الشرح
الكبير على متن المقنع كتاب الوقف وهو تحبيس الأصل وتسبيل المنفعة
وهو مستحب، والأصل فيه ما روى عبد الله بن عمر قال أصاب عمر أرضاً بخير
فأتى النبي صلى الله عليه وسلم يستأمره فيها فقال يا رسول الله إني أصبت
أرضا بخيبر لم أصب قط مالا أنفس عندي منه فما تأمرني فيه؟ قال " إن شئت
حبست أصلها وتصدقت بها غير أنه لا يباع أصلها ولا يبتاع ولا يوهب ولا يورث
" قال فتصدق بها عمر في الفقراء وذوي القربى والرقاب وابن السبيل والضيف لا
جناح على من وليها أن يأكل منها أو يطعم صديقاً بالمعروف غير متأثل فيه أو
غير متمول فيه متفق عليه وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " إذا
مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث صدقة جارية أو علم ينتفع به من بعده أو
ولده صالح يدعو له " قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح ورواه مسلم (فصل)
والقول بصحة الوقف قول أكثر أهل العلم من السلف ومن بعدهم، قال جابر لم يكن
أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ذو مقدرة إلا وقف ولم يره شريح
وقال لا حبس عن فرائض الله قال أحمد هذا مذهب أهل الكوفة وحديث ابن عمر حجة
على من خالفه وهو صريح في الحكم مع صحته وقول جابر نقل للإجماع فلا يلتفت
الى خلاف ذلك
(6/185)
* (مسألة) * وفيه روايتان إحداهما أنه يحصل
بالقول والفعل الدال عليه مثل أن يبني مسجداً ويأذن للناس في الصلاة فيه أو
يجعل أرضه مقبرة ويأذن لهم في الدفن فيها أو سقاية ويشرعها لهم) ظاهر
المذهب أن الوقف يحصل بالفعل مع القرائن الدالة عليه التي ذكرناها قال أحمد
في رواية أبي داود
وأبي طالب فيمن أدخل بيتاً في المسجد وأذن فيه: لم يرجع فيه وكذلك إذا اتخذ
المقابر وأذن للناس والسقاية فليس له الرجوع هذا قول أبي حنيفة، الرواية
الأخرى لا يصح إلا بالقول ذكرها القاضي وهو مذهب الشافعي وأخذه القاضي من
قول أحمد إذ سأله الأثرم عن رجل أحاط حائط على أرض ليجعلها مقبرة ونوى
بقلبه ثم بدا له العود فقال إن كان جعلها لله فلا يرجع قال شيخنا وهذا لا
ينافي الرواية الأولى فإنه إن أراد بقوله إن كان جعلها لله أي نوى بتحويطها
جعلها لله فهذا تأكيد للرواية الأولى وزيادة عليها إذ منعه من الرجوع بمجرد
التحويط مع النية وإن أراد بقوله جعلها لله أي اقترنت بفعله قرائن دالة على
إرادة ذلك مع إذنه للناس في الدفن فيها فهو الرواية الأولى بعينها وإن أراد
إذا وقفها بقوله فيدل بمفهومه على أن الوقف لا يحصل بمجرد التحويط والنية
وهذا لا ينافي الرواية الأولى لأنه في الأولى انضم إلى فعله، إذنه للناس في
الدفن ولم يوجد ههنا فلا تنافي بينهما ولم يعلم مراده من هذه الاحتمالات
فانتفت هذه الرواية وصار المذهب رواية واحدة واحتجوا بأن هذا تحبيس على وجه
القربة فوجب أن لا يصح بدون اللفظ كالوقف على الفقراء
(6/186)
ولنا أن العرف جار بذلك وفيه دلالة على
الوقف فجاز أن يثبت به كالقول وجرى مجرى من قدم إلى ضيفه طعاماً كان إذناً
في أكله ومن ملأ خابية ماء على الطريق كان تسبيلا له ومن نثر نثاراً كان
إذناً في أخذه كذلك دخول الحمام واستعمال مائه من غير إذن مباح بدلالة
الحال وقد ذكرنا في البيع أنه يصح بالمعاطاة وكذلك الهبة والهدية لدلالة
الحال كذلك هذا وأما الوقف على المساكين فلم تجر به عادة بغير لفظ ولو كان
شئ جرت به العادة أو دلت الحال عليه كان كمسئلتنا * (مسألة) * وصريحه وقفت
وسبلت وحبست فمتى أتي بواحدة منها صار وقفاً من غير انضمام أمر زائد لأن
هذه الألفاظ ثبت لها عرف الاستعمال بين الناس وانضم إلى ذلك عرف الشرع بقول
النبي صلى الله عليه وسلم لعمر " إن شئت حبست أصلها وسلبت ثمرتها " فصارت
هذه الألفاظ في الوقف كلفظ التطليق في الطلاق والكناية تصدقت وحرمت وأبدت
فليست صريحة لأن لفظة الصدقة والتحريم مشتركة فإن الصدقة تستعمل في الزكاة
والهبات والتحريم يستعمل في الظهار والإيمان ويكون تحريماً على نفسه
وعلى غيره، والتأبيد يحتمل تأبيد التحريم وتأييد الوقف فلم يثبت لهذه
الألفاظ عرف الاستعمال فلا يصح الوقف بمجردها ككنايات الظاهر فإذا انضم
إليها أحد ثلاثة أشياء حصل الوقف بها (أحدها) أن ينوي الوقف فيكون على ما
نوى إلا أن النية تجعله وقفاً في الباطن دون الظاهر لعدم الاطلاع عليها فإن
اعترف بما نواه لزم في الحكم لظهوره، وإن قال ما أردت الوقف فالقول قوله
لأنه أعلم بما نوى
(6/187)
(الثاني) أن يضيف إليها لفظة تخلصها من
الألفاظ الخمسة فيقول صدقة موقوفة أو محبسة أو مسبلة أو مؤبدة أو محرمة أو
يقول هذه محرمة موقوفة أو محتبسة أو مسبلة أو مؤبدة (الثالث) : أن يصفها
بصفات الوقف فيقول صدقة لا تباع ولا توهب ولا تورث لأن هذه القرينة تزيل
الاشتراك.
* (مسألة) * (ولا يصح الوقف إلا بشروط أربعة: (أحدها) أن يكون في عين يجوز
بيعها ويمكن الانتفاع بها دائما مع بقاء عينها كالحيوان والعقار والأثاث
والسلاح) وجملة ذلك أن الذي يصح وقفه ما جاز بيعه مع بقاء عينه وكان أصلاً
يبقى بقاء متصلاً كالعقار والحيوان والسلاح والأثاث وأشباه ذلك قال أحمد في
رواية الأثرم إنما الوقف في الدور والأرضين على ما وقف أصحاب رسول الله صلى
الله عليه وسلم وقال فيمن وقف خمس نخلات على مسجد: لا بأس به، وهذا قول
الشافعي، وقال أبو يوسف لا يجوز وقف الحيوان ولا الرقيق ولا العروض إلا
الكراع والسلاح والغلمان والبقر والآلة في الأرض الموقوفة تبعاً لها لأن
هذا حيوان لا يقاتل عليه فلم يجز وقفه كما لو كان الوقف إلى مدة، وعن مالك
في الكراع والسلاح روايتان ولنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " أما
خالد فإنه قد احتبس أدراعه واعتاده في سبيل الله " متفق
(6/188)
عليه وفي رواية أعتده أخرجه البخاري قال
الخطابي الاعتاد ما يعده الرجل من مركوب وسلاح وآلة
الجهاد، وروي أن أم معقل جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول
الله إن أبا معقل جعل ناصحه في سبيل الله وإني أريد الحج أفأركبه؟ فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم " اركبيه فإن الحج والعمرة من سبيل الله "
ولأنه يحصل فيه تحبيس الأصل وتسبيل المنفعة فصح وقفه كالعقار والفرس الحبيس
أو نقول يصح وقفه مع غيره فصح وحده كالعقار (فصل) قال أحمد رحمه الله في
رجل له دار في الربض أو قطيعة فأراد التنزه منها قال يقفها وقال القطائع
ترجع إلى الأصل أراد جعلها للمساكين فظاهر هذا إباحة وقف السواد وهو في
الأصل وقف ومعناه أن وقفها يطابق الأصل لا أنها تصير بهذا القول وقفاً *
(مسألة) * (ويصح وقف المشاع وبهذا قال مالك والشافعي وأبو يوسف، وقال محمد
بن الحسن لا يصح وبناه على أصله في أن القبض شرط وهو لا يصح في المشاع ولنا
أن في حديث عمر أنه أصاب مائة سهم من خيبر فاستأذن النبي صلى الله عليه
وسلم فيها فأذن له في وقفها وهذا صفة المشاع ولأنه عقد يجوز على بعض الجملة
مقرراً فجاز عليه مشاعا كالبيع ولأن الوقف تحبيس الأصل وتسبيل المنفعة وهذا
يحصل في المشاع كحصوله في المقرر ولا نسلم اعتبار القبض وان سلمها
(6/189)
(فصل) وإن وقف داره على جهتين مختلفتين مثل
أن يقفها على أولاده وعلى المساكين نصفين أو أثلاثاً أو كيفما كان جاز
وسواء جعل مآل الموقوف على أولاده على المساكين أو على جهة سواهم لأنه إذا
جاز وقف الجزء مفرداً جاز وقف الجزئين، وإن أطلق الوقف فقال وقفت داري هذه
على أولادي وعلى المساكين فهي بينهما نصفين لأن إطلاق الإضافة إليهما يقتضي
التسوية بين الجهتين ولا تتحقق إلا بالتنصيف وإن قال وقفتها على زيد وعمرو
والمساكين فهي بينهم أثلاثاً * (مسألة) * (ويصح وقف الحلي على اللبس
والعارية) لأن ذلك نفع مباح مقصود يجوز أخذ الأجرة عليه فصح الوقف عليه
كوقف السلاح في سبيل الله ولما روى نافع قال ابتاعت حفصة حلياً بعشرين
ألفاً فحبسته على نساء آل الخطاب فكانت لا تخرج زكاته رواه الخلال باسناده
ولأنه عين يمكن الانتفاع بها مع بقائها دائما فصح وقفها كالعقار وهو قول
الشافعي وروى عن أحمد أنه لا يصح وقفها عليه وأنكر الحديث عن حفصة في وقفه
ووجه هذه الرواية إن التحلي ليس هو المقصود الأصلي من الأثمان فلم يصح
وقفها عليه كما لو وقف الدنانير والدراهم والمذهب الأول لما ذكرنا، والتحلي
من المقاصد المهمة والعادة جارية به وقد اعتبره الشرع في إسقاط الزكاة عن
متخذه وجوز إجارته لذلك ويفارق الدراهم والدنانير فإن العادة لم تجر
بالتحلي بها ولا اعتبر الشرع ذلك في إسقاط زكاة ولا ضمان نفعه في الغصب
بخلاف مسئلتنا
(6/190)
* (مسألة) * (ولا يصح الوقف في الذمة كعبد
ودار وسلاح غير معين) لأن الوقف إبطال لمعنى الملك فيه فلم يصح في غير معين
كالعتق * (مسألة) * (ولا يصح في غير معين كأحد هذين العبدين) لأنه انقل
للملك على وجه القربة فلم يصح في غير معين كالهبة * (مسألة) * (ولا يصح وقف
ما لا يجوز بيعه كأم الولد والكلب والمرهون وكذلك الخنزير وسائر سباع
البهائم التي لا تصلح للصيد وجوارح الطير التي لا يصاد بها) لأنه نقل للملك
فيها في الحياة فلم يجز كالبيع ولأن الوقف تحبيس الأصل وتسبيل المنفعة وما
لا منفعة فيه مباحة فلا يحصل فيه تسبيل المنفعة والكلب أبيح الانتفاع به
على خلاف الأصل للضرورة فلم يجز التوسع فيها، والمرهون في وقفه إبطال حق
المرتهن منه فلم يجز ابطاله ولا يصح وقف الحمل المنفرد لأنه لا يجوز بيعه.
(فصل) ولا يصح وقف ما لا ينتفع به مع بقائه دائماً كالأثمان والطعوم
والرياحين) ما لا يمكن الانتفاع به مع بقاء عينه كالدراهم والدنانير
والمشروب وأشباهه من الرياحين لا يجوز وفقه في قول عامة الفقهاء وأهل العلم
إلا شيئاً حكى عن مالك والاوزاعي في وقف الطعام أنه يجوز ولم يحكه أصحاب
مالك وليس بصحيح لأن الوقف تحبيس الأصل وتسبيل المنفعة وما لا ينتفع به إلا
بالإتلاف لا يصح ذلك
(6/191)
فيه وقيل في الدراهم والدنانير يصح وقفها
عند من أجاز إجارتها ولا يصح لأن تلك المنفعة ليست المقصود
الذي خلقت له الأثمان ولهذا لا تضمن في الغصب فلم يجز الوقف له كوقف الشجر
على نشر الثياب والغنم على دوس الطين والشمع ليتجعل به ولذلك لا يصح وقف
الشمع للإشعال لأنه يتلف بالانتفاع به فهو كالمأكول (الثاني) أن يكون على
بر كالمساكين والمساجد والقناطر والأقارب مسلمين كانوا أو من أهل الذمة.
وجملة ذلك أن الوقف لا يصح إلا على بر أو معروف لولده وأقاربه والمساجد
والقناطر وكتب الفقه والعلم والقرآن والسقايات والمقابر وسبيل الله وإصلاح
الطرق ونحو ذلك من القرب ويصح على أهل الذمة لأنهم يملكون ملكا محترما
وتجوز الصدقة عليهم قال الله تعالى (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم
في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم) وإذا جازت الصدقة
عليهم جاز الوقف عليهم كالمسلمين، وروي أن صفية زوج النبي صلى الله عليه
وسلم وقفت على أخ لها يهودي ولأن من جاز أن يقف عليه الذمي جاز أن يقف
المسلم عليه كالمسلم ولو وقف على من ينزل كنائسهم وبيعهم من المارة
والمجتازين من أهل الذمة وغيرهم صح لأن الوقف عليهم لا على الموضع *
(مسألة) * (ولا يصح على الكنائس وبيوت النار والبيع وكتب التوراة والإنجيل)
لأن ذلك معصية فإن هذه المواضع بنيت للكفر وكتبهم مبدلة منسوخة ولذلك غضب
النبي صلى الله عليه وسلم على عمر حين رأى معه صحيفة فيها شئ من التوراة
وقال " أفي شك أنت يا ابن الخطاب؟ ألم آت بها بيضاء نقية؟ لو كان أخي موسى
حياً لما وسعه إلا اتباعي " ولولا أن ذلك معصية ما غضب منه.
وحكم
(6/192)
الوقف على قناديل البيعة وفرشها ومن يخدمها
ومن يعمرها كالوقف عليها لأنه يراد لتعظيمها والمسلم والذمي في ذلك سواء،
قال أحمد في نصارى وقفوا على البيعة ضياعاً وماتوا ولهم أبناء نصارى
فأسلموا والضياع بيد النصارى فلهم أخذها وللمسلمين عونهم حتى يستخرجوها من
أيديهم وهذا مذهب الشافعي قال شيخنا ولا نعلم فيه مخالفاً لأن ما لا يصح من
المسلم الوقف عليه لا يصح وقف الذي كغير المعين فإن قيل فقد قلتم إن أهل
الكتاب إذا عقدوا عقوداً فاسدة وتقابضوا ثم أسلموا وترافعوا إلينا لم ننقض
ما فعلوه فكيف أجزتم الرجوع فيما وقفوه على كنائسهم؟ قلنا الوقف ليس بعقد
معاوضة إنما هو إزالة ملك في الموقوف على وجه القربة فإذا لم يقع صحيحاً لم
يزل الملك بحاله كالعتق، وقد روي عن أحمد
رحمه الله فيمن أشهد في وصيته أن غلامه فلانا يخدم البيعة خمس سنين ثم هو
حر ثم مات مولاه وخدم سنة ثم أسلم ما عليه؟ قال هو حر ويرجع على الغلام
بأجر خدمة مبلغ أربع سنين، وروي عنه قال هو حر ساعة مات مولاه لأن هذه
معصية وهذه الرواية أصح وأوفق لأصوله، ويحتمل أن قوله يرجع عليه بخدمة أربع
سنين لم يكن لصحة الوظيفة بل لأنه إنما أعتقه بعوض يعتقدان صحته فإذا تعذر
العوض بإسلامه كان عليه ما يقوم مقامه كما لو تزوج الذمي ذمية على ذلك ثم
أسلم فانه يجب عليه المهر كذا ههنا يجب عليه العوض والأول أولى
(6/193)
* (مسألة) * (ولا يصح الوقف على حربي ولا
مرتد) لأن أموالهم مباحة في الأصل تجوز إزالتها فما يتجدد لهم أولى والوقف
يجب أن يكون لازما لأنه تحبيس الأصل * (مسألة) * (ولا يصح على نفسه في إحدى
الروايتين، فإن وقف على غيره واستثنى الأكل منه مدة حياته صح) اختلفت
الرواية عن أحمد رحمه الله فيمن وقف على نفسه ثم على المساكين أو على ولده
فقال في رواية أبي طالب وقد سئل عن هذا فقال لا أعرف الوقف إلا ما أخرجه
لله تعالى أو في سبيله فإذا وقفه عليه حتى يموت فلا أعرفه، فعلى هذه
الرواية يكون الوقف عليه باطلا وهل يبطل على من بعده؟ على وجهين بناء على
الوقف المنقطع الابتداء وهذا مذهب الشافعي لأن الوقف تمليك للرقبة أو
للمنفعة ولا يجوز أن يملك الإنسان نفسه من نفسه كما لو يجوز أن يبيع ماله
من نفسه ولأن الوقف على نفسه إنما حاصله منع نفسه من التصرف في رقبة الملك
فلم يصح ذلك كما لو أفرده بأن يقول لا أبيع هذا ولا أهبه ولا أورثه، ونقل
جماعة أن الوقف صحيح اختاره ابن أبي موسى.
قال ابن عقيل وهو أصح وهو قول ابن أبي ليلى وابن شبرمة وأبي يوسف وابن شريح
لما نذكره في المسألة بعدها ولأنه يصح أن يقف وقفاً عاماً فينتفع به كذلك
إذا خص نفسه بانتفاعه والأول أقيس (فصل) ومن وقف وقفاً صحيحاً على إنسان
فقد صارت منافعه جميعها للموقوف عليه وزال ملكه
(6/194)
عن الوقف وملك منافعه فلم يجز أن ينتفع بشئ
منها فأما إن وقف شيئاً للمسلمين دخل في جملتهم مثل أن يقف مسجداً فله إن
يصلي فيه أو مقبرة فله الدفن فيها أو بئر للمسليمن فله أن يسقي منها أو
سقاية أو شيئاً يعم المسلمين فكيون كأحدهم لا نعلم في ذلك خلافا وقد روي عن
عثمان بن عفان رضي الله عنه أنه سبل بئر رومة وكان دلوه فيها كدلاء
المسلمين * (مسألة) * (وإن وقف على غيره واستثنى الأكل منه مدة حياته صح)
إذا وقف وقفاً على غيره وشرط أن ينفق منه على نفسه صح الوقف والشرط نص عليه
أحمد قال الأثرم قيل لأبي عبد الله اشترط في الوقف أني أنفق على نفسي
وأهلي؟ قال نعم واحتج قال سمعت ابن عيينة عن ابن طاوس عن أبيه عن حجر
المدري أن في صدقة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأكل أهله منها
بالمعروف غير المنكر قال القاضي يصح الوقف رواية واحدة لأن أحمد نص عليها
في رواية جماعة وبذلك قال ابن أبي ليلى وابن شبرمة وأبو يوسف والزبيري وابن
شريح وقال مالك والشافعي ومحمد بن الحسن لا يصح الوقف لأنه إزالة الملك فلم
يجز اشتراط نفعه لنفسه كالبيع والهبة وكما لو أعتق عبداً واشترط أن يخدمه
ولأن ما ينفقه على نفسه مجهول فلم يصح اشتراطه كما لو باع شيئاً واشترط أن
ينتفع به.
ولنا أن الخبر الذي ذكره الإمام أحمد ولأن عمر رضي الله عنه لما وقف قال لا
بأس على من
(6/195)
وليها أن يأكل منها أو يطعم صديقا غير
متمول منه وكان الوقف في يده إلى أن مات ولأنه إذا وقف وقفاً عاما كالمساجد
والسقايات والمقابر كان له الانتفاع به وكذلك ههنا ولا فرق بين أن يشترط
لنفسه الانتفاع به مدة حياته أو مدة معلومة معينة وسواء قدر ما يأكل منه أو
أطلقه فإن عمر لم يقدر ما يأكله الوالي ويطعم إلا بقوله بالمعروف وفي حديث
صدقة رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه شرط أن يأكل أهله منها بالمعروف غير
المنكر إلا أنه إذا شرط أن ينتفع بها مدة معينة فمات فيها فينبغي أن يكون
ذلك لورثته كما لو باع داراً واشترط أن يسكنها سنة فمات في أثنائها (فصل)
ويصح أن يشترط أن يأكل منها أهله لأن النبي صلى الله عليه شرط ذلك في صدقته
وإن
شرط أن يأكل منه من وليه ويطعم صديقا صح لأن عمر شرط ذلك في صدقته التي
استأمر فيها رسول الله عليه وسلم فإن وليها الواقف كان له أن يأكل ويطعم
صديقا لأن عمر ولي صدقته وإن وليها أحد من أهله فله ذلك لأن حفصة بنت عمر
كانت تلي صدقته بعد موته ثم وليها بعدها عبد الله بن عمر (فصل) فإن اشترط
أن يبيعه متى شاء أو يهبه أو يرجع فيه بطل الوقف والشرط لا نعلم في بطلان
الشرط خلافاً لأنه ينافي مقتضى الوقف ويحتمل أن يبطل الشرط ويصح الوقف بناء
على الشروط الفاسدة في البيع وإن شرط الخيار في الوقف فسد نص عليه أحمد وبه
قال الشافعي وقال أبو يوسف في رواية عنه يصح لأن الوقف تمليك المنافع فجاز
شرط الخيار فيه كالإجارة
(6/196)
ولنا أنه شرط ينافي مقتضى العقد فلم يصح
كما لو شرط أن له بيعه متى شاء ولأنه إزالة ملك لله تعالى فلم يصح شرط
الخيار فيه كالعتق ولأنه ليس بعقد معاوضة فلم يصح اشتراط الخيار فيه كالهبة
بخلاف الإجارة فإنها عقد معاوضة وههنا لو ثبت الخيار لثبت مع ثبوت حكم
الوقف فافترقا (فصل) وإن شرط في الوقف إن يخرج من شاء من أهل الوقف ويدخل
من شاء من غيرهم لم يصح لأنه شرط ينافي مقتضى الوقف فأفسده كما لو شرط أن
لا ينتفع به فأما إن شرط للناظر أن يعطي من يشاء من أهل الوقف ويمنع من
يشاء جاز لأن ذلك ليس باخراج للموقوف عليه من الوقف وإنما علق استحقاق
الوقف بصفة فكأنه جعل له حقاً في الوقف إذا اتصف بإرادة الناظر عطيته ولم
يجعل له حقاً إذا انتفت تلك الصفة فيه فأشبه ما لو وقفه على المشتغلين
بالعلم من ولده فإنه يستحق منهم من اشتغل دون من لم يشتغل فمتى ترك المشتغل
الاشتغال زال استحقاقه فإن عاد إليه عاد استحقاقه * (فصل) * إذا جعل علو
داره مسجداً دون أسفلها أو أسفلها دون علوها صح وقال أبو حنيفة لا يصح لأن
المسجد يتبعه هواؤه ولنا أنه يصح بيعها كذلك فصح وقفها كالدار جميعها ولأنه
تصرف يزيل الملك الى من يثبت له حق الاستقرار والتصرف فجاز فيما ذكرنا
كالبيع * (فصل) * فإن جعل وسط داره مسجداً ولم يذكر الاستطراق صح وقال أبو
حنيفة لا يصح حتى
يذكر الاستطراق
(6/197)
ولنا أنه عقد يبيح الانتفاع من ضرورته
الاستطراق فصح وإن لم يذكره كما لو أجر بيتاً من داره * (مسألة) * (الثالث
أن يقفه على معين يملك ولا يصح على مجهول كرجل ومسجد) لأنه تمليك أشبه
البيع ولأن الوقف تمليك للعين أو للمنفعة فلا يصح على غير معين كالإجارة *
(مسألة) * (ولا يصح على حيوان لا يملك كالعبد القن وأم الولد والمدبر
والميت والحمل والملك والبهيمة والجن) قال أحمد فيمن وقف على مماليكه لا
يصح الوقف حتى يعتقهم وذلك لأن الوقف تمليك فلا يصح على من لا يملك فإن قيل
فقد جوزتم الوقف على المساجد والسقايات وأشباهها وهي لا تملك قلنا الوقف
هناك على المسلمين إلا أنه عين في نفع خاص لهم فإن قيل فينبغي أن يصح الوقف
على الكنائس ويكون الوقف على أهل الذمة والوقف عليهم جائز قلنا على الجهة
التي عين صرف الوقف فيها ليست نفعاً بل هي معصية محرمة يزدادون بها عقابا
وإثماً بخلاف المساجد فإن قيل فلم لا يصح الوقف على العبد إذا قلنا أنه
يملك بالتمليك؟ قلنا لأن الوقف يقتضي تحبيس الأصل والعبد لا يملك ملكا
لازما ولا يصح على المكاتب وإن كان يملك لأن ملكه غير مستقر * (مسألة) *
(الرابع أن يقف ناجزاً فإذا علقه على شرط لم يصح إلا أن يقول هو وقف بعد
(6/198)
موتي فيصح في قول الخرقي وعند أبي الخطاب
لا يصح) لا يصح تعليق ابتداء الوقف على شرط في الحياة مثل أن يقول إذا جاء
رأس الشهر قداري وقف أو فرسي حبيس أو إذا ولد لي ولد أو إذا قدم غائب ونحو
ذلك ولا نعلم في هذا خلافاً لأنه نقل للملك فيما لم يبن على التغليب
والسراية فلم يجز تعليقه على شرط في الحياة كالهبة (فصل) فأما إذا قال هو
وقف بعد موتي فظاهر كلام الخرقي أنه يصح ويعتبر من الثلث كسائر الوصايا وهو
ظاهر كلام أحمد وقال القاضي لا يصح هذا لأنه تعليق للوقف على شرط فلم يصح
كما لو علقه
على شرط في حياته وحمل كلام الخرقي علي أنه قال قفوا بعد موتي فتكون وصية
بالوقف لا اياقفا ولنا على صحة الوقف المعلق بالموت ما احتح به أحمد أن
عمرا وصى فكان في وصيته هذا ما أوصى به عبد الله عمر أمير المؤمنين إن حدث
به حدث ان ثمنا صدقة والعبد الذي فيه والسهم الذي بخيبر ورقيقه الذي فيه
والمائة وسق الذي أطعمني محمد صلى الله عليه وسلم تليه حفصة ما عاشت ثم
يليه ذو الرأي من أهله لا يباع ولا يشترى ينفقه حيث يرى من السائل والمحروم
وذوي القربى ولا حرج على من وليه إن أكل أو اشترى رقيقاً رواه أبو داود
بنحو من هذا وهذا نص في مسئلتنا ووقفه هذا كان بأمر النبي صلى الله عليه
وسلم ولأنه اشتهر في الصحابة ولم ينكر فكان أجماعاً ولأن هذا تبرع معلق
بالموت فصح كالهبة والصدقة المطلقة أو نقول صدقة معلقة بالموت فأشبهت غير
الوقف وفارق هذا التعليق على شرط في الحياة
(6/199)
بدليل الصدقة المطلقة أو الهبة وغيرهما
وذلك لأن هذا وصية والوصية أوسع من التصرف في الحياة بدليل جوازها بالمجهول
والمعدوم وللمجهول وللحمل وغير ذلك وبهذا يبين فساد قياس من قاس على هذا
الشرط بقية الشروط وسوى المتأخرون من أصحابنا بين تعليقه بالموت وتعليقه
بشرط في الحياة ولا يصح لما ذكرنا من الفرق بينهما (فصل) ولا يشترط القبول
إلا أن يكون على آدمي معين ففيه وجهان أحدهما يشترط فإن لم يقبل أو رده بطل
في حقه دون من بعده وصار كما لو وقف على من لا يجوز ثم على من يجوز يصرف في
الحال إلى من بعده وجملة ذلك أن الوقف إذا كان على غير معين كالمساكين أو
من لا يتصور منه القبول كالمساجد والقناطر لم يفتقر إلى القبول ون كان على
آدمي معين ففيه وجهان أحدهما لا يشترط اختاره القاضي لأنه أحد نوعي الوقف
فلم يشترط له القبول كالنوع الآخر ولأنه إزالة ملك تمنع البيع والهبة
والميراث فلم يعتبر فيه قبول كالعتق والثاني يشترط لأنه تبرع لآدمي معين
فكان من شرطه القبول كالهبة والوصية يحققه أن الوصية إذا كانت لآدمي معين
وقفت على قبوله وإن كانت لغير معين كالمساكين أو لمسجد أو نحوه لم تفتقر
إلى قبول كذا هاهنا والأول أولى والفرق بينه وبين الهبة والوصية أو الوقف
لا يختص المعين بل يتعلق
به حق من يأتي من البطون في المستقبل فيكون الوقف على جميعهم إلا أنه مرتب
فصار بمنزلة الوقف
(6/200)
على الفقراء الذي لا يبطل برد واحد منهم
ولا يقف على قبوله والوصية للمعين بخلافه وهذا مذهب الشافعي وإذا قلنا لا
يفتقر إلى القبول لم يبطل بالرد كالعتق وإن قلنا يفتقر إلى القبول فرده بطل
في حقه دون من بعده وصار كالوقف المنقطع الابتداء يخرج في صحته في حق من
سواه وبطلانه وجهان بناء على تفريق الصفقة * (فصل) * إذا وقف على من لا
يجوز ثم على من يجوز فهو وقف منقطع الابتداء كالوقف على عبده وأم ولده أو
مجهول فإن لم يذكر له مآلا فالوقف باطل وكذلك إن جعل له مآلا لا يجوز الوقف
عليه لأنه أخل بأحد شرطي الوقف فبطل كما لو وقف ما لا يجوز وقفه، وإن جعل
له مآلا يجوز الوقف عليه كمن يقف على عبده ثم على المساكين ففي صحته وجهان
بناء على تفريق الصفقة، وللشافعي قولان كالوجهين، فإذا قلنا يصح وهو قول
القاضي وكان من لا يجوز الوقف عليه لا يمكن اعتبار انقراضه كالميت والمجهول
والكنائس صرف في الحال إلى من يجوز الوقف عليه لأننا لما صححنا الوقف مع
ذكر ما لا يجوز الوقف عليه فقد ألغيناه لتعذر التصحيح مع اعتباره، وإن كان
من لا يجوز الوقف عليه يمكن اعتبار انقراضه كأم ولده وعبد معين فكذلك ذكره
أبو الخطاب وفيه وجه آخر أنه يصرف في الحال إلى مصرف الوقف المنقطع إلى أن
ينقرض من لا يجوز الوقف عليه فإذا انقرض صرف إلى من يجوز ذكره القاضي وابن
عقيل لأن الواقف إنما جعله وقفاً على من يجوز بشرط انقراض هذا فلا يثبت
بدونه، ويفارق ما لا يمكن اعتبار انقراضه لتعذر اعتباره ولأصحاب الشافعي
وجهان كهذين * (فصل) * فإن كان الوقف صحيح الطرفين منقطع الوسط كمن وقف على
ولده ثم على عبيده ثم على
(6/201)
المساكين خرج في صحة الوقف وجهان على ما
نذكره في الوقف المنقطع الانتهاء، ثم ينظر فيما لا يجوز الوقف عليه فإن لم
يمكن اعتبار انقراضه ألغيناه إذا قلنا بالصحة وإن أمكن اعتبار انقراضه فهل
يعتبر أو يلغى؟ على وجهين كما تقدم، فإن كان منقطع الطرفين صحيح الوسط كمن
وقف على عبده ثم على أولاده ثم على الكنيسة خرج في صحته أيضاً وجهان ومصرفه
بعد من يجوز الوقف عليه إلى مصرف الوقف المنقطع
* (مسألة) * (وإن وقف على جهة تنقطع ولم يذكر له مآلاً أو وقف على من يجوز
ثم على من لا يجوز أو قال وقفت وسكت انصرف بعد انقراض من يجوز الوقف عليه
إلى ورثة الواقف وقفاً عليهم في إحدى الروايتين، والأخرى إلى أقرب عصبته
وهل يختص به فقراءهم؟ على وجهين، وقال القاضي في موضع يكون وقفاً على
المساكين) وجملة ذلك أن الوقف الذي لا اختلاف في صحته عند القائلين بصحة
الوقف ما كان معلوم الابتداء والانتهاء غير منقطع مثل أن يجعل على المساكين
أو طائفة لا يجوز بحكم العادة انقراضهم، وإن كان معلوم الانتهاء مثل أن يقف
على قوم يجوز انقراضهم بحكم العادة ولم يجعل آخره للمساكين ولا لجهة غير
منقطعة فهو صحيح أيضاً وبه قال مالك وابو يوسف والشافعي في أحد قوليه، وقال
محمد بن الحسن لا يصح وهو القول الثاني للشافعي لأن الوقف مقتضاه التأبيد
فإذا كان منقطعاً صار وقفاً على مجهول فلم يصح كما لو وقف على مجهول في
الابتداء
(6/202)
ولنا أنه تصرف معلوم المصرف فصح كما لو صرح
بمصرفه المتصل ولأن الإطلاق إذا كان له عرف حمل عليه كنقد البلد وعرف الصرف
ههنا أولى الجهات به فكأنه عينهم.
إذا ثبت هذا فإنه ينصرف عند انقراض الموقوف عليهم إلى أقارب الواقف وبه قال
الشافعي إلا أنه قال يكون وقفاً على أقرب الناس إلى الواقف الذكر والأنثى
فيه سواء، وعن أحمد أنه يصرف إلى المساكين اختاره القاضي والشريف أبو جعفر
لأنهم مصرف الصدقات وحقوق الله تعالى من الكفارات ونحوها فإذا وجدت صدقة
غير معينة الصرف انصرفت إليهم كما لو نذر صدقة مطلقة، وعن أحمد رواية ثالثة
انه يجعل في بيت مال المسلمين لأنه مال لا مستحق له فأشبه مال من لا وارث
له وقال أبو يوسف يرجع إلى الواقف وإلى ورثته إلا أن يقول صدقة موقوفة ينقق
منها على فلان وفلان فإذا انقرض المسمى كانت على الفقراء والمساكين لأنه
جعلها صدقة على مسمى فلا تكون على غيره، ويفارق ما إذا كان ينفق منها على
فلان وفلان فإنه جعل الصدقة مطلقة.
ولنا أنه أزال ملكه لله تعالى فلم يجز أن يرجع إليه كما لو أعتق عبداً،
والدليل على صرفه إلى
أقارب الواقف أنهم أولى الناس بصدقته لقول النبي صلى الله عليه وسلم "
صدقتك على غير ذي رحمك صدقة وصدقتك على ذي رحمك صدقة وصلة " وقال " إنك إن
تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس " ولأنهم أولى الناس
بصدقاته النوافل والمفروضات فكذلك صدقته المنقولة.
إذا ثبت فإنه يكون
(6/203)
للفقراء منهم والأغنياء في إحدى الروايتين
عن أحمد وهو ظاهر كلام الخرقي لأن الوقف لا يخص الفقراء ولأنه لو وقف على
أولاده تناول الأغنياء والفقراء كذا ههنا، وفيه وجه آخر إنه يختص الفقراء
منهم لأنهم أهل الصدقات دون الأغنياء ولأننا خصصنا الأقارب بالوقف لكونهم
أولى الناس بالصدقة وأولى الناس بالصدقة الفقراء دون الاغيناء، واختلفت
الرواية فيمن يستحق الوقف من أقرباء الواقف ففي إحدى الروايتين يختص
بالورثة منهم لأنهم الذين صرف الله إليهم ماله بعد موته واستغنائه عنه
فكذلك يصرف إليهم من ماله ما لم يذكر له مصرفا، فعلى هذا يكون بينهم على
حسب ميراثهم ويكون وقفاً عليهم نص عليه أحمد وذكره القاضي لأن الوقف يقتضي
التأبيد، وإنما صرفناه إلى هؤلاء لأنهم أحق الناس بصدقته فيصرف إليهم مع
بقائه صدقة ويحتمل أن يصرف إليهم على سبيل الإرث على ما ذكره الخرقي ويبطل
الوقف فيه كقول أبي يوسف والرواية الثانية يكون وقفاً على أقرب غصبة الواقف
دون بقية الوراث ودون البعيد من العصبات فيقدم الأقرب فالأقرب على حسب
استحقاقهم لولاء الموالي لانهم خصوصا بالعقل عنه وبميراث مواليه فخصوا بهذا
أيضاً، قال شيخنا وهذا لا يقوى عندي فإن استحقاقهم لهذا دون غيرهم من الناس
لا يكون إلا بدليل من نص أو إجماع ولا نعلم فيه نصاً ولا إجماعاً ولا يصح
قياسه على ميراث ولاء الموالي لأن علته لا تتحقق ههنا، وأقرب الأقوال فيه
صرفه إلى المساكين لأنهم مصارف مال الله وحقوقه فان كان في أقارب الواقف
مساكين كانوا أولى
(6/204)
به لا على سبيل الوجوب كما أنهم أولى
بزكاته وصلاته مع جواز الصرف إلى غيرهم ولانا إذا صرفناه إلى أقاربه على
سبيل التعيين فهي أيضاً جهة منقطعة فلا يتحقق اتصاله إلا بصرفه إلى
المساكين فإن لم يكن للواقف أقارب أو كان له أقارب فانقرضوا صرف إلى
الفقراء أو المساكين وقفاً عليهم لأن
القصد به الثواب الجاري عليه على وجه الدوام، وإنما قدمنا الأقارب على
المساكين لكونهم أولى فإذا لم يكونوا فالمساكين أهل لذلك فصرف إليهم إلا
على قول من قال إنه يصرف إلى ورثة الواقف ملكاً لهم فإنه يصرف عند عدمهم
الى بيت المال لأنه بطل الوقف فيه بانقطاعه فصار ميراثاً لا وارث له فكان
بيت المال أولى به (فصل) وإن وقف على من يجوز ثم على من لا يجوز كمن وقف
على أولاده ثم على البيع صح الوقف أيضاً ويرجع بعد انقراض من يجوز الوقف
عليه إلى من يصرف إليه الوقف المنقطع كالمسألة قبلها لأن ذكر من لا يجوز
الوقف عليه وعدمه واحد ويحتمل أن لا يصبح الوقف لأنه جمع بين ما يجوز وما
لا يجوز فأشبه تفريق الصفقة (فصل) فإن قال وقفت هذا وسكت أو قال صدقة
موقوفة ولم يذكر سبيله فلا نص فيه وقال ابن حامد يصح الوقف قال القاضي هو
قياس قول أحمد فإنه قال في النذر المطلق ينعقد موجباً لكفارة اليمين وهو
قول مالك والشافعي في أحد قوليه لأنه إزالة ملك على وجه القربة فوجب أن يصح
(6/205)
مطلقاً كالأضحية والوصية، ولو قال وصيت
بثلث مالي صح وإذا صح صرف إلى مصارف الوقف المنقطع عند انقراض الموقوف عليه
كما ذكرنا * (مسالة) * (وإن قال وقفت داري سنة أو إلى يوم يقدم الحاج لم
يصح في أحد الوجهين) لأن مقتضى الوقف التأبيد وهذا ينافيه (والوجه الآخر)
يصح لأنه منقطع الانتهاء فهو كما لو وقف على منقطع الانتهاء فإن قلنا يصح
فهو كمنقطع الانتهاء يصرف إلى مصرف الوقف المنقطع الانتهاء (فصل) فإن قال
هذا وقف على ولدي سنة ثم على المساكين صح وكذلك إن قال وقف على ولدي مدة
حياتي ثم هو بعد موتي للمساكين صح لأنه وقف متصل الابتداء والانتهاء، وإن
قال وقف على المساكين ثم على أولادي صح ويكون وقفاً على المساكين ويلغو
قوله على أولادي لأن المساكين لا انقراض لهم * (مسألة) * (ولا يشترط اخراح
الوقف عن يده في إحدى الروايتين)
ظاهر المذهب أن الوقف يزول به ملك الواقف ويلزم بمجرد اللفظ لأن الوقف يحصل
به وعن أحمد أنه لا يلزم الا بالقبض وإخراج الوقف عن يده فإنه قال الوقف
المعروف أن يخرجه من يده إلى غيره يوكل فيه من يقوم به اختاره ابن أبي موسى
وهو قول محمد بن الحسن لأنه تبرع بما لم يخرجه عن المالية فلم يلزمه بمجرده
كالهبة والوصية
(6/206)
ولنا ما رويناه من حديث عمر ولأنه تبرع
يمنع البيع والهبة والميراث فيلزم بمجرده كالعتق، ويفارق الهبة فإنها تمليك
مطلق والوقف تحبيس الأصل وتسبيل المنفعة فهو بالعتق أشبه وإلحاقه به أولى.
* (فصل) * قال رضي الله عنه (ويملك الموقوف عليه الوقف وعنه لا يملكه) ظاهر
المذهب أن الملك ينتقل في الموقوف إلى الموقوف عليه قال أحمد إذا وقف داره
على ولد أخيه صارت لهم وهذا يدل على أنهم ملكوه وروى عن أحمد أنه لا يملك
فإن جماعة نقلوا عنه فيمن وقف على ورثته في مرضه يجوز لأنه لا يباع ولا
يورث ولا يصير ملكاً للورثة وإنما ينتفعون بغلتها وهذا يدل بظاهره على أنهم
لا يملكون، ويحتمل أن يريد بقوله لا يملكون أي لا يملكون التصرف في الرقبة
فإن فائدة الملك وآثاره ثابتة في الوقف وعن الشافعي من الاختلاف نحو ما
حكيناه وقال أبو حنيفة لا ينتقل الملك في الوقف اللازم بل يكون حق الله
تعالى لأنه إزالة ملك عن العين والمنفعة على وجه القربة بتمليك المنفعة
فانتقل إلى الله تعالى كالعتق ولنا أنه سبب يزيل ملك الواقف وجه إلى من يصح
تمليكه على وجه لم يخرج المال عن ماليته فوجب أن ينقل الملك إليه كالهبة
والبيع ولأنه لو كان تمليك المنفعة المجردة لم يلزم كالعارية والسكنى ولم
يزل ملك الواقف عنه كالعارية، ويفارق العتق فإنه أخرجه عن المالية وامتناع
التصرف في الرقبة لا يمنع الملك كأم الولد
(6/207)
* (مسألة) * (ويملك صوفه ولبنه وثمرته
ونفعه) لأنه نماء ملكه ولا نعلم في ذلك خلافاً * (مسألة) * (وليس له وطئ
الجارية فإن فعل فلا حد عليه ولا مهر)
لا يجوز للموقوف عليه وطئ الأمة الموقوفة لأنا لا نأمن حبلها فتنقص أو تتلف
او تخرج من الوقف بكونها أم ولد ولأن ملكه ناقص فإن وطئ فلا حد عليه للشبهة
ولا مهر عليه لأنه لو وجب لوجب له ولا يجب للإنسان شئ على نفسه * (مسألة) *
(وإن ولدت فالولد حر) لأنه من وطئ شبهة وعليه قيمته يوم الوضع يشترى بها
عبد مكانه لأنه فوت رقه وتصير أم ولد له لأنه أحبلها بحر في ملكه فإذا مات
عتقت وتجب قيمتها في تركته لأنه أتلفها على من بعده من البطون فيشتري بها
جارية تكون وقفاً مكانها، وإن قلنا لا يملكها الموقوف عليه لم تصر أم ولد
له بذلك لأنها أجنبية * (مسألة) * (فإن أعتقها لم ينفذ عتقه) لأنه يتعلق به
حق غيره ولأن الوقف لازم فلا يمكن من إبطاله فإن كان نصف العبد وقفاً ونصفه
طلقاً فأعتق صاحب الطلق لم يسر عتقه إلى الوقف لأنه إذا لم يعتق بالمباشرة
فبالسراية أولى * (مسألة) * (وإن وطئها أجنبي بشبهة فالولد حر)
(6/208)
لاعتقاده أنه يطأ في ملكه وإن كان الواطئ
عبداً وعليه المهر لأهل الوقف لأنه وطئ جاريتهم في غير ملك أشبه الأمة
المطلقة، وتجب قيمته لأنه كان من سبيله أن يكون مملوكاً فمنعه اعتقاد
الحرية من الرق فوجبت قيمته يشتري بها عبداً يكون وقفاً وتعتبر قيمته يوم
تضعه حياً لأنه لا يمكن تقويمه قبل ذلك وإن وطئها مكرهة أو طاوعته فعليه
الحد إذا انتفت الشبهة والمهر لأهل الوقف لأنه وطئ جارية غيره ويكون ولدها
وقفاً معها لأنه تبع لها * (مسألة) * (وإن تلفت فعليه قيمتها يشتري بها
مثلها) سواء أتلفها أجنبي أو الواقف كما لو اتلف غير الوقف، وإن أتلفه
الموقوف عليه فعليه قيمته أيضاً يشتري بها مثله يقوم مقامه لأنه لا يملك
التصرف في رقبته إنما له نفعه ويحتمل أن يملك الموقوف عليه قيمة الولد فيما
إذا وطئها أجنبي بشبهة فأتت بولد ولا يلزمه قيمته إن أولدها لذلك * (مسألة)
* (وله تزويج الأمة وأخذ مهرها وولدها وقف معها ويحتمل أن يملكه)
يجوز للموقوف عليه تزويج الأمة الموقوفة لأنه عقد على منفعتها أشبه الإجارة
ولأن الموقوف عليه لا يملك استيفاء هذه المنفعة فلا يتضرر بتمليك غيره
إياها والمهر للموقوف عليه لأنه بدل نفعها أشبه الأجرة، ويحتمل أن لا يجوز
تزويجها لأنه عقد على منفعتها في العمر فيفضى إلى تفويت منفعتها في حق
البطن الثاني، ولأن النكاح يتعلق به حقوق من وجوب تمكين الزوج من استمتاعها
ومبيتها عنده فتفوت خدمتها في الليل على البطن الثاني فإن طلبت التزويج وجب
تزويجها لأنه حق لها طلبته فنعينت
(6/209)
الإجابة إليه وما فات من الحق به يفوت
تبعاً لإبقائها حقها فلا يكون مانعاً من تزويجها كغير الموقوفة إذا طلبت
ذلك وإذا زوجها فولدت من الزوج فولدها وقف معها لأن ولد كل ذات رحم حكمه
حكمها كأم الولد والمكاتبة ويحتمل أن يملك الموقوف عليه ولدها لأنه من
نمائها * (مسألة) * (وإن جنى الوقف خطأ فالأرش على الموقوف عليه ويحتمل أن
يكون في كسبه) إذا جنى الوقف جناية موجبة للمال لم يتعلق أرشها برقبته لأنه
لا يمكن بيعها ويجب أرشها على الموقوف عليه لأنه ملكه تعذر تعلق أرشه
برقبته فكان على مالكه كجناية أم الولد ولا يلزمه أكثر من قيمته كأم الولد،
فإن قلنا أن الوقف لا يملك فالارش في كسبه لأنه تعذر تعلقه برقبته لكونها
لا تباع وبالموقوف عليه لأنه لا يملكه فكان في كسبه كالحر، ويحتمل أن يكون
في بيت المال كأرش جناية الحر المعسر.
قال شيخنا: وهذا احتمال ضعيف فإن الجناية إنما تكون في بيت المال في صورة
تحملها العاقلة عند عدمها وجناية العبد لا تحملها العاقلة، وإن كان الوقف
على المساكين فينبغي أن يكون الارض في كسبه لأنه ليس له مستحق معين يمكن
إيجاب الأرش عليه ولا يمكن تعلقه برقبته فتعين في كسبه، ويحتمل أن يكون في
بيت المال، وان جنى جناية توجب القصاص وجب سواء كانت على الموقوف عليه أو
على
(6/210)
غيره، فإن قتل بطل الوقف فيه وإن قطع كان
باقيه وقفاً كما لو تلف بفعل الله تعالى (فصل) وإن جني على الوقف جناية
موجبة للمال وجب لأن ماليته لم تبطل ولو بطلت ماليته لم يبطل ارش الجناية
عليه فإن الحر يجب ارش الجناية عليه فإن قتل وجبت قيمته وليس للموقوف عليه
العفو عنها لأنه لا يختص بها ويشترى مثل المجني عليه يكون وقفاً، وقال بعض
الشافعية يختص الموقوف عليه بالقيمة إن قلنا إنه يملك الموقوف لأنها بدل
ملكه ولنا أنه ملك لا يختص به فلم يختص ببدله كالعبد المشترك والمرهون،
وبيان عدم الاختصاص ظاهر فإنه يتعلق به حق البطن الثاني فلم يجز ابطاله ولا
نعلم قدر ما يستحق هذا منه فيعفو عنه فلم يصح العفو عن شئ منه كما لو أتلف
رجل رهناً أخذت منه قيمته فجعلت رهناً ولم يصح عفو واحد منهما عنه، وإن
كانت الجناية عمداً محضاً من مكافئ له فالظاهر أنه لا يجب القصاص لأنه محل
لا يختص الموقوف عليه فلم يجز أن يقتص من قاتله كالعبد المشترك، وقال بعض
أصحاب الشافعي يكون ذلك إلى الامام فإن قطعت يد العبد أو بعض أطرافه فله
استيفاء القصاص لأنه حق لا يشاركه فيه غيره، وإن كان القطع لا يوجب القصاص
أو يوجبه فعفا عنه وجب نصف قيمته، فإن أمكن أن يشترى بها عبد كامل وإلا
اشتري شقص من عبد * (مسألة) * (وإذا وقف على ثلاثة ثم على المساكين فمن مات
منهم رجع نصيبه إلى الآخرين فإذا ماتا رجع إلى المساكين) لأنه جعله لهم
مشروطاً بانقراض الثلاثة فوجب اتباع شرطه في ذلك
(6/211)
كسائر شروطه وكما لو وقف على ولده ثم على
المساكين فإنه لا يصرف إلى المساكين شئ من الوقف إلا بعد انقراض الولد كذا
ههنا * (فصل) * قال رضي الله عنه (ويرجع إلى شرط الواقف في قسمه على
الموقوف عليهم في التقديم والتأخير والجمع والترتيب والتسوية والتفضيل
وإخراج من شاء بصفة وإدخاله بصفة وفي الناظر فيه والإيقاف عليه وسائر
أحواله لأنه ثبت بوقفه فوجب أن يتبع فيه شرطه ولأن ابتداء الوقف مفوض إليه
فكذلك تفضيله وترتيبه، وكذلك إن شرط إخراج بعضهم بصفة ورده بصفة مثل أن
يقول من تزوج منهم فله ومن فرق فلا شئ له أو عكس ذلك أو من حفظ القرآن فله
ومن نسيه فلا شئ له، أو من اشتغل بالعلم فله ومن تركه فلا شئ له أو من كان
على مذهب كذا فله ومن خرج منه فلا شئ له، وكذلك إن وقف على أولاده على أن
للأنثى سهماً وللذكر سهمين أو على حسب ميراثهم أو بالعكس أو على
أن للكبير ضعف ما للصغير أو للفقير ضعف ما للغني أو عكس ذلك أو عين
بالتفضيل واحداً معيناً أو ولده أو ما أشبه هذا فهو على ما قال لما ذكرنا
فكل هذا صحيح وهو على ما شرط، وقد روى هشام بن عروة أن الزبير جعل دوره
صدقة على بنيه لا تباع ولا توهب وأن للمردودة من بناته أن تسكن غير مضرة
ولا مضر بها فإن استغنت بزوج فلا حق لها في الوقف وليس هذا تعليقاً للوقف
بصفة بل وقف مطلق والاستحقاق له بصفة وكل هذا مذهب الشافعي ولا نعلم فيه
خلافا
(6/212)
* (مسألة) * (فإن لم يشرط ناظراً فالنظر
للموقوف عليه وقيل للحاكم ينفق عليه من غلته) النظر في الموقف لمن شرطه
الواقف لأن عمر رضي الله عنه جعل وقفه إلى حفصة تليه ما عاشت ثم يليه ذو
الرأي من أهلها، ولأن مصرف الوقف يتبع فيه شرط الواقف فكذلك النظر فإن جعل
النظر لنفسه جاز وإن جعله إلى غيره صح، فإن لم يجعله إلى أحد أو جعله
لإنسان فمات فالنظر للموقوف عليه لأنه ملكه يختص بنفعه فكان نظره إليه
كملكه المطلق، ويحتمل أن ينظر فيه الحاكم اختاره ابن أبي موسى قال شيخنا
ويحتمل أن يكون ذلك مبنياً على أن الملك فيه هل ينتقل إلى الموقوف عليه أو
إلى الله تعالى فان قلنا هو للموقوف عليه فالنظر له فيه لأنه يملك عينه
ونفعه، وإن قلنا هو لله تعالى فالحاكم يتولاه ويصرفه إلى مصارفه لأنه مال
الله فكان النظر فيه إلى حاكم المسلمين كالوقف على المساكين.
فأما الوقف على المساكين والمساجد ونحوها أو على من لا يمكن حصرهم
واستيعابهم فالنظر فيه إلى الحاكم لأنه ليس له مالك معين ينظر فيه وللحاكم
أن يستنيب فيه لأن الحاكم لا يمكنه تولي النظر بنفسه (فصل) ومتى كان النظر
للموقوف عليه إما بجعل الواقف النظر له أو لكونه أحق بذلك عند عدم ناظر
سواه أو كان واحداً مكلفاً رشيداً فهو أحق بذلك رجلا كان أو امرأة عدلاً أو
فاسقاً لأنه ينظر لنفسه فكان له ذلك في هذه الأحوال كملكه المطلق ويحتمل أن
يضم إلى الفاسق أمين حفظا لأصل الوقف عن البيع والتضييع، وإن كان الوقف
لجماعة رشيدين فالنظر للجميع لكل إنسان في حصته
(6/213)
فان كان الموقوف عليه صغيراً أو مجنوناً أو
سفيهاً قام وليه في النظر مقامه كملكه المطلق، وإن كان النظر
لغير الموقوف عليه بتولية الواقف أو الحاكم أو لبعض الموقوف عليهم لم يجز
أن يكون إلا أميناً فإن لم يكن أميناً لم تصح ولايته إن كانت من الحاكم
وأزيلت يده، وإن ولاه الواقف وهو فاسق أو كان عدلاً ففسق ضم إليه أمين لحفظ
الوقف ولم تزل يده لأنه أمكن الجمع بين الحقين، ويحتمل أن لا تصح تولية
الفاسق وينعزل إذا فسق لأنها ولاية على حق غيره فنافاها الفسق كما لو ولاه
الحاكم وكما لو لم يكن حفظ الوقف منه مع بقاء ولايته فإن يده تزال لأن
مراعاة حفظ الوقف أهم من إبقاء ولاية الفاسق عليه (فصل) ونفقة الوقف من حيث
شرط الواقف لأنه لما اتبع شرطه في مصرفه وجب اتباعه في نفقته فإن لم يكن
شرطه فمن غلته لأن الوقف اقتضى تحبيس أصله وتسبيل نفعه ولا يحصل ذلك إلا
بالإنفاق عليه فهو من ضرورته، وكذك عمارة الوقف قياساً على نفقته فإن تعطلت
منافع الحيوان الموقوف فنفقته على الموقوف عليه لأنه ملكه ويحتمل وجوبها في
بيت المال ويجوز بيعه على ما نذكره * (مسألة) * (وإن وقف على ولده ثم على
المساكين فهو لولده الذكور والإناث والحبالى بالسوية) وكذلك إن قال وقفت
على أولادي أو على ولد فلان لانه شرك بينهم وإطلاق التشريك يقتضي التسوية
كما لو أقر لهم بشئ وكولد الأم في الميراث حين شرك الله تعالى بينهم فيه
فقال (فهم شركاء في الثلث) تساووا فيه ولم يفضل بعضهم على بعض وليس كذك في
ميراث ولد الأبوين وولد الأب
(6/214)
فإن الله تعالى قال (فان كانوا إخوة رجالا
ونساء فللذكر مثل حظ الأنثيين) ولا نعلم في هذا خلافاً * (مسألة) * (ولا
يدخل فيه ولد البنات وهل يدخل فيه ولد البنين؟ على روايتين) اختلفت الرواية
عن أحمد رحمه الله في ذلك فروي عنه ما يدل عى انه يكون وفقا على أولاده
وأولاد بنيه الذكور والإناث ما لم تكن قرينة تصرفه عن ذلك دون أولاد
البنات.
قال المروذي: قلت لأبي عبد الله ما تقول في رجل وقف ضيعة على ولده فمات
الأولاد وتركوا النسوة حوامل؟ فقال كل ما كان من أولاد الذكور بنات كن أو
بنين فالضيعة موقوفة عليهم وما كان من أولاد البنات فليس لهم فيه شئ لأنهم
من رجل آخر، ووجه ذلك أن الله تعالى لما قال (يوصيكم الله في أولادكم) دخل
فيه ولد البنين وإن سفلوا، ولما قال (ولأبويه لكل واحد منهما السدس إن كان
له ولد) تناول ولد البنين
فالمطلق من كلام الآدمي إذا خلا عن قرينة ينبغي أن يحمل على المطلق من كلام
الله تعالى ويفسر بما يفسر به ولأن ولد الولد ولد بدليل قوله تعالى (يا بني
آدم، ويا بني إسرائيل) وقال النبي صلى الله عليه وسلم " ارموا يا بني
إسماعيل فإن أباكم كان رامياً " وقال " نحن بنو النضر بن كنانة " ولأنه لو
وقف على ولد فلان وهم قبيلة دخل فيه ولد البنين فكذلك اذا لم يكونوا قبيلة
(والرواية الثانية) لا يدخل فيه ولد الولد بحال وسواء في ذلك ولد البنين
وولد البنات اختاره القاضي وأصحابه لأن الولد حقيقة وعرفاً إنما هو ولده
لصلبه وإنما سمي ولد الولد ولداً مجازاً ولهذا يصح نفيه فيقال ما هذا ولدي
(6/215)
إنما هو ولد ولدي.
فأما ولد البنات فلا يدخلون بغير خلاف لأنهم لم يدخلوا في قوله تعالى
(يوصيكم الله في أولادكم) قال الشاعر: بنونا بنو أبنائنا وبناتنا * بنوهن
أبناء الرجال الأباعد (فصل) فإن قال على ولد ولدي لصلبي فهو آكد في اختصاصه
بالولد دون ولد الولد، وإن قال على ولدي وولد ولدي ثم على المساكين دخل فيه
البطن الأول والثاني ولم يدخل فيه البطن الثالث وإن قال على ولدي وولد ولدي
ولد ولد ولدي دخل فيه ثلاثة بطون دون من بعدهم، وموضع الخلاف المطلق، فأما
مع وجود دلالة تصرف إلى أحد المحملين فإنه يصرف إليه بغير خلاف، مثل أن
يقول على ولد فلان وهم قبيلة ليس فيهم ولد من صلبه أو قال ويفضل الولد
الأكبر أو الأفضل أو الأعلم على غيرهم أو قال فإذا خلت الأرض من عقبي عاد
إلى المساكين أو قال على ولد ولدي غير ولد البنات أو غير ولد فلان أو قال
يفضل البطن الأعلى على الثاني أو قال الأعلى فالأعلى وأشباه ذلك فهذا يصرف
لفظه إلى جميع نسله وعقبته، فإن اقترنت به قرينة تقتضي تخصيص أولاده لصلبه
بالوقف مثل أن يقول على ولدي لصلبي أو الذين يلونني ونحو هذا فإنه يختص
بالبطن الأول دون غيرهم، وإذا قلنا بتعميمهم إما بالقرينة وإما لقولنا إن
المطلق يقتضي التعميم ولم يكن في لفظه ما يقتضي تشريكاً ولا ترتيباً احتمل
أن يكون بين الجميع على التشريك لأنهم دخلوا في اللفظ دخولاً واحداً فوجب
أن يشتركوا
(6/216)
فيه كما لو أقر لهم بدين، ويحتمل أن يكون
على الترتيب على حسب الترتيب في الميراث، وهذا ظاهر كلام أحمد لقوله فيمن
وقف على ولد علي بن إسماعيل ولم يقل إن مات ولد علي بن إسماعيل دفع إلى ولد
ولده فمات ولد علي بن إسماعيل وترك ولداً فقال إن مات ولد علي بن إسماعيل:
دفع إلى ولده أيضاً لأن هذا من ولد علي بن إسماعيل فجعله لولد من مات من
ولد علي بن إسماعيل عند موت أبيه وذلك لأن ولد البنين لما دخلوا في قول
الله تعالى (يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين) لم يستحق ولد
البنين شيئاً مع وجود آبائهم واستحقوا عند فقدهم كذا ههنا فأما إن وصى لولد
فلان وهم قبيلة فلا ترتيب ويستحق الأعلى والأسفل على كل حال (فصل) وإن رتب
فقال وقفت هذا على ولدي وولد ولدي ما تناسلوا وتعاقبوا الأعلى فالأعلى
والأقرب فالأقرب أو الأول فالأول أو البطن الأول ثم البطن الثاني أو على
أولادي ثم على أولاد أولادي أو على أولادي فإذا انقرضوا فعلى أولاد أولادي
فعلى هذا الترتيب لا يستحق البطن الثاني شيئا حتي ينقرض البطن الأول كله
ومتى بقي واحد من البطن الأول كان الجميع له لأن الوقف ثبت بقوله فيتبع
مقتضى كلامه وإن قال على أولادي وأولادهم ما تعاقبوا وتناسلوا على أنه من
مات منهم عن ولد كان ما كان جارياً عليه جارياً على ولده كان دليلاً على
الترتيب لأنه لو اقتضى التشريك لا اقتضى
(6/217)
التسوية ولو جعلنا لولد الولد سهماً مثل
سهم أبيه ثم دفعنا إليه سهم أبيه صار له سهمان ولغيره سهم وهذا ينافي
التسوية ولأنه يفضي إلى تفضيل ولد الابن على الابن والظاهر من إرادة الواقف
خلاف هذا فإذا ثبت الترتيب فإنه يترتب بين كل والد وولده وإذا مات عن ولد
انتقل إلى ولد سهمه سواء بقي من البطن الأول أحد أو لم يبق (فصل) وإن رتب
بعضهم دون بعض فقال وقفت على ولدي وولد ولدي ثم على أولادهم أو على أولادي
ثم على أولاد أولادي وأولادهم ما تناسلوا وتعاقبوا أو قال على أولادي
وأولاد أولادي ثم على أولادهم وأولاد أولادهم ما تناسلوا فهو على ما قال من
شرك بينهم بالواو المقتضية للجمع والتشريك ويرتب من رتبه بحرف الترتيب ففي
المسألة الأولى يشترك الولد وولد الولد فإذا انقرضوا صار لمن
بعدهم وفي الثانية يختص به الولد فإذا انقرضوا صار مشتركاً بين من بعدهما
وفي الثالثة يشترك فيه البطنان الأولان دون غيرهم فإذا انقرضوا اشترك فيه
من بعدهم (فصل) فإن قال وقفت على أولادي ثم على أولاد أولادي على أنه من
مات من أولادي عن ولد فنصيبه لولده أو فنصيبه لإخوته أو لولد ولده أو لولد
أخيه أو لأخواته أو لولد أخواته فهو على ما شرطه، وان قال: ومن مات منهم عن
ولد فنصيبه لولده ومن مات منهم عن غير ولد فنصيبه لأهل الوقف وكان له ثلاثة
بنين فمات أحدهم عن ابنين انتقل نصيبه إليهما ثم مات الثاني عن
(6/218)
غير ولد فنصيبه لأخيه وابني أخيه بالتسوية
لأنهم أهل الوقف فإن مات أحد ابني الابن عن غير ولد انتقل نصيبه إلى أخيه
وعمه لأنهما أهل الوقف، ولو مات أحد البنين الثلاثة عن غير ولد وخلف أخويه
وابني أخ له فنصيبه لأخويه دون ابني أخيه لأنهما ليسا من أهل الوقف ما دام
أبوهما حيا فادا مات أبوهما صار نصيبه لهما فإذا مات الثالث كان نصيبه
لابني أخيه بالتسوية إن لم يخلف ولداً فإن خلف ابناً واحداً فله نصيب أبيه
وهو النصف ولابني عمه النصف بينهما نصفين، وإن قال: من مات منهم عن غير ولد
كان ما كان جارياً عليه جارياً على من هو في درجته وكان الوقف مرتباً بطناً
بعد بطن كان نصيب الميت عن غير ولد لأهل البطن الذي هو منه وإن كان مشتركاً
بين البطون كلها احتمل أن يكون نصيبه بين جميع أهل الوقف لأنهم في استحقاق
الوقف سواء فكانوا في درجته من هذه الجهة ولأننا لو صرفنا نصيبه إلى بعضهم
أفضى إلى تفضيل بعضهم على بعض والتشريك يقتضي التسوية فعلى هذا يكون وجود
هذا الشرط كعدمه لأنه لو سكت عنه كان الحكم كذلك ويحتمل أن يعود نصيبه إلى
سائر البطن الذي هو منه لأنهم في درجته في القرب إلى الحد الذي يجمعهم
ويستوي في ذلك إخوته وبنو عمه وبنو عم أبيه لأنهم سواء في القرب ولأننا لو
شركنا بين أهل الوقف كلهم في نصيبه لم يكن في هذا الشرط فائدة والظاهر أنه
قصد سبباً يفيد فعلى هذا إن لم يكن في درجته أحد بطل هذا الشرط وكان الحكم
فيه كما لو لم يذكره وإن كان الوقف على البطن الأول على أنه من مات منهم عن
ولد انتقل نصيبه إلى ولده ومن مات عن غير ولد انتقل نصيبه إلى من في درجته
ففيه ثلاثة أوجه:
(6/219)
(أحدهما) أن يكون نصيبه بين أهل الوقف كلهم
يتساوون فيه سواء كانوا من بطن واحد أو من بطون وسواء تساوت أنصباؤهم في
الوقف أو اختلفت لما ذكرنا من قبل (والثاني) أن يكون لأهل بطنه سواء كانوا
من أهل الوقف أو لم يكونوا مثل أن يكون البطن الأول ثلاثة فمات أحدهم عن
ابن ثم مات الثاني عن ابنين فمات أحد الابنين وترك أخاه وابن عمه وعمه
وابناً لعمه الحي فكيون نصيبه بين أخيه وابني عمه (والثالث) أن يكون لأهل
بطنه من أهل الوقف فيكون على هذا لأخيه وابن عمه الذي مات أبوه، فان كان في
درجته في النسب من ليس من أهل الاستحقاق بحال كرجل له أربعة بنين وقف على
ثلاثة منهم على هذا الوجه المذكور وترك الرابع فمات أحد الثلاثة عن غير ولد
لم يكن للرابع فيه شئ لأنه ليس من أهل الاستحقاق فأشبه ابن عمهم (فصل) وإن
وقف على بنيه وهم ثلاثة على أن من مات من فلان وفلان وأولادهم عن ولد
فنصيبه لولده وإن مات فلان فنصيبه لأهل الوقف فهو على ما شرط، وكذلك إن كان
بنون وبنات فقال: من مات من الذكور فنصيبه لولده، ومن مات من البنات
فنصيبها لأهل الوقف فهو على ما قال، وإن قال على أولادي على أن يصرف إلى
البنات منه ألف والباقي للبنين لم يستحق البنون شيئاً حتى يستوفي البنات
الألف لأنه جعل للبنات مسمى وجعل للبنين الفاضل عنه والحكم فيه على ما قال
لأنه
(6/220)
جعل البنات كذوي الفروض وجعل البنين
كالعصبات الذين لا يستحقون إلا ما فضل عن ذوي الفروض (فصل) فإن كان له
ثلاثة بنين فقال وقفت على ولدي فلان وفلان وعلى ولد ولدي كان الوقف على
الابنين المسمين وعلى أولادهما وأولاد الثالث ولا شئ للثالث، وقال القاضي
يدخل الثالث في الوقف وذكر أن أحمد قال في رجل قال: وقفت هذه الضيعة على
ولدي فلان وفلان وعلى ولد ولدي وله ولد غير هؤلاء قال يشتركون في الوقف
واحتج القاضي بأن قوله ولدي يستغرق الجنس فيعم الجميع وقوله فلان وفلان
تأكيد لبعضهم ولا يوجب إخراج بقيتهم كالعطف في قوله (من كان عدوا لله
وملائكته ورسله وجبريل وميكال)
ولنا أنه أبدل بعض الولد من اللفظ المتناول للجميع فاختض بالبعض المبدل كما
لو قال علي ولدي فلان وذلك لأن بدل البعض يوجب اختصاص الحكم به كقول الله
تعالى (ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا) لما خص المستطيع
بالذكر اختص الوجوب به، ولو قال ضربت زيداً رأسه أو رأيت زيداً وجهه اختص
الضرب بالرأس والرؤية بالوجه، ومنه قول القائل: طرحت الثياب بعضها فوق بعض،
فإن الفوقية تختص بالبعض مع عموم اللفظ الأول كذا ههنا وفارق العطف فإن عطف
الخاص على العام يقتضي تأكيده لا تخصيصه وكلام أحمد: هم شركاء يحتمل إن
يعود إلى أولاد أولاده أي يشترك أولاد الموقوف عليهما وأولاد غيرهم لعموم
لفظ الواقف فيهم ويتعين حمل كلامه عليه لقيام
(6/221)
الدليل عليه، ولو قال علي ولدي فلان وفلان
ثم على المساكين خرج فيه من الخلاف مثل ما ذكرنا قال شيخنا ويحتمل أن يدخل
في الوقف ولد ولده لأننا قد ذكرنا من قبل أن ظاهر كلام أحمد أن قوله وقفت
على ولد ولدي يتناول نسله وعاقبته كلها (فصل) ومن وقف على أولاده أو أولاد
غيره وله حمل لم يستحق شيئاً قبل انفصاله لأنه لم تثبت له أحكام الدنيا قبل
انفصاله، وقال أحمد في رواية جعفر بن محمد فيمن وقف نخلا على قوم ما
توالدوا ثم ولد مولود: فإن كانت النخل قد أبرت فليس له فيه شئ وهي للأول،
وإن لم تكن قد أبرت فهو مفهم، وإنما قال ذلك لأنها قبل التأبير تتبع الأصل
في البيع وهذا الموجود يستحق نصيبه من الأصل فتتبعه حصته من الثمرة كما لو
اشترى ذلك النصيب من الأصل وبعد التأبير لا تتبع الأصل ويستحقها من كان له
الأصل فكانت للأول لأن الأصل كان كله له فاستحق ثمرته كما لو باع هذا
النصيب منها ولم يستحق المولود منها شيئاً كالمشتري وهكذا الحكم في سائر
الثمر الظاهر على الشجر لا يستحق المولود منها شيئاً ويستحق مما ظهر بعد
ولادته، وإن كان الوقف أرضاً فيها زرع يستحقه البائع فهو للأول، وإن كان
مما يستحقه المشتري فللمولود حصته منه لأن المولود يتجدد استحقاقه للأصل
كتجدد ملك المشتري فيه * (مسألة) * (وإن وقف على عقبه أو ولد ولده أو ذريته
أو نسله دخل فيه ولد البنين بغير خلاف علمناه)
(6/222)
وأما ولد البنات فقال الخرقي لا يدخلون فيه
وقد قال أحمد فيمن وقف على ولده: ما كان من ولد البنات فليس لهم فيه شئ
فهذا النص يحتمل أن يعدى إلى هذه المسألة ويحتمل أن يكون مقصوداً فيمن وقف
على ولده ولم يذكر ولد ولده وممن قال لا يدخل ولد البنات في الوقف الذي على
أولاده وأولاد أولاده مالك ومحمد بن الحسن، وكذلك إذا قال على ذريته ونسله
وروى عن أحمد أنهم يدخلون في الوصية وذهب إليه بعض أصحابنا وهذا مثله وقال
أبو بكر وابن حامد يدخل فيه ولد البنات وهو مذهب الشافعي وأبي يوسف لأن
البنات أولاده فأولادهن أولاد أولاده حقيقة فيجب أن يدخلوا في اللفظ
لتناوله لهم بدليل قوله تعالى (ونوحا هدينا من قبل ومن ذريته داود وسليمان)
إلى قوله (وعيسى) وهو ولد بنته فجعله من ذريته ولذلك ذكر الله تعالى قصة
إبراهيم وعيسى وموسى وإسماعيل وإدريس ثم قال (أولئك الذين أنعم الله عليهم
من النبيين من ذرية آدم وممن حملنا مع نوح ومن ذرية إبراهيم وإسرائيل)
وعيسى معهم ولما قال الله تعالى (وحلائل أبنائكم) دخل في التحريم حلائل
أبناء البنات وقال النبي صلى الله عليه وسلم للحسن " إن ابني هذا سيد "
ووجه الرواية الأولى أنهم لم يدخلوا في قول الله تعالى (يوصيكم الله في
أولادكم) ولأنه لو وقف على ولد فلان وقد صاروا قبيلة دخل فيه ولد البنين
دون ولد البنات وكذلك قبل أن يصيروا قبيلة لأن ولد البنات منسوبون إلى
آبائهم دون أمهاتهم قال الشاعر بنونا بنو أبنائنا وبناتنا * بنوهن أبناء
الرجال الأباعد
(6/223)
وقولهم انهم أولاده أولاده حقيقة قلنا
لأنهم ينتسبون إلى الواقف عرفاً وكذلك لو قال أولاد أولادي المنتسبين إلي
لم يدخلوا في الوقف ولأن ولد الهاشمية من غير الهاشمي ليس بهاشمي ولا ينتسب
إلى أبيها وأما عيسى عليه السلام فلم يكن له نسب ينسب إليه فنسب إلى الله
وقول النبي صلى الله عليه وسلم للحسن " إن ابني هذا سيد مجاز بالاتفاق "
بدليل قول الله تعالى (ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله)
والقول بأنهم يدخلون يصح وأقوى دليلاً لأنهم أولاد أولاده حقيقة فأما
قياسهم على ما إذا كانوا قبيلة فيفارق ما إذا وقف على ولد فلان وليسوا
قبيلة لأنه لو وقف على بني فلان وهم قبيلة دخل فيه البنات بخلاف ما إذا وقف
على بني إنسان حي أو ميت وليسوا قبيلة وقياسهم على
ما إذا قال وقفت على ولد ولدي المنتسبين إلي لا يصح لأنهم خرجوا من الوقف
لكونهم لا ينتسبون وباقي الأدلة ضعيفة جداً * (مسألة) * (فإن قال على ولد
ولدي لصلبي أو المنتسبين إلي لم يدخل ولد البنات) والخلاف إنما هو إذا لم
يوجد ما يدل على تعيين أحد الأمرين فأما إن وجد ما يصرف اللفظ إلى أحدهما
انصرف إليه فلو قال على أولادي وأولاد أولادي على أن لولد البنات سهماً
ولولد البنين سهمين أو قال فإذا خلت الأرض ممن يرجع نسبه إلي من قبل أب أو
أم كان للمساكين أو كان البطن الأول من أولاده الموقوف عليهم كلهم بنات
ونحو هذا ما يدل على إرادة ولد البنات بالوقف دخلوا في الوقف وإن قال على
أولادي وأولاد أولادي المنتسبين أو غير ذوي الأرحام أو نحو ذلك لم يدخل
(6/224)
فيه ولد البنات وإن قال على ولدي فلان
وفلانة وفلانة وأولادهم دخل فيه ولد البنات وكذلك إن قال على أن من مات
منهم عن ولد فنصيبه لولده وإن قال الهاشمي وقفت على أولادي وأولاد أولادي
الهاشمين لم يدخل في الوقف من أولاد بناته من كان غير هاشمي فأما من كان
هاشمياً من غير أولاد بنيه فهل يدخلون؟ على وجهين (أولهما) أنهم يدخلون
لأنه اجتمع فيهم الصفتان جميعاً كونهم من أولاد أولاده وكونهم هاشميين
(والثاني) لا يدخلون لأنهم لم يدخلوا في مطلق أولاد أولاده فأشبه ما لو لم
يقل الهاشمين وإن قال على أولادي وأولاد أولادي ممن ينتسب إلى قبيلتي فكذلك
(فصل) والمستحب أن يقسم الوقف على أولاده على حسب قسمة الله تعالى الميراث
بينهم للذكر مثل حظ الأنثيين وقال القاضي المستحب التسوية بين الذكر
والأنثى لأن القصد القربة على وجه الدوام وقد استووا في القرابة ولنا أنه
إيصال للمال إليهم فينبغي أن يكون بينهم على حسب الميراث كالعطية ولأن
الذكر في مظنة الحاجة أكثر من الأنثى لأن كل واحد منهما في العادة يتزوج
ويكون له الولد فالذكر تجب عليه نفقة امرأته وأولاده والمرأة ينفق عليها
زوجها ولا تلزمها نفقة أولادها وقد فضل الله تعالى االذكر على الأنثى في
الميراث على وفق هذا المعنى فيصح تعليله به ويتعدى إلى الوقف والعطايا
والصلات وما ذكره
(6/225)
القاضي لا أصل له وهو ملغي بالميراث
والعطية وإن خالف فسوى بين الذكر والأنثى أو فضلها عليه أو فضل بعض البنين
أو بعض البنات على بعض أو خص بعضهم بالوقف دون بعض فقال أحمد في رواية محمد
بن الحكم إن كان على طريق الأثرة فأكرهه، وان كان على أن بعضهم له عيال وبه
حاجة يعني فلا بأس به.
ووجه ذلك أن الزبير خص المردودة من بناته دون المستغنية منهن بصدقته وعلى
قياس قول أحمد لو خص المشتغلين بالعلم من أولاده بوقفه تحريضاً لهم على
طلبه، أو ذا الدين دون الفساق أو المريض أو من له فضيلة من أجل فضيلته فلا
بأس وقد دل على ذلك أن أبا بكر رضي الله عنه نحل عائشة جذاذ عشرين وسقا دون
بسائر ولده وحديث عمر أنه كتب (بسم الله الرحمن الرحيم) هذا ما أوصى به عبد
الله عمر أمير المؤمنين إن حدث به حدث أن ثمغا وصرمة بن الأكوع لعبد الذي
فيه والمائة سهم التي بخيبر ورقيقه الذي فيه الذي أطعمه محمد صلى الله عليه
وسلم بالواد تليه حفصة ما عاشت ثم يليه ذو الرأي من أهلها ان لا يباع ولا
يشترى ينفقه حيث رأى من السائل والمحروم وذوي القربى لا حرج على من وليه إن
أكل أو أكل أو اشترى رقيقاً منه رواه أبو داود فيه دليل على تخصيص حفصة دون
إخوتها وأخواتها * (مسألة) * (وإن وقف على بنيه أو بني فلان فهو للذكور
خاصة دون الأناثي والخناثى عند المجهور) وبه قال الشافعي وأصحاب الرأي وقال
الحسن واسحق وأبو ثور هو للذكر والأنثى جميعاً لأنه لو وقف على
(6/226)
بني فلان أو أوصى لهم وهم قبيلة دخل فيه
الذكر والأنثى وقال الثوري إن كانوا ذكوراً وإناثاً فهو بينهم وإن كن بنات
لا ذكر معهن فلا شئ لهن لأنه متى اجتمع الذكور والإناث غلب لفظ التذكير
ودخل فيه الإناث كلفظ المسلمين ولنا أن لفظ البنين يختص الذكور قال الله
تعالى (أصطفى البنات على البنين) وقال تعالى (أم اتخذ مما يخلق بنات
وأصفاكم بالبنين؟) وقال تعالى (زين الله للناس حب الشهوات من النساء
والبنين) وقال تعالى (المال والبنون زينة الحياة الدنيا) وقد أخبر أنهم لا
يشتهون البنات فقال (ويجعلون لله البنات سبحانه ولهم
ما يشتهون) وإنما دخلوا في الاسم إذا صاروا قبيلة لأن الاسم نقل فيهم عن
الحقيقة إلى العرف ولهذا تقول المرأة أنا من بني فلان إذا انتسبت إلى
القبيلة ولا تقول ذلك إذا انتسبت إلى أبيها، فاما ان رقف على بناته أو وصى
لهن دخل فيه البنات دون غيرهن ولا يدخل فيهن الخنثى المشكل لأنه لا يعلم
كونه أنثى لا نعلم في ذلك خلافا * (مسألة) * إلا أن يكونوا قبيلة فيدخل فيه
النساء دون أولادهن من غيرهم أما إذا وقف على بني فلان أو ولد فلان وهم
قبيلة كبني هاشم وتميم فإنه يدخل فيه الذكر والأنثى والخنثى ويدخل ولد
الرجل معه ولا يدخل فيه ولد بناتهم من غيرهم لأن اسم القبيلة يشتمل ذكرها
وأنثاها قال الله تعالى (يا بني آدم - ولقد كرمنا بني آدم) يريد الجميع
وروي أن جواري بني النجار ولمن نحن جوار من بني النجار يا حبذا محمد من جار
ويقال امرأة من بني هاشم ولا يدخل ولد البنات فيهم لأنهم لا ينتسبون إلى
القبيلة.
(6/227)
* (مسألة) * (وإن وقف على قرابته أو قرابة
فلان فهو للذكر والأنثى من أولاده وأولاد أبيه وجده وجد أبيه لأن النبي صلى
الله عليه وسلم لم يجاوز بني هاشم بسهم ذوي القربى) وجملة ذلك أن الرجل إذا
وقف على قرابته أو قرابة فلان صرف الوقف إلى الذكر والأنثى من أولاده
وأولاد أبيه وجده وجد أبيه ويستوي فيه الذكر والأنثى ولا ينصرف إلى من هو
أبعد منهم شئ لأن الله تعالى لما قال (ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى
فلله وللرسول ولذي القربى) يعني قربى النبي صلى الله عليه وسلم أعطى النبي
صلى الله عليه وسلم أولاده وأولاد عبد المطلب وأولاد هاشم ذكرهم وأنثاهم
ولم يعط من هو أبعد منهم كبني عبد شمس وبني نوفل شيئاً إلا أنه أعطى بني
المطلب بن عبد مناف وعلل عطيتهم بأنهم لم يفارقوا بني هاشم في جاهلية ولا
إسلام ولم يعط قرابة أمه وهم بنو زهرة شيئاً ولم يعط منهم إلا مسلماً فحمل
مطلق كلام الوقف على ما حمل عليه المطلق من كلام الله تعالى وفسر بما فسر
به ويسوي بين قريبهم وبعيدهم وذكرهم وأنثاهم لأن اللفظ يشملهم وبين الكبير
والصغير والغني والفقير لذلك ولا يدخل فيه الكفار لأنهم لم يدخلوا في
المستحق من قربى النبي صلى الله عليه وسلم وهذا اختيار الخرقي وقد نقل عبد
الله وصالح عن أبيهما رواية أخرى أنه يصرف إلى قرابة أمة إن كان يصلهم في
حياته كإخوته من أمه وأخواله وخالاته، وإن كان لا يصلهم في حياته لم يعطوا
شيئاً لأن صلته إياهم في حياته قرينة دالة على إرادتهم بصلته هذه
(6/228)
وعنه رواية ثالثة أنه يجاوز بها أربعة آباء
ذكرها ابن أبي موسى في الارشاد وهي تدل على أن لفطه لا يتقيد بالقيد الذي
ذكرناه فعلى هذا يعطي كل من يعرف بقرابته من قبل أبيه وأمه الذين ينتسبون
الى الأب الأدنى، وهذا مذهب الشافعي لأنهم قرابة فيتناولهم الاسم ويدخلون
في عمومه وإعطاء النبي صلى الله عليه وسلم بعض قرابته تخصيصاً لا يمنع من
العمل بالعموم في غير هذا الموضع وقال أبو حنيفة قرابته كل ذي رحم محرم
فيعطى من أدناهم اثنان فصاعداً فإذا كان له عم وخالان أعطى عمه النصف
وخاليه النصف.
هكذا روي عنه فيما إذا أوصى لقرابته.
وقال قتادة: للأعمام الثلثان وللأخوال الثلث وهو قول الحسن، قال ويزاد
الأقرب بعض الزيادة، وقال مالك يقسم على الأقرب فالأقرب بالاجتهاد ولنا أن
هذا له عرف في الشرع وهو ما ذكرناه فيجب حمله عليه وتقديمه على العرف
اللغوي كالوضوء والصلاة والصوم والحج ولا وجه لتخصيصه بذي الرحم المحرم فإن
اسم القرابة يقع على غيرهم عرفاً وشرعاً وقد يحرم على الرجل ربيبته وأمهات
نسائه ولا قرابة لهم وتحل له ابنة عمه وخاله وهن من أقاربه وما ذكروه من
التفضيل لا يقتضيه اللفظ ولا يدل عليه دليل فالمصير إليه تحكم.
فأما إن كان في لفظه ما يدل على إرادة قرابة أمه كقوله وتفضل قرابتي من جهة
أبي على قرابتي من جهة أمي أو قوله إلا ابن خالتي فلاناً أو نحو ذلك أو
قرينة تخرج بعضهم عمل بما دلت عليه القرينة لأنها تصرف اللفظ عن ظاهره إلى
غيره
(6/229)
* (مسألة) * (وأهل بيته بمنزلة قرابته وقال
الخرقى بعطى من قبل أبيه وأمه) المنصوص عن أحمد رحمه الله أن أهل بيته
بمنزلة قرابته فإنه قال في رواية عبد الله إذا أوصى بثلث ماله لأهل بيته
فهو بمثابة قوله لقرابتي، وحكاه ابن المنذر عن احمد وقال أحمد قال النبي
صلى الله عليه وسلم " لا تحل الصدقة لي ولأهل
بيتي " فجعل سهم ذوي القربى لهم عوضاً عن الصدقة التي حرمت عليهم فكان ذوي
القربى الذين سماهم الله تعالى هم أهل بيته الذين حرمت عليهم الصدقة وذكر
حديث زيد بن أرقم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " أذكركم الله في أهل
بيتي " قال قلنا من أهل بيته نساؤه؟ قال لا أصله وعشيرته الذين حرمت عليهم
الصدقة بعده آل علي وآل عقيل وآل جعفر وآل عباس قال القاضي قال ثعلب أهل
البيت عند العرب آباء الرجل وأولادهم كالأجداد والأعمام وأولادهم ويستوي
فيه الذكور والإناث وذكر القاضي أن أولاد الرجل لا يدخلون في اسم القرابة
وإلا أهل بيته وليس هذا بشئ فإن ولد النبي صلى الله عليه وسلم من أهل بيته
وأقاربه الذين حرموا الصدقة وأعطوا من سهم ذي القربى وهم أقرب أقاربه فكيف
لا يكونون من أقاربه؟ وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لفاطمة وولديها
وزوجها " اللهم هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً " ولو وقف
على أقارب رجل أو وصى لأقاربه دخل فيه وولده بغير خلاف علمناه والخرقي قد
عدهم في القربة بقوله لا يجاوز به أربعة لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم
يجاوز بني هاشم بسهم ذوي
(6/230)
القربى فجعل؟؟؟؟؟ الأب الرابع ولا يكون
رابعاً إلا أن يعد النبي صلى الله عليه وسلم أبا لأن هاشماً إنما هو رابع
النبي صلى الله عليه وسلم ووجه قول الخرقي أن أمه من أهل بيته فكذلك
أقاربها من أولادها وأبويها وإخوتها وأخواتها * (مسألة) * (وقومه ونسباؤه
كقرابته لأن قوم الرجل قبيلته وهم نسباؤه) قال الشاعر: فقلت لها أما رفيقي
فقومه تميم * وأما أسرتي فيمان وقال أبو بكر هو بمثابة أهل بيته لأن أهل
بيته أقاربه وأقاربه قومه ونسباؤه وقال القاضي إذا قال لرحمي أو لأرحامي أو
لنسبائي أو لمناسبي صرف إلى قرابته من قبل أبيه وأمه ويتعدى ولد الأب
الخامس فعلى هذا يصرف إلى كل من يرث بفرض أو تعصيب أو بالرحم في حال من
الأحوال قال شيخنا وقول أبي بكر في المناسبين أولى من قول القاضي لأن ذلك
في العرف على من كان من العشيرة التي ينتسبان إليها وإذا كان كل واحد منهما
ينتسب إلى قبيلة غير قبيلة صاحبه
فليس بمناسب له.
(فصل) وآله مثل قرابته فإن في بعض ألفاظ حديث زيد بن أرقم من آل رسول صلى
الله عليه وسلم؟ قال أصله وعشيرته الذين حرموا الصدقة بعده آل علي وآل عباس
وآل جعفر وآل عقيل والأصل في آل أهل فقلبت الهاء همزة كما قالو هرقت الماء
وأرقته ومدت لئلا يحتمع همزتان
(6/231)
* (مسألة) * (والعترة هم العشيرة الأدنون
في عرف الناس وولده الذكور والإناث وإن سفلوا فسره ابن قتيبة وقد توقف أحمد
في ذلك وقال ثعلب وابن الأعرابي العترة الأولاد وأولاد الأولاد ولم يدخلا
في ذلك العشيرة والأول أصح وأشهر في عرف الناس ووجه الأول قول أبي بكر رضي
الله عنه في محفل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم نحن عترة رسول
الله صلى الله عليه وسلم وبيضته التي تفقأت عنه فلم ينكره أحد وهم أهل
اللسان فلا يعول على ما خالفه * (مسألة) * (وذوو رحمه كل قرابة له من جهة
الآباء والأمهات) قال القاضي ينصرف إلى قرابته من جهة أبيه وأمه ويتعدى ولد
الأب الخامس وقد ذكرنا ذلك في مسألة القوم والنسباء * (مسألة) * (والأيامى
والعزاب من لا زوج له من الرجال والنساء) ذكره أصحابنا قال شيخنا ويحتمل أن
يختص اسم الأيامى النساء اللاتي لا أزواج لمن قال الله تعالى (وأنكحوا
الأيامى منكم) وفي الحديث " أعوذ بالله من بوار الأيم " ووجه الأول ما روى
سعيد بن المسيب أنه قال: آمت حفصة بنت عمر من زوجها وأم عثمان من رقية قال
الشاعر: فإن تنكحي انكح وإن تتأيمي * وإن كنت أفتى منك أنايم وقول شيخنا
أولى لأن العرف يختص النساء بهذا الاسم والحكم للاسم العرفي ولأن قول النبي
(6/232)
صلى الله عليه وسلم " أعوذ بالله من بوار
الأيم " إنما أراد به النساء وأما العزاب فهم الذين لا أزواج لهم من الرجال
والنساء يقال رجل عزب وامرأة عزبة قاله ثعلب وإنما سمي عزباً لانفراده
ويحتمل أن يختص الأيامى بالنساء والعزاب بالرجال ولذلك يقال امرأة أيم بغير
هاء ولا يقال أيمة ولو كان الرجل مشاركاً لها لقيل أيم وأيمة مثل قائم
وقائمة ولأن العرف أن العزب يختص بالرجل * (مسألة) * (فأما الأرامل فهن
النساء اللاتي فارقهن أزواجهن بموت أو غيره قال أحمد في رواية حرب وقد سئل
عن رجل وصى لأرامل بني فلان فقال قد اختلف الناس فيها فقال قوم للرجال
والنساء والذي يعرف من كلام الناس أن الأرامل النساء وقال الشعبي واسحق هو
للرجال والنساء وأنشد هذي الأرامل قد قضيت حاجتها * فمن لحاجة هذا الأرمل
الذكر؟ وقال آخر أحب أن أصطاد ضباً سحبلا * رعى الربيع والشتاء أرملا ووجه
الأول أن المعروف من كلام الناس أنه للنساء فلا يحمل اللفظ إلا عليه ولأن
الأرامل جمع أرملة فلا يكون جمعاً للذكر لأن ما يختلف لفظ الذكر والأنثى في
واحده يختلف في جمعه وقد أنكر ابن الأنباري على قائل القول الأول وخطأه فيه
والشعر الذي احتج به حجة عليه فإنه لو كان لفظ
(6/233)
الأرامل يشمل الذكر والأنثى لقال حاجتهم إذ
لا خلاف بين أهل اللسان في أن اللفظ متى كان للذكر والأنثى ثم رد عليه ضمير
غلب فيه لفظ التذكير وضميره فلما رد الضمير على الإناث علم أنه موضع لهن
على الانفراد وسمى نفسه أرملاً تجوزاً وتشبيهاً بهن ولذلك وصف نفسه بأنه
ذكر وكذلك الشعر الآخر ويدل على إرادة المجاز أن اللفظ عند إطلاقه لا يفهم
منه إلا النساء ولا يسمى به في العرف غيرهن وهذا دليل على أنه لم يوضع
لغيرهن، ثم لو ثبت أنه في الحقيقة للنساء والرجال لكن أهل العرف قد خصوا به
النساء وتركت الحقيقة حتى صارت مهجورة لا تفهم من لفظ المتكلم ولا يتعلق
بها حكم كسائر الألفاظ العرفية (فصل) وإن وقف على أخواته فهو للإناث خاصة
وإن وقف على إخوته دخل فيه الذكر والأنثى جميعاً لأن الله تعالى قال (وإن
كانوا إخوة رجالا ونساء) وقال (فإن كان له إخوة فلأمه السدس) وأجمع العلماء
على حجبها بالذكر والأنثى وإن قال لعمومته فالظاهر أنه مثل الإخوة لا يشمل
الذكر
والأنثى لأنهم إخوة أبيه وإن قال لبني إخوته أو لبني عمه فهو للذكور دون
الإناث اذا لم يكونوا قبيلة والفرق بينهما أن الإخوة والعمومة ليس لهما لفظ
موضوع يشمل الذكر والأنثى سوى هذا اللفظ وبنو الإخوة والعم لهم لفظ يشمل
الجميع وهو لفظ الأولاد فإذا عدل عن اللفظ العام إلى لفظ البنين دل على
إرادة الذكور ولأن لفظ العمومة أشبه بلفظ الإخوة ولفظ بني الإخوة والعم
يشبه بني فلان وقد دللنا عليهما والحكم في تناول اللفظ للبعيد من العمومة
وبني العم والإخوة حكم ما ذكرنا في ولد الولد مع القرينة وعدمها في المسائل
المتقدمة
(6/234)
* (مسألة) * (وإن وقف على أهل قريته أو
قرابته لم يدخل فيهم من يخالف دينه وفيه وجه آخر أن المسلم يدخل فيه وإن
كان الواقف كافراً) وجملة ذلك أن الإنسان إذا وقف على أهل قريته أو قرابته
أو أتى بلفظ عام يدحل فيه المسلمون والكفار والواقف مسلم فهو للمسلمين خاصة
ولا شي للكفار وقال الشافعي يدخل فيه الكفار، لأن اللفظ يتناولهم بعمومه
ولنا أن الله تعالى قال (يوصيكم الله في أولادكم) فلم يدخل فيه الكفار إذا
كان الميت مسلماً وإذا لم يدخلوا في لفظ القرآن مع عمومه لم يدخلوا في لفظ
الواقف ولأن ظاهر حاله لا يريد الكفار لما بينه وبينهم من عداوة الدين وعدم
الوصلة المانع من الميراث ووجوب النفقة ولذلك خرجوا من عموم اللفظ في
الأولاد والإخوة والأزواج وسائر الألفاظ العامة في الميراث فكذا ههنا، فإن
صرح بهم دخلوا لأن إخراجهم بترك به صريح انقال وهو أقوى من قرينة الحال،
وإن وقف عليهم وأهل القرية كلهم كفار أو وقف على قرابته وكلهم كفار دخلوا
لأنه لا يمكن تخصيصهم إذ في إخراجهم رفع اللفظ بالكلية، فإن كان فيها مسلم
واحد والباقي كفار دخلوا أيضاً لأن إخراجهم ههنا بالتخصيص بعيد وفيه مخالفة
الظاهر من وجهين (أحدهما) مخالفة لفظ العموم (والثاني) حمل اللفظ الدال على
الجمع على المفرد، وإن كان الأكثر كفارا فهو للمسين في ظاهر كلام الخرقي
لأنه أمكن حمل اللفظ عليهم وصرفه إليهم والتخصيص يصح وإن كان بإخراج الأكثر
ويحتمل أن يدخل الكفار في الوصية لأن التخصيص في مثل هذا بعيد فإن تخصيص
الصورة النادرة قريب وتخصيص الأكثر بعيد يحتاج إلى دليل قوي
(6/235)
والحكم في سائر ألفاظ العموم كالإخوة
والأعمام وبني عمه واليتامى والمساكين كالحكم في أهل قريته فأما إن كان
الواقف كافراً فإنه يتناول أهل دينه لأن لفظه يتناولهم والقرينة تدل على
إرادتهم فأشبه وقف المسلم يتناول أهل دينه، وهل يدخل فيه المسلمون؟ ينظر
فإن وجدت قرينة دالة على دخولهم مثل أن لا يكون في القرية إلا مسلمون دخلوا
وكذلك إن لم يكن فيها إلا كافر واحد وباقي أهلها مسلمون وإن انتفت القرائن
ففي دخولهم وجهان (أحدهما) لا يدخلون كما لو لم يدخل الكفار في وقف المسلم
(والثاني) يدخلون لأن عموم اللفظ يتناولهم وهم أحق بوصيته من غيرهم فلا
يصرف اللفظ عن مقتضاه ومن هو أحق بحكمه إلى غيره، فان كان في القرية كافر
من غير أهل دين الواقف لم يدخل لأن قرينة، الحال تخرجه ولم يوجد فيه ما وجد
في المسلم من الأولى فبقي خارجاً بحاله ويحتمل أن لا يخرج بناء على توريث.
الكفار بعضهم من بعض مع اختلاف دينهم * (مسألة) * (وإن وقف على مواليه وله
موال من فوق وموال من أسفل تناول جميعهم، وقال ابن حامد يختص الموالي من
فوق) إذا وقف على مواليه وله موال من فوق حسب وهم معتقوه اختص الوقف بهم
لأن الاسم يتناولهم وقد تعينوا بوجودهم دون غيرهم، وإن لم يكن له الاموال
من أسفل فهو لهم لذلك وإن
(6/236)
اجتمعوا فهو لهم جميعا يستوون فيه لأن
الاسم يشملهم جميعاً، وقال أصحاب الرأي الوصية باطلة لأنها لغير معين وقال
أبو ثور يقرع بينهما لأن أحدهما ليس بأولى من الآخر وقال ابن القاسم هو
للموالي من أسفل، ولأصحاب الشافعي أربعة أوجه كقولنا وكقول أصحاب الرأي
(والثالث) هو للموالي من فوق لأنهم أقوى لكونهم عصبته ويرثونه بخلاف عتقائه
وهو قول ابن حامد (والرابع) يقف الأمر حتى يصطلحوا ولنا أن الاسم يتناول
الجميع فدخلوا فيه كما لو وقف على إخوته وقولهم أنها لغير معين غير صحيح
فإن التعميم يحصل مع التعين ولذلك لو حلف لا كلمت مولاي حنث بكلام أيهم كان
وقولهم أن المولى من فوق أقوى قلنا مع شمول الاسم لهم يدخل فيه الأقوى
والأضعف كإخوته ولا يدخل فيه ولد العم
ولا المساكين ولا الحليف ولا غير من ذكرنا لأن الاسم إن تناولهم حقيقة لم
يتناولهم عرفاً والأسماء العرفية تقدم على الحقيقة ولا يستحق مولى الله مع
وجود مواليه وقال زفر يستحق ولنا أن مولى الله ليس بمولى له حقيقة إذا كان
له مولى سواه فإن لم يكن له مولى فقال الشريف أبو جعفر إذا وصى لمواليه
وليس له مولى فهو لمولى الله وقال أبو يوسف ومحمد لا شئ له لأنه ليس بمولى،
واحتج الشريف بأن الاسم يتناولهم مجازاً فإذا تعذرت الحقيقة وجب صرف الاسم
إلى المجاز والعمل به تصحيحاً لكلام المكلف عند إمكان تصحيحه ولأن الظاهر
إرادته المجاز لكونه محملاً صحيحاً وإرادة الصحيح أغلب من إرادة الفاسد فإن
كان له موالي أب حين الوقف ثم انقرض مواليه
(6/237)
لم يكن الموالى الأب على مقتضى ما ذكرناه
لأن الاسم يتناول غيرهم فلا يعود إليهم إلا بعقد ولم يوجد ولا يشبه هذا
قوله أوصيت لأقرب الناس إلي وله ابن وابن ابن فمات الابن حيث يستحق ابن
الابن وإن كان لا يستحق في حياة الابن شيئاً لأن الوصية ههنا الموصوف وجدت
الصفة في ابن الابن كوجودها في الابن حقيقة، وفي المولى يقع الإسم على مولى
نفسه حقيقة وعلى مولى الله مجازاً فمع وجودهما جميعاً لا يحمل اللفظ إلا
على الحقيقة وهذه الصفة لا توجد في مولى الله * (مسألة) * (وإن وقف على
جماعة يمكن حصرهم واستيعابهم وجب تعميمهم والتسوية بينهم) لأن اللفظ يقتضي
ذلك، وقد أمكن الوفاء به فوجب العمل بمقضاه كقوله سبحانه (فهم شركاء في
الثلث) فإنه يجب تعميم الإخوة من الأم والتسوية بينهم، ولأن اللفظ يقتضي
التسوية أشبه ما لو أقر لهم * (مسألة) * (فإن لم يمكن حصرهم كالمساكين
والقبيلة الكثيرة كبني هاشم وبني تميم صح الوقف عليهم) وكذلك يصح الوقف على
المسلمين كلهم وعلى أهل إقليم ومدينة كالشام ودمشق، ويجوز للرجل أن يقف على
عشريته وأهل مدينته، وقال الشافعي في أحد قوليه لا يصح الوقف على من لا
يمكن استيعابهم وحصرهم في غير المساكين ونحوهم لأنه تصرف في حق الآدمي فلم
يصح مع الجهالة كما لو قال وقفت على قوم ولنا أن من صح الوقف عليهم إذا
كانوا محصورين صح، وإن لم يحصوا كالفقراء وقياسهم
يبطل بالوقف على المساكين
(6/238)
(فصل) ولا يجب تعميمهم إجماعاً لأنه غير
ممكن ويجوز تفضيل بعضهم على بعض لأن من جاز حرمانه جاز تفضيل غيره عليه
ويجوز الاقتصار على واحد منهم ويحتمل أن لا يجرئه أقل من ثلاثة وهو مذهب
الشافعي ووجه القول قد ذكر في الزكاة والأول ظاهر المذهب (فصل) فإن كان
الوقف في ابتدائه على من يمكن استيعابه فصار مما لا يمكن استيعابه كرجل وقف
على ولده وولد ولده وعقبه ونسله فصاروا قبيلة كثيرة تخرج عن الحصر مثل وقف
علي رضي الله عنه على ولده ونسله فإنه يجب تعمم من أمكن منهم والتسوية
بينهم لأن التعميم كان واجباً وكذلك التسوية فإذا تعذر وجب منه ما أمكن
كالواجب الذي يعجز عن بعضه، ولأن الواقف ههنا أراد التعميم والتسوية
لإمكانه وصلاح لفظه لذلك فيجب العمل بما أمكن بخلاف ما إذا كانوا حال الوقف
ممن لا يمكن ذلك فيهم * (مسألة) * (ولا يعطى كل واحد أكثر من القدر الذي
يعطى من الزكاة يعني إذا كان الوقف على صنف من أصناف الزكاة) وجملة ذلك أن
من وقف على سبيل الله أو ابن السبيل أو الرقاب أو الغارمين - فهم الذين
يستحقون السهم من الصدقات - لا يدخل معهم غيرهم لأن المطلق من كلام
الآدميين يحمل على المعهود
(6/239)
في الشرع فينظر من كان يستحق السهم من
الصدقات فالوقف مصروف إليه وقد مضى شرح ذلك في الزكاة فإن وقف على الأصناف
الثمانية الذين يأخذون الصدقات صرف إليهم ويعطي كل واحد منهم من الوقف مثل
القدر الذي يعطى من الزكاة لا يزاد عليه وقد ذكرنا ذلك، وقد اختلف في العقد
الذي يحصل به الغنى فقال أحمد في رواية علي بن سعيد في الرجل يعطى من الوقف
خمسين درهماً فقال إن كان الواقف ذكر في كتابه المساكين فهو مثل الزكاة وإن
كان متطوعاً أعطى من شاء وكيف شاء فقد نص على إلحاقه بالزكاة فيكون الخلاف
فيه كالخلاف في الزكاة، واختار أبو الخطاب وابن عقيل زيادة
المسكين على خمسين درهماً لأن لفظ أحمد لا تقييد فيه.
قال أبو الخطاب وفي المسألة وجهان وجههما ما سبق (فصل) فإن وقف على الأصناف
كلها أو على صنفين أو أكثر فهل يجوز الاقتصار على صنف واحد أو يجب إعطاء
بعض كل صنف؟ فيه وجهان بناء على الزكاة * (مسألة) * (والوصية كالوقف في هذا
التفصيل لأن مبناها على لفظ الموصي أشبهت الوقف) (فصل) والوقف عقد لازم لا
يجوز فسخه بإقالة ولا غيرها ويلزم بمجرد القول لأنه تبرع يمنع البيع والهبة
والميراث فلزم بمجرده كالعتق وعنه لا يلزم الا بالقبض وإخراج الوقف عن يده
اختاره ابن أبي موسى كالهبة والصحيح الأول وقد ذكرناه، وذهب أبو حنيفة إلى
أن الوقف لا يلزم بمجرده وللواقف الرجوع فيه الا إن يوصي به بعد موته فيلزم
أو يحكم بلزومه حاكم وحكاه بعضهم عن علي
(6/240)
وابن مسعود وابن عباس وخالف أبا حنيفة
صاحباه فقالا كقول سائر أهل العلم واحتج بعضهم بما روي أن عبد الله بن زيد
صاحب الأذان جعل حائطه صدقة وجعله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء
أبواه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالا يا رسول الله لم يكن لنا عيش
إلا هذا الحائط فرده رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ماتا فورثهما رواه
المحاملي في أماليه ولأنه إخراج ماله على وجه القربة من ملكه فلا يلزم
بمجرد القول كالصدقة، قلنا هذا القول يخالف السنة الثابتة عن رسول الله صلى
الله عليه وسلم وإجماع الصحابة رضي الله عنهم فإن النبي صلى الله عليه وسلم
قال لعمر في وقفه " لا يباع أصلها ولا يبتاع ولا يوهب ولا يورث " قال
الترمذي العمل على هذا الحديث عند أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه
وسلم وغيرهم، لا نعلم بين المتقدمين منهم في ذلك اختلافاً، قال الحميدي
تصدق أبو بكر بداره على ولده وعمر بزيعه عند المروة على ولده وعثمان برومة
وتصدق علي بأرضه بينبع وتصدق الزبير بداره بمكة وداره بمصر وأمواله
بالمدينة على ولده وتصدق سعد بداره بالمدينة وداره بمصر على ولده، وعمرو بن
العاص بالوهط وداره بمكة على ولده وحكيم ابن حزام بدره بمكة والمدينة على
ولده فذلك كله إلى اليوم، وقال جابر لم يكن أحد من أصحاب النبي صلى الله
عليه وسلم له مقدرة إلا وقف وهذا إجماع منهم فإن الذي قدر على الوقف منهم
وقف واشتهر ذلك فلم ينكره أحد فكان ذلك إجماعاً ولأنه إزالة ملك يلزم
بالوصية فإذا نجزه في حال الحياة لزم من غير
حكم كالعتق، وحديث عبد الله بن زيد إن ثبت فليس فيه ذكر الوقف، والظاهر أنه
جعله صدقة غير
(6/241)
موقوف استناب فيها رسول الله صلى الله عليه
وسلم فرأى والديه أحق الناس بصرفها إليهما ولهذا لم يردها إليه إنما دفعها
إليهما ويحتمل أن الحائط كان لهما وكان هو يتصرف فيه بحكم النيابة عنهما
فتصرف بهذا التصرف بغير اذنها فلم ينفذاه وأتيا النبي صلى الله عليه وسلم
فرده إليهما والقياس على الصدقة لا يصح لأنها تلزم في الحياة بغير حكم حاكم
وإنما يفتقر الى القبض والوقف لا يفتقر إليه فافترقا * (مسألة) * (ولا يجوز
بيعه إلا أن تتعطل منافعه فيباع ويصرف ثمنه في مثله وكذلك الفرس الحبيس إذا
لم يصلح للغزو بيع واشتري بثمنه ما يصلح للجهاد وكذلك المسجد إذا لم ينتفع
به في موضعه وعنه لا تباع المساجد لكن تنقل آلتها إلى مسجد آخر) وجملة ذلك
أنه لا يجوز بيع الوقف ولا هبته لقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث عمر
" غير أنه لا يباع أصلها ولا يبتاع ولا يوهب ولا يورث " فإن تعطلت منافعه
بالكلية كدار انهدمت أو أرض خربت وعادت مواتاً لا يمكن عمارتها أو مسجد
انتقل أهل القرية عنه وصار في موضع لا يصلى فيه أو ضاق بأهله ولم يمكن
توسيعه في موضعه فإن أمكن بيع بعضه ليعمر به بقيته جاز بيع البعض وإن لم
يمكن الانتفاع بشئ منه بيع جميعه قال أحمد في رواية أبي داود إذا كان في
المسجد خشبتان لهما قيمة جاز بيعهما وصرف ثمنهما عليه وقال في رواية صالح
يحول المسجد خوفاً من اللصوص وإذا كان موضعه قذراً قال القاضي يعني إذا كان
ذلك يمنع الصلاة فيه ونص على جواز بيع عرصته في رواية عبد الله وتكون
الشهادة في ذلك على الإمام.
قال أبو بكر وقد روي علي بن سعيد أن المساجد لا تباع وإنما تنقل آلتها قال
وبالقول الأول أقول لإجماعهم على بيع الفرس الحبيس يعني الموقوفة على الغزو
إذا كبرت فلم تصلح للغزو وأمكن الانتفاع بها في شئ آخر مثل أن تدور في
الرحا أو يحمل عليها تراب أو تكون الرغبة في نتاجها أو حصاناً يتخذ للطراق
فإنه يجوز بيعها ويشترى بثمنها ما يصلح للغزو نص عليه أحمد وقال محمد بن
الحسن إذا خرب المسجد
(6/242)
والوقف عاد إلى ملك واقفه لأن الوقف إنما
هو تسبيل المنفعة فإذا زالت منفعته زال حق الموقوف
عليه منه فزال ملكه عنه وقال مالك والشافعي لا يجوز بيع شئ من ذلك لقول
رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا يباع أصلها ولا يبتاع ولا يوهب ولا يورث
" ولأن ما لا يجوز بيعه مع بقاء منافعه لا يجوز مع تعطلها كالمعتق والمسجد
أشبه الأشياء بالمعتق ولنا ما روى أن عمر رضي الله عنه كتب إلى سعد لما
بلغه أنه قد نقب بيت المال الذي بالكوفة أن انقل المسجد الذي بالتمارين
واجعل بيت المال في قبلة المسجد فإنه لن يزال في المسجد مصل وكان هذا بمشهد
من الصحابة ولم يظهر خلافه فكان أجماعاً ولأن فيما ذكرناه استبقاء للوقف
بمعناه عند تعذر إبقائه بصورته فوجب ذلك كما لو استولد الجارية الموقوفة أو
قبلها أو قبلها غيره قال ابن عقيل الوقف مؤبد فإذا لم يمكن تأبيده على وجه
تخصيصه استبقينا الغرض وهو الانتفاع على الدوام في عين أخرى وإيصال الأبدال
جرى مجرى الأعيان وجمودنا على العين مع تعطلها تضييع للغرض ويقرب هذا من
الهدي إذا عطب فإنه يذبح في الحال وإن كان يختص بالموضع، فلما تعذر تحصيل
الغرض بالكلية استوفي منه ما أمكن وترك مراعاة المحل الخاص عند تعذره لأن
مراعاته مع تعذره تفضي إلى فوات الانتفاع به بالكلية وهكذا الوقف المعطل
المنافع.
ولنا على محمد بن الحسن أنه إزالة ملك على وجه القربة فلا يعود إلى مالكه
باخنلاله وذهاب منافعه كالعتق * (مسألة) * (ويجوز بيع بعض آلته وصرفها في
عمارته) كما يجوز بيع الفرس الحبيس عند تعذر الانتفاع به وصرف ثمنه فيما
يقوم مقامه ولأنه إذا جاز بيع الجميع عند الحاجة إلى بيعه فبيع بعضه مع
بقاء البعض أولى.
(فصل) واذا بيع الوقف فأي شئ اشترى بثمنه مما يرد على أهل الوقف جاز، وإن
كان من غير جنسه في ظاهر كلام الخرقي لكن تكون المنفعة مصروفة إلى المصلحة
التي كانت الأولى تصرف
(6/243)
فيها لأنه لا يجوز تغيير المصرف مع إمكان
المحافظة عليه كما لا يجوز تغيير الوقف بالبيع مع إمكان الانتفاع به (فصل)
فإن لم يكف ثمن الفرس الحبيس لشراء فرس أخرى أعين به في شراء حبيس يكون بعض
الثمن نص عليه أحمد لأن المقصود استيفاء منفعة الوقف الممكن استيفاؤها
وصيانتها عن الضياع
ولا سبيل إلى ذلك إلا بهذه الطريق (فصل) فإن لم تتعطل منفعة الوقف بالكلية
لكن قلت وكان غيره أنفع منه وأكثر رداً على أهل الوقف لم يجز بيعه لأن
الأصل تحريم البيع وإنما أبيح للضرورة صيانة لمقصود الوقف عن الضياع مع
إمكان تحصيله ومع الانتفاع ما يضيع المقصود وإن قل اللهم إلا أن يبلغ في
قلة النفع إلى حد لا يعد نفعاً فيكون وجوده كالعدم (فصل) قال أحمد في رواية
أبي داود في مسجد أراد أهله رفعه من الأرض ويجعل تحته سقاية وحوانيت فامتنع
بعضهم من ذلك ينظر إلى قول أكثرهم واختلف أصحابنا في تأويل كلام أحمد فذهب
ابن حامد إلى أن هذا مسجد أراد أهله انشاءه ابتداءا واختلفوا كيف يعمل،
وسماه مسجداً قبل بنائه تجوزا لأن مآله إليه، أما بعد بنائه لا يجوز جعله
سقاية ولا حوانيت وذهب القاضي إلى ظاهر اللفظ وهو أنه كان مسجداً فأراد
أهله رفعه وجعل ما تحته سقاية لحاجتهم إلى ذلك والأول أصح وأولى، وإن خالف
الظاهر فإن المسجد لا يجوز نقله وإبداله وبيع ساحته وجعلها سقاية وحوانيت
إلا عند تعذر الانتفاع به والحاجة إلى سقاية وحوانيت لا تعطل نفع المسجد
فلا يجوز صرفه في ذلك ولو جاز جعل أسفل المسجد سقاية وحوانيت لهذه الحاجة
لجاز تخريب المسجد وجعله سقاية وحوانيت ويجعل بدله مسجداً في موضع آخر،
وقال أحمد في رواية بكر بن محمد عن أبيه في مسجد ليس بحصين من الكلاب وله
منارة فرخص في نقضها وبناء حائط المسجد بها للمصلحة * (مسألة) * (وما فضل
من حصره وزيته عن حاجته جاز صرفه إلى مسجد آخر والصدقة به على فقراء
المسلمين) وكذلك إن فضل من قصبه أو شئ من نقضه، قال أحمد في مسجد يبنى
فيبقى من خشبه أو قصبه أو شئ من نقضه قال يعان به في مسجد آخر أو كما قال،
وقال المروذي: سألت أبا عبد الله عن بواري المسجد إذا فضل منه الشئ أو
الخشبة قال يتصدق به، وأرى أنه قد احتج بكسوة البيت إذا تخرقت
(6/244)
تصدق بها، وقال في موضع آخر قد كان شيبة
يتصدق بخلقان الكعبة.
وروى الخلال بإسناده عن علقمة عن أمه أن شيبة بن عثمان الحجبي جاء إلى
عائشة رضي الله عنها فقال يا أم المؤمنين إن ثياب الكعبة تكثر عليها
فننزعها فنحفر لها آباراً فندفنها فيها حتى لا تلبسها الحائض والجنب قالت
عائشة بئس ما ضعت ولم تصب إن ثياب الكعبة إذا نزعت لم يضرها من لبسها من
حائض أو جنب ولكن لو بعتها وجعلت ثمنها في سبيل الله والمساكين.
فقال فكان شيبة يبعث بها إلى اليمن فتباع فيضع ثمنها حيث أمرته عائشة، وهذه
قضية مثلها ينتشر ولم تنكر فتكون إجماعاً ولأنه مال الله تعالى لم يبق له
مصرف فصرف إلى المساكين كالوقف المنقطع * (مسألة) * (ولا يجوز غرس شجرة في
المسجد) نص عليه أحمد فقال إن كانت غرست النخلة بعد أن صار مسجداً فهذه
غرست بغير حق فلا أحب الأكل منها، ولو قلعها الإمام لجاز، وذلك لأن المسجد
لم يبن لهذا إنما بني لذكر الله والصلاة وقواءة القرآن ولأن الشجرة تؤذي
المسجد وتمنع المصلين من الصلاة في موضعها ويسقط ورقها في المسجد وثمرها
ويسقط عليها الطير وتبول في المسجد وربما اجتمع الصبيان في المسجد من أجلها
ورموها بالحجارة ليسقط ثمرها * (مسألة) * (فإن كانت مغروسة جاز الأكل منها)
يعني إذا كانت الشجرة في أرض فجعلها صاحبها مسجداً والشجرة فيها فلا بأس،
قال أحمد في موضع لا بأس يعني أن يبيعها من الجيران، وقال في رواية أبي
طالب في النفقة لا تباع وتجعل للمسلمين وأهل الدرب يأكلونها وذلك والله
أعلم، لأن صاحب الأرض لما جعلها مسجداً والشجرة فيها فقد وقف الأرض والشجرة
معاً ولم يعين مصرفها فصارت كالوقف المطلق الذي لم يعين له مصرف.
وقد ذكرنا أنه للمساكين في بعض الروايات.
فأما إن قال صاحبها هذه وقف على المسجد فينبغي أن تباع ثمرتها وتصرف إليه
كما لو وقفها على المسجد وهي في غيره.
وقال أبو الخطاب عندي أن السجد إذا احتاج إلى ثمن ثمرة الشجرة بيعت وصرفت
في عمارته، وقال أحمد يأكلها الجيران محمول على أنهم يعمرونه فان استعنى
المسجد عنها فلا بأس بالأكل منها والله سبحانه وتعالى أعلم
(6/245)
باب الهبة والعطية وهي تمليك في الحياة
بغير عوض، الهبة والعطية والهبة والصدقا معانيهما متقاربة وهي تمليك في
الحياة بغير عوض، واسم الهبة والعطية شامل لجميعها، فأما الصدقة والهدية
فهما متتغايران وإن دخلا في مسمى الهبة والعطية فإن النبي صلى الله عليه
وسلم كان يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة، وقال في اللحم الذي تصدق به على
بربرة " هو عليها صدقة ولنا هدية " فالظاهر أن من أعطى شيئاً ينوي به
التقرب إلى الله تعالى للمحتاج فهو صدقة، ومن دفع إلى إنسان شيئاً للتقرب
إليه والمحبة له فهو هدية وجميع ذلك مندوب إليه فإن النبي صلى الله عليه
وسلم قال " تهادوا تحابوا " وأما الصدقة فما ورد في فضلها كثير، وقد قال
الله تعالى (أن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتؤها الفقراء فهو خير
لكم ويكفر عنكم من سيأتكم * (مسألة) * (فإن شرط فيها عوضاً معلوماً صارت
بيعاً وعنه يغلب فيها حكم الهبة) وجملة ذلك أن الهبة المطلقة لا تقتضي
ثواباً سواء كانت لمثله أو دونه أو أعلى منه وبه قال أبو حنيفة وقال
الشافعي كقولنا فيما إذا كانت لمثله أو دونه وإن كانت لأعلى منه اقتضت
الثواب في أحد القولين وهو قول مالك لقول عمر رضي الله عنه من وهب هبة أراد
بها الثواب فهو على هبته يرجع فيها إذا لم يرض منها
(6/246)
ولنا أنها عطية على وجه التيرع فلم تقتض
ثواباً كهة المنل والوصية، وقول عمر قد خالفه ابنه وابن عباس فلا يبقى حجة
فإن عوضه عن الهبة كانت هبة مبتدأة لا عوضاً أيهما أصاب عيباً لم يكن له
الرد وإن خرجت مستحقة أخذها صاحبها ولم يرجع الموهوب له ببدلها، فإن شرط في
الهبة ثواباً معلوماً صح نص عليه، لأنه تمليك بعوض معلوم فهو كالهبة وحكمها
حكم البيع في ثبوت الخيار والشفعة وبه قال أصحاب الرأي ولأصحاب الشافعي قول
أنها لا تصح لأنه شرط في الهبة ما ينافي مقتضاها.
ولنا أنه تمليك بعوض فصح كما لو قال ملكتك هذا بدرهم فإنه لو أطلق التمليك
كان هبة فإذا ذكر العوض صار بيعاً وفيه رواية أخرى ذكرها أبو الخطاب أنه
يغلب عليها حكم الهبة فلا تثبت فيها أحكام البيع المختصة به * (مسألة) *
(وإن شرط ثواباً مجهولاً لم تصح الهبة)
وحكمها حكم البيع اللفاسد لأنه عوض مجهول في معاوضة فلم يصح كالبيع ويردها
الموهوب له بزيادتها المتصلة والمنفصلة لأنه نماء ملك الواهب، وإن كانت
تالفة رد قيمتها وهذا قول الشافعي وأبي ثور وعنه أنه قال يرضيه بشي وظاهر
كلام أحمد أنها تصح فإذا أعطاه عنها عوضاً رضيه لزم العقد بذلك، قال أحمد
في رواية محمد ابن الحكم إذا قال الواهب هذا لك على أن تثيبني فله أن يرجع
إذا لم يثيه لأنه شرط، وقال في رواية اسماعيل بن سعيد إذا وهب له على وجه
الإثابة فلا يجوز إلا أن يثيبه منها فعلى هذا عليه أن
(6/247)
يعطيه حتى يرضيه، فان لم يفعل فللواهب
الرجوع فيها أو عوضها إن كانت تالفة لأنه عقد معاوضة فاسد فلزم ضمان العين
إذا تلفت كالبيع الفاسد ويحتمل أن يعطيه قدر قيمتها والأول أصح لأن هذا بيع
فيعتبر له التراضي إلا أنه بيع بالمعاطاة فإذا عوضه عوضاً رضيه حصل البيع
بما حصل من المعاطاة مع التراضي بها وإن لم يحصل التراضي لم يصح لعدم العقد
فإنه لم يوجد الإيجاب والقبول ولا المعاطاة ولا التراضي والأصل في هذا قول
عمر رضي الله عنه: من أوهب هبة أراد بها الثواب فهو على هبته يرجع فيها ما
لم يرض منها، وروي معنى ذلك عن علي وفضالة بن عبيد ومالك بن أنس وهو قول
الشافعي على القول الذي يرى أن الهبة المطلقة تقتضي ثواباً، وقد روى أبو
هريرة أن أعرابياً وهب النبي صلى الله عليه وسلم ناقة فأعطاء ثلاثاً فأبى
فزاده ثلاثاً فلما كملت تسعاً قال رضيت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم "
لقد هممت أن لا أتهب إلا من قرشي أو أنصاري أو ثقفي أو دوسي " من المسند،
فإن تغيرت العين الموهوبة بزيادة أو نقصان أو لم يثبه منها فقال أحمد لا
أرى عليه نقصان ما نقصه عنده إذا رده إلى صاحبه إلا أن يكون ثوباً لبسه أو
جارية استخدمها، فأما غير ذلك إذا نقص فلا شئ عليه فكان عندي مثل الرهن
الزيادة والنقصان لصاحبه * (مسألة) * (وتحصل الهبة بما يتعارفه الناس هبة
من الإيجاب والقبول والمعاطاة المقترنة بما يدل عليها) فالإيجاب أن يقول
وهبتك أو أهديت إليك أو ملكتك أو هذا لك ونحوه من الألفاظ
(6/248)
الدالة على هذا المعنى، والقبول أن يقول
قبلت أو رضيت أو نحو هذا، وتصح بالمعاطاة المقترنة بما يدل عليهما
وإن لم يحصل إيجاب أو قبول، ذكر القاضي وابو الخطاب إن الهبة والعطية لابد
فيها من الإيجاب والقبول، ولا تصح بدونه سواء وجد القبض أو لم يوجد وهو قول
أكثر أصحاب الشافعي لأنه عقد تمليك فافتقر إلى الإيجاب والقبول كالنكاح،
والصحيح أن المعاطاة والأفعال الدالة على الإيجاب والقبول كافية ولا يحتاج
إلى لفظ اختاره ابن عقيل فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يهدي ويهدى إليه
ويعطي ويعطى ويفرق الصدقات ويأمر سعاته بأخذها وتفريقها وكان أصحابه يفعلون
ذلك ولم ينقل عنهم في ذلك إيجاب ولا قبول ولا أمر به ولا تعليمه لأحد ولو
كان ذلك شرطاً لنقل عنهم نقلاً مشتهراً، وقد كان ابن عمر على بعير لعمر
فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعمر " بعنيه " فقال هو لك يا رسول الله،
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " هو لك يا عبد الله بن عمر فاصنع به ما
شئت " ولم ينقل قبول النبي صلى الله عليه وسلم من عمر ولا قبول ابن عمر من
النبي صلى الله عليه وسلم ولو كان شرطاً لفعله النبي وعلمه ابن عمر ولم يكن
ليأمره أن يصنع به ما شاء قبل أن يقبله، وروى أبو هريرة أن النبي صلى الله
عليه وسلم كان إذا أتي بطعام سأل عنه فإن قالوا صدقة قال لأصحابه " كلوا "
ولم يأكل وإن قالوا هدية ضرب بيده فأكل معهم، ولا خلاف بين العلماء فيما
علمنا في أن تقديم الطعام بين يدي الضيفان والإذن في أكله ان ذلك لا يحتاج
إلى إيجاب ولا قبول ولأنه وجد ما يدل على التراضي بنقل الملك فاكتفى به كما
لو وجد الإيجاب والقبول، قال ابن عقيل إنما يشترط الإيجاب مع الإطلاق وعدم
العرف القائم من المعطي والمعطى لأنه إذا لم يكن عرف يدل
(6/249)
على الرضي فلابد من قول دال عليه، أما مع
قرائن الاحوال والدلال فلا وجه لتوقفه على اللفظ، ألا ترى أنا اكتفينا
بالمعاطاة في البيع واكتفينا بدلالة الحال في دخول الحمام وهو إجارة وبيع
أعيان فإذا اكتفينا في المعاوضات مع تأكدها بدلالة الحال فإنها تنقل الملك
من الجانبين فلأن نكتفي بها في الهبة أولى.
وأما النكاح فإنه يشترط فيه ما لا يشترط في غيره من الإشهاد ولا يقع إلا
قليلاً فلا يشق اشتراط الإيجاب والقبول فيه بخلاف الهبة والله سبحانه
وتعالى أعلم * (مسألة) * (وتلزم بالقبض وعنه تلزم في غير المكيل والموزون
بمجرد الهبة) أما الميكل والموزون الذي لا يتميز إلا بالكيل والوزن فلا
تلزم الهبة فيه إلا بالقبض وعلى قياس ذلك المعدود والمذروع،
وهو قول أكثر الفقهاء منهم النخعي والثوري والحسن بن صالح وأبو حنيفة
والشافعي وقال مالك وأبو ثور تلزم بمجرد العقد لعموم قوله عليه السلام "
العائد في هبته كالعائد في قيئه " ولأنه إزالة ملك بغير عوض فلزم بمجرد
العقد كالوقف والعتق ولأنه تبرع فلا يعتبر فيه القبض كالوصية والوقف ولنا
إجماع الصحابة رضي الله عنهم فإنه مروي عن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ولم
نعرف لهما في الصحابة مخالفاً، وقد روى عروة عن عائشة رضي الله عنها أن أبا
بكر رضي الله عنه نحلها جذاذ عشرين وسقاً من ماله بالعالية فلما مرض قال:
يا بنية ما أحد أحب غنىً منك بعدي ولا أحد أعز علي فقراً منك وكنت نحلتك
جذاذ عشرين وسقا ووددت أنك حزتيه أو قبضتيه، وهو اليوم مال الوارث أخواك
وأختاك فاقتسموا على كتاب الله عزوجل، رواه مالك في موطئه.
وروى ابن عيينة عن
(6/250)
الزهري عن عروة عن عبد الرحمن بن عبد
القاري أن عمر بن الخطاب قال: ما بال قوم ينحلون أولادهم فإذا مات أحدهم
قال مالي وفي يدي فإذا مات هو قال قد كنت نحلت ولدي، لانحلة لانحلة يحوزها
الولد دون الوالد، فإن مات ورثه قال المروذي اتفق أبو بكر وعمر وعثمان وعلي
على أن الهبة لا تجوز إلا مقبوضة ولأنها هبة غير مقبوضة فلم تلزم كما لو
مات الواهب قبل أن يقبض فإن مالكاً يقول لا يلزم الورثة التسليم والخبر
محمول على المقبوض ولا يصح القياس على الوقف والوصية والعتق لأن الوقف
إخراج ملك إلى الله تعالى فخالف التمليكات والوصية تلزم في حق الوارث
والعتق إسقاط حق وليس بتمليك ولان الوقف والعنق لا يكون في محل النزاع لأن
النزاع في المكيل والموزون (فصل) وفي غير المكيل والموزون روايتان
(إحداهما) ان حكمه حكم المكيل والموزون في أنه لا يلزم إلا بالقبض وهو قول
أكثر أهل العلم، قال المروذي: اتفق أبو بكر وعمر وعثمان وعلي على أن الهبة
لا تجوز إلا مقبوضة روى ذلك عن النخعي والثوري والعنبري والحسن بن صالح
والشافعي وأصحاب الرأي لما ذكرنا في المكيل والموزون (والثانية) أنها تلزم
بمجرد العقد وثبت الملك في الموهوب فيه قبل قبضه فروي عن علي وابن مسعود
رضي الله عنهما أنهما قالا الهبة جائزة إذا كانت معلومة قبضت أو لم تقبض
وهو قول مالك وأبي ثور لأن الهبة أحد نوعي التمليك فكان منها ما لا يلزم
قبل القبض ومنها ما يلزم قبله كالبيع فإن منه ما لا يلزم إلا بقبض وهو
الصرف وبيع الربويات ومنه
(6/251)
ما يلزم قبله وهو ما عدا ذلك، فأما حديث
أبي بكر في هبته لعائشة فإن جذاذ عشرين وسقا يحتمل أنه أراد به عشرين وسقاً
مجذوذة فيكون مكيلاً غير معين وهذا لابد فيه من القبض، وإن أراد نخلاً بجذ
عشرين وسقاً فهو أيضاً غير معين فلا تصح الهبة فيه قبل تعيينه فيكون معناه
وعدتك بالنحلة، وقول عمر أراد به النهي عن التحيل بنحلة الوالد ولده نحلة
موقوفة على الموت فيظهر أني نحلت ولدي شيئاً ويمسكه في يده يستغله فإذا مات
أخذه ولده بحكم النحلة التي أظهرها، وإن مات ولده أمسكه ولم يعط ورثته
شيئاً وهذا على هذا الوجه محرم فنهاهم عن هذا حتى يحوزها الولد دون والده،
فإن مات ورثها ورثته كسائر ماله، وإذا كان المقصود هذا اختص بهبة الولد
وشبهه، على أنه قد روي عن علي وابن مسعود خلاف ذلك فتعارضت أقوالهم (فصل)
قوله في المكيل والموزون أن الهبة لا تلزم فيه إلا بالقبض محمول على عمومه
في كل ما يكال ويوزن وخصه أصحابنا المتأخرون بما ليس بمتعين منه كقفيز من
صبرة ورطل من دن وقد ذكرنا ذلك في البيع ورجحنا العموم * (مسألة) * (ولا
يصح القبض إلا بإذن الواهب إلا ما كان في يد المتهب فيكفي مضي زمن يتأتى
قبضه فيه وعنه لا يصح حتى يأذن في القبض
(6/252)
إذا قلنا إن الهبة لا تلزم الا بالقبض لم
يصح القبض إلا بإذن الواهب لأنه قبض غير مستحق عليه ولأنه أمر تلزم به
الهبة فلم يصح إلا بإذن الواهب كأصل العقد لأن قبضه مستدام فأغنى عنه
الابتداء كما لو باعه سلعة في يده وهو الصحيح إن شاء الله تعالى، فأما ما
كان في يد المتهب كالوديعة والمغصوب فظاهر كلام أحمد أنها تلزم من غير قبض
ولا مضي مدة يتأتى فيها القبض فإنه قال في رواية ابن منصور إذا وهب امرأته
شيئاً ولم تقبضه فليس بينه وبينها خيار هي معه في البيت فظاهر هذا أنه لم
يعتبر قبضاً ولا مضي مدة يتأتى فيها لكونها معه في البيت
فيدها على ما فيه لأن قبضه مستدام أغنى عن الابتداء كما لو باعه سلعة في
يده وهو الصحيح إن شاء الله تعالى.
قال القاضي لابد من مضي مدة يتأتى القبض فيها، وهل يفتقر إلى أذن في القبض؟
فيه روايتان (إحداهما) يفتقر كغير المقبوض (والثانية) لا يفتقر لأنه مقبوض
فلا معنى لتجديد الإذن فيه وقد ذكرنا ذلك في الرهن ومذهب الشافعي في
الاختلاف في اعتبار الإذن واعتبار مضي مدة يتأتى القبض فيها كمذهبنا (فصل)
والواهب بالخيار قبل القبض إن شاء أقبضها وإن شاء رجع فيها فإن قبضها
المتهب بغير إذن الواهب لم يصح القبض ولم تتم الهبة وحكي عن أبي حنيفة أنه
إذا قبضها في المجلس صح وإن لم يأذن له لأن الهبة قامت مقام الإذن في القبض
لكونها دالة على رضاه بالتمليك الذي لا يتم إلا بالقبض
(6/253)
ولنا أنه قبض الهبة بغير إذن الواهب فلم
يصح كما بعد المجلس وكما لو نهاه ولأن التسليم غير مستحق على الواهب فلم
يصح التسليم إلا بإذنه كما لو أخذ المشتري المبيع من البائع قبل قبض ثمنه،
ولا يصح جعل الهبة إذناً في القبض كما بعد المجلس ويحتمل أنه إذا قبضها
بحضرة الواهب أن يقوم ذلك مقام الإذن كما جعلنا أخذ المتهب لها بإذن الواهب
دليلاً على القبول فإن أذن الواهب في القبض ثم رجع عن الإذن أو رجع في
الهبة صح رجوعه لأن ذلك ليس بقبض وإن رجع بعد القبض لم يصح رجوعه لأن الهبة
تمت * (مسألة) * (فإن مات الواهب قام وارثه مقامه في الإذن والرجوع) وجملة
ذلك أنه إذا مات الواهب أو المتهب قبل القبض بطلت الهبة سواء كان قبل الإذن
في القبض أو بعده ذكره القاضي في موت الواهب لأنه عقد جائز فبطل بموت أحد
المتعاقدين كالوكالة قال أحمد في رواية أبي طالب وأبي الحارث في رجل أهدى
هدية فلم تصل إلى المهدي إليه حتى مات فإنها تعود إلى صاحبها ما لم يقبضها
وروى بإسناده عن أم كلثوم بنت أبي سلمى قالت لما تزوج رسول الله صلى الله
عليه وسلم أم سلمة قال لها " إني أهديت إلى النجاشي حلة وأواقي مسك ولا أرى
النجاشي إلا قد مات ولا أرى هديتي إلا مردودة علي فإن ردت فهي لك " فكان
كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
وردت عليه هديته فأعطى كل امرأة من نسائه أوقية مسك وأعطى أم سلمة بقية
المسك والحلة وإن
(6/254)
مات المهدي قبل أن تصل إلى المهدى إليه
رجعت إلى ورثة المهدي وليس للرسول حملها إلى المهدي إليه إلا أن يأذن
الوارث والهبة كالهدية، وقال أبو الخصاب قام وارثه مقامه في الإذن في القبض
والفسخ وهذا يدل على أن الهبة لم تنفسخ بموته وهو قول أكثر أصحاب الشافعي
لأنه عقد مآله إلى اللزوم فلم ينفسخ بالموت كالبيع في مدة الخيار وكذلك
يخرج فيما إذا مات الموهوب له بعد القبول وإن مات أحدهما قبل القبول أو ما
يقوم مقامه بطلت وجهاً واحداً لأن العقد لم يتم فهو كما لو مات المشتري بعد
الإيجاب وقبل القبول فإن قلنا أن الهبة لا تبطل فمات أحدهما بعد الإذن في
القبض بطل الإذن لأن الميت إن كان هو الواهب فقد انتقل حقه في الرجوع في
الهبة إلى وارثه وإن كان المتهب فلم يوجد الإذن لوارثه فلم يملك القبض بغير
إذن والله أعلم * (مسألة) * (وإن أبرأ الغريم غريمه من دينه أو وهبه له أو
أحله منه برئ وإن رد ذلك ولم يقبله) لأنه إسقاط فلم يفتقر إلى القبول
كإسقاط القصاص والشفعة وحد القذف وكالعتق والطلاق وكذلك إن قال تصدقت به
عليك فإن القرآن ورد في الإبراء بلفظ الصدقة قال الله تعالى (ودية مسلمة
إلى أهله إلا أن يصدقوا) وإن قال عفوت لك عنه صح قال الله تعالى (إلا أن
يعفون أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح) يريد به الإبراء من الصداق، فإن قال
أسقطته عنك صح لأنه أتى بحقيقة اللفظ وكذلك إن قال ملكتك لأنه بمنزلة هبته
إياه فإن وهب الدين لغير من هو في ذمته لم يصح قياساً على البيع
(6/255)
ويحتمل أن يصح لأنه لا غرر فيها على المتهب
ولا الواهب فصح كهبة الأعيان (فصل) وتصح البراءة من المجهول إذا لم يكن
لهما سبيل إلى معرفته وقال أبو حنيفة تصح مطلقاً وقال الشافعي لا تصح إلا
أنه إذا أراد ذلك فقال أبرأتك من درهم إلى ألف لأن الجهالة إنما منعت لأجل
الغرر فإذا رضي بالجملة فقد زال الغرر وصحت البراءة ولنا أن النبي صلى الله
عليه وسلم قال لرجلين اختصما إليه في مواريث درست " اقتسما وتوخيا ثم
استهما ثم تحالا " رواه
أبو داود ولأنه إسقاط فصح في المجهول كالطلاق والعتاق وكما لو قال من درهم
الى ألف، ولأن الحاجة داعية إلى تبرئة الذمة ولا سبيل إلى العلم بما فيها
فلو وقفت صحة البراءة على العلم لكان سداً لباب عفو الإنسان عن أخيه المسلم
وتبرئة ذمته فلم يجز ذلك كالمنع من العتق، فأما إن كان من عليه الحق يعلمه
ويكتمه المستحق خوفاً من أنه إذا علمه لم يسمح بإبرائه منه فينبغي أن لا
تصح البراءة فيه لأن فيه تغريراً بالمبرئ وقد أمكن التحرز منه، وقال
أصحابنا لو أبرأه من مائة وهو يعتقد أنه لا شئ عليه وكان له عليه مائة ففي
صحة البراءة وجهان (أحدهما) صحتها لأنها صادفت ملكه فأسقطته كما لو علمها
(والثاني) لا يصح لأنه ابرأه مما لا يعتقد أنه عليه فلم يكن ذلك إبراء في
الحقيقة، وأصل الوجهين ما لو باع ما لا كان لموروثه يعتقد أنه باق لموروثه
وكان موروثه قد مات وانتقل ملكه إليه فهل يصح؟ فيه وجهان وللشافعي قولان في
البيع وفي صحة الإبراء وجهان
(6/256)
(فصل) فإن كان الموهوب له طفلاً أو مجنوناً
لم يصح قبضه ولا قبوله لأنه من غير أهل التصرف ويقبض له أبوه إن كان أميناً
لأنه أشفق عليه وأقرب إليه، فإن لم يكن له أب قبض له وصي إليه لأن الأب
أقامه مقام نفسه فجرى مجرى وكيله، وإن كان الأب غير مأمون أو كان مجنوناً
أو كان لا وصي له قبل الحاكم، ولا يلي ماله غير هؤلاء الثلاثة وأمين الحاكم
يقوم مقامه وكذلك وكيل الأب الأمين ووصيه يقوم كل واحد منهما مقام الصبي
والمجنون في القبول والقبض إن احتيج إليه لأنه قبول لما للصبي أو المجنون
فيه حظ فكان إلى الولي كالبيع والشراء ولا يصح القبض من غير هؤلاء قال أحمد
في رواية صالح في صبي وهبت له هبة أو تصدق عليه بصدقة فقبضت الأم ذلك وأبوه
حاضر فقال لا أعرف للأم قبضاً ولا يكون إلا للأب، وقال عثمان رضي الله عنه
أحق من يحوز للصبي أبوه وهذا مذهب الشافعي لا أعلم فيه خلافاً لأن القبض
إنما يكون من المتهب أو نائبه والولي نائب بالشرع فصح قبضه له، أما غيره
فلا نيابة له، قال شيخنا ويحتمل أن يصح القبول والقبض من غيرهم عند عدمهم
لأن الحاجة داعية إلى ذلك فإن الصبي قد يكون في مكان لا حاكم فيه وليس له
أب ولا وصي ويكون
(6/257)
فقيراً لا غنى به عن الصدقات فإن لم يصح
قبض غيرهم له انسد باب وصولها إليه فيضيع ويهلك ومراعاة حفظه عن الهلاك
أولى من مراعاة الولاية، فعلى هذا للأم القبض له وكل من يليه من أقاربه
وغيرهم (فصل) فإن كان الصبي مميزاً فحكمه حكم الطفل في قيام وليه مقامه لأن
الولاية لا تزول عنه قبل البلوغ إلا أنه إذا قبل لنفسه وقبض لها صح لأنه من
أهل التصرف فإنه يصح بيعه وشراؤه بإذن الولي فههنا أولى، ولا يحتاج إلى إذن
الولي ههنا لأنه مصلحة لا ضرر فيه فصح من غير إذن وليه كوصيته وكسبه
المباحات، ويحتمل أن يقف صحة القبض منه على إذن وليه دون القبول لأن القبض
يحصل به مستولياً على المال فلا يؤمن تضييعه له وتفريطه فيه فيتعين حفظه عن
ذلك بتوقفه على إذن وليه كقبضه أوديغته بخلاف القبول فإنه يحصل له به الملك
من غير ضرر فجاز من غير إذن كاحتشاشه واصطياده.
(فصل) فإن وهب الأب لولده الصغير شيئاً قام مقامه في القبض والقبول إن
احتيج إليه قال إبن المنذر أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على ان الرجل
اذا وهب لولده الطفل داراً بعينها أو عبداً بعينه وقبضه له من نفسه وأشهد
عليه أن الهبة تامة، هذا قول مالك والثوري والشافعي وأصحاب الرأي وروي معنى
ذلك عن شريح وعمر بن عبد العزيز، فإن كان الموهوب مما يفتقر إلى قبض اكتفى
(6/258)
بقوله قد وهبت هذا لابني وقبضته له لأنه
يغني عن القبول كما ذكرنا ولا يكفي قوله قد قبلته لأن القبول لا يغني ن
القبض، وإن كان مما لا يفتقر اكتفى بقوله قد وهبت هذا لابني ولا يحتاج إلى
ذكر قبض ولا قبول، قال إبن المنذر أجمع الفقهاء على أن هبة الأب لولده
الصغير في حجره لا يحتاج إلى قبض وإن الإشهاد فيها يغني عن القبض وإن وليها
أبوه لما رواه مالك عن الزهري عن ابن المسيب أن عثمان قال من نحل ولداً له
صغيراً لم يبلغ أن يحوز نحلة فأعلن ذلك وأشهد على نفسه فهي جائزة وإن وليها
أبوه، وقال القاضي لابد في هبة الولد من أن يقول قبلته وهذا مذهب الشافعي
لأن الهبة عندهم لا تصح إلا بالإيجاب والقبول وقد ذكرنا من قبل أن قرائن
الأحوال ودلالتها تغني عن لفظ القبول ولا أدل على القبول من كون القابل هو
الواهب فاعتبار لفظ لا يفيد معنى من غير ورود الشرع
به تحكم لا معنى له مع مخالفته لظاهر حال أمر النبي صلى الله عليه وسلم
وصحابته، وليس هذا مذهبا لاحمد فقد قال في رواية حرب في رجل أشهد بسهم من
ضيعته وهي معروفة لابنه وليس له ولد غيره فقال أحب أن يقول عند الإشهاد قد
قبضته له قال له فإن سها قال إذا كان مفرزاً رجوت فقد ذكر أحمد أنه يكتفي
بقوله قد قبضته له وأن يرجو أن يكتفي مع التمييز بالإشهاد فحسب وهذا موافق
للإجماع المذكور عن سائر العلماء، وقال بعض أصحابنا يكتفى بأحد لفظين إما
أن يقول قد قبلته أو قد قبضت لأن القبول يغني عن القبض وظاهر كلام أحمد ما
ذكرناه ولا فرق بين الأثمان وغيرها فيما
(6/259)
ذكرنا وبه قال أبو حنيفة والشافعي وقال
مالك إن وهب له مالاً يعرف بعينه كالأثمان لم يجز إلا أن يضعها على يد غيره
لأن الأب قد يتلف ذلك أو يتلف بغير سببه فلا يمكن أن يشهد على شئ بعينه فلا
ينفع القبض شيئاً ولنا أن ذلك مما يصح هبته فإذا وهبه لابنه الصغير وقرضه
له صح كالعروض (فصل) فإن كان الواهب للصبي غير الأب من أوليائه فقال
أصحابنا لابد أن يوكل من يقبل للصبي ويقبض له ليكون الإيجاب منه والقبول
والقبض من غيره كما في البيع بخلاف الأب فإنه يجوز أن يوجب ويقبل ويقبض
لكونه يجوز أن يبيع لنفسه، قال شيخنا والصحيح عندي أن الأب وغيره في هذا
سواء لأنه عقد يجوز أن يصدر منه ومن وكيله فجاز أن يتولى طرفيه كالأب.
وفارق البيع فإنه يجوز أن يوكل من يشتري له ولأن البيع عقد معاوضة ومرابحة
فيتهم في عقده لنفسه والهبة محض مصلحة لا تهمة فيها وهو ولي فجاز أن يتولى
طرفي العقد كالأب، ولأن البيع إنما منع منه لما يأخذه من العوض لنفسه من
مال الصبي وهو ههنا يعطي ولا يأخذ فلا وجه لمنعه من ذلك وتوقيفه على توكيل
غيره ولأننا قد ذكرنا أنه يستغنى بالإيجاب والإشهاد عن القبض والقبول فلا
حاجة الى التوكيل فيهما مع غناه عنهما
(6/260)
(فصل) فأما الهبة من الصبي لغيره فلا تصح
سواء أذن فيها الولي أو لم يأذن لأنه محجور عليه
لحظ نفسه فلا يصح تبرعه كالسفيه، فأما العبد فلا يجوز أن يهب إلا بإذن سيده
لأنه مال لسيده وماله مال لسيده فلا يجوز له إزالة ملك سيده عنه بغير إذنه
كالأجنبي وقد ذكرنا في جواز الصدقة من قوته بالرغيف ونحوه رواية أن ذلك
جائز وذكرنا دليله في الحجر وللعبد أن يقبل الهدية والهبة بغير إذن سيده نص
عليه أحمد لأنه تحصيل للمال للسيد فلم يعتبر إذنه فيه كالالتقاط والاصطياد
ونحوه: (فصل) والقبض في الهبة كالقبض في البيع وقد ذكرنا ذلك والاختلاف فيه
في كتاب البيع وهذا مقيس عليه * (مسألة) * (وتصح هبة المشاع وبه قال مالك
والشافعي وسواء في ذلك ما أمكن قسمته أو لم يمكن وقال أصحاب الرأي لا تصح
هبة المشاع الذي يمكن قسمته لأن القبض شرط في الهبة ووجوب القسمة يمنع صحة
القبض وتمامه وتصح هبة ما لا يمكن قسمته لعدم ذلك فيه فإن وهب واحد اثنين
شيئاً مما ينقسم لم يجز عند أبي حنيفة وجاز عند صاحبيه وإن وهب اثنان اثنين
شيئاً مما ينقسم لم يصح في قياس قولهم لأن كل واحد من المتهبين قد وهب له
جزء مشاع
(6/261)
ولنا أن وفد هوازن لما جاءوا يطلبون من
رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرد عليهم ما غنمه منهم قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم " ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم " رواه البخاري وهو
هبة مشاع وروى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال سمعت النبي صلى الله عليه
وسلم وقد جاء رجل ومعه كبة من شعر فقال أخذت هذه من الغنم لأصلح بها برذعة
لي فقال النبي صلى الله عليه وسلم " ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لك "
وروى عمير بن سلمة الضمري قال خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى
أتينا الروحاء فرأينا حمار وحش معقوراً فأردنا أخذه فقال رسول الله صلى
الله عليه وسلم " دعوه فإنه يوشك أن يجئ صاحبه " فجاء رجل من بهز وهو الذي
عقره فقال يا رسول الله شأنكم بالحمار فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم
أن يقسم بين الناس رواه الإمام أحمد والنسائي ولأنه يجوز بيعه فجازت هبته
كالذي لا ينقسم، وقولهم إن وجوب القسمة يمنع صحة القبض لا يصح لأنه
لا يمنع صحته في البيع فكذا ههنا، ومتى كانت الهبة لاثنين فقبضاه بإذنه ثبت
ملكهما فيه وإن قبضه أحدهما ثبت الملك في نصيبه دون صاحبه * (مسألة) *
(وتصح هبة ما يجوز بيعه لأنه تمليك في الحياة فصح كالبيع وتصح هبة الكلب
وما يباح الانتفاع به من النجاسات لأنه تبرع فجاز في ذلك كالوصية، ومتى
قلنا إن القبض شرط في الهبة
(6/262)
لم تصح الهبة فيما لا يمكن تسليمه كالعبد
الآبق والجمل الشارد والمغصوب لغير غاصبه ممن لا يقدر على أخذه منه وبهذا
قال أبو حنيفة والشافعي لأنه عقد يفتقر الى القبض أشبه البيع فإن وهب
المغصوب لغاصبه أو لمن يتمكن من أخذه منه صح لإمكان قبضه، وليس لغير الغاصب
القبض إلا بإذن الواهب فإن وكل المالك الغاصب في تقبيضه صح وإن وكل المتهب
الغاصب في القبض له فقبل في زمن يمكن قبضه فيه صار مقبوضاً وملكه المتهب
وبرئ الغاصب من ضمانه وإن قلنا القبض ليس شرطاً في الهبة فما لا يعتبر فيه
القبض من ذلك يحتمل أن لا يعتبر في صحة هبته القدرة على التسليم وهو قول
أبي ثور لأنه تمليك بلا عوض أشبه الوصية ويحتمل أن لا تصح هبته لأنه لا يصح
بيعه أشبه الحمل في البطن وكذلك يخرج في هبة الطير في الهواء أو السمك في
الماء إذا كان مملوكاً * (مسألة) * (ولا تصح هبة المجهول كالحمل في البطن
واللبن في الضرع) وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي وأبو ثور لأنه مجهول معجوز
عن تسليمه فلم تصح هبته كما لا يصح بيعه وفي الصوف على الظهر وجهان بناء
على صحة بيعه، ومتى أذن له في جز الصوف وحلب الشاة كان إباحة وإن وهب دهن
سمسمه قبل عصره أو زيت زيتونه أو جفته لم يصح وبهذا قال الثوري والشافعي
وأصحاب الرأي ولا نعلم لهم مخالفاً، ولا تصح هبة المعدوم كالذي تحمل أمته
أو شجرته لأن الهبة عقد تمليك في الحياة فلم تصح في هذا كله كالبيع (فصل)
قد ذكرنا أن هبة المجهول لا تصح نص عليه أحمد في رواية أبي داود وحرب وبه
قال الشافعي، قال شيخنا ويحتمل أن الجهل إذا كان من الواهب منع الصحة لأنه
غرر في حقه وإن كان من الموهوب له لم يمنعها لأنه لا غرر في حقه فلم يعتبر
في حقه العلم بما يوهب له كالوصية، وقال مالك:
تصح هبة المجهول لأنه تبرع فصح في المجهول كالنذر والوصية
(6/263)
ولنا أنه عقد تمليك لا يصح تعليقه بالشروط
فلم يصح في المجهول كالبيع بخلاف النذر والوصية فأما ما لا يقدر على تسليمه
فتصح هبته في أحد الاحتمالين إذا قلنا إن القبض ليس بشرط في صحة الهبة وقد
ذكرناه.
* (مسألة) * (ولا يجوز تعليقها على شرط ولا شرط ما ينافي مقتضاها نحو أن لا
يبيعها ولا يهبها) لا يصح تعليق الهبة على شرط لأنها تمليك لعين في الحياة
فلم يجز تعليقها على شرط كالبيع، فإن علقها على شرط كقول النبي صلى الله
عليه وسلم لأم سلمة " إن رجعت هديتنا إلى النجاشي فهي لك " كان وعداً لا
هبة ومتى شرط شرطاً ينافي مقتضاها نحو أن لا يبيعها ولا يهبها أو بشرط أن
يبيعه أو يهبه أو أن يهب فلاناً شيئاً لم يصح الشرط رواية واحدة، وفي صحة
الهبة وجهان بناء على الشروط الفاسدة في البيع.
* (مسألة) * (ولا توقيتها كقوله وهبتك هذا سنة) إذا وقت الهبة كقوله وهبتك
هذا سنة ثم يعود إلى لم يصح لأنه عقد تمليك لعين فلم تصح مؤقتاً كالبيع
(فصل) وإن وهب أمة واستثنى ما في بطنها صح في قياس قول أحمد فيمن أعتق أمة
واستثنى ما في بطنها لأنه تبرع بالأم واستثنى ما في بطنها أشبه العتق، وبه
يقول في العتق النخعي واسحاق وأبو ثور، ويتخرج أن لا يصح كما لو باع أمة
واستثنى ما في بطنها، وقد ذكرناه في البيع، وقال أصحاب الرأي تصح الهبة
ويبطل الاستثناء، ولنا أنه لم يهب الولد فلم يملكه الموهوب له كالمنفصل
وكالموصى به.
* (مسألة) * (إلا في العمرى والرقبى وهو أن يقول أعمرتك هذه الدار أو
أرقبتكها أو جعلتها لك عمرك أو حياتك فإنه يصح وتكون للمعمر ولورثته من
بعده) العمرى والرقبى نوعان من أنواع الهبة يفتقران إلى ما يفتقر إليه سائر
الهبات من الإيجاب والقبول والقبض أو ما يقوم مقام ذلك عند من اعتبره،
وصورة العمرى أن يقول أعمرتك داري هذه أو هي لك عمرك أو ما عشت أو مدة
حياتك أو ما حييت أو نحو هذا، سميت عمرى لتقييدها بالعمر، والرقبى
(6/264)
أن يقول أرقبتك هذه الدار أو هي لك حياتك
على إنك إن مت قبلي عادت إلي وإن مت قبلك فهي لك ولعقبك فكأنه يقول هي
لآخرنا موتاً، ولذلك سميت رقبى لأن كل واحد منهما يرقب موت صاحبه، وهما
جائزان في قول أكثر أهل العلم، وحكي عن بعضهم أنها لا تصح لقول النبي صلى
الله عليه وسلم " لا تعمروا ولا ترقبوا " ولنا ما روى جابر قال: قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم " العمرى جائزة لأهلها والرقبى جائزة لأهلها "
رواه أبو داود والترمذي، وقال حديث حسن، فأما النهي فإنما ورد على وجه
الإعلام لهم أنكم إن أعمرتم أو أرقبتم يعد للمعمر والمرقب ولم يعد اليكم
منه شئ، وسياق الحديث يدل عليه فإنه قال " فمن أعمر عمرى فهي للذي أعمرها
حياً وميتاً وعقبه " ولو أريد به حقيقة النهي لم يمنع ذلك صحتها فإن النهي
إنما يمنع صحة ما يفيد المنهي عنه فائدة، أما إذا كان صحة المنهي ضرراً على
مرتكبه لم يمنع صحته كالطلاق في زمن الحيض، وصحة العمرى ضرر على المعمر فإن
ملكه يزول بغير عوض.
إذا ثبت ذلك فإن العمرى تنقل الملك إلى المعمر، وبهذا قال جابر بن عبد الله
وابن عمر وابن عباس وشريح ومجاهد وطاوس والثوري والشافعي وأصحاب الرأي،
وروي ذلك عن علي، وقال مالك والليث: العمرى تمليك المنافع لا تملك بها رقبة
المعمر بحال ويكون للمعمر السكنى فيه فإن مات عادت إلى المعمر وإن قال له
ولعقبه كان سكناها لهم فإذا انقرضوا عادت إلى المعمر، واحتجا بما روي يحيى
بن سعيد عن عبد الرحمن بن القاسم قال سمعت مكحولاً يسأل القاسم بن محمد عن
العمرى ما يقول الناس فيها فقال القاسم ما أدركت الناس إلا على شروطهم في
أموالهم وما أعطوا، وقال ابراهيم الحربي عن ابن الأعرابي لم يختلف العرب في
العمرى والرقبى والافقار والمنحة والعارية والكسنى والإطراق أنها على ملك
أربابها ومنافعها لمن جعلت له ولأن التمليك لا يتأقت كما لو باعه إلى مدة
فإذا كان لا يتأقت حمل قوله على تمليك المنافع لأنه يصح توقيته ولنا ما روى
جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " امسكوا عليكم أموالكم ولا
تفسدوها
(6/265)
فإنه من أعمر عمرى فهي للذي أعمرها حياً
وميتاً ولعقبه " رواه المسلم وفي لفظ قضى رسول الله صلى
الله عليه وسلم بالعمرى لمن وهبت له متفق عليه، وروى ابن ماجة عن ابن عمر
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا رقبى، فمن أرقب شيئاً فهو له
حياته وموته " وعن زيد بن ثابت أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل العمرى
للوارث وقد روى مالك حديث العمرى في موطئه وهو صحيح رواه جابر وابن عمر
وابن عباس ومعاوية وزيد بن ثابت وأبو هريرة، وقول القاسم لا يقبل في مخالفة
من سمينا من الصحابة والتابعين فكيف يقبل في مخالفة سيد المرسلين، ولا يصح
دعوى إجماع أهل المدينة لكثرة من قال بها منهم وقضى بها طارق بالمدينة بأمر
عبد الملك بن مروان وقول ابن الأعرابي أنها عند العرب تمليك المنافع لا يضر
إذا نقلها الشرع إلى تمليك الرقبة كما نقل الصلاة من الدعاء إلى الأفعال
المنظومة ونقل الظهار والإيلاء من الطلاق إلى أحكام مخصوصة، قولهم أن
التمليك لا يتأقت قلنا فلذلك أبطل الشرع تأقيتها وجعلها تمليكاً مطلقاً فإن
قال في العمرى أنها للمعمر وعقبه كان توكيداً لحكمها وتكون للمعمر ولورثته
وهو قول جميع القائلين بها * (مسألة) * (وإن شرط رجوعها إلى المعمر عند
موته أو قال هي لآخرنا موتاً صح الشرط وعنه لا يصح وتكون للمعمر ولورثته من
بعده) أما إذا شرط رجوعها إلى المعمر عند موته أو قال هي لآخرنا موتاً أو
إذا مت عادت إلي إن كنت حياً أو إلى ورثتي ففيه روايتان (إحداهما) صحة
العقد والشرط ومتى مات المعمر رجعت إلى المعمر، وبه قال القاسم بن محمد
ويزيد بن قسيط والزهري وأبو سلمة بن عبد الرحمن وابن أبي ذئب ومالك وأبو
ثور وداود وهو أحد قولي الشافعي لما روى جابر قال إنما العمرى التي أجاز
رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول هي لك ولعقبك فلما إذا قال هي لك ما
عشت فإنها ترجع إلى صاحبها متفق عليه، وروى مالك في موطئه عن جابر أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم قال " أيما رجل أعمر عمرى له ولعقبه فإنها للذي
أعطيها لا ترجع إلى من أعطاها " لأنه أعطى عطاء وقعت فيه المواريث ولقول
النبي صلى الله عليه وسلم " المؤمنون على شروطهم وقال القاسم بن محمد: ما
أدركت الناس إلا على شروطهم في أموالهم.
(6/266)
(والثانية) أنها تكون للمعمر أيضاً ولورثته
ويبطل الشرط وهو قول الشافعي في الجديد وأبي حنيفة، قال شيخنا وهو ظاهر
المذهب نص عليه أحمد في رواية أبي طالب للأحاديث المطلقة التي ذكرناها
ولقول رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا رقبى، فمن أرقب شيئاً فهو له
حياته وموته "، قال مجاهد والرقبى هو أن يقول هي للآخر مني ومنك موتاً قال
مجاهد سميت بذلك لأن كل واحد منهما يرقب موت صاحبه، وروى الإمام أحمد
بإسناده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " لا عمرى ولا رقبى، فمن أعمر
شيئاً أو أرقبه فهو له حياته وموته " وهذا صريح في إبطال الشرط لأن الرقبى
يشترط فيها عودها إلى المرقب إن مات الآخر قبله فأما حديثهم الذي احتجوا به
فمن قول جابر نفسه وإنما نقل لفظ النبي صلى الله عليه وسلم قال " امسكوا
عليكم أموالكم ولا تفسدوها، فإنه من أعمر عمرى فهي للذي أعمرها حياً وميتاً
ولعقبه " ولأننا لو أجزنا هذا الشرط كانت هبة مؤقتة والهبة لا يجوز فيها
التأقيت وإنما لم يفسدها الشرط لأنه ليس بشرط على المعمر وإنما شرط ذلك على
ورثته ومتى لم يكن الشرط مع المعقود معه لم يؤثر فيه ولنا قوله في الحديث
الآخر لأنه أعطى عطاء وقعت فيه المواريث فهذه الزيادة من كلام أبي سلمة بن
عبد الرحمن كذلك رواه ابن أبي ذئب، وفصل هذه الزيادة فقال عن النبي صلى
الله عليه وسلم أنه قضى فيمن أعمر عمرى له ولعقبه فهي له بتلة لا يجوز
للمعطي فيها شرط ولا مثنوية قال أبو سلمة لأنه أعطى عطاء وقعت فيه المواريث
(فصل) والرقبى كالعمرى قال أحمد هي أن يقول هي لك حياتك فإذا مت فهي لفلان
أو هي راجعة إلي وهي كالعمرى فيما إذا شرط عودها إلى المعمر قال علي رضي
الله عنه العمرى والرقبى سواء وقال طاوس من أرقب شيئاً فهو سبيل الميراث
وقال الزهري الرقبى وصية يعني أن معناها إذا مت فهذا لك وقال الحسن ومالك
وأبو حنيفة الرقبى باطلة لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم أجاز العمرى
وأبطل الرقبى لأن
(6/267)
معناها أنها للآخر منا وهذا تمليك معلق
بخطر ولا يجوز تعليق التمليك بالخطر ولنا ما ذكرنا من الأحاديث وحديثهم لا
نعرفه ولا نسلم أن معناها ما ذكروه بل معناها أنها لك حياتك فإن مت رجعت
إلي فتكون كالعمرى سواء لأنه زاد شرطها لورثة المرقب إن مات المرقب قبله
وهذا يبين تأكيدها على العمرى (فصل) وتصح العمرى في الحيوان والثياب لأنها
نوع هبة فصحت في ذلك كسائر الهبات وقد روي عن أحمد في الرجل يعمر الجارية
أنه قال لا أرى له وطأها قال القاضي لم يتوقف أحمد في وطئ الجارية لعدم
الملك فيها لكن على طريق الورع لكون الوطئ استباحة فرج وقد اختلف في العمرى
فجعلها بعضهم تمليك المنافع فلم ير له وطأها لهذا ولو وطئها جاز (فصل) وقد
ذكرنا أنه لو وقت الهبة في غير العمرى والرقبى كقوله (وهبتك هذا سنة) أو
إلى أن يقدم الحاج أو إلى أن يبلغ ولدي أو مدة حياة فلان ونحو هذا لم يصح
لأنها تمليك للرقبة فلم تصح موقنة كالبيع وتفارق العمرى والرقبى لأن
الإنسان إنما يملك الشئ عمره فإذا ملكه عمره فقد وقته بما هو موقت به في
الحقيقة فصار ذلك كالمطلق (فصل) فأما إن قال سكناها لك عمرك فله أخذها في
أي وقت أحب وكذلك إن قال اسكنها أو أسكنتكها عمرك أو نحو ذلك فليس هذا
عقداً لازماً لأنه في التحقيق هبة المنافع والمنافع إنما تستوفى بمضي
الزمان شيئاً فشيئاً فلا تلزم الا في قدر ما قبضه منها واستوفاه بالسكنى
فعلى هذا للمسكن الرجوع متى شاء وتبطل بموت من مات منهما وبه قال أكثر أهل
العلم منهم الشعبى والنخعي والثوري والشافعي واسحاق وأصحاب الرأي وقال
الحسن وعطاء وقتادة هي كالعمرى يثبت فيها مثل حكمها وحكي عن الشعبي أنه قال
إذا قال هي لك اسكن حتى تموت فهي له حياته وموته، وإن قال داري هذه اسكنها
حتى تموت فإنها ترجع إلى صاحبها لأنه إذا قال لك فقد جعل له رقبتها فتكون
عمرى، وإذا قال اسكن داري هذه فإنما جعل له نفعها دون رقبتها فتكون عارية
(6/268)
ولنا أن هذا إباحة المنافع فلم يقع لازماً
كالعارية وفارق العمرى فإنها هبة الرقبة فأما قوله هذه لك اسكنها حتى تموت
فإنه يحتمل لك سكناها حتى تموت وتفسيرها بذلك دليل على أنه أراد السكنى
فأشبه ما لو قال هذه لك سكناها وإذا احتمل أنه يريد به الرقبة واحتمل أن
يريد السكنى فلا نزيل ملكه بالاحتمال.
(فصل) إذا وهب هبة فاسدة أو باع بيعاً فاسداً ثم وهب تلك العين أو باعها
بعقد صحيح مع علمه
بفساد الأول صح العقد الثاني لأنه تصرف في ملكه، عالماً بأنه ملكه، وإن
اعتقد صحة العقد الأول ففي الثاني وجهان (أحدهما) صحته لأنه تصرف صادف ملكه
وتم بشروطه فصح كما لو علم فساد الأول (والثاني) لا يصح لأنه تصرف تصرفاً
يعتقد فساده ففسد كما لو صلى يعتقد أنه محدث فبان متطهراً وهكذا لو تصرف في
عين يعتقد أنها لأبيه فبان انه قد مات وملكها الوارث أو غصب عيناً فباعها
يعتقدها مغصوبة فبان أنها ملكه فعلى الوجهين.
قال القاضي: أصل الوجيهن من باشر امرأة بالطلاق يعتقدها أجنبية فبانت
امرأته أو باشر بالعتق من يعتقدها حرة فبانت أمته ففي وقوع الطلاق والحرية
روايتان وللشافعية في هذه المسألة وجهان كما حكينا والله أعلم * (فصل) *
قال الشيخ رضي الله عنه (والمشروع في عطية الأولاد القسمة بينهم على قدر
ميراثهم) ولا خلاف بين أهل العلم في استحباب التسوية بينهم وكراهية التفضيل
قال ابراهيم كانوا يستحبون التسوية بينهم حتى في القبل، إذا ثبت هذا
فالتسوية المستحبة أن يقسم بينهم على حسب قسمة الله تعالى الميراث للذكر
مثل حظ الأنثيين، وبه قال عطاء وشريح واسحاق ومحمد بن الحسن قال شريح لرجل
قسم ماله بين ولده: ارددهم إلى سهام الله وفرائضه وقال عطاء ما كانوا
يقسمون إلا على كتاب الله تعالى، وقال أبو حنيفة ومالك والشافعي وابن
المبارك يعطى الأنثى مثل ما يعطى الذكر لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال
لبشير بن سعد " سو بينهم " وعلل ذلك بقوله " أيسرك ان يستوا في برك " فقال
نعم قال " فسو بينهم " والبنت كالابن في استحقاق برها فكذلك في عطيتها وعن
ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
(6/269)
" سووا بين أولادكم في العطية ولو كنت
مؤثراً أحداً لا ترث النساء على الرجال " رواه سعيد في سننه ولأنها عطية في
الحياة فاستوى فيها الذكر والأنثى كالنفقة والكسوة ولنا أن الله تعالى قسم
بينهم فجعل للذكر مثل حظ الأنثيين وأولى ما اقتدى به قسمة الله تعالى ولأن
العطية في الحياة إحدى حالتي العطية فيجعل للذكر منها مثل حظ الأنثيين
كحالة الموت يعني الميراث يحققه أن العطية استعجال لما يكون بعد الموت
فينبغي ان تكون على حسبه كما أن معجل الزكاة قبل وجوبها يؤديها على صفة
أدائها بعد وجوبها وكذلك الكفارات المعجلة ولأن الذكر أحوج من الأنثى
من قبل أنهما إذا تزوجا جميعاً فالصداق والنفقة ونفقة الأولاد على الذكر،
والأنثى لها ذلك فكان أولى بالتفضيل لزيادة حاجته وقد قسم الله الميراث
ففضل الذكر مقروناً بهذا المعنى فيعلل به ويتعدى ذلك إلى العطية في الحياة
وحديث بشير قضية عين وحكاية حال لا عموم لها إنما يثبت حكمها في مثلها ولا
نعلم حال أولاد بشير هل كان فيهم أنثى أو لا؟ ولعل النبي صلى الله عليه
وسلم قد علم أنه ليس له إلا ولد ذكر ثم تحمل التسوية على القسمة على كتاب
الله تعالى ويحتمل أنه أراد التسوية في أصل العطاء لا في صفته فإن التسوية
لا تقتضي التسوية من كل وجه وكذلك الحديث الآخر ودليل ذلك قول عطاء: ما
كانوا يقسمون إلا على كتاب الله تعالى وهذا خبر عن جميعهم على أن الصحيح في
خبر ابن عباس أنه مرسل * (مسألة) * (فإن خص بعضهم أو فضله فعليه التسوية
بالرجوع أو إعطاء الآخر حتى يستووا) قد ذكرنا أن المشروع أن يسوي بين
أولاده في العطية على قدر ميراثهم فإن خص بعضهم بعطيته أو فاضل بينهم أثم
إذا لم يختص بمعنى يبيح التفضيل ووجب عليه التسوية إما برد ما فضل به البعض
أو إعطاء الآخر حتى يتم نصيبه قال طاوس لا يجوز ذلك ولا رغيف محترق، وبه
قال ابن المبارك وروي معناه عن مجاهد وعروة وكان الحسن يكرهه ويخيره في
القضاء وقال مالك والليث والثوري والشافعي وأصحاب الرأي يجوز ذلك وروي معنى
ذلك عن شريح وجابر بن زيد والحسن بن صالح لأن أبا بكر
(6/270)
رضي الله عنه نحل عائشة ابنته جداد عشرين
وسقا دون سائر ولده واحتج الشافعي بقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث
النعمان بن بشير " أشهد على هذا غيري " فأمره بتأكيدها دون الرجوع فيها
ولأنها عطية تلزم بموت الأب فكانت جائزة كما لو سوي بينهم ولنا ما روى
النعمان بن بشير قال تصدق علي أبي ببعض ماله فسالت أمي عمرة بنت رواحة لا
أرضى حتى تشهد عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء بي إلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم ليشهده على صدقتي فقال " أكل ولدك أعطيت مثله " قال لا
قال " فاتقوا الله واعدلوا بين أولادكم " قال فرجع أبي فرد تلك الصدقة وفي
لفظ قال " فاردده " وفي لفظ " لا تشهدني على جور " وفي لفظ " فلا تشهدني
إذاً " وفي لفظ " فاشهد على هذا غيري " وفي لفظ " سو بينهم " متفق عليه
وفيه دليل على التحريم
لأنه اسماه جوراً وأمره برده وامتنع من الشهادة عليه والجور حرام والأمر
يقتضي الوجوب ولأن تفضيل بعضهم يورث بينهم العداوة والبغضاء وقطيعة الرحم
فمنع منه كترويج المرأة على عمتها وخالتها وقول أبي بكر لا يعارض قول النبي
صلى الله عليه وسلم ولا يحتج به معه ويحتمل أن أبا بكر رضي الله عنه خصها
لحاجتها وعجزها عن الكسب والسبب مع اختصاصها بفضلها وكونها أم المؤمنين
وغير ذلك من فضائلها ويحتمل أن يكون نحلها ونحل غيرها من ولده أو نحلها وهو
يريد أن ينحل غيرها فأدركه الموت قبل ذلك ويتعين حمل حديثه على أحد هذه
الوجوه لأن حمله على مثل محل النزاع منهي عنه وأقل أحواله الكراهة والظاهر
من حال أبي بكر رضي الله عنه اجتناب المكروهات وقول النبي صلى الله عليه
وسلم " فأشهد على هذا غيري " ليس بأمر لأن أدنى أحوال الأمر الاستحباب
والندب ولا خلاف في كراهة هذا وكيف يجوز أن يأمره بتأكيده مع أمره برده
وتسميته إياه جوراً وحمل الحديث على هذا حمل لحديث رسول الله صلى الله عليه
وسلم على التناقض ولو أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإشهاد غيره لامتثل
بشير أمره ولم يرده وإنما هو تهديد له فيفيد ما أفاده النهي عن إتمامه
(6/271)
(فصل) فأما إن خص بعضهم لمعنى يقتضيه
تخصيصه من حاجة أو زمانة أو عمى أو كثرة عائلة أو لاشتغاله بالعلم أو صرف
عطيته عن بعض ولده لفسقه أو بدعته ولكونه يعصي الله تعالى بما يأخذه فقد
روي عن أحمد ما يدل على جواز ذلك فإنه قال في تخصيص بعضهم بالوقف لا بأس
إذا كان لحاجة وأكرهه إذا كان على سبيل الأثرة والعطية في معناه ويحتمل
ظاهر لفظه المنع من التفضيل على كال حال لكون النبي صلى الله عليه وسلم لم
يستفصل بشيراً في عطيته قال شيخنا والأول أولى إن شاء الله لحديث أبي بكر
ولأن بعضهم اختص بمعنى يقتضي العطية فجاز أن يختص بها كما لو اختص بالقرابة
وحديث بشير قضية في عين لا عموم لها وترك النبي صلى الله عليه وسلم
الاستفصال يجوز أن يكون لعلمه بالحال فإن قيل لو علم الحال لما قال " ألك
ولد غيره؟ " قلنا يجوز أن يكون السؤال ههنا لبيان العلة كما قال عليه
الصلاة والسلام الذي سأله عن بيع الرطب بالتمر " أينقص الرطب إذا يبس قال
نعم " قال " فلا إذاً " وقد علم أن الرطب ينقص لكن نبه السائل بهذا على علة
المنع والله أعلم
(فصل) والأم في المنع من المفاضلة بين أولادها كالأب لقول النبي صلى الله
عليه وسلم " اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم " ولأنها أحد الوالدين أشبهت
الأب ولأن ما يحصل بتخصيص الأب بعض ولده من الحسد والتباغض يوجد مثله في
تخصيص الأم فيثبت لها مثل حكمه في ذلك * (مسألة) * (وإن مات قبل ذلك ثبت
للمعطى وعنه لا يثبت وللباقين الرجوع اختاره أبو عبد الله بن بطة) إذا فاضل
بين ولده في العطايا أو خص بعضهم بعطية ثم مات قبل أن يسترده ثبت ذلك
للموهوب له ولزم وليس لبقية الورثة الرجوع هذا المنصوص عن أحمد في رواية
محمد بن الحكم والميموني واختاره الخلال وصاحبه أبو بكر وبه قال مالك
والشافعي وأصحاب الرأي وأكثر أهل العلم وهو الذي ذكره الخرقي، وفيه رواية
أخرى أن لباقي الورثة أن يرتجعوا ما وهبه اختاره أبو عبد الله بن بطة وأبو
حفص العكبريان وهو قول عروة بن الزبير واسحاق قال أحمد: عروة قد روى
الأحاديث الثلاثة حديث
(6/272)
عائشة وحديث عمر وحديث عثمان وتركها وذهب
إلى حديث النبي صلى الله عليه وسلم " يرد في حياة الرجل وبعد موته " وهو
قول إسحاق إلا أنه قال إذا مات الرجل فهو ميراث بينهم لا يسع أن يننفع أحد
بما أعطى دون إخوته وأخواته لأن النبي صلى الله عليه وسلم سمى ذلك جوراً
بقوله لبشير " لا نشهدني على جور " والجور لا يحل للفاعل فعله ولا للمعطى
تناوله والموت لا يغيره عن كونه جوراً حراماً فيجب رده ولأن أبا بكر وعمر
أمرا قيس بن سعد يرد قسمة أبيه حين ولد له ولد لم يكن علم به ولا أعطاه
شيئاً وكان ذلك بعد موت سعد فروى سعيد باسناده من طريقين أن سعد بن عبادة
قسم ماله بين أولاده وخرج إلى الشام فمات بها ثم ولد له بعد ذلك ولد فمشى
أبو بكر وعمر رضي الله عنهما إلى قيس بن سعد فقالا إن سعد قسم ماله ولم يدر
ما يكون وإنا نرى أن ترد هذه القسمة فقال لم أكن لأغير شيئاً صنعه سعد ولكن
نصيبي له وهذا معنى الخبر، ووجه الرواية الأولى قول أبي بكر لعائشة رضي
الله عنهما لما نحلها نحلاً وددت أنك كنت حزتيه فيدل على أنها لو كانت
حازته لم يكن لهم الرجوع وقال عمر لا نحلة إلا نحلة يحوزها الولد دون
الوالد ولأنها عطية لولده فلزمت بالموت كما لو انفرد ولأنه حق للأب يتعلق
بمال الولد فسقط بموته كالأخذ من ماله
(فصل) وليس عليه التسوية بين سائر أقاربه ولا إعطاؤهم على قد ميراثهم سواء
كانوا من جهة واحدة كاخوة وأخوات وني عم أو من جهات كبنات وأخوات وغيرهم
وقال أبو الخطاب المشروع في عطية سائر الأقارب أن يعطيهم على قدر ميراثهم
كالأولاد فإن خالف فعليه أن يرجع أو يعمهم بالنحلة لأنهم في معنى الأولاد
فثبت فيهم حكمهم ولنا أنها عطية لغير الأولاد في صحته فلم تجب عليه التسوية
كما لو كانوا غير وارثين ولأن الأصل إباحة الإنسان التصرف في ماله كيف شاء
وإنما وجبت التسوية بين الأولاد للخبر وليس غيرهم في معناهم لأنهم استووا
في بر والدهم فاستوا في عطيته وبهذا علل النبي صلى الله عليه وسلم حين قال
لبشير " أيسرك
(6/273)
أن يستوا في برك " قال نعم قال " فسو بينهم
" ولم يوجد هذا في غيرهم ولأن للوالد الرجوع فيما أعطى ولده فيمكنه أن يسوي
بينهم في الرجوع بما أعطاه لبعضهم ولا يمكن ذلك في غيرهم ولأن الأولاد لشدة
محبة الوالد لهم وصرفه ماله إليهم عادة يتنافسون في ذلك ويشتد عليهم تفضيل
بعضهم ولا يساويهم في ذلك غيرهم فلا يصح قياسه عليهم ولأن النبي صلى الله
عليه وسلم قد علم أن لبشير زوجة ولم يأمره بإعطائها شيئاً حين أمره
بالتسوية بين أولاده ولم يسأله هل لك وارث غير ولدك؟ (فصل) فإن أعطى أحدا
بنيه في صحته والآخر في مرضه فقد توقف أحمد فيه فانه سئل عمن زوج ابنه
فأعطى عنه الصداق ثم مرض الأب وله ابن آخر هل يعطيه في مرضه كما أعطى الآخر
في صحته؟ فقال لو كان أعطاه في صحته فيحتمل وجهين (أحدهما) لا يصح لأن
عطيته في مرضه كوصية له ولو وصى له لم يصح فكذلك إذا أعطاه (والثاني) يصح
وهو الصحيح إن شا الله تعالى لأن التسوية بينهما واجبة ولا طريق لها في هذا
الموضع إلا بعطية الآخر فتكون واجبة فصح كقضاء دينه (فصل) قال أحمد أحب إلي
أن لا يقسم ماله ويدعه إلى فرائض الله تعالى لعله أن يولد له فإن أعطى ولده
ماله ثم ولد له ولد فأعجب إلى أن يرجع فيسوي بينهم بعني يرجع في الجميع أو
يرجع في بعض ما أعطى كل واحد منهم ليدفعه إلى هذا الولد الحادث ليساوي
إخوته فإن أعطى ولده ثم مات ثم ولد له ولد استحب للمعطي أن يساوي المولود
الحادث بعد أبيه
(1) * (مسألة) * (فإن سوى بينهم في الوقف أو وقف ثلثه في مرضه على بعضهم
جاز نص عليه وقياس المذهب أن لا يجوز) إذا سوى بين أولاده في الوقف الذكر
والاثى جاز ذكره القاضي وقال هو المستحب لأن القصد القربة على وجه الدوام
وقد استووا في القرابة وقال شيخنا المستحب أن يقسم الوقف على أولاده
__________
(1) قال الشيخ رحمه الله هذه المسألة مذكورة في الوقف فلا حاجة الى اعادتها
(6/274)
كقسمة الميراث للذكر مثل حظ الأنثيين كما
قسم الله تعالى بينهم الميراث لانه إيصال المال إليهم فينبغي أن يكون بينهم
على حسب الميراث كالوصية ولأن الذكر في مظنة الحاجة أكثر من الأنثى لأن
الذكر تجب عليه نفقة زوجته وأولاده والمرأة ينفق عليها زوجها ولا تلزمها
نفقة ولدها إذا كان لهم أب وقد فضل الله سبحانه الذكر على الأنثى في
الميراث على وفق هذا المعنى فيصح تعليله به فينبغي أن يتعدى إلى الوقف وما
ذكره القاضي لا أصل له وهو ملغي بالميراث فإن خالف فسوى بين الذكر والأنثى
أو فضلها عليه أو فضل بعض البنين على بعض في الوقف أو بعض البنات أو خص
بعضهم بالوقف فقد روي عن أحمد في رواية محمد بن الحكم: إن كان على طريق
الأثرة فأكرهه وان كان على أن بعضهم له عيال وبه حاجة فلا بأس به وذلك لان
الزببر خص المردودة من بناته دون المستغنية منهن بصدقته (1) (فصل) وأما إذا
وقف ثلثه في مرضه على بعض ورثته فقد اختلفت الرواية عن احمد في ذلك فروي
عنه عدم الحواز فإن فعل وقف على إجازة الورثة فإنه قال في رواية إسحاق بن
إبراهيم فيمن وصى لأولاد بنته بأرض توقف عليهم فقال إن لم يرثوه فجائز
فظاهر هذا أنه لا يجوز الوقف عليهم في المرض اختاره أبو حفص العكبري وابن
عقيل وإليه ذهب الشافعي (والثانية) يجوز أن يقف عليهم ثلثه كالأجانب فإنه
قال في رواية جماعة منهم الميموني يجوز للرحل أن يقف في مرضه على ورثته
فقيل له أليس تذهب إلى أنه لا وصية لوارث؟ فقال نعم والوقف غير الوصية
ولأنه لا يباع ولا يورث ولا يصير ملكاً للورثة بل ينتفعون بغلتها وقال في
رواية أحمد بن الحسن أنه صرح في مسئلته بوقف ثلثه على بعض ورثته دون بعض
فقال جائز قال الخبري وأجاز هذا الأكثرون واحتج أحمد
بحديث عمر رضي الله عنه أنه قال: هذا ما أوصى به عبد الله عمر أمير
المومنين إن حدث به حدث
__________
(1) قد ذكرنا ذلك في الوقف
(6/275)
أن ثمغا صدقة والعبد الذي فيه والسهم الذي
بخيبر ورقيقه الذي فيه والمائة وسق الذي أطعمني محمد صلى الله عليه وسلم
تليه حفصة ما عاشت ثم يليه ذو الرأي من أهله لا يباع ولا يشترى ينفقه حيث
يرى من السائل والمحروم وذوي القربى، ولا حرج على من وليه إن أكل أو اشترى
رقيقاً رواه أبو داود بنحو من هذا فالحجة فيه أنه جعل حفصة تلي وقفه وتأكل
منه وتشتري رقيقاً، قال الميموني قلت لاحمد إنما أمر النبي صلى الله عليه
وسلم عمر بالإيقاف وليس في الحديث الوارث، قال فإذا كان النبي صلى الله
عليه وسلم أمره وهوذا قد وقفها على ورثته وحبس الأصل عليهم جميعاً ولأن
الوقف ليس في معنى المال لأنه لا يجوز التصرف فيه فهو كعتق الوارث ولنا أنه
تخصيص لبعض الورثة بماله في مرضه فمنع منه كالهبات ولأن كل من لا تجوز له
الوصية بالعين لا تجوز له بالمنفعة كالأجنبي فيما زاد على الثلث، وأما خبر
عمر فإنه لم يخص بعض الورثة بوقفه والنزاع إنما هو في تخصيص بعضهم وأما جعل
الولاية إلى حفصة فليس ذلك وقفاً عليها فلا يكون ذلك وارداً في محل النزاع
وكونه انتفاعاً بالغلة لا يقتضي جواز التحصيص بدليل ما لو وصى لوارثه
بمنفعة عبد لم يجز، ويحتمل أن يحمل كلام أحمد في رواية الجماعة على أنه وقف
على جميع الورثة ليكون على وفق حديث عمر وعلى وفق الدليل الذي ذكرناه والله
أعلم (فصل) فإن وقف داره وهي تخرج من ثلثه بين ابنه وبنته نصفين في مرض
موته صح على رواية الجماعة ولزم لأنه لما كان يجوز تخصيص البنت بوقف الدار
كلها فنصفها أولى وعلى الرواية التي نصرناها إن أجازه الابن جاز وإن رده
بطل الوقف فيما زاد على نصيب الابن وهو السدس ويرجع إلى الابن ملكاً فيكون
له النصف وقفاً والسدس ملكا طقا والثلث جميعه للبنت وقفاً، ويحتمل أن يبطل
الوقف في نصف ما وقف على البنت وهو المربع ويبقى ثلاثة أرباع الدار وقفاً
نصفها للابن وربعها للبنت والربع الذي بطل الوقف فيه بينهما أثلاثاً، وتصح
المسألة من اثني عشر للابن ستة أسهم وقفاً وسهمان ملكاً
(6/276)
وللبنت ثلاثة أسهم وقفاً وسهم ملكاً، ولو
وقفها على ابنه وزوجته نصفين وهي تخرج من ثلثه فرد الابن صح الوقف على
الابن في نصفها وعلى المرأة في ثمنها، وللابن إبطال الوقف في ثلاثة أثمانها
وترجع إليه ملكاً على الوجه الأول، وعلى الوجه الثاني يصح الوقف على الابن
في نصفها وهو أربعة أسباع نصيبه ويرجع إليه باقي نصيبه ملكاً، ويصح الوقف
في أربعة أسباع الثمن الذي للمرأة وباقيه يكون لها ملكاً فاضرب سبعة في
ثمانية تكن ستة وخمسين للابن ثمانية وعشرون وقفاً وإحدى وعشرون ملكاً
وللمرأة أربعة أسهم وقفاً وثلاثة ملكاً وهكذا ذكر أصحاب الشافعي، فأما إن
كانت الدار جميع ملكه فوقفها كلها فعلى ما اخترناه الحكم فيها كما لو كانت
تخرج من الثلث فإن الورث في جميع المال كالأجنبي في الزائد عن الثلث، وأما
على ما رواه الجماعة فإن الوقف يلزم في الثلث من غير اختيار الورثة وما زاد
فلهما إبطال الوقف فيه وللابن إبطال التسوية فإن اختار إبطال التسوية دون
إبطال الوقف خرج فيه وجهان (أحدهما) أنه يبطل الوقف في التسع ويرجع إليه
ملكاً فيصير له النصف وقفاً والتسع ملكاً وللبنت الثلث وقفاً ونصف التسع
ملكاً لئلا تزداد البيت على الابن في الوقف، وتصح المسألة في هذا الوجه من
ثمانية عشر للابن تسعة وقفاً وسهمان ملكاً وللبنت ستة وقفاً وسهم ملكاً،
وقال أبو الخطاب له إبطال الوقف في الربع كله ويصير له النصف وقفاً والسدس
ملكاً ويكون للبنت الربع وقفاً ونصف السدس ملكاً كما لو كانت الدار تخرج من
الثلث وتصح من اثني عشر * (مسألة) * (ولا يجوز لواهب أن يرجع في الهبة) لا
يختلف المذهب أن غير الأب والأم لا يجوز له الرجوع في الهبة والهدية وبه
قال الشافعي، وقال النخعي والثوري وإسحق وأصحاب الرأي: من وهب لغير ذي رحم
فله الرجوع ما لم يثب عليها ومن وهب لذي رحم فليس له الرجوع، وروي ذلك عن
عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما روى أبو هريرة قال قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم " الرجل أحق بهبته ما لم يثب منها " رواه ابن ماجه لقول عمر رضي
الله عنه: من وهب هبة يرى أنه أراد بها صلة الرحم أو على وجه صدقة فإنه لا
يرجع فيها، ومن وهب هبة أراد بها الثواب فهو على هبته يرجع فيها ما لم يرض
منها رواه مالك في الموطأ ولأنه
لم يحصل عنها عوض فجاز له الرجوع فيها كالعارية
(6/277)
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم "
العائد في هبته كالعائد في قيئه وفي لفظ " كالكلب يعود في قيئه " وفي رواية
" ليس لنا مثل السوء العائد في هبته كالكلب يعود في قيئه " متفق عليه، وروى
عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي الله صلى الله عليه وسلم قال " لا
يرجع واهب في هبته إلا الوالد من ولده " ولأنه واهب لا ولاية له في المال
فلم يرجع في هبته لذي الرحم المحرم وأحاديثنا أصح من حديثهم وأول، وقول عمر
قد روي عن ابنه وابن عباس خلافه، وأما العارية فهي هبة المنافع ولم يحصل
القبض فيها فإن قبضها باستيفائها فنظير مسئلتنا ما استوفى من منافع العارية
فإنه لا يجوز الرجوع فيها وقياسهم منقرض بهة الأجنبي فإن فيها ثواباً وقد
جوزوا فيها الرجوع فحصل الاتفاق على أن ما وهب الإنسان لذوي رحمه المحرم
غير الوالدين لا رجوع فيها وكذلك ما وهب الزوج امرأته والخلاف فيما عدا هذا
فعندنا لا يرجع إلا الوالد وعندهم لا يرجع إلا الأجنبي (فصل) فأما الأب فله
الرجوع فيما وهب لولده في ظاهر المذهب سواء قصد برجوعه التسوية بين أولاده
أولا وبه قال مالك والشافعي والاوزاعي وإسحق وأبو ثور، وعن أحمد رواية أخرى
ليس له الرجوع وبها قال أصحاب الرأي والثوري وللعنبري لقول النبي صلى الله
عليه وسلم " العائد في هبته كالعائد في قيئه " متفق عليه، ولما ذكرنا من
حديث عمر ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم لقيس بن سعد " فاردده " وروي "
فأرجعه " رواه كذلك عن مالك عن الزهري عن حميد بن عبد الرحمن عن النعمان
فأمره بالرحوع في هبته وأقل أحوال الأمر الجواز، وقد امتثل بشير بن سعد ذلك
فرجع في هبته لولده، ألا تراه قال في الحديث: فرجع أبي فرد تلك الصدقة؟ فإن
قيل يحمل الحديث على أنه لم يكن أعطاه شيئاً قلنا هذا يخالف ظاهر الحديث
لقوله تصدق أبي علي بصدقة، وقول بشير إني نحلت ابني غلاماً يدل على أنه كان
قد أعطاه وقول النبي صلى الله عليه وسلمه " فاردده " وروى طاوس عن ابن عمر
وابن عباس يرفعان الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال
(6/278)
" ليس لأحد أن يعطي عطية فيرجع فيها إلا
الوالد فيما يعطي ولده " رواه الترمذي وقال حديث حسن وهذا يخص عموم ما رووه
وقياسهم منقرض بهبة الأجنبي فإن فيها أجراً وثواباً فإن النبي صلى الله
عليه وسلم ندب إليها وعندهم له الرجوع فيها والصدقة على الولد كمسئلتنا،
وقد دل حديث النعمان بن بشير على جواز الرجوع في الصدقة قول تصدق علي أبي
بصدقة (فصل) فأما الأم فظاهر كلام أحمد أنه ليس لها الرجوع، قال الأثرم:
قلت لأبي عبد الله الرجوع للمرأة فيما أعطت ولدها كالرجل؟ قال ليس هي عندي
كالرجل لأن للأب أن يأخذ من مال ولده والأم لا تأخذ وذكر حديث عائشة " أطيب
ما أكل الرجل من كسبه وإن ولده من كسبه " أي كأنه الرجل، ولا يصح قياس الأم
على الأب لأن للاب ولاية على ولده ويحوز جميع المال في الميراث بخلاف الأم،
ويحتمل أن لها الرجوع وهو ظاهر كلام الخرقي فإنه قال: وإذا فاضل بين أولاده
أمر برده فيدخل فيه الأم وهذا مذهب الشافعي لأنها داخلة في قوله إلا الولد
فيما يعطي ولده ولأنها دخلت في قول النبي صلى الله عليه وسلم " سووا بين
أولادكم " فينبغي أن يتمكن من الرجوع في الهبة ولأنه طريق إلى التسوية
وربما لا يكون لها طريق غيره إذا لم يمكن أعطت الآخر كما أعطت لاول لأنها
ساوت الأب في تحريم تفضيل بعض ولدها ينبغي أن تساويه في التمكن من الرجوع
فيما فضلته به تخليصاً لها من الاثم وإزلة التفضيل المحرم كالأب وهذا
الصحيح إن شاء الله تعالى، وقال مالك للأم الرجوع فيما وهبت ولدها ما كان
أبوه حيا فإن كان ميتاً فلا رجوع لها لأنها هبة ليتيم وهبة اليتيم لازمة
كصدقة التطوع، ومن مذهبه أنه لا يرجع في صدقة التطوع (فصل) وحكم الصدقة حكم
الهبة فيما ذكرنا وهو مذهب الشافعي، وفرق مالك وأصحاب الرأي بينهما فلم
يجيزوا الرجوع في الصدقة بحال واحتجوا بحديث عمر: من وهب هبة أراد بها صلة
الرحم أو على وجه صدقة فإنه لا يرجع
(6/279)
ولنا حديث النعمان فإنه قال: تصدق أبي علي
بصدقة فرجع أبي فرد تلك الصدقة، وأيضاً قول النبي صلى الله عليه وسلم " إلا
الوالد فيما يعطي ولده " وهذا يقدم على قول عمر ثم هو خاص في الولد، وحديث
عمر فيجب تقديم الخاص عليه (فصل) وللرجوع في هبة الولد شروط أربعة (أحدها)
أن يبقى ملك الابن فيها فإن خرجت عن ملكه ببيع أو هبة أو وقف أو غير ذلك لم
يكن له الرجوع فيها لأنه إبطال لملك غير الولد فأشبه غير الموهوب للولد
(الثاني) أن تكون العين باقية في تصرف الولد يلك التصرف في رقبتها فإن
استولد الأمة لم يملك الرجوع لأن الملك فيها لا يجوز نقله إلى غير سيدها
وكذلك إن أفلس وحجر عليه أو رهن العين لأنه يفضي إلى إبطال حق غير الولد
فإن زال المانع من التصرف فله الرجوع لأن ملك الابن لم يزل وإن اطرأ معنى
قطع التصرف مع بقاء الملك فمنع لرجوع فإذا زال زال المنع والصحيح في
التدبير أنه لا يمنع الرجوع فإن قلنا يمنع البيع منع الرجوع كالاستيلاد،
وكل تصرف لا يمنع الابن التصرف في الرقبة كالوصية والهبة قبل القبض فيما
يفتقر إليه والوطئ والتزويج والإجارة والمزارعة عليها وجعلها مضاربة أو في
عقد شركة فكل ذلك لا يمنع الرجوع لأنه لا يمنع تصرف الابن في رقبتها وكذلك
تعليق العتق بصفة وإذا رجع وكان التصرف لازماً كالإجارة والتزويج والكتابة
فهو باق بحاله لأن الابن لا يملك إبطاله وأما التدبير والمعلق عتقه بصفة
فلا يبقى حكمها في حق الأب ومتى عاد إلى الابن عاد حكمها والبيع الذي للابن
فيه خيار إما بالشرط أو عيب في الثمن أو غير ذلك فيمنع الرجوع لأن الرجوع
يتضمن فسخ ملك الابن في عوض المبيع ولم يثبت ذلك من جهته (فصل) فإن تعلق
بها رغبة لغير الولد مثل أن يهب ولده شيئاً فيرغب الناس في معاملته
ويداينونه أو في مناكحته فيزوجوه أو يهب بنته فتتزوج لذلك فعن أحمد روايتان
(أولاهما ليس له الرجوع قال أحمد في رواية أبي الحارث في الرجل يهب ابنه
مالاً فله الرجوع إلا أن يكون غر به قوماً فإن غر به
(6/280)
فليس له الرجوع، وهذا مذهب مالك لأنه تعلق
بها حق غير الابن ففي الرجوع إبطال حقه وقد قال عليه الصلاة والسلام " لا
ضرر ولا اضرار " وفي الرجوع ضرر ولأن في هذا تحيلاً على إلحاق الضرر
بالمسلمين ولا يجوز ذلك (والثانية) له الرجوع لعموم الخبر ولأن حق المتزوج
والغريم لم يتعلق بعين هذا المال فلم يمنع الرجوع فيه وإن داينه الناس
فأفلس ولم يحجر عليه فعلى الروايتين
* (مسألة) * (وإن نقصت العين أو زادت زيادة مفصلة لم تمنع الرجوع والزيادة
للابن ويحتمل أنها للأب وهل تمنع المتصلة الرجوع؟ على روايتين) أما الزيادة
المنفصلة كالولد وثمرة الشجرة وكسب العبد فلا تمنع الرجوع بغير خلاف نعلمه
والزيادة للولد لأنها حادثة في ملكه ولا تتبع في الفسوخ فلا تتبع ههنا،
ويحتمل أنها للأب ذكره القاضي كالرد بالعيب، فإن كانت لزيادة ولد أمة لا
يجوز التفريق بينه وبين أمه منع الرجوع لأنه يلزم منه التفريق بينه وبين
أمه وهو محرم إلا أن نقول أن الزيادة المنفصلة للأب فلا تمنع الرجوع لأنه
يرجع فيهما جميعاً أو يرجع في الأم ويتملك الولد من مال ولده (فصل) فإن تلف
بعض العين أو نقصت قيمتها لم يمنع الرجوع فيها ولا ضمان على الابن فيما تلف
منها لأنه تلف على ملكه سواء تلف بفعل الابن أو بغير فعله وإن جنى العبد
جناية تعلق أرشها برقبته فهو كنقصانه بذهاب بعض أجزائه وللأب الرجوع فيه
فإن رجع فيه ضمن أرش الجناية وإن جني على العبد فرجع الأب فيه فأرش الجناية
عليه للابن لأنه بمنزلة الزيادة المنفصلة فإن قيل فلو أراد الأب الرجوع في
الرهن وعليه فككه لم يملك ذلك فكيف يملك الرجوع في العبد الجاني إذا أدى
أرش الجناية؟ قلنا الرهن يمنع التصرف في العين بخلاف الجناية ولأن فك الرهن
فسخ لعقد عقده الموهوب له وههنا لم يتعلق الحق به من جهة العقد فافترقا
(فصل) فأما الزيادة المتصلة كالسمن والكبر وتعلم صنعة إذا زادت بها القيمة
فعن أحمد فيها روايتان
(6/281)
(إحداهما) لا تمنع الرجوع وهو مذهب الشافعي
لأنها زيادة في الموهوب فلم تمنع الرجوع كالزيادة قبل القبض والمنفصلة
(والثانية) تمنع وهو مذهب أبي حنيفة لأن الزيادة للموهوب له لكونها نماء
ملكه ولم تنتقل إليه من جهة أبيه فلم يملك الرجوع فيها كالمنفصلة وإذا
امتنع الرجوع فيها امتنع الرجوع في الأصل لئلا يفضي إلى سوء المشاركة وضرر
التشقيص ولأنه فسخ استرجاع المال يفسخ عقد لغير عيب في عوضه فمنعه الزيادة
المتصلة كاسترجاع الصداق بفسخ النكاح أو نصفه بالطلاق ورجوع البائع في
المبيع لفلس المشتري وفارق الرد بالعيب من جهة أن الرد من المشتري وقد رضي
ببذل الزيادة وإن فرض
الكلام فيما إذا باع عرضاً بعرض فراد أحدهما ووجد المشتري بالآخر عيباً
قلنا بائع المعيب سلط المشتري على الفسخ ببيعه المعيب فكان الفسخ وجد منه
ولهذا قلنا فيما إذا فسخ لزوج النكاح لعيب المرأة قبل الدخول سقط صداقها
كما لو فسخته وعلى هذا لا فرق بين الزيادة في العين كالسمن والطول ونحوهما
أو في المعاني كتعلم صناعة أو كتابة أو قران أو علم أو إسلام أو قضاء دين
عنه وبهذا قال محمد بن الحسن وقال أبو حنيفة الزيادة بتعلم القرآن وقضاء
دين عنه لا تمنع الرجوع ولنا أنها زيادة لها مقابل من الثمن فمنعت الرجوع
كالسمن وتعلم صنعة وإن زاد ببرئه من مرض أو صمم منع الرجوع كسائر الزيادات
وإن كانت زيادة العين أو التعلم لا تزيد في قيمته شيئاً أو تنقص منها لم
تمنع الرجوع لأنه ليس بزيادة في المالية (فصل) فإن قصر العين أو فصلها فهي
زيادة متصلة هل تمنع الرجوع اولا؟ مبني على الروايتين في السمن قال شيخنا
ويحتمل أن تمنع هذه الزيادة الرجوع بكل حال لأنها حاصلة بفعل الابن فجرت
مجرى العين الحاصلة بفعله بخلاف السمن فإنه يحتمل أن يكون للأب فلا يمنع
الرجوع لأنه نماء العين فيكون نابعا لها وإن وهبه حاملاً فولدت في يد الابن
فهي زيادة متصلة في الولد ويحتمل أن يكون الولد زيادة منفصلة إذا قلنا
الحمل لا حكم له وإن وهبه حاملاً ثم رجع فيها حاملاً جاز إذا لم تزد قيمتها
(6/282)
وإن زادت قيمتها فهي زيادة متصلة، وإن وهب
حائلاً فحملت فهي زيادة منفصلة وله الرجوع فيها دون حملها وإن قلنا أن
الحمل لا حكم له فزادت به قيمتها فهي زيادة متصلة وإن لم تزد جاز الرجوع
فيها وإن وهبه نخلاً فحملت فهي قبل التأبير زيادة متصلة وبعده زيادة منفصلة
* (مسألة) * (وإن باعه المتهب ثم رجع إليه بفسخ أو إقالة فهل له الرجوع؟
على وجهين) إذا خرجت العين عن ملك الابن ببيع أو هبة ثم عادت إليه بسبب
كبيع أو هبة أو وصية أو إرث أو نحوه لم يملك الأب الرجوع فيها لأنها عادت
بملك جديد لم يستفده من قبل أبيه فلا يملك فسخه وإزالته كالذي لم يكن
موهوباً وإن عادت إليه بفسخ العيب أو إقالة أو فلس المشتري ففيها وجهان
(أحدهما) يملك الرجوع لأن السبب المزيل ارتفع وعاد الملك بالسبب الأول
فأشبه
ما لو فسخ البيع بالخيار (والثاني) لا يملك الرجوع لأن الملك عاد إليه بعد
استقرار ملك من انتقل إليه عليه أشبه ما لو عاد إليه بالهبة فأما إن عاد
إليه بخيار الشرط أو خيار المجلس فله الرجوع لأن الملك لم يستقر عليه.
* (مسألة) * (وإن وهبه المتهب لابنه لم يملك أبوه الرجوع إلا أن يرجع هو)
لأن رجوعه إبطال لملك غير ابنه فإن رجع الابن في هبته احتمل أن يملك الأب
الرجوع في هبته لأنه فسخ هبته برجوعه فعاد إليه الملك بالسبب الأول ويحتمل
أن لا يملك الأب الرجوع لأنه رجع إلى ابنه بعد استقرار ملك غيره عليه فأشبه
ما لو وهبه ابن الابن لابنه.
* (مسألة) * (وإن كاتبه أو رهنه لم يملك أبوه الرجوع إلا أن ينفك الرهن
وينفسخ) أما إذا رهنه الابن فليس للأب الرجوع قبل انفكاك الرهن لأن في ذلك
إبطال حق غير الولد فإن انفك الرهن فله الرجوع لزوال المانع ولأنه عاد إلى
صحة تصرف الابن فيه أشبه غير المرهون وحكم الكتابة كذلك عند من لا يرى بيع
المكاتب وهو مذهب الشافعي وجماعة غيره فأما من أجاز بيع المكاتب فحكمه عنده
كالعين المستأجرة والمزوج على ما ذكرناه
(6/283)
(فصل) والرجوع في الهبة أن يقول قد رجعت
فيها أو ارتجعتها أو رددتها أو نحو ذلك من الألفاظ الدالة على الرجوع ولا
يفتقر إلى حكم حاكم، وبه قال الشافعي وقال أبو حنيفة لا يصح الرجوع إلا
بقضاء قاض لأن ملك الموهوب له مستقر ولنا أنه خيار في فسخ عقد فلم يفتقر
إلى قضاء كالفسخ بخيار الشرط فإن أخذ ما وهبه لولده ونوى به الرجوع كان
رجوعاً والقول قوله في نيته لأن ذلك لا يعلم إلا منه، فإن مات الأب ولم
يعلم هل نوى الرجوع أو لا؟ ولم توجد قرينة تدل على الرجوع لم نحكم بأنه
رجوع لأن الأخذ يحتمل الرجوع وغيره، فلا نزيل حكماً يقينياً بأمر مشكوك فيه
فإن اقترنت به قرائن دالة على الرجوع كان رجوعاً في أحد الوجهين اختاره ابن
عقيل لأننا اكتفينا في العقد بدلالة الحال في الفسخ ولأن لفظ الرجوع إنما
كان رجوعاً لدلالته عليه فكذلك كل ما دل عليه، والآخر لا يكون رجوعاً، وهو
مذهب الشافعي لأن الملك
ثابت للموهوب له يقيناً فلا يزول إلا بالصريح، قال شيخنا ويمكن أن ينبني
هذا على نفس العقد فمن أوجب الإيجاب والقبول فيه لم يكتف ههنا إلا بلفظ
يقتضي زواله، ومن اكتفى في العقد بالمعاطاة الدالة على الرضى به فههنا
أولى، فإن نوى الرجوع من غير فعل ولا قول لم يحصل الرجوع وجهاً واحداً لأنه
إثباتا لملك على مال مملوك لغيره فلم يحصل بمجرد النية كسائر العقود، وإن
علق الرجوع بشرط فقال إذا جاء رأس الشهر فقد رجعت في الهبة لم يصح لأن
الفسخ للعقد لا يقف على شرط لا يقف العقد عليه * (مسألة) * (وعن أحمد في
المرأة تهب زوجها مهرها إن كان سألها ذلك رده إليها رضيت أو كرهت لأنها لا
تهبه له إلا مخافة غضبه أو إضرار بها بأن يتزوج عليها) اختلفت الرواية عن
أحمد في هبة المرأة زوجها، فعنه لا رجوع لها، وهذا ظاهر كلام الخرقي
واختيار أبي بكر، وبه قال عمر بن عبد العزيز والنخعي وربيعة ومالك والثوري
والشافعي وأبي ثور
(6/284)
وأصحاب الرأي وعطاء وقتاده لقول الله تعالى
(إلا أن يعفون) وقال تعالى (فإن طبن لكم عن شئ منه نفسا) الآية، وعموم
الأحاديث وعنه رواية ثانية لها الرجوع.
قال الأثرم سمعت احمد يسئل عن المرأة تهب ثم ترجع فرأيته يجعل النساء غير
الرجال ثم ذكر الحديث " إنما يرجع في المواهب النساء وشرار الناس " وذكر
حديث عمر: إن النساء يعطين أزواجهن رغبة ورهبة فأيما امرأة أعطت زوجها
شيئاً ثم أرادت أن تعتصره فهي أحق، رواه الأثرم، وهذا قول شريح والشعبي
وحكاه الزهري عن القضاة.
وعنه رواية ثالثة نقلها عنه أبو طالب: إذا وهبت له مهرها فإن كان سألها ذلك
رده إليها رضيت أو كرهت لأنها لا تهب إلا مخافة غضبه أو إضرار بأن يتزوج
عليها، وإن لم يكن سألها وترغب به فهو جائز فظاهر هذه الرواية أنه متى كانت
مع الهبة قرينة من مسألته لها أو غضب عليها أو ما يدل على خوفها منه فلها
الرجوع لأن شاهد الحال يدل على أنها لم تطب به نفساً وإنما أباحه الله
تعالى عند طيب نفسها بقوله تعالى (فإن طبن لكم عن شئ منه نفسا فكلوه هنيئا
مريئا فيكون فيها ثلاث روايات
(إحداها) ليس لها الرجوع كالأجنبي (والثانية) لها الرجوع مطلقاً لحديث عمر
(والثالثة) التفصيل الذي ذكرناه.
* (فصل) * (قال رضي الله عنه) وللأب أن يأخذ من مال ولده ما شاء ويتملكه مع
حاجته وعدمها في صغره وكبره ما لم تتعلق حاجة الابن به) إنما يجوز ذلك
بشرطين (أحدهما) أن لا يجحف بالابن ولا يضر به ولا يأخذ شيئاً تعلقت به
حاجته (الثاني) أن لا يأخذ من مال ولد فيعطيه الآخر نص عليه أحمد في رواية
اسماعيل بن سعيد لأنه ممنوع من تخصيص بعض ولده بالعطية من مال نفسه فلأن
يمنع من تخصيصه بما أخذه من مال ولده الآخر أولى وقد روي أن مسروقاً زوج
ابنته بصداق، عشرة آلاف فأخذها فأنفقها في
(6/285)
سبيل الله وقال للزوج جهز امرأتك وقال أبو
حنيفة ومالك والشافعي ليس له أن يأخذ من مال ولده إلا بقدر حاجته لقول
النبي صلى الله عليه وسلم " إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا
في بلدكم هذا في شهركم هذا " متفق عيه وروى الحسن أن النبي صلى الله عليه
وسلم قال " كل أحد أحق بكسبه من ولده ووالده والناس أجمعين " رواه سعيد في
سننه، وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن
طيب نفسه " رواه الدارقطني ولأن لك لابن تام على مال نفسه فلم يجز انتزاعه
منه كالذي تعلقت به حاجته ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " إن أطيب ما
أكلتم من كسبكم وإن أولادكم من كسبكم " أخرجه سعيد والترمذي وقال حديث حسن،
وروى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه
وسلم فقال إن أبي احتاج مالي فقال " أنت ومالك لأبيك " رواه الطبراني في
معجمه مطولاً، ورواه ابن ماجة وروي أبو داود نحوه ورواه غيره وزاد " وإن
أولادكم من أطيب كسبكم فكلوا من أموالهم " وروى محمد بن المنكدر والمطلب بن
حنطب قال جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال إن لي مالاً وعيالاً
ولأبي مال وعيال وأبي يريد أن يأخذ مالي فقال النبي صلى الله عليه وسلم "
أنت ومالك لأبيك " رواه سعيد في سننه ولأن الله تعالى جعل الولد موهوباً
لأبيه فقال (ووهبنا له إسحاق ويعقوب) وقال (ووهبنا له يحيى) وقال زكريا (هب
لي من لدنك وليا) وقال براهيم (الحمد لله الذي وهب لي
على الكبر إسماعيل وإسحاق) وما كان موهوباً له كان له أخذ ماله كعبده قال
سفيان بن عيينة في قوله تعالى (ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم أو بيوت
آبائكم) ثم ذكر بيوت سائر القرابات إلا الأولاد لم يذكرهم لأنهم دخلوا في
قوله من بيوتكم فلما كانت بيوت أولادهم كبيوتهم لم يذكر بيوت أولادهم ولأن
الرجل يلي مال ولده من غير تولية فكان له التصرف فيه كمال نفسه، وأما
أحاديثهم فأحاديثنا تخصها وتفسرها فإن النبي صلى الله عليه وسلم جعل مال
الابن مالاً لأبيه بقوله " أنت ومالك لأبيك " ولا تنافي بينهما وقوله عليه
السلام " أحق به من والده وولده " الحديث مرسل ثم هو يدل على ترجيح حقه على
حق
(6/286)
أبيه لا على نفي الحق بالكلية والولد أحق
من الوالد فيما تعلقت به حاجته.
* (مسألة) * (فإن تصرف فيه قبل تملكه ببيع أو عتق أو إبراء من دين لم يصح
تصرفه فيه) نص عليه أحمد قال لا يجوز عتق الأب لعبد ابنه ما لم يقبضه، فعلى
هذا لا يصح إبراؤه من دينه ولا هبته لماله ولا بيعه له لأن ملك الابن تام
على مال نفسه يصح تصرفه فيه، وذكر ابن أبي موسى في الإرشاد قال إذا وهب
الابن من ماله شيئاً فليس لأبيه الاعتراض عليه إلا أن يكون للولد عقار
يكفيه ويكفي أباه ولا مال له غيره ولا مال لأبيه فإن أحمد قال إن اعترض
عليه الوالد رأيت أن يرده الحاكم على الأب ولا يبقى فقيراً لا حيلة له،
ويحل له وطئ جواريه ولو كان الملك مشتركاً لم يحل له الوطئ كما لا يحل وطئ
الجارية المشتركة وإنما للاب انزاعه منه كالعين التي وهبها إياه فقبل
انتزاعها لا يصح تصرفه لأنه تصرف في ملك غيره بغير ولاية، وإن كان الابن
صغيراً لم يصح أيضاً لأنه لا يملك التصرف بما لا حظ للصغير فيه وليس من
الحظ إسقاط دينه وعتق عبده وهبة ماله قال أحمد بين الرجل وبين ولده ربا لما
ذكرنا من أن ملك الابن على ماله تام * (مسألة) * (وإن وطئ جارية ابنه
فأحبلها صارت أم ولد له وولده حر لا تلزمه قيمته ولا حد عليه ولا مهر وفي
التعزير وجهان) قال أحمد لا يطأ جارية الابن إلا أن يقبضها يعني يتملكها
لأنه إذا وطئها قبل تملكها فقد وطئها وليست زوجة ولا ملك يمين فإن تملكها
لم يحل له وطؤها حتى يستبرئها لأنه ابتداء ملك
فوجب الاستبراء فيه كما لو اشتراها، فإن كان الابن قد وطئها لم تحل له بحال
فإن وطئها قبل تملكها ولم يكن الابن وطئها كان محرماً من وجهين (أحدهما)
أنه وطئها قبل تملكها (والثاني) أنه وطئها قبل استبرائها وإن كان الابن
وطئها حرمت بوجه ثالث وهو أنها صارت بمنزلة حليلة ابنه فإن فعل فلا حد عليه
لشبهة الملك فإن النبي صلى الله عليه وسلم أضاف مال الولد إلى أبيه فقال "
أنت ومالك لأبيك "
(6/287)
وإن ولدت منه صارت أم ولد له وولده حر لانه
من وطئ سقط فيه الحد للشبهة وليس للابن مطالبته بشئ من قيمتها ولا قيمة
ولدها ولا مهر ويجب تعزيره في أحد الوجهين لأنه وطئ وطأً محرما أشبه وطئ
الجارية المشتركة.
والثاني لا يعزر لأنه لا يقتص منه بالجناية على ولده فلا يعزر بالتصرف في
ماله، والأول أولى لأن التعزير ههنا حق لله تعالى بخلاف الجناية على ولده
لأنها حق للولد (فصل) وليس لغير الأب الأخذ من مال غيره بغير إذنه للأحاديث
التي ذكرناها لأن الخبر ورد في الأب بدليل قوله عليه السلام " أنت ومالك
لأبيك " ولا يصح قياس غيره عليه لأن للاب ولاية على ولده وماله إذا كان
صغيراً وله شفقة تامة وحق متأكد، ولا يسقط ميراثه بحال والأم لا تأخذ لأنها
لا ولاية لها والجد أيضاً لا يلي على مال ولد ابنه وشفقته قاصرة عن شفقة
الأب ويحجب به في الميراث وفي ولاية النكاح، وغيرهما من الاقارب والاحانب
ليس لهم الأخذ بطريق التنبيه لأنه إذا امتنع الأخذ في حق الأم والجد مع
مشاركتهما للأب في بعض المعاني فغيرهما ممن لا يشارك في ذلك أولى ويحتمل أن
يجوز للأم لدخول ولدها في قول الله تعالى (وأولادكم) * (مسألة) * (وليس
للابن مطالبة أبيه بدين ولا قيمة متلف ولا أرش جناية ولا غير ذلك) وبه قال
الزبير بن بكار ومقتضى قول سفيان بن عيينة وقال أبو حنيفة ومالك والشافعي
له ذلك لأنه دين ثابت فجازت المطالبة به كغيره ولنا أن رجلا جاء إلى النبي
صلى الله عليه وسلم بأبيه يقتضيه ديناً عليه فقال " أنت ومالك لأبيك " رواه
الخلال باسناده وروى الزبير بن بكار في الموفقيات أن رجلاً استقرض من أبيه
مالاً فحبسه فأطال حبسه فاستعدى عليه الابن علي بن أبي طالب رضي الله عنه
وذكر قصته في شعر فأجابه أبوه بشعر
أيضاً فقال علي رضي الله عنه
(6/288)
قد سمع القاضي ومن ربى الفهم * المال للشيخ
جزاء بالنعم يأكله برغم أنف من رغم * من قال قولاً غير ذا فقد ظلم وجار في
الحكم وبئس ما جرم قال الزبير إلى هذا نذهب ولأن المال أحد نوعي الحقوق فلم
يملك مطالبة أبيه به كحقوق الأبدان ويفارق الأب غيره بما يثبت له من الحق
على ولده فإن مات الابن فانتقل الدين إلى ورثته لم يملكوا مطالبة الأب لأن
موروثهم لم يكن له المطالبة فهم أولى، فإن مات الأب فقيل يرجع الابن في
تركته بدينه لأن دينه عليه لم يسقط عن الأب وإنما تأخرت المطالبة وعن أحمد
إذا مات الأب بطل دين الابن وقال فيمن أخذ من مهر ابنته شيئاً فأنفقه ليس
عليه شئ ولا يؤخذ من بعده وما أصابت من المهر من شئ بعينه أخذته وتأول
أصحابنا كلام أحمد على أنه أخذه على سبيل التمليك لأن أخذه له وإنفاقه دليل
على قصد التمليك فيثبت الملك له بذلك الأخذ والله أعلم * (مسألة) *
(والهدية والصدقة نوعان من الهبة) والعطية تشمل الكل وكذلك النحلة ومعانيها
كلها متقاربة إلا أنه في الغالب من أعطى شيئاً ينوي به التقرب إلى الله
تعالى للمحتاجين سمي صدقة وإن دفع إلى غير محتاج للتقرب والمحبة فهي هبة،
ومن بعث على هذا إلى إنسان مع غيره سمي هدية وكل ذلك مستحب مندوب إليه
وأحكام ذلك أحكام الهبة ويشترط لها ما يشترط من الشروط على ما سبق.
* (فصل) * في عطية المريض قال الشيخ رحمه الله (أما المريض غير مرض الموت
أو مرضاً غير مخوف كالرمد ووجع الضرس والصداع ونحوه فعطاياه كعطايا الصحيح
سواء تصح من جميع ماله) وجملة ذلك أن عطايا المريض إذا برأ من مرضه أو كان
مرضاً غير مخوف كالذي ذكره وكذلك ما في معناه كالجرب والحمى اليسيرة ساعة
أو نحوها والإسهال اليسير من غير دم فعطاياه مثل عطايا الصحيح لأنه لا يخاف
منه في العادة
(6/289)
* (مسألة) * (وإن كان مرض الموت المخوف
كالبرسام وهو بخار يرتقي إلى الرأس ويؤثر في الدماغ فيختل عقل صاحبه، وذات
الجنب وهو قرح بباطن الجنب ووجع القلب والرئة فإنها لا تسكن حركتها فلا
يندمل جرحها والرعاف الدائم فإنه يصفي الدم فيذهب القوة والقولنج وهو أن
ينعقد الطعام في بعض الأعضاء ولا ينزل عنه فهذه مخوفة، وإن لم يكن معها حمى
وهي مع الحمى أشد خوفاً وإن ثار الدم واجتمع في عضو كان مخوفاً لأنه من
الحرارة المفرطة، وإن هاجت به الصفراء فهي مخوفة لأنها تورث يبوسة وكذلك
البلغم إذا هاج لأنه من شدة البرودة وقد تغلب على الحرارة الغريزية
فتطفيها، والطاعون مخوف لأنه من شدة الحرارة إلا أنه يكون في جميع البدن،
وأما الإسهال فإن كان متحرقاً لا يمكنه إمساكه فهو مخوف وإن كان ساعة لأن
من لحقه ذلك أسرع في هلاكه، وإن كان يجري تارة وينقطع أخرى فإن كان يوماً
أو يومين فليس بمخوف لأن ذلك قد يكون من فضلة الطعام.
إلا أن يكون معه زحير أو تقطيع كأن يخرج متقطعاً فإنه يكون مخوفاً لأن ذلك
يضعف وإن دام الإسهال فهو مخوف سواء كان معه ذلك أو لم يكن، وكذلك الفالج
في ابتدائه والسل في انتهائه والحمى المطبقة، وما أشكل من ذلك رجع فيه إلى
قول عدلين من الأطباء لأنهم أهل الخبرة بذلك ولا يقبل قول واحد لأنه يتعلق
به حق الوارث والمعطي، وقياس قول الخرقي أنه يقبل قول واحد عدل إذا لم يقدر
على طبيبين.
فهذا الضرب وما أشبهه عطاياه صحيحة لأن عمر رضي الله عنه أوصى حين جرح
فسقاه الطبيب لبناً فخرج من جرحه فقال له الطبيب أعهد إلى الناس فعهد إليهم
ووصى فاتفق الصحابة على قبول عهده ووصيته وكذلك ابو بكر رضي الله عنه عهد
إلى عمر حين اشتد مرضه فنفذ عهده.
(فصل) فإن كان المريض يتحقق تعجيل موته فإن كان عقله قد اختل مثل من ذبح أو
أبينت حشوته فلا حكم لكلامه ولا لعطيته وإن كان ثابت العقل كمن خرقت حشوته
واشتد مرضه ولم يتغير عقله صح تصرفه وعطيته لما ذكرنا من حديث عمر وكذلك
علي رضي الله عنهما بعد ضرب ابن
(6/290)
ملجم وصى وأمر ونهى ولم يختلف في صحة ذلك *
(مسألة) * (فعطاياه كالوصية في أنها لا تصح لوارث ولا لأجنبي بزيادة على
الثلث إلا بإجازة الورثة كالهبة والعتق والكتابة والمحاباة) وجملة ذلك أن
التبرعات المنجزة كالعتق والمحاباة والهبة المقبوضة والصدقة والوقف
والإبراء من الدين والعفو عن الجناية الموجبة للمال والكتابة إذا كانت في
الصحة فهي من رأس المال لا نعلم في هذا خلافاً، وإن كانت في مرض مخوف اتصل
به الموت فهي من ثلث المال في قول الجمهور وحكي عن أهل الظاهر في الهبة
المقبوضة أنها من رأس المال ولنا ما روى أبو هريرة قال قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم ان الله تصدق عليكم عند وفاتكم بثلث أموالكم زيادة لكم في
أعمالكم رواه ابن ماجه وهذا يدل بمفهومه على أنه ليس له أكثر من الثلث،
وروى عمران بن حصين أن رجلاً أعتق ستة أعبد له في مرضه لا مال له غيرهم
فاستدعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فجزأهم ثلاثة أجزاء وأقرع بينهم
فأعتق اثنين وأرق أربعة رواه مسلم وإذا لم ينفذ العتق مع سرايته فغيره أولى
ولأن هذه الحال الظاهر منها الموت فكانت عطيته فيها في حق ورثته لا يتجاوز
الثلث كالوصية (فصل) وحكم العطايا في مرض الموت حكم الوصية في خمسة أشياء
(أحدها) أن يقف نفوذها على خروجها من الثلث وإجازة الورثة (الثاني) أنها لا
تصح للوارث إلا بإجازة الورثة (الثالث) أن فضيلتها ناقصة عن فضيلة الصدقة
في الصحة لأن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن أفضل الصدقة قال " أن تصدق
وأنت صحيح شحيح تأمل الغنى وتخشى الفقر ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت
لفلان كذا ولفلان كذا وقد كان لفلان " متفق عليه (الرابع) أن العطايا
تتزاحم في الثلث إذا وقعت دفعة واحدة كتزاحم الوصايا فيه (الخامس) أن
خروجها من الثلث يعتبر حال الموت لا قبله ولا بعده
(6/291)
* (مسألة) * (فأما الأمراض الممتدة كالجذام
وحمى الربع والسل في ابتدائه والفالج في دوامه فإن صار صاحبها صاحب فراش
فهي مخوفة وإلا فلا)
قال القاضي إذا كان يذهب ويجئ فعطاياه من جميع المال هذا تحقيق المذهب وقد
روي حرب عن أحمد في وصية المجذوم والمفلوج من الثلث وهو محمول على أنه صار
صاحب فراش وبه يقول الاوزاعي والثوري ومالك وأبو حنيفة وأصحابه وأبو، ثور
وذكر أبو بكر وجهاً آخر أن عطايا هؤلاء من المال كله وهو مذهب الشافعي لأنه
لا يخاف تعجيل الموت فيه وإن كان لا يبرأ منه فهو كالهرم.
ولنا أنه مريض صاحب فراش يخشى التلف أشبه صاحب الحمى الدائمة وأما الهرم
فإن صار صاحب فراش فهو كمسئلتنا * (مسألة) * (ومن كان بين الصفين عند
التحام الحرب أو في؟؟؟؟ البحر عند هيجانه أو وقع الطاعون ببلده أو قدم
ليقتص منه والحامل عند المخاض فهو كالمريض) وجملة ذلك أن الخوف يحصل في هذه
المواضع الخمسة المذكورة فيقوم مقام المرض (أحدها) إذا التحم الحرب واختلطت
الطائفتان للقتال وكانت كل واحدة منهما مكافئة للأخرى أو مقهورة فأما
القاهرة منهما بعد ظهورها فليست خائفة وكذلك إذا لم يختلطوا بل كانت كل
واحدة منهما متميزة سواء كان بينهما رمي السهام أو لم يكن فليست حالة خوف،
ولا فرق بين كون الطائفتين متفقتين في الدين أو لا وبه مالك والثوري
والاوزاعي ونحوه عن مكحول وعن الشافعي قولان (أحدهما) كقول الجماعة
(والثاني) ليس بخوف لأنه ليس بمرض ولنا أن توقع التلف ههنا كتوقع المرض أو
أكثر فوجب أن يلحق به ولأن المرض إنما جعل مخوفاً لخوف صاحبه التلف وهذا
كذلك قال أحمد إذا حضر القتال كان عتقه من الثلث وعنه إذا التحم الحرب
فوصيته من المال كله لكن يقف الزائد عن الثلث على إجازة الورثة فإن حكم
وصية الصحيح وخائف التلف واحد فيحتمل أن يجعل هذا رواية ثانية وسمى العطية
وصية تجوز لكونها في حكم الوصية ويحتمل أن يحمل على حقيقته في صحة الوصية
من المال كله (الثانية) إذا قدم ليقتل فهي حالة خوف سواء أريد قتله
(6/292)
للقصاص أو لغيره، وللشافعي فيه قولان
أحدهما مخوف والثاني إن جرح فهو مخوف وإلا فلا لأنه صحيح البدن والظاهر
العفو عنه.
ولنا أن التهديد بالقتل جعل إكراهاً يمنع وقوع الطلاق وصحة البيع ويبيح
كثيراً من المحرمات ولولا الخوف لم تثبت هذه الأحكام، وإذا حكم للمريض
وحاضر الحرب بالخوف مع ظهور السلامة وبعد وجود التلف فمع ظهور التلف وقربه
أولى، ولا عبرة بصحة البدن فإن المرض
لم يكن مثبتاً لهذا الحكم لعينه بل لخوف إفضائه إلى التلف فيثبت الحكم ههنا
بطريق التنبيه لظهور التلف (الثالثة) إذا ركب البحر فإن كان ساكناً فليس
بمخوف وإن اضطرب وهبت الريح العاصف فهو مخوف، وقد وصفهم الله تعالى بشدة
الخوف فقال تعالى (هو الذي يسيركم في البر والبحر) الآية إلى قوله (جاءتها
ريح عاصف وجاءهم الموج من كل مكان وظنوا أنهم أحيط بهم) (الرابع) الأسير
والمحبوس إذا كان من عادتهم القتل فهو خائف عطيته من الثلث وإلا فلا وهذا
قول أبي حنيفة ومالك وابن أبي ليلى وأحد، قولي الشافعي وقال الحسن لما حبس
الحجاج إياس بن معاوية ليس له من ماله إلا الثلث وقال أبو بكر عطية الأسير
من الثلث ولم يفرق وبه قال الزهري والثوري واسحاق وحكاه ابن المنذر عن أحمد
وتأول القاضي ما روي وهو على ما ذكرناه من التفصيل ابتداء وقال الشعبي
ومالك الغازي عطيته من الثلث وقال مسروق إذا وضع رجله في الغرز وقال
الأوزاعي المحصور في سبيل الله والمحبوس ينتظر القتل هو في ثلثه والصحيح إن
شاء الله ما ذكرناه من التفصيل لأن مجرد الحبس والأسر من غير خوف القتل ليس
بمرض ولا هو في معنى المرض في الخوف فلم يجز إلحاقه به وإذا كان المريض
الذي لا يخاف التلف عطيته من رأس ماله فغيره أولى (الخامسة) إذا وقع
الطاعون ببلده فعن أحمد أنه مخوف ويحتمل أنه ليس بمخوف فإنه ليس بمريض
وإنما يخاف المرض (فصل) وكذلك الحامل عند المخاض لأنه يحصل لها ألم شديد
يخاف منه التلف أشبهت سائر أصحاب الأمراض المخوفة وما قبل ذلك فلا ألم بها
فلا يكون مخوفاً، وقال الخرقي وكذلك الحامل إذا صار لها ستة أشهر يعني
عطيتها من الثلث وبه قال مالك وقال إسحاق إذا ثقلت لا يجوز لها إلا الثلث
ولم
(6/293)
يحد حداً وحكاه ابن المنذر عن احمد وقال
سعيد بن المسيب وعطاء وقتادة عطية الحامل من الثلث وقال أبو الخطاب عطيتها
من المال كله ما لم يضر بها المخاض فإذا ضر بها المخاض فعطيتها من الثلث
وبه قال النخعي ومكحول ويحيى الانصاري والاوزاعي والثوري والعنبري وابن
المنذر وهو ظاهر مذهب الشافعي لأنها لا تخاف إلا إذا ضر بها الطلق فأشبهت
صاحب الأمراض الممتدة قبل أن يصير صاحب فراش وقال الحسن والزهري عطيتها
كعطية الصحيح وهو القول الثاني للشافعي لأن الغالب سلامتها
ووجه قول الخرقي أن ستة الأشهر وقت يمكن الولادة فيه وهو من أسباب التلف،
والصحيح إن شاء الله تعالى ما ذكرناه من أنه إذا ضر بها الطلق كان مخوفاً
بخلاف ما قبل ذلك لأنه لا ألم بها واحتمال وجوده خلاف العادة فلا يثبت
الحكم باحتماله البعيد مع عدمه كالصحيح وقيل عن أحمد ما يدل على أن عطايا
هؤلاء من المال كله لأنه لا مرض بهم وقد ذكرنا الخلاف في ذلك (فصل) فأما
بعد الولادة فإن بقيت المشيمة معها فهو مخوف وإن مات الولد معها فهو مخوف
لأنه يصعب خروجه فإن وضعت الولد وخرجت المشيمة فحصل ثم ورم أو ضربان شديد
فهو مخوف وإن لم يكن شئ من ذلك فقد روي عن أحمد في النفساء إن كانت ترمي
الدم فعطيتها من الثلث فيحتمل أنه أراد بذلك إذا كان معه ألم للزومه ذلك في
الغالب ويحتمل أن يحمل على ظاهره فإنها إذا كانت ترمي الدم كانت كالمريض
وحكمها بعد السقط مثل حكمها بعد الولد التام فإن أسقطت مضغة أو علقة فلا
حكم لها إلا أن يكون ثم مرض أو ألم وهذا كله مذهب الشافعي إلا أن مجرد الدم
عنده ليس بمخوف (فصل) وما لزم المريض في مرضه من حق لا يمكنه دفعه وإسقاطه
كأرش جنايته وجناية عبده وما عاوض عليه بثمن المثل وما يتغابن الناس بمثله
فهو من رأس المال لا نعلم فيه خلافاً وهو قول الشافعي وأصحاب الرأي وكذلك
النكاح بمهر المثل يجوز من رأس المال لأنه صرف ماله في حاجة
(6/294)
نفسه فقدم بذلك على وارثه وكذلك لو اشترى
أمة للاستمتاع بها كثيرة الثمن بثمن مثلها أو اشترى من الأطعمة التي لا
يأكل مثله مثلها جاز وصح شراؤه له لأنه صرف ماله في حاجته وان كان عليه دين
أو مات وعليه دين قدم بذلك على وارثه لقول الله تعالى (من بعد وصية يوصى
بها أو دين) (فصل) فأما إن قضى المريض بعض غرمائه ووفت تركته بسائر الديون
صح قضاؤه ولم يكن لسائر الغرماء الإعتراض عليه، وإن لم يف بها ففيه وجهان
(أحدهما) أن لسائر الغرماء الرجوع عليه ومشاركته فيما أخذه وهو قول أبي
حنيفة لأن حقهم تعلق بماله بمرض فمنع تصرفه فيه بما ينقص ديونهم كتبرعه
ولأنه لو وصى بقضاء بعض ديونه لم يجز فكذلك إذا قضاها (والثاني) لا يملكون
الاعتراض عليه ولا مشاركته وهو قياس قول أحمد ومنصوص الشافعي لأنه أدى
واجباً عليه فصح
كما لو اشترى شيئاً فأدى ثمنه أو باع بعض ماله وسلمه ويفارق الوصية فإنه لو
اشترى ثياباً مثمنة صح ولو وصى بتكفينه بثياب مثمنة لم يصح يحقق هذا أن
إيفاء ثمن المبيع قضاء لبعض غرمائه وقد صح عقيب البيع فكذلك إذا تراخى إذ
لا أثر لتراخيه (فصل) وإذا تبرع المريض أو أعتق ثم أقر بدين لم يبطل تبرعه
نص عليه أحمد فيمن أعتق عبده في مرضه ثم أقر بدين عتق العبد ولم يرد إلى
الرق لأن الحق ثبت بالتبرع في الظاهر فلم يقبل إقراره فيما يبطل به حق غيره
* (مسألة) * (وإن لم يف الثلث بالتبرعات المنجزة بدئ بالأول فالأول سواء
كان الأول عتقاً أو غيره) وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة الجميع سواء
إذا كانت من جنس واحد وإن كانت من أجناس وكانت المحاباة متقدمة قدمت وإن
تأخرت سوي بينها وبين العتق وإنما كان كذلك لأن المحاباة حق آدمي على وجه
المعاوضة فقدمت إذا تقدمت كقضاء الدين وإذا تساوى جنسها سوى بينها لأنها
عطايا من جنس واحد تعتبر من الثلث فسوى بينها كالوصية وقال أبو يوسف ومحمد
يقدم العتق تقدم أو تأخر
(6/295)
ولنا أنهما عطيتان منجزتان فكانت أولاهما
أولى كما لو كانت الأولى محاباة عند أبي حنيفة أو عتقاً عند صاحبه ولأن
العطية المنجزة لازمة في حق المعطي فإذا كانت خارجة من الثلث لزمت في حق
الورثة فلو شاركتها الثانية لمنع ذلك لزومها في حق المعطي لأنه يملك الرجوع
في بعضها بعطية أخرى بخلاف الوصايا فإنها غير لازمة في حقه وإنما تلزم
بالموت في حال واحدة فاستويا لاستوائهما في حال لزومها بخلاف المنجزتين وما
قاله في المحاباة لا يصح فإنها بمنزلة الهبة ولو كانت بمنزلة المعاوضة أو
الدين لما كانت من الثلث * (مسألة) * (وإن تساوت قسم بين الجميع بالحصص
وعنه يقدم العتق) أما إذا وقعت دفعة واحدة بأن وكل جماعة في هذه التبرعات
فأوقعوها دفعة واحدة فإن كانت كلها عتقاً أقرعنا بينهم فكملنا العتق في
بعضهم وإن لم يكن فيها عتق قسمنا الثلث بينهم على قدر عطاياهم لأنهم تساووا
في الاستحقاق فقسم بينهم على قدر حقوقهم كغرماء المفلس وإنما خولف هذا
الأصل في العتق لحديث عمران بن حصين
وسنذكر ذلك في موضعه، وإن كان فيها عتق وغيره ففيه روايتان (إحداهما) يقدم
العتق لتأكده (والثانية) يسوى بين الكل لأنها حقوق تساوت في استحقاقها
فتساوت في تنفيذها كنما لو كات من جنس واحد لأن استحقاقها حصل في حال واحدة
(فصل) إذا قال المريض إذا أعتقت سعداً فسعيد حر ثم أعتق سعداً عتق سعيد أن
خرج من الثلث وإن لم يخرج من الثلث إلا أحدهما عتق سعد وحده ولم يقرع
بينهما لوجهين (أحدهما) أن سعداً سبق بالعتق (والثاني) أن عتقه شرط لعتق
سعيد فلو رق بعضه فات إعتاق سعيد أيضاً لفوات شرطه وإن بقي من الثلث ما
يعتق به بعض سعيد عتق تمام الثلث منه، وإن قال إن أعتقت سعداً فسعيد وعمرو
حران ثم أعتق سعداً ولم يخرج من الثلث إلا أحدهم عتق سعد وحده لما ذكرنا
وإن خرج من الثلث اثنان أو واحد وبعض آخر عتق سعد وأقرع بين سعيد وعمرو
فيما بقي من الثلث لأن عتقهما في حال
(6/296)
واحدة وليس عتق أحدهما شرطاً في عتق الآخر،
ولو خرج من الثلث اثنان وبعض الثالث أقرعنا بينهما لتكميل الحرية في أحدهما
وحصول التشقيص في الآخر وإن قال إن أعتقت سعداً فسعيد حر أو فسعيد وعمرو
حران في حال إعتاقي سعداً فالحكم سواء لا يختلف لأن عتق سعد شرط لعتقهما
فلو رق بعضه لفات شرط عتقهما فوجب تقديمه فان كان الشرط في الصحة والإعتاق
في المرض فالحكم على ما ذكرناه (فصل) فإن قال ان تزوجت فعبدي حر فتزوج في
مرضه بأكثر من مهر المثل فالزيادة محاباة تعتبر من الثلث فان لم يخرج من
الثلث إلا المحاباة أو العبد قدمت المحاباة لأنها وجبت قبل العتق لكون
التزويج شرطاً في العتق فقد سبقت العتق ويحتمل أن يتساويا لأن التزويج سبب
لثبوت المحاباة وشرط للعتق فلا يسبق وجود أحدهما صاحبه فيكونان سواء، ثم هل
يقدم العتق على المحاباة؟ على روايتين وهذا فيما إذا ثبتت المحاباة بأن لا
ترث المرأة الزوج إما لوجود مانع من الإرث أو لمفارقته إياها في حياته إما
بموتها أو طلاقها أو نحوه، فأما إن ورثته تبينا أن المحاباة لا تثبت لها
إلا بإجازة الورثة فينبغي أن يقدم العتق عليها لأنه لازم غير موقوف على
الإجازة فيكون متقدماً وإن قال أنت حر في حال تزويجي فتزوج بأكثر من مهر
المثل فعلى القول الأول يتساويان لأن التزويج جعل حالة لإيقاع العتق كما في
عتق
سعد وسعيد وبطلان المحاباة لا يبطل التزويج ولا يؤثر فيه وعلى الاحتمال
المذكور يكون العتق سابقاً لأن المحاباة إنما تثبت بتمام التزويج والعتق
قبل تمامه فيكون سابقاً على المحاباة فيتقدم لهذا المعنى سيما إذا تأكد
بقوته.
وكونه غير وارث (فصل) إذا أعتق المريض شقصاً من عبد ثم أعتق شقصا من آخر
ولم يخرج من الثلث إلا العبد الاول عتق وحده لأنه يعتق حين تلفظه بإعتاق
بعضه وإن خرج الأول وبعض الثاني عتق ذلك وإن أعتق الشقصين معاً فلم يخرج من
الثلث إلا الشقصان عتقاً ورق باقي العبدين وإن لم يخرج إلا أحدهما أقرع
بينهما وإن خرج الشقصان وباقئ أحد العبدين ففيه وجهان (أحدهما) تكميل العتق
من أحدهما
(6/297)
بالقرعة بينهما كما لو أعتق العبدين فلم
يخرج من الثلث إلا أحدهما (والثاني) يقسم ما بقي من الثلث بينهما بغير قرعة
لأنه أوقع عتقاً مشقصاً فلم يكمله بخلاف ما لو أعتق العبدين ولهذا إذا لم
يخرج من الثلث إلا الشقصان أعتقناهما بغير قرعة ولم نكمله من أحدهما ولو
وصى بإعتاق النصيبين وإن يكمل عتقهما من تلثه ولم يخرج من الثلث إلا
النصيبان وقيمة باقي أحدهما أقرعنا بينهما فمن خرجت قرعته كمل العتق فيه
لأن الموصي أوصى بتكميل العتق فجرى مجرى إعتاقهما بخلاف التي قبلها *
(مسألة) * (وأما معاوضة المريض بثمن المثل فتصح من رأس المال وإن كانت مع
وارث) لأنه ليس بوصية لأن الوصية تبرع وليس هذا تبرعاً فاستوى فيه الوارث
وغيره ويحتمل أن لا يصح لوارث لأنه خصه بعين المال أشبه ما لو حاباه *
(مسألة) * (وإن حابى وارثه فقال القاضي يبطل في قدر ما حاباه ويصح فيما
عداه) مثل أن يبيع شيئاً بنصف ثمنه فله نصفه بجميع الثمن لأنه تبرع له بنصف
الثمن فبطل التصرف فيما تبرع له به وللمشتري الخيار لأن الصفقة تبعضت في
حقه * (مسألة) * (فإن كان له شفيع فله أخذه فإن أخذه فلا خيار للمشتري)
لزوال الضرر عنه لأنه لو فسخ البيع رجع بالثمن وقد حصل له الثمن من الشفيع
(فصل) فإن باع أجنبياً وحاباه لم يمنع ذلك صحة العقد عند الجمهور وقال أهل
الظاهر
يبطل العقد.
ولنا عموم قوله تعالى (وأحل الله البيع ولأنه تصرف صدر من أهله في محله فصح
كغير المريض فعلى هذا لو باع عبداً لا يملك غيره قيمته ثلاثون بعشرة فقد
حابى المشتري بثلثي ماله وليس له المحاباة بأكثر من الثلث فإن أجاز الورثة
ذلك لزم البيع وإن ردوا فاختار المشترى فسخ البيع فله ذلك لأن الصفقة تبعضت
في حقه فإن اختار إمضاء البيع فقال شيخنا عندي أنه يأخذ نصف المبيع بنصف
(6/298)
الثمن ويفسخ البيع في الباقي وهذا أحد
الوجهين لأصحاب الشافعي والوجه الثاني أنه يأخذ ثلثي المبيع بالثمن كله
والى هذا أشار القاضي في نحو هذه المسألة لأنه يستحق الثلث بالمحاباة
والثلث الآخر بالثمن وقال أهل العراق يقال له إن شئت أديت عشرة أخرى وأخذت
المبيع وإن شئت فسخت ولا شئ لك وعند مالك له أن يفسخ ويأخذ ثلث المبيع
بالمحاباة ويسميه أصحابه خلع الثلث ولنا أن ما ذكرناه مقابلة بعض المبيع
بقسطه من الثمن عند تعذر أخذ جميعه بجميعه فصح ذلك كما لو اشترى سلعتين
بثمن فانفسخ البيع في إحداهما لعيب أو غيره أو كما لو اشترى شقصاً وسيفاً
فأخذ الشفيع الشقص أو كما لو اشترى قفيزاً يساوي ثلثين بقفيز قيمته عشرة،
وأما الوجه الثاني الذي اختاره القاضي فلا يصح لأنه أوجب له المبيع بثمن
فيأخذ بعضه بالثمن كله فلا يصح كما لو قال بعتك هذا بمائة فقال قد قبلت
نصفه بها ولأنه إذا فسخ البيع في بعضه وجب أن يفسخه بقدره من ثمنه ولا يجوز
فسخ البيع فيه مع بقاء ثمنه كما لا يجوز فسخ البيع في الجميع مع بقاء ثمنه،
وأما قول أهل العراق فإن فيه إجباراً للورثة على المعاوضة على غير الوجه
الذي عاوض موروثهم، وأما قول مالك فلا يصح لأنه ذا فسخ البيع لم يستحق
شيئاً لأن المحاباة إنما حصلت في ضمن البيع فإذا بطل البيع بطلت كما لو وصى
لرجل بعينه أن يحج عنه بمائة وأجر المثل خمسون فطلب الخمسين الفاضلة بدون
الحج.
وإن اشترى عبداً يساوي عشرة بثلاثين فإنه يأخذ نصفها بنصفها وإن باع العبد
الذي يساوي ثلاثين بخمسة عشر جاز البيع في ثلثيه بثلثي الثمن في قول شيخنا
وعلى قول القاضي للمشتري خمسة أسداسه بكل الثمن، وطريق هذا أن ينسب الثمن
وثلث المبيع إلى قيمته فيصح البيع في مقدار تلك النسبة وهو خمسة
أسداسه وعلى الوجه الأول يسقط الثمن من قيمة المبيع وينسب الثلث إلى الباقي
فيصح البيع في
(6/299)
قدر تلك النسبة وهو ثلثاه بثلثي الثمن فإن
خلف البائع عشرة أخرى فعلى الوجه الأول يصح في ثمانية أتساعه بثمانية أتساع
الثمن وعلى الوجه الثاني يأخذ المشتري نصفه وأربعة أتساعه بجميع الثمن *
(مسألة) * (وإن باع المريض أجنبياً وحاباه وكان شفيعه وارثاً فله الأخذ
بالشفعة) لأن المحاباة لغيره يعني إذا باع شقصاً تجب فيه الشفعة لأن
المحاباة إنما وقعت للأجنبي فأشبه ما لو وصى لغريم وارثه ويحتمل أن لا يملك
الوارث الشفعة ههنا لإفضائه إلى جعل سبيل للإنسان إلى إثبات حق وارثه في
المحاباة وقد ذكرنا ذلك والخلاف فيه في الشفعة * (مسألة) * (ويعتبر الثلث
عند الموت لأنه وقت لزوم الوصية واستحقاقها وتثبت له ولاية القبول والرد
فلو أعتق عبداً لا يملك غيره ثم ملك مالاً يخرج من ثلثه تبيناً أنه عتق كله
لخروجه من الثلث عند الموت وإن صار عليه دين يستغرقه لم يعتق منه شئ لأن
الدين يقدم على الوصية لما روي عن علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه
وسلم قضى بالدين قبل الوصية ويحتمل أن يعتق ثلثه لأن تصرف المريض في الثلث
كتصرف الصحيح في الجميع * (فصل) * قال الشيخ رضي الله عنه (وتفارق العطية
الوصية في أربعة أشياء (أحدها) أنه يبدأ بالأول فالأول منها والوصايا سوى
بين المتقدم والمتأخر منها) أما العطايا فقد ذكرنا حكمها والخلاف فيها،
وأما الوصايا فإنها تبرع بعد الموت فتؤخذ دفعة واحدة ولذلك استوى فيها
المتقدم والمتأخر، (الثاني) أنه لا يجوز الرجوع في العطية بخلاف الوصية لأن
العطية تقع لازمة في حق المعطي تنتقل إلى المعطى في الحياة إذا اتصل بها
القبول والقبض وإن كثرت فلم يكن له الرجوع فيها كالهبة وإنما منع المريض من
التبرع بزيادة على الثلث لحق الورثة لا لحقه فلم يملك إجازتها ولا ردها
بخلاف الوصية لأن التبرع بها مشروط بالموت ففيما قبل الموت لم يوجد التبرع
ولا العطية فهي كالهبة قبل القبول،
(6/300)
(الثالث) أنه يعتبر قبوله للعطية عند
وجودها ويفتقر إلى شروط الهبة المذكورة لأنها هبة منجزة فاعتبر لها
القبول عند وجودها كعطية الصحيح بخلاف الوصية فإنه لا حكم لقبولها ولا ردها
إلا بعد الموت على ما يأتي (فصل) والعطية تقدم على الوصية وهو قول الشافعي
وجمهور العلماء وبه قال أبو حنيفة وأبو يوسف وزفر إلا في العتق فإنه حكي
عنهم تقديمه لأن العتق يتعلق به حق الله تعالى ويسري وينفذ في ملك الغير
فيجب تقديمه.
ولنا أن العطية لازمة في حق المريض فقدمت على الوصية كعطية الصحة أو فقدمت
على العتق كعطية الصحة (الرابع) أن الملك يثبت في العطية من حينها ويكون
مراعى فاذا خرج من الثلث عند الموت تبينا أن الملك كان ثابتاً من حينه لأن
العطية في المرض تمليك في الحال لأنها إن كانت هبة فمقتضاها تمليكه الموهوب
في الحال ولهذا يعتبر قبولها في المجلس كما لو كانت في الصحة، وكذلك إن
كانت محاباة أو إعتاقاً وأما كونها مراعاة فلأنا لا نعلم هل هذا مرض الموت
أو لا ولا نعلم هل يستفيد مالا أو يتلف شئ من ماله أو لا فتوقفنا لنعلم
عاقبة أمره فنعمل عليها فإذا انكشف الحال علمنا حينئذ ما ثبت حال العقد،
ومثل ذلك ما لو أسلم أحد الزوجين بعد الدخول فإنا لا ندري هل يسلم الثاني
أم لا فنقف الأمر حتى تنقضي العدة فإن أسلم الآخر في العدة تبينا أن النكاح
كان صحيحاً باقياً وإن انقضت العدة قبل إسلامه تبينا أن النكاح انفسخ من
حين اختلف دينهما * (مسألة) * (فلو أعتق في مرضه عبداً أو وهبه لإنسان ثم
كسب في حياة سيده شيئاً ثم مات سيده فخرج من الثلث كان كسبه له إن كان
معتقاً وللموهوب إن كان موهوباً، وإن خرج بعضه فلهما من كسبه بقدر ذلك) إذا
أعتق عبداً لا مال له سواه فكسب مثل قيمته قبل موت سيده فللعبد من كسبه
بقدر ما عتق منه وباقيه لسيده فيزداد به مال السيد وتزداد الحرية لذلك
ويزداد حقه من كسبه فينقص به حق السيد من الكسب وينقص بذلك قدر المعتق منه
فيدخل الدور فيستخرج ذلك بالجبر فيقال عتقق من العبد شئ وله من كسبه شئ لأن
كسبه مثله وللورثة من العبد شيئان لأن لهم مثلي ما عتق منه وقد عتق منه شئ
ولا يحسب على العبد ما حصل له من كسبه لأن استحقه بجزئه الحر لا من جهة
سيده فصار للعبد شيئان
(6/301)
وللورثة شيئان من العبد وكسبه فيقسم العبد
وكسبه نصفين فيعتق منه نصفه وله نصف كسبه وللورثة نصفهما، وإن كسب مثلي
قيمته فله من كسبه شيئان صار له ثلاثة أشياء ولهم شيئان فيقسم العبد وكسبه
أخماساً يعتق منه ثلاثة أخماس وله ثلاثة أخماس كسبه وللورثة خمساه وخمسا
كسبه وإن كسب ثلاثة أمثال قيمته فله من كسبه ثلاثة أشياء مع ما عتق منه
وللورثة شيئان فيعتق منه ثلثاه وله ثلثا كسبه وللورثة ثلثهما، وإن كسب نصف
قيمته عتق منه شئ وله من كسبه نصف شئ ولهم شيئان فالجميع ثلاثة أشياء ونصف
شئ فإذا بسطها إنصافاً صارت سبعة فله ثلاثة أسباعها فيعتق منه ثلاثة أسباعه
وله ثلاثة أسباع كسبه والباقي للورثة وذلك مثلا ما عتق منه * (مسألة) *
(وإن كان موهوباً لإنسان فللموهوب له من العبد بقدر ما عتق منه وله من كسبه
بقدر ذلك) فإن كانت قيمته مائة فكسب تسعة فاجعل له من كل دينار شيئاً فقد
عتق منه مائة وله من كسبه تسعة أشياء ولهم مائتا شئ فيعتق منه مائة جزء
وتسعة أجزاء من ثلثمائة وتسعة وله من كسبه مثل ذلك ولهم مائتا جزء من كسبه،
فإن كان على السيد دين يستغرق قيمته وقيمة كسبه صرفا في الدين ولم يعتق منه
شئ لأن الدين مقدم على التبرع وإن لم يستغرق فقيمته وقيمة كسبه صرف من
العبد وكسبه ما يقضي به الدين وما بقي منهما يقسم على ما يمل في العبد
الكامل وكسبه، فعلى هذا لو كان على الميت دين بقيمة العبد صرف فيه نصف
العبد ونصف كسبه وقسم النصف الباقي بين الورثة والعتق نصفين وكذلك بقية
الكسب، فإن كسب العبد مثل قيمته وللسيد مال بقدر الكسب قسمت العبد ومثل
قيمته على الأشياء الأربعة لكل شئ ثلاثة أرباع فيعتق من العبد ثلاثة أرباعه
وله ثلاثة أرباع كسبه (فصل) وإن أعتق عبداً قيمته عشرون ثم أعتق عبداً
قيمته عشرة فكسب كل واحد منهما مثل قيمته أكملت الحرية في العبد الأول
فيعتق منه شئ وله من كسبه شئ وللورثة شيئان ويقسم العبدان وكسبهما على
الأشياء الأربعة لكل شئ خمسة عشر فيعتق منه بقدر ذلك وهو ثلاثة أرباعه وله
ثلاثة أرباع كسبه والباقي للورثة، وإن بدأ بعتق الأدنى عتق كله وأخذ كسبه
ويستحق الورثة من العبد الآخر وكسبه مثلي العبد الذي عتق وهو نصفه ونصف
كسبه ويبقى نصفه ونصف كسبه
(6/302)
بينهما نصفين فيعتق ربعه وله ربع كسبه ويرق
ثلاثة أرباعه ويتبعه ثلاثة أرباع كسبه وذلك مثلا ما عتق منهما، وإن أعتق
العبدين دفعة واحدة أقرعنا بينهما فمن خرجت له قرعة الحرية فهو كما لو بدا
بإعتاقه (فصل) فإن اعتق ثلاثة أعبد قيمتهم سواء وعليه دين بقدر قيمة أحدهم
وكسب أحدهم مثل قيمته أقرعنا بينهم لإخراج الدين، فإن وقعت على غير المكتسب
عتق كله والمكتسب وماله للورثة وإن وقعت قرعة الحرية على المكتسب عتق منه
ثلاثة أرباعه وله ثلاثة أرباع كسبه وباقيه وباقي كسبه والعبد الآخر للورثة
كما قلنا فيما اذا كان للسيد مال بقدر قيمته، ولو وقعت قرعة الدين ابتداء
على المكتسب لقضينا الدين بنصفه ونصف كسبه ثم أقرعنا؟ ين باقيه وبين
العبدين الآخرين في الحرية فإن وقعت على غيره عتق كله وللورثة ما بقي، فإن
وقعت على المكتسب عتق باقيه وأخذنا باقي كسبه ثم يقرع بين العبدين لإتمام
الثلث فمن وقعت عليه القرعة عتق ثلثه ويبقى ثلثاه والعبد الآخر للورثة
(فصل) رجل أعتق عبدين متساويي القيمة بكلمة واحدة لا مال له غيرهما ثم مات
أحدهما في حياته أقرع بين الحي والميت، فإن وقعت على الميت فالحي رقيق
وتبين أن الميت نصفه حر لأن مع الورثة مثلي نصفه، وإن وقعت على الحي عتق
ثلثه ولا يحسب المي؟؟؟؟ على الورثة لأنه لم يصل إليهم (فصل) رجل أعتق عبداً
لا مال له سواء قيمته عشرة فمات قبل سيده وخلف عشرين فهي لسيده بالولاء
وتبين أنه مات حراً، وكذلك إن خلف أربعين وبنتاً وإن خلف عشرة عتق منه شئ
وله من كسبه شئ ولسيده شيئان وقد حصل في يد سيده عشرة تعدل ستين فتبين أن
نصفه حر وباقيه رقيق والعشرة يستحقها السيد نصفها بحكم الرق ونصفها
بالولاء، فإن خلف العبد ابناً فله من رقبته شئ ومن كسبه شئ لابنه بالميراث
ولسيده شيئان فتقسم العشرة على ثلاثة للابن ثلثها وللسيد ثلثاها ونتبين أنه
عتق من العبد ثثه، وإن خلف بنتاً فلها نصف شئ وللسيد شيئان فصارت العشرة
على خمسة، للبنت خمسها وللسيد أربعة أخماسها تعدل ستين فتبين أن خمسي العبد
مات حراً، وإن خلف العبد عشرين وابناً فله من كسبه شيئان يكونان لابنه
ولسيده شيئان فصارت العشرون بين السيد وبين ابنه نصفين وتبين أنه عتق منه
نصفه فإن مات الابن قبل موت السيد كان ابن معتقه
(6/303)
ورثه السيد لأننا تبينا أن أباه مات حراً
لكون السيد ملك عشرين وهي مثلا قيمته فعتق وجر ولاء ابنه إلى سيده فورثه،
وإن لم يكن الابن ابن معتقه لم ينجر ولاؤه ولم يرثه سيد أبيه، وكذلك الحكم
لو خلف هذا الابن عشرين ولم يخلف أبوه شيئاً أو ملك السيد عشرين من أي جهة
كانت وإن لم يملك عشرين لم ينجر ولاء الابن إليه لأن الأب لم يعتق، وإن عتق
بعضه جر من ولاء ابنه بقدره، فلو خلف الابن عشرة وملك السيد خمسة فإنك تقول
عتق من العبد شئ ويجر من ولاء ابنه مثل ذلك ويحصل له من ميراثه شئ مع خمسة
وهما يعدلان شيئين وباقي العشرة لمولى أمه فيقسم بين السيد وبين مولى الأم
نصفين ونتبين أنه قد عتق من العبد نصفه ويحصل للسيد خمسة من ميراث ابنه
وكانت له خمسة وذلك مثلا ما عتق من العبد، فإن مات الابن في حياة أبيه قبل
موت سيده وخلف مالاً وحكمنا بعتق الأب أو عتق بعضه ورث مال أبيه ان كان حرا
أو بقدر ما فيه من الحرية إن كان بعضه حراً ولم يرث سيده منه شيئاً، وفي
هذه المسائل خلا ف تركنا ذكره مخافة التطويل * (مسألة) * (وإن اعتق جارية
لا مال له غيرها ثم وطئها ومهر مثلها نصف قيمتها فهو كما لو كسبت نصف
قيمتها) يعتق منها ثلاثة أسباعها وقد ذكرناه * (فصل) * وإن وهبها مريضاً
آخر لا مال له غيرها ثم وهبها الثاني للأول وماتا جميعاً فنقول صحت هبة
الاول في شئ وعاد إليه بالهبة الثانية ثلثه بقي لورثة الثاني ثلثا شئ
ولورثة الأول شيئان فاضر بها في ثلثه لزوال الكسر يكن ثمانية أشياء تعدل
الأمة الموهوبة فلورثة الواهب الأول ثلاثة أرباعها ستة ولورثة الثاني ربعها
شيئان وإن شئت قلت المسألة من ثلاثة لأن الهبة صحت في ثلث المال وهبة
الناني صحت في ثلث الثلث فتكون من ثلاثة اضر بها في أصل المسألة تكن تسعة
أسقط السهم الذي صحت فيه الهبة الثانية لأننا لو رددناه على الأول لوجب رده
على جميع السهام الباقية إذ يلزم من زيادة الباقي للواهب الأول زيادة الجزء
الذي صحت فيه الهبة الأولى فيسقط كما يسقط الباقي في مسألة الرد إذ العلة
في إسقاطه ثم إننا لو رددناه لرددناه على جميع السهام بالسوية فإذا أسقطنا
ذكره عاد على جميع السهام كذلك ههنا إذا أسقطنا هذا السهم بقيت المسألة من
ثمانية كما ذكرنا
(6/304)
(فصول في هبة المريض) رجل وهب أخاه مائة لا
يملك غيرها فقبضها ثم مات وخلف بنتاً فقد صحت الهبة في شئ والباقي للواهب
ورجع إليه بالميراث نصف الشئ الذي جازت الهبة فيه صار معه مائة إلا نصف شئ
يعدل شيئين فالشئ خمسا ذلك رجع إلى الواهب نصفها عشرون صار معه ثمانون وبقي
لورثة الموهوب له عشرون وطريقها بالباب أن يأخذ عدداً لثلثه نصف وهو ستة
فيأخذ ثلثه اثنين ويلغى نصفه سهماً يبقى سهم فهو للموهوب له ويبقى للواهب
أربعة فتقسم المائة بينهما على خمسة والسهم الذي أسقطته لا يذكر لأنه يرجع
على جميع السهام الباقية بالتسوية فيجب إطراحه كالسهام الفاضلة عن الفروض
في مسألة الرد ولو ترك ابنتين ضربت ثلاثة في ثلاثة صارت تسعة وأسقطت منهما
سهماً يبقى سهمان فهي التي تبقى لورثة الموهوب له وتبقى ستة للواهب وهي
مثلاً ما جازت الهبة فيه وإن خلف امرأة وبنتا فمسئلتها من ثمانية نضربها في
ثلاثة تكن أربعة وعشرين يسقط منهما الثلاثة التي ورثها الواهب يبقى أحد
وعشرون فهي المال ويأخذ ثلث الأربعة والعشرين وهي ثمانية يلغى منها الثلاثة
يبقى خمسة في الباقية لورثة الموهوب له والباقي للواهب فتقسم المائة على
هذه السهام (فصل) وإن وهب رجلاً جارية فقبضها الموهوب له ووطئها ومهرها ثلث
قيمتها ثم مات الواهب ولا شئ له سواها وقيمتها ثلاثون ومهرها عشرة فقد صحت
الهبة في شئ وسقط عنه من مهرها ثلث شئ وبقي للواهب أربعون إلا شيئاً وثلثاً
يعدل شيئين أجبر وقائل يخرچ الشئ خمس ذلك وعشرة وهو اثنا عشر وذلك خمسا
الجارية فقد صحت الهبة فيه ويبقى للوارث ثلاثة أخماسها وله على الموهوب له
ثلاثة أخماس مهرها وهو ستة ولو كان الواطئ أجنبياً فكذلك ويكون عليه مهرها
ثلاثة أخماسه للواهب وخمساه للموهوب له إلا أن تعود الهبة فيما زاد على
الثلث منها موقوف على حصول المهر من الوطئ فان لم يحصل منه شئ لم تزد الهبة
على ثلثها وكلما حصل من شئ نفذت الهبة في الزيادة بقدر
(6/305)
ثلثه فإن وطئها الواهب فعليها من عقرها
بقدر ما جازت الهبة فيه وهو ثلث شئ يبقى معه ثلاثون إلا شيئاً وثلثاً يعدل
شيئين فالشئ تسعة وهو خمس الجارية وعشرها وسبعة أعشارها لورثة الواطئ
وعليه عقر الذي جازت الهبة فيه ئلاثة فإن أخذ من الجارية بقدرها صار له
خمساها (فصل) وإن وهب مريض عبداً لا يملك غيره فقتل العبد الواهب قيل
للموهوب له اما ان تفديه وإما أن تسلمه فإن اختار تسلميه سلمه كله نصفه
بالجناية ونصفه لانتقاص الهبة وذلك لأن العبد كله قد صار إلى ورثة الواهب
وهو مثلا نصفه فتبين أن الهبة جازت في نصفه فإن اختار فداه ففيه روايتان
إحداهما يفديه بأقل الأمرين من قيمة نصيبه فيه اوراش جنايته والأخرى يفديه
بقدر ذلك من أرش جنايته بالغة ما بلغت فإن كانت قيمته دية فإنك تقول صحت
الهبة في شئ ويدفع إليهم نصف العبد وقيمة نصفه وذلك يعدل شيئين فتبين ان
الشي نصف العبد وإن كانت قيمته ديتين واختار دفعه فإن الهبة تجوز في شئ
ويدفع إليهم نصفه يبقى معهم عبد الا نصف شئ يعدل شيئين فالشئ خمساه ويرد
إليهم ثلاثة أخماسه لانتقاض الهبة وخمساً من أجل جنايته فيصير لهم أربعة
أخماسه وذلك مثلا ما جازت الهبة فيه وإن اختار فداءه فداه بخمسي الدية أو
أقل وقلنا يفديه بأرش جنايته نفذت الهبة في جميعه لأن أرشها أكثر من مثلي
قيمته وإن كانت قيمته ثلاثة اخماس الدية فاختار فداءه بالدية فقد صحت الهبة
في شئ ويفديه بشئ وثلثين فصار مع الورثة عبد وثلثا شئ يعدل شيئين فالشئ
يعدل ثلاثة أرباع فتصح الهبة في ثلاثة أرباع العبد ويرجع إلى الواهب ربعه
مائة وخمسون وثلاثة أرباع الدية سبعمائة وخمسون صار الجميع تسعمائة وهو
مثلا ما صحت الهبة فيه فإن ترك الواهب مائة دينار فاضممها إلى قيمة العبد
فإن اختار دفع العبد دفع ثلثه وربعة وذلك قدر نصف جميع المال بالجناية
وباقيه لانتقاص الهبة فيصير للورثة العبد والمائة وذلك ما جازت الهبة فيه
وإن اختار الفداء فقد علمت أنه يفدي ثلاثة أرباعه إذا لم يترك شيئاً فزد
على ذلك ثلاثة أرباع المائة يصر ذلك سبعة أثمان العبد فيفديه سبعة أثمان
الدية (فصل) في إعتاق المريض: مريض أعتق عبداً لا مال سواه قيمته مائة فقطع
أصبع سيده خطأ فإنه يعتق نصفه وعليه نصف قيمته ويصير للسيد نصفه ونصف قيمته
وذلك مثلا ما عتق منه وأوجبنا
(6/306)
نصف قيمته عليه لأن عليه من أرش جنايته
بقدر ما عتق منه وحسابها أن تقول عتق منه شئ وعليه شئ للسيد فصار مع السيد
عبد إلا شيئا وشئ يعدل شيئين فأسقط بشئ بقي ما معه من العبيد يعدل شيئاً
مثل ما عتق منه، وإن كانت قيمة العبد مائتين عتق خمساه لأنه يعتق منه شئ
وعليه نصف شئ للسيد فصار للسيد نصف شئ وبقية العبد تعدل شيئين فتكون بقية
العبد تعدل شيئاً ونصفاً وهو ثلاثة أخماسه والشئ الذي عتق خمساه، وإن كانت
قيمته خمسين أو أقل عتق كله لأنه يلزمه مائة وهي مثلاه أو أكثر، وإن كانت
قيمته شيئين قلنا عتق منه شئ وعليه شئ وثلثا شئ للسيد مع بقية العبد تعدل
شيئين فبقية العبد إذا ثلث شئ فيعتق منه ثلاثة أرباعه وعلى هذا القياس الا
أن ما زاد من العتق على الثلث ينبغي أن يقف على أداء ما يقابله من القيمة
كما إذا ما دبر عبداً وله دين في ذمة غريم له فكلما اقتضي من القيمة شيئاً
عتق من الموقوف بقدر ثلثه (فصل) فإن أعتق عبدين دفعة واحدة قيمة أحدهما
مائة والآخر مائة وخمسون فجنى الأدنى على الا رفع جناية نقصته ثلث قيمته
وأرشها كذلك في جناية السيد ثم مات أقرعنا بين العبدين فإن وقعت على الجاني
عتق منه أربعة أخماسه وعليه من أرش الجناية مثل ذلك وبقي لورثة سيده خمسه
وأرش جنايته والعبد الآخر وذلك مائة وستون وهو مثلا ما عتق منه وحسابها أن
تقول عتق منه شئ وعليه نصف شئ لأن جنايته بقدر نصف قيمته بقي للسيد نصف شئ
وبقية العبد تعدل شيئين فعلمت أن بقية العبدين تعدل شيئاً ونصفاً فإذا أضفت
إلى ذلك الشئ الذي عتق صارا جميعاً يعدلان شيئين ونصفا، فالشئ الكامل
خمساهما وذلك أربعة أخماس أحدهما، وإن وقعت قرعة الحرية على المجني عليه
عتق ثلثه وله ثلث أرش جنايته يتعلق برقبة الجاني وذلك تسع الدية لأن
الجناية على من ثلثه حر تضمن بقدر ما فيه من الحرية والرق، والواجب من
الأرش يستغرق قيمة الجاني فيستحقه بها ولا يبقى لسيده مال سواه فيعتق ثلثه
ويرق ثلثاه فإن أعتق عبدين قيمة أحدهما خمسون والآخر قيمته ثلاثون فجنى
الأدنى على الا رفع فنقصه حتى صارت قيمته أربعين أقرعنا بينهما فإن خرجت
القرعة للأدنى عتق منه شئ وعليه ثلث شئ فبعد الجبر تبين أن العبدين شيئان
وثلثان فالشئ ثلاثة أثمانهما وقيمتهما
(6/307)
سبعون فثلاثة أثمانهما ستة وعشرون وربع وهي
من الأدنى نصفه وربعه وثمنه، وإن وقعت على الآخر عتق ثلثه وحقه من الجناية
أكثر من قيمة الجاني فيأخذه بها أو يفديه المعتق وقد ثبتت فروع كثيرة
وفيما ذكرنا ما يستدل به على غيره إن شاء الله تعالى وكل موضع زاد المعتق
على ثلث العبدين من أجل وجوب الأرش للسيد تكون الزيادة موقوفة على أداء
الأرش كما ذكرنا من قبل والله أعلم * (مسألة) * (وإن باع مريض قفيزاً لا
يملك غيره يساوي ثلاثين بقفيز يساوي عشرة وهما جنس واحد فيحتاج إلى تصحيح
البيع في جزء منه مع التخلص من الربا لكونه يحرم التفاضل بينهما فالطريق في
ذلك إن يسقط قيمة الردئ من قيمة الجيد ثم ينسب الثلث الى ما بقي وهو عشرة
من عشرين وذلك نصفها فيصح البيع في نصف الجيد بنصف الردئ ويبطل فيما بقي)
وطريق الجبر أن تقول يصح البيع في شئ من الا رفع بشئ من الأدنى وقيمته ثلث
شئ فتكون المحاباة بثلثي شئ ألقها من الا رفع يبق قفيز إلا ثلثي شئ يعدل
مثلي المحاباة وذلك شئ وثلث فإذا جبر به عدل شيئين والشئ نصف القفيز فإن
كانت قيمة الأدنى خمسة عشر فإذا أسقطت قيمة الردئ من قيمة الجيد يبقى خمسة
عشر إذا نسبت إليهما الثلث يكن ثلثيها فيصح البيع في ثلثي الجيد بثلثي
الردئ فحصلت المحاباة بعشرة وذلك ثلث المال.
فإن كان الأدنى يساوي عشرين صحت في جميع الجيد بجميع الردئ * (مسألة) *
(وإن أصدق امرأة عشرة في مرضه لا مال له غيرها) وصداق مثلها خمسة ثم ماتت
قبله ومات بعدها ولا مال لها سوى ما أصدقها دخلها الدور فنقول لها خمسة
بالصداق وشئ بالمحاباة ويبقى لورثة الزوج خمسة الأشياء ورجع إليهم بموتها
نصف ذلك وهو اثنان ونصف ونصف شي صار لهم سبعة ونصف إلا نصف شئ يعدل شيئين
أجبرها بنصف شئ وقابل فزد على الشيئين نصف شئ يبقى سبعة ونصف تعدل شيئين
ونصفاً فالشئ ثلاثة فلورثته ستة ولورثتها أربعة لأنها كان لها خمسة وشئ
وذلك ثمانية رجع إلى ورثته نصفها وهي أربعة صار لهم ستة ولورثتها أربعة على
ما ذكرنا فإن ترك الزوج خمسة أخرى قلت يبقى مع ورثة الزوج اثنا عشر ونصف
إلا نصف شئ تعدل شيئين فالشئ خمسة فجازت لها المحاباة جميعها ورجع جميع ما
حاباها به إلى ورثة
(6/308)
الزوج وبقي لورثتها صداق مثلها فإن كان
للمرأة خمسة ولم يكن للزوج شئ قلت يبقى مع ورثة الزوج
عشرة إلا نصف شئ يعدل شيئين فالشئ أربعة فيكون لها بالصداق تسعة مع خمستها
أربعة عشر رجع إلى ورثة الزوج نصفها مع الدينار الذي بقي لهم صار لهم
ثمانية ولورثتها سبعة، وإن كان عليها دين ثلاثة قلت يبقى مع ورثة الزوج ستة
إلا نصف شئ يعدل شيئين فالشئ ديناران وخمسان والباب في هذا أن ينظر ما بقي
في يد ورثة الزوج فخمساه هو الشئ الذي صحت المحاباة فيه وذلك لأنه بعد
الجبر يعدل شيئين ونصفا، والشئ هو خمساها، وإن شئت أسقطت خمسة وأخذت نصف ما
بقي * (مسألة) * (وإن مات قبلها ورثته وسقطت المحاباة) لأن حكمها في المرض
حكم الوصية في أنها لا تصح لوارث وعنه تعتبر المحاباة من الثلث لأنها
محاباة لمن تجوز له الصدقة عليه فاعتبرت من الثلث كمحاباة الأجنبي إلا أن
أبا بكر قال هذا قول قديم رجع عنه (فصل) قال الشيخ رضي الله عنه ولو ملك
ابن عمه فأقر في مرضه أنه أعتقه في صحته وهو وارثه عتق ولم يرث ذكره أبو
الخطاب لأنه لو ورثه كان إقراره لوارث فيبطل عتقه لأنه مرتب على صحة
الإقرار ولا يصح الإقرار للوارث وإذا بطل عتقه سقط الإرث فعلى هذا نثبت
الحرية ولا يرث لأن توريثه يفضي الى اسقاط توريثه ويحتمل أن يرث لأنه حين
الإقرار لم يكن وارثاً فوجب أن يرث كما لو لم يصر وارثاً وعلى قياس ذلك لو
اشترى دار حمه المحرم في مرضه وهو وارثه أو وصي له به أو وهب له فقبله في
مرضه فالحكم في ذلك كالمسألة قبلها سواء لما ذكرنا وذكر شيخنا أنه إذا ملكه
بغير عوض كالهبة والميراث أنه يعتق ويرث المريض إذا مات وبه قال مالك وأكثر
أصحاب الشافعي وقال بعضهم يعتق ولا يرث كما قال أبو الخطاب لأن عتقه وصية
فلا تجتمع مع الميراث وهذا لا يصح لأنه لو كان وصية لاعتبر من الثلث كما لو
اشتراه وجعل أهل العراق عتق الموهوب وصية يعتبر خروجه من الثلث، وإن خرج من
الثلث عتق وورث، وإن لم يخرج من الثلث سعى في قيمة باقيه ولم يرث في قول
أبي حنيفة وقال أبو يوسف ومحمد يحتسب بقيمته من ميراثه فإن فضل من قيمته شئ
سعى فيه
(6/309)
ولنا أن الوصية هي التبرع بعطية أو إتلاف
أو السبب إلى ذلك ولم يوجد واحد منهما لأن العتق
ليس من فعله ولا يقف على اختياره، وقبول الهبة ليس بعطية ولا إتلاف لماله
إنما هو تحصيل لشئ يتلف بتحصيله فأشبه قبوله لشئ لا يمكنه حفظه أو لما يتلف
ببقائه في وقت لا يمكنه التصرف فيه وفارق الشراء فإنه تضييع لماله في ثمنه
قال القاضي هذا المذكور قياس قول أحمد لأنه قال في مواضع إذا وقف في مرضه
على ورثته صح ولم تكن وصية لأن الوقف ليس بمال لأنه لا يباع ولا يورث قال
الخبري هذا قول أحمد وابن الماجشون وأهل البصرة ولم يذكر فيه عن أحمد خلافه
فأما إن اشترى من يعتق عليه فقال القاضي إن حمله الثلث عتق وورثه وهذا قول
مالك وأبي حنيفة، وإن لم يخرج من الثلث عتق منه بقدر الثلث ويرث بقدر ما
فيه من الحرية وباقيه على الرق فإن كان الوارث ممن يعتق عليه إذا ملكه عتق
عليه إذا ورثه، وقال أبو يوسف ومحمد لا وصية لوارث ويحتسب بقيمته من ميراثه
وإن فضل من قيمته شئ سعى فيه، وقال بعض أصحاب مالك يعتق من رأس المال ويرث
كالموهوب والموروث وهو قياس قول أحمد لكونه لم يجعل الوقف وصية وأجازه
للوارث فهذا أولى لأن العبد لا يملك رقبته فيجعل ذلك وصية له ولا يجوز ان
يجعل الثمن وصية له لأنه لم يصل إليه ولا وصية للبائع لأنه قد عاوض عنه
وإنما هو كبناء مسجد وقنطرة في أنه ليس بوصية لمن ينتفع به فلا يمنعه ذلك
الميراث واختلف أصحاب الشافعي في قياس قوله فقال بعضهم إذا حمله الثلث عتق
وورث لأن عتقه ليس بوصية له على ما ذكرنا، وقيل يعتق ولا يرث لأنه لو ورث
لصارت وصية لوارثه فتبطل وصيته ويبطل عتقه وارثه فيفضي توريثه إلى إبطال
توريثه فكان إبطال توريثه أولى، وقيل على مذهبه شراؤه باطل لأن ثمنه وصية
والوصية يقف خروجها من الثلث أو إجازة الورثة، والبيع عنده لا يجوز أن يكون
موقوفاً، ومن مسائل ذلك مريض وهب له ابنه فقبله وقيمته مائة وخلف مائتي
درهم وابنا آخر فإنه يعتق وله مائة ولأخيه مائة وهذا قول أبي حنيفة ومالك
والشافعي، وقيل على قول الشافعي لا يرث والمئتان كلها للابن الآخر، وقال
أبو يوسف ومحمد يرث نصف نفسه ونصف المائتين ويحتسب بقيمة نصفه الباقي من
ميراثه، وإن كانت قيمته مائتين وبقية التركة مائة عتق من رأس المال والمائة
(6/310)
بينه وبين أخيه وبهذا قال مالك والشافعي،
وقال أبو حنيفة يعتق منه نصفه لأنه قدر ثلث التركة
ويسعى في قيمة باقيه ولا يرث لأن المستسعى عنده كالعبد لا يرث إلا في أربعة
مواضع الرجل يعتق أمته على أن تتزوجه، والمرأة تعتق عبدها على أن يتزوجها
فيأبيان ذلك، والعبد المرهون يعتقه سيده والمشترى للعبد نصفه قبل قبضه وهما
معسران ففي هذه المواضع يسعى كل واحد في قيمته وهو حر يرث وقال أبو يوسف
ومحمد يرث نصف التركة وذلك ثلاثة أرباع رقبته ويسعى في ربع قيمته لأخيه فإن
وهب له ثلاث أخوات متفرقات لا مال له سواهن ولا وارث عتقن من رأس المال
وهذا قول مالك وإن كان اشتراهن فكذلك فيما ذكره الخبري عن أحمد وهو قول ابن
الماجشون وأهل البصرة وبعض أصحاب مالك وعلى قول القاضي يعتق ثلثهن في أحد
الوجهين وهو قول مالك وفي الآخر يعنقن كلهن لكون وصية من لا وارث له جائزة
في جميع ماله في أصح الروايتين، وإن ترك مالا يخرجن من ثلثه عتقن وورثن،
وقال أبو حنيفة إذا اشتراهن أو وهبن له ولا مال له سواهن ولا وارث عتقن
وتسعى كل واحدة من الأخت للأب والأخت من الأم في نصف قيمتها للأخت للأبوين
وإنما لم يرثا لانهما لو ورثتا لكان لهما خمس وذلك رقبة وخمس بينهما نصفين
فكان يبقى عليهما سعاية وإذا بقيت عليهما سعاية لم يرثا وكانت لهما الوصية
وهي رقبة بينهما نصفين وأما الأخت للأبوين فإذا ورثت عتقت لأن لها ثلاثة
أخماس الرقاب وذلك أكثر من قيمتها فورثت وبطلت وصيتها وقال أبو يوسف ومحمد
يعتقن وتسعى كل واحدة من الأخت للأب والأخت للأم للأخت من الأبوين في خمسي
قيمتها لأن كل واحدة ترث ثلاثة أخماس رقبة وعلى قول الشافعي لا يعتقن (فصل)
وإذا اشترى المريض أباه بألف لا مال له سواه ثم مات وخلف ابناً فعلى القول
الذي حكاه الخبري يعتق كله على المريض وله ولاؤه وعلى قول القاضي يعتق ثلثه
بالوصية ويعتق الباقي على الابن لأنه جده ويكون ثلث ولائه للمشتري وثلثاه
لابنه، وهذا قول مالك وقيل هو مذهب للشافعي، وقال أبوحينفة يعتق ثلثه
بالوصية ويسعى للابن في قيمة ثلثيه وقال أبو يوسف ومحمد يعتق سدسه لأنه
ورثه ويسعى في خمسة أسداس قيمته للابن ولا وصية له وقيل على قول الشافعي
ينفسخ البيع إلا أن يجيز الابن عتقه وقيل ينفسخ في ثلثيه ويعتق ثلثه
وللبائع الخيار لتفريق الصفقة عليه وقيل لا خيار له لأنه متلف فإن ترك
ألفين سواه عتق كله وورث سدس الألفين والباقي للابن، وبهذا قال مالك
(6/311)
وأبو حنيفة وقيل نحوه قول الشافعي وقيل على
قوله يعتق ولا يرث وقيل شراؤه مفسوخ وقال أبو يوسف ومحمد يرث الأب سدس
التركة وخمسمائة يحتسب بها من رقبته ويسعى في نصف قيمته ولا وصية له فإن
اشترى ابنه بألف لا يملك غيره ومات وخلف أباه عتق كله بالشراء في الوجه
الأول وفي الثاني يعتق ثلثه بالوصية وثلثاه على جده عند الموت وولاؤه
بينهما أثلاثاً، وبهذا قال مالك وقول الشافعي فيه على ما ذكرنا في مسألة
الأب، وقال أبو حنيفة يعتق ثلثه بالوصية ويسعى في قيمة ثلثيه للأب ولا يرث،
وقال أبو يوسف ومحمد يرث خمسة أسداسه ويسعى في قيمة سدسه فإن ترك ألفين
سواه عتق كله وورث خمسة أسداس الألفين وللأب السدس، وبهذا قال مالك وأبو
حنيفة وقال أبو يوسف ومحمد للأب سدس التركة خمسمائة وباقيها للابن يعتق
منها ويأخذ ألفاً وخمسمائة وإن خرج مالا يخرج المبيع من ثلثه فعلى الوجه
الأول يعتق كله ويرث منه كأنه حر الأصل على الوجه الثاني يعتق منه بقدر ثلث
التركة ويرث بقدر ما فيه من الحرية فإن لم يخلف المشتري إلا أخاً حراً ولم
يترك مالاً عتق من رأس المال على الوجه الأول ويعتق ثلثه على الثاني ويرث
الأخ ثلثيه ثم يعتق عليه وقال أبو حنيفة يعتق ثلثه ويسعى لعمه في قيمة
ثلثيه وقال أبو يوسف ومحمد يعتق كله ولا سعاية وإن خلف ألفين سواه عتق وورث
الألفين ولا شئ للأخ في الأقوال إلا فيما قيل على قول الشافعي أنه يعتق ولا
يرث وقيل شراؤه باطل فإن اشترى ابنه بألف لا يملك غيره وقيمته ثلثا الألف
وخلف ابناً آخر فعلى الوجه الأول يعتق من رأس المال ويستقر ملك البائع على
قدر قيمته من الثمن وله ثلث الباقي لأن المشتري حاباه ولم يبق من التركة
سواه فيكون له ثلثه وهي تسع ألف ويرد التسعين فتكون بين الاثنين، وعلى
الوجه الثاني يعتق ثلثه ويرث أخوه ثلثيه ويعتق عليه وللبائع ثلث المحاباة
ويرد ثلثيها فيكون ميراثاً، وقال أبو حنيفة الثلث للبائع ويسعى المشتري في
قيمته لأخيه وقال أبو يوسف ومحمد يسعى في نصف رقبته ويرث نصفها وقال
الشافعي المحاباة مقدمة لتقدمها ويرث الابن الحر أخاه فيملكه وقيل يفسخ
البيع في ثلثيه ويعتق ثلثه ولا تقدم المحاباة لأن في تقديمها تقرير ملك
الأب على ولده وقيل يفسخ البيع في جميعه فإن كانت قيمته ثلاثة آلاف فعلى
الوجه الأول يعتق من رأس المال وتنفذ
(6/312)
المحاباة في ثلث الباقي وهو تسعا الألف
ويرد البائع أربعة أتساع الألف فتكون بين الابنين وعلى الوجه الآخر يحتمل
وجهين (احدهما) يقدم العتق على المحاباة فيعتق جميعه ويرد البائع ثلثي
الألف فيكون بينهما (والثاني) يعتق ثلثه ويكون للبائع تسعا ألف ويرد أربعة
أتساعها كما قلنا في الوجه الأول، وقال أبو حنيفة للبائع بالمحاباة الثلث
ويرد الثلث ويسعى الابن في قيمته لأخيه في قول أبي يوسف ومحمد يرد البائع
ثلث الألف فيكون ذلك مع المشتري للابن الحر وقيل غير ذلك وإن اشتراه بألف
لا يملك غيره وقيمته ثلاثة آلاف فمن أعتقه من رأس المال جعله حراً ومن جعل
ذلك وصية أعتق ثلثه بالشراء ويعتق باقيه على أخيه إلا في قول الشافعي ومن
وافقه فإن الحر يملك بقية أخيه فيملك من رقبته قدر ثلثي الثمن وذلك تسعا
رقبته لأنه يجعل ثمنه من الثلث دون قيمته وقيل يفسخ البيع في ثلثيه وقيل في
جميعه، وقال أبو حنيفة يسعى لأخيه في قيمة ثلثيه وقال أبو يوسف ومحمد يسعى
له في نصف قيمته فإن ترك ألفين سواه عتق كله لأن التركة هي الثمن مع
الألفين والثمن يخرج من الثلث فيعتق ويرث نصف الألفين وهو قول للشافعي وقيل
يعتق ولا يرث وعند أبي حنيفة وأصحابه التركة قيمته مع الألفين وذلك خمسة
آلاف فعلى قول أبي حنيفة يعتق منه قدر ثلث ذلك وهو ألف وثلثا الف ويسعى
لأخيه في ألف وثلث ألف وفي قول صاحبيه يعتق منه نصف ذلك وهو خمسة أسداسه
ويسعى لأخيه في خمسمائة والألفان لأخيه في قولهم جميعاً (فصل) ولو اشترى
المريض ابني عم له بألف لا يملك غيره وقيمة كل واحد منهما ألف فأعتق أحدهما
ثم وهبه أخاه ثم مات وخلفهما وخلف مولاه فإن قياس قول القاضي أن شاء الله
أنه يعتق ثلثا المعتق إلا أن يجيز المولى عتق جميعه ثم يرث بثلثيه ثلثي
بقية التركة فيعتق منه ثمانية أتساعه يبقى تسعة وثلث أخيه للمولى ويحتمل أن
يعتق كله ويرت أخاه فيعتقان جميعاً لانه يصير بالاعتاق وارثاً لثلثي التركة
(6/313)
فتنفذ إجازته في إعتاق باقيه فتكمل له
الحرية ثم يكمل له الميراث وفي قياس قول أبي الخطاب يعتق ثلثاه ولا يرث
لأنه لو ورث لكان إعتاقه وصية له فيبطل إعتاقه ثم يبطل إرثه فيؤدي توريثه
إلى إبطال توريثه وهذا قول الشافعي ويبقى ثلثه وابن العم الآخر للمولى وقال
أبو حنيفة يعتق ثلثا المعتق ويسعى
في قيمة ثلثه ولا يرث، وقال أبو يوسف ومحمد يعتق كله ويعتق عليه أخوه
بالهبة ويكون أحق بالميراث من المولى فإن كان للميت مال سواهما أخذا ذلك
المال بالميراث ويغرم المعتق لأخيه الموهوب نصف قيمة نفسه ونصف قيمة أخيه
لأن عتق الأول وصية ولا وصية لوارث وقد صار وارثاً مع أخيه فورث نصف قيمة
رقبته ونصف قيمة أخيه وورث أخوه الباقي وكان أخوه الموهوب له هبة من المريض
له فيعتق بقرابته له ولم يعتق من المريض فلم يكن عتقه وصية بل استهلكها
بالعتق الذي جرى فيها فيغرم الأول نصف قيمته ونصف قيمة أخيه لأخيه وأما قول
أبي حنيفة فإن كان الميت لم يدع وارثاً غيرهما عتق وغرم الأول لأخيه نصف
قيمة أخيه ولم يغرم له نصف قيمه نفسه لأنه إذا لم يدع وارثاً جازت وصيته
لأنهما لا يرثان ولا يعتقان حتى تجوز وصية الأول لأنه متى بقيت عليه سعاية
لم يرث واحد منهما ولم يعتق فلابد من أن تنفذ للمعتق وصية ليصير حراً فيعتق
أخوه بعتقه وقد جازت له الوصية في جميع رقبته لأن الميت إذا لم يدع وارثاً
جازت وصيته بجميع ماله ويرثان جميعاً ويرجع الثاني على الأول بنصف قيمته
لأنه يقول قد صرت أنا وأنت وارثين فلا تأخذ من الميراث شيئاً دوني وقد كانت
رقبتي لك وصية فعتقت من قبلك فاضمن لي نصف رقبتي فإن كان معسراً أو هناك
مال غيرهما أخذ الثاني نصفه ثم أخذ من النصف الثاني نصف قيمة نفسه وكان ما
بقي ميراثاً لأخيه الأول * (مسألة) * (ولو أعتق أمته وتزوجها في مرضه فنقل
المروذي عن أحمد أنها ترث اختاره القاضي، وقال الشافعي لا ترث لان ترويثها
يفضي إلى ابطال عتقها لأنه وصية وإبطال عتقها يبطل توريثها.
ولنا أن العتق في هذه الحال وصية بما لا يلحقه الفسخ فيجب تصحيحه للوارث
كالعفو عن العمد في مرضه فإنه لا يسقط ميراثه ولا تبطل الوصية
(6/314)
* (مسألة) * (ولو أعتقها وقيمتها مائة ثم
تزوجها وأصدقها مائتين لا مال له سواهما وهما مهر مثلها ثم مات صح العتق
ولم تستحق الصداق لئلا يفضي إلى بطلان عتقها ثم يبطل صداقها وقال القاضي
تستحق المائتين وتعتق) لأن العتق وصيه لها وهي غير وارثة والصداق استحقته
بعقد المعاوضة وهي تنفذ من
رأس المال فهو كما لو تزوج أجنبية وأصدقها المائتين وقال أصحاب الشافعي
يسقط مهرها ولا ترث لكونها لا تخرج من الثلث وسقوط العتق في بعضها يبطل
مهرها ويسقط نكاحها فأسقطنا المهر والميراث وأنفذنا العتق والنكاح قال
شيخنا وهذا أولى من القول بصحة العتق والصداق جميعاً لأنه يفضي إلى القول
بصحة العتق في مرض الموت من جميع المال ولا خلاف في فساد ذلك ولو أصدق
المائتين أجنبية صح وبطل العتق في ثلثي الأمة لأن الخروج من الثلث معتبر
بحالة الموت وحالة الموت لم يبق له مال وهكذا لو تلفت المائتان قبل موته لم
ينفذ من عتق الامة إلا الثلث وإذا بطل بعض عتقها بذهاب المائتين إلى غيرها
فأولى أن يبطل بذهابها إليها وبطلان عتقها يبطل نكاحها فالقول بسقوط المهر
وحده أولى * (مسألة) * (وإن تبرع بالثلث ثم اشترى أباه من الثلثين وله ابن
فعلى قول من قال: ليس الشراء بوصية يعتق الأب وينفذ من التبرع قدر ثلث
المال حال الموت وما بقي فللأب سدسه وباقيه للابن وعلى قول القاضي ومن جعله
وصية لا يعتق الأب لأن تبرع المريض إنما ينفذ في الثلث ويقدم الاول فالال
وإذا قدم التبرع لم يبق من الثلث شئ ويرثه الابن فيعتق عليه ولا يرث لأنه
إنما عتق بعد الموت وإن وهب له أبوه عتق وورث لأن الهبة ليست بوصية وكذلك
إن ورثه وإن اشترى أباه ثم أعتقه لم يعتق على قول القاضي لأنه إذا لم يعتق
بالملك وهو أقوى من الإعتاق بالقول بدليل نفوذه في حق الصبي والمجنون فأولى
أن لا ينفذ بالقول والله سبحانه وتعالى أعلم فصول في تصرف المريض (فصل) إذا
أعتق أمة لا يملك غيرها ثم تزوجها فالنكاح صحيح في الظاهر فإذا مات ولم
يملك شيئاً آخر تبين أن نكاحها باطل ويسقط مهرها إن كان لم يدخل بها وهذا
قول أبي حنيفة والشافعي ويعتق منها ثلثها ويرق ثلثاها فإن كان قد دخل بها
ومهرها نصف قيمتها عتق منها ثلاثة أسباعها ويرق أربعة أسباعها وحساب ذلك أن
تقول عتق منها شئ ولها بصداقها نصف شئ وللورثة شيئان فيجمع
(6/315)
ذلك فيكون ثلاثة أشياء ونصفا نبسطها فتكون
سبعة لها منها ثلاثة ولهم أربعة ولا شئ للميت سواها
فنجعل لنفسها منها ثلاثة أسباعها يكون حراً والباقي للورثة وإن أحب لورثة
أن يدفعوا إليها حصتها من مهرها وهو سبعاه ويعق منها سبعاها ويسترقوا خمسة
أسباعها فلهم ذلك وهذا مذهب الشافعي وقال أبو حنيفة يحسب مهرها من قيمتها
ولها ثلث الباقي ويسعى فيما بقي وهو ثلث قيمتها فإن كان يملك مع الجارية
قدر نصف قيمتها ولم يدخل بها عتق منها نصفها ورق نصفها لأن نصفها هو ثلث
المال وإن دخل بها عتق منها ثلاثة أسباعها ولها ثلاثة أسباع مهرها وإنما قل
العتق فيها لأنها لما أخذت ثلاثة أسباع مهرها نقص المال به فيعتق منها ثلث
الباقي وهو ثلاثة أسباعها وطريق حسابها أن تقول عتق منها شئ ولها بمهرها
نصف شئ وللورثة شيئان يعدل ذلك الجارية ونصف قيمتها فالشئ سبعاها وسبعا نصف
قيمتها وهو ثلاثة أسباعها وهو الذي عتق منها ويأخذ نصف ذلك من المال بمهرها
وهو ثلاثة أسباعه فإن كان يملك معها مثل قيمتها ولم يدخل بها عتق ثلثاها
ورق ثلثها وبطل نكاحها وإن كان دخل بها عتق أربعة أسباعها ولها أربعة أسباع
مهرها ويبقى للورثة ثلاثة أسباعها وخمسة أسباع قيمتها وهو يعدل مثلي ما عتق
منها وحسابها أن تجعل السبعة الأشياء معادلة لها ولقيمتها فيعتق منها بقدر
سبعي الجميع وهو أربعة أسباعها وتستحق سبع الجميع بمهرها وهو أربعة أسباع
مهرها فإن كان يملك معها مثلي قيمتها عتقت كلها وصح نكاحها لأنها تخرج من
الثلث إن أسقطت مهرها وإن أبت أن تسقطه لم ينفذ عتقها وبطل نكاحها فإن كان
لم يدخل بها فينبغي أن يقضي بعتقها ونكاحها ولا مهر لها لأن إيجابه يفضي
إلى إسقاطه وإسقاط عتقها ونكاحها فإسقاطه وحده أولى وإن كان دخل بها عملنا
فيها على ما تقدم فيعتق ستة أسباعها ولها ستة أسباع مهرها ويبطل عتق سبعها
ونكاحها ولو أعتقها ولم يتزوجها ووطئها كان العمل فيها في هذه المواضع كما
لو تزوجها وهذا مذهب الشافعي وذكر القاضي في هذه المسألة التي قبل الأخيرة
ما يقتضي صحة نكاحها وعتقها مع وجوب مهرها فيما إذا عتق في مرضه أمة قيمتها
مائة وأصدقها مائتين لا مال له سواهما وهو مهر مثلها وهو مذكور في هذا
الباب وقال أبو حنيفة فيما إذا ترك مثلي قيمتها وكان مهرها نصف قيمتها تعطى
مهرها وثلث الباقي يحسب ذلك من قيمتها وهو نصفها وثلثها فيعتق ذلك وتسعى في
سدسها الباقي ويبطل نكاحها فإن خلف أربعة أمثال قيمتها صح عتقها ونكاحها
وصداقها في قول الجميع لأن ذك يخرج من الثلث وترث من الباقي في قول أصحابنا
وهو
(6/316)
قول أبي حنيفة وقال الشافعي لا ترث وهو
مقتضى قول الخرقي لأنها لو ورثت لكان عتقها وصية لوارث واعتبار الوصية
بالموت (فصل) ولو أن امرأة مريضة أعتقت عبداً قيمته عشرة وتزوجها بعشرة في
ذمته ثم ماتت وخلفت مائة اقتضي قول اصحابنا إن تضم العشرة التي في ذمته إلى
المائة فيكون ذلك هو التركة وترث نصف ذلك ويبقى للورثة خسمة وخمسون وهذا
مذهب أبي حنيفة وقال صاحباه يحسب عليه قيمته أيضاً ويضم إلى التركة ويبقى
للورثة ستون وقال الشافعي لا ترث شيئاً وعليه أداء العشرة التي في ذمته
لئلا يكون إعتاقه وصية لوارث وهذا مقتضى قول الخرقي إن شاء الله تعالى
(فصل) فأما إن أعتق أمته في صحته ثم تزوجها في مرضه صح وورثته بغير خلاف
علمناه فأما إن أعتقها في مرضه ثم تزوجها وكانت تخرج من ثلثه عتقت وورثت في
اختيار أصحابنا وقول أبي حنيفة ونقله المروذي عن أحمد كما لو كان عتقها في
صحته وقال الشافعي لا ترث وقد ذكرناه
(6/317)
باب اللقطة وهي المال الضائع من ربه يلتقطه
غيره قال الخليل بن أحمد اللقطة بفتح القاف اسم للملتقط لان ما جاه على
فعلة فهو اسم لفاعل كالصحلة والصرعة، واللقطة بسكون القاف المال الملقوط
مثل الصحلة الذي يصحل منه والهزأة الذي يهزأ به، وقال الاصمعي وابن
الاعرابي والفراء هي بفتح القاف اسم المال المقوط أيضاً والأصل فيها ما روى
زيد بن خالد الجهني قال سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لقطة الذهب
والورق فقال " اعرف وكاها وعفاصها ثم عرفها سنة فإن لم تعرف فاستنفقها
ولتكن وديعة عندك فإن جاء طالبها يوماً من الدهر فادفعها إليه " وسأله عن
ضالة الإبل فقال " مالك ولها دعها فإن معها حذاءها وسقاءها ترد الماء وتأكل
الشجر حتى يجدها ربها " وسأله عن الشاة فقال " خذها فانا هي لك أو لأخيك أو
للذئب " متفق عليه الوكاء الخيط الذي يشد به المال في الخرقة، والعفاص
الوعاء الذي هي فيه من خرقة أو قرطاس أو غيره، قاله أبو عبيد والأصل في
العفاص أنه الجلد الذي يلبسه
رأس القارورة، وقوله " معها حذاءها " يعني خفها لأنه لقوته وصلابته يجري
مجرى الحذاء وسقاؤها بطنها تأخذ فيه ماء كثيراً فيبقى معها يمنعها العطش
والضالة، اسم للحيوان خاصة دون سائر اللقطة والجمع ضوال ويقال لها أيضاً
الهوامي والهوامل.
(6/318)
* (مسألة) * (وتنقسم ثلاثة أقسام (أحدها) :
مالا تتبعه الهمة كالسوط والشع والرغيف فيملكه بأخذه بلا تعريف) لما روى
جابر قال رخص لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في العصا والسوط والحبل
وأشباهه يلتقطه الرجل فينتفع به رواه أبو داود وكذلك التمرة والكسرة
والخرقة ومالا خطر له يجرز الانتفاع به من غير تعريف لأن النبي صلى الله
عليه وسلم لم ينكر على واجد التمرة حيث أكلها بل قال له " لو لم تأتها
لاتتك " ورأى النبي صلى الله عليه وسلم تمرة فقال " لولا أني أخشى أن تكون
من الصدقة لأكلتها " ولا نعلم خلافاً بين أهل العلم في إباحة اليسير
والانتفاع به روى ذلك عن عمر وعلي وابن عمر وعائشة وبه قال عطاء وجابر بن
زيد وطاووس والنخعي ويحيى بن أبي كثير ومالك والشافعي وأصحاب الرأي قال
شيخنا وليس عن احمد تحديد اليسير الذي يباح، وروى عن أحمد أبو بكر بن صدقة
إذا أخذ درهماً عرفه سنة وقال في رواية عبد الله ما كان نحو التمرة والكسرة
والخرقة ومالا خطر له فلا بأس، ونحو ذلك قول الشافعي وذكر القاضي ذلك في
كتاب الخلاف ويحتمل أن لا يجب تعريف ما لا يقطع به السارق وهو ربع دينار
عند مالك وعشرة دراهم عند أبي حنيفة لأن ما دون ذلك تافه فلا يجب تعريفه
كالكسرة والتمرة بدليل قول عائشة رضي الله عنها كانوا لا يقطعون في الشئ
(6/319)
التافه وروي عن علي رضي الله عنه أنه وجد
ديناراً فتصرف فيه، وروى الجوزجاني عن سلمى بنت كعب قالت وجدت خاتماً من
ذهب في طريق مكة فسألت عائشة عنه فقالت تمتعي به، ورخص رسول الله صلى الله
عليه وسلم في الحبل في حديث جابر وقد تكون قيمته دراهم، وعن سويد بن غفلة
قال خرجت مع سلمان بن ربيعة وزيدان بن صوحان حتى إذا كنا بالعذيب التقطت
سوطاً فقال لي
ألقه فأبيت فلما قدمنا المدينة أتيت أبي بن كعب فذكرت ذلك له فقال أصبت قال
الترمذي هذا حديث حسن صحيح وللشافعية ثلاثة أوجه كالمذاهب الثلاثة ولنا على
إبطال تحديده بما ذكره عموم حديث زيد بن خالد في كل لقطة فيجب إبقاؤه على
عمومه إلا ما خرج منه لدليل ولم يرد بما ذكروه نص ولا هو في معنى ما ورد به
النص ولأن التحديد لا يعلم بالقياس وإنما يؤخذ من نص أو إجماع وليس فيما
ذكروه نص ولا إجماع فأما حديث علي فهو ضعيف رواه أبو داود وقال طرقه كلها
مضطربة ثم هو مخالف لمذهبهم ولسائر المذاهب فتعين حمله على وجه من الوجوه
غير اللقطة إما لكونه مضطراً إليه أو غير ذلك وحديث عائشة قضية في عين لا
يدري كم قدر الخاتم؟ ثم هو قول صحابي وهم لا يرون ذلك حجة وسائر الأحاديث
ليس فيها تقدير لكن يباح ما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم ورخص فيه من
السوط والعصا والحبل وما قيمته كقيمة ذلك (فصل) والذي يجوز التقاطه
والانتفاع به من غير تعريف كالكسرة والتمرة والعصا ونحو ذلك
(6/320)
إذا التقطه إنسان وانتفع به وتلف فلا ضمان
فيه ذكره صاحب المستوعب وكذلك ما قيمته كقيمة ذلك لأن النبي صلى الله عليه
وسلم رخص فيه ولم يذكر عليه ضماناً ولا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة
وكذلك يخرج في السوط والحبل وشبهه المذكور في حديث جابر وقدره الشيخ أبو
الفرج بما دون القيراط ولا يصح تحديده لما ذكرناه وذكره القاضي أنه لا يجب
تعريف الدافق * (القسم الثاني) * (الضوال التي تمتنع من صغار السباع كالإبل
والبقر والخيل والبغال والظباء والطير والفهود ونحوها لا يجوز التقاطها) كل
حيوان يقوى على الامتناع من صغار السباع وورود الماء لا يجوز التقاطه سواء
كان لكبر جثته كالإبل والخيل أو لطيرانه كالطيور كلها أو لعدوه كالظباء أو
أنيابه كالكلاب والفهود قال عمر رضي الله عنه من أخذ الضالة فهو ضال أي
مخطئ وبهذا قال الشافعي وابو عبيد، وقال مالك والليث في ضالة الإبل من
وجدها في الصحراء لا يقر بها ورواه المزني عن الشافعي وكان الزهري يقول من
وجد بدنة فليعرفها فان لم يجد صاحبها فلينحرها قبل أن تنقضي الأيام الثلاثة
وقال أبو حنيفة يباح التقاطها لأنها لقطة أشبهت الغنم
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عنها " مالك ولها دعها فإن معها
حذاءها وسقاءها ترد الما وتأكل الشجر حتى يجدها ربها وسئل صلى الله عليه
وسلم فقيل يا رسول الله إنا نجد هوامي الإبل فقال " ضالة المسلم حرق النار
" وعن جرير بن عبد الله أنه أمر بطرد بقرة لحقت ببقره حتى توارت وقال سمعت
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول
(6/321)
" لا يؤرى الضالة لا ضال " رواه ابودواد
بمعناه وقياسهم يعارض صريح النص وكيف يجوز ترك نص النبي صلى الله عليه وسلم
وصريح قوله بقياس نصه في موضع آخر؟ على أن الإبل تفارق الغنم لضعفها وقلة
صبرها عن الماء والخوف عليها من الذئب (فصل) فإن كانت الصيود مستوحشة إذا
تركت رجعت إلى الصحراء وعجز عنها صاحبها جاز التقاطها لأن تركها أضيع لها
من سائر الأموال والمقصود حفظها لصاحبها لا حفظها؟ ي نفسها ولو كان المقصود
حفظها في نفسها لما جاز التقاط الأثمان فإن الدنيار دينار حيث كان (فصل)
والبقر كالإبل نص عليه أحمد وهو قول الشافعي وابي عبيد وحكي عن مالك أن
البقرة كالشاة ولنا خبر جرير فإنه طرد البقرة ولم يأخذها ولأنها تمتنع من
صغار السباع وتجزئ في الأضحية عن سبعة فأشبهت الإبل، وكذلك الحكم في الخيل
والبغال، فأما الحمر فجعلها أصحابنا من هذا الفسم الذي لا يجوز التقاطه
لكبر أجسامها فأشبهت الخيل والبغال، قال شيخنا والأولى إلحاقها بالشاة لأن
النبي صلى الله عليه وسلم علل الإبل بأن معها سقاءها يريد شدة صبرها عن
الماء لكثرة ما توعي في بطونها منه وقوتها على وروده وفي إباحته ضالة الغنم
بأنها معرضة لأخذ الذئب إياها بقوله " هي لك أو لأخيك أو للذئب " والحمر
مساوية للشاة في علتها فإنها لا تمتنع من الذئب وتفارق الإبل في علتها
لكونها لا صبر لها عن الماء ولهذا يضرب المثل بقلة صبرها عن الماء فيقال ما
بقي من مدته إلا ظمأ حمار والحاق الشئ بما ساواه في علة الحكم وفارقه في
الصورة أولى من الحاقه بما قاربه في الصورة وفارقه في العلة
(6/322)
(فصل) فأما غير الحيوان فما كان منه ينحفظ
بنفسه كأحجار الطواحين والكبير من الخشب وقدور النحاس فهو كالإبل في تحريم
أخذه بل أولى منه لأن الإبل معرضة للتلف في الجملة بالأسد وبالجوع
والعطش وغير ذلك وهذه بخلاف ذلك ولأن هذه لا تكاد تضيع عن صاحبها ولا تبرح
من مكانها بخلاف الحيوان فإذا حرم أخذ الحيوان فهذه أولى (فصل) فان أخذ
الحيوان الذي لا يجوز أخذه على سبيل الالتقاط ضمنه إماماً كان أو غيره لأنه
أخذ ملك غيره بغير إذنه ولا إذن الشارع له فهو كالغاصب، فإن رده إلى موضعه
لم يبرأ من الضمان وبهذا قال الشافعي وقال مالك يبرأ لأن عمر رضي الله عنه
قال أرسله إلى الموضع الذي أصبته فيه وجرير طرد البقرة التي لحقت ببقره
ولنا أن ما لزمه ضمانه لا يزول عنه إلا برده إلى صاحبه أو نائبه كالمسروق
والمغصوب وأما حديث جرير فإنه لم يأخذ البقرة إنما لحقت بالبقر فطردها
فأشبه ما لو دخلت داره فأخرجها وأما عمر فهو كان الإمام فأمره بردها إلى
مكانها كأخذها، فعلى هذا متى لم يأخذها بحيث نثبت يده عليها لا يلزمه
ضمانها سواء طردها أو لم يطردها فإن دفعها إلى نائب الإمام زال عنه الضمان
لأن له نظراً في ضوال الناس بدليل أن له أخذها فكان نائباً عن أصحابها فيها
(6/323)
(فصل) وللإمام أو نائبه أخذ الضالة ليحفظها
لصاحبها لأن عمر رضي الله عنه حمى موضعاً يقال له النقيع لخيل المجاهدين
والضوال ولأن للإمام نظراً في حفظ مال الغائب وفي أخذ هذه حفظ لها عن
الهلاك ولا يلزمه تعريفها لأن عمر رضي الله عنه لم يكن يعرف الضوال ولأنه
إذا عرف ذلك فمن كانت له ضالة فانه يجئ إلى موضع الضوال فإذا عرف ضالته
أقام البينة عليها وأخذها، ولا يكتفى فيها بالصفة لأنها ظاهرة بين الناس
فيعرف صفاتها من رآها من غير أهلها فلم تكن الصفة دليلاً على ملكه لها ولأن
الضالة كانت ظاهرة للناس حين كانت في يد مالكها فلا يختص هو بمعرفة صفاتها
دون غيرها فلم يكن ذلك دليلاً ويمكنه إقامة البينة عليها لظهورها للناس
ومعرفة خلطائه وجيرانه تملكه إياها (فصل) وإن أخذها غير الإمام أو نائبه
ليحفظها لصاحبها لم يجز له ذلك ولزمه ضمانها لأنه لا ولاية له على صاحبها،
وهذا ظاهر مذهب الشافعي ولأصحابه وجه أن له أخذها لحفظها كالإمام أو نائبه
ولا يصح القياس على الإمام لأن له ولاية وهذا لا ولاية له، فإن وجدها في
موضع يخاف
عليها به كأرض مسبعة يغلب على الظن أن الأسد يفترسها إن تركت به أو قريباً
من دار الحرب يخاف عليها من أهلها أو بموضع يستحل أهله أموال المسلمين أو
في برية لا ماء بها ولا مرعى فالأولى جواز أخذها للحفظ ولا ضمان على آخذها
لأن فيه إنقاذها من الهلاك فأشبه تخليصها من غرق أو
(6/324)
حريق وإذا أخذها سلمها إلى نائب الإمام
وبرئ من ضمانها ولا يملكها بالتعريف لأن الشرع لم يرد بذلك فيها.
(فصل) ويسم الإمام ما يحصل عنده من الضوال بأنها ضالة ويشهد عليها ثم إن
كان له حمى ترعى فيه تركها فيه إن رأى ذلك وإن رأى المصلحة في بيعها أو لم
يكن له حمى باعها بعد أن يحليها ويحفظ صفاتها ويحفظ ثمنها لصاحبها فإن ذلك
أحفظ لها لأن تركها يفضي إلى أن تأكل جميع ثمنها (فصل) ومن ترك دابة بمهلكة
فأخذها إنسان فأطعمها وسقاها وخلصها ملكها وبه قال الليث والحسن بن صالح
واسحاق إلا أن يكون تركها لترجع إليه أو ضلت منه وقال مالك هي لمالكها
ويغرم ما أنفق عليها وقال الشافعي وابن المنذر هي لمالكها والآخر متبرع
بالنفقة لا يرجع بشئ لأنه ملك غيره فلم يملكه بغير عوض من غير رضاه كما لو
كانت في غير مهلكة ولا يملك الرجوع بما أنفق لأنه أنفق على مال غيره بغير
إذنه فلم يرجع به كما لو بنى داره.
ولنا ما روى الشعبي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من وجد دابة قد
عجز عنها أهلها فسيبوها فأخذها فأحياها فهي له، قال عبد الله بن عبد الرحمن
فقلت - يعني للشعبي - من حدثك بهذا؟ قال غير واحد من أصحاب رسول الله صلى
الله عليه وسلم رواه أبو داود، وفي لفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه
قال " من ترك دابة بمهلكة فأحياها رجل فهي لمن أحياها " ولأن في الحكم
بملكها إحياؤها وإنقاذها من
(6/325)
الهلاك ومحافظة على حرمة الحيوان وفي القول
بأنها لا تملك تضييع لذلك كله من غير مصلحة تحصل ولأنه نبذ رغبة عنه وعجز
عن أخذه فملكه آخذه كالساقط من السبيل وسائر ما ينتبذه الناس رغبة عنه،
فأما أن ترك متاعاً فخلصه إنسان لم يملكه لأنه لا حرمة له في نفسه ولا يخشى
عليه التلف كالخشية
على الحيوان فإن الحيوان يموت إذا لم يطعم ويسقى وتأكله السباع والمتاع
يبقى حتى يرجع إليه صاحبه وإن كان المتروك عبداً لم يأخذه لأن العبد في
العادة يمكنه التخلص إلى الأماكن التي يعيش بها بخلاف البهيمة، وله أخذ
العبد والمتاع ليخلصه لصاحبه وله أجر مثله في تخليص المتاع نص عليه، وكذلك
العبد على قياسه، قال القاضي يحب أن يحمل قوله في وجوب الأجر على أنه جعل
له ذلك أو أمره به فأما إن لم يجعل له شيئا فلا شئ له لأنه عمل في مال غيره
بغير جعل فلم يستحق شيئاً كالملتقط وهذا خلاف ظاهر كلام أحمد فإنه لو جعل
له جعلاً لاستحقه ولم يجعل له أجر المثل، ويفارق هذا الملتقط فإنه لم يخلص
اللقطة من الهلاك، ولو تركها أمكن أن يرجع صاحبها فيطلبها في مكانها فيجدها
وههنا ان لم بخ؟ جه هذا ضاع وهلك ولم يرجع إليه صاحبه ففي جعل الأجر فيه
حفظ الامول من الهلاك من غيره مضرة فجاز كالجعل في الآبق ولأن اللفطة جعل
فيها الشاع ما يحث على أخذها وهو ملكها ان لم يج؟؟ صا؟؟ ها فاكتفي به عن
الأجر فينبغي أن يشرع في هذا ما يحث على تخليصه يطريق الأولى وليس إلا
الأجر كرد الآبق
(6/326)
(فصل) فأما ما لقاه ركاب البحر فيه خوفا من
الغرق فلم أعلم لأصحابنا فيه قولا سوى عموم قولهم الذي ذكرناه ويحتمل أن
يملك هذا من أخذه وهو قول الليث وبه قال الحسن فيما أخرجه، قال وما نضب عنه
الماء فهو لأهله، وقال ابن المنذر يرده على أصحابه ولا شئ له ويقتضيه قول
الشافعي والقاضي لما تقدم في الفصل قبله ويقتضي قول الإمام أبي عبد الله أن
لمن أنقذه أجر مثله لما ذكرنا، قال شيخنا ووجه ما ذكرنا من الاحتمال أن هذا
مال ألقاه أصحابه فيما يتلف ببقائه فيه اختياراً منهم فملكه من أخذه كالذي
ألقوه رغبه عنه، ولأن فيما ذكروه تحقيقاً لإتلافه فلم يجز كمباشرته
بالإتلاف، فأما إن انكسرت السفينة فأخرجه قوم فقال مالك يأخذ أصحاب المتاع
متاعهم ولا شئ للذين أصابوه وهذا قول الشافعي وابن المنذر والقاضي.
وعلى قياس نص أحمد يكون لمستخرجه ههنا أجر المثل لأن ذلك وسيلة إلى تخليصه
وحفظه لصاحبه وصيانته عن الغرق فإن الغواص إذا علم أنه يدفع إليه الأجر
بادر إلى التخليص ليخلصه، وإن علم أنه يؤخذ منه بغير شئ لم يخاطر بنفسه في
استخراجه فينبغي أن يقضى
له بالأجر كجعل رد الآبق (فصل) ذكر القاضي فيما إذا التقط عبداً صغيراً أو
جارية إن قياس المذهب أنه لا يملك بالتعريف وقال الشافعي يملك العبد دون
الجارية ولأن التمليك بالتعريف عنده افتراض والجارية عنده لا تملك بالقرض.
قال شيخنا وهذه المسألة فيما نظر فان اللفيط محكوم بحريته، وإن كان ممن
يعبر عن نفسه
(6/327)
فأقر بأنه مملوك لم يقبل إقراره لأن الطفل
لا قول له ولو اعتبر قوله في ذلك لاعتبر في تعريفه لسيده * (الثالث) * سائر
الأموال كالأثمان والمتاع والغنم والفصلان والعجاجيل وإلا فلا فيجوز
التقاطها لمن بقصد تعريفها وتملكها بعده لحديث زيد بن خالد في لقطة الذهب
والورق وقوله في الشاة " خذها فإنما هي لك أو لأخيك أو للذئب " ثبت في
الذهب والفضة وقسنا عليه المتاع وقسنا على الشاة كل حيوان لا يمتنع بنفسه
من صغار السباع وهي الثعلب وابن آوى والذئب وولد الأسد ونحوها ومنه الدجاج
والأوز ونحوها يجوز التقاطها، وروى عن أحمد رواية أخرى ليس لغير الإمام
التقاطها يعني الشاة ونحوها من الحيوان، وقال الليث بن سعد لا أختار أن يقر
بها إلا أن يحرزها لصاحبها لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا يؤوي
الضالة إلا ضال " ولأنه حيوان أشبه الإبل ولنا قول النبي صلى الله عليه
وسلم في الشاة " خذها فإنما هي لك أو لأخيك أو للذئب " متفق عليه ولأنه
يخشى عليه التلف والضياع أشبه لقطة غير الحيوان وحديثنا أخص من حديثهم
فنخصه به ولو قدر التعارض قدم حديثنا لأنه أصح ولا يصح قياسه على الإبل فإن
النبي صلى الله عليه وسلم علل منع التقاطها بأن معها حذاءها وسقاءها وهذا
معدوم في الغنم، ثم قد فرق النبي صلى الله عليه وسلم بينهما في خبر واحد
فلا يجوز الجمع بين ما فرق الشارع بينهما ولا قياس ما أمن بالتقاطه على ما
منع منه (فصل) ولا فرق بين أن يجدها بمصر أو مهلكة وقال مالك وابو عبيد
وابن المنذر في الشاة
(6/328)
وجد في الصحراء اذبحها وكلها وفي المصر
ضمها حتى يجدها صاحبها لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال " هي لك أو لأخيك
أو للذئب " ولا يكون الذئب في المصر
ولنا أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بأخذها ولم يفرق ولم يستقصل ولو
افترق الحال لاستفصل ولأنها لقطة فاستوى فيها المصري وغيره كسائر اللقطات،
وقولهم لا يكون الذئب في المصر قلنا كونها للذئب في الصحراء لا يمنع كونها
لغيره في المصر، ومتى عرفها حولا ملكها، وذكر القاضي وابو الخطاب عن أحمد
رواية أنه لا يملكها ولعلها الرواية التي منع من التقاطها فيها ولنا قوله
عليه السلام " هي لك " أضافها إليه بلام التمليك ولأن التقاطها مباح فملكت
بالتعريف كالأثمان، وقد حكاه ابن المنذر اجماعا * (مسألة) * (فمن لا يأمن
نفسه عليها ليس له أخذها فإن أخذها لزمه ضمانها ولا يملكها وإن عرفها) إذا
التقط لقطة عازماً على تملكها بغير تعريف فقد فعل محرما ولا يحل له أخذها
بهذه النية فإن أخذها لزمه ضمانها سواء تلفت بتفريط أو بغير تفريط، ولا
يملكها وإن عرفها لأنه أخذ مال غيره على وجه ليس له أخذه فهو كالغاصب نص
عليه أحمد، ويحتمل أن يملكها لأن ملكها بالتعريف والالتقاط وقد وجدا
فيملكها بذلك كالاصطياد والاحتشاش إذا دخل ملك غيره بغير إذنه فاصطاد أو
احتش
(6/329)
منه ملك الصيد والحشيش وإن كان دخوله محرما
كذا ههنا، ولأن عموم النص يتناول هذا الملتقط فيثبت حكمة فيه ولأنا لو
اعتبرنا نية لتعريف وقت الالتقاط لافترق الحال بين العدل والفاسق والصبي
والسفيه لأن الغالب على هؤلاء الالتقاط للتمليك لا للتعريف * (مسألة) *
(ومن أمن نفسه عليها وقوي على تعريفها فله أخذها) لما ذكرنا والأفضل تركها
قاله أحمد روي معنى ذلك عن ابن عباس وابن عمر وبه قال جابر بن زيد والربيع
بن خثم وعطاء، وقال أبو الخطاب إذا وجدها بمضيعة وأمن نفسه عليها فالأفضل
أخذها وهذا قول للشافعي وعنه أنه يجب أخذها لقول الله تعالى (والمؤمنون
بعضهم أولياء بعض) وإذا كان وليه وجب عليه حفظ ماله كولي اليتيم، وممن رأى
أخذها سعيد بن المسيب والحسن بن صالح وأبو حنيفة وأخذها أبي بن كعب وسويد
بن غفلة وقال مالك إن كان شيئاً له بال يأخذه أحب إلي ويعرفه ولأن فيه حفظ
مال المسلم عليه فكان أولى من تضييعه كتخليصه من الغرق
ولنا قول ابن عمر وابن عباس ولا يعرف لهما مخالف في الصحابه ولأنه يعرض
نفسه لأكل الحرام وتضييع الواجب من تعريفها وأداء الأمانة فيها فكان تركه
أولى وأسلم كولاية مال اليتيم وما ذكروه يبطل بالضوال فإنه لا يجوز أخذها
مع ما ذكروه وكذلك ولاية مال الأيتام * (مسألة) * (ومتى أخذها ثم ردها إلى
موضعها ضمنها)
(6/330)
روى ذلك عن طاوس وبه قال الشافعي، وقال
مالك لا ضمان عليه لأنه روي عن عمر أنه قال لرجل وجد بعيراً أرسله حيث
وجدته رواه الأثرم ولما روي عن جرير بن عبد الله أنه رأى في بقره بقرة قد
لحقت بها فأمر بها فطردت حتى توارت ولنا أنها أمانة حصلت في يده لزمه حفظها
وتركها تضييعها فأما حديث عمر فهو في الضالة التي لا يحل أخذها، فإذا أخذه
احتمل أن له رده إلى مكانه ولا ضمان عليه لهذا الآثار ولأنه كان واجباً
عليه تركه في مكانه ابتداء فكان له ذلك بعد أخذه ويحتمل أن لا يبرأ من
ضمانه برده لأنه دخل في ضمانه فلم يبرأ برده إلى مكانه كالمسروق وما يجوز
التقاطه، فعلى هذا لا يبرأ إلا برده إلى الامام أو نائبه وأما عمر فهو كان
الإمام فإذا أمر برده فهو كأخذه منه وحديث جرير لا حجة فيه لأنه لم يأخذ
البقرة ولا أخذها غلامه إنما لحقت بالبقر من غير فعله ولا اختياره ولذلك
يلزمه ضمانها إذا فرط فيها لأنها أمانة فهي كالوديعة.
(فصل) فإن ضاعت اللقطة من ملتقطها في حول التعريف بغير تفريط فلا ضمان عليه
لأنها أمانة في يده فهي كالوديعة، فإن التقطها آخر فعلم أنها ضاعت من الأول
فعليه ردها إليه لأنه قد ثبت له حق التمول وولاية التعريف والحفظ فلا يزول
بالضياع فإن لم يعلم الثاني بالحال حتى عرفها حولاً ملكها لأن سبب الملك
وجد منه من غير عدوان فثبت الملك به كالأول ولا يملك الأول انتزاعها منه
لأن الملك
(6/331)
مقدم على حق التملك فإذا جاء صاحبها أخذها
من الثاني وليس له مطالبة الأول لأنه لم يفرط، وان علم الثاني بالاول فردها
إليه فأبى اخذها وقال عرفها انت فعرفها ملكها أيضا لان الاول ترك حقه
فسقط، وإن قال عرفها ويكون ملكها لي ففعل فهو نائبه في التعريف ويملكها
الاول لأنه وكله في التعريف فصح كما لو كانت في يد الاول، وإن قال عرفها
وتكون بيننا ففعل صح أيضا وكانت بينهما لأنه اسقط حقه من نصفها ووكله في
الباقي، وإن قصد الثاني بالتعريف تملكها لنفسه دون الاول احتمل وحيهن
(أحدهما) يملكها الثاني لأن سبب الملك وجد منه فملكها كما لو أذن له الاول
في تعريفها لنفسه (والثاني) لا يملكها لأن ولاية التعريف للاول أشبه ما لو
غصبها من الملتقط غاصب فعرفها وكذلك الحكم اذا علم الثاني بالاول فعرفها
ولم يعلمه بهاء ويشبه هذا من تحجر مواتا إذا سبقه غيره إلى ما حجره فأحياه
بغير إذنه، فأما إن غصبها غاصب من الملتقط فعرفها لم يملكها وجهاً واحداً
لأنه تعدى بأخذها ولم يوجد منه سبب تملكها فان الالتقاط من جملة السبب ولم
يوجد منه، ويفارق هذا إذا التقطها ثان فانه وجد منه الالتقاط والتعريف
(فصل) ومن اصطاد سمكة من البحر فوجد فيها درة أو عنبرة أو شيئا مما يكون في
البحر فهو للصياد لأن ذلك يكون في البحر، قال الله تعالى (وتستخرجون حلية
تلبسونها) ولأن الأصل عدم ملكها لغيره، فان باعها الصياد ولم يعلم فوجده
المشتري في بطنها فهو للصياد نص عليه أحمد لأنه إذا لم
(6/332)
يعلم به فما باعه ولا رضي بزوال ملكه عنه
فأشبه من باع داراً له مال مدفون فيها، فإن وجد دراهم أو دنانير فهي لقطة
لأن ذلك لا يخلق في البحر ولا يكون إلا للآدمي فكان لقطة كما لو وجده في
البحر وكذلك الحكم في الدرة والعنبرة إذا كان فيها أثر لآدمي كالمثقوبة
والمتصلة بذهب أو فضة أو غيرهما أو كانت العنبرة تفاحة ونحو ذلك مما لا
يخلق عليه في البحر تكون لقطة لأنها لم تقع في البحر حتى تثبت اليد عليها
فهي كالدينار فمنى وجدها الصياد فعليه تعريفها لأنه ملتقطها، وإن وجدها
المشتري فالتعريف عليه لأنه واجدها ولا حاجة الى البداية بالبائع فإنه لا
يحتمل أن تكون المسكة ابتلعت ذلك بعد اصطيادها وملك الصياد لها فاستوى هو
وغيره، فأما إن اشترى شاة ووجد في بطنها درة أو عنبرة أو دنانير أو دراهم
فهو لقطة يعرفها ويبدأ بالبائع لأنه يحتمل أن تكون ابتلعتها من ملكه فيبدأ
به كقولنا فيمن اشترى داراً فوجد فيها مالاً مدفوناً، وإن اصطاد السمكة من
غير البحر كالنهر
والعين فحكمها حكم الشاة في أن ما وجد في بطنها من ذلك فهو لقطة لأن ذلك لا
يكون إلا في البحر عادة، ويحتمل أن النهر إذا كان متصلاً بالبحر فهو كما لو
صادها منه لأنها قد تبتلع ذلك في البحر ثم تخرج إلى النهر وإن لم يكن
متصلاً به فهو لقطة ويحتمل أن يكون للصياد لقول الله تعالى (ومن كل تأكلون
لحما طريا وتستخرجون حلية تلبسونها) (فصل) وإن وجد عنبرة على الساحل فهي له
لأنه يمكن أن البحر ألقاها والأصل عدم الملك
(6/333)
فيها فكانت مباحة لآخذها كالصيد، وقد روى
سعيد عن إسماعيل بن عياش عن معاوية بن عمرو الصدري قال ألقى بحر عدن عنبرة
مثل البعير فأخذها ناس بعدن فكتب إلى عمر بن عبد العزيز فكتب إلينا أن خذوا
منها الخمس وادفعوا إليهم سائرها وإن باعوكموها فاشتروها فأردنا أن نزنها
فلم نجد ميزاناً يخرجها فقطعناها ثنتين ووزناها فوجدناها ستمائة رطل فأخذنا
خمسها ودفعنا سائرها إليهم ثم اشتريناها بخمسة آلاف دينار وبعثنا بها الى
عمر فلم يلبث إلا قليلاً حتى باعها بثلاثة وثلاثين ألف دينار (فصل) وإن صاد
غزالا فوجده مخضوبا أو في عنقه خرزا أو في أذنه قرط ونحو ذلك مما يدل على
ثبوت اليد عليه فهو لقطة لأن ذلك يدل على أنه كان مملوكاً، قال أحمد فيمن
ألقى شبكة في البحر فوقعت فيها سمكة فجذبت الشبكة فمرت بها في البحر فصادها
رجل فإن السمكة له والشبكة يعرفها ويدفعها إلى صاحبها فجعل الشبكة لقطة
لأنها مملوكة لآدمي والسمكة لمن صادها لأنها كانت مباحة ولم يملكها صاحب
الشبكة لكون شبكته لم تثبتها فبقيت على الإباحة، وهكذا لو نصب فخاً أو
شركاً فوقع فيه صيد من صيود البر فأخذه وذهب به فصاده آخر فهو لمن صاده
ويرد الآلة إلى صاحبها فإن لم يعرف صاحبها فهي لقطة، وقال أحمد في رجل
انتهى إلى شرك فيه حمار وحش أو ظبي قد شارف الموت فخلصه وذبحه فهو لصاحب
الحبالة وما كان من الصيد في الحبالة فهو لمن نصبها، وإن كان بازياً أو
(6/334)
صقراً أو عقاباً وسئل عن بازي أو صقر أو
كلب معلم أو فهد ذهب عن صاحبه فدعاه فلم يجبه ومر في الأرض حتى أتى لذلك
أيام فأتى قرية فسقط على حائط فدعاه رجل فأجابه قال يرده على صاحبه،
قيل له فإن دعاه فلم يجبه فنصب له شركاً فصاده به؟ قال يرده على صاحبه
فجعله لصاحبه لأنه قد ملكه أفلم يزل ملكه عنه بذهابه، والسمكة في الشبكة لم
يكن ملكها ولا حازها، وكذلك جعل ما وقع في الحبالة من الصقر والعقاب لصاحب
الحبالة ولم يجعله ههنا لمن وقع في شركه لأن هذا فيما علم أنه قد كان
مملوكاً لإنسان فذهب وإنما يعلم هذا بالخبر أو بوجود ما يدل على الملك فيه
كوجود السير في رجله أو آثار التعليم مثل استجابته للذي يدعوه ونحو ذلك فإن
لم يوجد ما يدل على أنه مملوك فهو لمن صاده ولان الأصل إباحته وعدم الملك
فيه (فصل) ومن أخذت ثيابه في الحمام ووجد بدلها أو أخذ مداسه وترك له بدله
لم يملكه بذلك قال أحمد فيمن سرقت ثيابه ووجد غيرها لم يأخذها فإن أخذها
عرفها سنة ثم تصدق بها إنما قال ذلك لأن أخذ الثياب لم يقع بينه وبين
مالكها معاوضة تقتضي زوال ملكه عن ثيابه فإذا أخذها قد أخذ مال غيره ولا
يعرف صاحبه فيعرفه ويتصدق به كالصدقة باللقطة، قال شيخنا ويحتمل أن ينظر في
هذا فإن كانت ثم قرينة تدل على السرقة بأن تكون ثيابه أو مداسه خيراً من
المتروك له وكانت مما لا يشتبه على الآخذ بثيابه ومداسه فلا حاجة الى
التعريف لأن التعريف إنما جعل على المال الضائع من ربه ليعلم به ويأخذه،
وتارك هذا عالم به راض ببذله عوضاً عما أخذه ولا يعترف أنه له فلا يحصل من
(6/335)
تعريفه فائدة فإذاً ليس بمنصوص عليه ولا هو
في معنى المنصوص، وفيما يصنع به ثلاثة أوجه (أحدها) يتصدق بها على ما ذكرنا
(والثاني) أنه يباح له أخذها لأن صاحبها في الظاهر تركها له بادلاً إياها
عوضاً عما أخذه فصار كالمبيح له أخذها بلسانه فصار كمن قهر إنساناً على أخذ
ثوبه ودفع إليه درهماً (والثالث) يرفعها إلى الحاكم ليبيعها ويدفع إليه
ثمنها عوضاً عن ماله، والوجه الثاني أقرب إلى الرفق بالناس لأن فيه نفعاً
لمن سرقت ثيابه بحصول عوض عنها ونفعاً للسارق بالتخفيف عنه من الإثم وحفظاً
لهذه الثياب المتروكة من الضياع، وقد أباح بعض أهل العلم فيمن له على إنسان
حق من دين أو غصب أن يأخذ من ماله بقدر حقه إذا عجز عن استيفائه بغير ذلك
فههنا مع رضا من عليه الحق بأخذه أولى، وإن كانت ثم قرينة دالة على أن
الآخذ للثياب إنما أخذها ظناً منه أنها ثيابه مثل أن تكون
المتروكة مثل المأخوذة أو خيراً منها وهي مما تشتبه بها فينبغي أن يعرفها
ههنا لأن صاحبها لم يتركها عمداً فهي بمنزلة الضائعة، والظاهر أنه إذا علم
بها أخذها ورد ما كان أخذه فتصير كاللقطة في المعنى، وبعد التعريف إذا لم
تعرف ففيها الأوجه الثلاثة المذكورة لا أننا إذا قلنا يأخذها أو يبيعها
الحاكم ويدفع إليه ثمنها فإنما يأخذ بقدر قيمة ثيابه من غير زيادة لأن
الزائد فاضل عما يستحقه ولم يرض صاحبها بتركها عوضاً عما أخذه فإنه لم يأخذ
غيرها اختياراً منه لتركها ولا رضي بالمعارضة بها وإذا قلنا إنه يدفعها إلى
الحاكم ليبيعها ويدفع إليه ثمنها فله أن يشتريها بثمن في ذمته ويسقط عنه من
ثمنها ما قابل ثيابه ويتصدق بالباقي
(6/336)
(فصل) نقل الفضل ابن زياد عن أحمد إذا
تنازع صاحب الدار والساكن في دفن في الدار فقال كل منهما أنا دفنته يبين كل
واحد منهما ما الذي دفن فكل من أصاب الوصف فهو له وذلك لأن ما يوجد من
الدفن في الأرض مما عليه علامة المسلمين فهو لقطة واللقطة تستحق بوصفها
ولأن المصيب للوصف في الظاهر هو من كان ذلك في يده فكان أحق به كما لو
تنازعه أجنبيان فوصفه أحدهما (فصل) ومن وجد لقطة في دار الحرب فكان في جيش
فقال أحمد يعرفها سنة في دار الإسلام ثم يطرحها في المقسم إنما عرفها في
دار الإسلام لأن أموال أهل الحرب مباحة ويجوز أن تكون لمسلم وقد لا يمكنه
المقام في دار الحرب لتعريفها ومعناه والله أعلم أنه يتم التعريف في دار
الإسلام فأما ابتداء التعريف فيكون الجيش الذي هو فيه لأنه يحتمل أن تكون
لأحدهم فإذا قفل أتم التعريف في دار الإسلام فأما إن دخل دارهم بأمان
فينبغي أن يعرفها في دارهم لأن أموالهم محرمة عليه فإذا لم تعرف ملكها كما
يملكها في دار الإسلام وإن كان في الجيش طرحها في المقسم بعد التعريف لأنه
وصل إليها بقوة الجيش فأشبهت مباحات دار الحرب إذا أخذ منها شيئاً فإن دخل
إليهم متلصصاً فوجد لقطة عرفها في دار الإسلام لأن أموالهم مباحة له ثم
يكون حكمها حكم غنيمته ويحتمل أن تكون غنيمة له لا تحتاج إلى تعريف لان
الظاهر انما أموالهم وأموالهم غنيمة والله أعلم
(6/337)
* (مسألة) * وهي على ثلاثة أضرب (حيوان)
فيخير بين أكله في الحال وعليه قيمته وبين بيعه وحفظ ثمنه وبين تركه
والإنفاق عليه من ماله وهل يرجع به؟ على وجهين وجملة ذلك أن ملتقط الشاة
وما كان مثلها مما يباح أكله يتخير ملتقطها بين ثلاثة أشياء (أحدها) أكلها
في الحال وبه قال مالك وابو حنيفة والشافعي وغيرهم قال ابن عبد البر اجمعوا
على أن ضالة الغنم في الموضع المخوف عليها له أكلها لقول النبي صلى الله
عليه وسلم " هي لك أو لأخيك أو للذئب " جعلها له في الحال وسوى بينه وبين
الذئب والذئب لا يؤخر أكلها ولأن في أكلها في الحال إغناء عن الإنفاق عليها
وحراسته لماليتها على صاحبها إذا جاء فإنه يأخذ قيمتها بكمالها وفي إبقائها
تضييع للمال بالإنفاق عليها والغرامة في علفها فكان أكلها أولى وإذا أراد
أكلها حفظ صفتها فمتى جاء صاحبها غرمها له في قول عامة أهل العلم وقال مالك
كلها ولا غرم عليك لصاحبها ولا تعريف لها القول رسول الله صلى الله عليه
وسلم " هي لك " ولم يوجب فيها تعريفاً ولا غرماً ولأنه سوى بينه وبين الذئب
والذئب لا يعرف ولا يغرم قال ابن عبد البر لم يوافق مالكاً أحد من العلماء
على قوله وقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث عبد الله ابن عمر " ورد
على أخيك ضالته " دليل على أن الشاة على ملك صاحبها ولأنها لقطة لها قيمة
وتتبعها النفس فتجب غرامتها لصاحبها إذا جاء كغيرها ولأنها ملك لصاحبها فلم
يجز تملكها عليه بغير عوض من غير رضاه كما لو كانت بين البنيان ولأنها عين
يجب ردها مع بقائها فوجب غرمها إذا أتلفها كلقطة الذهب وكون النبي صلى الله
عليه وسلم قال " هي لك " لا يمنع وجوب غرامتها فإنه قد أذن في لقطة
(6/338)
الذهب والورق بعد تعريفها في أكلها
وإنفاقها وقال " هي كسائر مالك " ثم أجمعنا على وجوب غرامتها كذلك الشاة
ولا فرق في إباحة أكلها بين وجدانها في الصحراء أو في المصر وقال مالك وابو
عبيد وابن المنذر وأصحاب الشافعي ليس له أكلها في المصر لأنه يمكن بيعها
بخلاف الصحراء ولنا أن ما جاز أكله في الصحراء جاز في المصر كسائر
المأكولات ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال هي لك ولم يستفصل ولان أكلها
مطل بما ذكرنا من الاستغناء عن الإنفاق عليها وهذا في المصر أشد منه في
الصحراء (الثاني) تركها والإنفاق عليها من ماله ولا يتملكها فإن تركها ولم
ينفق عليها ضمنها لأنه فرط فيها وإن أنفق عليها متبرعا لم يرجع على صاحبها
فإن أنفق بنية الرجوع على صاحبها وأشهد على ذلك
رجع عليه بما أنفق في إحدى الروايتن نص عليه أحمد في رواية المروذي في طيرة
أفرخت عند قوم فقضى أن الفراخ لصاحب الطيرة ويرجع بالعلف إذا لم يكن
متطوعاً وقضى عمر بن عبد العزيز فيمن وجد ضالة فأنفق عليها فجاء ربها فإنه
يغرم له ما أنفق وذلك أنه أنفق على اللقطة لحفظها فكان من مال صاحبها كمؤنة
تجفيف الرطب والعنب، (والثانية) لا يرجع بشئ وهو قول الشعبي والشافعي ولم
يعجب الشعبي قضاء عمر بن عبد العزيز لأنه أنفق على مال غيره بغير إذنه فلم
يرجع به كما لو بنى داره ويفارق العنب والرطب فإنه قد يكون تجفيفه والإنفاق
عليه أحظ لصاحبه لأن النفقة عليه لا تتكرر والحيوان يتكرر الإنفاق عليه
فربما استغرق ثمنه فكان بيعه وأكله أحظ فلذلك لم يرجع
(6/339)
المنفق عليها بما أنفق (الثالث) بيعها وحفظ
ثمنها لصاحبها وله أن يتولى ذلك بنفسه وقال بعض أصحاب الشافعي يبيعها بإذن
الإمام ولنا أنه إذا جاز له أكلها من غير إذن فبيعها أولى ولم يذكر أصحابنا
لها تعريفاً في هذه المواضع وهو قول مالك لقول النبي صلى الله عليه وسلم "
خذها فإنما هي لك أو لأخيك أو للذئب " ولم يأمر بتعريفها كما أمر في لقطة
الذهب والورق ولنا أنها لقطة لها خطر فوجب تعريفها كالمطعوم الكثير وإنما
ترك ذكر تعريفها لأنه ذكرها بعد بيان التعريف فيما سواها فاستغنى بذلك عن
ذكره فيها ولا يلزم من جواز التصرف فيها في الحول سقوط تعريفها كالمطعوم
وإذا أراد بيعها أو أكلها لزمه حفظ صفتها لحديث زيد بن خالد وسنذكره إن شاء
الله (فصل) وإذا أكلها ثبتت قيمتها في ذمته ولا يلزمه عزلها لعدم الفائدة
فيه فإنها لا تنقل من الذمة في المال المعزول ولو عزل شيئاً ثم أفلس كان
صاحب اللقطة أسوة الغرماء ولم يختص بالمال المعزول فأما إن باعها وحفظ
ثمنها وجاء صاحبها أخذه ولم يشاركه فيه أحد من الغرماء لأنه عين ماله ولا
شئ للمفلس فيه فهو كالوديعة * (مسألة) * (الثاني) ما يخشى فساده فيخير بين
بيعه وأكله إن كان مما لا يمكن تجفيفه كالفاكهة التي لا تجفف والطبيخ
والبطيخ والخضروات فهو مخير بين أكله وبيعه وحفظ ثمنه ولا يجوز إبقاؤه لأنه
يتلف
(6/340)
فإن تركه حتى تلف ضمنه لأنه فرط في حفظه
فهو كالوديعة فإن أكله ثبتت القيمة في ذمته على ما ذكرنا في الشاة وهذا
ظاهر مذهب الشافعي وله أن يتولى بيعه بنفسه وقال أصحاب الشافعي ليس له بيعه
إلا بإذن الحاكم فإن عجز عنه جاز البيع بنفسه لأنه حال ضرورة فأما مع
القدرة على استئذانه فلا يجوز من غير إذنه لأنه مال معصوم لا ولاية عليه
فلم يجز لغير الحاكم بيعه كغير الملتقط ولنا أنه مال أبيح للملتقط أكله
فأبيح له بيعه كماله ومتى أراد بيعه أو أكله حفظ صفاته ثم عرفه عاماً على
ما نذكره فإن تلف الثمن قبل تملكه من غير تفريط أو نقص أو تلفت العين أو
نقصت من غير تفريط فلا ضمان عليه وإن تلف أو نقص بتفريطه أو تلفت اللقطة
بتفريطه فعليه ضمانه وكذلك إن تلف بعد تملكه أو نقص وإن كان مما يمكن
تجفيفه كالعنب والرطب فينظر ما فيه الحظ لمالكه فان كان في التجفيف فعله
ولم يكن له إلا ذلك لأنه مال غيره فلزمه ما فيه الحظ لصاحبه كولي اليتيم *
(مسألة) * (وغرامة التجفيف منه وله بيع بعضه في ذلك) لأنه موضع حاجة فإن
أنفق من ماله رجع به لأن النفقة ههنا لا تكرر بخلاف نفقة الحيوان فإنها
تكرر فربما استوعبت قيمته فلا يكون لصاحبها حظ في إمساكها إلا بإسقاط
النفقة وإن كان الحظ في بيعه باعه وحفظ ثمنه كالطعام الرطب فإن تعذر بيعه
ولم يمكن تجفيفه تعين أكله كالطبيخ وإن كان أكله أنفع لصاحبه فله أكله
أيضاً قال شيخنا ويقتضي قول اصحابنا إن العروض لا تملك بالتعريف وأن هذا
كله لا يجوز له أكله لكن يخير بين
(6/341)
الصدقة به وبين بيعه وقد قال أحمد فيمن وجد
في منزله طعاماً لا يعرفه: يعرفه ما لم يخش فساده فإن خشي فساده تصدق به
فإن جاء صاحبه غرمه وكذلك قال مالك وأصحاب الرأي في لقطة ما لا يبقى سنة
يتصدق به وقال الثوري يبيعه ويتصدق بثمه ولنا على جواز أكله قول النبي صلى
الله عليه وسلم في ضالة الغنم " خذها فإنما هي لك أو لأخيك أو للذئب " وهذا
تجويز للأكل فإذا جاز أكل ما هو محفوظ بنفسه فما يفسد ببقائه أولى وعن أحمد
أنه يبيع اليسير ويرفع الكثير إلى الحاكم لأن الكثير مال لغيره لم يأذن له
في بيعه فيكون أمره إلى الحاكم وأما اليسير فتدخله
المسامحة ويشق رفعه إلى السلطان وربما تضيع عند السلطان * (مسألة) *
(الثالث) سائر المال فيلزمه حفظه ويعرف الجميع بالنداء عليه في مجامع الناس
كالأسواق وأبواب المساجد في أوقات الصلوات حولاً كاملاً من ضاع منه شئ أو
نفقة وأجرة المتادي عليه) وجملة ذلك أن في التعريف فصولاً ستة في وجوبه
وقدره وزمانه ومكانه ومن يتولاه وكيفيته أما وجوبه فهو واجب على كل ملتقط
سواء أراد تملكها أو حفظها لصاحبها إلا في اليسير الذي لا تتبعه النفس وقد
ذكرناه وقال الشافعي لا يجب على من أراد حفظها لصاحبها ولنا أن النبي صلى
الله عليه وسلم أمر به زيد بن خالد وأبي بن كعب ولم يفرق ولأن حفظها
لصاحبها إنما فائدته إيصالها إليه وطريقه التعريف إما بقاؤها في يد الملتقط
من غير وصولها إلى صاحبها فهو وهلاكها سيان ولأن إمساكها
(6/342)
من غير تعريف تضييع لها عن صاحبها فلم يجز
كردها إلى موضعها أو إلقائها في غيره ولأنه لو لم يجب التعريف لما جاز
الالتقاط لأن بقاءها في مكانها إذا أقرب إلى وصولها إلى صاحبها إما أن
يطلبها في الموضع الذي ضاعت منه فيجدها وإما بأن يأخذها من يعرفها واخذ لها
يفوت الأمرين فيحرم فلما جاز الالتقاط لزم وجوب التعريف كيلا يحصل هذا
الضرر ولأن التعريف واجب على من أراد تملكها وكذلك من أراد حفظها فإن
التملك غير واجب فلا تجب الوسيلة إليه فيلزم أن يكون الوجوب في المحل
المتفق عليه لصيانتها عن الضياع عن صاحبها وهذا موجود في محل النزاع
(الفصل) الثاني في قدر التعريف وذلك سنة روى ذلك عن عمر وعلي وابن عباس وبه
قال سعيد بن المسيب والشعبي ومالك والشافعي وأصحاب الرأي وروي عن عمر رواية
أخرى يعرفها ثلاثة أشهر وعنه ثلاثة أعوام لأن أبي ابن كعب روي أن النبي صلى
الله عليه وسلم أمره بتعريف مائة الدنيار ثلاثة أعوام وقال أبو أيوب
الهاشمي ما دون الخمسين درهماً يعرفها ثلاثة أيام إلى سبعة أيام وقال الحسن
بن صالح ما دون عشرة دراهم يعرفها ثلاثة أيام وقال الثوري في الدرهم يعرفه
أربعة ايام وقال اسحق ما دون الدنيار يعرفه جمعة أو نحوها وروى أبو إسحق
الجوزجاني بإسناده عن يعلى بن أمية قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
من التقط درهماً أو حبلاً أو شبه ذلك فليعرفه ثلاثة أيام فإن كان فوق ذلك
فليعرفه سبعة أيام
ولنا حديث زيد بن خالد الصحيح فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمره بعام واحد
ولأن السنة لا تتأخر عنها
(6/343)
القوافل ويمضي فيها الزمان الذي تقصد فيه
البلاد من الحر والبرد والاعتدال فصلحت قدراً كمدة أجل العنين فأما حديث
أبي فقد قال الراوي لا أدري ثلاثة أعوام أو عام واحد قال أبو داود شك
الراوي في ذلك وحديث يعلى لم يقل به قائل على وجهه وحديث زيد وأبي أصح منه
وأولى إذا ثبت هذا فإنه يجب أن تكون هذه السنة تلي الالتقاط وتكون متوالية
لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بتعريفها حين سئل عنها والأمر يقتضي
الفور ولأن القصد بالتعريف وصول الخبر إلى صاحبها وذلك يحصل بالتعريف عقيب
ضياعها متوالياً لأن صاحبها في الغالب إنما يطلبها عقيب ضياعها فيجب تخصيص
التعريف به (الفصل الثالث) في زمانه وهو النهار دون الليل لأن النهار مجمع
الناس وملتقاهم بخلاف الليل ويكون ذلك في اليوم الذي وجدها والأسبوع لأن
الطلب فيه أكثر ولا يجب فيما بعد ذلك متوالياً وقد روى الجوزجاني بإسناده
عن معاوية بن عبد الله بن بدر الجهني قال نزلنا مناخ ركب فوجدت خرقة فيها
قريب من مائة دينار فجئت بها الى عمر فقال عرفها ثلاثة أيام على باب المسجد
ثم أمسكها حتى قرن السنة ولا يقدمن ركب إلا أنشدتها وقلت الذهب بطريق الشام
ثم شأنك بها (الفصل الرابع) في مكانه وهو الأسواق وأبواب المساجد والجوامع
في الوقت الذي يجتمعون فيه كأدبار الصلوات في المساجد وكذلك في مجامع الناس
لأن المقصود إشاعة ذكرها وإظهارها ليظهر عليها صاحبها فيجب تحري مجامع
الناس ولا ينشدها في المسجد ولأن المسجد لم يبن لهذا وروى
(6/344)
أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه
قال " من سمع رجلاً ينشد ضالته في المسجد فليقل لا ردها الله عليك فإن
المساجد لم تبن لهذا " وأمر عمر واجد اللقطة بتعريفها على باب المسجد
(الفصل الخامس) في كيفية تعريفها فيذكر جنسها لا غير فيقول من ضاع منه ذهب
أو فضة أو أو دراهم أو دنانير أو ثياب ونحو ذلك لقول عمر رضي الله عنه
لواجد الذهب قل الذهب بطريق الشام ولا تصفها لأنه لو وصفها لعلم صفتها من
يسمعها فلا تبقى صفتها دليلاً على ملكها لمشاركة من يسمعه للمالك
في ذلك ولأنه لا يأمن أن يدعيها من سمع صفتها ويذكر صفتها التي يجب دفعها
به فيأخذها فتفوت على مالكها (الفصل السادس) فيمن يتولى تعريفها وللملتقط
تولي ذلك بنفسه وأن يستنيب فيه فإن وجد متبرعا بذلك وإلا استأجر والأجرة
على الملتقط وبهذا قال الشافعي وأصحاب الرأي واختار أبو الخطاب أنه إن قصد
حفظها لمالكها دون تملكها رجع بالأجرة عليه وكذلك قال ابن عقيل فيما لا
يملك بالتعريف لأنه من مؤنة إيصالها إلى مالكها فكان على مالكها كمؤنة
تجفيفها وأجرة مخزنها ولنا أن هذا أجر واجب على المعرف ولأنه لو وليه بنفسه
لم يكن له أجر على صاحبها فكذلك
(6/345)
إذا استأجر عليه ولأنه سبب لملكها فكان على
الملتقط كما لو قصد تملكها، وقال مالك إن أعطى منها شيئاً لمن عرفها فلا
غرم عليه كما لو دفع منها شيئاً لمن حفظها وقد ذكرنا الدليل على ذلك (فصل)
إذا أخر التعريف عن الحول الأول مع إمكانه أثم لأن النبي صلى الله عليه
وسلم أمر به فيه والأمر يقتضي الوجوب وقال في حديث عياض ابن حمار " لا تكتم
ولا تغيب " ولأن ذلك وسيلة الى أن لا يعرف صاحبها لأن الظاهر أنه بعد الحول
يسلو عنها وييأس فيترك طلبها ويسقط التعريف بتأخيره عن الحول الأول في
المنصوص عن أحمد لأن حكمة التعريف لا تحصل بعده فإن تركه في بعض الحول عرف
بقيته ويتخرج أن لا يسقط التعريف بتأخيره لأنه واجب فلا يسقط بتأخيره عن
وقته كالعبادات وسائر الواجبات ولأن التعريف في الحول الثاني يحصل به
المقصود على نعت من القصور فيجب الإتيان به لقول النبي صلى الله عليه وسلم
" إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم " فعلى هذا إذا أخر التعريف بعض
الحول أتى بالتعريف في بقيته وأتمه من الحول الثاني وعلى كلا القولين لا
يملكها بالتعريف فيما عد الحول الأول لأن شرط الملك التعريف فيه ولم يوجد
ولذلك لو ترك التعريف في بعض الحول الأول لا يملكها بالتعريف بعده لأن
الشرط لم يكمل وعدم بعض الشرط كعدم جميعه كما لو اختل بعض الطهارة في
الصلاة فأما أن ترك التعريف في الحول الأول لعجزه عنه كالمريض والمحبوس أو
لنسيان ونحوه ففيه وجهان (أحدهما) حكمه
(6/346)
حكم من تركه لغير عذر لأن تعريفه في الحول
الأول سبب الملك والحكم ينتفي لانتقا سببه سواء
انتفى لعذر أو لغيره والثاني يملكها بالتعريف في الحول الثاني لأنه لم
يؤخره عن وقت إمكانه أشبه تعريفها في الحول الأول * (مسألة) * فإن لم تعرف
دخلت في ملكه بعد الحول حكماً كالميراث نص عليه أحمد في رواية الجماعة وهو
ظاهر كلام الخرقي لقوله وإلا كانت كسائر ماله وعند أبي الخطاب لا تدخل ملكه
حتى يختار واختلف أصحاب الشافعي فقال بعضهم كقولنا وقال قوم يملكها بالنية
ومنهم من قال يملكها بتموله اخترت ملكها ومنهم من قال لا يملكها إلا بقوله
والتصرف فيها لأن هذا تملك بعوض فلم يحصل إلا باختيار التملك كالقرض ولنا
قول النبي صلى الله عليه وسلم " فإن جاء صاحبها وإلا فهي كسائر مالك "
وقوله " فاستنفقها " ولو وقف ملكها على تملكها لبينه له ولم يجوز له التصرف
قبله وفي لفظ " كلها " وهذه الألفاظ كلها تدل على ما قلنا ولأن الالتقاط
والتعريف سبب للتملك فإذا ثم وجب أن يثبت به الملك حكماً كالإحياء
والاصطياد ولأنه سبب يملك به فلم يقف الملك بعده على قوله ولا اختياره
كسائر الأسباب وذلك لأن المكلف ليس إليه
(6/347)
إلا مباشرة الأسباب فإذا انى بها ثيت الحكم
قهراً وجبراً من الله عزوجل غير موقوف على اختيار المكلف فأما الاقتراض فهو
السبب في نفسه فلم يثبت الملك بدونه فعلى هذا لو التقطها اثنان فعرفاها
حولاً ملكاها جميعاً فإن قلنا يقف الملك على الاختيار فاختار أحدهما دون
الآخر ملك المختار نصفها وحده (فصل) فإن رأياها معاً فأخذها أحدهما وحده أو
رآها أحدهما فأعمل بها صاحبه فأخذها فهي لآخذها لأن استحقاقها بالأخذ لا
بالرؤية كالاصطياد وإن قال أحدهما لصاحبه هاتها فأخذها لنفسه فهي له دون
الآمر وإن أخذها الآمر فهي له كما لو وكله في الاصطياد له (فصل) ومتى عرف
اللقطة حولاً فلم تعرف ملكها غنياً كان أو فقيراً روى ذلك عن عمرو ابن
مسعود وعائشة رضي الله عنهم وبه قال عطاء والشافعي واسحق وابن المنذر وروي
عن علي وابن عباس والشعبي والنخعي وطاوس وعكرمة نحو ذلك، وقال مالك والحسن
بن صالح والثوري وأصحاب الرأي: يتصدق بها فإذا جاء صاحبها خير بين الأجر
والغرم لما روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن اللقطة
فقال
" عرفها حولاً " وروي ثلاثة أحوال " فإن جاء ربها وإلا تصدق بها فإذا جاء
ربها فرضي بالأجر وإلا غرمها " ولأنها مال لمعصوم لم يرض بزوال ملكه عنها
ولا يوجد منه سبب يقتضي ذلك فلم يزل ملكه عنه كغيرها قالوا وليس له أن
يتملكها إلا أن أبا حنيفة قال له ذلك ان كان فقيراً من غير ذوي القربى
(6/348)
لما روى عياض بن حمار المجاشعي أن النبي
صلى الله عليه وسلم قال " من وجد لقطة فليشهد عليها ذا عدل أو ذوي عدل ولا
يكتم ولا يغيب فإن وجد صاحبها فليردها عليه وإلا فهي مال الله يؤتيه من
يشاء " رواه النسائي قالوا وما يضاف إلى الله تعالى إنما يتملكه من يستحق
الصدقة ونقل حنبل عن أحمد مثل هذا القول فأنكره الخلال وقال ليس هذا مذهبا
لاحمد ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث زيد بن خالد " فإن لم
تعرف فاستنفقها " وفي لفظ " وإلا فهي كسائر مالك " وفي لفظ " ثم كلها " وفي
لفظ " فانتفع بها " وفي لفظ " فشأنك بها " في حديث أبي بن كعب وفي لفظ "
فاستمتع بها " وهو حديث صحيح ولأن من ملك بالقرض ملك اللقطة كالفقير ومن
جاز له الالتقاط ملك به بعد التعريف كالفقير وحديثهم عن أبي هريرة لم يثبت
ولا نقل في كتاب يعتمد عليه ولا به ودعواهم في حديث عياض أن ما يضاف إلى
الله تعالى لا يتملكه إلا من يستحق الص؟؟؟؟؟
(6/349)
لها وبطلانها ظاهر فإن الأشياء كلها تضاف
إلى الله تعالى خلقاً وملكاً قال الله تعالى (وآتوهم من مال الله الذي
آتاكم) * (مسألة) * (وعن أحمد لا يملك إلا الأثمان وهو ظاهر المذهب وهل له
الصدقة بغيرها؟ على روايتين) كلما جاز التقاطه ملك بالتعريف عند تمامه
أثماناً كان أو غيرها وهو ظاهر كلام الخرقي ونقل ذلك عن أحمد فروى عنه محمد
بن الحكم في الصياد يقع في شبكته الكيس أو النحاس يعرفه سنة فإن جاء صاحبها
وإلا فهو كسائر ماله وهذا نص في النحاس وقال ابن أبي موسى هل حكم العروض في
التعريف وجواز التصرف بعد ذلك حكم الأثمان؟ على روايتين أظهرهما أنها
كالأثمان قال شيخنا ولا أعلم بين أكثر أهل العلم فرقاً بين الأثمان والعروض
في ذلك وقال أكثر أصحابنا لا تملك العروض
بالتعريف قال القاضي نص عليه أحمد في رواية الجماعة واختلفوا فيما يصنع بها
فقال أبو بكر وابن عقيل يعرفها أبداً وقال القاضي هو بالخيار بين أن يقيم
على تعريفها حتى يجئ صاحبها وبين دفعها إلى الحاكم ليرى رأيه فيها وهل له
بيعها بعد الحول والصدقة بها؟ على روايتين (إحداهما) يجوز كما تجوز الصدقة
بالغصوب التي لا يعرف أربابها (والثانية) لا يجوز لأنه يحتمل أن يظهر
صاحبها فيأخذها وقال الخلال كل من روي عن أحمد روي عنه أنه يعرفه سنة
ويتصدق به والذي روي عنه أنه يعرفها أبداً
(6/350)
قول قديم رجع عنه واحتجوا بأنه قد روي عن
ابن عمر وابن عباس وابن مسعود مثل قولهم ولأنها لقطة لا تملك في الحرم فلا
تملك في غيره كالإبل ولأن الخبر ورد في الأثمان وغيرها لا يساويها لعدم
الغرض المتعلق بعينها فمثلها لا يقوم مقامها من كل وجه ولنا عموم الأحاديث
في اللقطة فإن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن اللقطة فقال " عرفها سنة "
ثم قال في آخره " فشأنك بها - أو - فانتفع بها " وفي حديث عياض بن حمار "
من وجد لقطة " وهو لفظ عام وقد روى الجوزجاني والاثرم في كتابيهما ثنا أبو
نعيم ثنا هشام بن سعد قال حدثني عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال أتى رجل
رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله كيف ترى في متاع يوجد في
الطريق المعتاد أو في قرية مسكونة؟ قال " عرفه سنة فإن جاء صاحبه وإلا
فشأنك به " ورويا أن سفيان بن عبد الله وجد عيبة فأتى بها عمر بن الخطاب
فقال عرفها سنة فإن عرفت وإلا فهي لك زاد الجوزجاني فلم تعرف فلقيه بها
العام فذكرها له فقال عمر هي لك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنا
بذلك ورواه النسائي وهذا نص في غير الأثمان وروى الجوزجاني بإسناده عن الحر
بن الصباح قال كنت عند ابن عمر بمكة إذ جاءه رجل فقال إني وجدت هذا البرد
وقد نشدته وعرفته فلم يعرفه أحد وهذا يوم التروية يوم
(6/351)
يتفرق الناس فقال إن شئت قومته قيمة عدل
ولبسته وكنت له ضامناً متى جاء صاحبه دفعت إليه ثمنه وإن لم يجئ له طالب
فهو لك إن شئت ولأن ما جاز التقاطه ملك بالتعريف كالأثمان وما حكوه عن
الصحابة إن صح فقد حكينا عن عمر وابنه خلافه وقولهم إنها لقطة لا تملك في
الحرم ممنوع ثم هو
منقوض بالأثمان وقياسها على الإبل لا يصح لأن معها حذاءها وسقاءها ترد
الماء وتأكل الشجر حتى يأتيها ربها ولا يوجد ذلك في غيرها ولأن الإبل لا
يجوز التقاطها فلا تملك وههنا يجوز التقاطها فملك به كالأثمان وقولهم إن
النص خاص في الأثمان قلنا بل هو عام في كل لقطة فيجب العمل بعمومه وإن ورد
فيها نص خاص فقد روي خبر عام فيعمل بها ثم قد رويناه في العوض فيجب العمل
به كما وجب العمل بالخاص في الأثمان ثم لو اختص الخبر بالأثمان لوجب أن
يقاس عليها ما في معناها كسائر النصوص التي عقل في معناها ووجد غيرها وههنا
قد وجد المعنى فيجب قياسه على المنصوص عليه بل المعنى ههنا آكد فيثبت الحكم
فيه بطريق البينة، بيانه أن الأثمان لا تتلف بمضي الزمان عليها وانتظار
صاحبها بها أبداً والعروض تتلف بذلك ففي النداء عليها دائماً هلاكها وضياع
ماليتها على صاحبها وملتقطها وسائر الناس وفي إباحة الانتفاع بها وملكها
بعد التعريف حفظ لماليتها علي صاحبا بدفع
(6/352)
قيمتها إليه ونفع لغيره فيجب ذلك لنهي
النبي صلى الله عليه وسلم ولما فيه من المصلحة والحفظ لمال المسلم عليه
ولأن في إثبات الملك حثاً على التقاطها وحفظها وتعريفها لكونه وسيلة إلى
الملك المقصود للآدمي وفي نفي ملكها تضييع لها لما في التقاطها من الخطر
والمشقة والكلف من غير نفع يصل إليه فيؤدي الى أن لا يلتقطها أحد فتضيع وما
ذكره في الفرق ملغي في الشاة فقد ثبت الملك فيها مع هذا الفرق ثم يمكننا أن
نقيس على الشاة فلا يحصل هذا الفرق بين الفرع والأصل ثم نقلب دليلهم فنقول
لقطة لا تملك في الحرم فما أبيح التقاطه منها ملك إذا كان في الحل وما لا
يباح لا يملك كالإبل * (مسألة) * (وعن أحمد أن لقطة الحرم لا تملك بحال)
المشهور عن أحمد وفي المذهب أن لقطة الحرم والحل سواء وهو ظاهر كلام الخرقي
روى ذلك عن ابن عمر وابن عباس وعائشة وابن المسيب وهو مذهب مالك وابي حنيفة
وروى عن أحمد أنه لا يجوز التقاط لقطة الحرم للتمليك ويجوز لحفظها لصاحبها
فإن التقطها عرفا أبداً حتى يأتي صاحبها وهو قول عبد الرحمن بن مهدي وأبو
عبيد وعن الشافعي
(6/353)
كالمذهبين لقول النبي صلى الله عليه وسلم
في مكة " لا تحل ساقطتها إلا لمنشد " متفق عليه والمنشد المعرف قاله أبو
عبيد والناشد الطالب وينشد * إصاخة الناشد للمنشد * فيكون معناه لا تحل
لقطة مكة إلا لمن يعرفها لأنها خصت بهذا من بين سائر البلدان وروى أبو داود
بإسناده أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن لقطة الحاج قال ابن وهب يعني
يتركها حتى يجدها صاحبها، ووجه الرواية الأولى عموم الأحاديث، ولأنه أحد
الحرمين أشبه حرم المدينة ولأنها أمانة فلم يختلف حكمها بالحل والحرم
كالوديعة وقول النبي صلى الله عليه وسلم " إلا لمنشد " يحتمل أنه يريد إلا
لمن عرفها عاماً وتخصيصها بذلك لتأكيدها لقوله عليه السلام " ضالة المؤمن
حرق النار " وضالة الذمي مقيسة عليها والله أعلم (فصل) ولا يجوز له التصرف
في اللقطة حتى يعرف وعاءها ووكاءها وقدرها وجنسها وصفتها، ويستحب ذلك عند
وجدانها والإشهاد عليها لقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث زيد " اعرف
وكاها وعفاصها " وقال في حديث أبي بن كعب " اعرف عفاصها ووكاءها وعددها ثم
عرفها سنة " وفي لفظ عن أبي ابن كعب أنه قال وجدت مائة دينار فأتيت بها
النبي صلى الله عليه وسلم فقال " عرفها حولاً " " فعرفها حولاً فلم تعرف
فرجعت اليه فقال اعرف " عدتها ووعاءها ووكاءها واخلطها بمالك فإن جاء
(6/354)
ربها فأدها إليه " ففي هذا الحديث أمره
بمعرفة صفاتها بعد التعريف وفي غيره أمره بمعرفتها بعين التقاطها قبل
تعريفها وهو الأولى ليحصل عنده علم ذلك فمتى جاء صاحبها فنعتها غلب على ظنه
صدقه فدفعها إليه وإن أخر معرفة ذلك إلى حين مجئ باغيها جاز لأن المقصود
يحصل حينئذ فإن لم يجئ طالبها فأراد التصرف فيها بعد الحول لم يجز له حتى
يعرف صفاتها لأن عينها تنعدم بالتصرف فلا يبقى له سبيل إلى معرفة صفاتها
إذا جاء طالبها ولذلك إن خلطها بماله على وجه لا تتميز منه فيكون أمر النبي
صلى الله عليه وسلم لابي بمعرفة صفاتها عند خلطها بماله أمر إيجاب مضيق
وأمره لزيد بن خالد بمعرفة ذلك حين الالتقاط أمر استحباب، قال القاضي ينبغي
أن يعرف جنسها ونوعها وإن كانت ثياباً عرف لفافتها وجنسها ويعرف قدرها
بالكيل أو الوزن أو العدد أو الذرع ويعرف العقد عليها هل هو عقد واحد أو
أكثر؟ أنشوطة أو غيرها؟ ويعرف صمام القارورة الذي يدخل رأسها وعفاصها الذي
يلبسه ويستحب
أن شهد عليها حين يجدها، قال أحمد لا أحب أن يمسها حتى يشهد عليها.
فظاهر هذا أنه مستحب غير واجب وأنه لا ضمان عليه إذا لم يشهد وهو قول مالك
والشافعي، وقال أبو حنيفة يضمنها إذا لم يشهد عليها لقول النبي صلى الله
عليه وسلم " من وجد لقطة فليشهد ذا عدل أو ذوي عدل " وهذا أمر يقتضي الوجوب
ولأنه إذا لم يشهد كان الظاهر أنه أخذها لنفسه ولنا خبر زيد بن خالد وأبي
بن كعب فإنه أمرهما بالتعريف دون الإشهاد ولو كان واجباً لبينه
(6/355)
فإنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة
سيما وقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن حكم اللقطة فلم يكن ليخل بذكر
الواجب فيها فيتعين حمل الأمر في حديث عياض على الاستحباب ولأنه أخذ أمانة
فلم يفتقر إلى الإشهاد كالوديعة، والمعنى الذي ذكروه غير صحيح فإنه إذا
حفظها وعرفها لم يأخذها لنفسه وفائدة الإشهاد صيانة نفسه من الطمع فيها
وحفظها من ورثته ان مات ومن غرمائه إن أفلس وإذا أشهد عليها لم يذكر للشهود
صفاتها كما قلنا في التعريف لكن يذكر للشهود ما يذكره في التعريف من الجنس
والنوع.
قال أحمد في رواية صالح وقد سأله إذا أشهد عليها هل يبين كم هي؟ قال لا،
ولكن يقول قد أصبت لقطة، ويستحب أن يكتب صفاتها ليكون أثبت له مخافة أن
ينساها إن اقتصر على حفظها بقلبه فإن الإنسان عرضة النسيان * (مسألة) *
(فمتى جاء طالبها فوصفها لزم دفعها إليه بنمائها المتصل وزيادتها المنفصلة
لمالكها قبل الحلول ولو أخذها بعده في أصح الوجهين) إذا جاء طالب اللقطة
فوصفها وجب دفعها إليه بغير بينة سواء غلب على ظنه صدقه أو لم يغلب.
وبهذا قال مالك وأبو عبيد وداود وابن المنذر، وقال أبو حنيفة والشافعي لا
يجبر على ذلك إلا ببينة
(6/356)
ويجوز له دفعها إليه اذا غلب على ظنه صدقه،
وقال أصحاب الرأي إن شاء دفعها إليه وأخذ كفيلاً بذلك لأن النبي صلى الله
عليه وسلم قال " البينة على المدعي " ولأن صفة المدعي لا يستحق بها
كالمغصوب ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " فإن جاءك أحد يخبرك بعددها
ووعائها ووكائها فادفعها إليه "
وظاهر الأمر الوجوب، وفي حديث زيد " اعرف وكاءها وعفاصها ثم عرفها سنة فإن
لم تعرف فاستنفقها وإن جاء طالبها يوماً من الدهر فأدها إليه " يعني إذا
ذكر صفاتها لأن ذلك هو المذكور في صدر الحديث ولم يذكر البينة ولو كانت
شرطاً للدفع لذكرها لأنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة ولأن إقامة
البينة على اللقطة تتعذر لأنها إنما تسقط حال الغفلة فتوقف دفعها على
البينة منع لوصولها إلى صاحبها أبداً وهذا يفوت مقصود الالتقاط ويفضي إلى
تفويت أموال الناس وما هذا سبيله يسقط اعتبار البينة فيه كالإنفاق على
اليتيم، والجمع بين هذا القول وبين تفصيل الالتقاط على تركه متناقض لأن
الالتقاط حينئذ يكون تضييعاً لمال المسلم وإتعاباً لنفسه بالتعريف الذي لا
يفيد والمخاطرة بدينه يتركه
(6/357)
الواجب من تعريفها وما هذا سبيله يجب أن
يكون حراماً فكيف يكون فاضلاً، وعلى هذا نقول لو لم يجب دفعها بالصفة لم
يجز التقاطها لما ذكرناه، وقول النبي صلى الله عليه وسلم " البينة على
المدعي " يعني إذا كان ثم منكر لقوله في سياقه " واليمين على من أنكر " ولا
منكر ههنا على أن البينة تختلف وقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم بينة مدعي
اللقطة وصفها فإذا وصفها فقد أقام بينته وقياس اللقطة على المغصوب غير صحيح
فإن النزاع ثم في كونه مغصوباً والأصل عدمه وقول المنكر يعارض دعواه فاحتيج
إلى البينة وههنا قد ثبت كون هذا المال لقطة وإن له صاحباً غير من هو في
يده ولا مدعي له إلا الواصف وقد يرجح صدقه فينبغي أن يدفع إليه.
(فصل) ويدفعها إليه بزيادتها المتصلة والمنفصلة إذا كان قبل الحول لأنها
ملكها فإن وجدها زائدة بعد الحول أخذها بزيادتها المتصلة لأنها تتبع في
الرد بالعيب والإقالة فتبعت ههنا وإن حدث بعد الحول لها نماء منفصل فهو
للملتقط لأنه نماء ملكه متميز لا يتبع في الفسوخ فكان له كنماء المبيع إذا
رد بعيب
(6/358)
وذكر أبو الخطاب فيه وجهاً آخر أنه يكون
لصاحب اللقطة بناء على المفلس إذا استرجعت منه العين بعد أن زادت زيادة
متميزة والولد إذا استرجع أبوه ما وهبه له بعد زيادته المنفصلة والصحيح أن
الزيادة للملتقط لما ذكرناه وكذلك الصحيح في الموضعين اللذين ذكرهما أن
الزيادة لمن حدثت في
ملكه ثم الفرق بينهما أنه في مسئلتنا يضمن النقص فتكون الزيادة له ليكون
الخراج بالضمان وثم لا ضمان عليه فأمكن أن لا يكون الخراج ومتى اختلفا في
القيمة أو المثل فالقول قول الملتقط مع يمينه إذا كانت اللقطة قد استهلكت
في يد الملتقط لأنه غارم * (مسألة) * (وإن تلفت أو نقصت قبل الحول لم
يضمنها وبعده يضمنها) لأنها أمانة في يده إلا أن تكون تلفت أو نقصت بتفريطه
كالوديعة وإن أتلفها الملتقط أو تلفت بتفريطه ضمنها بمثلها إن كانت من ذوات
الأمثال أو بقيمتها إن لم تكن مثلية، قال شيخنا لا أعلم فيه خلافاً
(6/359)
وإن تلفت بعد الحول ثبت في ذمته مثلها أو
قيمتها بكل حال لأنها دخلت في ملكه وتلفت من ماله وسواء فرط أو لم يفرط وإن
وجد العين ناقصة بعد الحول أخذ العين وأرش النقص لأن جميعها مضمون إذا تلف
فكذلك أرش نقصها، وهذا قول أكثر العلماء الذين حكموا بملكه لها بمضي حول
التعريف، فأما من قال لا يملكها إلا باختياره لم يضمنه إياها حتى يتملكها
وحكمها قبل ذلك كحكمها قبل مضي حول التعريف، ومن قال لا يملك اللقطة بحال
لم يضمنه إياها وبهذا قال الحسن والنخعي وأبو مجلز والحارث العكلي ومالك
وأبو يوسف قالوا لا يضمن، وإن ضاعت بعد الحول وقد ذكرنا فيما تقدم دليل
دخولها في ملكه وقال داود إذا تملك العين وأتلفها لم يضمنها وحكى ابن أبي
موسى عن أحمد أنه لوح إلى مثل هذا القول لحديث عياض عن النبي صلى الله عليه
وسلم إنه قال " فإن جاء ربها وإلا فهو مال الله يؤتيه من يشاء " وقوله في
حديث أبي بن كعب " فإن جاء من يعرفها وإلا فهي كسبيل مالك " وفي حديث زيد "
فإن جاء صاحبها وإلا فشأنك بها " وروي " فهي لك " ولم يأمره برد بدلها.
(6/360)
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " فإن
لم تعرف فاستنفقها ولتكن وديعة عندك فإن جاء طالبها يوماً من الدهر فادفعها
إليه " قال الأثرم قال أحمد أذهب الى حديث الضحاك بن عثمان جوده ولم يروه
أحد مثل ما رواه إن جاء صاحبها بعد سنة وقد أنفقها ردها إليه ولأنها عين
يلزمه ردها لو كانت باقية فيلزمه ضمانها إذا أتلفها كما قبل الحول ولأنه
مال معصوم فلم يجز إسقاط حقه منه مطلقاً
كما لو اضطر إلى مال غيره (فصل) فإن وجد العين بعد خروجها من ملك الملتقط
ببيع أو هبة أو نحوهما لم يكن له أخذها وله أخذ بدلها لأن تصرف الملتقط وقع
صحيحاً لأنه ملكها فإن صادفها وقد عادت إلى الملتقط بفسخ أو شراء أو غير
ذلك فله أخذها لأنه وجد عين ماله في يد ملتقطه فكان له أخذها كالزوج إذا
طلق
(6/361)
قبل الدخول فوجد الصداق قد رجع إلى المرأة
وسائر الرجوع ههنا كحكم رجوع الزوج على ما نذكره إن شاء الله تعالى.
* (مسألة) * (وإن وصفها اثنان قسمت بينهما في أحد الوجهين ذكره أبو الخطاب)
لأنهما تساويا فيما يستحق به الدفع فتساويا فيها كما لو كانت في أيديهما،
والوجه الثاني أنه يقرع بينهما فمن وقعت له القرعة حلف وسلمت إليه ذكره
القاضي وهكذا إن أقاما بينتين وهذا الوجه أشبه بأصولنا فيما إذا تداعيا
عينا في يد غيرهما ولأنهما تداعيا عيناً في يد غيرهما وتساويا في البينة أو
عدمها فتكون لمن وقعت له القرعة كما لو ادعيا وديعة في يد إنسان فقال هي
لأحدكما لا أعرف عينه، وفارق ما إذا كانت في أيديهما لأن يد كل واحد منهما
على نصفه فرجح قوله فيه
(6/362)
* (مسألة) * (فإن أقام آخر بينة أنها له
قدم لأن البينة أقوى من الوصف فإن كان الواصف قد أخذها ردت إلى صاحب البينة
لأننا تبينا أنها له، فإن كانت قد هلكت فلصاحبها تضمين من شاء من الواصف
والدافع وبه قال أبو حنيفة والشافعي، ويتخرج أن لا يلزم الملتقط شئ إذا
قلنا بوجوب الدفع عليه لأنه فعل ما أمر به ولم يفرط وهو أمين فلم يضمن كما
لو دفعها بأمر الحاكم ولأنه إذا كان الدفع واجباً عليه يأثم بتركه فكأنه
دفع بغير اختياره فلم يضمن كما لو أخذت منه كرهاً، ووجه الأول أنه دفع مال
غيره إلى غير مستحقه اختياراً منه فضمنه كما لو دفع الوديعة إلى غير مالكها
اذا غلب على ظنه أنه مالكها.
* (مسألة) * (إلا أن يدفعها بحكم الحاكم فلا يملك صاحبها مطالبته)
لأنها مأخوذة منه على سبيل القهر فلم يضمنها كما لو غصبها غاصب ومتى ضمن
الواصف لم يرجع على أحد لأن العدوان منه والتلف عنده وإن ضمن الدافع رجع
على الواصف لأنه كان سبب تغريمه إلا أن يكون الملتقط قد أقر للواصف
(6/363)
أنها له فإنه لا يرجع عليه لأنه أقر أنه
مالكها ومستحقها وأن صاحب البينة ظلمه بتضمينه فلا يرجع على غير ظالمه، وإن
كانت اللقطة قد تلفت عند الملتقط فضمنه إياها رجع على الواصف بما غرمه وليس
لمالكها تضمين الواصف لأن الذي قبضه إنما هو مال الملتقط لا مال صاحب
اللقطة بخلاف ما إذا سلم العين فأما إن وصفها إنسان فأخذها ثم جاء آخر
فوصفها وادعاها لم يستحق شيئاً لأن الأول استحقها لوصفه إياها وعدم المنازع
فيها وثبتت يده عليها ولم يوجد ما يقتضي انتزاعها منه فوجب إبقاؤها في يده
كسائر ماله.
(فصل) ولو جاء مدعي اللقطة فلم يصفها ولا أقام بينة أنها له لم يجز دفعها
إليه سواء غلب على ظنه صدقه أو كذبه لأنها أمانة فلم يجز دفعها إلى من لم
يثبت أنه صاحبها كالوديعة، فإن دفعها فجاء آخر فوصفها أو أقام بها بينة لزم
الدافع غرامتها له لأنه فوتها على مالكها بتفريطه وله الرجوع على مدعيها
لأنه أخذ مال غيره ولصاحبها تضمين آخذها فإذا ضمنه لم يرجع على أحد وإن لم
يأت أحد يدعيها
(6/364)
فللملتقط مطالبة آخذها لأنه لا يأمن مجئ
صاحبها فيغرمه إياها ولأنها أمانة في يده فملك الأخذ من غاصبها كالوديعة.
(فصل) فإن كان الملتقط قد مات واللقطة موجودة قام وارثه مقامه في تعريفها
أو إتمامه إن مات قبل إتمام الحول ويملكها بعد إتمام التعريف وإن مات بعد
تمام الحول ورثها الوارث كسائر أموال الميت، ومتى جاء صاحبها أخذها من
الوارث كما يأخذها من الموروث وإن كانت معدومة العين فصاحبها غريم للميت
بمثلها إن كانت من ذوات الأمثال أو بقيمتها إن لم تكن كذلك فيأخذ ذلك من
تركته إن اتسعت لذلك فإن ضاقت التركة زاحم الغرماء ببدلها سواء تلفت بعد
الحول بفعله أو بغير فعله لأنها قد دخلت في ملكه بمضي الحول، وإن علم أنها
تلفت قبل الحول بغير تفريط فلا ضمان عليه ولا شئ
لصاحبها لأنها أمانة في يده تلفت بغير تفريط فلم يضمنها كالوديعة وكذلك إن
تلفت بعد الحول قبل تملكها بغير تفريط عند من يرى أنها لا تدخل في ملكه حتى
يتملكها أو أنها لا تملك بحال وقد
(6/365)
مضى الكلام في ذلك، فأما ان لم يعلم تلفها
ولا وجدت في تركته فظاهر كلام الخرقي أنه غريم بها سواء كان قبل الحول أو
بعده ويحتمل أن لا يلزم الملتقط شئ ويسقط حق صاحبها لأن الأصل براءة ذمة
الملتقط منها لأنه يحتمل أن تكون قد تلفت بغير تفريط فلا تشتغل ذمته بالشك
ويحتمل أنه إن كان الموت قبل الحول فلا شئ عليه لأنها كانت أمانة عنده ولم
تعلم خيانته فيها والأصل براءة ذمته منها وإن مات بعد الحول فهي في تركته
لأن الأصل بقاؤها إلى ما بعد الحول ودخولها في ملكه ووجوب بدلها عليه.
فإن قيل فقد قلتم أن صاحبها لو جاء بعد بيع الملتقط إياها أو هبته لم يكن
له إلا بدلها فلم قلتم أنها إذا انتقلت إلى الوارث يملك صاحبها أخذها؟ قلنا
لأن الوارث خليفة الموروث وإنما ثبت له الملك فيها على الوجه الذي كان
ثابتاً لموروثه وملك موروثه فيها كان مراعى مشروطاً بعدم مجئ صاحبها فكذلك
ملك وارثه بخلاف ملك المشتري والمتهب فإنهما يملكان ملكا مستقراً
(6/366)
* (فصل) * قال رحمه الله (ولا فرق بين كون
الملتقط غنياً أو فقيراً مسلماً أو كافراً عدلاً أو فاسقاً يأمن نفسه عليها
وقيل يضم إلى الفاسق أمين في تعريفها وحفظها) إذا التقط الغني لقطة وعرفها
حولاً ملكها كالفقير روي نحو ذلك عن عمر وابن مسعود وعائشة وعلي وابن عباس
وعطاء والشعبى والنخعي وطاوس وعكرمة وبه قال الشافعي وإسحاق وابن المنذر
وقال أبو حنيفة ليس له أن يتملكها إلا أن يكون فقيراً من غير ذوي القربى
لما روى عياض بن حمار المجاشعي أن النبي صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم
قال " من وجد لقطة فليشهد عليها ذا عدل أو ذوي عدل ولا يكتم ولا يغيب فإن
وجد صاحبها فليردها عليه وإلا فهي مال الله يؤتيه من يشاء " رواه النسائي،
قالوا وما يضاف إلى الله تعالى إنما يتملكه من يستحق الصدقة ونقل حنبل عن
أحمد مثل هذا القول وأنكره الخلال وقال ليس هذا مذهبا لاحمد ولنا قول النبي
صلى الله عليه وسلم في حديث زيد بن خالد " فإن لم تعرف فاستنفقها - وفي لفظ
- فشأنك
بها - وفي لفظ - وإلا فهي كسبيل مالك " ولأن من ملك بالقرض ملك اللقطة
كالفقير ومن جاز له الالتقاط
(6/367)
ملك به بعد التعريف كالفقير ودعواهم في
حديث عياض أن ما يضاف إلى الله تعالى لا يتملكه إلا من يستحق الصدقة لا
دليل عليه وبطلانها ظاهر فإن الأشياء كلها تضاف إلى الله تعالى ملكاً
وخلقاً قال الله تعالى (وآتوهم من مال الله الذي آتاكم) (فصل) ويملك الذمي
بالالتقاط كالمسلم وقال بعض أصحاب الشافعي ليس له الالتقاط في دار الإسلام
لأنه ليس من أهل الأمانة ولنا أنه نوع اكتساب فكان من أهله كالاحتشاش
والاحتطاب وما ذكروه يبطل بالصبي والمجنون فإنه يصح التقاطهما مع عدم
الأمانة ومتى عرف اللقطة حولا ملكها كالسلم، وإن علم بها الحاكم أقرها في
يده وضم إليه مشرفاً عدلاً يشرف عليه ويعرفها لأننا لا نأمن الكافر على
تعريفها ولا نأمن أن نحل في التعريف بشئ من الواجب عليه فيه وأجر المشرف
عليه فإذا تم حول التعريف ملكها الملتقط ويحتمل أن تنزع من يد الذمي وتوضع
على يدي عدل لأنه غير مأمون عليها
(6/368)
(فصل) ويصح التقاط الفاسق لأنها جهة من
جهات الكسب فصح التقاطه كالعدل ولأنه إذا صح التقاط الكافر فالمسلم أولى
إلا أن الأولى له ألا يأخذها لأنه يعرض نفسه للأمانة وليس من أهلها وإذا
التقطها فعرفها حولاً ملكها كالعدل، وإن علم الحاكم أو السلطان بها أقرها
في يده وضم إليه مشرفاً يشرف عليه ويتولى تعريفها كما قلنا في الذمي وبهذا
قال أبو حنيفة والشافعي وقال في الآخر ينزعها من يده ويدعها في يد عدل ولنا
أن من خلي بينه وبين الوديعة لم تزل يده عن اللقطة كالعدل والحفظ يحصل بضم
المشرف إليه فأما إن لم يكن المشرف حفظها منه انتزعت من يده وتركت في يد
العدل فإذا عرفها ملكها الملتقط لوجود سبب الملك منه * (مسألة) * (وإن
وجدها صبي أو سفيه قام وليه بتعريفها فإذا عرفها فهي لواجدها)
وجملة ذلك أن الصبي والسفيه والمجنون إذا التقط أحدهم لقطة ثبتت يده عليها
لعموم الأخبار ولأنه نوع تكسب فصح منه كالاصطياد والاحتطاب فإن تلفت في يده
بغير تفريط فلا ضمان عليه وإن تلفت بتفريطه ضمنها في ماله وإذا علم بها
وليه لزمه أخذها منه لأنه ليس من أهل الحفظ والأمانة فإن تركها في يده
ضمنها لأنه يلزمه حفظ ما يتعلق به حق الصبي وهذا يتلف به حقه فإذا تركها في
يده كان مضيعاً لها، ويعرفها الولي إذا أخذها لأن واجدها ليس من أهل
التعريف فإذا انقضت مدة
(6/369)
التعريف دخلت في ملك واجدها لأن سبب التملك
تم بشرطه فثبت الملك له كما لو اصطاد صيداً وهذا مذهب الشافعي إلا أن
أصحابه قالوا إذا انقضت مدة التعريف فكان الصبي والمجنون بحيث يستقرض لهما
يملكه لهما وإلا فلا وقال بعضهم يتملكه لهم بكل حال لأن الظاهر عدم ظهور
صاحبه فيكون تملكه مصلحة له.
ولنا عموم الأخبار ولو جرى هذا مجرى الاقتراض لما صح التقاط صبي لا يجوز
الاقتراض له لأنه يكون تبرعاً بحفظ مال غيره من غير فائدة (فصل) قال أحمد
في رواية العباس بن موسى في غلام له عشر سنين التقط لقطة ثم كبر فإن وجد
صاحبها دفعها إليه وإلا تصدق بها قد مضى أجل التعريف فيما تقدم من السنين
ولم ير عليه استقبال أجل التعريف قال وقد كنت سمعته قبل هذا أو بعده يقول
في انقضاء أجل التعريف إذا لم يجد صاحبها أيتصدق بمال الغير؟ وهذه المسألة
قد مضى نحوها فيما إذا لم يعرف الملتقط اللقطة في حولها الأول فإنه لا
يملكها وإن عرفها فيما بعد ذلك لكون التعريف بعده لا يفيد ظاهراً لكون
صاحبها ييأس منها ويترك طلبها، وهذه المسألة تدل على أنه إذا ترك التعريف
لعذر فهو كتركه لغير عذر لكون الصبي من أهل العذر وقد ذكرنا فيه وجهين فيما
تقدم، وقال أحمد في غلام لم يبلغ أصاب عشرة دنانير فذهب بها إلى
(6/370)
منزله فضاعت فلما بلغ أراد ردها فلم يعرف
صاحبها تصدق بها فان لم يجد عشرة وكان يجحف به تصدق قليلاً قليلاً قال
القاضي هذا محمول على أنها تلفت بتفريط الصبي وهو أنه لم يعلم وليه حتى
يقوم بتعريفها
* (مسألة) * (وإن التقطها عبد فلسيده أخذها منه وتركها معه يتولى تعريفها
إن كان عدلاً فإن لم يأمن العبد سيده عليها لزمه سترها عنه فإن أتلفها قبل
الحول فهي في رقبته وإن أتلفها بعده فهي في ذمته) يصح التقاط العبد بغير
إذن سيده وبه قال أبو حنيفة والشافعي في أحد قوليه وقال في الآخر لا يصح
التقاطه لأن اللقطة في الحول الأول أمانة وولاية وفي الثاني تملك والعبد
ليس من أهل الولايات ولا التملك.
ولنا عموم الخبر ولأن الالتقاط سبب يملك به الصبي ويصح منه فصح من العبد
كالاصطياد والاحتطاب ولأن من جاز له قبول الوديعة صح منه الالتقاط كالحر
قولهم أن العبد ليس من أهل الولايات والأمانات يبطل بالصبي والمجنون فإنهما
أدنى حالاً منه في هذا، وقولهم أن العبد لا يملك ممنوع وان سلما فإنه يتملك
لسيده كما يحصل بسائر الاكتسابات ولأن الالتقاط تخليص مال من الهلاك فجاز
من العبد بغير إذن سيده كإنقاذ المال الغريق والمغصوب.
إذا ثبت هذا فإن اللقطة تكون أمانة في يد العبد إن تلفت بغير تفريط في حول
التعريف لم يضمن فإن عرفها صح تعريفه لأن له قولاً
(6/371)
صحيحاً فصح تعريفه كالحر فإذا تم حول
التعريف ملكها سيده لأن الالتقاط كسب العبد وكسبه لسيده فإن علم السيد
بلقطة عبده كان له انتزاعها منه لأنها من كسب العبد وللسيد انتزاع كسبه من
يده فإن انتزعها بعد أن عرفها العبد ملكها وإن كان لم يعرفها عرفها سيده
حولاً وإن كان العبد عرفها بعض الحول عرفها السيد تمامه وللسيد إقرارها في
يد العبد إن كان أميناً ويكون مستعيناً بعبده في حفظها كما يستعين به في
حفظ ماله، فإن كان العبد غير أمين كان السيد مفرطاً بإقرارها في يده ولزمه
ضمانها كما لو أخذها من يده وردها لأن يد العبد كيده وما يستحق بها لسيده
وإن أعتق العبد بعد الالتقاط فله انتزاع اللقطة من يده لأنها من كسبه
وإكسابه لسيده، ومتى علم العبد أن سيده غير مأمون عليها لزمه سترها عنه
ويسلمها إلى الحاكم ليعرفها ثم يدفعها إلى سيده بشرط الضمان، فإن أتلفها
العبد في الحول الأول فهي في رقبته كجناياته وكذلك إن تلفت بتفريطه وإن
أتلفها بعده فهي في ذمته إن قلنا إن العبد يملكها بعد التعريف وإن قلنا لا
يملكها فهو كما لو أتلفها في حول التعريف ويصح أن ينبني ذلك على
استدانة العبد هل تتعلق برقبته أو ذمته؟ على روايتين وقد مر ذكره في الحجر
* (مسألة) * (والمكاتب كالحر في اللقطة) لأن المال له في الحال واكتسابه له
دون سيده وهي من اكتسابه فإن عجز عاد عبدا وصار حكمه في لقطته حكم العبد،
وأم الولد والمدبر والمعلق عتقه بصفة كالقن ومن بعضه حر إذا التقط لقطة فهي
بينه وبين سيده إذا لم يكن بينهما مهايأة كالحرين إذا
(6/372)
التقطا لقطة وإن كان بينهما مهايأة لم تدخل
في المهايأة في أحد الوجهين لأنها كسب نادر لا يعلم وجوده ولا يظن فلم يدخل
في المهايأة كالإرث.
فعلى هذا يكون بينهما والثاني يدخل في المهايأة لأنها من كسبه أشبهت سائر
أكسابه فيكون لمن يوجد في يومه وكذلك الحكم في الهدية والوصية وسائر
الأكساب النادرة فيها الوجهان، فإن كان العبد بين اثنين شركة فلقطته بينهما
على ما ذكرنا فيمن بعضه حر والله أعلم.
(6/373)
باب اللقيط وهو الطفل المنبوذ اللقيط بمعنى
الملقوط كالقتيل والجريح والتقاطه واجب لقول الله تعالى (وتعاونوا على البر
والتقوى) ولأن فيه إحياء نفسه فكان واجباً كإطعامه إذا اضطر وإنجائه من
الغرق، وهو من فروض الكفايات اذا قام به من يكفي سقط عن الباقين، وان تركه
الجماعة أثموا كلهم إذا تركوه مع إمكان أخذه، وقد روي عن سنين أبي جميلة
قال: وجدت ملقوطاً فأتيت به عمر رضي الله عنه فقال عريفي يا أمير المؤمنين
إنه رجل صالح، فقال عمر: أكذلك هو؟ قال نعم قال: فاذهب فهو حر ولك ولاؤه
وعلينا نفقته، رواه سعيد عن سفيان عن الزهري سمع سنيناً أبا جميلة بهذا
وقال وعلينا رضاعه.
* (مسألة) * (وهو حر) اللقيط حر في قول عامة أهل العلم إلا النخعي قال إبن
المنذر اجمع عوام أهل العلم على أن اللقيط حر، روي هذا القول عن عمر وعلي
رضي الله عنهما، وبه قال عمر بن عبد العزيز والشعبي والحكم وحماد ومالك
والثوري والشافعي واسحاق وأصحاب الرأي ومن تبعهم
وقال النخعي: إن التقطه للحسبة فهو حر وإن كان أراد أن يسترقه فذلك له،
وهذا قول شذ فيه عن الخلفاء والعلماء ولا يصح في النظر فان الأصل في
الآدميين الحرية فإن الله تعالى خلق آدم وذريته أحراراً وإنما الرق لعارض
فاذا لم يعلم ذلك العارض فله حكم الأصل
(6/374)
* (مسألة) * (ينفق عليه من بيت المال إن لم
يوجد معه ما ينفق عليه) إذا لم يوجد مع اللقيط شئ لم يلزم الملتقط الإنفاق
عليه في قول عامة أهل العلم قال ابن المنذر أجمع كل من نحفظ عنه من أهل
العلم على أن نفقة اللقيط غير واجبة على الملنقط، كوجوب نفقة الولد، وذلك
لأن أسباب وجوب النفقة من القرابة والزوجية والملك والولاء منفية فالالتقاط
إنما هو تخليص له من الهلاك وتبرع بحفظه فلا يوجب ذلك النفقة كما لو فعله
بغير اللقيط، تجب نفقته في بيت المال لقول عمر رضي الله عنه في حديث أبي
جميلة: اذهب فهو حر ولك ولاؤه، وعلينا نفقته، وفي رواية: من بيت المال ولأن
بيت المال وإرثه وماله مصروف إليه فكانت نفقته عليه كقرابته ومولاه.
فإن تعذر الإنفاق عليه من بيت المال لسكونه لا مال فيه أو كان في مكان لا
إمام فيه أو لم يعط شيئاً فعلى من علم حاله من المسلمين الإنفاق عليه لقول
الله تعالى (وتعاونوا على البر والتقوى) ولأن في ترك الإنفاق عليه هلاكه،
وحفظه من ذلك واجب كإنقاذه من الغرق وهو فرض كفاية، ومن أنفق عليه متبرعا
فلا شئ له سواء كان الملتقط أو غيره، وإن لم يتبرع أحد بالإنفاق عليه فأنفق
عليه الملتقط أو غيره محتسباً بالرجوع عليه إذا أيسر وكان ذلك بأمر الحاكم
لزم اللقيط ذلك إذا كانت النفقة قصداً بالمعروف وبهذا قال الثوري وأصحاب
الرأي والشافعي، فإن أنفق بغير أمر الحاكم محتسباً بالرجوع
(6/375)
عليه فقال أحمد تؤدى النفقة من بيت المال،
وقال شريح والنخعي يرجع عليه بالنفقة إذا أشهد عليه يحلف ما أنفق احتساباً
فإن حلف استسعى، وقال الشعبي ومالك والثوري والاوزاعي وأبو حنيفة ومحمد بن
الحسن والشافعي وابن المنذر لا يرجع بشئ لأنه انفق عليه من غير إذنه ولا
إذن وليه ولا إذن الحاكم فلم يرجع بشئ كما لو تبرع به.
ولنا أنه أداء مال وجب على غيره فكان له الرجوع على من كان الوجوب عليه
كالضامن إذا قضى عن المضمون عنه.
* (مسألة) * (ويحكم بإسلامه إلا أن يوجد في بلد الكفار ولا مسلم فيه فيكون
كافراً فان كان فيه مسلم فعلى وجهين) .
إذا وجد اللقيط في دار الإسلام فهو محكوم بإسلامه وإن كان فيها أهل الذمة
تغليباً للإسلام ولظاهر الدار ولأن الإسلام يعلو ولا يعلى ودار الإسلام
قسمان: (أحدهما) ما اختطه المسلمون كبغداد والبصرة فلقيطها محكوم بإسلامه
على ما ذكرنا (الثاني) دار فتحها المسلمون كمدائن الشام فهذه إن كان فيها
مسلم حكم بإسلام لقيطها لأنه يحتمل أن يكون لذلك المسلم تغليباً للإسلام
وإن لم يكن فيها مسلم بل كان أهلها أهل ذمة حكم بكفره لأن تغليب حكم
الإسلام إنما يكون مع الاحتمال.
فأما بلد الكفار فضربان أحدهما بلد كان للمسلمين فغلب الكفار عليه كالساحل
(6/376)
فهذا كالقسم الذي قبله وإن كان فيه مسلم
حكم بإسلام لقيطه وإن لم يكن فيه مسلم فهو كافر، وقال القاضي يحكم باسلامه
أيضاً لأنه يحتمل أن يكون فيه مؤمن يكتم إيمانه بخلاف الذي قبله فإنه لا
حاجة به إلى كتم إيمانه في دار الإسلام (الثاني) دار لم تكن للمسلمين أصلاً
كبلاد الهند والروم فإن لم يكن فيها مسلم فلقيطها كافر لأن الدار لهم
وأهلها منهم، وإن كان فيها مسلمون كالتجار وغيرهم ففيه وجهان (أحدهما) يحكم
بإسلامه تغليباً للإسلام والثاني يحكم بكفره تغليببا للدار والأكثر وهذا
التفصيل مذهب الشافعي وقال ابن المنذر أجمع عوام أهل العلم على أن الطفل
إذا وجد في بلاد المسلمين ميتاً في أي مكان وجد أنه يجب غسله ودفنه في
مقابر المسلمين وقد منعوا أن يدفن أطفال المشركين في مقابر المسلمين قال
وإذا وجد لقيط في قرية ليس فيها إلا مشرك فهو على ظاهر ما حكموا به أنه
كافر هذا قول الشافعي وأصحاب الرأي.
* (مسألة) * (وما وجد معه من فراش تحته أو ثياب أو مال في جيبه أو تحت
فراشه أو حيوان مشدود بثيابه فهو له، وإن كان مدفوناً تحته أو مطروحاً
قريباً منه فعلى وجهين)
وجملة ذلك أن ما وجد مع اللقيط فهو له ينفق عليه منه وبه قال الشافعي
وأصحاب الرأي لأن الطفل يملك وله يد صحيحة بدليل أنه يرث ويوررث ويصح أن
يشتري له وليه ويبيع ومن له ملك
(6/377)
صحيح فله يد صحيحة كالبلغ.
إذا ثبت هذا فكل ما كان متصلاً به أو متعلقاً بمنفعته فهو تحت يده ويثبت
بذلك ملكاً له في الظاهر، فمن ذلك ما كان لابساً له أو مشدوداً في ملبوسه
أو في يديه أو تحته أو مجعولاً فيه كالسرير والسفط وما فيه من فرش أو دراهم
والثياب التي تحته والتي عليه، وإن كان مشدوداً على دابة أو كانت مشدودة في
ثيابه أو كان في خيمة أو دار فهي له وأما المنفصل عنه فإن كان بعيداً منه
فليس في يده، وإن كان قريباً منه كثوب موضوع إلى جانبه ففيه وجهان (أحدهما)
ليس له ذلك لأنه منفصل عنه فهو كالبعيد (والثاني) هو له ولأن الظاهر أنه
ترك له فهو كالذي تحته ولأن القريب من البالغ يكون في يده، الا ترى أن
الرجل يقعد في السوق ومتاعه بقربه ويحكم بأنه في يده والحمال إذا جلس
للاستراحة ترك حمله قريباً منه وهذا أصح، فأما المدفون تحته فقال ابن عقيل
أن كان الحفر طرياً فهو له وإلا فلا لأن الظاهر أنه إذا كان طرياً فواضع
اللقيط حفره وإذا لم يكن طرياً كان مدفوناً قبل وضعه وقيل ليس هو له بحال
لأنه بموضع لا يستحقه إذا لم يكن الحفر طرياً فلم يكن له إذا كان طرياً
كالبعيد منه، ولأن الظاهر أنه لو كان له لشده واضعه في ثيابه ليعلم به ولم
يتركه في مكان لا يطلع عليه وكان ما حكمنا بأنه ليس له فحكمه حكم اللقطة أو
الركاز * (مسألة) * (وأولى الناس بحضانته واجده إن كان أميناً لأن عمر رضي
الله عنه أقر اللقيط في يد أبي جميلة حين قال عريفه إنه رجل صالح ولأنه سبق
إليه فكان أولى به لقول النبي صلى الله عليه وسلم " من
(6/378)
سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم فهو أحق به "
وهل يجب الإشهاد عليه؟ فيه وجهان (أحدهما) لا يجب كما لا يجب الإشهاد في
اللقطة (والثاني) يجب لأن القصد بالإشهاد حفظ النسب والحرية فاختص بوجوب
الشهادة كالنكاح، وفارق اللقطة فإن المقصود منها حفظ المال فلم يجب الإشهاد
فيها كالبيع * (مسألة) * (وله الإنفاق عليه مما وجد معه بغير إذن حاكم،
وعنه ما يدل على أنه لا ينفق
عليه إلا بإذنه) وجملة ذلك أنه ينفق على اللقيط مما وجد معه وما حكم له به
فان كان فيه كفايته لم تجب نفقته على أحد لأنه ذو مال فأشبه غيره من الناس
ولملتقطه الإنفاق عليه منه بغير إذن الحاكم ذكره ابن حامد لأنه وليه فلم
يعتبر في الإنفاق عليه إذن الحاكم كولي اليتيم ولأن هذا من الأمر بالمعروف
فاستوى فيه الإمام وغيره كتبديد الخمر، وروى أبو الحارث عن أحمد في رجل
أودع رجلاً مالاً وغاب وطالت غيبته وله ولد ولا نفقة له هل ينفق عليهم هذا
المستودع من مال الغائب فقال تقوم امرأته إلى الحاكم حتى يأمره بالإنفاق
عليهم فلم يجعل له الإنفاق من غير إذن الحاكم فقال بعض أصحابنا هذا مثله
والصحيح أن هذا مخالف له من وجهين (أحدهما) أن الملتقط له ولاية على اللقيط
وعلى ماله فإن له ولاية أخذه وحفظه (والثاني) أنه ينفق على اللقيط من ماله
وهذا بخلافه ولأن الإنفاق على الصبي من مال الله مشروط بكون الصبي محتاجاً
إلى ذلك لعدم ماله وعدم نفقة تركها أبوه برسمه وذلك لا يقيل
(6/379)
فيه قول المدوع فاحتيج إلى إثبات ذلك عند
الحاكم ولا كذلك في مسئلتنا فلا يلزم من وجوب استئذان الحاكم ثم وجوبه في
اللقيط، ومتى لم يجد حاكماً فله الإنفاق بكل حال لأنه حال ضرورة وقال
الشافعي ليس له أن ينفق بغير إذن حاكم في موضع يجد حاكماً وإن أنفق ضمنه
بمنزلة ما لو كان لأبي الصغير وديعة عند إنسان فأنفق عليه منها وذلك لأنه
لا ولاية له على ماله وإنما له حق الحضانة فان لم يجد حاكماً ففي جواز
الإنفاق وجهان ولنا ما ذكرناه ابتداء ولا نسلم أنه لا ولاية له على ماله
فإنا قد بينا أن له أخذه وحفظه وهو أولى الناس، به وذكرنا الفرق بين اللقيط
وبين ما قاسوا عليه.
إذا ثبت هذا فالمستحب أن يستأذن الحاكم في موضع يجد حاكماً لأنه أبعد من
التهمة وأقطع للظنة وفيه خروج من الخلاف وحفظ لماله من أن يرجع عليه بما
أنفق وينبغي أن ينفق، عليه بالمعروف كما ذكرنا في ولي اليتيم فإن بلغ
اللقيط واختلفا في قدر ما أنفق وفي التفريط في الإنفاق فالقول قول المنفق
لأنه أمين فكان القول قوله في ذلك كولي اليتيم.
* (مسألة) * (فإن كان الملتقط فاسقاً لم تقر في يده وهو قول الشافعي) لأن
حفظه للولاية عليه ولا ولاية لفاسق وظاهر كلام الخرقي أنه يقر في يده لقوله
وإن لم يكن من وجد اللقيط أميناً منع من السفر به لئلا يدعي رقه، فعلى قوله
ينبغي أن يجب الإشهاد عليه ويضم إليه من يشرف عليه لأننا إذا
(6/380)
ضمنا إليه في اللقطة من يشرف عليه فههنا
أولى قال القاضي والمذهب أنه ينزع من يده، ويفارق اللقطة من ثلاثة أوجه
(أحدها) أن في اللقطة معنى الكسب وليس ههنا إلا الولاية (الثاني) أن اللقطة
لو انزعناها منه رددناها إليه بعد الحول فلذلك احتطنا عليها مع بقائها في
يده وههنا لا يرد إليه بعد الانتزاع منه بحال فكان الانتزاع أحفظ (والثالث)
أن المقصود ثم حفظ المال ويمكن الاحتياط عليه بأن يستظهر عليه في التعريف
أو ينصب الحاكم من يعرفها وههنا المقصود حفظ الحرية والنسب ولا سبيل إلى
الاستظهار عليه لأنه قد يدعي رقه في بعض البلدان أو في بعض الزمان ولأن
اللقطة إنما يحتاج إلى حفظها والاحتياط عليها عاماً واحداً وهذا يحتاج إلى
الاحتياط عليه في جميع زمانه وقد ذكرنا أن ظاهر قول الخرقي أنه لا ينزع منه
لأنه قد ثبتت له الولاية بالتقاطه إياه وسبقه إليه وأمكن حفظه في يديه
بالإشهاد عليه وضم أمين يشارفه إليه ويشيع أمره فيظهر أنه لقيط فينحفظ بذلك
من غير زوال ولايته جمعاً بين الحقين كاللقطة وكما لو كان الوصي خائناً،
قال شيخنا وما ذكره القاضي من الترجيح للقطة يمكن معارضته بأن اللقيط ظاهر
مكشوف لا تخفى الخيانة فيه بخلاف اللقطة فإنها خفية تتطرق إليها الخيانة
ولا يعلم بها ويمكن أخذ بعضها وتنقيصها وإبدالها بخلاف اللقيط، ولأن المال
محل الخيانة والنفوس إلى أخذه داعية بخلاف النفوس فعلى هذا متى أراد هذا
الملتقط السفر باللقيط منع منه لأنه يبعده ممن عرف حاله فلا يؤمن أن يدعي
رقه ويبيعه
(6/381)
(فصل) فإن كان الملتقط مستور الحال لم تعرف
منه حقيقة العدالة ولا خيانة أقر اللقيط في يديه لأن حكمه حكم العدل في
لقطة المال والولاية في النكاح والشهادة فيه وفي أكثر الأحكام لأن الأصل في
المسلم العدالة ولذلك قال عمر رضي الله عنه المسلمون عدول بعضهم على بعض
فإن أراد السفر
بلقيطه ففيه وجهان (أحدهما) لا يقر في يديه وهو مذهب الشافعي لأنه لم تتحقق
أمانته فلا تؤمن الخيانة منه فيه (والثاني) يقر في يديه لأنه يقر في يديه
في الحضر من غير مشرف يضم إليه فأشبه العدل ولأن الظاهر الستر والصيانة،
فأما من عرفت عدالته وظهرت أمانته فيقر اللقيط في يده حضراً وسفراً لأنه
مأمون إذا كان سفره لغير النقلة * (مسألة) * (فإن كان الملتقط رقيقاً لم
يقر في يده) وجملته أنه ليس للعبد التقاط الطفل المنبوذ إذا وجد من يلتقطه
سواه لأن منافعه مملوكة لسيده فلا يذهبها في غير نفعه إلا بإذنه ولأنه لا
يثبت على اللقيط إلا الولاية ولا ولاية لعبد فإن التقطه لم يقر في يده إلا
بإذن السيد فإن أذن له أقر في يده لأنه استعان به في ذلك فصار كما لو
التقطه سيده وسلمه إليه، قال ابن عقيل إذا أذن له السيد لم يكن له الرجوع
بعد ذلك وصار كما لو التقطه السيد والحكم في الأمة كالحكم في العبد، فأما
إن لم يجد أحداً يلتقطه سواه وجب التقاطه لأنه تخليص له
(6/382)
من الهلاك فهو كتخليصه من الغرق، والمدبر
وأم الولد والمعلق عتقه بصفة كالقن وكذلك المكاتب لأنه ليس له التبرع بماله
ولا بمنافعه إلا أن يأذن له سيده في ذلك * (مسألة) * (أو كافراً واللقيط
مسلم) ليس للكافر التقاط من حكم بإسلامه لأنه لا ولاية لكافر على مسلم
ولأنه لا يؤمن أن يعلمه الكفر بل الظاهر أنه يربيه على دينه وينشأ على ذلك
كولده فإن التقطه لم يقر في يده فإن كان الطفل محكوماً بكفره فله التقاطه
لأن الذين كفروا بعضهم أولياء بعض * (مسألة) * (أو بدوياً ينتقل في المواضع
ففيه وجهان) (أحدهما) أنه يقر في يده لأن الظاهر أنه ابن بدوبين وإقراره في
يد ملتقطه أرجى لكشف نسبه (والثاني) يؤخذ منه فيدفع إلى صاحب قرية لأنه
أرفه له وأخف عليه * (مسألة) * (وإن وجده في الحضر وأراد نقله إلى البادية
لم يقر في يده لوجهين) (أحدهما) أن مقامه في الحضر أصل له في دينه ودنياه
وأرفه له (والثاني) أنه إذا وجد في الحضر
فالظاهر أنه ولد فيه فبقاؤه فيه أرجى لكشف نسبه وظهور أهله واعترافهم به *
(مسألة) * (وإن التقطه في البادية مقيم في حلة أقر في يده لأنه ينقله من
أرض البؤس والشقاء إلى الرفاهية والدعة والدين
(6/383)
* (مسألة) * (وإن التقطه في الحضر من يريد
نقله الى بلد آخر للإقامة فيه لم يجز في أحد الوجهين) لأن بقاءه في بلده
أرجى لكشف نسبه فلم يقر في يده قياساً على المنتقل به إلى البادية
(والثاني) يقر في يده والبلد الثاني كالأول في الرفاهية فيقر في يده
كالمنتقل من أحد جانبي البلد إلى الجانب الآخر وفارق المنتقل به إلى
البادية لأنه يضر به بتفويت الرفاهية عليه * (مسألة) * (وإن التقطه اثنان
قدم الموسر على المعسر والحاضر على المسافر فإن استويا وتشاحا أقرع بينهما)
إذا التقطه اثنان وتناولاه تناولاً واحداً لم يخل من ثلاثة أقسام (أحدها)
أن يكون أحدهما ممن يقر في يده كالمسلم العدل الحر والآخر لا يقر في يديه
كالكافر إذا كان الملتقط التقطه وحده ولأن الشريك لو التقطه وحده لم يسلم
إليه فإذا شاركه من هو من أهل الالتقاط كان أولى باالتسليم إليه وإقراره في
يده (والثاني) أن يكونا جميعاً ممن لا يقر في يدي واحد منهما فإنه ينزع
منهما ويسلم إلى غيرهما (الثالث) أن يكون كل واحد منهما ممن يقر في يده لو
انفرد إلا أن أحدهما أحظ للقيط من الآخر بأن يكون أحدهما موسراً والآخر
معسراً فالموسر أحق لأن ذلك أحظ للطفل وكذلك إن كان أحدهما مقيماً والآخر
مسافراً لأنه أرفق بالطفل (فصل) وإن التقط مسلم وكافر طفلاً محكوماً بكفره
فالمسلم أحق وقال أصحابنا وأصحاب الشافعي
(6/384)
هما سواء لأن للكافر ولاية على الكافر ويقر
في يده إذا انفرد بالتقاطه فساوى المسلم في ذلك ولنا أن دفعه إلى المسلم
أحظ له لأنه يصير مسلماً فيسعد في الدنيا والآخرة وينجو من النار ويتخلص من
الجزية والصغار، فالترجيح بهذا أولى من الترجيح باليسار الذي إنما يتعلق به
توسعة عليه في الإنفاق وقد يكون الموسر بخيلاً فلا تحصل التوسعة فإن تعارض
الترجيحان فكان المسلم فقيراً
والكافر موسراً فالمسلم أولى لأن النفع الحاصل له بإسلامه أعظم من النفع
الحاصل له بيساره مع كفره وعندهم يقدم الكافر وعلى قياس قولهم في تقديم
الموسر ينبغي أن يقدم الجواد على البخيل لأن حظ الطفل عنده أكثر من الجهة
التي يحصل له الحظ فيها باليسار، فإن تساويا وتشاحا أقرع ببنهما وإذا
تساويا في الأوصاف التي تقتضي تقديم أحدهما على الآخر فرضي أحدهما بتسليمه
إلى صاحبه جاز لأن الحق له فلا يمنع من الإيثار به وإن تشاحا أقرع بينهما
لقوله تعالى (وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم) ولأنه لا
يمكن كونه عندهما في حالة واحدة وإن تهايآه يوماً ويوماً أو أكثر أضر
بالطفل لاختلاف الأغذية عليه والأنس والألف ولا يمكن دفعه إلى أحدهما من
غير قرعة لأن حقهما متساو فتقديم أحدهما بغير قرعة تحكم لا يجوز فتعين
الإقراع بينهما كما يقرع بين الشركاء في تعيين السهام في القسمة وبين
النساء في البداية بالقسمة وبين العبيد في الإعتاق والرجل والمرأة سواء ولا
(6/385)
ترجح المرأة ههنا كما ترجح في حضانة ولدها
على أبيه لأنها رجحت ثم لشفقتها على ولدها وتوليها لحضانته بنفسها والأب
يحضنه بأجنبية فكانت أمه أحظ له وأرفق به أما ههنا فهي أجنبية من اللقيط
والرجل يحضنه بأجنبية فاستوتا، ومذهب الشافعي على ما ذكرنا فإن كان أحدهما
مستور الحال والآخر ظاهر العدالة احتمل ترجيح ظاهر العدالة لأن المانع من
الالتقاط منتف في حقه بغير شك والآخر مشكوك فيه فيكون الحظ للطفل في تسليمه
إليه أتم ويحتمل أن يتساويا لأن احتمال وجود المانع لا يؤثر في المنع فلا
يؤثر في الترجيح (فصل) فإن رأياه جميعاً فسبق إليه أحدهما فأخذه أو وضع يده
عليه فهو أحق به لقوله عليه السلام " من سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم فهو
أحق به " فإن رآه أحدهما قبل صاحبه فسبق إلى أخذه الآخر فالسابق إلى أخذه
أحق لأن الالتقاط هو الأخذ دون الرؤية فإن قال أحدهما لصاحبه ناولنيه فأخذه
الآخر نظرنا إلى نيته فإن نوى أخذه لنفسه فهو أحق به كما لو لم يأمره الآخر
بمناولته إياه وإن نوى مناولته فهو للآخر لأنه فعل ذلك بنية النيابة عنه
فأشبه ما لو توكل له في تحصيل مباح * (مسألة) * (فإن اختلفا في الملتقط
منهما قدم من له بينة)
لأنها أقوى فإن كان لكل واحد منهما بينة قدم أسبقهما تاريخاً لأن الثاني
إنما أخذ ما قد ثبت الحق فيه لغيره فإن استوى تاريخهما أو اطلقتا أو أرخت
إحداهما وأطلقت الأخرى تعارضتا وهل
(6/386)
يسقطان أو يستعملان؟ فيه وجهان (أحدهما)
يسقطان فيصيران كمن لا بينة لهما (والثاني) يستعملان ويقرع بينهما فمن قرع
صاحبه فهو أولى، ونذكر ذلك في بابه إن شاء الله تعالى فإن كان اللقيط في يد
أحدهما فهل تقدم بينته أو تقدم بينة الخارج فيه وجهان مبنيان على الروايتين
في دعوى المال * (مسألة) * (فإن لم يكن لهما بينة قدم صاحب اليد فيكون
القول قوله مع يمينه أنه التقطه) ذكره أبو الخطاب وهو قول الشافعي وقال
القاضي قياس المذهب أنه لا يحلف كما في الطلاق والنكاح ولنا قول النبي صلى
الله عليه وسلم " لو يعطى الناس بدعواهم لادعى قوم دماء قوم وأموالهم ولكن
اليمين على المدعى عليه " رواه مسلم * (مسألة) * (فإن كان في أيديهما أقرع
بينهما فيسلم إلى من تقع له القرعة مع يمينه) وعلى قول القاضي لا يشرع
اليمين ههنا ويسلم إليه بمجرد وقوع القرعة له * (مسألة) * (فإن لم يكن لهما
يد فوصفه أحدهما قدم) نحو أن يقول في ظهره شامة أو بجسده علامة فيقدم بذلك
ذكره أبو الخطاب وهو قول أبي حنيفة وقال الشافعي لا يقدم بالصفة كما لو وصف
المدعي المدعى فإن دعواه لا تقدم بذلك ولنا أن هـ؟ انوع من اللقطة فقدم
بوصفها كلقطة المال ولأن ذلك يدل على قوة يده فكان
(6/387)
مقدماً بها، وقياس اللقيط على اللقطة أولى
من قياسه على غيرها لأن اللقيط لقطة، وإن لم يصفه أحدهما فقال القاضي وابو
الخطاب يسلمه الحاكم إلى من يرى منهما أو من غيرهما لأنه لا حق لهما قال
شيخنا والأولى أن يقرع بينهما كما لو كان في أيديهما لأنهما تنازعا حقاً في
يد غيرهما أشبه ما لو تنازعا وديعة عند غيرهما * (فصل) * قال رحمه الله
(وميراث اللقيط وديته إن قتل لبيت المال إن لم يخلف وارثاً، ولا ولاء عليه)
وإنما يرثه المسلمون لأنهم خولوا كل مال لا مالك له ولأنهم يرثون مال من لا
وارث له غير اللقيط
فكذلك اللقيط وهو قول مالك والشافعي وأكثر أهل العلم، وقال شريح واسحاق
عليه الولاء لملتقطه لقول عمر رضي الله عنه لأبي جميلة في لقيطه هو حر ولك
ولاؤه ولما روى واثلة بن الاسقع قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "
المرأة تحوز ثلاث مواريث عتيقها ولقيطها وولدها الذي لاعنت عليه " أخرجه
أبو داود والترمذي وقال حديث حسن ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " إنما
الولاء لمن أعتق " ولأنه لم يثبت عليه رق ولا على آبائه فلم يثبت عليه ولاء
كمعروف النسب ولأنه لا ولاء عليه ان كان ابن حرين، وإن كان ابن معتقين فلا
يكون عليه ولاء لغير معتقهما وحديث واثلة لا يثبت قاله ابن المنذر وقال في
خبر عمر أبو جميلة رجل مجهول لا تقوم بحديثه حجة، ويحتمل أن يكون عمر رضي
الله عنه عنى بقوله لك ولاؤه ولاية القيام به وحفظه ولذلك ذكره عقيب قول
عريفه إنه رجل صالح وهذا يقتضي تفويض الولاية إليه لكونه مأموناً عليه دون
الميراث
(6/388)
إذا ثبت هذا فحكم اللقيط في الميراث حكم من
عرف نسبه وانقرض أهله يدفع الى بيت المال إذا لم يكن له وارث فإن كانت له
زوجة فلها الربع والباقي لبيت المال كمن عرف نسبه والله أعلم فإن قتل خطأ
فالدية لبيت المال لأن حكمها حكم الميراث وهو لبيت المال كذلك الدية *
(مسألة) * (وإن قتل عمداً فوليه الإمام إن شاء اقتص وإن شاء أخذ الدية) أي
ذلك فعل جاز إذا رآه أصلح وبه قال أبو حنيفة والشافعي وابن المنذر إلا أن
أبا حنيفة يخيره بين القصاص والمصالحة لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم "
فالسلطان ولي من لا ولي له " ومتى عفا على مال أو صالح عليه كان لبيت المال
كجناية الخطأ الموجبة للمال.
* (مسألة) * (وان قطع طرفه عمداً انتظر بلوغه إلا أن يكون فقيراً مجنوناً
فللإمام العفو على مال ينفقه عليه) إذا جنى على اللقيط جناية فيما دون
النفس توجب المال قبل بلوغه فلوليه أخذ الأرش وإن كانت موجبة للقصاص وله
مال يكفيه وقف الأمر على بلوغه ليقتص أو يعفو سواء كان عاقلاً أو معتوهاً
وكذلك إن لم يكن له مال وكان عاقلاً وإن كان معتوهاً فللإمام العفو على مال
ينفق عليه لأن المعتوه
ليست له حال معلومة تنتظر لأن ذلك قد يدوم به بخلاف العاقل فإن له حالة
تنتظر ويحبس الجاني في الحال التي ينتظر بلوغه حتى يبلغ ويستوفي لنفسه وهذا
مذهب الشافعي وقد روي عن أحمد أن
(6/389)
للإمام استيفاء القصاص له قبل بلوغه وهو
مذهب أبي حنيفة لأنه أحد نوعي القصاص فكان للإمام استيفاؤه عن اللقيط
كالنفس ولنا أنه قصاص لم يتحتم استيفاؤه فوقف على من هو له كما لو كان
بالغاً غائباً، وفارق القصاص في النفس لأن القصاص ليس هو له بل هو لوارثه
والإمام المتولي له (فصل) إذا جنى اللقيط جناية تحملها العاقلة فهي على بيت
المال لأن ميراثه له ونفقته عليه وان جنى جناية لا تحملها العاقلة فحكمه
فيها حكم غير اللقيط إن كانت توجب القصاص وهو بالغ عاقل اقتص منه وإن كانت
موجبة للمال وله مال استوفي منه وإلا كان في ذمته حتى يوسر وإن قذف اللقيط
بعد بلوغه محصناً حد ثمانين لأنه حر * (مسألة) * وإن ادعى الجاني عليه أو
قاذفه رقه وكذبه اللقيط بعد بلوغه فالقول قول اللقيط) إذا قذف اللقيط قاذف
وهو محصن فعليه الحد فإن ادعى القاذف رقه فصدقه اللقيط سقط الحد لإقرار
المستحق بسقوطه وإن ادعى أنه عبد فصدقه وجب على القاذف التعزير لقذفه من
ليس بمحصن وإن كذبه اللقيط فالقول قوله لأنه محكوم بحريته فقوله موافق
للظاهر ولذلك أوجبنا عليه حد الحر إذا كان قاذفاً، وإن ادعى الجاني رقه
وكذبه اللقيط وادعى الحرية أوجبنا له القصاص وإن كان الجاني
(6/390)
حراً لما ذكرنا، قال شيخنا ويحتمل أن يكون
القول قول القاذف لأنه يحتمل صحة قوله بأن يكون ابن أمة فيكون ذلك شبهة
والحد يندرئ بالشبهات، وفارق القصاص له إذا ادعى الجاني عليه أنه عبد
لأن القصاص ليس بحد وإنما وجب حقاً لآدمي ولذلك جازت المصالحة عنه وأخذ
بدله بخلاف حد القذف وإن قلنا أن القذف حق لآدمي فهو كالقصاص ويخرج من
هذا أن اللقيط إذا كان قاذفاً فادعى أنه عبد ليجب عليه حد العبد قبل
منه لذلك والأول أصح لأن من كان محكوماً بحريته لا يسقط الحد عن قاذفه
باحتمال رقه بدليل مجهول النسب ولو سقط لهذا الاحتمال لسقط وإن لم يدع
القاذف رقه
لأنه موجود وإن لم يدعه.
* (مسألة) * (وإذا ادعى إنسان أنه مملوكه لم يقبل إلا ببينة تشهد أن
أمته ولدته في ملكه ويحتمل أن لا يعتبر قولها في ملكه) وجملة ذلك أنه
إذا ادعى رق اللقيط مدع سمعت دعواه لأنها ممكنة وإن كانت مخالفة لظاهر
الدار فإن لم يكن له بينة فلا شئ له لأنها دعوى تخالف الظاهر، وتفارق
دعوى النسب من وجهين (أحدهما) إن دعوى النسب لا تخالف الظاهر ودعوى
الرق تخالفه (والثاني) أن دعوى النسب يثبت بها حقاً للقيط ودعوى الرق
يثبت بها حقاً عليه فلم تقبل بمجردها كما لو ادعى رق غير اللقيط فإن لم
يكن له بينة سقطت الدعوى وإن كانت له بينة فشسهدت بالملك أو باليد لم
يقبل فيه إلا شهادة رجلين أو رجل
(6/391)
وامرأتين وإن شهدت بالولادة قبل فيه رجل
واحد وامرأة واحدة لأنه مما لا يطلع عليه الرجال ومتى شهدت البينة
باليد فإن كانت للملتقط لم يثبت بها ملك لأننا عرفنا سبب يده وإن كانت
لأجنبي حكم له باليد والقول قوله مع يمينه في الملك، وإن شهدت بالملك
فقالت نشهد أنه عبده أو مملوكه حكم بها وإن لم تذكر سبب الملك كما لو
شهدت بملك دار أو ثوب فإن شهدت بأن أمته ولدته في ملكه حكم له به لأن
أمته لا تلد في ملكه إلا ملكه وإن شهد أنه ابن أمته أو أن أمته ولدته
ولم يقل في ملكه احتمل أن يثبت له الملك بذلك كقولها في ملكه لأن أمته
ملكه فنماؤها ملكه كسمنها واحتمل أن لا يثبت به الملك لأنه يجوز أن
تلده قبل ملكه إياها فلا يكون له وهو ابن أمته (فصل) فإن كانت الدعوى
بعد بلوغ اللقيط كلف إجابته فإن أنكر ولا بينة للمدعي لم تقبل دعواه
وإن كانت له بينة حكم بها فإن كان اللقيط قد تصرف قبل ذلك ببيع أو شراء
نقضت تصرفاته لأن تصرفه كان بغير إذن مالكه.
* (مسألة) * (وإن أقر بالرق بعد بلوغه لم يقبل وعنه يقبل وقال القاضي
يقبل فيما عليه رواية واحدة وهل يقبل في غيره؟ على روايتين) إذا ادعى
إنسان رق اللقيط بعد بلوغه فصدقه وكان قد اعترف بالحرية لنفسه قبل ذلك
لم يقبل
إقراره بالرق لأنه اعترف بالحرية وهي حق لله تعالى فلا يقبل رجوعه في
إبطالها، وإن لم يكن اعترف
(6/392)
بالحرية احتمل وجهين (أحدهما) يقبل وهو قول
أصحاب الرأي لأنه مجهول الحال أقر بالرق فقبل كما لو قدم رجلان من دار
الحرب فأقر أحدهما للآخر بالرق وكإقراره بالحد والقصاص في نفسه فإنه
يقبل وإن تضمن فوات نفسه ويحتمل أن لا يقبل قال شيخنا وهو الصحيح لأنه
يبطل به حق الله تعالى في الحرية المحكوم بها فلم يصح كما لو أقر
بالحرية قبل ذلك ولأن الطفل المنبوذ لا يعلم رق نفسه ولا حريتها ولم
يتجدد له حال يعرف به رق نفسه لأنه في تلك الحال ممن لا يعقل ولم يتجدد
له رق بعد التقاطه فكان إقراره باطلاً وهذا قول ابن القاسم وابن المنذر
وللشافعي وجهان كما ذكرنا فإن قلنا يقبل إقراره صارت أحكامه أحكام
العبيد فيما عليه خاصة وهذا الذي قاله القاضي، وبه قال أبو حنيفة
والمزني وهو أحد قولي الشافعي لأنه أقر بما يوجب حقاً عليه وحقاً له
فوجب أن يثبت ما عليه دون ما له كما لو قال لفلان علي ألف ولي عنده رهن
وفيه وجه آخر أنه يقبل إقراره في الجميع وهو القول الثاني للشافعي لأنه
يثبت ما عليه فيثبت ماله كالبينة ولأن هذه الأحكام تبع للرق فإذا ثبت
الأصل بقوله ثبت التبع كما لو شهدت امرأة بالولادة ثبتت وثبت النسب
تبعاً لها (فصل) فأما إن أقر بالرق ابتداء الانسان فصدقه فهو كما لو
أقر به جواباً وإن كذبه بطل إقراره فإن أقر به بعد ذلك لرجل آخر جاز،
وقال بعض أصحابنا يتوجه أن لا يسمع إقراره الثاني لأن إقراره الأول
يتضمن الاعتراف بنفي مالك له سوى المقر له فإذا بطل إقراره برد المقر
له بقي الاعتراف بنفي مالك له غيره فلم يقبل إقراره بما نفاه كما لو
أقر بالحرية ثم أقر بعد ذلك بالرق
(6/393)
ولنا أنه إقرار لم يقبله المقر له فلم يمنع
إقراره ثانياً كما لو اقر له بثوب ثم أقر به لآخر بعد رد الأول وفارق
الإقرار بالحرية فإن الإقرار بها لم يبطل ولم يرد (فصل) فإذا قبلنا
إقراره بالرق بعد نكاحه وهو ذكر وكان قبل الدخول فسد النكاح في حقه
لأنه عبد تزوج بغير إذن مواليه ولها عليه نصف المهر لأنه حق عليه فلم
يسقط بقوله وإن كان بعد الدخول فسد نكاحه
وليه المهر كله لما ذكرنا لأن الزوج يملك الطلاق فإذا أقر به قبل وولده
حر تابع لأمه وإن كان متزوجاً بأمة فولده لسيدها ويتعلق المهر برقبته
لأن ذلك من جناياته يفديه سيده أو يسلمه وإن كان في يده كسب استوفي
المهر منه لأنه لم يثبت إقراره به لسيده بالنسبة إلى امرأته ولا ينقطع
حقها منه بإقراره، وإن قلنا يقبل قوله في جميع الأحكام فالنكاح فاسد
لكونه تزوج بغير إذن سيده ويفرق بينهما ولا مهر لها عليه إن لم يكن دخل
بها، وإن كان دخل بها فلها عليه المهر المسمى في إحدى الروايتين
والأخرى خمساه (فصل) وإن كان اللقيط أنثى وقلنا يقبل فيما عليه خاصة
فالنكاح صحيح في حقه فإن كان قبل الدخول فلا مهر لها لإقرارها بفساد
نكاحها أو أنها أمة تزوجت بغير إذن سيدها والنكاح الفاسد لا يجب المهر
فيه إلا بالدخول وإن كان دخل بها لم يسقط مهرها ولسيدها الأقل من
المسمى أو مهر المثل لأن المسمى إن كان أقل فالزوج ينكر وجوب الزيادة
عليه وقولها غير مقبول في حقه وإن كان الأقل مهر المثل فهي وسيدها
يقران بفساد النكاح وإن الواجب مهر المثل فلا يجب أكثر منه إلا
(6/394)
على الرواية التي يجب فيها المسمى في
النكاح الفاسد فيجب ههنا قل أو كثر لإقرار الزوج بوجوبه، وأما الأولاد
فأحرار لا تحب قيمتهم لأنها لو وجبت لوجبت بقولها ولا يجب بقولها حق
على غيرها ولا يثبت الرق في حق أولادها بقولها فأما إبقاء النكاح فيقال
للزوج قد ثبت أنها أمة ولدها رقيق لسيدها فإن اخترت المقام على ذلك
فأقم وإن شئت ففارقها وسواء كان ممن يجوز له نكاح الإماء أو لم يكن
لأننا لو اعتبرنا ذلك وأفسدنا نكاحه لكان إفساداً للعقد جميعه بقولها
لأن شروط نكاح الأمة لا تعتبر في استدامة العقد إنما تعتبر في ابتدائه
فإن قيل فقد قبلتم قولها في أنها أمة في المستقبل وفيه ضرر على الزوج
قلنا لم يقبل قولها في إيجاب حق لم يدخل في العقد عليه فأما الحكم في
المستقبل فيمكن إبقاء حقه وحق من ثبت له الرق عليها بأن يطلقها فلا
يلزمه ما لم يدخل عليه أو يقيم على نكاحها فلا يسقط حق سيدها فإن طلقها
اعتدت عدة الحرة لأن عدة الطلاق حق للزوج بدليل أنها لا تجب إلا
بالدخول وسببها النكاح السابق فلا يقبل قولها في تنقيصها وإن مات اعتدت
عدة الأمة لأن المغلب فيها حق الله تعالى بدليل وجوبها قبل الدخول فقبل
قولها فيها وإن قلنا بقبول قولها في جميع
الاحكام فهي أمة تزوجت بغير إذن سيدها فنكاحها فاسد ويفرق بينهما ولا
مهر لها إن كان قبل الدخول وإن كان دخل بها وجب لها مهر أمة تزوجت بغير
إذن سيدها على ما ذكر في موضعه، وهل يجب مهر المثل أو المسمى؟ فيه
روايتان، وتعتد حيضتين لأنه وطئ في نكاح فاسد وأولاده أحرار
(6/395)
لاعتقاده حريتها فهو مغرور عليه قيمتهم يوم
الوضع وإن مات فليس عليها عدة الوفاة.
(فصل) فإن كان قد تصرف ببيع أو شراء فتصرفه صحيح وما عليه من الحقوق
والأثمان يؤدى مما في يده وما بقي ففي ذمته لأن معامله لا يقر برقه وان
قلنا بقبوله إقراره في جميع الاحكام فسدت عقوده كلها ووجب رد الأعيان
إلى أربابها إن كانت باقية وإن كانت تالفة وجبت قيمتها في رقبته أو في
ذمته على ما ذكرنا في استدانة العبد لأنه ثبت برضى صاحبه (فصل) فإن كان
قد جنى جناية موجبة للقصاص فعليه القود حراً كان المجني عليه أو عبداً
لأن إقراره بالرق يقتضي وجوب القود عليه فيما إذا كان المجني عليه
عبداً أو حراً فقبل إقراره فيه وإن كانت الجناية خطأ تعلق أرشها برقبته
لان ذك مضر به فإن كان أرشها أكثر من قيمته وكان في يده مال استوفي
منه، وإن كان مما تحمله العاقلة لم يقبل قوله في إسقاط الزيادة لان ذك
يضر بالمجني عليه فلا يقبل قوله فيه وقيل تجب الزيادة في بيت المال لأن
ذلك كان واجباً للمجني عليه فلا يقبل قوله في إسقاطه وإن جنى عليه
جناية موجبة للقود وكان الجاني حراً سقط لأن الحر لا يقاد بالعبد وقد
أقر المجني عليه بما يسقط القصاص وإن كانت موجبة للمال تقل بالرق وجب
أقل الأمرين وإن كان مساوياً للواجب قبل الإقرار وجب ويدفع الواجب إلى
سيده وإن كان الواجب يكثر لكونه قيمته عبداً أكثر من ديته حراً لم يجب
إلا أرش الجناية على الحر وإن قلنا يقبل قوله في جميع الأحكام وجب
(6/396)
أرش الجناية على العبد وإن كان الأرش تحمله
العاقلة إذا كان حراً سقط عن العاقلة ولم يجب على الجاني لأن إقراره
بالرق يتضمن إقراره بالسقوط عن العاقلة ولم يقبل إقراره على الجاني
فسقط، وقيل لا يتحول عن العاقلة وعلى قول من قال: يقبل إقراره في
الأحكام كلها يوجب الأرش على الجاني والله أعلم
* (مسألة) * (وإن قال إني كافر لم يقبل قوله وحكمه حكم المرتد، وقيل
يقبل إلا أن يكون قد نطق بالإسلام وهو لا يعقله) وجملة ذلك إنا في
الموضع الذي حكمنا بإسلام اللقيط إنما ذلك ظاهراً لا يقيناً لاحتمال أن
يكون ولد كافرين ولهذا لو أقام كافر بينة انه ولده ولد على فراشه حكمنا
له به وسنذكر ذلك، ومتى بلغ اللقيط حداً يصح فيه إسلامه وردته فوصف
الإسلام فهو مسلم سواء كان ممن حكم بإسلامه أو كفره ولا يقبل إقراره
بالكفر بعد ذلك لأنه إنكار بعد إقراره فلا يقبل كغيره وإن وصف الكفر
وهو ممن حكم بإسلامه بالدار فهو مرتد لا يقر على كفره، وبهذا قال أبو
حنيفة، وذكر القاضي وجهاً أنه يقر على كفره، وهو منصوص الشافعي لأن
قوله أقوى من ظاهر الدار وهذا وجه بعيد لأن دليل الإسلام وجد عرياً عن
المعارض فثبت حكمه واستقر فلا تجوز إزالة حكمه كما لو كان ابن مسلم
ولأن قوله لا دلالة فيه أصلاً لأنه لا يعرف في الحال من كان أبوه ولا
ما كان دينه؟ وإنما يقول هذا من تلقاء نفسه فعلى هذا إذا بلغ استتيب
ثلاثاً فإن تاب وإلا قتل فأما على قولهم فقال القاضي إن وصف
(6/397)
كفراً يقر عليه بالجزية عقدت له الذمة، فإن
امتنع من التزامها ووصف كفراً لا يقر أهله ألحق بمأمنه، قال شيخنا وهذا
بعيد جداً فإن هذا اللقيط لا يخلو إما أن يكون ابن حربي فهو حاصل في
أيدي المسلمين بغير عهد ولا عقد فيكون لواجده ويصير مسلما باسلام
سابيه، أو يكون ابن ذميين أو أحدهما ذمي فلا يقر على الانتقال إلى غير
دين أهل الكتاب، أو يكون ابن مسلم أو مسلمين فيكون مسلماً، وقد قال
أحمد في أمة نصرانية ولدت من فجور، ولدها مسلم لأن أبويه يهودانه
وينصرانه وهذا ليس معه إلا أمه، وإذا لم يكن لهذا الولد حال يحتمل أن
يقر فيها على دين لا يقر أهله عليه فكيف يرد إليه دار الحرب؟ * (فصل) *
قال الشيخ رحمه الله (وإن أقر إنسان أنه ولده الحق به مسلما كان أو
كافراً رجلاً أو امرأة حياً كان اللقيط أو ميتاً) وجملة ذلك أنه إذا
ادعى مدع نسب اللقيط لم يخل من قسمين (أحدهما) أن يدعيه واحد ينفرد
بدعوته فإن كان المدعى حراً مسلماً لحقه نسبه إذا أمكن أن يكون منه
بغير خلاف بين أهل العلم، لأن الإقرار محض يقع للطفل لإيصال نسبه ولا
ضرر على غيره فيه فقبل كما لو أقر له بمال فإن كان المقر به ملتقطه أقر
في يده، وإن كان غيره فله أن ينزعه من الملتقط لأنه قد ثبت أنه أبوه
فيكون أحق به كما لو قامت به بينة.
(6/398)
(فصل) فإن كان المدعي عبداً ألحق به لأن
لمائه حرمة فلحق به نسبه كالحر وهذا قول الشافعي وغيره غير أنه لا تثبت
له حضانة لأنه مشغول بخدمة سيده ولا تجب عليه نفقته لأنه لا مال له ولا
تجب على سيده لأن الطفل محكوم بحريته فعلى هذا تكون نفقته في بيت المال
(فصل) فإن كان المدعي ذمياً لحق به لأنه أقوى من العبد في ثبوت الفراش
فان يثبت له النكاح والوطئ في الملك وقال أبو ثور لا يلحق به لأنه
محكوم بإسلامه ولنا أنه أقر بنسب مجهول النسب يمكن أن يكون منه وليس في
إقراره إضرار لغيره فيثبت إقراره كالمسلم.
* (مسألة) * ولا يتبع الكافر في دينه إلا أن يقيم بينة أنه ولد على
فراشه) وجملة ذلك أنه يتبع الكافر في النسب لا في الدين ولا حق له في
حضانته ولا يسلم إليه لأنه لا ولاية للكافر على المسلم وقال الشافعي في
أحد قوليه يتبعه في دينه لأن كل ما لحق به بنسبه لحقه به في دينه
كالبينة إلا أنه يحال بينه وبينه ولنا أن هذا محكوم بإسلامه فلا يقبل
قول الذمي في كفره كما لو كان معروف النسب ولأنها دعوى تخالف الظاهر
فلم تقبل بمجردها كدعوى رقه، ولأنه لو تبعه في دينه لم يقبل إقراره
بنسبه لأنه يكون إضراراً به فلا يقبل كدعوى الرق، أما مجرد النسب بدون
إتباعه في الدين فمصلحة عارية
(6/399)
عن الضرر فقبل قوله فيه ولا يجوز قبوله
فيما هو أعظم الضرر والخزي في الدنيا والآخرة، فإن أقام بينة أنه ولد
على فراشه لحق به نسباً وديناً كذلك ذكره ههنا وهو قول بعض أصحابنا
لأنه ثبت أنه
ابنه ببينة، وقياس المذهب أنه لا يلحقه في الدين إلا أن تشهد البينة
أنه ولد كافرين حيين لأن الطفل يحكم بإسلامه بإسلام أحد أبويه أو موته
(فصل) فإن كان المدعي امراة فروي عن أحمد أن دعوتها تقبل ويلحقها نسبه
لأنها أحد الابوبن أشبهت الأب، ولأنه يمكن كونه منها كما يمكن أن يكون
من الرجل بل أكثر لأنها تأتي به من زوج ووطئ شبهة ويلحقها ولدها من
الزنا دون الرجل، وقد روي في قصة داود وسليمان عليهما السلام حين تحاكم
إليهما امرأتان كان لهما ابنان فذهب الذئب بأحدهما فادعت كل واحدة
منهما أن الباقي ابنها فحكم به داود للكبرى وحكم به سليمان للصغرى
بمجرد الدعوى منهما، وهذا قول بعض أصحاب الشافعي، فعلى هذه الرواية
يلحق بها دون زوجها لأنه لا يجوز أن يلحقه نسب ولد لم يقر به، ولذلك
إذا ادعى الرجل نسبه لم يلحق بزوجته، فإن قيل الرجل يمكن أن يكون له
ولد من امرأة أخرى ومن أمته والمرأة لا يحل لها نكاح غير زوجها ولا يحل
لغيره وطؤها قلنا يمكن أن تلد من وطئ شبهة أو غيره، وإن كان الولد
يحتمل أن يكون موجوداً قبل تزوجها بهذا الزوج أمكن أن يكون من زوج آخر،
فإن قيل إنما قبل الإقرار بالنسب من الزوج لما فيه من المصلحة ودفع
العار عن الصبي وصيانته عن النسبة
(6/400)
إلى كونه ولد زنا ولا يحصل هذا بإلحاق نسبه
بالمرأة بل في إلحاق نسبه بها دون زوجها يطرق العار إليه وإليها قلنا
بل قبلنا دعواه لأنه يدعي حقاً لا منازع له فيه ولا مضرة فيه على أحد
فقبل قوله فيه كدعوى المال وهذا متحقق في دعوى المرأة، وروى عن أحمد
أنها إن كانت ذات زوج لم يثبت النسب بدعوتها لإفضائه إلى إلحاق النسب
بزوجها بغير إقراره ولا رضائه أو إلى أن امرأته وطئت بزنا أو شبهة وفي
ذلك ضرر عليه فلا يقبل قولها فيما يلحق الضرر به وإن لم يكن لها زوج
قبلت دعوتها لعدم الضرر، وهذا قول بعض أصحاب الشافعي أيضاً، وروى عن
أحمد رواية ثالثة نقلها الكوسنج عن أحمد في امرأة ادعت ولداً إن كان
لها إخوة أو نسب معروف فلا تصدق إلا ببينة وإن لم يكن لها دافع لم يخل
بينهما وبينه لأنه إذا كان لها أهل وناس معروف لم تخف ولادتها عليهم
ويتضررون بإلحاق النسب بها لما فيه من تعييرهم بولادتها من غير زوجها
وليس كذلك إذا لم يكن لها أهل قال شيخنا
ويحتمل أن لا يثبت النسب بدعوتها بحال وهذا قول الثوري والشافعي وأبي
ثور وأصحاب الرأي قال إبن المنذر أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على
أن النسب لا يثبت بدعوة المرأة لأنها يمكنها إقامة البينة على الولادة
فلا يقبل قولها بمجرده كما لو علق زوجها طلاقها بولادتها ولنا أنها أحد
الوالدين أشبهت الأب وإمكان البينة لا يمنع قبول القول كالرجل فان
يمكنه إقامة
(6/401)
البينة ان هذا ولد على فراشه وإن كان
المدعي أمة أي كالحرة إلا أنا إذا قبلنا دعوتها في نسبه لم نقبل قولها
في رقه لأننا لا نقبل الدعوى فيما يضره كما لم نقبل الدعوى في كفره إذا
ادعى نسبه كافر * (مسألة) * (فإن ادعان اثنان أو أكثر لأحدهما بينة قدم
بها فإن استووا في بينة أو عدمها عرض معهما على القافة أو مع أقاربهما
إن ماتا) الكلام في ذلك في فصول (أحدها) أنه إذا ادعاه مسلم وكافر وحر
وعبد فهما سواء وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة المسلم أولى من الذمي
والحر أولى من العبد لأن على اللقيط ضرراً في إلحاقه بالعبد والذمي
فيكون إلحاقه بالحر المسلم أولى كما لو تنازعوا في الحضانة ولنا أن كل
واحد لو انفرد صحت دعوته فإذا تنازعوا تساووا في الدعوى كالأحرار
المسلمين وما ذكروه من الضرر لا يتحقق فإننا لا نحكم برقه ولا كفره ولا
يشبه النسب الحضانة بدليل أننا نقدم في الحضانة الموسر والحضري ولا
نقدمهما في دعوى النسب ولأن الحضانة انما يراعي فيهما حق الطفل حسب
وههنا ينبغي أن يراعى حق المدعي أيضاً قال إبن المنذر إذا كان عند
امرأته أمة في أيديهما صبي فادعى رجل من العرب امرأته عربية أنه ابنه
من امرأته وأقام العبد بينة بدعواه فهو ابنه في قول أبي ثور وغيره وقال
أصحاب الرأي يقضى به للعربي للعتق الذي يدخل فيه وكذلك إن كان المدعي
من الموالي عندهم قال شيخنا وهذا غير صحيح لأن العرب وغيرهم في أحكام
الله تعالى ولحوق النسب بهم سواء.
(6/402)
(الفصل الثاني) أنه إذا ادعاه اثنان أو
أكثر وكان لأحدهما بينة فهو ابنه وإن أقام كل واحد
منهم بينة تعارضت وسقطت لأنه لا يمكن استعمالها ههنا لأن استعمالها في
المال إما بقسمته بين المتنازعين ولا يمكن ههنا أو بالقرعة لا يثبت بها
النسب فإن قيل إنما يثبت ههنا بالبينة لا بالقرعة وإنما القرعة مرجحة
قلنا فيلزم أنه إذا اشترك رجلان في وطئ امرأة وأتت بولد أن يقرع بينهما
ويكون لحوقه بالوطئ لا بالقرعة (الفصل الثالث) أنه إذا لم تكن بينة أو
تعارضت بينتان وسقطتا أري القافة معهما أو مع عصبتهما عند فقدهما
فنلحقه بمن ألحقته به منهما هذا قول أنس وعطاء والاوزاعي والليث
والشافعي وأبي وقال أصحاب الرأي لا حكم للقافة ويلحق بالمدعيين جميعاً
لأن الحكم بالقيافة مبني على الشبه والظن والتخمين فان اشبه يوجد بين
الأجانب وينتفي بين الأقارب ولهذا روي عن النبي صلى الله عليه وسلم إن
رجلاً أتاه فقال يا رسول الله إن امرأتي ولدت غلاماً أسود فقال " هل لك
من ابل؟ قال نعم - قال - فما الوانها؟ قال حمر - قال فيها من أورق؟ قال
- نعم - قال أين أتاها ذلك؟ قال لعل عرقاً نزع قال - وهذا لعل عرقاً
نزع " متفق عليه قالوا ولو كان الشبه كافياً لاكتفي به في ولد الملاعنة
وفيها إذا أقر أحد الورثة بأخ فأنكره الباقون.
ولنا ما روى عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
دخل عليها مسروراً تبرق
(6/403)
أسارير وجهه فقال " ألم تري أن محرزاً نظر
آنفاً إلى زيد وأسامة وقد غطيا رؤوسهما وبدت أقدامهما فقال إن هذه
الأقدام بعضها من بعض؟ " متفق عليه فلولا جواز الاعتماد على القيافة
لما سر به النبي صلى الله عليه وسلم ولا اعتمد عليه ولأن عمر رضي الله
عنه قضى به بحضرة الصحابة فلم ينكره منكر فكان إجماعاً ويدل على ذلك
قول النبي صلى الله عليه وسلم في ولد الملاعنة " انظروها فإن جاءت به
حمش الساقين كأنه وحرة فلا أراه إلا قد كذب عليها وإن جاءت به جعداً
جمالياً سابغ الإليتين خدلج الساقين فهو الذي رميت به " فأتت به على
النعت المكروه فقال النبي صلى الله عليه وسلم " لولا الأيمان لكان لي
ولها شأن " فحكم به النبي صلى الله عليه وسلم الذي أشبهه منهما وقوله "
لولا الأيمان لكان لي ولها شأن يدل على أنه لم يمنعه من العمل بالشبه
إلا الإيمان فإذا انتفى المانع يجب العمل به لوجود مقتضيه وكذلك قول
النبي صلى الله عليه وسلم في ابن أمة زمعة حين رأى به شبهاً بيناً
بعتبة بن أبي وقاص احتجبي منه يا سودة فعمل بالشبه في حجب سودة فإن قيل
فالحديثان حجة عليكم إذ لم يحكم النبي صلى الله عليه وسلم بالشبه فيهما
بل ألحق الولد بزمعة وقال لعبد بن زمعة " هو لك يا عبد بن زمعة الولد
للفراش وللعاهر الحجر " ولم يعمل بشبه ولد الملاعنة في اقامة الحد
عليها لشبهه بالمقذوف قلنا إنما لم يعمل به في ابن أمة زمعة لأن الفراش
أقوى وترك العمل بالبينة لمعارضة ما هو أقوى منها لا يوجب الإعراض
(6/404)
عنها إذا خلت عن المعارض ولذلك ترك إقامة
الحد عليها من أجل إيمانها بدليل قوله " لولا الأيمان لكان لي ولها شأن
" على أن ضعف الشبه عن إقامة الحد لا يوجب ضعفه عن إلحاق النسب، فإن
الحد في الزنا لا يثبت إلا بأقوى البينات وأكثرها عدداً وأقوى الاقرار
حتى يعبر فيه تكراره أربع مرات وتدرأ بالشبهات، والنسب يثبت بشهادة
امرأة على الولادة ويثبت بمجرد الدعوى مع ظهور انتفائه حتى لو أن امرأة
أتت بولد وزوجها غائب منذ عشرين سنة لحقه ولدها فكيف يجنح إلى نفيه
بعدم إقامة الحد؟ ولأنه حكم بظن غالب ورأي راجح ممن هو من أهل الخبرة
فجاز كقول المقومين وقولهم أن الشبه يجوز وجوده وعدمه قلنا الظاهر
وجوده ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم حين قالت أم سلمة أو ترى ذلك
المرأة؟ قال " فمن أين يكون الشبه، والحديث الذي احتجوا به حجة عليهم
لأن إنكار الرجل ولده لمخالقة لونه لونه وعزمه على نفيه لذلك يدل على
أن العادة خلافه وإن في طباع الناس إنكاره فإن ذلك إنما يوجد نادراً
وإنما الحقه النبي صلى الله عليه وسلم به لوجود الفراش وتجوز مخالفة
الظاهر للدليل ولا يجوز تركه لغير دليل ولأن ضعفه عن نفي النسب لا يلزم
منه ضعفه عن إثباته، فإن النسب يحتاط له لاثباته ويثبت بأدنى دليل
ويلزم من ذلك التشديد في نفيه وإنه لا ينتفي إلا بأقوى الأدلة كما أن
الحد لما انتفى بالشبهة لم يثبت إلا بأقوى دليل فلا يلزم حينئذ من
المنع من نفيه بالشبه في الخبر المذكور أن لا يثبت به
(6/405)
النسب في مسئلتنا، فإن قيل فههنا إذا عملتم
بالقيافة فقد نفيم النسب عمن لم تلحقه القافة به قلنا إنما انتسب ههنا
لعدم دليله لأنه لم يوجد إلا مجرد الدعوى وقد عارضها مثلها فسقط حكمها
وكان الشبه مرجحاً
لأحدهما فانتفت دلالة الأخرى فلزم انتفاء النسب لانتفاء دليله، وتقديم
اللعان عليه لا يمنع العمل به عند عدمه كاليد تقدم عليها البينة ويعمل
بها عند عدمها.
(فصل) والقافة قوم يعرفون الأنساب بالشبه ولا يختص ذلك بقبيلة معينة بل
من عرف منه المعرفة بذلك وتكررت منه الإصابة فهو قائف، وقيل أكثر ما
يكون في بني مدلج رهط محرز الذي رأى أسامة وزيداً قد غطيا رؤوسهما وبدت
أقدامهما فقال إن هذه الأقدام بعضها من بعض، وكان إياس بن معاوية
المزني قائفاً وكذلك قيل في شريح * (مسألة) * (فإن ألحقته بأحدهما لحق
به ليرجح جانبه وإن ألحقته بهما لحق بهما وكان ابنها يرثهما ميراث ابن
ويرثانه جميعاً ميراث أب واحد) يروي ذلك عن عمر وعلي رضي الله عنهما،
وهو قول أبي ثور وقال أصحاب الرأي يلحق بهما بمجرد الدعوى، وقال
الشافعي لا يلحق بأكثر من واحد فإن ألحقته بهما سقط قولهما ولم يحكم به
واحتج برواية عن عمر رضي الله عنه أن القافة قالت اشتركا فيه، فقال عمر
وال أيهما شئت ولأنه لا يتصور كونه من رجلين فإذا ألحقته القافة بهما
تبينا كذبهما فسقط قولهما كما لو ألحقته بأمين ولأن المتداعيين
(6/406)
لو اتفقا على ذلك لم يثبت، ولو ادعاه كل
واحد منهما وأقام بينة سقطتا، ولو جاز أن يلحق بهما لثبت باتفاقهما
وألحق بهما عند تعارض بينتهما ولنا ما روى سعيد في سننه ثنا سفيان عن
يحيى بن سعيد عن سليمان بن يسار عن عمر في امرأة وطئها رجلان في طهر
فقال الافئف قد اشتركا فيه جميعاً فجعله بينهما، وبإسناده عن الشعبي
قال وعلي يقول هو ابنهما وهما أبواه يرثهما ويرثانه، رواه الزبير بن
بكار بإسناده عن عمر، وقال الإمام أحمد حديث قتادة عن سعيد عن عمر جعله
بينهما، وقال قابوس عن أبيه عن علي جعله بينهما، وروى الأثرم باسناده
عن سعيد بن المسيب في رجلين اشتركا في طهر امرأة فحملت فولدت غلاماً
يشبههما فرفع ذلك إلى عمر بن الخطاب فدعى القافة فنظروا فقالوا نراه
يشبههما فألحقه بهما وجعله يرثهما ويرثانه، قال سعيد عصبته الباقي
منهما وما ذكروه عن عمر لا نعلم صحته وإن صح فيحتمل أنه ترك
قولهما لأمر آخر إما لعدم ثقتها وإما لأنه ظهر له من قولهما واختلافه
ما يوجب تركه فلا ينحصر المانع من قبول قولهما أنهما اشتركا فيه.
قال أحمد إذا ألحقته القافة بهما ورثهما وورثاه، فإن مات أحدهما فهو
للباقي منهما ونسبه من الأول قائم لا يزيله شئ، ومعنى قوله هو للباقي
منهما والله أعلم أنه يرثه ميراث أب كامل كما أن الجدة إذا انفردت أخذت
ما تأخذه الجدات، والزوجة تأخذ وحدها ما يأخذه جميع الزوجات.
(6/407)
* (مسألة) *) ولا يلحق بأكثر من أم واحدة)
إذا ادعت امرأتان نسب اللقيط فهو مبني على قبول دعوتهما، وقد ذكرنا
ذلك، وإن كانت إحداهما ممن تقبل دعوتها دون الأخرى فهو ابنها
كالمنفردة، وإن كانتا ممن لا تقبل دعوتهما فوجودها كعدمها وإن كانتا
جميعاً ممن تقبل دعوتهما فهما في إثباته بالبينة وكونه يرى القافة عند
عدمها أو تعارضهما كالرجلين) .
قال أحمد في رواية بكر بن محمد في يهودية ومسلمة ولدتا فادعت اليهودية
ولد المسلمة فتوقف فقيل يرى القافة فقال ما أحسنه، ولأن الشبه يوجد
بينهما وبين ابنها كوجوده بين الرجل وابنه بل أكثر لاختصاصها بحمله
وتعذيته، والكافرة والمسلمة، والحرة والأمة، في الدعوة واحدة كقولنا في
الرجال، وهذا قول أصحاب الشافعي على الوجه الذي يقولون بقبول دعوتها،
إذا ثبت ذلك فإنه لا يلحق بأكثر من أم واحدة، فإن ألحقته القافة بأمين
سقط قولهما لأننا لا نعلم خصأه قطعاً، وقال أصحاب الرأي يلحق بهما
بمجرد الدعوى لأن الأم أحد الأبوين فجاز أن يلحق باثنتين كالآباء ولنا
أن هذا محال يقيناً فلم يجز الحكم به كما لو كان أكبر منهما أو مثلهما
بخلاف الرجلين فإن كونه منهما ممكن فإنه يجوز اجتماع نطفتي الرجلين في
رحم امرأة فيمكن أن يخلق منهما ولدكما يخلق من نطفة الرجل وامرأة ولذلك
فال القائف لعمر قد اشتركا فيه ولا يلزم من إلحاقه بمن يتصور كونه منه
إلحاقه بمن يستحيل ذلك منه كما لا يلزم من إلحاقه بمن يولد مثله لمثله
إلحاقه بأصغر منه
(6/408)
(فصل) فإن ادعى نسبه رجل وامرأة فلا تنافي
بينهما لإمكان كونه منهما بنكاح كان بينهما أو وطئ شبهة فيلحق
بهما جميعاً ويكون ابنهما بمجرد دعوتهما كما لو انفرد كل واحد منهما
بالدعوة وإن قال الرجل هذا ابني من زوجتي وادعت زوجته ذلك وادعته امرأة
أخرى فهو ابن الرجل وترجح زوجته على الأخرى لأن زوجها أبوه فالظاهر
أنها أمه، ويحتمل أن يستاويا لأن كل واحدة منهما لو انفردت ألحق بها
فإذا اجتمعتا تساوتا (فصل) ولو ولدت امرأتان ابناً وبنتاً فادعت كل
واحدة منهما أن الابن ولدها احتمل وجهين (أحدهما) أن يرى المرأتان
القافة مع الولدين فيلحق كل منهما بمن ألحقته به كما لو لم يكن لهما
ولد آخر.
(والثاني) يعرض لبنهما على أهل الطب والمعرفة فإن لبن الذكر يخالف لبن
الأنثى في طبعه وزنته وقد قيل لبن الابن ثقيل ولبن البنت خفيف فيعتبران
بطباعهما ووزنهما وما يختلفان به عند أهل المعرفة فمن كان لبنها لبن
فهو ولدها والبنت للأخرى، فإن لم يوجد قافة اعتبر باللبن خاصة فأما إن
تنازعا أحد الوالدين وهما ذكران أو ابنتان عرضوا على القافة كما ذكرنا
فيما تقدم (فصل) فإن ادعى اللقيط رجلان فقال أحدهما هو ابني وقال الآخر
هو ابنتي فإن كان ابناً فهو لمدعيه وإن كان بنتاً فهي لمدعيها لأن كل
واحد منهما لا يستحق غير ما ادعاه فإن كان خنثى مشكلاً أري القافة لأنه
ليس قوله كل واحد منهما أولى من الآخر، فإن أقام كل واحد منهما بينة
بما ادعاه فالحكم فيها كالحكم فيما لو انفرد كل واحد منهما بالدعوى لأن
بينة الكاذب منهما كاذبة فوجودها كعدمها والأخرى صادقة فيتعين الحكم
بها
(6/409)
* (مسألة) * (فإن ادعاه أكثر من اثنين
فألحقته بهم لحق وإن كثروا) وقد نص أحمد في رواية مهنا أنه يلحق
بثلاثة، ومقتضى هذا أنه يلحق بمن ألحقته القافة وإن كثروا، وقال ابن
حامد لا يلحق بأكثر من اثنين وهو قول أبي يوسف لأننا صرنا إلى ذلك
للأثر فيقتصر عليه وقال القاضي: لا يلحق بأكثر من ثلاثة وهو قول محمد
بن الحسن وروي ذلك عن أبي يوسف أيضاً ولنا أن المعنى الذي لأجله ألحق
باثنين موجود فيما زاد عليه فيقاس عليه، وإذا جاز أن يخلق من اثنين جاز
أن يخلق من أكثر منهما، وقولهم: إن إلحاقه باثنين على خلاف الأصل ممنوع
وإن سلمناه لكنه ثبت لمعنى موجود في غيره فيجب تعدية الحكم به كما أن
إباحة أكل الميتة عند المخمصة أبيح على خلاف
الأصل ولا يمنع من أن يقاس على ذلك مال الغير والصيد الحرمي وغيرهما من
المحرمات لوجود المعنى وهو إبقاء النفس وتخليصها من الهلاك، وأما قول
من قال يجوز إلحاقه بثلاثة ولا يزاد عليه فتحكم فإنه لم يقتصر على
المنصوص عليه ولا عدى الحكم إلى ما في معناه ولا نعلم في الثلاثة معنى
خاصاً يقتضي إلحاق النسب بهم دون ما زاد عليهم فلم يجز الاقتصار عليه
بالتحكم * (مسألة) * (فإن نفته القافة عنهم أو أشكل عليهم أو لم يوجد
قافة ضاع نسبه في أحد الوجهين وفي الآخر يترك حتى يبلغ فينتسب إلى من
شاء أومأ إليه أحمد) وجملة ذلك أنه إذا ادعاه أكثر من واحد وأري القافة
فنفته عنهم أو لم يوجد قافة أو تعارضت أقوالهم أو لم يوجد من يوثق
بقوله لم يرجح أحدهم بذكر علامة في جسده لأن ذك لا يرجح به في سائر
الدعاوي سوى الالتقاط في المال واللقيط ليس بمال، فعلى هذا يضيع نسيه،
هذا قول أبي بكر لأنه
(6/410)
لا دليل لأحدهم أشبه من لم يدع أحد نسبه،
وقال ابن حامد نتركه حتى يبلغ فينتسب إلى من شاء منهم قال القاضي وقد
أومأ أحمد إلى هذا في رجلين وقعا على امرأة في طهر واحد إلى أن الابن
يخير أيهما أحب وهو قول الشافعي في الجديد وقال في القديم حتى يميز
لقول عمر: وال أيهما شئت ولأن الإنسان يميل طبعه إلى قريبه دون غيره
ولأنه مجهول النسب أقر به من هو من أهل الإقرار فثبت نسبه كما لو
انفرد، وقال أصحاب الرأي: يلحق بالمدعيين بمجرد الدعوى لأن كل واحد
منهم لو انفرد سمعت دعواه فإذا اجتمعا وأمكن العمل بهما وجب كما لو اقر
له بمال ولنا أن دعواهما تعارضت ولا حجة لواحد منهما فلم يثبت كما لو
ادعى رقه وليس هو في أيديهما قال شيخنا وقول أبي بكر أقرب لما ذكرنا
وقولهم يميل طبعه إلى قرابته قلنا انما يميل إلى قرابته بعد معرفة أنه
قرابته فالمعرفة بذلك سبب الميل فلا يثبت قبله ولو سلم ذلك فإنه يميل
أيضاً إلى من أحسن إليه فإن القلوب جبلت على حب من أحسن إليها وبغض من
أساء إليها وقد يميل إليه لإساءة الآخر إليه وقد يميل إلى أحسنهما
خلقاً وأعظمهما قدراً أو جاهاً أو مالاً فلا يبقى للميل أثر في الدلالة
على النسب، ولا خلاف بين أصحابنا في أنه لا يثبت نسبه بالانتساب قبل
البلوغ، قولهم أنه صدق المقر بنسبة
قلنا لا يحل له تصديقه فإن النبي صلى الله عليه وسلم لعن من ادعى إلى
غير أبيه وهذا يعلم أنه أبوه فلا نأمن أن يكون ملعوناً بتصديقه، ويفارق
ما إذا انفرد فإن المنفرد يثبت النسب بقوله من غير تصديق، وقول عمر رضي
الله عنه وال أيهما شئت لم يثبت ولو ثبت لم يكن فيه حجة لأنه إنما أمره
بالموالاة لا بالانتساب وعلى قول من جعل له الانتساب إلى أحدهما إذا
انتسب إلى أحدهما ثم عاد فانتسب إلى الآخر أو نفى نسبه من الأول ولم
(6/411)
ينتسب إلى أحد لم يقبل منه لأنه قد ثبت
نسبه فلا يقبل رجوعه عنه كما لو ادعى منفرد نسبه ثم أنكره ويفارق الصبي
الذي يخير بين أبويه فيختار أحدهما ثم يرد إلى الآخر إذا اختاره فإنه
لا حكم لقول الصبي وإنما تبع اختياره وشهوته فهو كما لو اشتهى طعاماً
في يوم وغيره في يوم آخر، فأما إن قامت للآخر بينة بنسبه عمل بها لأنها
تبطل قول القافة الذي هو مقدم على الانتساب فأولى أن تبطل الانتساب وإن
وجدت قافة بعد انتسابه فألحقته بغير من انتسب إليه بطل انتسابه لأنه
أقوى فبطل به الانتساب كالبينة مع القافة * (مسألة) * وكذلك الحكم إن
وطئ امرأة اثنان بشبهة أو جارية مشتركة بينهما في طهر واحد أو وطئت
زوجة رجل أو أم ولده بشبهة وأتت بولد يمكن أن يكون منه فادعى الزوج أنه
من الواطئ أري القافة معهما) كاللقيط فألحق بمن ألحقوه به منهما سواء
ادعياه أو جحداه أو أحدهما وقد ثبت الافتراش ذكره القاضي وشرط أبو
الخطاب في وطئ الزوجة أن يدعي الزوج أنه من الشبهة ذكره في المحرر
وكذلك إن تزوجها كل واحد منهما تزويجاً فاسداً وكان نكاح أحدهما صحيحاً
والآخر فاسداً مثل أن يطلق امرأته فينكحها غيره في عدتها ويطؤها أو
يبيع أمة فيطؤها المشتري قبل استبرائها وتأتي بولد يمكن أن يكون منهما
فإنه يرى القافة معما فبأيهما ألحقوه لحق، والخلاف فيه كالخلاف في
اللقيط على ما ذكرنا * (مسألة) * (ولا يقبل قول القائف إلا أن يكون
ذكراً عدلاً مجرباً في الإصابة) وفي اعتبار حريته وجهان من المحرر قول
القافة قوم يعرفون الأنساب بالشبه ولا يختص ذلك بقبيلة، وقد قيل أكثر
ما يكون ذلك في بني مدلج رهط محرز المدلجي وكان إياس بن معاوية المزني
قائفاً ولا يقبل قول القائف إلا أن يكون ذكراً عدلاً مجرباً في الإصابة
لأن قوله حكم فاعتبرت له هذه الشروط، قال القاضي في معرفة القائف
بالتجربة هو أن يترك الصبي مع عشرة رجال غير من يدعيه
ويرى إياهم فإن ألحقه بواحد منهم سقط قوله لتبين خطئه وإن لم يلحقه
بواحد منهم أريناه إياه مع عشرين منهم مدعيه فان ألحقه به لحق، ولو
اعتبر بأن يرى صبياً معروف النسب مع قوم فيه أبوه أو أخوه فإذا ألحقه
بقريبه عرفت إصابته وإن ألحقه بغيره سقط قوله جاز وهذه التجربة عند
عرضه على القائف للاحتياط في معرفة إصابته ولو لم يجربه بعد أن يكون
مشهوراً بالإصابة وصحة المعرفة في مرات كثيرة جاز، فقد روي أن رجلاً
شريفاً شك في ولده من جاريته وأبى أن يستلحقه فمر به إياس بن معاوية في
المكتب ولا يعرفه فقال له ادع لي أباك فقال له المعلم ومن أبو هذا؟ قال
فلان، قال من أين علمت أنه أبوه؟ قال هو أشبه به من الغراب بالغراب
فقام المعلم مسروراً إلى أبيه فأعلمه بقول إياس فخرج
(6/412)
الرجل وسأل إياساً من أين علمت أن هذا
ولدي؟ فقال سبحان الله وهل يخفى ذلك على أحد أنه لأشبه بك من الغراب
بالغراب فسر الرجل واستلحق ولده (فصل) نقل عن أحمد أنه لا يقبل إلا قول
اثنين من القافة ولفظ الشهادة منهما فروى عنه الأثرم أنه قيل له إذا
قال أحد القافة هو لهذا وقال الآخر هو لهذا قال لا يقبل قول واحد حتى
يجتمع اثنان فيكونان شاهدين فإذا شهد اثنان من القافة أنه لهذا فهو
لهذا لأنه قول يثبت به النسب أشبه الشهادة ولأنه حكم بالشبه في الخلقة
فاعتبر فيه اثنان كالحكم بالمثل في جزاء الصيد، وقال القاضي يقبل قول
الواحد لانه حكم ويكتفي في الحكم قول واحد وحمل كلام أحمد على ما إذا
تعارض قول القائفين فقال إذا خالف القائف غيره تعارضا وسقطا، ولأن
النبي صلى الله عليه وسلم اكتفى بقول محرز وحده فإن قال اثنان قولاً
وخالفهما واحد فقولهما أولى لأنه أقوى من قول واحد، وإن عارض قول اثنين
قول اثنين سقط قول الجميع، فإن عارض قول اثنين قول ثلاثة أو أكثر لم
يرجح وسقط الجميع كما لو كانت إحدى البينتين اثنين والأخرى ثلاثة فأما
إن ألحقته القافة بواحد فجاءت قافة أخرى فألحقته بآخر كان للأول لأن
قول القائف جرى مجرى حكم الحاكم إذا حكم حكماً لم ينتقض بمخالفة غيره
ولذلك لو ألحقته بواحد ثم عادت فألحقته بغيره كذلك، وإن أقام الآخر
بينة أنه ولده حكم له وسقط قول القائف لأنه بدل فسقط بوجود الأصل
كالتيمم مع الماء
(فصل) وإذا ألحقته القافة بكافر أو رقيق لم يحكم بكفره ولا رقه لأن
الحرية والإسلام ثبتا له بظاهر الدار فلا يزول ذلك بمجرد الشبه والظن
كما لم يزل ذلك بمجرد الدعوى من المنفرد لها وإنما قبلنا قول القافة في
النسب للحاجة إلى إثباته ولكونه غير مخالف للظاهر ولهذا اكتفينا فيه
بمجرد الدعوى من المنفرد ولا حاجة الى إثبات رقه وكفره وإثباتهما يخالف
الظاهر (فصل) لو ادعى نسب اللقيط إنسان فألحق نسبه به لانفراده بالدعوى
ثم جاء آخر فادعاه لم يزل نسبه عن الأول لأنه حكم له به فلا يزول بمجرد
الدعوى فان ألحقته به القافة لحق به وانقطع عن الأول لأنها بينة في
إلحاق النسب فيزول بها الحكم الثابت بمجرد الدعوى كالشهادة
(6/413)
|