المدة لأنه قد جاء أمر غالب يمنع المستأجر منفعة العين فأشبه ما لو غصبت ولان بقاء القعد ضرر في حق المكري والمكتري لأن المكتري يجب عليه الكراء من غير نفع والمكري يمتنع عليه التصرف في ماله مع ظهور امتناع الكراء عليه، وقد نقل عن أحمد في رجل اكترى بعيرا فمات المكتري في بعض الطريق فإن رجع البعير خاليا فعليه بقدر ما وجب له، وإن كان عليه ثقله ووطاؤه فله الكراء إلى الموضع، وظاهر هذا أنه حكم بفسخ العقد فيما بقي من المدة إذا مات المستأجر ولم يبق له به انتفاع لأنه تعذر استيفاء المنفعة بأمر من الله تعالى فأشبه ما لو اكترى من يقلع له ضرسه فبرأ أو انقلع قبل قلعه أو اكترى كحالا ليكحل عينه فبرأت أو ذهبت، ويجب أن يقدر أنه لم يكن ثم من ورثته من يقوم مقامه في الانتفاع لأن الوارث يقوم مقام الموروث وتأولها القاضي على أن المكري قبض البعير ومنع الورثة الانتفاع ولولا ذلك لما انفسخ العقد لأنه لا ينفسخ بعذر في المستأجر مع سلامة المعقود عليه كما لو حبس مستأجر الدار ومنع من سكناها، ولا يصح هذا لأنه لو منع الوارث الانتفاع لما استحق شيئاً من الأجر، ويفارق هذا ما لو حبس المستأجر لأن المعقود عليه انتفاعه وهذا لم يؤبس منه بالحبس لأنه يمكن خروجه في كل وقت من الحبس وانتفاعه ويمكن أن يستنيب من يستوفي المنفعة له إما بأجره أو غيره بخلاف الميت فإنه قد فات انتفاعه بنفسه ونائبه اشبه ما ذكرنا من الصور

(6/107)


* (مسألة) * (وانقلاع الضرس الذي اكترى لقلعه أو برؤه) وكذلك إن اكترى كحالا ليكحل عينه فبرأت أو ذهبت انفسخ العقد لأنه تعذر استيفاء المعقود عليه أشبه ما لو تعذر بالموت * (مسألة) * (فإن اكترى داراً فانهدمت أو أرضاً للزرع فانقطع ماؤها انفسخت الإجارة فيما بقي من المدة في أحد الوجهين وفي الآخر يثبت للمستأجر خيار الفسخ) وجملة ذلك أنه إذا حدث في العين المكتراة ما يمنع نفعها كدار انهدمت أو أرض غرقت أو انقطع ماؤها فهذه ينطر فيها فإن لم يبق فيها نفع أصلا فهي كالتالفة سواء، وإن بقي فيها نفع غير ما استأجرها له مثل أن يمكن الانتفاع بعرصة الدار أو الأرض لوضع حطب فيها أو وضع خيمة في الأرض الذي استأجرها للزرع أو صيد السمك من الأرض التي غرقت انفسخت الإجارة أيضا لأن المنفعة التي وقع العقد عليها تلفت فانفسخت الإجارة كما لو استأجر دابة ليركبها فزمنت بحيث لا تصلح إلا لتدور في الرحى.
وقال القاضي في الأرض التي انقطع ماؤها لا تنفسخ الإجارة فيها وهو منصوص الشافعي، لأن المنفعة لم تبطل جملة لأنه يمكن الانتفاع بعرصة الأرض بنصب خيمة أو جمع حطب فيها فأشبه ما لو نقص نفعها مع بقائه، فعلى هذا يخير المستأجر بين الفسخ والإمضاء، فإن فسخ فحكمه حكم العبد إذا مات، وإن اختار إمضاء العقد فعليه جميع الأجرة لأن ذلك عيب فإذا

(6/108)


رضي به سقط حكمه فإن لم يختر الفسخ ولا الإمضاء إما لجهله بأن له الفسخ أو لغير ذلك فله الفسخ بعد ذلك والأول أصح لأن بقاء غير المعقود عليه لا يمنع انفساخ العقد بتلف المعقود عليه كالأعيان في البيع، ولو كان النفع الباقي في العين مما لا يباح استيفاؤه بالعقد كدابة استأجرها للركوب فصارت لا تصلح إلا للحمل أو بالعكس انفسخ العقد وجهاً واحداً لأن المنفعة الباقية لا يملك استيفاءها مع سلامتها فلا يملكها مع تعيبها كبيعها، فأما إن أمكن الانتفاع بالعين وفيما اكتراها له على نعت من القصور مثل أن يمكنه زرع الأرض بغير ماء أو كان الماء منحسراً عن الأرض التى عرفت على وجه يمنع بعض الزراعة أو يسوء الزرع أو كان يمكنه سكنى ساحة الدار إما في خيمة أو غيرها لم تنفسخ
الإجارة لأن المنفعة المعقود عليها لم تزل بالكلية فأشبه ما لو تعيبت وللمستأجر خيار الفسخ على ما ذكرنا إلا في الدار إذا انهدمت ففيها وجهان (أحدهما) لا تنفسخ الإجارة (والثاني) تنفسخ لأنه زال اسمها بهدمها وذهبت المنفعة التي تقصد منها ولذلك لا يستأجر أحد عرصة دار ليسكنها فأما إن كان الحادث في العين لا يضرها كغرق الأرض بما ينحسر عن قريب بحيث لا يمنع الزرع ولا يضره وانقطاع الماء عنها إذا ساق المؤجر إليها ماء من مكان آخر أو كان انقطاعه في زمن لا يحتاج إليه فيه فليس للمستأجر الفسخ لأن هذا ليس بعيب، وإن حدث الغرق المضر أو انقطاع الماء أو الهدم ببعض العين المستأجرة فلذلك البعض حكم نفسه في الفسخ أو ثبوت الخيار وللمكتري الخيار في بقية

(6/109)


العين لأن الصفقة تبعضت عليه فإن اختار الإمساك أمسك بالحصة من الأجر كما إذا تلف أحد القفيزين من الطعام في يد البائع * (مسألة) * (ولا تنفسخ بموت المكتري أو المكري) وهذا قول مالك والشافعي وإسحاق والتي وأبي ثور وابن المنذر، وقال الثوري وأصحاب الرأي والليث تنفسخ لاجارة بموت أحدهما لأن استيفاء المنفعة يتعذر بالموت لأنه استحق بالعقد استيفاءها على ملك المؤجر فإذا مات زال ملكه عن العين فانتقلت إلى ورثته فالمنافع تحدث على ملك الوارث فلا يستحق المستأجر استيفاءها لأنه ما عقد مع الوارث، وإذا مات المستأجر لم يمكن إيجاب الأجر في تركته ولنا أنه عقد لازم فلم ينفسخ بموت العاقد مع سلامة المعقود عليه كما لو زوج أمته ثم مات، وما ذكروه لا يصح لأنا قد بينا أن المستأجر قد ملك المنافع، وإن الأجرة قد ملكت عليه كاملة في وقت العقد على ما نذكره، ويلزمهم ما لو زوج أمته ثم مات ولو صح ما ذكروه لكن وجوب الأجر ههنا بسبب من المستأجر فوجب في تركته بعد موته كما لو حفر بئراً فوقع فيها شئ بعد موته ضمنه في ماله لأن سبب ذلك كان منه في حياته كذا ههنا * (مسألة) * (ولا تنفسخ بعذر لأحدهما مثل أن يكتري للحج فتضيع نفقته أو دكانا فيحترق متاعه)
وبهذا قال مالك والشافعي وأبو ثور، وقال أبو حنيفة وأصحابه يجوز للمكتري فسخها لعذر

(6/110)


في نفسه مثل أن يكتري جملا ليحج عليه فيمرض فلا يتمكن من الخروج أو تضيع نفقته، أو يكتري دكاناً للبز فيحترق متاعه وما أشبه هذا لأن هذا العذر يتعذر معه استيفاء المنفعة المعقود عليها فملك به الفسخ كما لو استأجر عبداً فأبق ولنا أنه عقد لا يجوز فسخه لغير عذر فلم يجز لعذر في غير المعقود عليه كالبيع ولأنه لو جاز فسخه لعذر المكتري لجاز لعذر المكري تسوية بين المتعاقدين ودفعاً للضرر عن كل واحد منهما ولم يجز ثم فلا يجرز ههنا، ويفارق الإباق فإنه عذر في المعقود عليه * (مسألة) * (وإن غصبت العين خير المستأجر بين الفسخ والإمضاء ومطالبة الغاصب بأجرة المثل) إذا غصبت العين المستأجرة فللمستأجر الفسخ لأن فيه تأخر حقه فإن فسخ فالحكم كما لو انفسخ العقد بتلف العين وإن لم يفسخ حتى انقضت مدة لاجارة فله الخيار بين الفسخ والرجوع بالمسمى وبين البقاء على العقد ومطالبة الغاصب بأجر المثل لأن المعقود عليه لم يفت مطلقاً بل الى بدل وهو القيمة فأشبه ما لو أتلف الثمرة لمبيعة آدمي قبل قطعها، ويتخرج افساخ العقد بكل حال على الرواية التي تقول إن منافع الغصب لا تضمن وهو قول أصحاب الرأي ولأصحاب الشافعي في ذلك اختلاف فإن ردت العين في أثناء المدة ولم يكن فسخ استوفى ما بقي منها ويكون فيما مضى من المدة

(6/111)


مخيراً كما ذكرنا، وإن كانت الإجارة على عمل كخياطة ثوب أو حمل شئ إلى موضع معين فغصب جمله الذي يحمل عليه أو عبده الذي يخيط له لم ينفسخ العقد، وللمستأجر مطالبة الأجير بعوض المغصوب وإقامة من يعمل العمل لأن العقد على ما في الذمة كما لو وجد بالمسلم فيه عيبا فرده فإن تعذر البدل ثبت للمستأجر الخيار بين الفسخ والصبر إلى أن يقدر على العين المغصوبة فيستوفي منها (فصل) فإن حدث خوف عام يمنع من سكنى المكان الذي فيه العين المستأجرة أو يحصر البلد فيمتنع خروج المستأجر إلى الأرض المستأجرة للزرع ونحو ذلك ثبت للمستأجر خيار الفسخ
لأنه أمر غالب يمنع من استيفاء المنفعة فأثبت الخيار كغصب العين، ولو اكترى دابة ليركبها أو يحمل عليها إلى موضع معين فانقطعت الطريق إليها لخوف حادث أو اكترى إلى مكة فلم يحج الناس ذلك العام من تلك الطريق ملك كل واحد منهما فسخ الإجارة، وإن اختار ابقاها إلى حين إمكان استيفاء المنفعة جاز لأن الحق لهما، فأما إن كان الخوف خاصا بالمستأجر كمن خاف وحده لقرب أعدائه من الموضع المستأجر أو خلوهم في طريقه لم يملك الفسخ لأنه عذر يختص به لا يمنع استيفاء المنفعة بالكلية أشبه مرضه، وكذلك لو حبس أو مرض لأنه ترك استيفاء المنفعة لمعنى من جهته فلم يمنع ذلك وجوب أجرها عليه كما لو تركها اختياراً.
قال الخرقي: فإن جاء أمر غالب يحجر المستأجر عن منفعة ما وقع عليه العقد لزمه من الأجرة بقدر مدة انتفاعه وقد شرحناه

(6/112)


* (مسألة) * (ومن استؤجر لعمل شئ فمرض أقيم مقامه من يعمله والأجرة عليه) لا خلاف بين أهل العلم في جواز استئجار الآدمي، وقد أجر موسى عليه السلام نفسه لرعيه الغنم واستأجر النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رجلا ليدلهما على الطريق، ولأنه يجوز الانتفاع به مع بقاء عينه فجازت إجارته كالدور.
ثم إجارته تنقسم قسمين (أحدهما) استئجاره مدة بعينها لعمل معين كإجارة موسى عليه السلام نفسه ثماني حجج لرعي الغنم (والثاني) استئجاره على معنى في الذمة كاستئجار النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر رجلا ليدلهما على الطريق، واستئجار رجل لخياطة قميص أو بناء حائط، ويتنوع ذلك بنوعين (أحدهما) أن تقع الإجارة على عين كإجارة عبده لرعاية الغنم أو ولده لعمل معين (والثاني) أن تقع على عمل في الذمة كخياطة قميص وبناء حائط.
فمتى كانت على عمل في ذمته فمرض وجب عليه أن يقيم مقامه من يعمله لأنه حق وجب في ذمته فوجب عليه إيفاؤه كالمسلم، فيه ولا يلزم المستأجر إنظاره لأن العقد بإطلاقه يقتضي التعجيل وفي التأخير إضرار به، فأما إن كانت الإجارة على عينه في مدة أو غيرها فمرض لم يقم غيره مقامه لأن الإجارة وقعت على عمله بعينه لا على شئ في ذمته وعمل غيره ليس بمعقود عليه فأشبه ما لو اشترى معينا لم يجز أن يدفع إليه غيره ولا يبدله له بخلاف ما لو وقع في الذمة فإنه يجوز إبدال المعيب ولا ينفسخ العقد بتلف ما يسلمه والمبيع المعين بخلافه فكذلك الإجارة فإن كانت الإجارة
على عمل في الذمة لكن لا يقوم غير الأجير مقامه كالنسخ فإنه يختلف القصد فيه باختلاف الخطوط لم يكلف إقامة

(6/113)


غيره مقامه ولا يلزم المستأجر قبول ذلك إن بذله الأجير لأن العوض لا يحصل من غير الناسخ كحصوله منه فأشبه ما لو أسلم إليه في نوع فسلم إليه غيره وكذلك كل ما يختلف باختلاف الأعيان * (مسألة) * (وإن وجد العين معيبة فله الفسخ) كما لو وجد المبيع معيبا وقد ذكرناه، وإن حدث بها عيب فله الفسح وأجرة ما مضى لأن البائع لا يحصل قبضها إلا بالاستيفاء فهي كالمكيل يتعيب قبل قبضه فإن بادر المكري إلى إزالة العيب من غير ضرر يلحق المستأجر كدار تشعثت فأصلحها، ولا خيار للمستأجر لعدم الضرر وإلا فله الفسخ، وإن سكنها مع عيبها فعليه الأجرة علم أو لم يعلم لأنه استوفى جميع المعقود عليه معيبا فلزمه البدل كالمبيع المعيب إذا رضيه * (مسألة) * (ويجوز بيع العين المستأجرة ولا تنفسخ الإجارة إلا أن يشتريها المستأجر فتنفسخ في إحدى الروايتين) يصح بيع العين المستأجرة نص عليه أحمد سواء باعها للمستأجر أو لغيره وهو أحد قولي الشافعي وقال في الآخر إن باعها لغير المستأجر لم يصح لأن يد المستأجر تمنع التسليم إلى المشتري فمنعت الصحة كما في بيع المغصوب ولنا أن الإجارة عقد على المنافع فلم تمنع الصحة كبيع الأمة إذا زوجها، قولهم يد المستأجر تمنع

(6/114)


التسليم لا يصح لأن يد المستأجر إنما هي على المنافع والبيع على الرقبة فلا يمنع ثبوت اليد على أحدهما تسليم الآخر كما لو باع الأمة المزوجة ولأنها منعت التسليم في الحال فلا تمنع في الوقت الذي يجب التسليم فيه وهو عند انقضاء الإجارة ويكفي القدرة على التسليم حينئذ كالمسلم فيه وقال أبو حنيفة البيع موقوف على إجازة المستأجر فإن أجازه جائز وبطلت الإجارة وإن رده بطل ولنا أن البيع على غير المعقود عليه في الإجارة فلم تعتبر إجازته كبيع الأمة المزوجة.
إذا ثبت هذا
فإن المشتري يملك المبيع مسلوب المنفعة إلى حين انقضاء الإجارة ولا يستحق تسليم العين إلا حينئذ لأن تسليم العين إنما يراد لاستيفاء نفعها وإنما يستحق نفعها إذا انقضت الإجارة فهو كمن اشترى عينا في مكان بعيد لا يستحق تسليمها إلا بعد مضي مدة يمكن إحضارها فيه وكالمسلم إلى وقت لا يستحق تسليم المسلم فيه إلا في وقته، فإن لم يعلم المشتري بالإجارة خير بين الفسخ وإمضاء البيع بكل الثمن لأن ذلك عيب ونقص (فصل) ويصح بيعها للمستأجر لأنه إذا صح بيعها لغيره فله أولى لأن العين في يده وهل تبطل الإجارة؟ فيه وجهان (أحدهما) لا تبطل لأنه ملك المنفعة ثم ملك الرقبة المسلوبة بعقد آخر فلم يتنافيا كما يملك الثمرة بعقد ثم يملك الأصل بعقد آخر، ولو أجر الموصى له بالمنفعة مالك الرقبة صحت الإجارة فدل على أن ملك المنفعة لا ينافي العقد على الرقبة ولذلك لو استأجر المالك العين المستأجرة من مستأجرها جاز، فعلى هذا يكون الأجر باقيا على المشتري وعليه الثمن ويجتمعان للبائع كما لو كان المشتري غيره

(6/115)


(والثاني) تبطل الإجارة فيما بقي من المدة لأنه عقد على منفعة العين فبطل بملك العاقد الرقبة كما لو تزوج أمة ثم اشتراها بطل نكاحه ولأن ملك الرقبة يمنع ابتداء الإجارة فمنع استدامتها كالنكاح، فعلى هذا يسقط عن المشتري الأجر فيما بقي من مدة الإجارة كما لو بطلت الإجارة بتلف العين وإن كان المؤجر قد قبض الأجر كله حسبه عليه من الثمن إن كان من جنس الثمن (فصل) فإن رد المستأجر العين المستأجرة فالحكم فيه كما لو اشتراها في بطلان الإجارة وبقائها فلو استأجر إنسان من أبيه داراً ثم مات الأب وخلف ابنين (أحدهما) المستأجر فالدار بينهما نصفين والمستأجر أحق بمنفعتها لأن النصف الذي لأخيه الإجارة باقية فيه والنصف الذي ورثه يستحقه إما بحكم الملك أو بحكم الإجارة وما عليه من الأجرة بينهما نصفين، فان كان أبوه قد قبض الأجر لم يرجع على أخيه بشئ منه ولا على تركة أبيه ويكون ما خلفه أبوه بينهما نصفين لأنه لو رجع بشئ أفضى إلى أن يكون قد ورث النصف بمنفعته وورث أخوه نصفا مسلوب المنفعة والله سبحانه قد سوى بينهما في الميراث ولأنه لو رجع بنصف أجر النصف الذي انتقضت الإجارة فيه لوجب أن يرجع أخوه بنصف المنفعة التي بطلت الإجارة فيها إذ لا يمكن أن يجمع له بين المنفعة وأخذ عوضها من غيره
(فصل) فإن اشترى المستأجر العين فوجدها معيبة فردها فإن قلنا لا تنفسخ الإجارة بالبيع فهي باقية بعد رد العين كما كانت قبل البيع، وإن قلنا قد انفسخت فالحكم فيها كما لو انفسخت بتلف العين

(6/116)


فإن كان المشتري أجنبياً فرد المستأجر الإجارة لعيب فينبغي أن تعود المنفعة إلى البائع لأنه يستحق عوضها على المستأجر وإذا سقط العوض عاد إليه المعوض، ولأن المشتري ملك العين مسلوبة المنفعة مدة الإجارة فلا يرجع إليه ما لم يملكه، وقال بعض أصحاب الشافعي يرجع إلى المشتري لأن المنفعة تابعة للرقبة وإنما استحقت بعقد الإجارة فإذا زالت عادت إليه كما لو اشترى أمة مزوجة فطلقها الزوج قال شيخنا ولا يصح هذا القياس لأن منفعة البضع قد استقر عوضها للبائع بمجرد دخول الزوج بها ولا ينقسم العوض على المدة ولهذا لا يرجع الزوج بشئ من الصداق فيما إذا انفسخ النكاح أو وقع الطلاق بخلاف الأجر في الاجارة فإن المؤجر يستحق الأجر في مقابلة المنفعة مقسوما على مدتها فإذا كان له عوض المنفعة المستقبلة فزال بالفسخ رجع اليه بعوضها وهو المنفعة، ولأن منفعة البضع لا يجوز أن تملك بغير ملك الرقبة أو النكاح فلو رجعت إلى البائع لملكت بغيرهما ولأنها مما لا يجوز الزوج نقلها إلى غيره ولا المعاوضة عنها ومنفعة البدن بخلافها (فصل) وإذا وقعت الإجارة على عين كمن استأجر عبداً للخدمة أو للرعي فتلف انفسخ العقد وقد ذكرناه وإن خرجت العين مستحقة تبينا أن العقد باطل وإن وجد بها عيباً فردها انفسخ العقد أيضا ولم يملك إبدالها لأن العقد على معين فتثبت هذه الأحكام كمن اشترى عينا، وإن وقعت على عين موصوفة في الذمة انعكست هذه الأحكام فمن سلم إليه عينا فتلفت أو خرجت مغصوبة أو وجد بها عيباً فردها لم تنفسخ الإجارة

(6/117)


ولزم المؤجر إبدالها لأن المعقود عليه غير هذه العين وهذه بدل عنه فلم يؤثر ذلك في إبطال العقد كما لو اشترى بثمن في الذمة على ما قرر في موضعه، فإن قيل فقد قلتم فيمن اكترى جملا ليركبه جاز أن يركبه من هو مثله ولو اكترى أرضا لزرع شئ بعينه جاز له زرع ما هو مثله أو دونه في الضرر فلم قلتم إذا اكترى جملا بعينه لا يجوز أن يبدله؟ قلنا: المعقود عليه منفعة العين فلم يجز أن يدفع إليه غير المعقود عليه كما لو
اشترى عيناً لا يجوز أن يأخذ غيرها والراكب غير معقود عليه إنما هو مستوف للمنفعة وإنما يشترط معرفته ان تقدر به المنفعة لا لكونه معقوداً عليه وكذلك الزرع في الأرض فإنما يعين ليعرف به قدر المنفعة المستوفاة فيجوز الاستيفاء بغيرها كما لو وكل المشتري غيره في استيفاء المبيع ألا ترى أنه لو تلف البعير أو الأرض انفسخت الإجارة ولو مات الراكب أو تلف البذر لم تنفسخ وجاز أن يقوم غيره مقامه فافترقا.
* (فصل) * قال الشيخ رضي الله عنه (ولا ضمان على الأجير الخاص وهو الذي يسلم نفسه إلى المستأجر فيما تلف في يده إلا أن يتعدى) وجملته أن الأجير على ضربين خاص ومشترك: فالخاص الذي يقع العقد عليه في مدة معلومة يستحق المستأجر نفعه في جميعها كمن استؤجر لخدمة أو خياطة أو رعاية شهراً أو سنة، سمي خاصاً لأن المستأجر يختص بنفعه في تلك المدة دون سائر الناس والمشترك الذي يقع العقد معه على عمل معين

(6/118)


كخياطة ثوب أو بناء حائط وحمل شئ إلى مكان معين أو على عمل في مدة لا يستحق جميع نفعه فيها كالكحال والطبيب سمي مشتركا لأنه يتقبل أعمالا لاثنين أو أكثر في وقت واحد ويعمل لهم فيشتركون في منفعته فسمي مشتركا لاشتراكهم في منفعته، فأما الأجير الخاص فلا ضمان عليه ما لم يتعد قال أحمد في رواية مهنا في رجل أمر غلامه يكيل لرجل بزراً فسقط الرطل من يده فانكسر لا ضمان عليه، فقيل أليس هو بمنزلة القصار؟ قال لا القصار مشترك قيل فرجل اكترى رجلا يستقي ماء فكسر الجرة؟ فقال لا ضمان عليه قيل له فإن اكترى رجلا يحرث له على بقرة فكسر الذي يحرث به؟ قال لا ضمان عليه وهذا مذهب مالك وأبي حنيفة وأصحابه وظاهر مذهب الشافعي وله قول آخر أن جميع الأجراء يضمنون وروى في مسنده أن عليا كان يضمن الأجراء ويقول لا يصلح للناس إلا هذا ولنا أن عمله غير مضمون عليه فلم يضمن ما تلف به كالقصاص وقطع يد السارق وخبر علي مرسل والصحيح فيه أنه كان يضمن الصباغ والصواغ وإن روي مطلقاً حمل على هذا فإن المطلق يحمل على المقيد ولأن الأجير الخاص نائب عن المالك في صرف منافعه إلى ما أمره به فلم يضمن من
غير تعد كالوكيل والمضارب.
فأما ما لف بتعديه فعليه ضمانه مثل الخباز الذي يسرف في الوقود أو يلزقه قبل وقته أو يتركه بعد وقته حتى يحترق لأنه تلف بتعديه فضمن كغير الأجير (فصل) وإن استأجر الأجير المشترك أجيراً خاصا كالخياط في دكان يستأجر أجيراً مدة يستعمله

(6/119)


فيها فيقبل صاحب الدكان خياطة ثوب ودفعه إلى أجير فخرقه أو أفسده لم يضمنه لأنه أجير خاص ويضمنه صاحب الدكان لأنه أجير مشترك * (مسألة) * (ويضمن الأجير المشترك ما جنت يده من تخريق الثوب وغلطه في تفصيله) قد ذكرنا أن الأجير المشترك هو الصانع الذي لا يختص المستأجر بنفعه فيضمن ما جنت يده كالحائك إذا أفسد حياكته فهو ضامن لما أفسد نص عليه أحمد في رواية ابن منصور والقصار ضامن لما يتخرق من دقه أو مده أو عصره أو بسطه والطباخ ضامن لما أفسد من طبيخه والخباز ضامن لما أفسد من خبزه والحمال يضمن لما يسقط من حمله عن دابته أو تلف من عثرته والجمال يضمن ما تلف بقود وسوقه وانقطاع حبله الذي يشد به حمله والملاح يضمن ما تلف من مده أو جذفه أو ما يعالج به السفينة، روى ذلك عن عمر وعلي وعبد الله بن عتبة وشريح والحسن والحكم، وهو قول أبي حنيفة ومالك وأحد قولي الشافعي وقال في الآخر لا يضمن ما لم بتعد قال الربيع هذا مذهب الشافعي وإن لم يبح به يروي ذلك عن عطاء وطاوس وزفر ولأنها عين مقبوضة بعقد الإجارة فلم تصر مضمونة كالعين المستأجرة ولنا ما روى جعفر بن محمد عن أبيه عن على أنه كان يضمن الصباغ والصواغ وقال لا يصلح الناس إلا على ذلك وروى الشافعي باسناده عن علي أنه كان يضمن الأجراء ويقول لا يصلح الناس إلا هذا

(6/120)


ولأن عمل الأجير المشترك مضمون عليه فما تولد منه يجب أن يكون مضموناً كالعدوان بقطع عضو بخلاف الأجير الخاص والدليل على ان عمله مضمون عليه أنه لا يستحق العوض إلا بالعمل وأن الثوب لو تلف في حرزه بعد عمله لم يكن له أجر فيما عمل فيه وكان ذهاب عمله.
من ضمانه بخلاف الخاص فإنه
إذا أمكن المستأجر من استعماله استحق العوض بمضي المدة وإن لم يعمل وما عمل فيه من شئ فتلف من حرزه لم يسقط أجره بتلفه (فصل) ذكر القاضي أن الأجير المشترك إنما يضمن إذا كان يعمل في ملك نفسه كالخباز يخبز في تنوره والقصار والخياط في دكانيهما قال ولو دعا الرجل خبازا فخبز له في داره أو خياطاً أو قصارا ليقصر ويخيط عنده لا ضمان عليه فيما أتلف ما لم يفرط لأنه سلم نفسه إلى المستأجر فصار كالأجير الخاص ولو كان صاحب المتاع مع الملاح في السفينة أو راكبا على الدابة فوق حمله فعطب الحمل لا ضمان على الملاح والمكاري لأن يد صاحب المتاع لم تزل، ولو كان رب المتاع والجمال راكبين على الحمل فتلف حمله لم يضمن الجمال لأن رب المتاع لم يسلمه إليه ومذهب مالك والشافعي نحو هذا قال أصحاب الشافعي لو كان العمل في دكان الأجير والمستأجر حاضر أو اكتراه ليعمل له شيئا وهو معه لم يضمن لأن يده عليه فلم يضمن من غير جناية ويجب له أجر عمله لأن يده عليه فكلما عمل شيئاً صار مسلماً إليه، وظاهر كلام الخرقي أنه لا فرق بين كونه في ملك نفسه أو ملك مستأجره أو كان صاحب العمل

(6/121)


حاضراً عنده أو غائباً أو كونه مع الملاح أو الجمال أو لا ولذلك قال ابن عقيل ما تلف بجناية الملاح بجذفه أو بجناية المكاري بشده المتاع ونحوه فهو مضمون عليه سواء كان صاحب المتاع معه أو لم يكن لأن وجوب الضمان عليه لجناية يده فلا فرق بين حضور المالك وغيبته كالعدوان، ولأن جناية الجمال والملاح إذا كان صاحب المتاع راكباً معه تعم المتاع وصاحبه وتفريطه يعمهما فلم يسقط ذلك الضمان كما لو رمى انسانا متترسا فكسر ترسه وقتله، ولأن الطبيب والختان إذا جنت يداهما ضمنا مع حضور المطبب والمختون، وقد ذكر القاضي أنه لو كان حمالا يحمل على رأسه ورب المتاع معه فعثر فسقط المتاع فتلف ضمن وإن سرق لم يضمن لأنه في العثار تلف بجنايته والسرقة ليست من جنايته ورب المال لم يحل بينه وبينه وهذا يقتضي أن تلفه بجنايته مضمون عليه سواء حضر رب الما أو غاب بل وجوب الضمان في محل النزاع أولى لأن الفعل في ذلك المكان مقصود لفاعله والسقطة من الحمال غير مقصودة له فإذا وجب الضمان ههنا فثم أولى
(فصل) وذكر القاضي أنه إذا كان المستأجر على حمله عبيداً صغاراً أو كباراً فلا ضمان على المكاري فيما تلف من سوقه وقوده إذ لا يضمن بني آدم من جهة الإجارة لأنه عقد على منفعة، والاولى وجوب الضمان لأن الضمان ههنا من جهة الجناية فوجب أن يعم بني آدم وغيرهم كسائر الحيوانات وما ذكره ينتقض بجناية الطبيب والخاتن

(6/122)


* (مسألة) * (ولا ضمان عليه فيما تلف من حرزه أو بغير فعله ولا أجرة له فيما عمل فيه وعنه يضمن) اختلفت الرواية عن أحمد في الأجير المشترك إذا تلفت العين من حرزه من غير تعد منه ولا تفريط فروي عنه لا يضمن في رواية ابن منصور وهو قول طاوس وعطئ وأبي حنيفة وزفر وقول للشافعي، وروى عن أحمد أن كان هلاكه بما يستطاع ضمنه وإن كان غرقاً أو عدواً غالبا فلا ضمان عليه قال أحمد في رواية أبي طالب إذا جنت يده أو ضاع من بين متاعه ضمنه وإن كان عدواً أو غرقا فلا ضمان ونحو هذا قال أبو يوسف، والصحيح في المذهب الأول وهذه الرواية تحتمل أنه إنما أوجب عليه الضمان إذا تلف من بين متاعه خاصة لأنه يتهم ولهذا قال في الوديعة في رواية أنه يضمن إذا ذهبت من بين ماله فأما في غير ذلك فلا ضمان عليه لأن تخصيصه التضمين بما إذا أتلف من بين ماله يدل على أنه لا يضمن إذا تلف مع متاعه، ولأنه إذا لم يكن منه تفريط ولا عدوان لم يجب عليه الضمان كما لو تلف بأمر غالب، وقال مالك وابن أبي ليلى يضمن بكل حال لقول النبي صلى الله عليه وسلم " على اليد ما أخذت حتى تؤديه " ولأنه قبض العين لمنفعة نفسه من غير استحقاق فلزمه ضمانها كالمستعير ولنا أنها عين مقبوضة بعقد الإجارة لم يتلفها بفعله فلم يضمنها كالعين المستأجرة ولأنه قبضها بإذن مالكها لنفع يعود إليهما فلم يضمنها كالمضارب والشريك والمستأجر ويخالف العارية فإنه ينفرد بنفعها والخبر مخصوص بما ذكرنا من الأصول فنخص محل النزاع بالقياس عليها.
إذا ثبت هذا

(6/123)


فإنه لا أجر له فيما عمل فيها لأنه لم يسلم عمله إلى المستأجر فلم يستحق عوضه كالمبيع من الطعام إذا تلف في يد البائع قبل تسليمه
* (مسألة) * (ولا ضمان على حجام ولا ختان ولا نزاع ولا طبيب إذا علم منهم حذق ولم تجن أيديهم) وجملة ذلك أن هؤلاء إذا فعلوا ما أمروا به لم يضمنوا بشرطين (أحدهما) أن يكونوا ذوي حذق في صناعتهم لأنه إذا لم يكن كذلك لم تحل له مباشرة القطع فإذا قطع مع هذا كان فعلاً محرماً فضمن سرايته كالقطع ابتداء، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم " من تطبب بغير علم فهو ضامن " رواه أبو داود (والثاني) أن لا تجني أيديهم فيتجاوزوا ما ينبغي أن يقطع.
فإذا وجد هذان الشرطان لم يضمنوا لأنهم قطعوا قطعاً مأذوناً فيه فلم يضمنوا سرايته كقطع الإمام يد السارق، فأما إن كان حاذقاً وجنت يده مثل أن يجاوز قطع الختان إلى الحشفة أو الى بعضها أو يقطع في غير محل القطع أو قطع سلعة من إنسان فتجاوز بها موضع القطع أو يقطع بآلة كالة يكثر ألمها أو في وقت لا يصلح القطع فيه وأشباه هذا ضمن فيه كله لأنه إتلاف لا يختلف ضمانه بالعمد والخطأ فأشبه إتلاف المال ولأنه فعل محرم فيضمن سرايته كالقطع ابتداءً، وكذلك الحكم في النزاع والقاطع في القصاص وقاطع يد السارق وهذا مذهب الشافعي وأصحاب الرأي ولا نعلم فيه خلافاً (فصل) فإن ختن صبياً بغير إذن وليه أو قطع سلعة من إنسان بغير إذنه أو من صبي بغير

(6/124)


إذن وليه فسرت جنايته ضمن لأنه قطع غير مأذون فيه وان فعل ذلك الحاكم أو وليه أو فعله من أذنا له لم يضمن لأنه مأذون فيه شرعاً * (مسألة) * (ولا ضمان على الراعي إذا لم يتعد) يصح استئجار الراعي بغير خلاف علمناه وقد أجر موسى عليه السلام نفسه لرعاية الغنم.
إذا ثبت ذلك فإنه لا يضمن ما تلف من الماشية إذا لم يتعد أو يفرط في حفظها لا نعلم فيه خلافاً إلا ما روي عن الشعبي أنه كان يضمن الراعي ولنا أنه مؤتمن على حفظها فلم يضمن من غير تعد ولا تفريط كالمودع ولأنه قبض العين بحكم الإجارة فلم يضمنها من غير تعد كالعين المستأجرة، فأما ما تلف بتعديه فيضمنه بغير خلاف مثل أن ينام عن الماشية أو يغفل عنها أو يتركها تتباعد عنه أو تغيب عن نظره وحفظه أو يسرف في ضربها
أو يضربها في غير موضع الضرب أو من غير حاجة إليه أو يسلك بها موضعاً تتعرض فيه للتلف وأشباه هذا مما يعد تفريطا وتعديا فتتلف به فيضمنها لأنها تلفت بعدوانه فضمنها كالمودع إذا تعدى، فإن اختلفا في التعدي وعدمه فالقول قول الراعي لأنه أمين وإن فعل فعلا اختلفا في كونه تعدياً رجع الى أهل الخبرة، ولو جاء بجلد شاة وقال ماتت قبل قوله ولم يضمن وعن أحمد أنه لا يقبل قوله ويضمن والصحيح الأول لأن الأمناء يقبل قولهم كالمودع، ولأنه يتعذر عليه إقامة البينة في الغالب أشبه المودع وكذلك إذا ادعى موتها ولم يأت بجلدها

(6/125)


(فصل) ولا يصح العقد في الرعي إلا على مدة معلومة لأن العمل لا ينحصر، ويجوز العقد على رعي ماشية معينة وعلى جنس في الذمة فإن عقد على معينة كمائة شاة معينة فذكر أصحابنا أنه يتعلق بأعيانها كما لو استأجره لخياطة ثوب بعينه فلا يجوز إبداله، ويبطل العقد بتلفها فإن تلف بعضها بطل العقد فيه وله أجر ما بقي بالحصة، وإن ولدت لم يكن عليه رعي سخالها لأنها زيادة لا يتناولها العقد ويحتمل أن لا يتعلق بأعيانها لأنها ليست المعقود عليها إنما لتستوفى المنفعة بها فأشبه ما لو استأجر ظهراً ليركبه فله أن يركب غيره مكانه، ولو استأجر دارا ليسكنها فله أن يسكنها مثله وإنما المعقود عليه منفعة الراعي ولهذا تجب له الأجرة إذا سلم نفسه وإن لم يرع، ويفارق الثوب في الخياطة لأن الثياب في مظنة الاختلاف في سهولة خياطتها ومشقتها بخلاف الرعي.
فعلى هذا له إبدالها بمثلها وإن تلف بعضها لم ينفسخ العقد فيه وكان له إبداله.
(فصل) فإن وقع العقد على موصوف في الذمة فلابد من ذكر جنس الحيوان ونوعه إبلا أو بقراً أو غنما أو ضأنا أو معزاً وإن أطلق ذكر البقر والإبل لم يتناول الجواميس والبخاتي لأن إطلاق الاسم لا يتناولها عرفا إلا أن يقع العقد في مكان يتناولها الاسم فيحتاج إلى ذكر نوع ما يرعاه منها كالغنم لأن كل نوع له أثر في إتعاب الراعي ويذكر الكبر والصغر فيقول كباراً او صغاراً أو عجاجيل أو فصلانا إلا أن يكون ثم قرينة أو عرف صارف إلى بعضها فيكتفي بذلك، ومتى عقد على عدد موصرف كالمائة لم يجب عليه رعي زيادة من سخالها ولا من غيرها، وإن أطلق ولم يذكر

(6/126)


عدداً لم يجز وهذا ظاهر مذهب الشافعي، وقال القاضي يصح ويحمل على ما جرت به العادة كالمائة من الغنم ونحوها، وهو قول بعض أصحاب الشافعي، والأول أصح لأن العادة في ذلك تختلف وتتباين كثيراً والعمل يختلف باختلافه * (مسألة) * (وإذا حبس الصانع الثوب على أجرته فتلف ضمنه) لأنه لم يرهنه عنده ولا أذن له في إمساكه فلزمه الضمان كالغاصب * (مسألة) * (فإن أتلف الثوب بعد عمله خير المالك بين تضمينه إياه غير معمول ولا أجرة له وبين تضمينه إياه معمولا ويدفع إليه الأجرة) وكذلك لو وجب عليه ضمان المتاع المحمول فصاحبه مخير بين تضمينه قيمته في الموضع الذي سلمه إليه ولا أجرة له، وبين تضمينه إياه في الموضع الذي أفسده ويعطيه الأجرة إلى ذلك المكان، وإنما كان كذلك لأنه إذا أحب تضمينه معمولا أو في المكان الذي أفسده فيه فله ذلك لأنه ملكه في ذلك الموضع على تلك الصفة فملك المطالبة بعوضه حينئذ، وإن أحب تضمينه قبل ذلك فلأن أجر العمل لا يلزمه قبل تسليمه وما سلم إليه فلا يلزمه (فصل) إذا أخطأ القصار فدفع الثوب إلى غير مالكه فعليه ضمانه لأنه فوته على مالكه قال أحمد يغرم القصار ولا يسع المدفوع إليه لبسه إذا علم أنه ليس بثوبه ويرده إلى القصار ويطالبه بثوبه فإن لم

(6/127)


يعلم القابض حتى قطعه ولبسه ثم علم رده مقطوعا وضمن أرش القطع وله مطالبته بثوبه إن كان موجوداً وإن هلك عند القصار ضمنه في إحدى الروايتين لأنه أمسكه بغير إذن صاحبه بعد طلبه فضمنه كما لو علم (والثانية) لا يضمنه لأنه لا يمكنه رده فأشبه ما لو عجز عن دفعه لمرض (فصل) والعين المستأجرة أمانة في يد المستأجر إن تلفت بغير تفريط لم يضمنها قال الأثرم سمعت أبا عبد الله يسئل عن الذين يكرون الخيمة إلى مكة فتذهب من المكتري بسرق هل يضمن قال أرجو أن لا يضمن وكيف يضمن؟ إذا ذهب لا يضمن ولا نعلم في هذا خلافاً لأنه قبض العين لاستيفاء
منفعة يستحقها منها فكانت أمانة كما لو قبض لعبد الموصى له بخدمته سنة أو قبض الزوج امرأته الأمة ويخالف العارية فانه لا يستحق منفعتها وإذا انقضت المدة فعليه رفع يده عنها وليس عليه الرد أومأ إليه في رواية ابن منصور قيل له إذا اكترى دابة أو استعار أو استودع فليس عليه أن يحملها فقال أحمد من استعار شيئا فعليه رده من حيث أخذه فأوجب الرد في العارية ولم يوجبه في الإجارة والوديعة ووجه ذلك أنه عقد لا يقتضي الضمان فلا يقتضي رده ومؤنته كالوديعة بخلاف العارية فإن ضمانها يجب فكذلك ردها.
وعلى هذا متى انقضت المدة كانت العين في يده أمانة كالوديعة إن تلفت من غير تفريط فلا ضمان عليه وهو قول بعض الشافعية، وقال بعضهم يضمن لأنه بعد انقضاء الإجارة غير مأذون له في إمساكه أشبه العارية المؤقتة بعد وقتها

(6/128)


ولنا أنها أمانة أشبهت الوديعة ولأنه لو وجب ضمانها لوجب ردها، أما العارية فإنها مضمونة بكل حال بخلاف مسئلتنا ولأنه يجب ردها ومتى طلبها صاحبها وجب تسليمها إليه فإن امتنع من ذلك لغير عذر صارت مضمونة كالمغصوبة (فصل) فإن شرط المؤجر على المستأجر ضمان العين فالشرط فاسد لأنه ينافي مقتضى العقد وتفسد به الإجارة في أحد الوجهين بناء على الشروط الفاسدة في البيع قال أحمد فيما إذا اشترط ضمان العين الكراء والضمان مكروه، روى الأثرم بإسناده عن ابن عمر قال لا يصلح الكراء بالضمان، وعن فقهاء المدينة أنهم كانوا يقولون لا يكري بضمان إلا أنه من شرط على كري ألا ينزل بمتاعه بطن واد ولا يسير به ليلا مع أشباه هذه الشروط فتعدى ذلك فتلف شئ مما حمل في ذلك التعدي فهو ضامن فأما غير ذلك فلا يصح شرط الضمان فيه، وإن شرطه لم يصح لأن ما لا يجب ضمانه لا يصير مضموناً بالشرط وعن أحمد أنه سئل عن ذلك فقال: المسلمون على شروطهم وهذا يدل على وجوب الضمان بشرطه وسنذكر ذلك في العارية فأما إن أكراه عينا وشرط أن لا يسير بها في الليل أو وقت القائلة أو لا يتأخر بها عن القافلة أو لا يجعل سيره في آخرها وأشباه هذا مما فيه غرض مخالف ضمن لأنه متعد لشرط كريه فضمن ما تلف به كما لو شرط عليه ألا يحمل إلا قفيزاً فحمل قفيزين، وحكم الإجارة
الفاسدة حكم الصحيحة في أنه لا يضمن إذا تلفت العين من غير تفريط ولا تعد لأنه عقد لا يقتضي

(6/129)


الضمان صحيحه فلا يقتضيه فاسده كالوكالة وحكم كل عقد فاسد في وجوب الضمان وعدمه حكم صحيحه فما وجب الضمان في صحيحه وجب في فاسده ومالا فلا * (مسألة) * (إذا ضرب المستأجر الدابة بقدر العادة أو كبحها أو الرائض الدابة لم يضمن) وجملة ذلك أن للمستأجر ضرب الدابة بما جرت به العادة ويكبحها باللجام للاستصلاح ويحثها على السير ليلحق القافلة فقد صح أن النبي صلى الله عليه وسلم نخس بعير جار وضربه وكان ابو بكر رضي الله عنه يحرش بعيره بمحجنه، وللرائض ضرب الدابة للتأدب وترتيب المشي والعد واليسير * (مسألة) * (وكذلك المعلم إذا ضرب الصبي للتأديب) قال الأثرم سئل أحمد عن ضرب المعلم الصبيان قال على قدر ذنوبهم ويتوقى بجهده الضرب، وإذا كان صغيراً لا يعقل فلا يضربه ومتى ضرب من هؤلاء كلهم الضرب المأذون فيه لم يضمن ما تلف في الدابة وبهذا قال مالك والشافعي واسحاق وأبو ثور وأبو يوسف ومحمد، وقال الثوري وأبو حنيفة يضمن لأنه تلف بجنايته فضمن كغير المستأجر، وكذلك قال الشافعي في المعلم يضرب الصبي لأنه يمكنه تأديبه بغير الضرب ولنا أنه تلف من فعل مستحق فلم يضمن كما لو تلف تحت الحمل ولأن الضرب معنى تضمنه الإجارة فإذا تلف منه لم يضمن كالركوب وفارق غير المستأجر لأنه متعد، وقول الشافعي يمكن التأديب بغير

(6/130)


الضرب لا يصح فإن العادة خلافه ولو أمكن التأديب بغير الضرب لما جاز الضرب إذ فيه إيلام لا حاجة إليه فإن أسرف في هذا كله أو زاد على ما يحصل الغنى به أو ضرب من لا عقل له من الصبيان فعليه الضمان لأنه متعد حصل التلف بعدوانه، وحكم ضرب الرجل امرأته في النشوز على ما ذكرنا قياسا على الصبي * (مسألة) * (وإن قال أذنت لي في تفصيله قباء قال بل قميصا فالقول قول الخياط نص عليه) إذا اختلف المؤجر والمستأجر فقال أذنت لي في قطعه قميص امرأة قال أذنت لك في قطعه
قميص رجل أو قال أذنت لي في قطعه قميصا قال بل قباء أو قال الصباغ أمرتني بصبغه أحمر قال بل أسود فالقول قول الخياط والصباغ نص عليه أحمد في رواية ابن منصور وهذا قول ابن أبي ليلى وقال مالك وابو حنيفة وابو ثور القول قول صاحب الثوب واختلف أصحاب الشافعي فمنهم من قال له قولان كالمذهبين ومنهم من قال له قول ثالث إنهما يتحالفان كالمتبايعين يختلفان في الثمن ومنهم من قال الصحيح أن القول قول رب الثوب لأنهما اختلفا في صفة إذنه والقول قوله في أصل الإذن فكذلك في صفته ولأن الأصل عدم الإذن المختلف فيه فالقول قول من ينفيه ولنا أنهما اتفقا على الإذن واختلفا في صفته فكان القول قول المأذون له كالمضارب إذا قال: أذنت لي في البيع نساء فأنكره ولأنهما اتفقا على ملك الخياط القطع والصباغ الصبغ والظاهر أنه فعل ما ملكه واختلفا في لزوم الغرم له والأصل عدمه فعلى هذا يحلف الخياط والصباغ: لقد أذنت لي

(6/131)


في قطعه قباء وصبغه أحمر، ويسقط عنه الغرم ويستحق أجر المثل لأنه ثبت وجود فعله المأذون فيه بعوض ولا يستحق المسمى لأن المسمى ثبت بقوله ودعواه فلا يجب بيمينه، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لو يعطى الناس بدعواهم لادعى قوم دماء رجال وأموالهم ولكن اليمين على المدعى عليه " أخرجه مسلم فأما المسمى في العقد فإنما يعترف رب الثوب بتسميته أجرا لقطعه قميصا أو صبغه أسود، وأما من قال القول قول رب الثوب فإنه يحلف بالله ما أذنت في قطعه قباء ولا صبغه أحمر ويسقط عنه المسمى ولا يجب للخياط والصباغ أجر لأنهما فعلا غير ما أذن لهما فيه، وذكر ابن أبي موسى رواية أخرى عن أحمد أن صاحب الثوب إذا لم يكن ممن يلبس الأقبية والسواد فالقول قوله وعلى الصانع غرم ما نقص بالقطع وضمان ما أفسد ولا أجر له لأن قرينة حال رب الثوب تدل على صدقه فترجح دعواه بها كما لو اختلف الزوجان في متاع البيت رجحنا دعوى كل واحد منهما فيما يصلح له ولو اختلف صانعان في الآلة التي في دكانهما رجحنا قول كل واحد منهما في آلة صناعته فعلى هذا يحلف رب الثوب ما أذنت لك في قطعه قباء ويكفي هذا لأنه ينتفي به الإذن فيصير قاطعا لغير ما أذن فيه فإذا كان القباء مخيطا بخيوط لمالكه لم يملك الخياط فتقه وكان لمالكه أخذه مخيطا بلا عوض لأنه عمل في ملك
غيره عملا مجرداً عن عين مملوكة له فلم يكن له إزالته كما لو نقل ملك غيره من موضع إلى موضع لم يكن له رده إذا رضي صاحبه بتركه فيه وإن كانت الخيوط للخياط فله نزعها لأنها عين ماله ولا يلزمه

(6/132)


أخذ قيمتها لأنها ملكه ولا يتلف بأخذها ماله حرمة فإن اتفقا على تعويضه عنها جاز لأن الحق لهما وإن قال رب الثوب أنا أشد في كل خيط خيطا حتى إذا سلمه عاد خيط رب الثوب في مكانه لم يلزم الخياط الإجابة إلى ذلك لأنه انتفاع بملكه وحكم الصباغ في قلع الصبغ إن اختاره وفي غير ذلك من أحكامه حكم صبغ الصباغ على ما يأتي في بابه قال شيخنا " والذي يقوى عندي أن القول قول رب الثوب لما ذكرنا في دليلهم وما قاسوا عليه فيما إذا قال المضارب أذنت لي في البيع نساء فأنكر رب المال أن القول قول المشارب ممنوع (فصل) إذا دفع إلى خياط ثوبا فقال: إن كان يقطع قميصا فاقطعه، فقال: هو يقطع وقطعه، فلم يكف ضمنه، أو قال انظر هذا يكفيني قميصا؟ قال نعم، قال اقطعه فقطعه فلم يكفه، لم يضمن وبه قال الشافعي وأصحاب الرأي، وقال أبو ثور لا ضمان عليه في المسئلتين لأنه لو كان غره في الأولى لكان قد غره في الثانية.
ولنا أنه إنما أذن له في الأولى بشرط كفايته فقطعه بدون شرطه، وفي الثانية أذن له من غير شرط فافترقا ولم يجب عليه الضمان في الأولى لتغريره بل لعدم الإذن في قطعه لأن إذنه مقيد بشرط كفايته فلا يكون إذناً في غير ما وجد فيه الشرط بخلاف الثانية.
(فصل) فإن أمره أن يقطع الثوب قميص رجل فقطعه قميص امرأة فعليه غرم ما بين قيمته صحيحا

(6/133)


ومقطوعا لأن هذا قطع غير مأذون فيه فأشبه ما لو قطعه من غير إذن وقيل يغرم ما بين قميص رجل وقميص امرأة لأنه مأذون في قميص في الجملة والأول أصح لأن المأذون فيه قميص موصوف بصفة فإذا قطع قميصا غيره لم يكن فاعلا لما أذن فيه فكان متعديا بابتداء القطع ولذلك لا يستحق على القطع أجراً ولو فعل ما أمر به لاستحق أجره
(فصل) إذا دفع إلى حائك غزلا فقال انسجه لي عشرة أذرع في عرض ذراع فنسجه زائداً على ما قدر له في الطول والعرض فلا أجر له في الزيادة لأنه غير مأمور بها وعليه ضمان ما نقص الغزل المنسوج فيها فأما ما عدا الزائد فينظر فيه فإن كان جاءه زائدا في الطول وحده ولم ينقص الأصل بالزيادة فله ما سمى له من الأجر كما لو استأجره أن يضرب له مائة لبنة فضرب له مائتين وإن جاء به زائداً في العرض وحده أو فيهما ففيه وجهان (أحدهما) لا أجر له لأنه مخالف لأمر المستأجر فلم يستحق شيئاً كما لو استأجره على بناء حائط عرض ذراع فبناه عرض ذراعين (والثاني) له المسمى لأنه زاد على ما أمره به فأشبه زيادة الطول ومن قال بالوجه الأول فرق بين الطول والعرض بأنه يمكن قطع الزائد في الطول ويبقى الثوب على ما أراد ولا يمكن ذلك في العرض فأما إن جاء به ناقصاً في الطول والعرض أو في أحدهما ففيه أيضاً وجهان (أحدهما) لا أجر له وعليه ضمان نقص الغزل لأنه مخالف لما أمر به فأشبه ما لو استأجره على بناء حائط عرض ذراع فبناه عرض نصف ذراع (والثاني) له بحصته

(6/134)


من المسمى كمن استؤجر على ضرب لبن فضرب بعضه ويحتمل أنه إن جاء به ناقصاً في العرض فلا شئ له وإن كان ناقصاً في الطول فله بحصته من المسمى لما ذكرنا من الفرق بين الطول والعرض وإن جاء به زائداً في أحدهما ناقصاً في الآخر فلا أجر له في الزائد وهو في الناقص على ما ذكرنا من التفصيل فيه.
وقال محمد بن الحسن في الموضعين يتخير صاحب الثوب بين دفع الثوب إلى النساج ومطالبته بثمن غزله وبين أن يأخذه ويدفع إليه المسمى في الزائد وبحصة المنسوج في الناقص لأن غرضه لم يسلم له لأنه ينتفع بالطويل ما لا ينتفع بالقصير وينتفع بالقصير ما لا ينتفع بالطويل فكأنه أتلف عليه غزله ولنا أنه وجد عين ماله فلم يكن له مطالبته بعوض كما لو جاء به زائدا في الطول وحده فأما إن أثرت الزيادة أو النقص في الأصل مثل أن يأمره بنسج عشرة أذرع ليكون الثوب صفيقا فنسجه خمسة عشر فصار خفيفا أو بالعكس فلا أجر له بحال وعليه ضمان نسج الغرل لأنه لم يأت بشئ مما أمر به (فصل) إذا اختلف المتكاريان في قدر الأجر فقال أجرتنيها سنة بدينار قال بل بدينارين تخالفا
ويبدأ بيمين الآجر نص عليه أحمد وهو قول الشافعي لأن الإجارة نوع من البيع فإذا تحالفا قبل مضي شئ من المدة فسخا العقد ورجع كل واحد منهما في ماله وإن رضي أحدهما بما حلف عليه الآخر أقر العقد وإن فسخا العقد بعد المدة أو شئ منها سقط المسمى ووجب أجر المثل كما لو اختلفا في المبيع

(6/135)


بعد تلفه وهذا قول الشافعي وبه قال أبو حنيفة إن لم يكن عمل العمل وإن كان عمله فالقول قول المستأجر فيما بينا وبين أجر مثله، وقال أبو ثور القول قول المستأجر لأنه منكر للزيادة في الاحر والقول قول المنكر ولنا أن الإجارة نوع من البيع فيتحالفان عند اختلافهما في عرضها كالبيع وكما قبل أن يعمل العمل عند أبي حنيفة، وقال ابن أبي موسى القول قول المالك لقول النبي صلى الله عليه وسلم " إذا اختلفا المتبايعان فالقول ما قال البائع " وهذا يحتمل أن يتناول ما إذا اختلفا في المدة وأما إذا اختلفا في العوض فالصحيح أنهما يتحالفان لما ذكرناه (فصل) فإن اختلفا في المدة فقال أجرتكها سنة بدينار فقال بل سنتين بدينارين فالقول قول المالك لأنه منكر للزيادة فكان القول قوله فيما أنكره كما لو قال بعتك هذا العبد بمائة فقال بل هذين العبدين بمائتين، وإن قال أجرتكها سنة بدينار فقال بل سنتين بدينار فههنا قد اختلفا في قدر العوض والمدة فيتحالفان لأنه لم يوجد الاتفاق منهما على مدة بعوض فصار كما لو اختلفا في العوض مع اتفاق المدة وإن قال المالك أجرتكها سنة بدينار فقال الساكن بل استأجرتني على حفظها بدينار، فقال أحمد القول قول رب الدار إلا أن تكون للساكن بينة وذلك لأن سكنى الدار قد وجد من الساكن واستيفاء منفعتها وهي ملك صاحبها والقول قوله في ملكه والأصل عدم استئجاره للساكن في الحفظ فكان القول قول من ينفيه ويجب على الساكن أجر المثل

(6/136)


(فصل) فإن اختلفا في التعدي في العين المستأجرة فالقول قول المستأجر لأنه أمين فأشبه المودع ولأن الأصل عدم العدوان والبراءة من الضمان وإن ادعى أن العبد أبق من يده وأن الدابة شردت
أو نفقت وأنكر المؤجر فالقول قول المستأجر لما ذكرنا ولا أجر عليه إذا حلف أنه ما انتفع بها لأن الأصل عدم الانتفاع وعنه القول قول المؤجر لأن الأصل السلامة فأما إن ادعى أن العبد مرض في يده فإن جاء به صحيحاً فالقول قول المالك سواء وافقه العبد أو خالفه نص عليه أحمد وإن جاء به مريضاً فالقول قول المستأجر وهذا قول أبي حنيفة لأنه إذا جاء به صحيحا فقد ادعى ما يخالف الأصل وليس معه دليل عليه وإن جاء به مريضا فقد وجد ما يخالف الأصل يقينا فكان القول قوله في مدة المرض لأنه أعلم بذلك لكونه في يده وكذلك لو ادعى إباقه في حال إباقه ونقل إسحاق بن منصور عن أحمد أنه يقبل قوله في إباق العبد دون مرضه، وبه قال الثوري واسحاق قال أبو بكر وبالأول أقول لأنهما سواء في تفويت منفعته فكانا سواء في دعوى ذلك وإن هلكت العين فاختلفا في وقت هلاكها أو أبق العبد أو مرض واختلفا في وقت ذلك فالقول قول المستأجر لأن الأصل عدم العمل ولأن ذلك حصل في يده وهو أعلم به * (فصل) * قال المصنف رحمه الله (وتجب الأجرة بنفس العقد إلا أن يتفقا على تأخيرها) متى أطلق العقد في الإجارة ملك المؤجر الأجرة بنفس العقد كما يملك البائع الثمن بالبيع

(6/137)


وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة لا يملكها ولا يستحق المطالبة بها إلا يوماً بيوم إلا أن يشترط تعجيلها قال أبو حنيفة إلا أن تكون معينة كالثوب والدار والعبد لأن الله تعالى قال (فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن) أمر بإيتائهن بعد الرضاع وقال النبي صلى الله عليه وسلم " يقول الله عزوجل ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة رجل استأجر أجيراً فاستوفى منه ولم يوفه أجره " فتوعده على الامتناع من دفع الأجر بعد العمل دل على أنها حالة الوجوب وروي عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال " أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه " رواه ابن ماجه ولأنه عوض لم يملك معوضه فلم يجب تسليمه كالعوض في العقد الفاسد فإن المنافع معدومة لم تلك ولو ملكت فلم يتسلمها لأنه يتسلمها شيئا فشيئا فلا يجب عليه العوض مع تعذر التسليم في العقد ولنا أنه عوض أطلق ذكره في عقد معاوضة فيستحق بمطلق العقد كالثمن والصداق أو نقول عوض
في عقد يتعجل بالشرط فوجب أن يتعجل بمطلق العقد كالذي ذكرنا فأما الآية فيحتمل أنه أراد الإيتاء عند الشروع في الإرضاع أو تسليم نفسها كقوله تعالى (فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله) أي إذا أردت القراءة ولأن هذا تمثيل بدليل الخطاب ولا يقولون به وكذلك الحديث يحققه أن الأمر بالإيتاء في وقت لا يمنع وجوبه قبله كقوله تعالى (فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن) والصداق يجب قبل الاستمتاع وهذا هو الجواب عن الحديث ويدل عليه أنه إنما توعد على ترك الإيفاء بعد الفراغ من العمل وقد

(6/138)


قلتم يجب الأجر شيئاً فشيئاً ويحتمل أنه توعده على ترك الوفاء في الوقت الذي تتوجه المطالبة فيه عادة جواب آخر أن الآية والأخبار إنما وردت فيمن استؤجر على عمل فأما إن وقعت الإجارة فيه على مدة فلا تعرض لها به * (مسألة) * (ولا يجب تسليم أجرة العمل في الذمة حتى يتسلمه) إذا استؤجر على عمل فإن الأجر يملك بالعقد أيضاً لكن لا يستحق تسليمه إلا عند تسليم العمل وقال ابن أبي موسى من استؤجر لعمل معلوم استحق الأجر عند إيفاء العمل، وإن استؤجر كل يوم بأجر معلوم فله أجر كل يوم عند تمامه، وقال أبو الخطاب الأجر يملك بالعقد ويستحق التسليم ويستقر بمضي المدة وإنما توقف استحقاق تسليمه على العمل لأنه عوض فلا يستحق تسليمه إلا مع تسليم المعوض كالصداق والثمن في البيع وفارق الإجارة على الأعيان لأن تسليمها أجري مجرى تسليم نفعها ومتى كانت على منفعة في الذمة لم يحصل تسليم المنفعة ولا ما يقوم مقامها فتوقف استحقاق تسليم الأجر على تسليم العمل وقولهم لم يملك المنافع قد سبق الجواب عنه فإن قيل فإن المؤجر إذا قبض الأجر انتفع به كله بخلاف المستأجر فإنه لا يحصل له استيفاء المنفعة كلها قلنا لا يمنع هذا كما لو شرط التعجيل وكانت الأجرة عينا فأما إن شرط التأجيل في الأجر فهو على ما شرط وإن شرط منجما يوماً يوماً أو شهراً شهراً فهو على ما شرطاه لأن إجارة العين كبيعها وبيعها يصح بثمن حال ومؤجل كذلك إجارتها، وفيه وجه آخر أن الإجارة على المنفعة في الذمة لا يجوز تأجيل عوضها كالسلم

(6/139)


(فصل) إذا استوفى المستأجر المنافع استقر الأجر لأنه قبض المعقود عليه فاستقر عليه البدل
كما لو قبض المبيع وإن تسلم العين المستأجرة ومضت المدة لا مانع له من الانتفاع استقرت الأجرة أيضاً وإن لم ينتفع لأن المعقود عليه تلف تحت يده وهي حقه فاستقر عليه بدلها كثمن المبيع إذا تلف في يد البائع فإن كانت الإجارة على عمل فسلم المعقود عليه ومضت مدة يمكن استيفاء المنفعة فيها مثل أن يكتري دابة ليركبها إلى حمص فقبضها ومضت مدة يمكن ركوبها فيها فقال أصحابنا يستقر عليه الأجر وهو مذهب الشافعي لأن المنافع تلفت تحت يده باختياره فاستقر الضمان عليه كما لو تلفت العين في يد المشتري وكما لو كانت الإجارة على مدة فمضت وقال أبو حنيفة لا يستقر الأجر عليه حتى يستوفي المنفعة لأنه عقد على المنفعة غير مؤقتة بزمن فلم يستقر بدلها قبل استيفائها كالأجر في الأجير المشترك وإن بذل تسليم العين فلم يأخذها المستأجر حتى انقضت المدة استقر الأجر عليه لأن المنافع تلفت باختياره في مدة الإجارة فاستقر عليه الأجر كما لو كانت في يده وإن بذل تسليم العين وكانت الإجارة على عمل فقال أصحابنا إذا مضت مدة يمكن الاستيفاء فيها استقر عليه الأجر وبهذا قال الشافعي لأن المنافع تلفت باختياره وقال أبو حنيفة لا أجر عليه قال شيخنا وهو الصحيح عندي لأنه عقد على ما في الذمة فلم يستقر عوضه ببذل التسليم كالمسلم فيه ولأنه عقد على منفعة غير مؤقتة بزمن فلم يستقر عوضها بالبذل كالصداق إذا بذلت تسليم نفسها وامتنع الزوج من أخذها

(6/140)


* (مسألة) * (وإذا انقضت الإجارة وفي الأرض غراس أو بناء لم يشترط قلعه عند انقضاء الأجل فللمالك أخذه بالقيمة وتركه بالأجرة أو قلعه وضمان نقصه وإن اشترط القلع لزمه ذلك ولا يلزمه تسويق الأرض إلا بشرط) إذا استأجر أرضا للغراس أو للبناء سنة صح لأنه يمكنه تسليم منفعتها المباحة المقصودة فأشبهت سائر المنافع وسواء شرط قلع الغراس والبناء عند انقضاء المدة أو أطلق وله أن يغرس قبل انقضاء المدة فإذا انقضت لم يكن له أن يغرس ولا أن يبني لزوال عقده فإذا انقضت السنة وكان قد شرط القطع عند انقضائها لزمه ذلك وفاء بموجب شرطه وليس على صاحب الأرض غرامة نقصه ولا على المستأجر تسوية الحفر وإصلاح الأرض لأنهما دخلا على هذا لرضاهما بالقلع واشتراطهما
عليه وإن اتفقا على إبقائه بأجرة أو غيرها جاز إذا شرطا مدة معلومة وكذلك لو اكترى الأرض سنة بعد سنة كلما انقضى عقد جدد آخر، وإن أطلق العقد فللمكتري القلع لأنه ملكه فله أخذه كطعامه في الدار التي باعها وإذا قلع فعليه تسوية الحفر لأنه نقص دخل على ملك غيره بغير إذنه وهكذا إن قلعه قبل انقضاء المدة هاهنا وفي التي قبلها لأن القلع قبل الوقت لم يأذن فيه المالك ولأنه تصرف في

(6/141)


الأرض تصرفا نقصها لم يقتضه عقد الإجارة وإن أبى القلع لم يجبر عليه إلا أن يضمن له المالك النقص فيخير حينئذ وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة ومالك عليه القلع من غير ضمان النقص له لأن تقدير المدة في الإجارة يقتضي التفريغ عند انقضائها كما لو استأجرها للزرع ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " ليس لعرق ظالم حق " مفهومه أن غير الظالم له حق وهذا غير ظالم ولأنه غرس بإذن المالك ولم يشرط قلعه فلم يجبر على القلع من غير ضمان النقص كما لو استعار منه أرضا للغرس مدة فرجع قبل انقضائها ويخالف الزرع فإنه لا يقتضي التأبيد فإن قيل فإن كان إطلاق العقد في الغراس يقتضي التأبيد فشرط القلع ينافي مقتضى العقد فينبغي أن يفسده قلنا إنما اقتضى التأبيد من حيث إن العادة في الغراس التبقية فإذا أطلقه حمل على العادة وإذا شرط خلافه جاز كما إذا باع بغير نقد البلد أو شرط في الإجارة سيراً يخالف العادة إذا ثبت هذا فإن رب الأرض يخير بين ثلاثة أشياء (أحدها) أن يدفع قيمة الغراس والبناء فيملكه مع أرضه لأن الضرر يزول عنهما به أشبه الشفيع في غراس المشتري (الثاني) أن يقلع الغراس والبناء ويضمن أرش نقصه لذلك (الثالث) أن يقر الغراس والبناء ويأخذ منه أجر المثل، وبهذا قال الشافعي لأن الضرر يزول عنهما بذك وقال

(6/142)


مالك يتخير بين دفع قيمته فيملكه وبين مطالبته بالقلع من غير ضمان وبين تركه فيكونان شريكين والأول أصح فإن اتفقا على بيع الغرس والبناء للمالك جاز وإن باعهما صاحبهما لغير مالك الارض جاز ومشتريهما يقوم مقام البائع فيهما وقال أصحاب الشافعي في أحد الوجهين: ليس له بيعهما لغير مالك الأرض لأن ملكه ضعيف بدليل أن لصاحب الأرض تملكه عليه بالقيمة بغير رضاه
ولنا أنه ملك له يجوز بيعه لمالك الأرض فجاز لغيره كالشقص المشفوع وبهذا يبطل ما ذكروه فإن للشفيع تملك الشقص بغير رضى المشتري ويجوز بيعه لغيره (فصل) فإن شرط في العقد تبقية الغراس فذكر القاضي أنه صحيح وحكمه حكم ما لو أطلق العقد سواء وهو قول أصحاب الشافعي، ويحتمل أن يبطل العقد لأنه شرط ما ينافي مقتضى العقد فلم يصح كما لو شرط ذلك في الزرع االذي لا يكمل قبل انقضاء المدة ولأن الشرط باطل بدليل أنه لا يجب الوفاء به وهو مؤثر فأبطله كشرط تبقية الزرع بعد مدة الإجارة * (مسألة) * (وإن كان فيها زرع بقاؤه بتفريط المستأجر فللمالك أخذه بالقيمة وتركه بالأجرة وإن كان بغير تفريط لزم تركه بالأجرة)

(6/143)


إذا استأجر أرضا للزراعة مدة فانقضت وفيها زرع لم يبلغ حصاده لم يخل من حالين (أحدهما) أن يكون لتفريط المستأجر مثل أن يزرع زرعاً لم تجر العادة بكماله قبل انقضاء المدة فحكمه حكم زرع الغاصب، يخير المالك بين أخذه بالقيمة أو تركه بالأجرة لما زاد على المدة لأنه أبقى زرعه في أرض غيره بعدوانه وإن اختار المستأجر قطع زرعه في الحال وتفريغ الأرض فله ذلك لأنه يزيل الضرر ويسلم الأرض على الوجه الذي اقتضاه العقد، وذكر القاضي أن على المستأجر نقل الزرع وتفريغ الأرض وإن اتفقا على تركه بعوض أو غيره جاز وهذا مذهب الشافعي بناء على قوله في الغاصب وقياس المذهب ما ذكرناه (الحال الثاني) أن يكون بقاؤه بغير تفريطه مثل أن يزرع زرعاً ينتهي في المدة عادة فأبطأ لبرد أو غيره فيلزم المؤجر تركه بالأجرة إلى أن ينتهي وله المسمى وأجر المثل لما زاد وهذا أحد الوجهين لأصحاب الشافعي (والوجه الثاني) يلزمه نقله لأن المدة ضربت لنقل الزرع فلزم العمل بموجبه وقد وجه منه تفريط لأنه كان يمكنه أن يستظهر في المدة فلم يفعل ولنا أن الزرع حصل في أرض غيره بإذنه من غير تفريط فله تركه كما لو أعاره أرضاً فزرعها ثم رجع المالك قبل كمال الزرع وقولهم إنه مفرط لا يصح لأن هذه المدة التي جرت العادة بكمال الزرع فيها

(6/144)


وفي زيادة المدة تفويت زيادة الأجر بغير فائدة وتضييع زيادة متيقنة لتحصيل شئ متوهم على خلاف العادة هو التفريط فلم يكن تركه تفريطا ومتى أراد المستأجر زرع شئ لا يدرك مثله في مدة الإجارة فللمالك منعه لأنه سبب لوجود زرعه في أرضه بغير حق، فإن زرع لم يملك مطالبته بقلعه قبل المدة لأنه في أرض يملك نفعها ولأنه لا يملك ذلك بعد المدة فقبلها أولى، ومن أوجب عليه قطعه بعد المدة قال إذا لم يكن بد من المطالبة بالنقل فليكن عند المدة التي يستحق تسليمها إلى المؤجر فارغة (فصل) إذا اكترى الأرض لزرع مدة لا يكمل فيها مثل أن اكترى خمسة أشهر لزرع لا يكمل إلا في ستة نظرنا فإن شرط تفريغها عند انقضاء المدة ونقله عنها صح لأنه لا يفضي إلى الزيادة على مدته وقد يكون له غرض في ذلك لأخذه إياه قصيلا أو غيره ويلزمه ما التزم، وإن أطلق العقد ولم يشرط شيئاً احتمل أن يصح لأن الانتفاع في هذه المدة ممكن واحتمل أنه امكن أن ينتفع بالأرض في زرع ضرره كضرر الزرع المشروط ودونه مثل أن يزرعها شعيراً يأخذه قصيلا صح لأن الانتفاع بها في بعض ما اقتضاه العقد ممكن وإن لم يكن كذلك لم يصح لأنه اكترى للزرع مالا ينتفع بالزرع فيه فأشبه إجارة السبخة له، فإن قلنا يصح فإذا انقضت المدة ففيه وجهان: أحدهما حكمه حكم زرع المستأجر لما لا تكمل مدته لأنه ههنا مفرط واحتمل أن يلزم المكري تركه لأن التفريط منه حيث أكراه مدة لزرع لا يكمل فيها، وإن شرط تبقيته حتى يكمل فالعقد فاسد لأنه جمع بين متضادين فإن تقدير المدة

(6/145)


يقتضي النقل فيها وشرط التبقية يخالفه ولأن مدة التبقية مجهولة فإن زرع لم يطالب بنقله كالتي تقدمت * (مسألة) * (وإذا تسلم العين بالإجارة الفاسدة فعليه أجرة المثل سكن أو لم يسكن) إذا قبض العين في الإجارة الفاسدة ومضت المدة أو مدة يمكن استيفاء المنفعة فيها أو لا يمكن ففيه روايتان: إحداهما عليه أجرة المثل لمدة بقائها في يده وهذا مذهب الشافعي لأن المنافع تلفت تحت يده بعوض لم يسلم له فرجع إلى قيمتها كما لو استوفاها (والثانية) لا شئ له وهو قول أبي حنيفة لأنه عقد فاسد على منافع لم يستوفها فم يلزمه عوضه كالنكاح الفاسد.
فأما إن بذل له التسليم في الإجارة الفاسدة
فلم يتسلمها فلا أجر عليه لأن المنافع لم تتلف تحت يده ولا في ملكه، وإن استوفى المنفعة في العقد الفاسد فعليه أحر المثل وبه قال مالك والشافعي، وقال أبو حنيفة يجب أقل الأمرين من المسمى أو أجر المثل بناء منه على أن المنافع لا تضمن إلا بالعقد.
ولنا أن ما ضمن بالمسمى في العقد الصحيح وجب ضمانه بجميع القيمة في الفاسد كالأعيان وما ذكروه غير مسلم * (مسألة) * (إذا اكترى بدراهم وأعطاه عنها دنانير ثم انفسخ العقد رجع المستأجر بالدراهم) لأن العقد إذا انفسخ رجع كل واحد من المتعاقدين في العوض الذي بذله وعوض العقد هو الدراهم فكان الرجوع بها والدنانير إنما أخذها المؤجر بعقد آخر سوى الإجارة ولم ينفسخ فأشبه ما إذا قبض الدراهم ثم صرفها بالدنانير.

(6/146)


باب إحياء الموات وهي الارض الداثرة التي لا يعلم أنها ملكت والموات الأرض الدارسة تسمى ميتة ومواتاً وموتانا بفتح الميم والواو والموتان بضم الميم وسكون الواو الموت الذريع ورحل موتان القلب بفتح الميم وسكون الواو يعني عمي القلب لا يفهم والأصل في إحياء الموات ما روى جابر رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " من أحيا أرضاً ميتة فهي له " قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح وروى سعيد ابن زيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " من أحيا أرضاً ميتة فهي له " قال الترمذي هذا حديث حسن وروي مالك في موطئه وأبو داود في سننه عن عائشة مثله قال ابن عبد البر وهو مسند صحيح متلقى بالقبول عند ففهاء المدينة وغيرهم وروى أبو عبيد في الأموال عن عائشة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من أحيا أرضاً ليست لأحد فهو أحق بها " قال عروة وقضى بذلك عمر بن الخطاب في خلافته وعامة فقهاء الأمصار على أن الموات يملك بالأحياء وإن اختلفوا في شروطه * (مسألة) * (فإن كان فيها آثار الملك ولا يعلم لها مالك ففيه روايتان) وجملة ذلك أن الموات قسمان (أحدهما) ما لم يجر عليه ملك لأحد ولم يوجد فيه أثر عمارة فهذا يملك بالإحياء بغير خلاف بين القائلين بالإحياء لأن الأخبار المروية متناولة له (القسم الثاني) ما جرى

(6/147)


عليه ملك وهو ثلاثة أنواع (أحدهما) ماله مالك معين وهو ضربان (احدهما) ما ملك بشراء أو عطية فهذا لا يملك بالأحياء بغير خلاف قال ابن عبد البر أجمع العلماء أن ما عرف بملك مالك غير منقطع أنه لا يجوز إحياؤه لأحد غير أربابه (الثاني) ما ملك بالإحياء ثم ترك حتى دثر وعاد مواتا فهو كالذي قبله سواء وقال مالك تملك لعموم قوله " من أحيا أرضاً ميتة فهي له " ولأن أصل هذه الأرض مباح فإذا تركت حتى تصير مواتا عادت إلى الإباحة كمن أخذ ماء من نهر ثم رده فيه ولنا أن هذه أرض يعرف مالكها فلم تملك بالأحياء كالتي ملكت بشراء أو عطية والخبر مقيد بغير المملوك بقوله في الرواية الأخرى " من أحيا أرضاً ميتة ليست لأحد " وقوله " من غير حق مسلم " وهذا يوجب تقييد مطلق حديثه وقال هشام بن عروة في تفسير قوله عليه السلام " ليس لعرق ظالم حق " الظالم أن يأتي الرجل الأرض الميتة لغيره فيغرس فيها رواه سعيد بن منصور وفي سننه ثم الحديث مخصوص بما ملك بشراء أو عطية فقيس عليه محل النزاع ولأن سائر الأموال لا يزول الملك عنها بالترك بدليل سائر الأملاك إذا تركت حتى تشعثت وما ذكروه يبطل بالموات إذا أحياه إنسان ثم باعه فتركه المشتري حتى عاد مواتا وباللقطة إذا ملكها ثم ضاعت منه ويخالف ماء النهر فإنه استهلك (النوع الثاني) ما يوجد فيه آثار ملك قديم جاهلي كآثار الروم ومساكن ثمود ونحوهم فهذا يملك بالأحياء في أظهر الروايتين لما ذكرنا من الأحاديث ولأن ذلك الملك لا حرمة له لما روى طاوس عن

(6/148)


النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " عادي الأرض لله ولرسوله ثم هي لكم بعد " رواه سعيد في سننه وأبو عبيد في الأموال وقال عادي الأرض التي كان بها ساكن في آباد الدهر فاقرضوا فلم يبق منهم أنيس وإنما نسبها إلى عاد لأنهم كانوا مع تقدمهم ذوي قوة وبطش وآثار كثيرة فينسب كل أثر قديم إليهم والرواية الثانية لا تملك لأنها إما لمسلم أو ذمي أو بيت المال أشبه ما لو تعين مالكه قال شيخنا ويحتمل أن كل ما فيه أثر الملك ولم يعلم زواله قبل الإسلام أنه لا يملك لأنه يحتمل أن المسلمين أخذوه عامراً فاستحقوه فصار موقوفا بوقف عمر له فلم يملك كما لو علم مالكه (النوع الثالث) ما جرى عليه الملك في الإسلام
لمسلم أو ذمي غير معين فظاهر كلام الخرقي أنه لا يملك بالإحياء وهو إحدى الروايتين عن أحمد نقلها عنه أبو داود وأبو الحرث لما روى كثير بن عبد الله بن عوف عن أبيه عن جده قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " من أحيا أرضاً مواتا في غير حق مسلم فهي له " فقيده بكونه في غير حق مسلم ولأن هذه الأرض لها مالك فلم يجز إحياؤها كما لو كان معينا فإن مالكها إن كان له ورثة فهي لهم وإن لم يكن له ورثة ورثه المسلمون (والثانية) أنها تملك بالإحياء نقلها صالح وغيره وهي مذهب أبي حنيفة ومالك لعموم الأخبار ولأنها أرض موات لا حق فيها لقوم بأعيانهم أشبهت ما لم يجر عليه ملك مالك ولأنها إن كانت في دار الإسلام فهي كلقطة دار الإسلام وإن كانت في دار الكفر فهي كالركاز * (مسألة) * (ومن أحيا أرضاً ميتة فهي له للأخبار التي رويناها مسلما كان أو كافراً في دار الإسلام وغيرها)

(6/149)


لعموم الأخبار ولأن عامر دار الحرب إنما يملك بالقهر والغلبة كسائر أموالهم فأما ما عرف أنه كان مملوكاً في دار الحرب ولم يعلم له مالك معين فهو على الروايتين فإن قيل هذا ملك كافر غير محترم فأشبه ديار عاد وقد دل عليه قوله عليه السلام " عادي الأرض لله ولرسوله ثم هي لكم بعد " ولأن الركاز من أموالهم ويملكه واجده فهذا أولى قلنا قوله " عادي الأرض " يعني ما تقدم ملكه ومضت عليه الأزمان وما كان كذلك فلا حكم لمالكه فأما ما قرب ملكه فيحتمل أن له مالكا باقيا وإن لم يتعين فلهذا قلنا لا يملك على إحدى الروايتين وأما الركاز فإنه ينقل ويحول وهذا يخالف الأرض بدليل أن لقطة دار الإسلام تملك بعد التعريف بخلاف الأرض (فصل) ولا فرق بين المسلم والذمي في الإحياء نص عليه أحمد وبه قال أبو حنيفة وقال مالك لا يملك الذمي بالإحياء في دار الإسلام قال القاضي وهذا مذهب جماعة من أصحابنا لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم " موتان الأرض لله ولرسوله ثم هي لكم مني " فجمع المرتان ثم جعله للمسلمين ولأن موتان الأرض من حقوقها والدار للمسلمين فكان مواتها لهم كمرافق المملوك ولنا عموم قوله عليه السلام " من أحيا أرضاً ميتة فهي له " ولأن هذه جهة من جهات التمليك فاشترك فيها المسلم والذمي كسائر جهاته وحديثهم لا نعرفه إنما نعرف قوله " عادي الأرض لله ورسوله ثم هي
لكم بعد ومن أحيا مواتا من الأرض فله رقبتها " هكذا روى سعيد بن منصور وهو مرسل ورواه طاوس

(6/150)


عن النبي صلى الله عليه وسلم ثم لا يمتنع أن يريد بقوله " هي لكم " أي لأهل دار الإسلام والذي من أهل الدار تجري عليه أحكامها وقولهم إنها من حقوق دار الإسلام قلنا هو من أهل الدار فيملكها كما يملكها بالشراء ولأنه يملك مباحاتها من الحشيش والحطب والصيود والركاز والمعدن واللقطة وهي من مرافق دار الإسلام فكذلك الموات * (مسألة) * (ويملكه بإذن الإمام وغير إذنه) وجملة ذلك أن إحياء الموات لا يفتقر إلى إذن الإمام وبهذا قال الشافعي وأبو يوسف ومحمد وقال أبو حنيفة يفتقر إلى إذنه لأن للإمام مدخلا في النظر في ذلك بدليل من تحجر موانا فلم يحيه فإنه يطالبه بالإحياء أو الترك فافتقر إلى إذنه كمال بيت المال ولنا عموم قوله عليه السلام " من أحيا أرضاً ميتة فهي له " ولأن هذه عين مباحة فلا يفتقر تملكها إلى إذن الإمام كأخذ الحشيش والحطب ونظر الإمام في ذلك لا يدل على اعتبار إذنه الا ترى أن من وقف في مشرعة طالبه الإمام أن يأخذ حاجته وينصرف ولم يفتقر ذلك لى إذنه وأما مال بيت المال فهو مملوك للمسلمين وللإمام تعيين مصارفه وترتيبها فافتقر إلى إذنه بخلاف مسئلتا فإن هذا مباح فمن سبق إليه كان أحق الناس به كسائر المباحات * (مسألة) * (إلا ما أحياه مسلم من أرض الكفار التي صولحوا عليها)

(6/151)


وجملة ذلك أن جميع البلاد فيما ذكرنا سواء المفتوح عنوة كأرض الشام والعراق وما أسلم أهله عليه كالمدينة، وما صولح أهله على أن الأرض للمسلمين كأرض خيبر إلا الذي صولح أهله على أن الأرض لهم ولنا الخراج عنها فان أصحابنا قالوا لو دخل إليها مسلم فأحيا فيها مواتا لم يملكه لأنهم صولحوا في بلادهم فلا يجوز التعرض لشئ منها عامراً كان أو مواتا لأن الموات تابع للبلد فإذا لم يملك عليهم البلد لم يملك مواته ويفارق دار الحرب حيث يملك مواتها لأن دار الحرب على أصل الإباحة وهذه صالحناهم
على تركها لهم ويحتمل أن يملكها من أحياها لعموم الخبر، ولأنها من مباحات دارهم فجاز أن يملكها من وجد منه سبب تملكها كالحشيش والحطب وقد روي عن أحمد أنه ليس في السواد موات يعني سواد العراق قال القاضي هو محمول على العامر، ويحتمل أن أحمد قال ذلك لكون السواد كان معموراً كله في زمن عمر بن الخطاب حين أخذه المسلمون من الكفار حتى بلغنا أن رجلا سأل أن يعطى خربة فلم يجدوا له خربة فقال أردت أن أعلمكم كيف أخذتموها منا وإذا لم يكن فيها موات حين ملكها المسلمون لم يصر فيها موات بعده لأن ما دثر من أملاك المسلمين لم يصر مواتا على إحدى الروايتين * (مسألة) * (وما قرب من العامر وتعلق بمصالحه لا يملك بالإحياء فإن لم يتعلق بمصالحه فعلى روايتين)

(6/152)


كل ما تعلق بمصالح العامر من طرقه ومسيل مائه ومطرح قمامته ولقى ترابه وآلاته لا يجوز إحياؤه بغير خلاف في المذهب وكذلك ما تعلق بمصالح القرية كفنائها ومرعى ماشيتها ومحتطبها وطرقها ومسيل مائها لا يملك بالأحياء لا نعلم فيه أيضاً خلافا بين أهل العلم وكذلك حريم البئر والنهر والعين وكل مملوك لا يجوز إحياء ما تعلق بمصالح لقوله عليه السلام " من أحيا أرضاً ميتة في غير حق مسلم فهي له " مفهومه أن ما تعلق به حق مسلم لا يملك بالإحياء ولأنه تابع للمملوك ولو جوزنا إحياءه لبطل الملك في العامر على أهله، وذكر القاضي أن هذه المرافق لا يملكها المحيي بالإحياء لكن هو أحق بها من غيره لأن الإحياء الذي هو سبب الملك لم يوجد فيها: وقال الشافعي تملك بذلك وهو ظاهر قول الخرقي في حريم البئر لأنه مكان استحقه بالإحياء فملكه كالمحيي، ولأن معنى الملك موجود فيه لأنه يدخل مع الدار في البيع ويختص به صاحبها، فأما ما قرب من العامر ولم يتعلق بمصالحه فيجوز احياؤ في إحدى الروايتين.
قال أحمد في رواية أبي الصقر في رجلين أحييا قطعتين من موات وبقيت بينهما رقعة فجاء رجل ليحييها فليس لهما منعه، وقال في جبانة بين قريتين: من أحياها فهي له وهذا مذهب الشافعي لعموم قوله عليه السلام " من أحيا أرضاً ميتة فهي له " ولأن النبي صلى الله عليه وسلم أقطع بلال بن الحارث العقيق وهو يعلم أنه من عمارة المدينة، ولأنه موات لم تتعلق به مصلحة العامر فجاز إحياؤه كالبعيد
(والثانية) لا يجوز إحياؤه وبه قال أبو حنيفة والليث لأنه في مظنة تعلق المصلحة به فإنه يحتمل

(6/153)


أن يحتاج إلى فتح باب في حائطه إلى فنائه ويجعله طريقا أو يخرب حائطه فيجعل آلات البناء في فنائه وغير ذلك فلم يجز تفويت ذلك عليه بخلاف البعيد.
إذا ثبت هذا فإنما يرجع في القريب والبعيد إلى العرف، وقال الليث حده غلوة وهو خمس خمس الفرسخ، وقال أبو حنيفة حد البعيد هو الذي إذا وقف الرجل في أدناه فصاح بأعلى صوته لم يسمع أدنى أهل المصر إليه (والثاني) أن التحديد لا يعرف إلا بالتوقيف ولا يعرف بالرأي والتحكم ولم يرد من الشرع تحديد له فوجب أن يرجع في ذلك إلى العرف كالقبض والإحراز فقول من حدد بهذا تحكم بغير دليل وليس ذلك بأولى من تحديده بشئ آخر كميل أو نصف ميل وهذا التحديد الذي ذكره والله أعلم يختص بما قرب من المصر أو القرية، ولا يجوز أن يكون حداً لكل ما قرب من عامر لأنه يفضي إلى أن من أحيا أرضاً في موات حرم إحياء شئ من ذلك الموات على غيره ما لم يخرج عن ذلك الحد * (مسألة) * (ولا تملك المعادن الظاهرة كالملح والقار، والكحل والجص، والنفظ بالإحياء وليس للإمام اقطاعه) وجملة ذلك أن المعادن الظاهرة وهي التي يوصل إلى ما فيها من غير مؤنة ينتابها الناس وينتفعون بها كالملح والماء والكبريت والقير والموميا والنفط والكحل والبرام والياقوت ومقاطع الطين وأشباه ذلك لا يملك بالإحياء ولا يجوز اقطاعه لأحد من الناس ولا احتجاره دون المسلمين لأن فيه ضرراً

(6/154)


بالمسلمين وتضييقا عليهم، ولما روى أبو عبيد وأبو داود والترمذي بإسنادهم عن أبيض بن حمال أنه استقطع رسول الله صلى الله عليه وسلم الملح الذي بمأرب فلما ولى قيل يا رسول الله أتدري ما أقطعت له إنما أقطعته الماء العد فرجعه منه، قال قلت يارسول الله ما يحمى لي من الأراك؟ قال " ما لم تنله أخفاف الإبل " وهو حديث غريب ورواه سعيد قال حدثني اسماعيل بن عياش عن عمرو بن قيس المأربي عن أبيه عن أبيض بن
حمال المأربي قال: استقطعت رسول الله صلى الله عليه وسلم معدن الملح بمأرب فاقطعنيه فقيل يا رسول الله أنه بمنزلة الماء العد يعني أنه لا ينقطع فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " فلا إذن " ولأن هذا يتعلق به مصالح المسلمين العامة فلم يجز إحياؤه ولا اقطاعه كمشارع الماء وطرقات المسلمين.
قال ابن عقيل هذا من مواد الله الكريم وفيض جوده الذي لا غناء عنه، ولو ملكه أحد بالاحتجار ملك منعه فضاق على الناس، فإن أخذ العوض عنه أعلاه فخرج عن الوضع الذي وضعه الله به من تعميم ذوي الحوائج من غير كلفة وهذا مذهب الشافعي ولا أعلم فيه مخالفا (فصل) فأما المعادن الباطنة وهي التي لا يوصل إليها إلا بالعمل والمؤنة كمعادن الذهب والفضة والحديد والنحاس والرصاص والبلور والفيروزج فإن كانت ظاهرة لم تملك أيضا بالإحياء لما ذكرنا في التي قبلها، وإن لم تكن ظاهرة فحفرها إنسان وأظهرها لم يملكها بذلك في ظاهر المذهب وظاهر مذهب

(6/155)


الشافعي ويحتمل أن يملكها بذلك وهو قول للشافعي لأنه موات لا ينتفع به إلا بالعمل والمؤنة فملك الإحياء كالأرض ولأنه بإظهاره تهيأ للانتفاع به من غير حاجة إلى تكرار ذلك العمل فأشبه الأرض إذا أحياها بماء أو حاطها ووجه الأول أن الإحياء الذي يملك به هو العمارة التي يتهيأ بها المحيي للانتفاع من غير تكرار عمل وهذا حفر وتخريبه يحتاج إلى تكرار عند كل انتفاع، فإن قيل فلو احتفر بئراً ملكها وملك حريمها قلنا البئر تهيأت للانتفاع بها من غير تجديد حفر ولا عمارة وهذه المعادن تحتاج عند كل انتفاع إلى عمل وعمارة فافترقا، قال أصحابنا وليس للإمام اقطاعها لأنها لا تملك بالإحياء والصحيح جواز ذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم أقطع بلال بن الحارث معادن القبلية جلسيها وغوريها.
رواه أبو داود وغيره * (مسألة) * (فإن كان بقرب الساحل موضع) إذا حصل فيه الماء صار ملحا ملك بالإحياء وللإمام اقطاعه لا يضيق على المسلمين بإحداثه بل يحدث نفعه بفعله فلم يمنع منه كبقية الموات وإحياء هذا تهيئته لما يصلح له من حفر ترابه وتمهيده وفتح قناة إليه تصب الماء فيه لأنه يتهيأ بهذا للانتفاع به
* (مسألة) * (وإذا ملك المحيي ملك ما فيه من المعادن الباطنة كمعادن الذهب والفضة) إذا ملك الأرض بالإحياء فظهر فيها معدن جامد ملكه ظاهراً كان أو باطنا لأنه ملك الأرض

(6/156)


بجميع أجزائها وطبقاتها وهذا منها ويفارق الكنز فإنه مودع فيها وليس من أجزائها ويفارق ما إذا كان ظاهراً قبل احيائها لأنه قطع على المسلمين نفعاً كان واصلا إليهم ومنعهم انتفاعا كان لهم وههنا لم يقطع عنهم شيئا لأنه إنما ظهر بإظهاره، ولو تحجر الأرض أو أقطعها فظهر فيها المعدن قبل إحيائها كان له إحياؤها ويملكها بما فيها لأنه صار أحق بتحجره واقطاعه فلم يمنع من إتمام حقه * (مسألة) * (وإن ظهر فيه عين ماء أو معدن جار أو كلأ أو شجر فهو أحق به لأنه في ملكه) ويملكه في إحدى الروايتين لأنه خارج من أرضه أشبه المعادن الجامدة والزرع (والثانية) لا يملكه وهي أصح لقول النبي صلى الله عليه وسلم " الناس شركاء في ثلاث: في الماء والكلأ والنار " رواه الخلال ولأنها ليست من أجزاء الأرض فلم يملكها بملك الأرض كالكنز * (مسألة) * (ويلزمه بذل ما فضل من مائه لبهائم غيره) لما روى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " من منع فضل الماء ليمنع به فضل الكلأ منعه الله فضل رحمته " وهل يلزمه بذله لزرع غيره؟ على روايتين (إحداهما) لا يلزمه لأن الزرع لا حرمة له في نفسه (والثانية) يلزمه لما روي إياس بن عبد أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع فضل الماء وعن بهنسة عن أبيها أنه قال يا نبي الله ما الشئ الذي لا يحل منعه؟ قال " الماء " رواه أبو داود (فصل) ولو شرع إنسان في حفر معدن ولم يصل إلى النيل صار أحق به كالمتحجر الشارع في

(6/157)


الإحياء فإذا وصل الى النيل صار أحق بالأخذ منه ما دام مقيما على الأخذ منه وهل يملكه بذلك؟ فيه ما قد ذكرنا من قبل فإن حفر آخر من ناحية أخرى لم يكن له منعه وإذا وصل إلى ذلك العرق لم يكن له منعه سواء قلنا إن المعدن يملك بحفره أو لم نقل لأنه إن ملكه فإنما يملك المكان الذي حفره.
وأما العرق الذي في الأرض فلا يملكه بذلك ومن وصل إليه من جهة أخرى فله أخذه، ولو ظهر في ملكه
معدن بحيث يخرج النيل عن أرضه فحفر انسان من خارح أرضه كان له أن يأخذ ما خرج عن أرضه منه لأنه لم يملكه إنما ملك ما هو من أجزاء أرضه وليس لأحد أن يأخذ ما كان داخلا في أرضه من أجزاء الأرض الباطنة كما لا يملك أخذ أجزائها الظاهرة، ولو حفر كافر في دار الحرب معدنا فوصل إلى النيل ثم فتحها المسلمون عنوة لم يصر غنيمة وكان وجود عمله وعدمه واحداً لأن عامره لم يملك بذلك ولو ملكه فإن الارض تصير كلها وقفا للمسلمين وهذا ينصرف إلى مصلحة من مصالحهم فتعين لها كما لو ظهر بفعل الله تعالى (فصل) ومن ملك معدنا فعمل فيه غيره بغير إذنه فما حصله منه فهو لمالكه ولا أجر للغاصب على عمله لأنه عمل في ملك غيره بغير إذنه فهو كما لو حصد زرع غيره، وإن قال مالكه اعمل فيه ولك ما يخرج منه فله ذلك وليس لصاحب المعدن فيه شئ لأنه إباحة من مالكه فملك ما أخذه كما لو أباحه الأخذ من بستانه، وإن قال اعمل فيه على أن ما رزق الله من نيل كان بيننا نصفين فعمل ففيه وجهان

(6/158)


(أحدهما) يجوز وما يأخذه يكون بينهما كما لو قال احصد هذا الزرع بنصفه أو ثلثه ولأنها عين تنمى بالعمل عليها فصح العمل فيها ببعضه كالمضاربة في الأثمان (والثاني) لا يصح لأن ما يحصل منه مجهول ولأنه لا يصح أن يكون إجارة لأن العوض مجهول والعمل مجهول ولا جعالة لأن العوض مجهول ولا مضاربة لأن المضاربة إنما تصح بالأثمان على أن يرد رأس المال ويكون له حصة من الربح وليس ذلك ههنا وفارق حصاد الزرع بنصفه أو جزء منه لأن الزرع معلوم بالمشاهدة وما علم جميعه علم جزؤه بخلاف هذا، وإن قال اعمل فيه كذا ولك ما يحصل منه بشرط أن تعطيني ألفاً أو شيئا معلوما لم يصح لأنه بيع لمجهول ولا يصح إن يكون معلوما كالمضاربة لما ذكرنا ولأن المضاربة تكون بجزء من النماء لا دراهم معلومة، قال أحمد إذا أخذ معدنا من قوم على أن يعمره ويعمل فيه ويعطيهم ألفي من أو ألف من صفر فذلك مكروه ولم يرخص فيه (فصل) إذا استأجر رجلا ليحفر له عشرة أذرع في دور كذا بدينار صح لأنها إجارة معلومة وإن ظهر عرق ذهب فقال استأجرتك لتخرجه بدينار لم يصح لأن العمل مجهول، وإن قال إن استخرجته
فلك دينار صح وتكون جعالة لأن الجعالة تصح على عمل مجهول إذا كان العوض معلوما (فصل) وما نضب عنه الماء من الجزائر لم يملك بالإحياء.
قال أحمد في رواية العباس بن موسى إذا نضب الماء عن جزيرة إلى فناء رجل لم يبن فيها لأن فيه ضرراً وهو أن الماء يرجع يعني أنه

(6/159)


يرجع إلى ذلك المكان فإذا وجده مبنياً رجع إلى الجانب الآخر فأضر بأهله ولأن الجزائر منبت الكلأ والحطب فجرى مجرى المعادن الظاهرة وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم " لا حمى إلا في الاراك " قال أحمد في رواية حرب يروى عن عمر أنه أباح الجزائر يعني أباح ما ينبت في الجزائر من النبات وقال إذا نضب الفرات عن شئ ثم نبت فيه نبات فجاء رجل يمنع الناس منه فليس له ذلك فأما إن غلب الماء على ملك إنسان ثم عاد فنضب عنه فله أخذه ولا يزول ملكه بغلبة الماء عليه فإن كان ما نضب عنه الماء لا ينتفع به أحد فعمره رجل عمارة لا ترد الماء مثل أن يجعله مزرعة فهو أحق به من غيره لأنه متحجر لما ليس للمسلم فيه حق فأشبه التحجر في الموات * (فصل) * قال رحمه الله (وإحياء الأرض أن يحوزها بحائط أو يجري لها) ظاهر كلامه ههنا أن تحويط الأرض إحياء لها سواء أرادها للبناء أو للزرع أو حظيرة للغنم أو الخشب وهو ظاهر كلام الخرقي نص عليه أحمد في رواية علي بن سعيد فقال الإحياء أن يحوط عليها حائطاً أو يحفر فيها بئراً أو نهراً ولا يعتبر في ذلك تسقيف وذلك لما روى الحسن عن سمرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " من أحاط حائطا على أرض فهي له " رواه أبودواد والإمام أحمد في مسنده وروي عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله ولأن الحائط حاجر منيع فكان إحياء أشبه ما لو جعلها حظيرة للغنم ويبين هذا أن القصد - لا اعتبار به بدليل ما لو أرادها حظيرة للغنم كما لو جعلها حظيرة للغنم فبناها بجص وآجر وقسمها بيوتاً فإنه يملكها وهذا لا يصنع للغنم مثله ولابد أن يكون الحائط منيعاً يمنع

(6/160)


ما وراءه ويكون مما جرت العادة بمثله ويختلف باختلاف البلدان فإن كان ممن جرت عادتهم بالبناء بالحجر وحده كأهل حوران أو بالطين كأهل الغوطة بدمشق أو بالخشب أو القصب كأهل الغور كان ذلك إحياء وإن
بناه بأقوى مما جرت به عادتهم كان أولى، وقال القاضي في صفة الإحياء روايتان (إحداهما) ما ذكرنا (والثانية) الإحياء ما تعارفه الناس إحياء لأن الشرع ورد بتعليق الملك عليه ولم يبينه ولا ذكر كيفيته فيجب الرجوع فيه إلى ما كان إحياء في العرف كما انه لما ورد باعتبار القبض والحرز ولم يبين كيفيته كان المرجع فيه الى العرف ولأن الشارع لو علق الحكم على مسمى باسم لتعلق بمسماه عند أهل اللسان فلذلك يتعلق الحكم بالمسمى إحياء عند أهل العرف ولأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يعلق الحكم على ما ليس إلى معرفته طريق فلما لم يبينه تعين العرف طريقاً لمعرفته إذ ليس له طريق سواه إذا ثبت هذا فان الارض تحيا دارا للسكنى وحظيرة ومزرعة، فإحياء كل واحدة من ذلك بما تتهيأ به للانتفاع الذي أريدت له، فأما الدار فبأن يبني حيطانها بما جرت به العادة ويسقفها لأنها لا تصلح للسكنى إلا بذلك، والحظيرة إحياؤها بحائط جرت به العادة لمثلها، وليس من شرطها التسقيف لأن العادة لم تجر به وسواء أرادها حظيرة للماشية أو للخشب أو للحطب أو نحو ذلك فإن جعل عليها خندقا لم يكن إحياء لأنه ليس بحائط ولا عمارة إنما هو حفر تخريب ووكذلك إن حاطها بشوك وشبهه لا يكون

(6/161)


إحياء ويكون تحجراً لأن المسافر قد ينزل منزلا ويحوط على رحله بنحو من ذلك ولو نزل منزلا فنصب فيه بيت شعر أو خيمة لم يكن إحياء.
وإن أرادها للزراعة فبأن يهيئها لامكان الزرع فيها فإن كانت لا تزرع الا بالماء فبأن يسوق إليها ماء من نهر أو بئر وإن كان المانع من زرعها كثرة الأحجار كأرض الحجاز فإحياؤها بقلع أحجارها وتنقيتها حتى تصلح للزرع وإن كانت غياضاً أو أشجاراً كأرض الشعرى فبأن يقلع أشجارها ويزيل عروقها المانعة من الزرع، وإن كانت مما لا يمكن زرعه إلا بحبس الماء عنه كأرض البطائح فإحياؤها بسد الماء عنها وجعلها بحال يمكن زرعها لأن بذلك يمكن الانتفاع بها فيما أرادها له من غير حاجة إلى تكرار ذلك في كل عام فكان إحياء كسوق الماء إلى أرض لا ماء لها ولا يعتبر في إحياء الأرض حرثها ولا زرعها لأن ذلك مما يتكرر كلما أراد الانتفاع بها فلم يعتبر في الإحياء كسقيها وكالسكنى في البيوت ولا يحصل الإحياء بذلك إذا فعله بمجرده لما ذكرنا، ولا يعتبر في إحياء الأرض للسكنى نصب الأبواب على البيوت وبه قال الشافعي فيما ذكرنا في الرواية الثانية إلا أن
له وجهاً في أن حرثها وزرعها إحياء لها وأن ذلك معتبر في إحيائها لا يتم بدونه وكذلك نصب الأبواب على البيوت لأنه مما جرت العادة به أشبه السقف ولا يصح هذا لما ذكرنا ولأن السكنى ممكنة بدون نصب الأبواب فأشبه تطيين سطوحها وتبيضها * (مسألة) * (وإن حفر بئراً عادية ملك حريمها خمسين ذراعا وإن لم تكن عادية فحريمها خمسة وعشرون) البئر العادية بتشديد الياء القديمة منسوبة إلى عاد ولم يرد عاداً بعينها لكن لما كانت عاد

(6/162)


في الزمن الأول وكانت لها آثار في الأرض نسب إليها كل قديم، فكل من سبق إلى بئر عادية كان أحق بها لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم " من سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم فهو له " وله حريمها خمسون ذراعا من كل جانب، وإن حفر بئرا في موات للتمليك فله حريمها خمسة وعشرون ذراعا من كل جانب نص أحمد على هذا في رواية حرب وعبد الله واختاره أكثر أصحابنا، وقال القاضي وابو الخطاب ليس هذا على طريق التحديد بل حريمها في الحقيقة ما يحتاج إليه في ترقية مائها منها فإن كان بدولاب فقدر مد الثور أو غيره وإن كان بساقية فبقدر طول البئر لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " حريم البئر مد رشائها " أخرجه ابن ماجة ولأنه المكان الذي تمشي إليه البهيمة، وإن كان يستقي منها بيده فبقدر ما يحتاج إليه الواقف عندها، وإن كان المستخرج عينا فحريمها القدر الذي يحتاج إليه صاحبها للانتفاع ولا يستضر بأخذه منه ولو كان ألف ذراع، وحريم النهر من جانبيه ما يحتاج إليه لطرح كرايته بحكم العرف وذلك أن هذا إنما ثبت للحاجة فينبغي أن تراعى فيه الحاجة دون غيرها، وقال أبو حنيفة حريم البئر أربعون ذراعا وحريم العين خمسمائة ذراع لأن أبا هريرة روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " حريم البئر أربعون ذراعاً لاعطان الابل والغنم " وعن الشعبي مثله رواه أبو عبيد.
ولنا ما روى أن الدارقطني والخلال بإسنادهما عن النبي صلى الله عليه وسلم إنه قال " حريم البئر البدي خمس وعشرون ذراعا وحريم البئر العادي خمسون ذراعا " وهذا نص وروى أبو عبيد بإسناده

(6/163)


عن يحي بن سعيد الأنصاري أنه قال السنة في حريم القليب العادي خمسون ذراعا والبدي خمس وعشرون ذراعا
وبإسناده عن سعيد بن المسيب قال حريم البئر البدي خمس وعشرون ذراعا من نواحيها كلها وحريم بئر الزرع ثلثمائة ذراع من نواحيها كلها وحريم البئر العادي خمسون ذراعا من نواحيها كلها، ولأنه معنى يملك به الموات فلا يقف على قدر الحاجة كالحائط ولأن الحاجة إلى البئر لا تنحصر في ترقية الماء فانه يحتاج الى ما حوله عطنا لا بله وموقفا للدوابه وغنمه وموضعاً يجعل فيه أحواضاً يسقي منها ماشيته وموقفاً لدابته التي يستقي عليها وأشباه ذلك فلم يختص الحريم بما يحتاج إليه في ترقية الماء فأما حديث أبي حنيفة فحديثنا أصح منه ورواهما أبو هريرة فيدل على ضعفه * (مسألة) * (وقيل حريمها قدر مد رشائها من كل جانب) لما ذكرنا من الحديث إذا ثبت ذلك فإن ظاهر كلامه في هذا الكتاب وظاهر كلام الخرقي أنه يملك حريم البئر ونقل عن الشافعي وقال القاضي بل يكون أحق به * (مسألة) * (وقيل إحياء الأرض ما عد إحياء وهو عمارتها بما تتهيأ به لما يراد منها) وقد ذكرنا ذلك وقيل ما يتكرر كل عام كالسقي والحرث فليس بإحياء وما لا يتكرر فهو إحياء لأن العرف أن حرث الأرض مرة ليس بإحياء وأن عمل الحائط عليها ونحوه احياء وللشافعي وجه في أن الزرع والحرث إحياء وقد ذكرناه، فإن كانت كثيرة الدغل والحشيش كالمروج التي لا يمكن زرعها إلا بتكرار حرثها وتنقية دغلها وحشيشها المانع من زرعها كان إحياء على قياس ما ذكرنا أولا

(6/164)


(فصل) ولابد ان يكون البئر فيها ماء فإن لم تصل إلى الماء فهو كالمتحجر الشارع في الإحياء على ما نذكره، وقوله ومن حفر بئراً عادية يحمل على البئر التي انطمت وذهب ماؤها فجدد حفرها وعمارتها أو انقطع ماؤها فاستخرجه ليكون ذلك إحياء لها فأما البئر التي لها ماء ينتفع به المسلمون فليس لأحد احتجاره ومنعه لأنه بمنزلة المعادن الظاهرة التي يرتفق بها الناس وهكذا العيون النابعة ليس لأحد أن يختص بها ولو حفر رجل بئراً للمسلمين ينتفعون بها أو ينتفع بها مدة إقامته عندها ثم يتركها لم يملكها وكان له الانتفاع بها فإذا تركها كانت للمسلمين كلهم كالمعادن الظاهرة وهو أحق بها ما دام مقيما عندها لأنه سابق إليها فهو كالمتحجر الشارع في الإحياء
(فصل) وإذا كان لإنسان شجرة في موات فله حريمها قدر ما تمد إليه أغصانها حواليها وفي النخلة مد جريدها لما روى أبو سعيد قال اختصم إلى النبي صلى الله عليه وسلم في حريم نخلة فأمر بجريدة من جرائدها فذرعت فكانت سبعة أذرع أو خسمة أذرع فقضى بذلك رواه أبو داود، وإن غرس شجرة في موات فهي له وحريمها وإن سبق إلى شجر مباح كالزيتون والخروب فسقاه وأصحه فهو له كالمتحجر الشارع في الإحياء فإن طعمه ملكه بذلك وحريمه لأنه تهيأ للانتفاع به لما يراد منه فهو

(6/165)


كسوق المال إلى الارض الوات ولقول رسول الله صلى الله عليه وسلم " من سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم فهو أحق به " (فصل) ومن كانت له بئر فيها ماء فحفر آخر قريباً منها بئراً ينسرق إليها ماء البئر الاولى فليس له ذلك سواء كان محتفر الثانية في ملكه مثل رجلين متجاورين في دارين حفر أحدهما في داره بئراً ثم الآخر بئراً أعمق منها فسرى إليها ماء الأولى أو كانتا في موات فسبق أحدهما فحفر بئراً ثم جاء آخر فحفر قريباً منها بئراً يجتذب ماء الاولى، ووافق الشافعي في هذه الصورة الثانية لأنه ليس له أن يبتدئ ملكه على وجه يضر بالمالك قبله، وقال في الأولى له ذلك لأنه تصرف مباح في ملكه فجاز له فعله كتعلية داره وهكذا الخلاف في كل ما يحدثه الجار مما يضر بجاره مثل أن يجعل داره مدبغة أو حماما يضر بعقار جاره بحمي ناره ورماده ودخانه أو يحفر في أصل حائطه حشا يتأذى جاره برائحته وغيرها أو يجعل داره مخبزاً في وسط العطارين ونحوه مما يؤذي جاره وقال الشافعي له ذلك كله وروي ذلك عن أحمد وهو قول بعض الحنفية لأنه تصرف مباح في ملكه أشبه بناءه ونقضه ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " لا ضرر ولا اضرار " ولأنه إحداث ضرر بجاره فلم يجز كالدق الذي يهز الحيطان ويخربها وكإلقاء السماد والتراب في أصل حائطه على وجه يضر به ولو كان

(6/166)


لرجل مصنع فأراد جاره غرس شجر مما تسري عروقه فتشق حائط مصنع جاره وتتلفه لم يملك ذلك وكان لجاره منعه وقلعها إن غرسها، ولو كان هذا الذي حصل منه الضرر سابقاً مثل من له في ملكه
مدبغة أو مقصرة فأحيا إنسان إلى جانبه مواتاً وبناه داراً فتضرر بذلك لم يلزمه إزالة الضرر بغير خلاف نعلمه لأنه لم يحدث ضرراً * (مسألة) * (ومن تحجر مواتا لم يملكه وهو أحق به وورثته من بعده ومن ينقله إليه وليس له بيعه وقيل له ذلك) تحجر الموات المشروع في إحيائه مثل أن يدير حول الأرض تراباً أو أحجاراً أو حاطها بجدار صغير لم يملكها بذلك لأن الملك بالإحياء وليس هذا إحياء لكن يصير أحق الناس به لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " من سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم فهو أحق به " رواه أبو داود، فإن مات فوارثه أحق به لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم " من ترك حقاً أو مالا فهو لورثته " فإن نقله إلى غيره صار الثاني أحق به لأن صاحبه أقامه مقامه، وليس له بيعه فإن باعه لم يصح لأنه لا يملكه فلم يملك بيعه كحق الشفعة قبل الأخذ به وكمن سبق إلى معدن أو مباح قبل أخذه وقيل له بيعه لأنه أحق به * (مسألة) * (فإن لم يتم إحياءه قيل له إما أن تحييه وإما أن تتركه) إذا طالت المدة بعد التحجر ولم يحييه فينبغي أن يقول السلطان إما أن تحييه أو تتركه ليحييه غيرك لأنه ضيق على الناس في حق مشترك

(6/167)


بينهم فلم يمكن من ذلك كما لو وقف في طريق ضيق أو مشرعة ماء أو معدن لا ينتفع به ولا يدع غيره * (مسألة) * (فإن طلب الإمهال أمهل مدة قريبة) كالشهرين والثلاثة ونحوها لأنه يسير فإن بادر غيره فأحياه في مدة المهلة أو قبل ذلك ملكه بالإحياء في أحد الوجهين لأن الإحياء يملك به والتحجر لا يملك به فيثبت الملك بما يملك به دون ما لا يملك به كمن سبق إلى معدن أو مشرعة فجاء غيره فأزاله وأخذ ولعموم الحديث في الإحياء (والثاني) لا يملكه لأن مفهوم قوله عليه الصلاة والسلام " من أحيا أرضاً ميتة في غير حق مسلم فهي له " أنها لا تكون له إذا كان لمسلم فيها حق وكذلك قوله " من سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم فهو أحق به " وروى سعيد في سننه أن عمر قال من كانت له أرض - يعني من تحجر أرضاً - فعطلها ثلاث سنين فجاء قوم يعمرونها فهم أحق بها وهذا يدل على أن من عمرها قبل ثلاث سنين لا يملكها ولأن الثاني أحيا في حق غيره فلم يملكه كما لو أحيا
ما تتعلق به مصالح ملك غيره ولأن حق المتحجر أسبق فكان أولى كحق الشفيع يقدم على شراء المشتري (فصل) فإن ضربت للمتحجر مدة فانقضت المدة ولم يعمر فلغيره أن يعمره ويملكه لأن المدة ضربت له لينقطع حقه بمضيها وسواء أذن له السلطان في عمارتها أو لم يأذن، وإن لم يكن للمتحجر عذر في ترك العمارة قيل له إما أن تعمر وإما أن ترفع يدك فإن لم يعمرها كان لغيره عمارتها، فإن لم يقل له شئ واستمر تعطيلها فقد ذكرنا حديث عمر في المسألة قبلها ومذهب الشافعي في هذا الفصل والمسألة قبلها على نحو ما ذكرنا

(6/168)


(فصل) وللإمام إقطاع موات لمن يحييه ولا يملك بالإقطاع بل يصير كالمتحجر الشارع في الإحياء على ما ذكرنا، ولا ينبغي أن يقطع إلا ما قدر على إحيائه لأن اقطاعه أكثر منه إدخال ضرر على المسلمين بلا فائدة فيه فإن فعل ثم تبين عجزه عن إحيائه استرجعه منه كما استرجع عمر رضي الله عنه من بلال ابن الحارث ما عجز عن عمارته من العقيق الذي أقطعه النبي صلى الله عليه وسلم فروي أن النبي صلى الله عليه وسلم أقطع بلال بن الحارث العقيق أجمع وأن عمر قال لبلال أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقطعك لتحجبه عن الناس إنما أقطعك لتعمر فخذ منها ما قدرت على عمارته ورد الباقي رواه أبو عبيد في الأموال، وذكر سعيد في سننه عن عبد العزيز بن محمد عن ربيعة قال سمعت الحارث بن بلال بن الحارث يقول أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقطع بلال بن الحارث العقيق فلما ولي عمر قال ما أقطعته لتحجبه فأقطعه الناس، وروى علقمة بن وائل عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم أقطعه أرضا بحضر موت قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح، قال سعيد ثنا سفيان عن ابن أبي نجيح عن عمرو ابن شعيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقطع ناساً من جهينة أو مزينة أرضا فعطلوها فجاء قوم فاحيوها فخاصمهم الذين أقطعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عمر بن الخطاب فقال عمر لو كانت قطيعة مني أو من أبي بكر لم أردها ولكنها قطيعة من رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنا أردها

(6/169)


(فصل) وقد روى وائل بن حجر أن النبي صلى الله عليه وسلم أقطعه أرضاً فأرسل معاوية أن
أعطه إياه أو أعلمه إياه.
حديث صحيح، وأقطع الزبير حضر فرسه فأجرى فرسه حتى قام ورمى بسوطه فقال " أعطوه من حيث وقع السوط " رواه سعيد وأبو داود، وذكر البخاري عن أنس قال دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الأنصار ليقطع لهم بالبحرين فقالوا يا رسول الله إن فعلت فاكتب لإخواننا من قريش بمثلها، وروي أن أبا بكر أقطع طلحة بن عبيد الله أرضاً، وأقطع عثمان خمسة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الزبير وسعداً وابن مسعود وأسامة بن زيد وخباب بن الأرت وروي عن نافع أبي عبد الله أنه قال لعمران قبلنا أرضاً بالبصرة ليست من أرض الخراج ولا تضر بأحد من المسلمين فان رأيت أن تقطعنيها اتخذ فيها قصيلا لخيلي قال فكتب عمر إلى أبي موسى إن كانت كما يقول فاقطعها إياه.
روى هذه الآثار كلها أبو عبيد في الأموال.
إذا ثبت هذا فإن من أقطعه الإمام شيئاً من الموات لم يملكه بذلك لكن يصير أحق به كالمتحجر الشارع في الإحياء على ما ذكرنا من حديث بلال بن الحارث حيث استرجع منه عمر ما عجز عن إحيائه، ولو ملكه لم يجز استرجاعه ورد عمر أيضاً قطيعة أبي بكر لعيينة بن حصن فسأل عيينه بن حصن أبا بكر أن يجدد له كتاباً فقال والله لا أجدد شيئاً رده عمر رواه أبو عبيد.
فعلى هذا يكون المقطع أحق بها من سائر الناس وأولى بإحيائه وحكمه حكم المتحجر الشارع سواء وقد مر ذكره ومذهب الشافعي على نحو ما ذكرنا * (مسألة) * (وله إقطاع الجلوس في الطرق الواسعة ورحاب المساجد ما لم يضيق على الناس) القطائع ضربان (أحدهما) إقطاع موات لمن يحييه وقد ذكرناه (والثاني) إقطاع إرفاق وذلك كإقطاع مقاعد الأسواق والطرق الواسعة ورحاب المساجد فللإمام اقطاعها لمن يجلس فيها لأن له في ذلك اجتهاداً

(6/170)


من حيث أنه لا يجوز الجلوس إلا فيما لا يضر بالمارة فكان للإمام أن يجلس فيها من لا يرى أنه يتضرر بجلوسه، ولا يملكها المقطع بذلك بل يكون أحق بالجلوس فيها من غيره بمنزلة السابق إليها من غير إقطاع إلا في أن السابق إذا نقل متاعه عنها فلغيره الجلوس فيها لأن استحقاقه لها بسبقه إليها ومقامه فيها فإذا انتقل عنها زال استحقاقه لزوال المعنى الذي استحق به وهذا استحق بإقطاع الإمام فلا يزول حقه بنقل متاعه ولا لغيره الجلوس فيه، وحكمه في التظليل على نفسه بما ليس بيتاً ومنعه من
البناء ومنعه إذا طال مقامه حكم السابق على ما نذكره * (مسألة) * فإن لم يقطعها فلمن يسبق إليها الجلوس فيها ويكون أحق بها ما لم ينقل قماشه عنها) ما كان من الشوارع والطرقات والرحاب بين العمران فليس لأحد إحياؤه سواء كان واسعاً أو ضيقاً وسواء ضيق على الناس بذلك أو لم يضيق لأن ذلك يشترك فيه المسلمون وتتعلق به مصلحتهم أشبه مساجدهم ويجوز الإرتفاق بالقعود في الواسع من ذلك للبيع والشراء على وجه لا يضيق على أحد ولا يضر بالمارة لاتفاق أهل الأمصار في جميع الأعصار على إقرار الناس على ذلك من غير إنكار، ولأنه ارتفاق بمباح من غير إضرار فلم يمنع منه كالاجتياز قال أحمد في السابق إلى دكاكين السوق غدوة فهو له إلى الليل وكان هذا في سوق المدينة فيما مضى وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم " منى مناخ من سبق " وله أن يظلل على نفسه بما لا ضرر فيه من بارية وكساء ونحوه لأن الحاجة تدعو إليه من غير مضرة فيه، وليس له أن يبني دكة ولا غيرها لأنه يضيق على الناس وتعثر به المارة بالليل والضرير في الليل والنهار وتبقى على الدوام وربما ادعى ملكه بذلك والسابق أحق به ما كان فيه فإن قام وترك متاعه فيه لم يجز لغيره إزالته لأن يد الأول

(6/171)


عليه وإن نقل متاعه كان لغيره أن يقعد فيه لأن يده قد زالت * (مسألة) * (فإن طال مقامه منع في أحد الوجهين) لأنه يصير كالملك ويختص بنفع يساويه غيره في استحقاقه (والثاني) لا يمنع لأنه سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم * (مسألة) * (وإن سبق اثنان إليه احتمل أن يقرع بينهما واحتمل أن يقدم الإمام من يرى منهما فإن كان الجالس يضيق على المارة لم يحل له الجلوس فيه وليس للإمام تمكينه بعوض ولا غيره) قال احمد ما كان ينبغي لنا أن نشتري من هؤلاء الذين يبيعون على الطريق قال القاضي هذا محمول على أن الطريق ضيق أو يكون يؤذي المارة لما تقدم وقال لا يعجبني الطحن في العروب إذا كانت في طريق الناس وهي السفن التي يطحن فيها في الماء الجاري إنما كره ذلك لتضييقها طريق السفن المارة في الماء قال أحمد ربما غرقت السفن فأرى للرجل أن يتوقى الشراء مما يطحن بها (فصل) وإن سبق إلى معدن فهو أحق بما ينال منه لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم " من سبق
إلى ما لم يسبق إليه مسلم فهو أحق به " وسواء كان المعدن ظاهراً أو باطناً إذا كان في موات فإن أخذ قدر حاجته وأراد الإقامة فيه بحيث يمنع غيره منع من ذلك لأنه يضيق على الناس بما لا نفع فيه له أشبه ما لو وقف في مشرعة الماء لغير حاجة * (مسألة) * (وهل يمنع إذا طال مقامه للأخذ؟ على وجهين) (أحدهما) يمنع لأنه يصير كالمتملك والآخر لا يمنع لإطلاق الحديث، وإن استبق إليه اثنان أو أكثر وضاق المكان عنهما أقرع بينهما لأنه لا مزية لأحدهما على الآخر ويحتمل أن يقسم بينهما لأنه يمكن قسمته وقد

(6/172)


تساويا فقسم بينهما كما لو تداعيا عيناً في أيديهما ولا بينة لأحدهما ويحتمل أن يقدم الإمام من يرى منهما لأن له نظراً وذكر القاضي وجها رابعاً وهو أن الإمام ينصب من يقسم بينهما وهذا التفصيل مذهب الشافعي * (مسألة) * (ومن سبق إلى مباح كصيد أو عنبر وحطب وثمر ولقطة ولقيط وما ينبذه الناس رغبة عنه أو يضيع منهم مما لا تتبعه النفس وما يسقط من البلح وسائر المباحات فهو أحق به بإذن الإمام وغير إذنه لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم " من سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم فهو أحق به " وإن سبق إليه اثنان قسم بينهما لأن قسمته ممكنة فلا يؤخر حق أحدهما لأنه لا مزية لأحدهما على الآخر، وإن سبق إلى موات أو بئر عادية فهو أحق بها لما ذكرنا * (مسألة) * (وإذا كان الماء في نهر غير مملوك كمياه الأمطار فلمن في أعلاه أن يسقي ويحبس الماء حتى يصل إلى الكعب ثم يرسل إلى من يليه) وجملة ذلك أنه لا يخلو الماء من حالين إما أن يكون جارياً أو واقفاً والجاري ضربان (أحدهما) أن يكون في نهر غير مملوك وهو قسمان [أحدهما] أن يكون نهراً عظيماً كالنيل والفرات الذي لا يستضر أحد بالسقي منهما فهذا لا تزاحم فيه ولكل أحد أن يسقي منها متى شاء وكيف شاء [القسم الثاني] أن يكون نهراً صغيراً يزدحم الناس فيه ويتشاحون في مائه أو سيل يتشاح فيه أهل الأرضين الشاربة منه فيبدأ بمن في أول النهر فيسقي ويحبس الماء حتى يبلغ الكعب ثم يرسل إلى الذي يليه فيصنع كذلك وعلى هذا حتى تنتهي الأراضي كلها فإن لم يفضل عن الأول شئ أو عن

(6/173)


الثاني أو عمن يليهما فلا شئ للباقين لأنهم ليس لهم إلا ما فضل فهم كالعصبة في الميراث وهذا قول فقهاء المدينة ومالك والشافعي ولا نعلم فيه مخالفاً لما روى عبد الله بن الزبير أن رجلا من الأنصار خاصم الزبير في شراج الحرة التي يسقون بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال صلى الله عليه وسلم " اسق يا زبير ثم أرسل الماء إلى جارك " فغضب الأنصاري فقال يا رسول الله إن كان ابن عمنك؟ فتلون وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال " يا زبير اسق ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر " فقال الزبير فوالله إني لأحسب هذه الآية نزلت فيه (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم) متفق عليه، وذكر عبد الرزاق عن معمر عن الزهري قال نظرنا في قول النبي صلى الله عليه وسلم " ثم احبس حتى يبلغ الجدر " وكان ذلك إلى الكعبين، قال أبو عبيد: الشراج جمع شرج والشرج نهر صغير والحرة أرض ملتبسة بحجارة سود، والجدر الجدار وإنما أمر النبي صلى الله عليه وسلم الزبير أن يسقي ثم يرسل تسهيلاً على غيره فلما قال الأنصاري ما قال استوفى النبي صلى الله عليه وسلم للزبير حقه وروى مالك في الموطأ عن عبد الله بن أبي بكر بن عمر بن حزم أنه بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في سيل مهزوز ومذينيب " يمسك حتى يبلغ الكعبين ثم يرسل الأعلى على الأسفل " قال ابن عبد البر: هذا حديث مدني مشهور عند أهل المدينة يعملون به عندهم.
قال عبد الملك بن حبيب: مهزوز ومذينيب واديان من أودية المدينة يسيلان بالمطر يتنافس أهل الحوائط في سيلهما وروى أبو داود بإسناده عن ثعلبة بن أبي مالك أنه سمع كبراءهم يذكرون أن رجلا من قريش كان له سهم في بني قريظة فخاصم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في مهزوز السيل الذي يقتسمون ماءه فقضى بينهم

(6/174)


رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الماء إلى الكعبين لا يحبس الأعلى على الأسفل، ولأن من أرضه قريبة من رأس النهر سبق إلى المكان فكان أولى به كالسابق إلى المشرعة فإن كانت أرض صاحب الأعلى مختلفة منها عالية ومنها مستفلة سقى كل واحدة منها على حدتها، فإن استوى اثنان في القرب من أول النهر اقتسما الماء بينهما إن أمكن وإلا أقرع بينهما فقدم من تقع له القرعة فإن كان الماء لا يفضل عن أحدهما سقى من تقع له القرعة بقدر حقه من الماء ثم تركه للآخر، وليس له السقي بجميع الماء لمساواة الآخر له في استحقاق
الماء وإنما القرعة للتقديم في استيفاء الحق لا في أصل الحق بخلاف الأعلى مع الأسفل فإنه ليس للأسفل حق إلا في الفاضل عن الأعلى فإن كانت أرض إحداهما أكبر من أرض الآخر قسم الماء بينهما على قدر الارض لان الزائد من أرض أحدهما مساو في القرب فاستحق جزءاً من الماء كما لو كان لثالث * (مسالة) * (فإن أراد إنسان إحياء أرض ليسقيها من ماء النهر جاز ما لم يضر بأهل الأرض الشاربة منه) إذا كان لجماعة رسم شرب من نهر غير مملوك أو سيل فجاء إنسان ليحيي مواتا أقرب من رأس النهر من أرضهم لم يكن له أن يسقي قبلهم لأنهم أسبق إلى النهر منه ولأن من ملك أرضاً ملكها بحقوقها ومرافقها ولا يملك غيره إبطال حقوقها وهذا من حقوقها، وهل لهم منعه من إحياء ذلك الموات؟ فيه وجهان (أحدهما) ليس لهم منعه لأن حقهم في النهر لا في الموات (والثاني) لهم منعه لئلا يصير ذلك ذريعة إلى منعهم حقهم من السقي لتقديمه عليهم في القرب إذا طال الزمان وجهل الحال، فإذا قلنا ليس لهم منعه فسيق إلى مسيل ماء أو نهر غير مملوك فأحيا في أسفله مواتاً ثم أحيا آخر فوقه ثم أحيا ثالث فوق الثاني كان للأسفل السقي أولاً ثم الثاني ثم الثالث، ويقدم السبق إلى الأحياء على السبق إلى أول النهر لما ذكرنا

(6/175)


(فصل) الضرب الثاني الجاري في نهر مملوك وهو قسمان (أحدهما) أن يكون الماء مباح الأصل مثل أن يحفر إنسان نهراً صغيراً يتصل بنهر كبير مباح فما لم يتصل الحفر لا يملكه وإنما هو تحجر وشروع في الإحياء فإذا اتصل الحفر ملكه لأن الملك بالإحياء أن تنتهي العمارة إلى قصدها بحيث يتكرر الانتفاع بها على صورتها وهذا كذلك وسواء أجرى فيه الماء أو لم يجره لأن الاحياء يحصل بهيئته للانتفاع به دون حصول المنفعة فيصير مالكاً لقرار النهر وحافتيه، وهواؤه حق له وكذلك حريمه وهو ملقى الطين من جوانبه، وعند القاضي أن ذلك غير مملوك لصاحب النهر وإنما هو حق من حقوق الملك، وظاهر قول الخرقي أنه مملوك لغير صاحبه قياساً على قوله في حريم البئر أنه يملكه.
إذا تقرر ذلك فكان النهر لجماعة فهو بينهم على حسب العمل والنفقة لأنه إنما ملك بالعمارة والعمارة بالنفقة، فإن كفى جميعهم فلا كلام وإن لم يكفهم فتراضوا على قسمته بالمهايأة أو غيرها جاز لأن حقهم لا يخرج عنهم، وأن تشاحوا فيه قسمه الحاكم بينهم على قدر أملاكهم لأن كل واحد منهم يملك من النهر بقدر ذلك فتؤخذ خشبة أو حجر
مستوي الطرفين والوسط فتوضع على موضع مستو من الأرض في مصدم الماء فيه حزوز أو ثقوب متساوية في السعة على قدر حقوقهم من كل حز أو ثقب ساقية مفردة لكل واحد منهم فإذا حصل الماء في ساقيته انفرد به فإن كانت أملاكهم مختلفة قسم على قدر ذلك، فإذا كان لأحدهم نصفه وللثاني ثلثه وللثالث سدسه جعل فيه ستة ثقوب: لصحاب النصف ثلاثة نصب في ساقيته ولصاحب الثلث اثنان ولصاحب

(6/176)


قسدس واحد، فإن كان لواحد الخمسان والباقي لاثنين على السواء جعل عشرة ثقوب: لصاحب الخمسين أربعة نصب في ساقيته ولكل واحد من الآخرين ثلاثة، فإن كان النهر لعشرة - لخمسة منهم أراض الريبة من أول النهر ولخمسة أراض بعيدة جعل لأصحاب القريبة خمسة ثقوب لكل واحد ثقب وجعل للباقين خمسة تجري في النهر حتى تصل إلى أرضهم، ثم تقسم بينهم قسمة أخرى فإن أراد أحدهم أن يجري ماءه في ساقية غيره ليقاسمه في موضع آخر لم يجز بغير رضاه لأنه يتصرف في ساقيته ويخرب حابتيها بغير إذنه ويخلط حقه بحق غيره على وجه لا يتميز فلم يجز ذلك، ويجئ على قولنا إن الماء لا يملك أن حكم الماء في هذا النهر حكمه في نهر غير مملوك وإن الاسبق أحق بالسقي ثم الذي يليه على ما ذكرنا، ومذهب الشافعي في هذا الفصل كله على نحو ما ذكرنا (فصل) وإذا حصل نصيب إنسان في ساقية فله أن يسقي به ما شاء من الأرض سواء كان لها رسم شرب من هذا النهر أو لم يكن، وله أن يعطيه من يسقي به، وقال القاضي وأصحاب الشافعي ليس له سقي أرض ليس لها رسم شرب من هذا الماء لأن ذلك دال على أن لها قسما من هذا الماء فربما جعل سقيها منه دليلاً على استحقاقها لذلك فيستضر الشركاء ويصير هذا كما لو كان له دار بابها في درب لا ينفذ ودار بابها في درب آخر ظهرها ملاصق لظهر داره الأولى فأراد تنفيذ إحداهما إلى الأخرى لم يجز لأنه يجعل لنفسه استطراقاً من كل واحدة من الدارين ولنا أن هذا ماء انفرد باستحقاقه فكان له أن يسقي منه ما شاء كما لو انفرد به من أصله ولا نسلم

(6/177)


ما ذكره في الدارين وإن سلمنا فالفرق بينهما أن كل دار يخرج منها إلى درب مشترك لأن الظاهر أن
لكل دار سكاناً فيجعل لسكان كل واحدة منهما استطراقاً إلى درب غير نافذ لم يكن لهم حق في استطراقه وههنا إنما يسقي من ساقيته المفردة التي لا يشاركه غيره فيها، فلو صار لتلك الأرض رسم من الشرب من ساقيته لم يتضرر بذلك أحد، ولو كان يسقي من هذا النهر بدولاب فأحب أن يسقي بذلك الماء أرضاً لا رسم لها في الشرب من ذلك النهر فالحكم في ذلك على ما ذكرنا من الخلاف، وإن كان الدولاب يغرف من نهر غير مملوك جاز أن يسقى بنصيبه من الماء أرضاً لا رسم لها في الشرب منه بغير خلاف نعلمه فان ضاق الماء قدم الأسبق فالأسبق على ما مضى (فصل) ولكل واحد منهم أن يتصرف في ساقيته المختصة به بما أحب من إجراء ماء غير هذا الماء فيها أو عمل رحى عليها أو دولاب أو عبارة وهي خشبة تمد على طرفي النهر أو قنطرة يعبر فيها الماء أو غير ذلك من التصرفات لأنها ملكه ولا حق فيها لغيره فأما النهر المشترك فليس لواحد منهم أن يتصرف فيه بشئ من ذلك لأنه تصرف في النهر المشترك أو في حريمه بغير إذن شركائه وقال القاضي في العبارة هذا ينبني على الروايتين فيمن أراد أن يجري ماءه في أرض غيره والصحيح أنه

(6/178)


لا يجوز ههنا ولا يصح قياس هذا على إجراء الماء في أرض غيره لأن إجراء الماء في أرض ينفع صاحبها لأنه يسقي عروق شجره ويشربه أولاً وآخراً وهذا لا ينفع النهر بل ربما أفسد حافته ولا يسقي له شيئاً، ولو أراد أحد الشركاء أن يأخذ من النهر قبل قسمته شيئاً يسقي به أرضاً في أول النهر أو في غيره أو أراد إنسان غيرهم ذلك لم يجز لأنهم صاروا أحق بالماء الخاص في نهرهم من غيرهم ولأن الأخذ من الماء ربما احتاج إلى تصرف في حافة النهر المملوك لغيره أو المشترك بينه وبين غيره، ولو فاض ماء هذا النهر إلى أرض إنسان فهو مباح كالطائر يعشش في ملك إنسان ومذهب الشافعي في ذلك على نحو ما ذكرنا.
(فصل) وإن قسموا ماء النهر المشترك بالمهايأة جاز إذا تراضوا به وكان حق كل واحد منهم معلوماً مثل أن يجعلوا لكل حصة يوماً وليلة، وإن قسموا النهار فجعلوا لواحد من طلوع الشمس إلى الزوال وللآخر من الزوال إلى الغروب ونحو ذلك جاز، وإن قسموه ساعات وأمكن ضبط ذلك
بشئ معلوم جاز فإذا حصل الماء لأحدهم في نوبته فأراد أن يسقي به أرضاً ليس لها رسم شرب من هذا أو بؤثر به إنسانا أو يقرضه إياه على وجه لا يتصرف في حافة النهر جاز وعلى قول القاضي وأصحاب الشافعي ينبغي أن لا يجوز لما تقدم، وإن أراد صاحب النوبة أن يجري مع مائه ماء له آخر يسقي

(6/179)


به أرضه التي لها رسم شرب من النهر أو أرضاً له أخرى أو سأله إنسان أن يجري له ماء مع مائه في هذا النهر ليقاسمه إياه في موضع آخر على وجه لا يضر بالنهر ولا بأحد جاز ذلك في قياس قول أصحابنا فإنهم قالوا فيمن استأجر أرضاً جاز أن يجري فيها ماء في نهر محفور إذا كان فيها ولأنه مستحق لنفع النهر في نوبته بإجراء الماء فأشبه ما لو استأجرها لذلك.
(فصل) القسم الثاني أن يكون منبع الماء مملوكاً مثل أن اشترك جماعة في استنباط عين وإجرائها فإنهم يملكونها أيضاً لأن ذلك إحياء لها، ويشتركون فيها وفي ساقيتها على حسب ما أنفقوا عليها وعملوا فيها كما ذكرنا في النهر في القسم الذي قبله إلا أن الماء غير مملوك ثم لأنه مباح دخل ملكه فأشبه ما لو دخل بستانه صيد، وههنا يخرج على روايتين أصحهما أنه غير مملوك أيضاً وقد ذكرنا ذلك في كتاب البيع وعلى كل حال فلكل أحد أن يستقي من الماء الجاري لشربه ووضوئه وغسله وغسل ثيابه وينتفع به في أشباه ذلك مما لا يؤثر فيه من غير إذنه إذا لم يدخل إليه في مكان محوط عليه ولا يحصل لصاحبه المنع من ذلك لما روى أبو هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ثلاثة لا ينظر الله إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم رجل كان يفضل ماء بالطريق فمنعه ابن السبيل " رواه البخاري وعن بهيسة عن أبيها أنه قال يا نبي الله ما الشئ الذي لا يحل منعه؟ قال الماء قال يا نبي الله ما الشئ الذي لا يحل منعه؟ قال

(6/180)


" الملح " قال يا نبي الله ما الشئ الذي لا يحل منعه؟ قال " أن تفعل الخير خير لك " رواه أبو داود ولأن ذلك لا يؤثر في العادة وهو فاضل عن حاجة صاحب النهر، وأما ما يؤثر كسقي الماشية الكثيرة فإن فضل عن حاجته لزمه بذله وإلا لم يلزمه وقد ذكرناه (فصل) إذا كان النهر أو الساقية مشتركاً بين جماعة فأرادوا إكراءه أو سد بثق فيه أو إصلاح
حائطه أو شئ منه كان ذلك عليهم على حسب ملكهم فيه فإن كان بعضهم أدنى إلى أوله من بعض اشترك الكل في إصلاحه وإكرائه إلى أن يصلوا إلى الأول ثم لا شئ على الأول ويشترك الباقون حتى يصلوا الى الثاني ثم يشترك من بعده كذلك كلما انتهى العمل إلى موضع واحد منهم لم يكن عليه فيما بعده شئ وبهذا قال الشافعي وحكي عن أبي حنيفة وقال أبو يوسف ومحمد يشترك جميعهم في إكرائه كله لأنهم ينتفعون بجميعه فإن ما جاوز الأول مصب لمائه وإن لم يسق أرضه ولنا أن الأول إنما ينتفع بالماء الذي في موضع شربه وما بعده إنما يختص بالانتفاع به من دونه فلا يشاركهم في مؤنته كما لا يشاركهم في نفعه فإن كان يفضل عن جميعهم منه ما يحتاج إلى مصرف فمؤنته على جميعهم لاشتراكهم في الحاجة إليه والانتفاع به فكانت مؤنته عليهم كلهم كأوله

(6/181)


* (مسألة) * (وللإمام أن يحمي أرضا من الموات ترعى فيها دواب المسلمين التي يقوم بحفظها ما لم يضيق على الناس، ولا يجوز ذلك لغيره) معنى الحمى أن يحمي أرضا يمنع الناس رعى جشيشها ليختص بها وكانت العرب في الجاهلية تعرف ذلك فكان منهم من إذا انتجع بلداً أقام كلبا على نشز ثم استعواه ووقف له من كل ناحية من يسمع صوته بالعواء فحيث انتهى صوته حماه من كل ناحية لنفسه ويرعى مع الناس فيما سواه فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه لما فيه من التضييق على الناس ومنعهم من الانتفاع بشئ لهم فيه حق فروى الصعب بن جثامة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " لا حمى إلا لله ولرسوله " رواه أبو داود وقال عليه الصلاة والسلام " الناس شركاء في ثلاث في الماء والنار والكلأ " رواه الخلال فليس لأحد من الناس أن يحمي سوى الأئمة لما ذكرنا من الخبر والمعنى، فأما النبي صلى الله عليه وسلم فقد كان له أن يحمي لنفسه وللمسلمين لقوله " لا حمى إلا لله ولرسوله " ولم يحم لنفسه شيئا وإنما حمى للمسلمين فروى ابن عمر قال حمى النبي صلى الله عليه وسلم النقيع لخيل المسلمين رواه أبو عبيد والنقيع بالنون موضع ينتقع فيه الماء فيكثر فيه الخصب لمكان الماء الذي يصير فيه، وأما سائر أئمة المسلمين فليس لهم أن يحموا لأنفسهم شيئاً ولكن لهم أن يحموا مواضع لترعى فيها خيل المجاهدين ونعم الجزية وإبل الصدقة وضوال

(6/182)


الناس التي يقوم الإمام بحفظها وماشية الضعيف من الناس على وجه لا يستضر به من سواه من الناس وبهذا قال أبو حنيفة ومالك والشافعي في صحيح قوليه، وقال في الآخر ليس لغير النبي صلى الله عليه وسلم إن يحمي لقوله " لا حمى إلا لله ولرسوله " ووجه الأول أن عمر وعثمان حميا واشتهر ذلك في الصحابة فلم ينكر عليهما فكان إجماعا فروى أبو عبيد باسناده عن عامر بن عبد الله بن الزبير أحسبه عن أبيه قال أتى أعرابي عمر فقال يا أمير المؤمنين بلادنا قاتلنا عليها في الجاهلية وأسلمنا عليها في الإسلام علام؟ تحميها قال فأطرق عمر وجعل ينفخ ويفتل شاربه وكان إذا كربه أمر فتل شاربه ونفخ فلما رأى الأعرابي ما به جعل يردد ذلك فقال عمر المال مال الله والعباد عباد الله والله لولا ما أحمل عليه في سبيل الله ما حميت من الأرض شبراً في شبر.
قال خالك بلغني أنه كان يحمل في كل عام على أربعين ألفاً من الظهر، وعن أسلم قال سمعت عمر يقول لهني حين استعمله على حمى الربذة يا هني اضمم جناحك عن الناس واتق دعوة المظلوم فإنها مجابة وأدخل رب الصريمة والغنيمة ودعني من نعم ابن عوف ونعم ابن عفان فإنهما إن هلكت ماشيتهما رجعا إلى نخل وزرع وإن هذا المسكين إن هلكت ماشيته جاء يصرخ يا أمير المؤمنين فالكلأ أهون علي أم غرم الذهب والورق إنها أرضهم قاتلوا عليها في الجاهلية وأسلموا عليها في الإسلام وإنهم ليرون أنا نظلمهم ولولا النعم التي نحمل عليها في سبيل الله

(6/183)


لما حميت على الناس من بلادهم شيئاً أبداً وهذا اجماع؟؟؟؟؟؟ ولأن ما كان لمصالح المسلمين قامت الأئمة فيه مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " ما أطعم الله لنبي طعمة إلا جعلها طعمة من بعده " والخبر مخصوص وما حماه لنفسه يفارق حمى النبي صلى الله عليه وسلم لنفسه لأن صلاحة يعود إلى صلاح المسلمين وماله كان يرده على المسلمين، وليس لهم أن يحموا إلا قدراً لا يضيق عن المسلمين ويضر بهم لأنه إنما جاز لما فيه من المصلحة لما يحمى وليس من المصلحة إدخال الضرر على أكثر الناس * (مسألة) * (وما حماه النبي صلى الله عليه وسلم فليس لأحد نقضه ولا تغييره مع بقاء الحاجة إليه) لأن ما حكم به النبي صلى الله عليه وسلم نص لا يجوز نقضه بالاجتهاد ومن أحيا منه شيئاً لم يملكه وإن زالت
الحاجة إليه ففيه وجهان أصحهما أنه لا يجوز نقضه لما ذكرنا، فأما ما حماه غيره من الأئمة فغيره هو أو غيره من الأئمة جاز، وإن أحياه إنسان ملكه في أحد الوجهين لأن حمى الأئمة اجتهاد وملك الارض بالاسياء نص والنص يقدم على الاجتهاد والوجه الآخر لا يملكه لأن اجتهاد الامام لا يجوز نقضه كما لا يجوز نقض حكمه والأول أولى لأن الاجتهاد في حماء في تلك المدة دون غيره ولهذا ملك الحامي نقضه ومذهب الشافعي في هذا على نحو ما ذكرنا

(6/184)