الشرح الكبير على متن المقنع

* (كتاب الطلاق) * وهو حل قيد النكاح وهو مشروع والأصل في مشروعية الكتاب والسنة والإجماع.
أما الكتاب فقوله تعالى (الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان) وقال سبحانه (يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن) وأما السنة فروى ابن عمر أنه طلق امرأته وهي حائض فسأل عمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم " مره فليراجعها ثم ليتركها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر ثم إن شاء أمسك بعد وإن شاء طلق قبل أن يمس فتلك العدة التي أمر الله أن يطلق لها النساء " متفق عليه في آي وأخبار سوى هذين كثير وأجمع الناس على جواز الطلاق والعبرة دالة على

(8/233)


جوازه فإنه ربما فسدت الحال بين الزوجين فيصير بقاء النكاح مفسدة محضة وإضراراً مجرداً بالزام الزوج النفقة والسكنى وحبس المرأة مع سوء العشرة والخصومة الدائمة من غير فائدة فاقتضى ذلك شرع ما يزيل النكاح لتزول المفسدة الحاصلة منه * (مسألة) * (ويباح عند الحاجة ويكره من غير حاجة وعنه أنه يحرم، ويستحب إذا كان بقاء النكاح ضرراً) الطلاق على خمسة أضرب (واجب) وهو طلاق المولي بعد التربص إذا أبى الفئة وطلاق الحكمين في الشقاق إذا رأيا ذلك (والثاني) مكروه وهو الطلاق من غير حاجة إليه لأنه مزيل للنكاح المشتمل على المصالح المندوب إليها فيكون مكروهاً وقال القاضي فيه روايتان (إحداهما) أنه محرم لأنه ضرر بنفسه وزوجته واعدام للمصلحة الحاصلة لهما من غير حاجة إليه فكان حراماً كإتلاف المال ولقول النبي صلى الله عليه وسلم " لا ضرر ولا اضرار " (والثانية) أنه مباح لقول النبي صلى الله عليه وسلم " أبغض الحلال إلى الله الطلاق " وفي لفظ " ما أحل الله شيئاً أبغض إليه من الطلاق " رواه أبو داود (والثالث) مباح وهو عند الحاجة إليه لسوء خلق المرأة وسوء عشرتها والتضرر منها من غير حصول الغرض بها (والرابع) مندوب إليه وهو عند تفريط المرأة في حقوق الله الواجبة عليها مثل الصلاة ونحوها ولا يمكنه إجبارها عليها أو يكون له امرأة غير عفيفة قال أحمد لا ينبغي له امساكها وذلك لأن فيه نقصاً في دينه ولا يأمن افسادها فراشه

(8/234)


وإلحاقها به ولداً من غيره ولا بأس بعضلها في هذه الحال في التضييق عليها لتفتدي منه قال الله تعالى (ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة) ويحتمل أن الطلاق في هذين الموضعين واجب ومن المندوب إليه الطلاق في حال الشقاق وفي الحال التي تخرج المرأة إلى المخالعة لتزيل عنها الضرر (والخامس) المحظور وهو طلاق الحائض أو في طهر أصابها فيه وقد أجمع العلماء في جميع الامصار على تحريمه ويسمى طلاق البدعة لأن المطلق خالف السنة وترك أمر الله ورسوله.
قال الله تعالى (فطلقوهن لعدتهن) وقال النبي صلى الله عليه وسلم " إن شاء طلق قبل أن يمس فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء " وفي لفظ رواه الدارقطني بإسناده عن ابن عمر أنه طلق امرأته تطليقة وهي حائض ثم أراد أن يتبعها بتطليقتين آخرتين عند القرأين فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال " يا ابن عمر ما هكذا أمرك الله إنك أخطأت السنة والسنة أن تستقبل الطهر فتطلق لكل قرء " ولأنه إذا طلق في الحيض طول العدة عليها فإن الحيضة التي طلق فيها لا تحسب من عدتها ولا الطهر الذي بعدها عند من يجعل الإقراء الحيض وإذا طلق في طهر أصابها فيه لم يأمن من أن تكون حاملاً فيندم وتكون مرتابة أتعتد بالحمل أو الإقراء؟ * (مسألة) * (ويصح من الزوج العاقل البالغ المختار ومن االصبي العاقل وعنه لا يصح حتى يبلغ)

(8/235)


أما صحة الطلاق من الزوج العاقل المختار فلا نعلم فيه خلافاً لأنه عقد معاوضة فصح منه كالبيع، وأما الصبي فإن لم يعقل فلا طلاق له بغير خلاف وأما الذي يعقل الطلاق ويعلم أن زوجته تبين منه وتحرم عليه فأكثر الروايات عن أحمد أن طلاقه يقع، وذكره الخرقي واختاره أبو بكر وابن حامد وروي نحو ذلك عن سعيد بن المسيب وعطاء والحسن والشعبي واسحاق وروى أبو طالب عن أحمد لا يجوز طلاقه حتى يحتلم وهو قول النخعي والزهري ومالك وحماد والثوري وأبي عبيد وذكر أبو عبيد أنه قول أهل العراق وأهل الحجاز وروي ذلك عن ابن عباس لقول النبي صلى الله عليه وسلم " رفع القلم عن الصبي حتى يحتلم " ولأنه غير مكلف فلم يقع طلاقه كالمجنون ووجه الأولى قول النبي صلى الله عليه وسلم " إنما الطلاق لمن أخذ
بالساق - وقوله - كل الطلاق جائز إلا طلاق المعتوه المغلوب على عقله " وروي عن علي رضي الله عنه قال: اكتموا الصبيان النكاح فيفهم أن فائدته أن لا يطلقوا.
ولأنه طلاق من عاقل صادف محل طلاق فأشبه طلاق البالغ (قصل) وأكثر الروايات عن أبي عبد الله تحديد من يقع طلاقه من الصبيان بكونه يعقل وهو اختيار القاضي وروى أبو الحارث عن أحمد إذا عقل الطلاق جاز طلاقه ما بين عشر إلى اثنتي عشرة وهذا يدل على أنه لا يقع دون العشر وهو اختيار أبي بكر لأن العشر حد الضرب على الصلاة والصيام وصحة الوصية فكذلك هذا وعن سعيد بن المسيب إذا احصى الصلاة وصام رمضان جاز طلاقه وقال عطاء

(8/236)


إذا بلغ أن يصيب النساء وعن الحسن إذا عقل وحفظ الصلاة وصام رمضان وقال إسحاق إذا جاز اثنتي عشرة.
(فصل) ومن أجاز طلاقه اقتضى مذهبه أن يجوز توكيله فيه وتوكله لغيره وقد أومأ إليه فقال في رجل قال لصبي طلق امرأتك فقال قد طلقتك ثلاثاً لا يجوز عليها حتى يعقل الطلاق قيل له فإن كانت له زوجة صبية فقالت له صير أمري إلي فقال لها أمرك بيدك فقالت قد اخترت نفسي؟ فقال أحمد ليس شيئاً حتى يكون مثلها يعقل الطلاق، وقال أبو بكر لا يصح أن يوكل حتى يبلغ، وحكاه عن أحمد ولنا أن من صح تصرفه في شئ مما تجوز الوكالة فيه بنفسه صح توكيله ووكالته فيه كالبالغ وما روي عن أحمد من منع ذلك فهو على الرواية التي لا تجيز طلاقه وتأنى إن شاء الله تعالى (فصل) فأما السفيه فيقع طلاقه في قول أكثر أهل العلم منهم القاسم بن محمد ومالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابه ومنع منه عطاء والأولى صحته لأنه مكلف مالك لمحل الطلاق فوقع طلاقه كالرشيد والحجر عليه في ماله لا يمنع من التصرف في غير ما هو محجور عليه فيه كالمفلس * (مسألة) * (ومن زال عقله بسبب يعذر فيه كالمجنون والنائم والمغمى عليه والمبرسم لم يقع طلاقه) أجمع أهل العلم على أن الزائل العقل بغير سكر أو ما في معناه لا يقع طلاقه كذلك قال عثمان وعلي وسعيد بن المسيب والحسن والنخعي والشعبي وقتادة وأبو قلابة والزهري ويحيى الانصاري ومالك

(8/237)


والثوري والشافعي وأصحاب الرأي وأجمعوا على ان الرجل في حال نومه أنه لا طلاق له وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " رفع القلم عن ثلاثة عن النائم حتى يستيقظ وعن الصبي حتى يحتلم وعن المجنون حتى يعقل " وروي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " كل الطلاق جائز إلا طلاق المعتوه والمغلوب على عقله " رواه البخاري وقال الترمذي لا نعرفه إلا من حديث عطاء عن ابن عجلان وهو ذاهب الحديث وروي عن علي بإسناده مثل ذلك ولأنه قول يزيل الملك فاعتبر له العقل كالبيع وسواء زال بجنون أو إغماء أو شرب دواء أو إكراه على شرب الخمر أو شرب ما يزيل عقله أو لم يعلم أنه مزيل للعقل فكل هذا يمنع وقوع الطلاق رواية واحدة ولا نعلم فيه خلافاً * (مسألة) * وإن كان بسبب لا يعذر فيه كالسكران ومن شرب ما يزيل عقله لغير حاجة ففي صحة طلاقه روايتان وكذا يخرج في قتله وقذفه وسرقته وزناه وظهاره وإيلائه) اختلفت الرواية عن أحمد رحمه الله في طلاق السكران فروي عنه أنه يقع اختارها أبو بكر الخلال والقاضي وهو مذهب سعيد بن المسيب وعطاء ومجاهد والحسن وابن سيرين والشعبى والنخعي والحكم ومالك والاوزاعي والشافعي وابن شبرمة وأبي حنيفة وصاحبيه وسليمان بن حرب لقول النبي صلى الله عليه وسلم " كل الطلاق جائز إلا طلاق المعتوه " ومثل هذا عن علي ومعاوية وابن عباس، قال ابن عباس طلاق السكران جائز ان ركب معصية من معاصي الله نفعه ذلك ولأن الصحابة جعلوه كالصاحي في الحد

(8/238)


بالقذف بدليل ما روى أبو وبرة الكلبي قال: أرسلني خالد إلى عمر فأتيته في المسجد وعنده عثمان وعلي وعبد الرحمن وطلحة والزبير فقلت إن خالداً يقول إن الناس انهمكوا في الخمر وتحاقر والعقوبة قال عمر هؤلاء عندك فسلهم فقال علي نراه إذا سكر هذى وإذا هذى افترى وعلى المفتري ثمانون فقال عمر أبلغ صاحبك ما قال فجعلوه كالصاحي ولأنه إيقاع طلاق من مكلف غير مكره صادق ملكه فوجب أن يقع كطلاق الصاحي ويدل على تكليفة أنه يقتل بالقتل ويقطع بالسرقة وبهذا فارق المجنون (والثانية) لا يقطع طلاقه اختارها أبو بكر عبد العزيز وهو قول عثمان رضي الله عنه ومذهب عمر بن عبد العزيز
والقاسم وطاوس وربيعة ويحيى الأنصاري والليث والعنبري واسحاق وأبي ثور والمزني قال إبن المنذر هذا ثابت عن عثمان لا نعلم أحدا من الصحابة خالفه وقال أحمد حديث عثمان أرفع شئ فيه وهو أصح يعني من حديث علي وحديث الأعمش عن منصور ولا يرفعها علي ولأنه زائل العقل أشبه المجنون والنائم ولأنه مفقود الارادة أشبه المكره ولان العقل شرط التكليف إذ هو عبارة عن الخطاب بأمر أو نهي ولا يتوجه ذلك إلى من لا يفهمه ولا فرق بين زوال الشرط بمعصية أو غيرها بدليل أن من كسر ساقه جاز له أن يصلي قاعداً ولو ضربت المرأة بطنها فنفست سقطت عنها الصلاة ولو ضربت رأسه فجن سقط التكليف وحديث أبي هريرة لا يثبت وأما قتله وقذفه وسرقته فهو كمسئلتنا

(8/239)


(فصل) والحكم في عتقه ونذره وبيعه وشرائه وردته وإقراره وقتله وقذفه وسرقته كالحكم في طلاقه لأن المعنى في الجميع واحد وقد روي عن أحمد بيعه وشرائه الروايتان وسألته ابن منصور إذا طلق السكران أو سرق أو زنى أو افترى أو اشترى أو باع فقال أخبر عنه لا يصح من أمر السكران شئ وقال أبو عبد الله بن حامد حكم السكران حكم الصاحي فيما له وفيما عليه أما في ماله وعليه كالبيع والنكاح والمعاوضات فهو كالمجنون لا يصح له شئ وقد أومأ إليه أحمد والأولى أن ماله أيضاً لا يصح منه لأن تصحيح تصرفاته مما عليه مؤاخذة له وليس من المؤاخذة تصحيح له وكذلك الحكم فيمن شرب أو أكل ما يزيل عقله لغير حاجة وهو يعلم قياساً على السكران في وقوع طلاقه وبهذا قال أصحاب الشافعي وقال أصحاب أبي حنيفة لا يقع طلاقه لأنه لا يلتذ بشربها ولنا أنه زال عقله فأشبه السكران (فصل) وحد السكر الذي يقع الخلاف في صاحبه هو الذي يجعله يخلط في كلامه ولا يعرف رداءه من رداء غيره وفعله من فعل غيره ونحو ذلك لأن الله تعالى قال (يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون) فجعل علامة زوال السكر علمه ما يقول وروي عن عمر رضي الله

(8/240)


عنه أنه قال: استقرئوه القرآن أو ألقوا رداءة في الاردية فإن قرا أم القرآن أو عرف رداءه وإلا
فأقم عليه الحد ولا يعتبر أن لا يعرف السماء من الأرض ولا الذكر من الأنثى لأن ذلك لا يخفي على المجنون فغيره أولى.
(فصل) في المغمى عليه إذا طلق فلما أفاق وعلم أنه كان أغمي عليه وهو ذاكر لذلك فقال إذا كان ذاكرا لذلك فليس هو مغمى عليه فقال أحمد يجوز طلاقه وقال في رواية أبي طالب في المجنون يطلق فقيل له لما أفاق إنك طلقت امرأتك فقال ما أنا أذكر اني طلقت ولم يكن عقلي معي فقال إذا كان يذكر أنه طلق فقد طلقت فلم يجعله مجنوناً إذا كان يذكر الطلاق ويعلم به.
قال شيخنا وهذا والله أعلم فيمن جنونه بذهاب معرفته بالكلية وبطلان حواسه، فأما من كان جنونه لنشاف أو كان متبرسماً فإن ذلك يسقط حكم تصرفه مع أن معرفته غير ذاهبة بالكلية فلا يضره ذكره للطلاق إن شاء الله تعالى * (مسألة) * (ومن أكره على الطلاق بغير حق لم يقع طلاقه) لا تختلف الرواية عن أحمد أن طلاق المكره لا يقع روى ذلك عن عمر وعلي وابن عمر وابن عباس

(8/241)


وابن الزبير وجابر بن سمرة وبه قال عبد الله بن عبيد بن عمير وعكرمة والحسن وجابر بن زيد وشريح وعطاء وطاوس وعمر بن عبد العزيز وابن عمر وايوب السختياني ومالك والاوزاعي والشافعي واسحاق وأبو ثور وابو عبيد وأجازه أبو قلابة والشعبي والنخعي والزهري والثوري وابو حنيفة وصاحباه لأنه طلاق من مكلف في محل يملكه فنفذ كطلاق غير المكره.
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " ان الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه " رواه ابن ماجه وعن عائشة قالت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " لا طلاق في إغلاق " رواه أبو داود وقال أبو عبيد والقتيبي معناه في اكراه، وقال أبو بكر سألت ابن دريد وأبا طاهر النحويين فقالا يريد الإكراه لأنه إذا أكره انغلق عليه رأيه، ويدخل في هذا المعنى المبرسم والمجنون ولأنه قول من سمينا من الصحابة ولا مخالف لهم في عصرهم فيكون إجماعاً ولأنه قول حمل عليه بغير حق فلم يثبت له حكم ككلمة الكفر إذا أكره عليها (فصل) وإن كان الاكراه بحق كإكراه الحاكم المولي على الطلاق بعد التربض إذا لم بقئ أو إكراهه الرجلين اللذين زوجهما الوليان ولم يعلم السابق منهما على الطلاق فإنه يقع لأنه قول حمل
عليه لحق فصح كإسلام المرتد إذا أكره عليه، ولأنه إنما جاز إكراهه على الطلاق ليقع طلاقه فلو لم يقع لم يحصل المقصود.

(8/242)


* (مسألة) * (وإن هدده بالقتل وأخذ المال ونحوه قادر يغلب على ظنه وقوع ما هدده به فهو إكراه، وعنه لا يكون مكرهاً حتى يناله شئ من العذاب كالضرب والخنق وعصر الساق واختاره الخرقي) أما إذا نيل بشئ من العذاب كالضرب والخنق والعصر والحبس والغط في الماء مع الوعيد فإنه يكون إكراهاً بلا إشكال لما روي أن المشركين أخذوا عماراً فأرادوه على الشرط فأعطاهم فأتى إليه النبي صلى الله عليه وسلم وهو يبكي فجعل يمسح الدموع عن عينيه ويقول " أخذك المشركون فغطوك في الماء وأمروك أن تشرك بالله ففعلته، فإن أخذوك مرة أخرى فافعل ذلك بهم " رواه أبو حفص بإسناده وقال عمر رضي الله عنه ليس الرجل أميناً على نفسه إذا أوجعته أو ضربته أو أوثقته وهذا يقتضي وجود فعل يكون به إكراهاً.
فأما الوعيد بمفرده فعن أحمد فيه روايتان (احداها) ليس بإكراه لأن الذي ورد الشرع بالرخصة معه هو ما ورد في حديث عمار وفيه " إنهم أخذوك فغطوك " فلا يثبت الحكم الا فيما كان مثله (والثانية) أن الوعيد بمفرده إكراه قال في رواية ابن منصور حد الإكراه إذا خاف القتل أو ضرباً شديداً، وهذ قول أكثر الفقهاء وبه يقول أبو حنيفة والشافعي لأن الإكراه لا يكون

(8/243)


إلا بالوعيد الماضي من العقوبة لا يندفع بفعل ما أكره عليه ولا يخشى من قوعه وإنما أبيح له فعل المكروه عليه دفعاً لما يتوعد به من العقوبة فيما بعد وهو في الموضعين واحد لأنه متى توعد بالقتل وعلم أنه يقتله فلم يبح له فعل ما أفضى الى قتله وافضاؤه بيده إلى التهلكة ولا يفيد ثبوت الرخصة بالاكراه شيئاً لأنه إذا طلق في هذه الحال وقع طلاقه فيصل المكره إلى مراده ويقع الضرر بالمكره وثبوت الإكراه في حق من نيل بشئ من العذاب لا ينفي ثبوته في حق غيره.
وقد روي عن عمر في الذي تدلى يشتار عسلا فوقفت امرأته على الحبل وقالت طلقني ثلاثاً والا
قطعته، فذكرها الله والإسلام فقالت لتفعلن أو لأفعلن، فطلقها ثلاثاً فردها إليه.
رواه سعيد باسناده وهذا كان وعيداً.
(فصل) ومن شرط الاكراه ثلاثة أمور (أحدها) أن يكون قادرا بسلطان أو تغلب كاللص ونحوه.
وحكي عن الشعبي ان أكرهه النص لم يقع طلاق، وإن أكرهه السلطان وقع.
وقال ابن عيينة لأن اللص يقتله.
وعموم ما ذكرناه في دليل الإكراه يتناول الجميع، والذين أكرهوا عماراً لم يكونوا لصوصاً وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم " ان عادوا فعد " لأنه إكراه فمنع وقوع الطلاق كإكراه اللص

(8/244)


(الثاني) أن يغلب على ظنه نزول الوعيد به إن لم يجبه إلى ما طلبه.
(الثالث) أن يكون فيما يستضر به ضرراً كبيراً كالقتل والضرب الشديد والحبس والقيد الطويلين، فأما السب والشتم فليس بإكراه رواية واحدة وكذلك أخذ المال اليسير.
فأما الضرب اليسير فان كان في حق من لا يبالي به فليس بإكراه، وإن كان في حق ذوي المروءات على وجه يكون إخراقاً لصاحبه وغضاً له وشهرة في حقه فهو كالضرب الكثير في حق غيره، وإن توعد بتعذيب ولده فقد قيل ليس بإكراه لان الضرر لا حق بغيره والأولى أن يكون إكراهاً لأن ذلك أعظم عنده من أخذ ماله والوعيد بذلك إكراه فكذلك هذا.
(فصل) فإن أكره على طلاق امرأة فطلق غيرها وقع لأنه غير مكره عليه وإن أكره على طلقة فطلق ثلاثاً وقع أيضاً لأنه لم يكره على الثلاث، وإن طلق من أكره على طلاقها وغيرها وقع طلاق غيرها دونها وإن خلصت نيته في الطلاق دون دفع الإكراه وقع لانه قصده واختاره ويحتمل أن لا يقع لأن اللفظ مرفوع عنه فلا يبقى إلا مجرد النية فلا يقع بها طلاق، وإن طلق ونوى بقلبه غير امرأته وتأول في يمينه فله تأويله ويقبل قوله في نيته لان الاكراه دليل على تأويله، وإن لم يتأول وقصدها بالطلاق لم يقع لأنه معذور.
وذكر أصحاب الشافعي وجها أنه يقع لانه لا يكره على نيته

(8/245)


ولنا أنه مكره عليه لعموم ما ذكرنا من الأدلة ولأنه قد لا يحضره التأويل في تلك الحال فتفوت الرخصة
* (مسألة) * (ويقع الطلاق في النكاح المختلف فيه كالنكاح بلا ولي عند أصحابنا) واختار أبو الخطاب أنه لا يقع حتى يعتقد صحته ولنا أنه إزالة ملك بني على التغليب والسراية فجاز أن ينفذ في العقد الفاسد إذا لم يكن في نفوذه إسقاط حق الغير ولأنه عقد يسقط الحد ويثبت النسب والعدة والمهر أشبه الصحيح، ووجه قول أبي الخطاب أنه ليس بعقد صحيح ولم يثبت به النكاح فلم يقع فيه الطلاق كالمتفق على بطلانه فإن اعتقد صحته وقع فيه الطلاق كالمتفق على صحة.
* (مسألة) * (وإذا وكل في الطلاق من يصح توكيله صح طلاقه) لأنه إزالة ملك فصح التوكيل فيه كالعتق ولا يصح التوكيل إلا للبالغ العاقل، فأما الطفل والمجنون فلا يصح توكيلهما فإن فعل فطلق واحد منهم لم يقع طلاقه، وقال أصحاب الرأي يقع ولنا أنهما ليسا من أهل التصرف فلا يصح تصرفهم كما لو وكلهم في العتق، وإن وكل كافراً أو عبداً صح لأنهما ممن يصح طلاقه لنفسه فصح توكيلهما فيه، وان وكل امرأة صح لأنه يصح توكيلها

(8/246)


في العتق فصح في الطلاق كالرجل فانه جعله في يد صبي يعقل الطلاق انبنى ذلك على صحة طلاقه لزوجته وقد مضى ذلك، وقد نص أحمد ههنا على اعتبار وكالته بطلاقه فقال إذا قال لصبي طلق امرأتي ثلاثاً فطلقها ثلاثاً لا يجوز عليها حتى يعقل الطلاق ارأيت لو كان لهذا الصبي امرأة فطلقها أكان يجوز طلاقه؟ فاعتبر طلاقه بالوكالة بطلاقه لنفسه وهكذا لو جعل أمر الصغيرة والمجنونة بيدها لم تملك ذلك، نص عليه أحمد في امرأة صغيرة قال لها أمرك بيدك فقالت اخترت نفسي، ليس بشئ حتى يكون مثلها يعقل لأنه تصرف بحكم التوكيل وليس من أهل التصرف، فظاهر كلام أحمد هذا أنها إذا عقلت الطلاق وقع طلاقها وان لم تبلغ كما قررناه في الصبي، وفيه رواية أخرى ان الصبي لا يصح طلاقه حتى يبلغ فكذلك يخرج في هذه لأنها مثله في المعنى * (مسألة) * (وله أن يطلق متى شاء إلا أن يحل له حداً) لأن الفظ التوكيل يقتضي ذلك لكونه توكيلاً مطلقاً فأشبه التوكيل في البيع إلا أن يحد له حداً
فيكون على ما أذن له لأن الأمر إلى الموكل في ذلك لكون الحق له والوكيل نائبه فتنسب له الوكالة على ما يقتضيه لفظ الموكل، إن كان لفظه عاماً اقتضى العموم، وإن كان خاصاً اقتضى ذلك

(8/247)


* (مسألة) * (ولا يطلق أكثر من واحدة إلا أن يجعل ذلك إليه) لأن الأمر المطلق يتناول ما يقع عليه الاسم إلا أن يجعل أكثر من واحدة بلفظه او نيته، نص عليه لأنه نوى بكلامه ما يحتمله والقول قوله في نيته لأنه أعلم بها.
* (مسألة) * (فان وكل اثنين صح وليس لأحدهما أن يطلق على الانفراد إلا أن يجعل ذلك إليه) ولأنه إنما رضي بتصرفهما جميعاً وبهذا قال الحسن ومالك والثوري والشافعي وأبو عبيد وابن المنذر فإن أذن لأحدهما في الانفراد صح لأن الحق له (فصل) فإن وكلهما في ثلاث فطلق أحدهما أكثر من الآخر مثل أن يطلق أحدهما واحدة والآخر ثلاثاً فتقع واحدة وبهذا قال إسحاق، وقال الثوري لا يقع بشئ ولنا أنهما طلقا جميعاً واحده مأذوناً فيها فصح كما لو جعل اليهما واحدة وإن طلق أحدهما اثنتين والآخر ثلاثاً وقع إثنتان لأنهما اجتمعا عليهما.
* (مسألة) * (وإن قال لامرأته طلقي نفسك فلها ذلك كالوكيل فإن نوى عدداً فهو على ما نوى وإن طلق من غير نية لم يملك إلا واحدة)

(8/248)


لأن الأمر المطلق يتناول أقل ما يقع عليه الاسم، وكذلك الحكم لو وكل أجنبياً فقال طلق زوجتي فالحكم على ما ذكرناه.
قال أحمد لو قال لامرأته طلقي نفسك ونوى ثلاثاً فطلقت نفسها ثلاثاً فهي ثلاث وإن كان نوى واحدة لأن الطلاق يكون واحدة وثلاثاً فأيهما نواه فقد نوى بلفظ ما احتمله وإن لم ينو تناول اليقين فإن طلقت نفسها أو طلقها الوكيل في المجلس أو بعده وقع الطلاق لأنه توكيل وقال القاضي إذا قال لامرأته طلقي نفسك تقيد بالمجلس لأنه تفويض للطلاق إليها فتقيد بالمجلس
كقوله اختاري.
ولنا أنه توكيل في الطلاق فكان على التراخي كتوكيل الأجنبي وكقوله أمرك بيدك وفارق اختاري فإنه تخيير وينتقض ما ذكره بقوله أمرك بيدك فإن قال طلقي ثلاثاً فطلقت واحدة وقع، نص عليه، وقال مالك لا يقع شئ لانها لم تمثل أمره.
ولنا أنها ملك إيقاع ثلاث فملكت ايقاع واحدة كالموكل ولأنه لو قال وهبتك هؤلاء العبيد

(8/249)


الثلاثة فقال قبلت واحداً منهم صح كذا ههنا، وإن قال طلقي واحدة فطلقت ثلاثاً وقعت واحدة نص عليه أيضاً وبه قال مالك والشافعي، وقال أبو حنيفة لا يقع شئ لأنها لم تأت بما يصلح قبولا فلم يصح كما لو قال بعتك نصف هذا العبد فقال قبلت البيع في جميعه ولنا أنها أوقعت طلاقاً مأذوناً فيه وغيره فوقع المأذون فيه دون غيره كما لو قال طلقي نفسك فطلقت نفسها وضرائرها فإن قال طلقي فقالت أنا طالق إن قدم زيد لم يصح لأن إذنه انصرف إلى المنجز فلم يتناول المعلق على شرط وحكم توكيل الأجنبي في الطلاق كحكمها فيما ذكرناه كله (فصل) نقل عنه أبو الحارث إذا قال طلقي نفسك طلاق السنة فقالت قد طلقت نفسي ثلاثا هي واحدة وهو أحق برجعتها إنما كان كذلك لأن التوكيل بلفظ يتناول أقل ما يقع عليه اللفظ وهو طلقة واحدة وسيما وطلاق السنة في الصحيح واحدة في طهر لم يصبها * (مسألة) * (وإن قال اختاري من ثلاث ما شئت لم يكن لها أن تختار أكثر من اثنتين) لأن لفظه يقتضي ذلك لأن من للتبعيض فلم يكن لها استيعاب الجميع والله أعلم

(8/250)


باب سنة الطلاق وبدعته والسنة في الطلاق إن يطلقها في طهر لم يصبها فيه ثم يدعها حتى تنقضي عدتها يعني طلاق السنة الطلاق الذي وافق أمر الله سبحانه وتعالى وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى (يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن) وفي حديث عبد الله بن عمر الذي ذكرناه ولا خلاف في أنه إذا طلقها في طهر لم يصبها فيه واحدة ثم تركها حتى تنقضي عدتها أنه مصيب للسنة مطلق للعدة
التي أمر الله بها قاله ابن عبد البر وابن المنذر قال ابن مسعود طلاق السنة أن يطلقها من غير جماع، وقال في قوله تعالى (فطلقوهن لعدتهن) قال طاهراً من غير جماع ونحوه عن ابن عباس، وفي حديث ابن عمر الذي رويناه " ليتركها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر ثمم إن شاء أمسك وإن شاء طلق قبل أن يمس فتلك العدة التي أمر الله أن يطلق لها النساء " وقوله ثم يدعها حتى تنقضي عدتها فمعناه أن لا يتبعها طلاقاً آخر قبل انقضاء عدتها، ولو طلقها ثلاثاً في ثلاثة أطهار كان حكم ذلك حكم جميع الثلاث في طهر واحد.
قال أحمد طلاق السنة واحدة ثم يتركها حتى تحيض ثلاث حيض وبذلك قال مالك والاوزاعي والشافعي وأبو عبيد، وقال أبو حنيفة والثوري السنة أن يطلقها ثلاثاً في كل قرء طلقة وهو قول سائر

(8/251)


الكوفيين واحتجوا بحديث ابن عمر حين قال له النبي صلى الله عليه وسلم راجعها ثم أمسكها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر قالوا وإنما أمره بإمساكها في هذا الطهر لأنه لم يفصل بينه وبين الطلاق طهر كامل فإذا مضى ومضت الحيضة التي بعده أمره بطلاقها، وقوله في حديثه الآخر والسنة أن تستقبل الطهر فتطلق لكل قرء، وروى النسائي باسناده عن عبد الله قال: طلاق السنة أن يطلقها تطليقة وهي طاهر في غير جماع فإذا حاضت وطهرت طلقها أخرى فإذا حاضت وطهرت طلقها أخرى ثم تعتد بعد ذلك ولنا ما روى عن علي رضي الله عنه أنه قال: لا يطلق أحد للسنة فيندم رواه الأثرم وهذا لا يحصل إلا في حق من لم يطلق ثلاثاً، وقال ابن سيرين إن علياً كرم الله وجهه قال لو أن الناس أخذوا بما أمر الله من الطلاق ما يتبع رجل نفسه امرأة أبداً يطلقها تطليقة ثم يدعها ما بينها وبين أن تحيض ثلاثاً فمتى شاء راجعها رواه البخاري بإسناده: وروى ابن عبد البر عن ابن مسعود أنه قال: طلاق السنة أن يطلقها وهي طاهر ثم يدعها حتى تنقضي عدتها أو يراجعها إن شاء.
فأما حديث ابن عمر الأول فلا حجة لهم فيه لأنه ليس فيه جمع الثلاث، وأما حديثه الآخر فيحتمل أن يكون ذلك بعد ارتجاعها ومتى ارتجع بعد الطلقة ثم طلقها كان للسنة على كل حال، حتى قال أبو حنيفة لو أمسكها بيده لشهوة ثم والى

(8/252)


بين الثلاث كان مصيبا للسنة لان يكون مرتجعاً والمعنى فيه أنه إذا ارتجعها سقط حكم الطلقة الاولى
فصارت كأنها لم توجد ولا تغني به عن الطلقة الاخرى إذا احتاج إلى فراق امرأته بخلاف ما إذا لم يرتجعها فانه مستغن عنها لافضائها الى مقصوده من ابانتها فافترقا ولأن ما ذكروه إرداف طلاق من غير ارتجاع فلم يكن للسنة كجمع الثلاث * (مسألة) * (وإن طلق المدخول بها في حيضها أو في طهر أصابها فيه فهو طلاق بدعة محرم ويقع طلاقه في قول عامة أهل العلم) قال ابن المنذر وابن عبد البر لم يخالف في ذلك إلا أهل البدع والضلال، وحكاه أبو نصر عن ابن عليه وهشام بن الحكم والشيعة قالوا لا يقع طلاقه لأن الله تعالى أمر به في قبل العدة فإذا طلق في غيره لم يقع كالوكيل إذا أوقعه في زمن أمره موكله بايقاعه في غيره ولنا حديث ابن عمر أنه طلق امرأته وهي حائض فأمره النبي صلى الله عليه وسلم بمراجعتها وفي رواية الدارقطني قال: قلت يا رسول الله أفرأيت لو أني طلقتها ثلاثاً أكان يحل لي أن أراجعها؟ قال " لا كانت تبين منك وتكون معصية " وقال نافع وكان عبد الله طلقها تطليقة فحسبت من طلاقه وراجعها كما أمره

(8/253)


رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن رواية يونس بن جبير عن ابن عمر قال قلت لابن عمر أتعتد عليه أو تحتسب عليه؟ قال نعم أرأيت إن عجز واستحمق وكلها أحاديث صحاح ولأنه طلاق من مكلف في محل الطلاق فوقع كطلاق الحامل ولأنه ليس بقربة فيعتبر لوقوعه موافقة السنة بل هو إزالة عصمة وقطع ملك فإيقاعه في زمن البدعة أولى تغليظاً عليه وعقوبة له أما غير الزوج فلا يملك الطلاق والزوج يملكه بملك محله * (مسألة) * (تستحب رجعتها وعنه أنها واجبة) إنما استحبت مراجعتها لأمر النبي صلى الله عليه وسلم بمراجعتها وأقل أحوال الأمر الاستحباب ولأنه بالرجعة يزيل المعنى الذي حرم الطلاق ولا يجب في ظاهر المذهب وهو قول الثوري والاوزاعي وابن أبي ليلى والشافعي وأصحاب الرأي وحكى ابن أبي موسى عن أحمد أن الرجعة تجب واختارها وهو قول مالك وداود لأن ظاهر الأمر الوجوب ولأن الرجعة تجري مجرى استيفاء النكاح واستيفاؤه ههنا واجب بدليل تحريم الطلاق لأن الرجعة إمساك للزوجة بدليل قوله تعالى (فأمسكوهن بمعروف) فوجب
ذلك كإمساكها قبل الطلاق، وقال مالك وداود يجبر على رجعتها.
قال أصحاب مالك يجبر على رجعتها

(8/254)


ما دامت في العدة إلا أشهب قال ما لم تطهر ثم تحيض ثم تطهر لأنه لا تجب عليه إمساكها في تلك الحال فلا تجب عليه رجعتها فيه.
ولنا أنه طلاق لا يرتفع بالرجعة فلا تجب عليه الرجعة فيه كالطلاق في طهر أصابها فيه فانهم أجمعوا على أن الرجعة لا تجب حكاه ابن عبد البر عن جميع العلماء وما ذكروه من المعنى ينتقض بهذه الصورة والأمر بالرجعة محمول على الاستحباب لما ذكرنا (فصل) فإذا راجعها وجب إمساكها حتى تطهر ويستحب أن يمسكها حتى تحيض حيضة أخرى ثم تطهر على ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عمر الذي رويناه، قال ابن عبد البر ذلك من وجوه عند أهل العلم منها أن الرجعة لا تكاد تعلم صحتها الا بالوطئ لانه المعني من النكاح ولا يحصل الوطئ إلا في الطهر فإذا وطئها حرم طلاقها فيه حتى تحيض ثم تطهر فاعتبرنا مظنة الوطئ ومحله لا حقيقته ومنها أن الطلاق كره في الحيض لتطويل العدة فلو طلقها عقيب الرجعة من غير وطئ كانت في معنى المطلقة قبل الدخول وكانت تبني على عدتها فأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم قطع حكم الطلاق بالوطئ واعتبر الطهر الذي هو موضع الوطئ فإذا وطئ حرم طلاقها حتى تحيض ثم تطهر وقد جاء في حديث عن ابن عمر

(8/255)


أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " مره أن يراجعها فإذا طهرت مسها حتى إذا طهرت أخرى فإن شاء طلقها وإن شاء أمسكها " رواه ابن عبد البر، ومنها أنه عوقب على ايقاعه في الوقت المحرم بمنعه منه في الوقت الذي يباح له وذكره غير هذا فإن طلقها في الطهر الذي يلي الحيضة قبل أن يمسها فهو طلاق سنة وقال أصحاب مالك لا يطلقها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر على ما جاء في الحديث ولنا قوله تعالى (فطلقوهن لعدتهن) وهذا مطلق للعدة فيدخل وقد روى يونس بن جبير وسعيد بن جبير وابن سيرين وزيد بن اسلم وأبو الزبير عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يراجعها حتى تطهر ثم إن شاء طلق وإن شاء أمسك ولم يذكروا تلك الزيادة وهو حديث صحيح متفق عليه
ولأنه طهر لم يمسها فيه فأشبه الطهر الثاني وحديثهم محمول على الاستحباب * (مسألة) * وإن طلقها ثلاثاً في طهر لم يصبها فيه كره وفي تحريمه روايتان) اختلفت الرواية عن احمد في جمع الثلاث فروي عنه أنه غير محرم اختارها الخرقي وهو مذهب الشافعي وأبي ثور وداود وروي ذلك عن الحسن بن علي وعبد الرحمن بن عوف والشعبي لان عويمر العجلاني لما لاعن امرأته قال كذبت عليها يا رسول الله إن أمسكتها فطلقها ثلاثاً قبل أن يأمره

(8/256)


رسول الله صلى الله عليه وسلم متفق عليه ولم ينقل إنكار النبي صلى الله عليه وسلم عليه وعن عائشة أن امرأة جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله إن رفاعة طلقني فبت طلاقي متفق عليه وفي حديث فاطمة بنت قيس أن زوجها أرسل إليها ولأنه طلاق جاز تفريقه فجاز جمعه كطلاق النساء (والرواية الثانية) أن جمع الثلاث محرم وهو طلاق بدعة اختارها أبو بكر وأبو حفص روى ذلك عن عمر وعلي وابن مسعود وابن عباس وابن عمر وهو قول مالك وابي حنيفة قال علي لا يطلق أحد للسنة فيندم وفي رواية قال يطلقها واحدة ثم يدعها ما بينها وبين أن تحيض ثلاث حيض فمتى شاء راجعها، وعن عمر أنه كان إذا أتي برجل طلق ثلاثاً أوجعه ضربأ، وعن مالك بن الحارث قال جاء رجل إلى ابن عباس فقال إن ابن عمي طلق امرأته ثلاثا فقال إن ابن عمك عصى الله وأطاع الشيطان فلم يجعل الله له مخرجاً.
ووجه ذلك قول الله تعالى (يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن) الى قوله (لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا) ثم قال بعد ذلك (ومن يتق الله يجعل له مخرجا - ومن يتق الله يجعل له من امره يسرا) ورى النسائي بإسناده عن محمود بن لبيد قال أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رجل طلق امرأته

(8/257)


ثلاث تطليقات جميعاً فغضب قال " أيلعب بكتاب الله عزوجل وأنا بين أظهركم؟ " حتى قام رجل فقال يا رسول الله ألا أقتله وفي حديث ابن عمر قال قلت يا رسول الله لو طلقتها ثلاثاً قال " إذاً عصيت ربك وبانت منك امرأتك " وروى الدارقطني بإسناده عن على قال سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً طلق البتة فغضب وقال " يتخذون آيات الله هزوا ولعبا من طلق البتة الزمناه ثلاثاً لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره " ولأنه تحريم للبضع بقول الزوج
من غير حاجة فحرم كالظهار بل هذا أولى لأن الظهار يرفع تحريمه بالتكفير وهذا لا سبيل للزوج الى دفعه بحال ولأنه ضرر وإضرار بنفسه وبامرأته من غير حاجة فيدخل في عموم النهي وربما كان وسيلة إلى عوده إليها حراماً أو بحيلة لا تزيل التحريم، ووقوع الندم خسارة الدنيا والآخرة فكان أولى بالتحريم من الطلاق في الحيض الذي ضرره بقاؤها في العدة أياماً يسيرة والطلاق في طهر مسها فيه الذي ضرره احتمال الندم بظهور الحمل فإن ضرر جمع الثلاث يتضاعف على ذلك أضعافاً كثيرة فالتحريم ثم تنبيه على التحريم ههنا ولأنه قول من سمينا من الصحابة رواه الأثرم وغيره ولم يصح عندنا في عصرهم خلاف قولهم فيكون ذلك إجماعاً، فأما حديث المتلاعنين فغير لازم فإن الفرقة لم تقع بالطلاق فإنها وقعت بمجرد لعانهما وعند الشافعي بمجرد لعان الزوج فلا حجة فيه ثم إن اللعان يوجب تحريماً مؤبداً فالطلاق بعده

(8/258)


كالطلاق بعد انفسكاخ النكاح بالرضاع أو غيره ولأن جمع الثلاث إنما حرم لما يعقبه من الندم ويحصل به من الضرر ويفوت عليه من حل نكاحها ولا يحصل ذلك بالطلاق بعد اللعان لحصوله باللعان، وسائر الأحاديث ليس فيها جمع الثلاث بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم فيكون مقراً عليه ولا حضر المطلق عند النبي صلى الله عليه وسلم حين أخبر بذلك لينكر عليه، على أن حديث فاطمة قد جاء فيه أن أرسل إليها بتطليقة كانت بقيت لها من طلاقها وحديث امرأة رفاعة جاء فيه أن طلاقها آخر ثلاث تطليقات متفق عليه فلم يكن في شئ من ذلك جمع الثلاث، ولا خلاف بين الجميع في أن الاختيار والأولى أن يطلق واحدة ثم يدعها حتى تنقضي عدتها إلا ما حكينا من قول من قال انه يطلقها في كل قرء طلقة والأولى أولى فإن في ذلك امتثالاً لأمر الله سبحانه وموافقة لقول السلف وأمنا من الندم فإنه متى ندم راجعها فإن فات ذلك بانقضاء عدتها له نكاحها قال محمد بن سيرين إن علياً كرم الله وجهه قال لو أن الناس أخذوا بما أمر الله من الطلاق ما يتبع رجل نفسه امرأة أبداً يطلقها تطليقة ثم يدعها حتى ما بينها وبين أن تحيض ثلاثاً فمتى شاء راجعها رواه النجاد بإسناده وقال عبد الله من أراد أن يطلق الطلاق الذي هو الطلاق فليمهل حتى إذا حاضت ثم طهرت طلقها تطليقة في غير جماع ثم يدعها حتى تنقضي عدتها ولا يطلقها ثلاثاً وهي حامل فيجمع الله عليه نفقتها وأجر رضاعها ويندمه فلا يستطيع إليها سبيلاً

(8/259)


(فصل) فإن طلق ثلاثاً بكلمة واحدة وقع الثلاث وحرمت عليه حتى تنكح زوجاً غيره ولا فرق بين قبل الدخول وبعده روى ذلك عن ابن عباس وأبي هريرة وابن عمر وعبد الله بن عمرو وابن مسعود وأنس وهو قول أكثر أهل العلم من التابعين والأئمة بعدهم وكان عطاء وطاوس وسعيد بن جبير وأبو الشعثاء وعمرو بن دينار يقولون من طلق البكر ثلاثاً فهي واحدة، وروى طاوس عن ابن عباس قال كان الطلاق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وسنتين من خلافه عمر طلاق الثلاث واحدة رواه أبو داود وروى سعيد بن جبير وعمرو بن دينار ومجاهد ومالك بن الحارث عن ابن عباس خلاف رواية طاوس أخرجه أيضاً أبو داود وأفتى ابن عباس بخلاف ما روي عنه طاوس وقد ذكرنا حديث ابن عمر أرأيت لو طلقها ثلاثا، وروى الدارقطني بإسناده عن عبادة بن الصامت قال طلق بعض آبائي امرأته ألفاً فانطلق بنوه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا يا رسول الله إن أبانا طلق أمنا ألفاً فهل له مخرج؟ فقال " إن أباكم لم يتق الله فيجعل له من أمره مخرجاً بانت منه بثلاث على غير السنة وتسعمائة وسبعة وتسعون إثم في عنقه " ولأن النكاح ملك يصح إزالته متفرقاً فصح مجتمعاً كسائر الاملاك، فأما حديث ابن عباس فقد صحت الرواية عنه بخلافه وافتى بخلافه قال الأثرم سألت أبا عبد الله عن حديث ابن عباس بأي شئ

(8/260)


تدفعه فقال أدفعه برواية الناس عن ابن عباس من وجوه خلافه ثم ذكر عن ابن عباس من وجوه خلافه أنها ثلاث، وقيل معنى حديث ابن عباس أن الناس كانوا يطلقون واحدة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وإلا فلا يجوز أن يخالف عمر ما كان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر ولا يسوغ لابن عباس أن يروى هذا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويفتي بخلافه (فصل) فإن طلق ثنتين في طهر ثم تركها حتى انقضت عدتها فهو للسنة لانه يحرمها على نفسه ولم يسد على نفسه المخرج من الندم ولكنه ترك الاختيار لأنه فوت على نفسه طلقة جعلها الله له من غير فائدة يحصل بها فكان مكروهاً كتضييع المال، فإن كانت المرأة صغيرة أن آيسة أو غير مدخول بها أو حاملاً قد استبان حملها فلا سنة لطلاقها ولا بدعة إلا في العدد، فإذا قال لها أنت طالق للسنة أو قال للبدعة
طلقت في الحال واحدة قال ابن عبد البر أجمع العلماء أن طلاق السنة إنما هو للمدخول بها فأما غير المدخول بها فليس لطلاقها سنة ولا بدعة إلا في عدد الطلاق على اختلاف بينهم فيه وذلك لأن الطلاق في حق المدخول بها إذا كانت من ذوات الاقراء إنما كان له سنة وبدعة لان العدة تطول عليها بالطلاق في الحيض وترتاب بالطلاق في الطهر الذي جامعها فيه وينتفي عنها الأمران بالطلاق في الطهر

(8/261)


الذي لم يجامها فيه، أما غير المدخول بها فلا عدة عليها تبقى بتطويلها أو الارتياب فيها وكذلك ذوات الأشهر كالصغيرة التي لم تحض، والآيسات من المحيض لا سنة لطلاقهن ولا بدعة لأن العدة لا تطول بطلاقها في حال ولا تحمل فترتاب، وكذلك الحامل التي استبان حملها فهؤلاء كلهن ليس لطلاقهن سنة ولا بدعة من جهة الوقت في قول أصحابنا وهو مذهب الشافعي وكثير من أهل العلم، فإذا قال لاحدى هؤلاء أنت طالق للسنة أو للبدعة وقعت طلقة في الحال ولغت الصفة لان طلاقها لا يتصف بذلك فصار كأنه قال أنت طالق ولم يزد، وكذلك إن قال أنت طالق للسنة والبدعة أو قال أنت طالق لا للسنة ولا للبدعة طلقت في الحال لأنه وصف الطلقة بصفتها ويحتمل كلام الخرقي إن يكون للحامل طلاق سنة لأنه طلاق أمر به لقوله عليه الصلاة والسلام " ثم ليطلقها طاهراً أو حاملاً " رواه مسلم وهو ظاهر كلام أحمد فإنه قال أذهب إلى حديث سالم عن ابيه يعني هذا الحديث ولأنها في حال انتقلت إليها بعد زمن البدعة ويمكن أن تنتقل عنها الى زمان البدعة فكان طلاقها طلاق سنة كالطاهر من الحيض من غير مجامعة، ويتفرع منه أنه لو قال لها أنت طالق للبدعة لم تطلق في الحال فإذا وضعت الحمل طلقت لأن النفاس زمان بدعة كالحيض.
وقوله إلا في العدد يعني أنه يكره له أن يطلق ثلاثاً أو يحرم لأنه إذا طلق ثلاثاً لم يبق له سبيل الى الرجعة فطلاق السنة في حقهم أن يكون واحدة ليكون له سبيلاً الى تزوجها من غير أن تنكح زوجاً غيره (فصل) وإن قال لصفيرة أو غير مدخول بها أنت طالق للبدعة ثم قال أردت إذا حاضت الصغيرة أو أصيبت غير المدخول بها أو قال لهما أنتما طالقتان للسنة أو قال أردت طلاقهما في زمن يصير طلاقهما فيه للسنة دين فيما بينه وبين الله تعالى، وهل يقبل في الحكم؟ فيه وجهان ذكرهما القاضي (أحدهما) لا يقبل

(8/262)


وهو أشبه بالمذهب لأنه فسر كلامه بما يحتمله فيقبل كما لو قال أنت طالق وقال أردت بالثانية إفهامها (فصل) إذا قال لها في طهر جامعها فيه أنت طالق للسنة فيئست من الحيض لم تطلق لأنه وصف طلاقها بأنه للسنة في زمن يصلح له فإذا صارت آيسة فليس لطلاقها سنة فلم توجد الصفة فلا يقع وكذلك إن استبان حملها لم يقع أيضاً إلا على قول من جعل طلاق الحامل سنة فإنه ينبغي أن يقع لوجود الصفة كما لو حاضت ثم طهرت * (مسألة) * (وإن قال لمن لها سنة وبدعة أنت طالق في طهر لم يصبها فيه طلقت إذا طهرت من الحيضة المستقبلة) إذا قال لامرأته أنت طالق للسنة فمعناه في وقت السنة فإن كانت في طهر غير مجامعة فيه فهو وقت السنة على ما أسلفناه، وكذلك إن كانت حاملاً قد استبان حملها على ظاهر كلام أحمد وقد ذكرنا الخلاف في الحامل فإذا قال لها أنت طالق للسنة في الحالتين طلقت لأنه وصف الطلقة بصفتها فوقعت في الحال وإن قال ذلك لحائض لم يقع في الحال لأن طلاقها طلاق بدعة لكن إذا طهرت طلقت لأن الصفة وجدت حينئذ فصار كأنه قال أنت طالق في النهار فان كان في النهار طلقت وإن كان في الليل

(8/263)


طلقت إذا جاء النهار وإن كانت في طهر جامعها فيه لم يقع حتى تحيض ثم تطهر لأن الطهر الذي جامعها فيه والحيض بعده زمان بدعة فإذا طهرت من الحيضة المستقبلة طلقت حينئذ لأن الصفة وجدت وهذا مذهب أبي حنيفة والشافعي، فإن أولج في آخر الحيضة واتصل بأول الطهر أو أولج مع أول الطهر لم يقع الطلاق في ذلك الطهر لكن متى جاء طهر لم يجامعها فيه طلقت في أوله وهذا كله مذهب الشافعي ولا أعلم فيه مخالفاً (فصل) (إذا انقطع الدم من الحيض فهو زمان السنة يقع عليها طلاق السنة وإن لم تغتسل كذلك قال أحمد وهو ظاهر كلام الخرقي وبه قال الشافعي وقال أبو حنيفة إن طهرت لأكثر الحيض مثل ذلك وإن انقطع الدم لدون أكثره لم يقع حتى تغتسل أو تتيمم عند عدم الماء أو تصلي أو يخرج عنها وقت الصلاة لأنه متى لم يوجد فما حكمنا بانقطاع حيضها ولنا أنها طاهر فوقع بها طلاق السنة كالتي طهرت لأكثر الحيض، والدليل على أنها طاهر أنها
تؤمر بالغسل ويلزمها ويصح منها وتؤمر بالصلاة وتصح صلاتها ولأن في حديث ابن عمر " فإذا طهرت طلقها إن شاء " وما قاله لا يصح فانا لو لم نحكم بالطهر لما أمرناها بالغسل ولا صح منها * (مسألة) * (وإن قال لها أنت طالق للبدعة وهي حائض أو في طهر أصابها فيه طلقت في الحلال

(8/264)


وإن كان في طهر لم يصبها فيه طلقت إذا أصابها أو حاضت هذه المسألة عكس المسألة التي قبلها فإنه وصف الطلقة بأنها للبدعة فإذا كان ذلك لحائض أو طاهر مجامعة فيه وقع الطلاق في الحال لأنه وصف الطلقة بصفتها وإن كانت في طهر لم يصبها فيه لم يقع في الحال فإذا حاضت طلقت بأول الحيض وإن أصابها طلقت بالتقاء الختانين فإن نزع من غير توقف فلا شئ عليهما وإن أولج بعد النزع فقد وطئ مطلقته ويأتي بيان حكم ذلك وإن وطئها واستدام فسنذكرها إن شاء الله تعالى فيما بعد (فصل) فإن قال لطاهر أنت طالق للبدعة في الحال فقد قيل تلغوا الصفة ويقع الطلاق لأنه وصفها بما لا تصف به فلغت الصفة دون الطلاق ويحتمل أن تطلق ثلاثاً في الحال لأن ذلك طلاق بدعة فانصرف الوصف بالبدعة إليه لتعذر صفة البدعة من الجهة لاخرى، وإن قال للحائض أنت طالق للسنة في الحال لغت الصفة ووقع الطلاق لأنه وصف الطلقة بما لا تنصف به، وإن قال أنت طالق ثلاثا للسنة وثلاثاً للبدعة طلقت ثلاثاً في الحال بناء على ما سنذكره * (مسألة) * (وإن قال لها أنت طالق ثلاثا للسنة طلقت ثلاثاً في طهر لم يصبها فيه في إحدى الروايتين، وفي الاخرى تطلق في الحال واحدة وتطلق الثانية والثالثة في طهرين في نكاحين إن أمكن)

(8/265)


المنصوص عن أحمد في هذه المسألة أنها تطلق ثلاثاً إن كانت في طهر لم يجامعها فيه، وإن كانت حائضا طلقت ثلاثاً إذا طهرت وهذا مذهب الشافعي وقال القاضي وابو الخطاب هذا على الرواية التي قال فيها ان جمع الثلاث سنة فأما على الرواية الأخرى فإذا طهرت طلقت واحدة وتطلق الثانية والثالثة في نكاحين آخرين أو بعد رجعتين، وقد أنكر أحمد هذا القول فقال في رواية مهنا إذا قال لامرأته أنت طالق ثلاثاً للسنة فقد اختلفوا فيه فمنهم من يقول
يقع عليها الساعة واحدة فلو راجعها تقع عليها تطليقة أخرى وتكون عنده على أخرى وما يعجبني قولهم هذا فيحتمل أن أحمد أوقع الثلاث لأن ذلك عنده سنة، ويحتمل أنه أوقعها لوصفه الثلاث بما لا تتصف به فألغى الصفة وأوقع الطلاق كما لو قال لحائض أنت طالق في الحال للسنة، وقد قال في رواية أبي الحارث ما يدل على هذا؟ قال يقع عليها الثلاث ولا معنى لقوله للسنة، وقال أبو حنيفة يقع في كل قرء طلقة وان كانت من ذوات الأشهر وقع في كل شهر طلقة وبنى على أصله في أن السنة تفريق الثلاث على الأطهار، وقد بينا أن ذلك في حكم جمع الثلاث فإن قال أردت بقولي للسنة إيقاع واحدة في الحال واثنتين في نكاحين آخرين قبل منه، وإن قال أردت أن يقع في كل قرء طلقة قبل أيضاً لأنه مذهب

(8/266)


طائفة من أهل العلم، وقد ورد به الاثرم فلا يبعد أن يريده قال أصحابنا يدين وهل يقبل في الحكم؟ على وجهين (أحدهما) لا يقبل لأن ذلك ليس بسنة (والثاني) يقبل لما قدمنا.
فإن كانت في زمن البدعة فقال سبق لساني الى قولي للسنة ولم أرده وإنما أردت الإيقاع في الحال وقع في الحال لأنه ملك لايقاعها فإذا اعترف بما يوقعها قبل منه (فصل) فإن قال أنت طالق ثلاثاً بعضهن للسنة وبعضهن للبدعة طلقت في الحال طلقتين وتأخرت الثالثة الى الحال الآخرى لانه سوى بين الحالتين فأقتضى الظاهر أن يكونا سواء فيقع في الحال واحدة ونصف ثم يكمل النصف لكون الطلاق لا يتبعض.
ويحتمل أن يقع طلقة ويتأخر اثنتان الى الحال الأخرى لأن البعض يقع على ما دون الكل ويتناول القليل من ذلك والكثير فيقع أقل ما يقع عليه الاسم لأنه اليقين وما زاد لا يقع بالشك فيتأخر الى الحال الأخرى فإن قيل لم لا يقع من كل طلقة بعضها ثم يكمل فتقع الثلاث؟ قلنا متى امكنت القسمة من غير تكسير وجبت القسمة على الصحة فإن قال نصفهن للسنة ونصفهن للبدعة وقع في الحال اثنتان وتأخرت الثالثة وإن قال طلقتان للسنة وواحدة للبدعة أو طلقتان للبدعة وواحدة للسنة فهو على ما قال فإن طلق ثم قال نويت ذلك إن فسر نيته بما

(8/267)


يوقع في الحال طلقت وقبل لأنه يقتضي الإطلاق ولانه غير متهم فيه وإن فسرها بما يوقع طلقة واحدة
ويؤخر اثنتين دين فيما بينه وبين الله تعالى وهل يقبل في الحكم؟ فيه وجهان (أظهرهما) أنه يقبل لأن البعض حقيقة في القليل والكثير فما فسر كلامه به لا يخالف الحقيقة فيجب أن يقبل (والثاني) لا يقبل لأنه فسر كلامه بأخف مما يلزمه حالة الإطلاق ومذهب الشافعي على نحو هذا فإن قال أنت طالق ثلاثاً بعضهن للسنة ولم يذكر شيئاً آخر احتمل أن تكون كالتي قبلها لأنه يلزم من ذلك أن يكون بعضها للبدعة فأشبه ما لو صرح به ويحتمل أن لا يقع في الحال إلا واحدة لأنه لم يسو بين الحالين والبعض لا يقتضي النصف فتقع الواحدة لأنها اليقين والزائد لا يقع بالشك وكذلك لو قال بعضها للسنة وباقيها للبدعة أو سائرها للبدعة (فصل) إذا قال أنت طالق إذا قدم زيد فقدم وهي حائض طلقت للبدعة إلا أنه لا يأثم لأنه لم يقصده وإن قالت أنت طالق إذا قدم للسنة فقدم زيد في زمان السنة طلقت وإن قدم في زمان البدعة لم يقع حتى إذا صارت الى زمن السنة وقع ويصير كأنه قال إن قدم زيد أنت طالق للسنة لأنه أوقع الطلاق بقدوم زيد على صفة فلا يقع إلا عليها وإن قال لها أنت طالق للسنة إذا قدم زيد قبلى أن يدخل

(8/268)


بها طلقت عند قدومه حائضاً كانت أو طاهراً لأنها لا سنة لطلاقها ولا بدعة وإن قدم بعد دخوله بها وهي في طهر لم يصبها فيه طلقت وإن قدم في زمن البدعة لم تطلق حتى يجئ زمن السنة لأنها صارت ممن لطلاقها سنة وبدعة وإن قال لامرأته أنت طالق إذا جاء رأس الشهر للسنة فكان رأس الشهر في زمن السنة وقع وإلا وقع إذا جاء زمان السنة.
* (مسألة) * (وإن قال لها أنت طالق في كل قرء طلقة وهي من اللائي لم يحضن لم تطلق حتى تحيض فتطلق في كل حيضة طلقة) وان كانت من ذوات القروء وقع في كل قرء طلقة فإن كانت في القرء أوقعت بها واحدة في الحال ووقع بها طلقتان في قرأين آخرين في أولهما سواء قلنا القرء الحيض أو الاطهار، وسواء كانت مدخولا بها أو غير مدخول بها، إلا أن غير المدخول بها تبين بالطلقة الاولى فإن تزوجها وقع بها في القرء الثاني طلقة أخرى وكذلك الحكم في الثالثة فان كانت من اللائي لم يحضن وقلنا القرء
الحيض لم تطلق حتى تحيض فتطلق في كل حيضة طلقة، وإن قلنا القرء الاطهار احتمل أن تطلق في الحال واحدة ثم لا تطلق حتى تحيض ثم تطهر فتطلق الثانية ثم الثالثة في القرء، لأن الطهر قبل الحيض كله قرء واحد، واحتمل أن لا تطلق حتى تطهر بعد الحيض لان القرء هو الطهر بين

(8/269)


حيضتين وكذلك لو حاضت الصغيرة في عدتها لم تحتسب بالطهر الذي قبل الحيض من عدتها في أحد الوجهين، والحكم في الحامل كالحكم في الصغيرة لأن زمن الحمل كله قرء واحد في أحد الوجهين إذا قلنا الاقراء الاطهار، والوجه الآخر ليس بقرء على كل حال، وإن كانت آيسة فقال القاضي تطلق واحدة على كل حال لأنه علق طلاقها بصفة يستحيل فيها فلغت ووقع بها الطلاق كما لو قال لها: أنت طالق للبدعة، وإذا طلقت الحامل في حال حملها بانت بوصفه لأن عدتها تنقضي به فلم يلحقها طلاق آخر فان استأنف أو راجعها قبل وضع حملها ثم طهرت من النفاس طلقت أخرى ثم إذا حاضت ثم طهرت وقعت الثالثة (فصل) فإن قال أنت طالق للسنة ان كان الطلاق يقع عليك للسنة وهي في زمن السنة طلقت بوجود الصفة، وإن لم تكن في زمن السنة انحلت الصفة ولم يقع بحال لأن الشرط ما وجد وكذلك إن قال أنت طالق للبدعة ان كان الطلاق يقع عليك للبدعة، وإن كانت في زمن البدعة وقع، وإلا لم يقع بحال فان كانت ممن لا سنة لطلاقها ولا بدعة فذكر القاضي فيها احتمالين (أحدهما) لا يقع في المسئلتين لأن الصفة ما وجدت فأشبه ما لو قال: أنت طالق إن كنت هاشمية ولم تكن كذلك.

(8/270)


(والثاني) تطلق لأنه شرط لوقوع الطلقة شرطاً مستحيلاً فلغى ووقع الطلاق، والأول أشبه، وللشافعي وجهان كهذين.
* (مسألة) * (وإن قال أنت طالق أحسن الطلاق أو أجمله فهو كقوله أنت طالق للسنة) وكذلك إن قال أعدله أو أكمله أو أتمه أو أو فضله أو طلقة جليلة أو سنية، فكذلك كله عبارة
عن طلاق السنة، وبه قال الشافعي وقال محمد بن الحسن إذا قال أعدل الطلاق أو أحسنه كقولنا، وإن قال سنته أو أعدله وقع الطلاق في الحال لأن الطلاق لا يتصف بالوقت والسنة والبدعة وقت، فإذا وصفها بما لا تتصف به سقطت الصفة كما لو قال لغير المدخول بها: أنت طالق طلقة رجعية، أو قال لها أنت طالق للسنة أو للبدعة.
ولنا أن ذلك عبارة عن طلاق السنة ويصح وصف الطلاق بالسنة والحسن لكونه في ذلك الوقت موافقاً للسنة مطابقاً للشرع فهو كقوله أحسن، وفارق قوله طلقة رجعية، لأن الرجعية لا تكون إلا في عدة ولا عدة لها فلا يحصل ذلك بقوله فإن قال نويت بقولي أعدل الطلاق وقوعه في زمان الحيض لأنه أشبه بأخلاقها القبيحة ولم أرد الوقت وكانت في الحيض وقع الطلاق لأنه اقرار على نفسه بما فيه تغليظ، وإن كانت في حال السنة دين فيما بينه وبين الله تعالى وهل يقبل في الحكم؟ على وجهين فيما تقدم.

(8/271)


* (مسألة) * (وإن قال أقبحه أو أسمجه أو أفحشه أو أردأه أو ألكعه حمل على طلاق البدعة) فإن كانت في وقت البدعة وإلا وقف على مجئ زمان البدعة وحكي عن أبي بكر أنه يقع ثلاثاً إن قلنا إن جمع الثلاث بدعة وينبغي أن يقع الثلاث في وقت البدعة ليكون جامعاً لبدعتي الطلاق فيكون أقبح الطلاق، وإن نوى بذلك غير طلاق البدعة نحو أن يقول إنما أردت أن طلاقك أقبح الطلاق لأنك لا تستحقينه لحسن عشرتك وجميل طريقتك وقع في الحال، وإن قال أردت بذلك طلاق السنة ليتأخر الطلاق عن نفسه الى زمن السنة لم يقبل، لأن لفظه لا يحتمله.
* (مسألة) * (وإن قال أردت أن أحسن أحوالك أو أقبحها أن تكوني مطلقة فيقع في الحال) لأن هذا يوجد في الحال فوقع فيه.
* (مسألة) * (وإن قال أنت طلق مطلقة حسنة قبيحة فاحشة جميلة تامة ناقصة وقع في الحال) لأنه وصفها بصفتين متضادتين فلغتا وبقي مجرد الطلاق فوقع فإن قال أردت أنها حسنة لكونها في
زمان السنة وقبيحة لاضرارها بك أو قال أردت أنها حسنة لتخليصي من شرك وسوء خلقك وقبيحة

(8/272)


لكونها في زمن البدعة وكان ذلك يؤخر وقوع الطلاق وهل يقبل في الحكم؟ يخرج على وجهين (فصل) فإن قال أنت طالق الحرج فقال القاضي معناه طلاق البدعة لأن الحرج الضيق والاثم فكأنه قال طلاق الاثم وطلاق البدعة طلاق الاثم وحكى ابن المنذر عن علي رضي الله عنه أنه يقع ثلاثاً لأن الحرج الضيق والذي يضيق عليه ويمنعه الرجوع إليها ويمنعها الرجوع هو الثلاث وهو مع ذلك طلاق بدعة وفيه اثم فيجتمع عليه الأمران الضيق والاثم، وإن قال طلاق الحرج والسنة كان كقوله طلاق السنة والبدعة * (باب صريح الطلاق وكنايته) * لا يقع الطلاق بغير لفظه فلو نواه بقلبه من غير لفظ لم يقع في قول علمة أهل العلم منهم عطاء وجابر ابن زيد وسعيد بن جبير ويحيى بن أبي كثير والشافعي واسحاق وروي أيضاً عن القاسم وسالم والحسن والشعبي وقال الزهري إذا عزم على ذلك طلقت وقال ابن سيرين فيمن طلق في نفسه أليس قد علمه الله

(8/273)


ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " ان الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تكلم به أو تعلم " رواه النسائي والترمذي وقال هذا حديث صحيح ولأنه تصرف يزيل الملك فلم يحصل بمجرد النية كالبيع والهبة وكذلك إن نواه بقلبه وأشار بأصبعه فإنه لا يقع لما ذكرناه.
إذا ثبت أنه يعتبر له اللفظ فهو يتصرف إلى صريح وكناية، فصريحه لفظ الطلاق وما تصرف منه في الصحيح وهو اختيار ابن حامد فإذا قال أنت طالق أو مطلقة أو قال طلقتك وقع الطلاق من غير نية، والكناية لا يقع بها الطلاق حتى ينويه أو يأتي بما يقوم مقام نيته * (مسألة) * (وقال الخرقي صريحه ثلاثة ألفاظ الطلاق والفراق والسراح وما تصرف منهن) وهذا مذهب الشافعي ومذهب أبي حنيفة أن صريحه يختص بلفظ الطلاق وما تصرف منه ووجه هذا القول إن لفظ الفراق والسراح يستعملان في غير الطلاق كثيراً فلم يكونا صريحين فيه كسائر
كناياته، ووجه قول الخرقي أن هذه الألفاظ ورد بها الكتاب في الفرقة بين الزوجين فكانا صريحين فيه كلفظ الطلاق قال الله تعالى (فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان) وقال (فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف) وقال سبحانه (وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته) وقال سبحانه (فتعالين أمتعكن

(8/274)


وأسرحكن سراحا جميلا) والقول الأول أصح فإن الصريح في الشئ ما كان نصاً فيه لا يحتمل غيره إلا احتمالاً بعيداً، ولفظه الفراق والسراح إن وردت في القرآن بمعنى الفرقة بين الزوجين فقد وردت فيه لغير ذلك المعنى وفي العرف كثيراً قال الله تعالى (واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا) وقال (وما تفرق الذين أوتوا الكتاب) فلا معنى لتخصيصه بفرقه الطلاق على أن قوله (أو فارقوهن بمعروف) لم يرد به الطلاق وإنما هو ترك ارتجاعها وكذلك قوله (أو تسريح بإحسان) ولا يصح قياسه على لفظ الطلاق فإنه مختص بذلك سابق الى الافهام من غير قرينة ولا دلالة بخلاف الفراق والسراح * (مسألة) * (فمتى أتى بصريح الطلاق وقع نواه أو لم ينوه) وجملة ذلك أن الصريح لا يحتاج إلى نية بل يقع من غير قصد فمتى قال أنت طالق أو مطلقة أو طلقتك وقع من غير نية بغير خلاف لأن ما يعتبر له القول يكتفى فيه به من غير نية إذا كان صريحاً فيه كالبيع سواء قصد المزح او الجد لقول النبي صلى الله عليه وسلم " ثلاث جدهن جد وهزلهن جد: النكاح والطلاق والرجعة " رواه أبو داود والترمذي وقال حديث حسن صحيح، قال إبن المنذر أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن جد الطلاق وهزله سواء روي هذا عن عمر بن الخطاب وابن مسعود ونحوه عن عطاء وعبيدة وبه قال الشافعي وأبو عبيد قال أبو عبيد هو قول سفيان وأهل العراق.
فأما لفظ الفراق

(8/275)


والسراح فينبني على الخلاف فيه، فمن جعله صريحاً اوقع به الطلاق من غير نية ومن جعله كناية لم يوقع به الطلاق حتى ينويه ويكون بمنزله الكنايات الخفية، فإن قال أردت بقولي فارقتك اي بجسمي أو بقلبي أو بمذهبي او سرحتك من يدي أو شغلي او من حبسي او سرحت شعرك قبل قوله
* (مسألة) * (فإن نوى بقوله أنت طالق من وثاق أو أراد أن يقول طاهر فسبق لسانه أو أراد أنها مطلقة من زوج كان قبله لم تطلق فإن أدعى ذلك دين، وهل يقبل في الحكم؟ على روايتين إلا أن يكون في حال الغضب أو بعد سؤالها الطلاق فلا يقبل) إذا نوى بقوله أنت طالق من وثاق أو قال أردت أن أقول طلبتك فسبق لساني فقلت طلقتك أو نحو ذلك دين فيما بينه وبين الله تعالى (فمتى علم من نفسه ذلك لم يقع عليه فيما بينه وبين ربه) قال أبو بكر لا خلاف عن أبي عبد الله أنه إذا أراد أن يقول لزوجته اسقيني ماء فسبق لسانه فقال أنت طالق أو أنت حرة أنه لا طلاق فيه ونقل ابن منصور عنه أنه سئل عن رجل حلف فجرى على لسانه غير ما في قلبه فقال أرجو أن يكون الآمر فيه واسعاً، وهل تقبل دعواه في الحكم؟ ينظر فإن كان في حال الغضب أو سؤالها الطلاق لم يقبل في الحكم لأن لفظه ظاهر في الطلاق وقرينة حاله تدل عليه فكانت دعواه

(8/276)


مخالفة للظاهر من وجهين فلا تقبل وإن لم يكن في هذه الحال فظاهر كلام أحمد في رواية ابن منصور وأبي الحارث أنه يقبل قوله وهو قول جابر بن زيد والشعبي والحكم حكاه عنهم أبو حفص لأنه فسر كلامه بما يحتمله احتمالا غير بعيد فقبل كما لو قال أنت طالق أنت طالق وقال أردت بالثانية إفهامها، وقال القاضي فيه روايتان (احداهما) التي ذكرناها قال وهي ظاهر كلام أحمد (والثانية) لا يقبل وهو مذهب الشافعي لأنه خلاف ما يقتضيه الظاهر في العرف فلم يقبل في الحكم كما لو اقر بعشرة ثم قال زيوفاً او صغاراً أو الى شهر، فأما أن صرح بذلك في اللفظ فقال طلقتك من وثاقي أو فارقتك بجسمي أو سرحتك من يدي فلا شك أن الطلاق لا يقع لأن ما يتصل بالكلام يصرفه عن مقتضاه كالاستثناء والشرط وذكر أبو بكر في قوله أنت مطلقة إن هو نوى أنها مطلقة طلاقاً ماضياً من زوج كان قبله لم يكن عليه شئ، وإن لم ينو شيئاً فعلى قولين أحدهما يقع والثاني لا يقع وهذا من قوله يقتضي أن تكون هذه اللفظة غير صريحة في أحد القولين قال القاضي والمنصوص عن أحمد أنه صريح وهو صحيح لأن هذه متصرفة من لفظ الطلاق فكانت صريحة فيه كقوله أنت طالق، فإن قال أردت بقولي انها مطلقة من زوج كان قبلي ففيه وجه ثالث أنه يقبل إن كان وجد لأن كلامه يحتمله ولا يقبل إن لم يكن وجد لأنه لا يحتمله وقد ذكرنا في
ذلك روايتين غير هذا الوجه

(8/277)


* (مسألة) * (ولو قيل له أطلقت امرأتك فقال نعم وأراد الكذب طلقت ولو قيل له ألك امرأة قال لا واراد الكذب لم تطلق) أما إذا قيل له أطلقت امرأتك قال نعم أو قيل له امرأتك طالق فقال نعم طلقت امرأته وإن لم ينو وهذا الصحيح من مذهب الشافعي واختاره المزني لأن نعم صريح في الجواب والصريح للفظ الصريح صريح، ألا ترى لو قيل له لفلان عليك ألف؟ قال نعم وجب عليه فإن قيل له أطلقت امرأتك فقال قد كان بعض ذلك وقال اردت الإيقاع وقع وإن قال أردت أنني علقت طلاقها بشرط قبل لأن ما قاله محتمل وإن قال أردت الاخبار عن شئ ماض أو قيل له ألك امرأة فقال قد طلقتها ثم قال إنما أردت أني طلقتها في نكاح آخر دين فيما بينه وبين الله تعالى وإما في الحكم فإن لم يكن وجد ذلك منه لم يقبل وإن كان وجد فعلى وجهين، وأما إذا قيل له ألك امرأة فقال لا وأراد به الكذب لم يلزمه شئ لأن قوله لي امرأة كناية يفتقر الى نية الطلاق وإذا نوى الكذب فما نوى الطلاق فلم يقع وهكذا لو نوى إنه ليس لي امرأة تخدمني أو ترضيني أو أنني كمن لا امرأة له أو لم ينو شيئاً لم تطلق لعدم النية المشترطة في الكناية وإن أراد بهذا اللفظ طلاقها طلقت لأنها كناية صحبتها النية وبهذا قال الزهري ومالك وحماد بن أبي سليمان

(8/278)


وابو حنيفة والشافعي وقال أبو يوسف ومحمد لا تطلق لأن هذا ليس بكناية ولكنه خبر هو كاذب فيه وليس بإيقاع ولنا أنه محتمل للطلاق لأنه إذا طلقها فليست له بامرأة فأشبه قوله أنت بائن وغيرها من الكنايات الظاهرة وبهذا يبطل قولهم (فصل) فأما لفظة الإطلاق فليست صريحة في الطلاق لأنها لم يثبت لها عرف الشرع ولا الاستعمال فأشبهت سائر كناياته، وذكر القاضي فيها احتمالاً أنها صريحة لأنه لا فرق بين فعلت وأفعلت نحو عظمته وأعظمته وكرمته وأكرمته، وليس هذا الذي ذكره مطرداً فإنهم يقولون حييته من التحية واحييته من
الحياة وأصدقت المرأة صداقاً وصدقت حديثها تصديقاً ويفرقون بين أقبل وقبل ودبر وأدبر وبصر وأبصر ويفرقون بين المعاني المختلفة بحركة أو حرف فيقولون حمل لما في البطن وبالكسر لما على الظهر والوقر بالفتح الثقل في الأذن وبالكسر لنقل الحمل، وههنا فرقوا بين قيد النكاح بالتضعيف في أحدهما والهمزة في الآخر ولو كان معنى اللفظين واحداً لقيل طلقت الأسير والفرس والطائر وطالق وطلقت الدابة فهي طالق ومطلقة ولم يسمع هذا في كلامهم وهذا مذهب الشافعي

(8/279)


* (مسألة) * (وإن لطم امرأته أو أطعمها أو أسقاها وقال هذا طلاقك طلقت إلا أن ينوي أن هذا سبب طلاقك أو نحو ذلك لأن هذا اللفظ كناية في الطلاق إذا نواه به وقع ولا يقع من غير نية أو دلالة حال لأنه أضاف إليها الطلاق فوقع بها كما لو قال أنت طالق) وقال ابن حامد تطلق من غير نية لان تقديره أوقعت عليك طلاقاً هذا الضرب من أجله فعلى قوله يكون صريحاً وقال أكثر الفقهاء ليس بكناية ولا يقع به طلاق وإن نوى لأن هذا لا يؤدي معنى الطلاق ولا هو سبب له ولا حكم فيه فلم يصح التعبير به عنه كما لو قال غفر الله لك.
ولنا على أنه كناية انه يحتمل هذا التفسير الذي ذكره ابن حامد ويحتمل أن يكون سبباً للطلاق لكون الطلاق معلقاً عليه فصح أن يعبر به عنه ولأن الكناية ما احتملت الطلاق وهذا يحتمله لأنه يجوز أن يكون قد علق طلاقها فلما فعله قال هذا طلاقك اخباراً لها فلزمه ذلك كقوله اعتدى، ويدل على أنه ليس بصريح انه احتاج الى التقدير والصريح لا يحتاج إلى تقدير فيكون كناية، فإن نوى ان هذا سبب طلاقك أو نحو ذلك فلا تطلق لأنه إذا أراد سبب الطلاق جاز أن يكون سبباً له في زمان بعد هذا الزمان * (مسألة) * (وإن قال أنت طالق لا شئ أو ليس بشئ أو لا يلزمك طلقت) وكذلك إن قال أنت طالق طلقة لا تقع عليك أو طالق طلقة لا ينقضي بها عدد طلاقك لان ذلك

(8/280)


ورفع لجميع ما اوقعه فلم يصح كاستثناء الجميع، وإن كان ذلك خبراً فهو كذب لأن الواحدة إذا أوقعها وقعت وهذا مذهب الشافعي ولا نعلم فيه مخالفاً
* (مسألة) * (وإن قال أنت طالق أولا؟ أو طالق واحدة أولا؟ لم تطلق) لأن هذا استفهام فإذا اتصل به خرج عن أن يكون لفظاً لايقاع ويخالف المسألة قبلها لانه إيقاع ويحتمل أن يقع لأن لفظه لفظ الإيقاع لا لفظ الاستفهام لأن لفظ الاستفهام يكون بالهمزة أو نحوها فيقع ما أوقعه ولا يرتفع بما ذكره بعده كالتي قبلها، وكذلك إن قال أنت طالق واحدة أولا؟ وبه قال أبو حنيفة وأبو يوسف وهو قياس قول الشافعي وقال محمد في هذه تقع واحدة لأن قوله أولا يرجع إلى ما يليه من اللفظ وهو واحدة دون لفظ الإيقاع ولا يصح لأن واحدة صفة للطلقة الواقعة فما اتصل بها رجع إليها فصار كقوله أنت طالق أولا؟ * (مسألة) * (وإن كتب طلاق امرأته ونوى الطلاق وقع وإن نوى تجويد خطه أو غم أهله لم يقع وهل تقبل دعواه في الحكم؟ على روايتين) إذا كتب طلاق زوجته ونوى الطلاق طلقت زوجته وبهذا قال الشعبي والنخعي والزهري والحكم

(8/281)


وأبو حنيفة ومالك وهو المنصوص عن الشافعي وذكر بعض أصحابه أن له قولاً آخر أنه لا يقع به طلاق وإن نواه لأنه فعل من قادر على النطق فلم يقع به الطلاق كالإشارة ولنا أن الكتابة حروف يفهم منها الطلاق فإذا أنى فيها بالطلاق وفهم منها ونواه وقع كاللفظ ولأن الكتابة تقوم مقام الكاتب بدلالة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان مأموراً بتبليغ رسالته فجعل ذلك في حق البعض بالقول وفي حق آخرين بالكتابة الى ملوك الاطراف ولأن كتاب القاضي يقوم مقام لفظه في إثبات الديون والحقوق فإن نوى بذلك تجويد خطه أو تجربة قلمه لم يقع لأنه لو نوى باللفظ غير الإيقاع لم يقع فالكتابة أولى، وإذا ادعى ذلك دين فيما بينه وبين الله تعالى ويقبل في الحكم في أصح الوجهين لأن ذلك يقبل في اللفظ الصريح في أحد الوجهين فههنا مع أنه ليس بلفظ أولى، وإن قال نويت غم أهلي فقد قال في رواية أبي طالب فيمن كتب طلاق زوجته ونوى الطلاق وقع، وان أراد أن يغم أهله فقد عمل في ذلك أيضاً يعني أنه يؤاخذ به لقول النبي صلى الله عليه وسلم " عفي لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تكلم أو تعمل به " فظاهر هذا أنه أوقع الطلاق لان غم أهله يحصل بالطلاق
فيجتمع غم أهله ووقوع طلاقه كما لو قال أنت طالق يريد به غمها، ويحتمل أن لا يقع لأنه أراد غم أهله بتوهم الطلاق دون حقيقته فلا يكون ناوياً للطلاق والخبر إنما يدل على مؤاخذته بما نواه عند العمل به أو الكلام وهذا لم ينو طلاقاً فلا يؤاخذ به

(8/282)


* (مسألة) * (وإن لم ينو شيئاً) فقال أبو الخطاب قد خرجها القاضي والشرف في الإرشاد على روايتين (إحداهما) يقع وهو قول الشعبي والنخعي والزهري والحكم لما ذكرنا من أن الكتابة تقوم مقام اللفظ (والثانية) لا يقع إلا بنيته وهو قول أبي حنيفة ومالك ومنصوص الشافعي لأن الكتابة محتملة فإنه يقصد بها تجربة القلم أو تجويد الخط وغم الأهل فلم يقع من غير نية ككنايات الطلاق * (مسألة) * (وإن كتبه بشئ لا يبين مثل بأصبعه على وسادة أو في الهواء فظاهر كلام أحمد أنه لا يقع) وقال أبو حفص العكبري يقع، ورواه الأثرم عن الشعبي لأنه كتب حروف الطلاق فأشبه ما لو كتبه بشئ يبين والأول أولى لأن الكتابة لا تبين كالهمس بالفم بما لا يستين وثم لا يقع فههنا أولى (فصل) ولا يقع الطلاق بغير لفظ الا في موضعين (أحدهما) إذا كتب الطلاق ونواه وقد ذكرناه (الثاني) من لا يقدر على الكلام كالأخرس إذا طلق بالإشارة طلقت زوجته وبهذا قال الشافعي وأصحاب الرأي ولا نعلم عن غيرهم خلافهم لأنه لا طريق له الى الطلاق إلا بالإشارة فقامت إشارته مقام النطق

(8/283)


من غيره فيه كالنكاح، وأما القادر فلا يصح طلاقه بالإشارة كما لا يصح نكاحه بها فإن أشار الأخرس باصابعه الثلاث لم يقع إلا واحدة لأن اشارته لا تكفي * (مسألة) * (وصريح الطلاق في لسان العجم بهشتم) فإذا أتى بها العجمي وقع الطلاق منه بغير نية وقال النخعي وأبو حنيفة هو كناية لا تطلق به إلا بنية لأن معناه وخليتك وهذه اللفظة كناية ولنا أن هذه اللفظة بلسانهم موضعة للطلاق ويستعملونها فيه فأشبه لفظ الطلاق بالعربية ولو لم تكن
هذه صريحة لم يكن في العجمية صريح في الطلاق وهذا بعيد ولا يضر كونها بمعنى خليتك فإن معنى طلقتك خليتك أيضاً إلا أنه لما كان موضوعاً له تستعمل فيه كان صريحاً كذا هذه ولا خلاف في أنه إذا نوى بها الطلاق كانت طلاقاً كذلك قال الشعبي والنخعي والحسن ومالك والثوري وأبو حنيفة وزفر والشافعي فإن قاله العربي ولا يفهمه أو طلق لم يقع لأنه لم يختر الطلاق لعدم علمه بمعناه، وإن نوى موجبه فعلى وجهين (أحدهما) لا يقع لأنه لا يتحقق اختياره لما لا يعلمه فأشبه ما لو نطق بكلمة الكفر فإنه لا يعرف معناها (والثاني) يقع لأنه أتى بالطلاق ناوياً مقتضاه فوقع كما لو علمه

(8/284)


* (فصل) * قال الشيخ رضي الله عنه والكنايات نوعان ظاهرة وهي سبعة: أنت خلية وبرية وبائن وبتة وبتلة وأنت حرة وأنت الحرج.
أكثر الروايات عن أبي عبد الله رحمه الله كراهية الفتيا في هذه الكنايات مع ميله الى أنها ثلاث وحكى ابن أبي موسى في الارشاد عنه روايتين (إحداهما) انها ثلاث (والثانية) يرجع إلى ما نواه واختارها أبو الخطاب وهو مذهب الشافعي قال يرجع إلى ما نوى فإن لم ينو شيئاً وقعت واحدة، ونحوه قول النخعي إلا أنه قال تقع طلقة بائنة لأن لفظه يقتضي البينونة ولا يقتضي عدداً وروى حنبل عن أحمد ما يدل على هذا فإنه قال يزيدها في مهرها إن أراد رجعتها ولو وقع ثلاث لم تبح له رجعتها ولو لم تبن لم يحتج إلى زيادة في مهرها، وأحتج الشافعي بما روى أبو داود بإسناده أن ركانة بن عبد يزيد طلق امرأته سهيمة البتة فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك وقال والله ما أردت إلا واحدة فقال النبي صلى الله عليه وسلم الله ما أردت إلا واحدة؟ " فقال ركانة الله ما أردت إلا واحدة فردها إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فطلقها الثانية في زمن عمر والثالثة في زمن عثمان قال علي بن محمد الطنافسي ما أشرف هذا الحديث لأن الكنايات مع النية كالصريح فلم يقع به عند الإطلاق أكثر من واحدة كقوله أنت طالق وقال الثوري وأصحاب الرأي إن نوى ثلاثاً فثلاث وإن نوى اثنتين أو واحدة وقعت واحدة ولا يقع اثنتان لأن الكناية تقتضي البينونة دون العدد والبينونة بينونتان صغرى وكبرى

(8/285)


فالصغرى بالواحدة والكبرى بالثلاث ولو أوقعنا اثنتين كان موجبه العدد وهي لا تقتضيه، وقال
ربيعة ومالك يقع بها الثلاث وإن لم ينو إلا في الخلع أو قبل الدخول فإنها تطلق واحدة لأنها تقتضي البينونة والبينونة تحصل في الخلع وقبل الدخول بواحدة فلم يزد عليها لأن اللفظ لا يقتضي زيادة عليها وفي غيرها يقع الثلاث ضرورة لأن البينونة لا تحصل إلا بها ووجه أنها ثلاث أنه قول أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فروي عن علي وعمر وزيد بن ثابت انها ثلاث قال أحمد في الخلية والبرية والبتة قول علي وابن عمر قول صحيح ثلاثا قال علي والحسن والزهري في البائن إنها ثلاث وروى النجاد بإسناده عن نافع بإسناده أن رجلاً جاء الى عاصم وابن الزبير فقال إن ظئري هذا طلق امرأته البتة قبل أن يدخل بها فهل تجد ان له رخصة؟ فقالا لا ولكنا تركنا ابن عباس وأبا هريرة عند عائشة فسلهم ثم ارجع إلينا فأخبرنا فسألهم فقال أبو هريرة لا تحل له حتى تنكح زوجاً غيره وقال ابن عباس هي ثلاث وذكر عن عائشة متابعتهما وروى بإسناده أن عمر جعل البتة واحدة ثم جعلها بعد ثلاث تطليقات.
وهذه أقوال علماء الصحابة ولم يعرف لهم مخالف في عصرهم فكان إجماعاً ولأنه طلق امرأته بلفظ يقتضي البينونة فوجب الحكم بطلاق تحصل به البينونة كما لو طلق ثلاثاً أو نوى الثلاث وافضاؤه الى البينونة ظاهر في قوله أنت بائن وكذا في قوله البتة لأن البت القطع فكأنه قطع النكاح

(8/286)


كله وكذلك يعبر به عن الطلاق الثلاث كما قال امرأة رفاعة إن رفاعة طلقني فبت طلاقي وبتله هو من القطع أيضاً وكذلك قيل في مريم البتول لانقطاعها عن النكاح ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن التبتل وهو الانقطاع عن النكاح بالكلية وكذلك الخلية والبرية يقتضيان الخلو من النكاح والبراءة منه وإذا كان اللفظ معنى فاعتبره الشرع إنما يعتبره فيما يقتضيه ويؤدي معناه ولا سبيل إلى البينونة بدون الثلاث فوقعت ضرورة الوفاء بما يقتضيه لفظه ولا يمكن إيقاع واحدة بائنة لأنه لا يقدر على إيقاع ذلك بصريح الطلاق فكذلك بكنايته ولا يفرق بين المدخول بها وغيرها لأن الصحابة لم يفرقوا لأن كل لفظة أوجبت الثلاث في مدخول بها أوجبتها في غيرها كقوله أنت طالق ثلاثاً فأما حديث ركانة فإن أحمد ضعف إسناده فلذلك تركه، وقوله أنت حرة يقتضي ذهاب الرق عنها وخلوصها منه والرق ههنا النكاح، وقوله أنت الحرج يعني الحرام والاثم.
قال الله تعالى (ليس على الأعمى حرج) أي
إثم وأصله الضيق قال الله تعالى (فلا يكن في صدرك حرج منه) فكأنه حرمها وأثم نفسه في إمساكها فصار في ضيق من أمرها وإنما تكون بالبينونة على ما مر

(8/287)


* (مسألة) * (والخفية نحو اخرجي واذهبي وذرقي وتجرعي وخليتك وأنت مخلاة وأنت واحدة ولست لي بامرأة واعتدي واستبرئي وما أشبه واختاري ووهبتك لأهلك فهذه ثلاث إن نوى ثلاثاً واثنتان إن نواهما وواحدة إن نواها أو أطلق) ما ظهر وما عنى به الطلاق فهو على ما عنى مثل حبلك على غاربك إذا نوى واحدة أو اثنتين أو ثلاثاً فهو على ما نوى.
وقد ذكر الخرقي في قوله حبلك على غاربك في الكنايات الظاهرة: وإن قال أنت واحدة فهي كناية خفية لكنه لا يقع بها إلا واحدة وإن نوى ثلاثاً ذكره شيخنا لانهما لا تحتمل أكثر منها، وإن قال أغناك الله فهو كناية خفية لأنه يحتمل أغناك الله بالطلاق قال الله تعالى (وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته) وهذا مذهب الشافعي، وقال أبو حنيفة في الكنايات لا يقع اثنتان وإن نواهما وتقع واحدة وقد ذكرناه * (مسألة) * (واختلف في قوله الحقي بأهلك وحبلك على غاربك وتزوجي من شئت وحللت للأزواج ولا سبيل لي عليك ولا سلطان لي عليك وأنت علي حرام وأنت علي حرج هل هي ظاهرة أو خفية؟ وغطي شعرك وقد أعتقتك فهذه عن أحمد فيها روايتان) (إحداهما) أنها ثلاث والأخرى ترجع إلى ما نواه وإن لم ينو شيئاً فواحدة كسائر الكنايات

(8/288)


الخفية، وقد قاسوا على هذه استبرئي رحمك وتقنعي فهذه في معنى المذكورة فيكون حكمها حكمها.
والصحيح في الحقي بأهلك أنها واحدة ولا تكون ثلاثاً إلا بنية لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لابنة الجون " الحقي بأهلك " متفق عليه ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم ليطلق ثلاثاً وقد نهى عنه أمته قال الأثرم قلت لأبي عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لابنة الجون " الحقي بأهلك " ولم يكن طلاقاً غير هذا ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم ليطلق ثلاثاً فيكون غير طلاق السنة قال لا أدري، وكذلك قوله استبرئي رحمك لمن لا تحيض ثلاث فإن ذلك يكون من الواحدة كما يكون من الثلاث، وقد روى هاشم أنا الأعمش عن المنهال بن
عمر أن نعيم بن دجاجة الأسدي طلق امرأته تطليقتين ثم قال هي على حرج فكتب في ذلك الى عمر ابن الخطاب فقال أما إنها ليست باهونهن، فأما سائر اللفظات فإن قلنا هي ظاهرة فإن معناها معنى الظاهرة فإن قوله لا سبيل لي عليك ولا سلطان لي عليك إنما يكون في المبتوتة.
أما الرجعية فله عليها سبيل وسلطان، وقوله أعتقتك يقتضي ذهاب الرق عنها والرق ههنا النكاح، وقوله أنت علي حرام يقتضي بينونتها منه لأن الرجعية غير محرمة وكذلك قوله حللت للأزواج لأنك بنت مني وكذلك سائرها، وإن قلنا هي واحدة فإنها محتملة فإن قوله حللت للأزواج أي بعد انقضاء عدتك لأنه لا يمكن حلها

(8/289)


قبل ذلك والواحدة تحلها وكذلك انحكي من شئت وكذلك سائر الألفاظ يتحقق معناها بعد انقضاء عدتها، وذكر بعض أصحابنا اعتدي المختلف فيه والصحيح أنها من الخفية لما روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لسودة " اعتدي " متفق عليه (فصل) فإن قال أنت طالق بائن البتة ففيه من الخلاف ما ذكرنا في الكنايات الظاهرة لأنه لا يحتاج إلى نية لأنه وصف بها الطلاق الصريح، فإن قال أنت طالق لا رجعة لي عليك وهي مدخول بها قال أحمد إذا قال لامرأته أنت طالق لا رجعة لي فيها ولا بمتوتة هذه مثل الخلية والبرية ثلاثاً هكذا عندي وهو مذهب أبي حنيفة، وإن قال ولا رجعة لي فيها بالواو فكذلك وقال أصحاب أبي حنيفة تكون رجعية لأنه لم يصف الطلقة بذلك وإنما عطف عليها ولنا أن الصفة تصح مع العطف كما لو قال بعتك بعشرة وهي مغرية وكان صفة للثمن قال الله تعالى (إلا استمعوه وهم يلعبون) وإن قال أنت طالق واحدة بائناً أو واحدة بتة ففيها ثلاث روايات (إحداهن) أنها واحدة رجعية ويلغو ما بعدها قال أحمد لا أعرف شيئاً متقدماً أن بواحدة تكون بائناً وهذا مذهب الشافعي لأنه وصف الطلقة بما لا تتصف به فلغت الصفة كما لو قال أنت طالق طلقة لا تقع عليك (والثانية) هي ثلاث قاله أبو بكر وقال هو قول أحمد لأنه أتى بما يقتضي الثلاث فوقع ولنا

(8/290)


وله واحدة كما قال أنت طالق واحدة (والثالثة) رواها حنبل عن أحمد إذا طلق امرأته البتة
فإن أمرها بيدها يزيدها في مهرها إن أراد رجعتها فهذا يدل على أنه أوقع بها واحدة بائناً لأنه جعل امرها بيدها ولو كانت رجعية لما جعل أمرها بيدها ولو وقع ثلاث لما حلت له رجعتها قال أبو الخطاب هذه الرواية تخرج في جميع الكنايات الظاهرة فيكون مثل قول ابرهيم النخعي ووجهه أنه أوقع الطلاق بصفة البينونة فوقع على ما أوقعه ولم يزد على واحدة لأن لفظه لم يقتض عدداً فلم يقع أكثر من واحدة كما لو قال أنت طالق، وحمل القاضي رواية حنبل على أن ذلك بعد انقضاء العدة * (مسألة) * (ومن شرط وقوع الطلاق بها أن ينوي بها الطلاق) يعني من شرط وقوع الطلاق بالكناية النية للطلاق لأنها كناية فلا يقع بها طلاق بدون النية كالكناية الخفية، وإن لم ينو شيئاً ولا دلت عليه قرينة لم يقع لأنه ظاهر في غير الطلاق فلم يصرف إليه عند الإطلاق كما لا ينصرف الصريح الى غيره، وإن نوى بها الطلاق وقع وذكر القاضي أن ظاهر كلام أحمد والخرقي أن الطلاق يقع بالكنايات الظاهرة من غير نية وهو قول مالك لأنه اشتهر استعمالها فيه فلم تحتج الى نية كالصريح ومفهوم كلام الخرقي أنه لا يقع إلا بنية لأنه كناية فأشبه سائر الكنايات

(8/291)


(فصل) إذا ثبت اعتبار النية فإنها تعتبر مقارنة للفظه فإن وجدت في ابتدائه وعزبت عنه في سائره وقع الطلاق، وقال بعض أصحاب الشافعي لا يقع فلو قال أنت بائن ينوي الطلاق وعزبت نيته حين قال أنت بائن لم يقع لأن القدر الذي صاحبته النية لا يقع به شئ ولنا أن ما يعتبر له النية يكتفى فيه بوجودها في أوله كالصلوات وسائر العبادات فأما إن تلفظ بالكناية غير ناو ثم نوى بها بعد ذلك لم يقع بها الطلاق كما لو نوى الطهارة بالغسل بعد فراغه منه * (مسألة) * (إلا أن يأتي بها في حال الخصومة والغضب فعلى روايتين) ذكرهما أبو بكر والقاضي وأبو الخطاب (إحداهما) يقع الطلاق ذكره الخرقي.
قال في رواية الميموني إذا قال لزوجته أنت حرة لوجه الله في الغضب أخشى أن يكون طلاقاً (والرواية الثانية) ليس بطلاق وهو قول أبي حنيفة والشافعي إلا أن أبا حنيفة يقول في اعتدي واختاري أمرك بيدك كقولنا في الوقوع، واحتجا بأن هذا ليس بصريح في الطلاق ولم ينوه فلم يقع
به الطلاق كحال الرضا ولأن مقتضى اللفظ لا يتغير بالرضا والغضب، ويحتمل أن ما كان من الكنايات لا يستعمل في غير الفرقة إلا نادراً نحو قوله أنت حرة لوجه الله واعتدي واستبرئي رحمك وحبلك

(8/292)


على غاربك وأنت بائن وأشباه ذلك أنه يقع في حال الغضب وجواب سؤال الطلاق من غير نية، وما كثر استعماله لغير ذلك نحو اخرجي واذهبي وروحي تقنعي لا يقع الطلاق به إلا بنية ومذهب أبي حنيفة قريب من هذا، وكلام الخرقي إنما ورد في قوله أنت حرة وهو مما لا يستعمله الإنسان في حق زوجته غالباً إلا كناية عن الطلاق، ولا يلزم من الاكتفاء كذلك بمجرد الغضب وقوع غيره من غير نية لأن ما كثر استعماله يوجد كثيراً غير مراد به الطلاق في حال الرضاء فكذلك في حال الغضب إذ لا حجر عليه في استعماله والتكلم به بخلاف ما لم تجر العادة بذكره فإنه لما قل استعماله في غير الطلاق كان مجرد ذكره يظن منه إرادة الطلاق فإذا انضم الى ذلك مجيئه عقيب سؤال الطلاق أو في حال الغضب قوي الظن فصار ظناً غالباً، ووجه الرواية الأخرى أن دلالة الحال تغير حكم الأقوال والأفعال فإن من قال لرجل يا عفيف ابن العفيف حال تعظيمه كان مدحاً له، وإن قاله في حال شتمه وتنقصه كان قذفاً وذماً ولو قال أنه لا يغدر بذمة ولا يظلم حبة خردل وما احدا وفى ذمة منه في حال المدح كان مدحاً بليغاً كما قال حسان فما حملت من ناقة فرق رحلها * أبر وأوفى ذمة من محمد ولو قال في حال الذم كان هجواً قبيحاً كقول النجاشي قبيلته لا يغدرون بذمة * ولا يظلمون الناس حبة خردل

(8/293)


وقال آخر: كأن ربي لم يخلق لخشيته * سواهم من جميع الناس إنسانا وهذا في هذا الموضع هجاء قبيح وذم حتى حكي عن حسان أنه قال: ما أراه إلا قد سلح عليهم ولولا القرينة ودلالة الحال كان من أحسن المدح وأبلغه، وفي الأفعال لو أن رجلا قصد رجلاً بسيف والحال تدل على المزح واللعب لم يجز قتله، ولو دلت الحال على الجد جاز دفعه بالقتل والغضب ههنا على عقد الطلاق فيقوم مقامه
* (مسألة) * (وإن جاء جواباً لسؤالها الطلاق فقال أصحابنا يقع بها الطلاق) لدلالة الحال عليه فالحكم فيه كالحكم فيما إذا أتي بها في حال الغضب على ما فيه من الخلاف والتفصيل والوجه لذلك ما تقدم من التوجيه.
قال شيخنا والأولى في الألفاظ التي يكثر استعمالها لغير الطلاق نحو اخرجي واذهبي أنه لا يقع بها لطلاق حتى ينويه بخلاف ما لا يستعمل في غير الطلاق إلا نادراً وقد ذكرنا في المسألة التي قبلها دليل ذلك

(8/294)


(فصل) فإن ادعى أنه لم ينو فالمنصوص عن أحمد ههنا أنه لا يصدق في عدم النية.
قال في رواية الحارث إذا قال لم أنوه صدق في ذلك إذا لم تكن سألته الطلاق وإن كان بينهما غضب قبل ذلك ففرق بين كونه جواباً للسؤال وكونه في حال الغضب وذلك لأن الجواب ينصرف الى السؤال فلو قال لي عندك دينار قال نعم أو صدقت كان اقرارا به ولم يقبل تفسيره بغير الاقرار، ولو قال زوجتك ابنتي أو بعتك ثوبي هذا قال قبلت كفى هذا ولم يحتج إلى زيادة عليه، ولو أراد بالكناية حال الغضب أو سؤال الطلاق غير الطلاق لم يقع الطلاق لأنه لو أراده بالصريح لم يقع فالكناية أولى، وإذا أدعى ذلك دين، وهل يقبل في الحكم؟ ظاهر كلام أحمد في رواية الحارث أنه يصدق وإن كان في حال الغضب ولا يصدق إن كان جواباً لسؤال الطلاق.
ونقل عنه في موضع آخر أنه قال: أنت خلية أو برية أو بائن ولم يكن بينهما ذكر طلاق ولا غضب صدق فمفهومه انه لا يصدق مع وجودهما وحكي هذا عن أبي حنيفة إلا في الأربعة المذكورة والصحيح أنه يصدق لما روى سعيد بإسناده أن رجلاً خطب الى قوم فقالوا لا نزوجك حتى تطلق امرأتك فقال قد طلقت ثلاثاً فزوجوه بها ثم أمسك امرأته فقالوا ألم تقل إنك طلقت ثلاثاً؟ قال ألم تعلموا

(8/295)


أني تزوجت فلانة وطلقتها ثم تزوجت فلانه ثم طلقتها، ثم تزوجت فلانه وطلقتها، فسئل عثمان عن ذلك فقال: له نيته ولأنه أمر تعتبر نيته فيه فقبل قوله فيما يحتمله، كما لو كرر لفظاً وقال أردت التوكيد والله أعلم.
* (مسألة) * (ومتى نوى بالكناية الطلاق وقع بالظاهرة ثلاث وإن نوى واحدة) هذا ظاهر المذهب لما ذكرنا من إجماع الصحابة وعنه يقع ما نواه وهو مذهب الشافعي كالكنايات الخفية ولحديث ركانة، وعنه يقع واحدة بائنة وهي رواية حنبل لما ذكرنا من قبل ويقع بالخفية ما نواه لأنه محتمل وهو قول الشافعي إلا إذا قال أنت واحدة فإنه لا يقع بها إلا واحدة وإن نوى ثلاثاً لأنها لا تحتمل غير الواحدة ذكره شيخنا.
(فصل) والطلاق الواقع بالكنايات رجعي ما لم يقع به الثلاث في ظاهر المذهب وهو مذهب الشافعي.
وقال أبو حنيفة كلها بوائن إلا اعتدي واستبرئي رحمك وأنت واحدة لأنها تقتضي البينونة فيقع كقوله أنت طالق ثلاثاً ولنا أنه طلاق صادف مدخولاً بها من غير عوض ولا استيفاء عدد فوجب أن يكون رجعياً كصريح

(8/296)


الطلاق وما سلموه من الكنايات وقولهم إنها تقتضي البينونة قلنا فينبغي أن تبين بثلاث لأن المدخول بها لا تبين إلا بعوض أو ثلاث.
* (مسألة) * (وأما ما لا يدل على الطلاق نحو كلي واشربي واقعدي واقربي وبارك الله عليك وأنت مليحة أو قبيحة وقومي وأطعميني واسقيني وغفر الله لك ما أحسنك وأشباه ذلك فليس بكناية ولا تطلق به وإن نوى) لأن اللفظ لا يحتمل الطلاق فلو وقع به الطلاق وقع بمجرد النية وقد ذكرنا أنه لا يقع بها وهذا مذهب أبي حنيفة، واختلف أصحاب الشافعي في قوله كلي واشربي فقال بعضهم كقولنا، وقال بعضهم هو كناية لأنه يحتمل كلي ألم الطلاق واشربي كأس الفراق فوقع كقوله ذوقي أو تجرعي ولنا أن هذا اللفظ لا يستعمل بمفرده إلا فيما لا ضرر فيه كنحو قوله تعالى (كلوا واشربو هنيئا بما كنتم تعلمون) وقال (فكلوه هنيئا مريئا) فلم يكن كناية كقوله أطعميني وفارق ذوقي وتجرعي فانه يستعمل في المكاره لقول الله سبحانه (ذق إنك أنت العزيز الكريم - وذوقوا عذاب الحريق -

(8/297)


وذوقوا مس سقر) وكذلك التجرع، قال الله تعالى (يتجرعه ولا يكاد يسيغه) فلم يصح أن يلحق بهما ما ليس مثلهما.
* (مسالة) * (وكذلك قوله أنا طالق لأن الزوج ليس محلاً للطلاق، وإن قال: أنا منك طالق لم تطلق زوجته) نص عليه في رواية الأثرم في رجل جعل أمر امرأته بيدها فقالت أنت طالق لم تطلق وهو قول ابن عباس والثوري وأبي سعيد وأصحاب الرأي وابن المنذر.
وروي ذلك عن عثمان رضي الله عنه ويحتمل أنه كناية يطلق به إذا نوى وبه قال مالك والشافعي وروي ذلك عن عمر وابن مسعود وعطاء والقاسم واسحاق لأن الطلاق إزالة النكاح وهو مشترك بينهما فإذا صح في أحدهما صح في الآخر ولا خلاف في أنه لا يقع به الطلاق من غير نية.
ولنا أنه محل لا يقع الطلاق إذا أضافه إليه من غير نية فلم يقع وإن نوى كالأجنبي ولأنه لو قال أنا طالق ولم يقل منك لم يقع ولو كان محلاً للطلاق لوقع بذلك كالمرأة ولأن الرجل مالك في النكاح والمرأة مملوكة فلم تقع إزالة الملك بالإضافة الى المالك كالعتق ويدل على هذا أن الرجل لا يوصف بأنه مطلق بخلاف المرأة وجاء رجل إلى ابن عباس فقال ملكت امرأتي أمرها فطلقتني ثلاثاً فقال ابن عباس خطأ الله نواها إن الطلاق لك وليس لها عليك، رواه أبو عبيد والاثرم واحتج به أحمد

(8/298)


* (مسألة) * (وإن قال أنا منك بائن أو حرام فهل هو كناية أو لا؟ على وجهين) إذا قال أنا منك بائن أو برئ فقد توقف أحمد عنها وقال أبو عبد الله بن حامد يتخرج على وجهين (أحدهما) لا يقع لأن الرجل محل لا يقع الطلاق بإضافة صريحه إليه، فلم يقع باضافة كنايته إليه كالاجنبي.
(والثاني) يقع لأن لفظ البينونة والبراءة والتحريم يوصف به كل واحد من الزوجين يقال بان منها وبانت منه، وحرم عليها وحرمت عليه، وكذلك لفظ الفرقة يضاف إليهما، قال الله تعالى (وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته) وقال تعالى (ما يفرقون به بين المرء وزوجه) ويقال فارقته المرأة وفارقها، ولا يقال طلقته ولا سرحته ولا تطلقا ولا تسرحا.
فإن قال: أنا بائن ولم يقل منك فذكر القاضي فيما إذا قال لها: أمرك بيدك، فقالت: أنت بائن ولم تقل مني، أنه لا يقع،
وجها واحدا، وان قالت أنا بائن ونوت وقع، وإن قالت أنت مني بائن فعلى وجهين فيخرج ههنا مثل ذلك.
* (مسألة) * (وإن قالت أنت علي كظهر أمي، تنوي به الطلاق لم يقع وكان ظهاراً) لأنه صريح فلم يكن كناية في الطلاق كما لا يكون الطلاق كناية في الظهار ولأن الظهار يشبه بمن

(8/299)


هي محرمة على التأبيد والطلاق يفيد تحريماً غير مؤبد فلم تصح الكناية بأحدهما على الآخر ولو صرح به وقال أعني به الطلاق لم يصر طلاقاً لأنه لا تصح الكناية به عنه * (مسألة) * (وإن قال أنت علي حرام أو ما أحل الله علي حرام ففيه ثلاث روايات (إحداهن) أنه ظهار وإن نوى الطلاق اختاره الخرقي (والثانية) كناية ظاهرة (والثالثة) هو يمين) إذا قال ذلك او أطلق فهو ظهار وقال الشافعي لا شئ عليه، وله قول آخر عليه كفارة يمين وليس يميناً وقال أبو حنيفة هو يمين وقد روى ذلك عن ابي بكر وعمر بن الخطاب وابن مسعود وقال سعيد ثنا خالد بن عبد الله عن جويبر عن الضحاك أن أبا بكر وعمر وابن مسعود قالوا في الحرام إنه يمين وبه قال ابن عباس وسعيد بن المسيب وسعيد بن جبير وعن أحمد ما يدل على ذلك لأن الله تعالى قال (لم تحرم ما أحل الله لك؟) ثم قال (قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم) وقال ابن عباس (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة) ولأنه تحريم للحلال أشبه تحريم الأمة ووجه الأول أنه تحريم للزوجة بغير طلاق فوجب به كفارة الظهار كما لو قال أنت علي حرام كظهر أمي فأما إن نوى غير الظهار فالمنصوص عن أحمد في رواية جماعة أنه ظهار نوى الطلاق أو لم ينوه ذكره الخرقي وممن قال إنه ظهار عثمان بن

(8/300)


عفان وأبو قلابة وسعيد بن جبير وميمون بن مهران والبتي وروى الأثرم باسناده عن بن عباس في الحرام أنه تحرير رقبة فان لم يجد فصيام شهرين متتابعين أو إطعام ستين مسكيناً ولأنه صريح في تحريمها فكان ظهاراً وإن نوى غيره كقوله أنت علي كظهر أمي وعن أحمد أنه إذا نوى به الطلاق أخاف أن يكون ثلاثاً ولا أفتي به وهذا مثل قوله في الكنايات الظاهرة فكأنه جعله من كنايات الطلاق يقع به الطلاق إذا نواه، ونقل عنه البغوي في رجل قال لامرأته أمرك بيدك فقالت أنا عليك حرام فقد حرمت
عليه فجعله منها كناية في الطلاق فكذلك من الرجل واختاره ابن عقيل وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي وروي ذلك عن ابن مسعود وممن روي عنه طلاق ثلاث علي وزيد بن ثابت وأبو هريرة والحسن البصري وابن أبي ليلى وهو مذهب مالك في المدخول بها لأن الطلاق نوع تحريم فصح أن يكنى به عنه كقوله أنت بائن فان لو ينو به الطلاق لم يكن طلاقاً بحال لأنه ليس بصريح في الطلاق فإن لم ينوه لم يقع به طلاق كسائر الكنايات وإن قلنا إنه كناية في الطلاق ونوى به فحكمه حكم الكنايات الظاهرة على ما مضى من الاختلاف فيها وهو قول مالك وأبي حنيفة والشافعي كل على أصله ويمكن حمله على الكنايات الخفية إذا قلنا إن الرجعية محرمة لأن أقل ما تحرم به الزوجة طلقة رجعية فحمل على اليقين وقد روي

(8/301)


عن أحمد ما يدل عليه قال إذا قال أنت علي حرام أعني به طلاقاً فهي واحدة وروى هذا عن عمر ابن الخطاب والزهري وقد روي عن مسروق وأبي سلمة بن عبد الرحمن والشعبي ليس بشئ لأنه قول هو كاذب فيه وهذا يبطل بالظهار لأنه منكر من القول وزور، وقد أوجب الكفارة ولأن هذا إيقاع للطلاق فأشبه قوله أنت بائن وأنت طالق وروى عن أحمد أنه إذا نوى اليمين كان يميناً وهذا مذهب ابن مسعود وقول أبي حنيفة والشافعي وممن روي عنه: عليه كفارة يمين أبو بكر الصديق وعمر وابن عباس وعائشة رضي الله عنهم وهو قول سعيد بن المسيب والحسن وعطاء وطاوس وسليمان بن يسار وقتادة والاوزاعي وفي المتفق عليه عن سعيد بن جبير أنه سمع ابن عباس يقول إذا حرم الرجل عليه امرأته فهي يمين يكفرها وقال (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة) ولأن الله قال (يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضات أزواجك والله غفور رحيم؟ * قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم) فجعل الحرام يميناً ومعنى قوله نوى يميناً والله أعلم أنه نوى بقوله انت علي حرام ترك وطئها واجتنابها وأقام ذلك مقام والله لا وطأتك * (مسألة) * (وإن قال ما أحل الله علي حرام أعني به الطلاق فقال أحمد تطلق امرأته ثلاثاً وإن قال أعني به طلاقاً طلقت واحدة)

(8/302)


رواه الجماعة عن أحمد فروى أبو عبد الله النيسابوري أنه قال إذا قال أنت علي حرام أريد به الطلاق كنت أقول إنها طالق يكفر كفارة الظهار وهذا كأنه رجوع عن قوله إنه طلاق ووجهه أنه صريح في الظهار فلم يصر طلاقاً بقوله أريد به الطلاق كما لو قال أنت علي كظهر أمي أعني به الطلاق قال القاضي ولكن جماعة أصحابنا على أنه طلاق وهي الرواية المشهورة التي رواها عنه الجماعة لأنه صرح بلفظ الطلاق فكان طلاقاً كما لو ضربها وقال هذا طلاقك وليس هذا صريحاً في الظهار وإنما هو صريح في التحريم والتحريم يتنوع الى تحريم بالظهار والى تحريم بالطلاق فإذا بين بلفظه إرادة تحريم الطلاق وجب صرفه إليه وفارق قوله أنت علي كظهر أمي فانه صريح في الظهار وهو تحريم لا يرتفع إلا بالكفارة فلم يمكن جعل ذلك طلاقاً بخلاف مسئلتنا ثم إن قال أعني به الطلاق أو نوى به ثلاثاً فهي ثلاث نص عليه أحمد لانه أنى بالألف واللام التي للاستغراق تفسيراً للتحريم فدخل فيه الطلاق كله وإذا نوى الثلاث فقد نوى بلفظه ما يحتمله من الطلاق فوقع كما لو قال أنت بائن وعنه لا يكون ثلاثاً حتى ينويها سواء كانت فيه الألف واللام أو لم تكن لأن الألف واللام تكون لغير الاستغراق في أكثر أسماء الأجناس وإن قال أعني به طلاقاً فهي واحدة لأنه ذكره منكراً فيكون طلاقاً واحداً نص عليه

(8/303)


أحمد وقال في رواية حنبل إذا قال أعني طلاقاً فهي واحدة أو اثنتان إذا لم يكن فيه الألف واللام وعنه أنه ظهار فيهما وقد ذكرناه وذكرنا دليله * (مسألة) * (وإن قال أنت علي كالميتة والدم وقع ما نواه من الطلاق والظهار واليمين وإن لم ينو شيئاً فهل يكون ظهاراً أو يميناً؟ على وجهين) أما إذا نوى الطلاق كان طلاقاً لأنه يصلح أن يكون كناية فيه فإذا اقترنت به النية وقع به الطلاق ويقع ما نواه من عدد الطلاق فإن لم ينو شيئاً وقعت واحدة لأنه من الكنايات الخفية وهذا حكمها وإن نوى به الظهار وهو أن يقصد تحريمها عليه مع بقاء نكاحها احتمل أن يكون ظهاراً كما قلنا في قوله أنت علي حرام واحتمل أن لا يكون ظهاراً كما لو قال أنت علي كظهر البهيمة أو كظهر أبي وإن نوى اليمين وهو أن يريد بذلك ترك وطئها لا تحريمها ولا طلاقها فهو يمين وإن لم ينو شيئاً لم يكن طلاقاً لأنه ليس بصريح
في الطلاق ولو نواه به وهل يكون ظهاراً أو يميناً؟ على وجهين (أحدهما) يكون ظهاراً لأن معناه أنت حرام علي كالميتة والدم فإن تشبيهها بهما يقتضي التشبيه بهما في الأمر الذي استهزأ به وهو التحريم لقول الله تعالى فيهما (حرمت عليكم الميتة والدم) والثاني يكون يميناً لأن الأصل براءة الذمة فإذا أتى بلفظ محتمل

(8/304)


ثبت فيه أقل الحكمين لأنه اليقين وما زاد مشكوك فيه فلا ثبته بالشك ولا نزول عن الأصل إلا بيقين وعند الشافعي هو كقوله أنت حرام سواء * (مسألة) * (وإن قال حلفت بالطلاق وكذب لزمه إقراره في الحكم ولا يلزمه فيما بينه وبين الله تعالى وإن قال حلفت بالطلاق أو علي يمين بالطلاق ولم يكن حلف لم يلزمه شئ فيما بينه وبين الله تعالى ولزمه ما أقر به في الحكم) ذكره القاضي وأبو الخطاب لأنه يحتمل ما قاله ويلزمه في الحكم لأنه خلاف ما أقربه وقال أحمد في رواية محمد بن الحكم في الرجل يقول حلفت بالطلاق ولم يكن حلف هي كذبة ليس عليه يمين وذلك لأن قوله حلفت ليس بحلف وإنما هو خبر عن الحلف فإذا كان كاذباً فيه لم يصر حالفاً كما لو قال حلفت بالله وكان كاذباً واخبار أبو بكر أنه يلزمه ما أقر به وحكى في زاد المسافر عن الميموني عن أحمد أنه قال إذا قال حلفت بالطلاق ولم يكن حلف يلزمه الطلاق ويرجع الى نيته في الطلاق الثلاث أو الواحدة وقال القاضي معنى قول أحمد يلزمه الطلاق أي في الحكم ويحتمل أنه أراد يلزمه إذا نوى به الطلاق فجعله كناية عنه وكذلك قال يرجع الى نيته أما الذي قصد الكذب فلا نية له في الطلاق فلا يقع به شئ لأنه ليس بصريح في الطلاق ولا نوى الطلاق فلم يقع به طلاق كسائر الكنايات وذكر القاضي في

(8/305)


كتاب الأيمان فيمن قال حلفت بالطلاق ولم يكن حلف هل يقع به؟ على روايتين (إحداهما) لا يلزمه شئ لأنه لم يحلف واليمين إنما تكون بالحلف (والثانية) يلزمه ما أقر به اختاره أبو بكر لأنه إذا أقر ثم قال كذبت كان جحوداً بعد الإقرار فلا يقبل كما لو أقر بدين ثم أنكر ويرجع الى نيته لأنه أعلم بحاله (فصل) والقول قوله في قدر ما حلف به وفي الشرط الذي علق اليمين به لأنه أعلم بحاله ويمكن حمل كلام أحمد
على هذا وهو أن يكون قوله ليس عليه يمين فيما بينه وبين الله تعالى وقوله يلزمه الطلاق أي في الحكم لأنه يتعلق بحق إنسان معين فلم يقبل في الحكم وفيما بينه وبين الله سبحانه إذا علم أنه لم يحلف فلا شئ عليه * (فصل) * قال الشيخ رحمه الله (إذا قال لامرأته أمرك بيدك فلها أن تطلق ثلاثاً وإن نوى واحدة وهو في يدها ما لم يفسخ أو يطأ) الكلام في هذه المسألة في فصلين (أحدهما) أنه إذا قال لامرأته أمرك بيدك كان لها أن تطلق ثلاثاً وإن نوى أقل منها هذا ظاهر المذهب لأنها من الكنايات الظاهرة وقد مضى الكلام فيها روى ذلك عن عثمان وابن عمر وابن عباس وروي ذلك عن علي أيضاً وفضالة بن عبيد وبه قال سعيد بن المسيب وعطاء والزهري قالوا إذا طلقت ثلاثاً فقال لم أجعل إليها إلا واحدة لم يلتفت إلى قوله والقضاء ما قضت وعن عمر وابن مسعود أنها طلقة واحدة وبه قال عطاء ومجاهد والقاسم وربيعة ومالك والاوزاعي والشافعي وقال الشافعي إن نوى ثلاثاً فلها أن تطلق ثلاثاً وان نوى غير ذلك

(8/306)


لم تطلق ثلاثاً والقول قوله في نيته قال القاضي ونقل عبد الله عن أحمد ما يدل على أنه إذا نوى واحدة فهي واحدة لأنه نوع تخيير فيرجع الى نيته فيه كقوله اختاري ولنا أنه لفظ يقتضي العموم في جميع أمرها لأنه اسم جنس مضاف فيتناول الطلقات الثلاث كما لو قال طلقي نفسك ما شئت ولا يقبل قوله أردت واحدة لأنه بخلاف مقتضى اللفظ لا يبين في هذا لأنه من الكنايات الظاهرة والكنايات الظاهرة تقتضي ثلاثاً (الفصل الثاني) أنه لا يتقيد بالمجلس ويكون في يدها ما لم يفسخ أو يطأ وإن جعل أمرها في يد غيرها فكذلك في الفصل الأول والثاني ووافق الشافعي في أنه إذا جعله في يد غيرها أنه لا يتقيد بالمجلس لأنه وكيل، وإذا قال له جعلت أمر امرأتي في يدك أو جعلت لك الخيار في طلاق امرأتي أو طلق امرأتي فالجميع سواء في أنه لا يتقيد بالمجلس وقال أصحاب أبي حنيفة ذلك مقصور على المجلس لأنه نوع تخيير أشبه ما لو قال إختاري ولنا أنه توكيل مطلق فكان على التراخي كالتوكيل في البيع.
إذا ثبت هذا فإن له أن يطلق ما لم يفسخ أو يطأ وله أن يطلق ثلاثاً وواحدة كالمرأة فإن فسخ الوكالة بطلت كسائر الوكالات وكذلك إن
وطئها لأنه يدل على الفسخ أشبه ما لو فسخ بالقول * (مسألة) * (وإن قال اختاري نفسك لم يكن لها أن تطلق أكثر من واحدة إلا أن يجعل إليها أكثر من ذلك وليس لها أن تطلق إلا ما دامت في المجلس ولم يتشاغلا بما يقطعه)

(8/307)


وجملة ذلك أن لفظ التخيير لا يقتضي بمطلقة أكثر من طلقة رجعية قال أحمد هذا قول ابن عمر وابن مسعود وزيد بن ثابت وعمر وعائشة رضي الله عنهم وروي ذلك عن جابر وعبد الله بن عمر وقال أبو حنيفة هي واحدة بائنة وهو قول ابن شبرمة لأن اختيارها نفسها يقتضي زوال سلطانه ولا يكون إلا بالبينونة وقال مالك هي ثلاث في المدخول بها لأن المدخول بها لا تبين إلا بالثلاث إلا أن تكون بعوض ولنا إجماع الصحابة رضي الله عنهم فإن من سمينا منهم قالوا إن اختارت نفسها فهي واحدة وهو أحق بها رواه النجاد عنهم بأسانيده ولأن قوله اختاري تفويض مطلق فيتناول أقل ما يقع عليه الاسم وذلك طلقة واحدة ولا تكون بائناً لأنها طلقة بغير عوض لم يكمل بها العدد بعد الدخول فأشبه ما لو طلقها واحدة ولا تكون بائناً لأنها طلقة، ويخالف قوله أمرك بيدك فإنه للعموم لأنه اسم جنس مضاف فيتناول جميع أمرها لكن إن جعل لها أكثر من ذلك فلها ما جعل إليها سواء جعله بلفظه بان يقول اختاري ما شئت أو اختاري الطلقات إن شئت فلها أن تختار ذلك أو جعله بنيته وهو أن ينوي بقوله اختاري عدداً فإنه يرجع إلى ما نواه لأن قوله اختاري كناية خفية فيرجع في قدرها الى نيته كسائر الكنايات الخفية، فإن نوى ثلاثاً أو اثنتين أو واحدة فهو على ما نوى وإن أطلق فهي واحدة وإن نوى ثلاثاً فطلقت أقل منها وقع ما طلقته لأنه يعتبر قولهما جميعاً كالوكيلين إذا طلق أحدهما واحدة والآخر

(8/308)


ثلاثاً وليس لها أن تطلق إلا ما دامت في المجلس ولم يتشاغلا بما يقطعه هذا قول أكثر أهل العلم أن التخيير على الفور إن اختارت في وقتها وإلا فلا خيار لها بعده روى ذلك عن عمر وعثمان وابن مسعود وجابر وبه قال عطاء وجابر بن زيد ومجاهد والشعبي والنخعي ومالك والثوري والاوزاعي والشافعي وأصحاب الرأي، وقال الزهري وقتادة وابو عبيد وابن المنذر ومالك في رواية أنه على التراخي ولها الاختيار
في المجلس وبعده ما لم يفسخ أو يطأ، واحتج ابن المنذر بقول النبي صلى الله عليه وسلم " لعائشة إني ذاكر لك أمراً فلا عليك أن لا تعجلي حتى تستأمري أبويك " وهذا يمنع قصره على المجلس ولأنه جعل امرها إليها أشبه ما لو قال أمرك بيدك ولنا أنه قول من سمينا من الصحابة فروى النجاد بإسناده عن سعيد بن المسيب أنه قال قضى عمر وعثمان في الرجل يخير امرأته أن لها الخيار ما لم يتفرقا وعن عبد الله بن عمر قال ما دامت في مجلسها ونحوه عن ابن مسعود وجابر ولم نعرف لهما مخالفاً في الصحابة فكان إجماعاً ولأنه خيار تمليك فكان على الفور كخيار القبول، وأما الخبر فإن النبي صلى الله عليه وسلم جعل لها الخيار على التراخي، فأما أمرك بيدك فهو توكيل والتوكيل يعم الزمان ما لم يقيده بقيد بخلاف مسئلتنا * (مسألة) * (وليس لها أن تطلق إلا ما داما في المجلس ولم يتشاغلا بما يقطعه)

(8/309)


وذلك أن لا يخرجا من الكلام إلى غير ذلك الطلاق فإن تفرقا عن ذلك الكلام إلى كلام غيره بطل خيارها قال أحمد إذا قال لامرأته اختاري فلها الخيار ما داموا في ذلك الكلام فإن طال المجلس وأخذوا في كلام غير ذلك ولم تختر فلا خيار لها وهذا مذهب أبي حنيفة ونحوه مذهب الشافعي على اختلاف عنه فقيل عنه أنه يتقيد بالمجلس وقيل هو على الفور وقال أحمد الخيار على مخاطبة الكلام وأن تجاريه ويجاريها إنما هو جواب كلام إن أجابته من ساعته وإلا فلا شئ، ووجهه أنه تمليك مطلق تأخر قبوله عن أول حال الإمكان فلم يصح كما لو قامت من مجلسها فإن قام أحدهما عن المجلس قبل اختيارها بطل خيارها، وقال أبو حنيفة يبطل بقيامها دون قيامه على أصله بأن الزوج لا يملك الرجوع، وعندنا أن الزوج يملك الرجوع فبطل بقيامه كما يبطل بقيامها، وإن كان أحدهما قائماً فركب أو مشى بطل الخيار وإن قعد لم يبطل لأن القيام يبطل الفكر والارتياء في الخيار فيكون إعراضاً والقعود بخلافه ولو كانت قاعدة فاتكأت أو متكئة فقعدت لم يبطل لأن ذلك لا يبطل الفكرة، وإن تشاغلت بالصلاة بطل الخيار وإن كانت في صلاة فأتمتها لم يبطل خيارها وإن أضافت إليها ركعتين أخريين بطل خيارها وإن أكلت شيئاً أو قال بسم الله أو سبحت شيئاً يسيرا لم يبطل لأن ذلك ليس بإعراض وإن قالت أدعوا لي شهوداً أشهدهم على ذلك لم يبطل وإن
كانت راكبة فسارت لم يبطل خيارها وهذا كله قول أصحاب الرأي * (مسألة) * (فإن جعل لها الخيار اليوم كله أو جعل أمرها بيدها فردته أو رجع فيه أو وطئها بطل خيارها هذا المذهب)

(8/310)


إذا جعل لها الخيار اليوم كله أو أكثر من ذلك أو متى شاءت فلها الخيار في تلك المدة وإن قال اختاري إذا شئت أو متى شئت فلها ذلك لأن هذه تفيد جعل الخيار لها في عموم الأوقات فإن ردت ذلك أو جعل أمرها بيدها فردته بطل خيارها لأنها إنما ملكته بالوكالة فهي كالوكيل إذا رد الوكالة وإن رجع فيما ملكها بطل أيضاً كما إذا رجع الموكل فيما وكل فيه، وإن وطئها فهو رجوع أيضاً لأنه يدل على الرجوع أشبه ما لو رجع بالقول، ويحتمل أن لا تنفسخ الوكالة كما لو وكله في بيع دار وسكنها ذكره ابن أبي موسى وإن قال اختاري اليوم وغداً وبعد غد فلها ذلك فإن ردت الخيار في الأول بطل كله وإن قال لها لا تعجلي حتى تستأمري أبويك ونحوه فلها الخيار على التراخي فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك لعائشة فدل على أن خيارها لا يبطل بالتأخير، وإن قال اختاري نفسك اليوم واختاري نفسك غداً فردته في اليوم الأول لم يبطل في الثاني، وقال أبو حنيفة لا يبطل في المسألة الاول أيضاً لأنهما خياران في وقتين فلم يبطل أحدهما برد الآخر قياساً على المسألة الثانية ولنا أنه خيار واحد في مدة واحدة فإذا بطل أوله بطل ما بعده كما لو كان الخيار في يوم واحد وكخيار الشرط، ولا نسلم أنهما خياران، وإنما هو خيار واحد في يومين، وفارق ما إذا قال اختاري نفسك اليوم واختاري نفسك غداً فإنهما خياران لأن كل واحد ثبت بسبب مفرد (فصل) ولو خيرها شهراً فاختارت ثم تزوجها لم يكن لها عليه خيار وعند أبي حنيفة لها الخيار

(8/311)


ولنا أنها استوفت ما جعل لها في هذا العقد فلم يكن لها في عقد ثان كما لو اشترط الخيار في سلعة مدة ثم فسخ ثم اشتراها بعقد آخر في تلك المدة، ولو لم تختر نفسها أو اختارت زوجها وطلقها الزوج ثم تزوجها بطل لأن الخيار المشروط في عقد لا يثبت في عقد سواه كما في البيع، والحكم في قوله أمرك بيدك في هذا كله
كالحكم في التخيير لأنه نوع تخيير ولو قال لها اختاري أو أمرك بيدك اليوم وبعد الغد فردت في اليوم الأول لم يبطل في بعد غد لأنهما خياران ينفصل أحدهما عن صاحبه فلا يبطل أحدهما ببطلان الآخر بخلاف ما إذا كان الزمان متصلاً واللفظ واحد فإنه خيار واحد فبطل كله ببطلان بعضه، وإن قال لك الخيار يوماً أو أمرك بيدك يوماً فابتداؤه من حين نطق به الى مثله من الغد لأنه لا يمكن استكمال يوم بتمامه إلا بذلك وإلا قال شهراً فمن ساعة نطق الى استكمال ثلاثين يوماً الى مثل تلك الساعة وإن قال الشهر أو اليوم أو النسة فهو على ما بقي من اليوم والشهر والسنة، وخرج أبو الخطاب في كل مسألة وجها مثل حكم الأخرى أي خرج في قوله أمرك بيدك وجهاً أنها لا تطلق أكثر من واحدة وأنها تتقيد بالمجلس بشرط أن لا يتشاغلا بما يقطع كلامهما، وفي قوله اختاري نفسك أنه لا يتقيد بالمجلس وإن لها أن تطلق أكثر من واحدة عند الإطلاق قياساً لكل واحدة منهما على الأخرى (فصل) فإن خيرها فاختارت زوجها أو ردت الخيار أو الأمر لم يقع شئ نص عليه أحمد في رواية الجماعة وروي ذلك عن عمر وعلي وزيد وابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهم وهو قول عمر ابن عبد العزيز وابن شبرمة وابن أبي ليلى والثوري والشافعي وابن المنذر وعن الحسن تكون واحدة

(8/312)


رجعية وروي ذلك عن علي رضي الله عنه ورواه إسحاق بن منصور عن أحمد قال إن اختارت زوجها فواحدة يملك الرجعة وإن اختارت نفسها فثلاث قال أبو بكر انفرد بهذا إسحاق بن منصور والعمل على ما رواه الجماعة ووجه هذه الرواية إن التخيير كناية نوى بها الطلاق فوقع بها بمجرده كسائر كناياته كقوله انكحي من شئت ولنا قول عائشة قد خيرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان طلاقاً وقالت لما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بتخيير أزواجه بدأ بي فقال إني لمخبرك خبراً فلا عليك ألا تعجلي حتى تستأمري أبويك ثم قال إن الله تعالى قال (يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها - حتى بلغ - إن الله أعد للمحسنات منكن أجرا عظيما) فقلت في أي هذا أستأمر أبوي؟ فإني أريد الله ورسوله والدار الآخره قالت ثم فعل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم مثل ما فعلت متفق عليهما قال مسروق ما أبالي خيرت امرأتي واحدة أو مائة أو
ألفاً بعد أن تختارني ولانها مخيرة اختارت النكاح فلم يقع بها الطلاق كالمعتقة تحت عبد وقولهم ان التخيير كناية نوى بها الطلاق فوقع بها بمجردها كسائر كناياته قلنا إنما أراد بذلك تفويض الطلاق إلى زوجته لا إيقاع الطلاق وصار ذلك كقوله طلقي نفسك فإنه لا يقع بذلك طلاق والكناية مع النية لا ترد على الصريح فأما إن نوى بقوله اختاري نفسك إيقاع الطلاق وقع كسائر الكنايات

(8/313)


* (مسالة) * (ولفظة الأمر والخيار كناية في حق الزوج تفتقر إلى نيته) فلفظة الأمر من الكنايات الظاهرة والخيار من الخفية وكلاهما يحتاج الى النية لما ذكرنا في الكناية الظاهرة قوله إنها تحتاج الى نية وهو قول مالك وقد ذكرناه فإن قبلته بلفظ الكناية فقالت اخترت نفسي إفتقر الى نيتها أيضاً كالزوج وإن قالت طلقت نفسي وقع من غير نية لأنه صريح فلم يحتج إلى نية كقوله أنت طالق فإن نوى أحدهما دون الآخر لم يقع لأن الزوج إذا لم ينو فما فوض إليها الطلاق فلا يصح أن يوقعه وان نوى ولم تنو هي فقد فوض إليها الطلاق فما أوقعته فلم يقع شئ كما لو وكل وكيلاً في الطلاق فلم يطلق وإن نويا جميعاً وقع ما نواه من العدد وإن نوى أحدهما أقل من الآخر وقع الأقل لأن ما زاد انفرد به أحدهما فلم يقع * (مسألة) * (فإن اختلفا في نيتها فقال لم تنو الطلاق باختيارك نفسك فقالت قد نويت فالقول قولها) لأنها أعلم بنيتها ولا نعلم ذلك الا من جهتها وإن اختلفا في رجوعه فالقول قوله لأنهما اختلفا فيما يختص فكان القول قوله فيه كما لو اختلفا في نيته (فصل) وإن قال أمرك بيدك أو قال اختاري فقالت قبلت لم يقع شئ كما لو قال لأجنبي أمر امرأتي بيدك فقال قبلت واختاري في معناه ونحوه إن قالت أخذت أمري نص عليهما أحمد في رواية إبراهيم بن هانئ إذا قال لامرأته أمرك بيدك فقالت قبلت ليس بشئ حتى يبين وقال إذا قالت أخذت

(8/314)


امري ليس بشئ قال وإذا قال لامرأته اختاري فاختارت فقالت قبلت نفسي واخترت نفسي كان أبين قال القاضي ولو قالت أخترت ولم تقل نفسي لم تطلق وإن نوت ولو قال الزوج اختاري ولم
يقل نفسك ولم ينوه لم تطلق ما لم يذكر نفسها ما لم يكن في كلام الزوج أو جوابها ما يصرف الكلام إليه لأن ذلك في حكم التفسير فإذا عري عن ذلك لم يصح وإن قالت اخترت زوجي واخترت البقاء على النكاح أو رددت الخيار أو رددت عليك سفهتك بطل الخيار وإن قالت اخترت نفسي أو أنوي ونوت وقع الطلاق ولأن هذا يصلح أن يكون كناية من الزوج فيما إذا قال الحقي بأهلك فكذلك منها وإن قالت اخترت الازواج فكذلك لأنهم لا يحلون إلا بمفارقة هذا الزوج ولذلك كان كناية منه في قوله انكحي من شئت (فصل) فإن كرر لفظة الخيار ثلاث مرات فقال اختاري اختاري اختاري فقال أحمد إن كان ما يردد عليها ليفهمها وليست نيته ثلاثاً فهي واحدة وإن كان أراد بذلك ثلاثاً فهي ثلاث فرد الأمر إلى نيته في ذلك وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة إذا قبلت وقع ثلاث لأنه كرر ما يقع به الطلاق فيكرر كما لو كرر الطلاق ولنا أنه يحتمل التأكيد فإذا قصده قبلت نيته كما لو قال انت طالق الطلاق وإن أطلق فقد روي عن أحمد ما يدل على أنها واحدة تملك الرجعة وهذا اختيار القاضي ومذهب عطاء وأبي ثور لأن تكرر

(8/315)


التخيير لا يزيد به الخيار كشرط الخيار في البيع وروى عن أحمد رحمه الله إذا قال لامرأته اختاري فقالت اخترت نفسي هي واحدة إلا أن يقول اختاري اختاري وهذا يدل على أنها تطلق ثلاثاً ونحوه قال الشعبي والنخعي واصحاب الرأي ومالك لأن لفظة الواحدة إذا تكررت اقتضت ثلاثاً كلفظة الطلاق (فصل) ويجوز أن يجعل أمر امرأته بيدها بعوض وحكمه حكم ما لا عوض له في إن له الرجوع فيما جعل لها وأنه يبطل بالوطئ قال أحمد إذا قالت امرأته اجعل أمري بيدي وأعطيك عبدي هذا فقبض العبد وجعل أمرها بيدها فلها أن تختار ما لم يطأها أو ينقضه وذلك لأنه توكيل والتوكيل لا يبطل بدخول العوض فيه وكذلك التحليل بعوض لا يلزم ما لم يتصل به القبول * (مسألة) * (وإن قال طلقي نفسك فقالت اخترت نفسي ونوت الطلاق وقع) ويحتمل أن لا يقع لأنه فوضه إليها بلفظ الصريح فلا يصح أن يوقع ما فوضه إليها، ووجه الأول
أنه فوض إليها الطلاق وقد أوقعته فوقع كما لو أوقعته بلفظ الصريح ولا يصح ما ذكروه ولأن التوكيل في شئ لا يقتضي أن يكون إيقاعه بلفظ الأمر كما لو وكله فقال بع داري فباع بلفظ التمليك صح وكما لو قال لها اختاري نفسك فقالت طلقت نفسي فإنه يقع مع اختلاف اللفظ * (مسالة) * (وليس لها أن تطلق أكثر من واحدة إلا أن يجعل إليها أكثر منها) قال أحمد رحمه الله إذا قال لامرأته طلقي نفسك ونوى ثلاثاً فطلقت نفسها ثلاثاً فهي ثلاث

(8/316)


وإن نوى واحدة فهي واحدة وذلك لأن الطلاق يكون واحدة ثلاثا فأيهما نواه فقد نوى بلفظه ما احتمله وإن لم ينو وقع واحدة لأنها اليقين لأن النطق يتناول أقل ما يقع عليه الاسم * (مسألة) * (وإذا قال وهبتك لأهلك فإن قبلوها فواحدة وإن ردوها فلا شئ، وعنه إن قبولها فثلاث وإن ردوها فواحدة وكذلك إذا قال وهبتك لنفسك) الرواية الأولى هي المشهورة عن أحمد نص عليها وبه قال ابن مسعود وعطاء ومسروق والزهري ومكحول ومالك واسحاق وروي عن علي رضي الله عنه والنخعي إن قبلوها فواحدة بائنة وإن لم يقبلوها فواحدة رجعية، وروى عن أحمد مثل ذلك وعن زيد بن ثابت والحسن إن قبلوها فثلاث، وقال ربيعة ويحيى بن سعيد وأبو الزناد ومالك هي ثلاث على كل حال قبلوها أو ردوها، وقال أبو حنيفة فيها كقوله في الكناية الظاهرة ومثله قال الشافعي واختلفا ههنا بناء على اختلافهما ثم ولنا على أنها لا تطلق إذا لم يقبلوها أنه تمليك للبضع فافتقر فيه الى القبول كقلوه اختاري وأمرك بيدك وكالنكاح وعلى أنها لا تكون ثلاثاً أنه لفظ يحتمل فلا يحمل عى الثلاث عند الإطلاق كقوله اختاري وعلى انها رجعية أنها طلقة لمن عليها عدة بغير عوض قبل استيفاء العدد فكانت رجعية كقوله أنت طالث ثنتين وقوله إنها واحدة محمول على ما إذا أطلق النية أو نوى واحدة فأما إن نوى ثلاثاً أو اثنتين فهو على ما نوى لأنها كناية غير ظاهرة فيرجع الى نيته في عددها كسائر الكنايات ولابد

(8/317)


من أن ينوي بذلك الطلاق او تكون ثم دلالة حال لأنها كناية ولابد للكناية من ذلك.
قال القاضي
وينبغي أن تعتبر النية من الذي يقبل أيضاً كما تعتبر في اختيار الزوجة إذا قال لها اختاري أو أمرك بيدك إذا ثبت هذا فإن صفة القبول أن يقول أهلها قبلناها نص عليه أحمد والحكم في هبتها لنفسها أو لأجنبي كالحكم في هبتها لأهلها (فصل) فإن باع امرأته لغيره لم يقع به طلاق وإن نوى، وبه قال الثوري واسحاق وقال مالك تطلق واحدة وهي أملك بنفسها لأنه أتي بها يقتضي خروجها عن ملكه أشبه ما لو وهبها ولنا أن البيع لا يتضمن معنى الطلاق لأنه نقل ملك بعوض والطلاق مجرد اسقاط لا يقتتضي العوض فلم يقع به طلاق كقوله أطعميني واسقيني (فصول في قول الزوج لامرأته أمرك بيدك) قد ذكرنا أن الزوج إذا قال لامرأته أمرك بيدك أنه في يدها ما لم يفسخ أو يطأ لأن الزوج مخير بين أن يطلق بنفسه وبين أن يوكل فيه وإن يفوضه الى المرأة ويجعله الى اختيارها لأن النبي صلى الله عليه وسلم خير نساءه فاخترنه ومتى جعل أمر امرأته بيدها لم يتقيد بالمجلس روى ذلك عن علي رضي الله، وبه قال الحكم وأبو ثور وابن المنذر، وقال مالك والشافعي وأصحاب الرأي هو مقصور على المجلس كقوله اختاري

(8/318)


ولنا قول علي رضي الله عنه في رجل جعل أمر امرأته بيدها قال هو لها حتى تنكل ولأنه نوع توكيل في الطلاق فكان على التراخي كما لو جعله لأجنبي فإن رجع الزوج فيما جعل إليها او قال فسخت ما جعلت إليك بطل وبذلك قال عطاء ومجاهد والشعبي والنخعي والاوزاعي واسحاق وقال الزهري والثوري ومالك وأصحاب الرأي ليس له الرجوع لأنه ملكها ذلك فلم يملك الرجوع كما لو طلقت ولنا أنه توكيل فكان له الرجوع فيه كالتوكيل في البيع وكما لو وكل في ذلك أجنبياً ولا يصح قولهم تمليكاً لأن الطلاق لا يصح تمليكه ولا ينتقل عن الزوج وإنما ينوب غيره فيه عنه وإن سلم أنه تمليك فالتمليك يصح الرجوع فيه قبل ايصال القبول به كالبيع، وإن وطئها الزوج كان رجوعاً لأنه نوع توكيل والتصرف فيما توكل فيه يبطل الوكالة وإن ردت المرأة ما جعل إليها بطل كما تبطل الوكالة برد الوكيل.
(فصل) ولا يقع الطلاق بمجرد هذا القول ما لم ينو به إيقاع طلاقها في الحال أو تطلق نفسها ومتى ردت الأمر الذي جعل إليها بطل ولم يقع شئ في قول أكثر أهل العلم منهم ابن عمر وسعيد بن المسيب وعمر بن عبد العزيز ومسروق وعطاء ومجاهد والزهري والثوري والاوزاعي والشافعي وقال قتادة إن ردت فواحدة رجعية ولنا أنه توكيل رده الوكيل أو تمليك لم يقبله المملك فلم يقع به شئ كسائر التوكيل والتمليك فأما

(8/319)


إن نوى بهذا تطليقها في الحال طلقت في الحال ولم يحتج إلى قبولها كما لو قال حبلك على غاربك * (مسألة) * (فإن قالت اخترت نفسي فهي واحدة رجعية) روى ذلك عن عمر وابن عباس وبه قال عمر بن عبد العزيز والثوري وابن أبي ليلى والشافعي واسحاق وأبو عبيد وأبو ثور وروي عن علي أنها واحدة بائنة وبه قال أبو حنيفة وأصحابه لأن تمليكه إياها أمرها يقتضي زوال سلطانه عنها فإذا قبلت ذلك الاختيار وجب أن يزول عنها ولا يحصل ذلك مع بقاء الرجعة وعن زيد بن ثابت أنها ثلاث، وبه قال الحسن ومالك والليث إلا أن مالكا قال: إذا لم تكن مدخولاً بها قبل منه إذا أراد واحدة أو اثنتين وحجتهم أن ذلك يقتضي زوال سلطانه عنها ولا يكون ذلك إلا بثلاث وفي قول مالك إن غير المدخول بها يزول سلطانه عنها بواحدة فاكتفى بها ولنا أنها لم تطلق بلفظ الثلاث ولا نوت ذلك فلم تطلق ثلاثاً كما لو أتى الزوج بالكنايات الخفية وهذا إذا لم تنو إلا واحدة فإن نوت أكثر منها وقع ما نوت لأنها تملك الثلاث بالتصريح فملكتها بالكنايات كالزوج وهكذا إن أتت بشئ من الكنايات فحكمها فيها حكم الزوج إن كانت مما يقع بها الثلاث من الزوج وقع بها الثلاث إذا أتت بها وإن كانت من الكنايات الخفية نحو قولها لا تدخل علي ونحوها وقع ما نوت.
قال أحمد إذا قال لها أمرك بيدك فقالت لا تدخل علي إلا بإذن سواء في ذلك إن قالت واحدة فواحدة وإن قالت أردت أن أغيظه قبل منها يعني لا يقع شئ، وكذلك إن جعل

(8/320)


أمرها بيد أجنبي فأتى بهذه الكنايات لا يقع شئ حتى ينوي الوكيل الطلاق ثم إن طلق بلفظ صريح
ثلاثاً أو بكناية ظاهرة وقعت الثلاث وإن كان بكناية خفية وقع ما نواه * (باب ما يختلف به عدد الطلاق) * (يملك الحر ثلاث طلقات وإن كان تحته أمة ويملك العبد اثنتين وإن كانت تحته حرة) وجملة ذلكان الطلاق معتبر بالرجال فإن كان الزوج حراً فطلاقه ثلاث حرة كانت الزوجة أو أمة وإن كان عبداً فطلاقه اثنتان حرة كانت زوجته أو أمة روى ذلك عن عمر وعثمان وزيد وابن عباس وبه قال سعيد بن المسيب ومالك والشافعي وإسحاق وابن المنذر، وقال ابن عمر أيهما رق نقص الطلاق برقه فطلاق العبد اثنتان وإن كان تحته حرة وطلاق الأمة اثنتان وإن كان زوجها حرا، وعنه أن الطلاق بالنساء فيملك زوج الحرة ثلاثاً وإن كان عبداً وزوج الأمة اثنتين وإن كان حراً روى ذلك عن علي رضي الله عنه وهو قول ابن مسعود وبه قال الحسن وابن سيرين وعكرمة وعبيدة ومسروق والزهري والحكم وحماد والثوري وابو حنيفة لما روت عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " طلاق الأمة تطليقتان " رواه أبو داود وابن ماجة ولأن المرأة محل الطلاق فيعتبر بها كالعدة

(8/321)


ولنا أن الله خاطب الرجال بالطلاق فكان محله معتبراً بهم ولأن الطلاق خالص حق الزوج وهو مما يختلف بالرق والحرية فكان اختلافه به كعدد المنكوحات، وحديث عائشة قال أبو داود رواه مظاهر بن أسلم وهو منكر الحديث وقد اخرجه الدارقطني في سننه عن عائشة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " طلاق العبد اثنتان فلا تحل له حتى تنكح زوجاً غيره وقروء الأمة حيضتان وتتزوج الحرة على الأمة ولا تتزوج الأمة على الحرة " وهذا نص ولأن الحر يملك أن يتزوج أربعاً فملك طلقات ثلاثاً كما لو كان تحته حرة.
ولا خلاف في أن الحر الذي زوجته حرة طلاقه ثلاث وإن العبد الذي تحته أمة طلاقه اثنتان، وإنما الخلاف فيما إذا كان أحد الزوجين حراً والآخر رقيقاً قال أحمد المكاتب عبد ما بقي عليه درهم وطلاقه وأحكامه كلها أحكام العبد وهذا صحيح فإنه جاء في الحديث " المكاتب عبد ما بقي عليه درهم " ولأنه يصح عتقه ولا ينكح إلا اثنتين ولا يتزوج ولا يتسرى إلا بإذن سيده وهذه أحكام العبيد فيكون طلاقه كطلاق سائر العبيد، وقد روى الأثرم في سننه عن سليمان بن يسار
مكاتب أم سلمة طلق امرأة حرة تطليقتين فسأل عثمان وزيد بن ثابت عن ذلك فقالا حرمت عليك والمدبر كالعبد القن في نكاحه وطلاقه وكذلك المعلق عتقه بصفة لأنه عبد فثبت فيه أحكام العبد (فصل) قال أحمد في رواية محمد بن الحكم العبد إذا كان نصفه حراً ونصفه عبداً يتزوج ثلاثاً ويطلق ثلاث تطليقات

(8/322)


وكذلك كل ما يجري بالحساب إنما جعل له نكاح ثلاث لأن عدد المنكوحات يتبعض فوجب أن يتبعض في حقه كالحد فكذلك كان له أن ينكح نصف ما ينكح العبد وذلك ثلاث، وأما الطلاق فلا تمكن قسمته في حقه لأن مقتضى حاله أن يكون له ثلاثة أرباع الطلاق وليس له ثلاثة أرباع فكمل في حقه ولأن لاصل اثبات الطلقات الثلاث في حق كل مطلق وإنما خولف في حق من كمل الرق فيه ففيما عداه يبقى على الأصل * (مسألة) * (فإذا قال أنت الطلاق أو الطلاق لي لازم ونوى الثلاث طلقت ثلاثاً) قال القاضي لا تختلف الرواية عن أحمد فيمن قال لامرأته أنت الطلاق أنه يقع نواه أو لم ينوه وبهذا قال أبو حنيفة ومالك ولأصحاب الشافعي وجهان (أحدهما) أنه غير صريح لأنه مصدر والأعيان لا توصف بالمصادر إلا مجازاً ولنا أن الطلاق لفظ صريح فلم يفتقر إلى نية كالتصرف وهو مستعمل في عرفهم قال الشاعر: نوهت باسمي في العالمين * وافنيت عمري عاماً فعاما فأنت الطلاق وأنت الطلاق * وأنت الطلاق ثلاثاً تماما قولهم أنه مجاز قلنا نعم إلا أنه يتعذر حمله على الحقيقة ولا محمل له يظهر سوى هذا المحمل فتعين فيه.
إذا ثبت ذلك فإنه إذا قال أنت الطلاق أو الطلاق لي لازم أو الطلاق يلزمني أو علي الطلاق فهو

(8/323)


بمثابة قوله الطلاق يلزمني لأن من يلزمه شئ يضره فهو عليه كالدين.
وقد اشتهر استعمال هذا في إيقاع الطلاق فهو صريح فإنه يقال لمن وقع طلاقه لزمه الطلاق وقالوا إذا عقل الصبي الطلاق فطلق لزمه ولعلهم اراد والزمه حكمه فحذفوا المضاف وأقاموا المضاف إليه مقامه ثم اشتهر ذلك حتى صار من الأسماء العرفية وانغمرت الحقيقة فيه ويقع ما نواه واحدة أو اثنتين أو ثلاثاً
* (مسألة) * (فإن لم ينو شيئاً ففيه روايتان) إحداهما يقع الثلاث نص عليها أحمد في رواية مهنا وهي اختيار أبي بكر لأن الألف واللام للاستغراق فتقتضي استغراق الكل وهو ثلاث (والثانية) أنها واحدة لأنه يحتمل أن تعود الألف واللام إلى معهود يربد الطلاق الذي اوقعته ولأن الألف واللام في أسماء الأجناس تستعمل لغير الاستغراق كثيراً كقوله ومن أكره على الطلاق وإذا عقل الصبي الطلاق وأشباه هذا مما يراد به ذلك الجنس ولا يفهم منه الاستغراق، فعند ذلك لا يحمل على التعميم إلا بنية صارفة إليه، قال شيخنا والأشبه في هذا جميعه أن يكون واحدة في حال الإطلاق لأن أهل العرف لا يعتقدونه ثلاثاً ولا يعلمون أن الألف واللام للاستغراق ولهذا ينكر أحدهم أن يكون طلق ثلاثاً ولا يعتقد أنه طلق إلا واحدة فمقتضى اللفظ في ظنهم واحدة فلا يريدون إلا ما يعتقدونه مقتضى لفظهم فيصير كأنهم نووا واحدة (فصل) فأما إن قال لامرأته أنت طالق ثلاثاً فهي ثلاث وإن نوى واحدة، لا نعلم بين أهل العلم

(8/324)


فيه خلافاً لأن اللفظ صريح في الطلاق الثلاث والنية لا تعارض الصريح لأنها أضعف من اللفظ كما لا يعارض النص القياس ولأن النية إنما تعمل في صرف اللفظ الى بعض محتملا له والثلاث نص فيها لا يحتمل الواحدة بحال فإذا نوى واحدة فقد نوى ما لا يحتمله فلم يصح كما لو قال له علي ثلاثة دراهم وقال أردت واحداً * (مسألة) * (وإن قال أنت طالق ونوى ثلاثاً ففيه روايتان) إحداهما تطلق ثلاثاً وهو قول مالك والشافعي وأبي عبيد وابن المنذر لأن لفظه لو قرن به لفظ الثلاث كان ثلاثاً فإذا نوى به الثلاث كان ثلاثاً كالكنايات ولأنه نوى بلفظه ما يحتمله فوقع ذلك به كالكناية وبيان احتمال اللفظ للعدد أنه يصح تفسيره به فيقول أنت طالق ثلاثاً ولأن قوله طالق اسم فاعل واسم الفاعل يقتضي المصدر كما يقتضيه الفعل والمصدر يقع على القليل والكثير (والرواية الثانية) لا تقع إلا واحدة وهو قول الحسن وعمرو بن دينار والثوري والاوزاعي وأصحاب الرأي لأن هذا اللفظ لا يتضمن عدداً ولا بينونة فلم يقع به الثلاث كما لو قال أنت واحدة.
بيانه ان قوله أنت طالق اخبار عن صفة هي عليها فلم يتضمن العدد كقوله قائمة وحائض وطاهر، والأولى أصح لما
ذكرنا، وفارق قوله انت حائض وطاهر لأن الحيض والطهر لا يمكن تعدده في حقها والطهر يمكن تعدده (فصل) فإن قال أنت طالق طلاقاً ونوى ثلاثاً وقع ثلاث لأنه صريح بالمصدر والمصدر يقع على القليل

(8/325)


والكثير فقد نوى بلفظه ما يحتمله وأن نوى واحدة فهي واحدة وإن أطلق فهي واحدة لأنه اليقين وإن قال أنت طالق الطلاق وقع ما نواه، وان ينو شيئاً فذكر القاضي فيها روايتين (إحداهما) تقع الثلاث لأن الألف واللام للاستغراق فيقتضي استغراق الكل وهو ثلاث (والثانية) أنها واحدة لما ذكرنا من أن الألف واللام تعود إلى المعود * (مسألة) * (وإن قال أنت طالق واحدة ونوى ثلاثاً لم يقع إلا واحدة) لأن لفظه لا يحتمل أكثر منها فإذا نوى ثلاثاً فقد نوى ما لا يحتمله لفظه فلو وقع أكثر من ذلك لوقع بمجرد النية ومجرد النية لا يقع بها طلاق، وقال أصحاب الشافعي تقع ثلاث في أحد الوجهين لأنه يحتمل واحدة معها اثنتان وهذا لا يصح فإن قوله معها اثنتان لا يؤديه معنى الواحدة ولا يحتمله فنيته فيه نية مجردة فلا يعمل كما لو نوى الطلاق من غير لفظه، وفيه لأصحابنا أنه يقع ثلاث والأول أصح * (مسألة) * (وإن قال أنت طالق هكذا وأشار بأصابعه الثلاث طلقت ثلاثاً) لأن قوله هكذا صريح بالتشبيه بالأصابع في العدد وذلك يصلح بياناً كما قال النبي صلى الله عليه وسلم " الشهر هكذا وهكذا " وأشار بيده مرة ثلاثين ومرة تسعا وعشرين فإن قال أردت تعدد المعتوقين قبل منه لأنه

(8/326)


يحتمل ما يدعيه، فأما إن قال أنت طالق وأشار بأصابعه الثلاث ولم يقل هكذا لم يقع إلا واحدة لأن اشارته لا تكفي (فصل) وإن قال لإحدى امرأتيه أنت طالق واحدة بل هذه وأشار الى الأخرى ثلاثاً طلقت الأولى واحدة والثانية ثلاثاً لأنه أوقعه بهما كذلك أشبه ما لو قال له على هذا الدرهم بل هذا فإنه يجب الدرهمان ولا يصح اضرابه عن الأول * (مسألة) * (وإن قال أنت طالق كل الطلاق أو أكثر أو جميعه أو منتهاه أو طالق كألف أو بعدد الحصى أو القطر أو الرمل أو الريح أو التراب طلقت ثلاثاً وإن نوى واحدة)
لأن هذا يقتضي عددا ولان للطلاق أقل وأكثر فأقله واحدة وأكثره ثلاث، وإن قال كعدد الماء أو التراب وقع ثلاث، وقال أبو حنيفة يقع واحدة بائن لأن الماء والتراب من أسماء الأجناس لا عدد له ولنا أن الماء تتعدد أنواعه وقطراته والتراب تتعدد أنواعه وأجزاؤه فأشبه الحصى، وإن قال يا مائة طالق أو أنت مائة طالق طلقت ثلاثاً، وإن قال أنت طالق كمائة أو ألف فهي ثلاث قال أحمد فيمن قال أنت طالق كألف تطليقة فهي ثلاث، وبه قال محمد بن الحسن وبعض أصحاب الشافعي وقال أبو حنيفة وابو يوسف إن لم يكن له نية وقعت واحدة لأنه لم يصرح بالعدد، وإنما شبهها بالألف وليس الموقع المشبه به ولنا ان قوله كألف يشبه العدد خاصة لأنه لم يذكر إلا ذلك فوقع العدد كقوله أنت طالق

(8/327)


كعدد الألف، وفي هذا انفصال عما قال، وإن قال أردت أنها كألف في صعوبتها دين، وهل يقبل في الحكم؟ يخرج على روايتين * (مسألة) * (وإن قال أشد الطلاق أو أغلظه أو أطوله أو أعرضه أو ملء الدنيا ونوى الثلاث وقع الثلاث وإن لم ينو شيئاً أو نوى واحدة فهي واحدة) قال أحمد فيمن قال لامرأته أنت طالق ملء البيت فإن أراد الغلظة عليها يعني يريد أن تبين منه فهي ثلاث فاعتبر نيته فدل على أنه إذا لم ينو تقع واحدة وذلك لأن هذا الوصف لا يقتضي عدداً وهذا لا نعلم فيه خلافاً فإذا وقعت الواحدة فهي رجعية وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة وأصحابه تكون بائناً لأنه وصف الطلاق بصفة زائدة فيقتضي الزيادة عليها وذلك هو البينونة، ولنا أنه طلاق صادف مدخولاً بها من غير استيفاء عدد ولا عوض فكان رجعياً كقوله أنت طالق، وما ذكروه لا يصح لأن الطلاق حكم فإذا ثبت ثبت في الدنيا كلها فلا يقتضي ذلك زيادة فإن قال أنت طالق مثل الجبل أو مثل عظم الجبل ولا نية له وقعت طلقة رجعية وبه قال الشافعي وقال أبو حنيفة تقع بائناً، وقال أصحابه إن قال مثل الجبل كانت رجعية وإن قال مثل عظم الجبل كانت بائناً ووجه القولين ما تقدم

(8/328)


ولنا أنه لا يملك إيقاع البينونة فإنها حكم وليس ذلك إليه وإنما تثبت البينونة بأسباب معينة كالخلع والطلاق قبل الدخول فيملك مباشرة سببها فثبتت وإن أراد إثباتها بدون ذلك لم تثبت، ويحتمل أن يكون ابتداء الطلاق عليه أو عليها ليعجلها أو لحب أحدهما صاحبه ومشقة فراقه عليه فلم يقع أمر زيد بالشك، فإن قال أقصى الطلاق أو أكثره فكذلك في قياس المذهب، ويحتمل أن يكون أقصى الطلاق ثلاثاً لأن أقصاه آخره وآخر الطلاق الثالثة ومن ضرورة كونها ثالثة وقوع اثنتين، وإن قال أتم الطلاق وأكمله فواحدة إلا أنها تكون بنيته * (مسألة) * (وإن قال أنت طالق من واحدة الى ثلاث وقع طلقتان) وبهذا قال أبو حنيفة لأن ما بعد الغاية لا يدخل فيها كقوله تعالى (ثم أتموا الصيام إلى الليل) وإنما كانت بمعنى مع وذلك خلاف موضوعها، وقال زفر: تطلق واحدة لأن ابتداء الغاية ليس منها كقوله بعتك من هذا الحائط الى هذا الحائط، ويحتمل أن تطلق ثلاثاً وهو قول أبي يوسف ومحمد لأنه نطق بها فلم يجز إلغاؤها وكقوله بعتك هذا الثوب من أوله الى آخره ولنا على أن ابتداء الغاية يدخل قوله خرجت من البصرة فإنه يدل على أنه كان فيها وأما انتهاء

(8/329)


الغاية فلا يدخل بمقتضى اللفظ ولو احتمل الدخول وعدمه لم يقع الطلاق بالشك فإن قال أنت طالق ما بين واحدة وثلاث وقعت لأنها التي بينهما * (مسألة) * (وإذا قال أنت طالق طلقة في اثنتين ونوى طلقة مع طلقتين وقعت الثلاث) وإن نوى موجبه عند الحساب وهو يعرفه طلقت طلقتين وإن لم يعرفه فكذلك عند ابن حامد وعند القاضي تطلق واحدة وإن لم ينو وقع بامرأة الحاسب طلقتان وبغيرها طلقة ويحتمل أن تطلق إذا قال أنت طالق طلقة في طلقتين أو واحدة في اثنتين ونوى به ثلاثاً فهي ثلاث لأنه بغير نفي عن كقوله تعالى (ادخلي في عبادي) فتقدير الكلام طلقة مع طلقتين فإن أقر بذلك على نفسه قبل منه وإن قال أردت واحدة قبل أيضاً وإن كان كان حاسباً وقال القاضي لا يقبل إذا كان عارفاً بالحساب ووقع
طلقتان لأنه خلاف ما اقتضاه اللفظ ولنا أنه فسر كلامه بما يحتمله فإنه لا يبعد أن يريد بكلامه ما يريده العامي وإن لم يكن له نية وكان عارفاً بالحساب وقع طلقتان وقال الشافعي إن أطلق لم يقع إلا واحدة لأن لفظ الإيقاع إنما هو الواحدة وما زاد عليها لم يحصل فيه لفظ الإيقاع وإنما يقع الزائد بالقصد فإذا خلا عن القصد لم يقع إلا ما أوقعه وقال بعض أصحابه كقولنا وقال أبو حنيفة لا يقع إلا واحدة سواء قصد به الحساب أو لم يقصد به واحدة أو اثنتن لأن الضرب إنما يصح فيما له مساحة فأما ما لا مساحة له فلا حقيقة فيه للحساب وإنما حصل

(8/330)


منه الإيقاع في واحدة فوقعت دون غيرها ولنا أن هذا اللفظ موضوع في اصطلاحهم لاثنين فإذ لفظ به وأطلق وقع كما لو قال أنت طالق اثنتين وبهذا يحصل الانفصال عما قاله الشافعي فإن اللفظ الموضوع لا يحتاج معه الى نية فأما ما قاله أبو حنيفة فإنما ذلك في موضع الحساب بالأصل ثم صار مستعملاً في كل ماله عدد فصار حقيقة فيه فأما الجاهل بمقتضى ذلك الحساب إذا أطلق وقعت طلقة واحدة لأن لفظ الإيقاع إنما هو لفظة واحدة وإنما صار مصروفاً إلى اثنين بوضع أهل الحساب واصطلاحهم فمن لا يعرف اصطلاحهم لا يلزمه مقتضاه كالعربي ينطق بالطلاق بالعجمية وهو لا يعرف معناها فإن نوى موجبه عند الحساب وهو لا يعرفه فقال ابن حامد لا يقع هو كالحاسب قياساً عليه لاشتراكهما في النية وعند القاضي تطلق واحدة لأنه إذا لم يعرف موجبة لم يقصد إيقاعه فهو كالعجمي ينطلق بالطلاق بالعربي لا يفهمه وهذا قول أكثر أصحاب الشافعي إذا لم يكن يعرف موجبه لأنه لا يصح منه قصد ما لا يعرفه ويحتمل أن تطلق ثلاثاً بناء على أن في معناها مع فالتقدير أنت طالق طلقة مع طلقتين قال شيخنا ولم يفرق أصحابنا في ذلك بين أن يكون المتكلم بذلك ممن لهم عرف في هذا أولاً والظاهر إن كان المتكلم بذلك ممن عرفهم أن في ههنا بمعنى مع وقعت الثلاث لأن كلامه يحمل على عرفهم والظاهر منه إرادته وهو المتبادر الى الفهم من كلامه

(8/331)


(فصل) إذا قال أنت طالق طلقة بل طلقتين وقع طلقتان نص عليه أحمد وقال الشافعية يقع ثلاث
في أحد الوجهين لأن قوله أنت طالق إيقاع فلا يجوز إيقاع الواحدة مرتين فيدل على أنه اوقعها ثم أراد دفعها ووقع اثنتين آخرتين فوقع الثلاث ولنا أن ما لفظ به قبل الإضراب لفظ به بعده فلم يلزمه أكثر مما بعده كقوله له علي درهم بل درهمان وقولهم لا يجوز إيقاع ما أوقعه قلنا يجوز أن تجبره بوقوعه مع وقوع غيره فلا يقع الزائد بالشك (فصل) قال الشيخ رضي الله عنه وإذا قال أنت طالق نصف طلقة او نصفي طلقة أو نصف طلقتين طلقت طلقة وإذا قال أنت طالق نصف طلقة أو جزءاً منها وإن قل وقع طلقة كاملة في قول عامة أهل العلم إلا داود قال لا تطلق بذلك قال إبن المنذر أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم أنها تطلق بذلك منهم الشعبي والحارث العكلي والزهري وقتادة والشافعي وأصحاب الرأي وأبو عبيد قال أبو عبيد وهو قول مالك وأهل الحجاز وأهل العراق وذلك لأن ذكر ما لا يتبعض في الطلاق ذكر لجميعه كما لو قال نصفك طالق فإن قال نصفي طلقة وقعت طلقة لأن نصفي الشئ كله وإن قال أنت طالق نصف طلقتين وقعت واحدة لأن نصف الطلقتين طلقة وذكر أصحاب الشافعي وجهاً آخر أنه يقع طلقتان لأن اللفظ يقتضي النصف من كل واحدة منهما ثم يكمل وما ذكرناه أولى لأن التنصيف يتحقق به وفيه عمل باليقين والغاء الشك وإيقاع ما أوقعه من غير زيادة فكان أولى

(8/332)


* (مسألة) * (وإن قال نصفي طلقتين وقعت طلقتان) لأن نصفي النئ جميعه فهو كما لو قال أنت طالق طلقتين * (مسألة) * (وإن قال ثلاثة أنصاف طلقة طلقت طلقتين) لأن ثلاثة الأنصاف طلقة ونصف وكمل النصف فصار طلقتين وهذا وجه لأصحاب الشافعي ولهم وجه آخر أنها لا تطلق إلا واحدة لأنه جعل الأنصاف من طلقة واحدة فسقط ما ليس منها ويقع طلقة لان إسقاط الطلاق الموقع من الأول في المجلس لا سبيل إليه وانما الاضافة الى الطلقة الواحدة غير صحيحة فلغت الإضافة وإن قال أنت طالق نصف ثلاث طلقات طلقت طلقتين لان نصفها طلقة ونصف ثم يكمل النصف فيصير طلقتين * (مسألة) * (وإن قال ثلاثة أنصاف طلقتين طلقت ثلاثاً ويحتمل أن تطلق طلقتين)
نص أحمد على وقوع الثلاث في رواية مهنا وقال أبو عبد الله بن حامد تقع طلقتان لان معناه ثلاثة أنصاف من طلقتين وذلك طلقة ونصف ثم يكمل فيصير وقيل بل لأن النصف الثالث من طلقتين محال ولأصحاب الشافعي وجهان كهذين ولنا أن نصف الطلقتين طلقة وقد أوقعت ثلاثاً فيقع ثلاث كما لو قال أنت طالق ثلاث طلقات وقولهم معناه ثلاثة أنصاف من طلقتين تأويل يخالف ظاهر اللفظ فانه على ما ذكره يكون ثلاثة أنصاف

(8/333)


طلقتين مخالفة لثلاثة أنصاف طلقة وقولهم إنه مخالف قلنا وقوع نصف الطلقتين عليها ثلاث مرات ليس بمحال فوجب أن يقع * (مسألة) * (وإن قال نصف طلقة ثلث طلقة سدس طلقة أو نصف وثلث وسدس طلقة طلقت طلقة) لأنه لم يعطف بواو العطف فيدل على أن هذا الأجزاء من طلقة غير متغايرة وان الثاني ههنا يكون بدلا من الاول والثالث من الثاني والبدل هو المبدل أو بعضه فلم تتبعض المغايرة وعلى هذا التعليل لو قال أنت طالق طلقة نصف طلقة أو طلقة طلقة لم تطلق إلا طلقة وكذلك إن قال نصفاً وثلثاً وسدساً لم يقع إلا طلقة لأن هذه أجزاء للطلقة إلا أن يريد من كل طلقة جزءاً فتطلق ثلاثاً ولو قال أنت طالق نصفاً وثلثاً وربعاً طلقت طلقتين لأنه يزيد على الطلقة نصف سدس طلقة ثم يكمل وإن أراد من كل طلقة جزءاً طلقت ثلاثاً وإن قال أنت طلقة وأنت نصف طلقة أو أنت نصف طلقة ثلث طلقة سدس طلقة أو أنت نصف طالق وقع بها طلقة بناء على قولنا في قوله أنت الطلاق أنه صريح في الطلاق وههنا مثله * (مسألة) * (وإن قال نصف طلقة وثلث طلقة طلقت ثلاثاً) ذكره أصحابنا لأنه عطف جزءا من طلقة على جزء من طلقة وظاهره أنها طلقات متغايرة ولأنه لو كانت الثانية هي الأولى لجاء بها بلام التعريف فقال ثلث الطلقة وسدس الطلقة فإن أهل العربية قالوا إذا ذكر لفظ ثم أعيد منكراً فالثاني غير الأول وإن أعيد معرفاً بالألف واللام فالثاني هو الأول

(8/334)


لاعادته معرفاً وليس الثاني غير الأول لاعادته منكراً ولهذا قيل لن يغلب عسر يسيرين وقيل لو
أراد بالثانية الأولى لذكرها بالضمير لأنه أولى * (مسألة) * (وإذا قال لأربع نسوة أوقعت بينكن طلقة أو اثنتين أو ثلاثاً أو أربعاً وقع بكل واحدة طلقة) إذا قال أوقعت بينكن طلقة وقع بكل واحدة منهن طلقة كذلك قال الحسن والشافعي وأبو عبيد وأصحاب الرأي لأن اللفظ اقتضى قسمها بينهن لكل واحدة ربعها ثم يكمل وإن قال بينكن طلقة فكذلك نص عليه أحمد لأن معناه أوقعت بينكن طلقة وإن قال أوقعت بينكن طلقتين فكذلك ذكره أبو الخطاب وهو قول أبي حنيفة والشافعي وقال أبو بكر والقاضي يقع بكل واحدة طلقتان وعن أحمد ما يدل عليه فإنه روي عنه في رجل قال أوقعت بينكن ثلاث تطليقات ما أري إلا قد بن منه ووجه ذلك أنا إذا قسمنا كل طلقة بينهن حصل لكل واحدة جزء من طلقتين ثم يكمل والأول أولى لأنه لو قال أنت طالق نصف طلقتين طلقت واحدة ويكمل نصيبها من الطلاق في واحدة فيكون لكل واحدة نصف ثم يكمل طلقة واحدة وإنما يقسم بالأجزاء مع الاختلاف كالدور ونحوها من المختلفات أما الجمل المتساوية من جنس كالنقود فانما تقسم برؤوسها ويكمل نصيب كل واحد من واحد كأربعة لهم درهمان صحيحان فإنه يجعل لكل واحد نصف من درهم واحد والطلقات لا خلاف فيها ولأن فيما ذكرناه أخذاً باليقين فكان أولى من إيقاع طلقة زائدة بالشك فاما ان أراد قسمة كل طلقة بينهن فهو على

(8/335)


ما قال أبو بكر وإن قال أوقعت بينكن ثلاثاً أو أربعاً فعلى قولنا يقع بكل واحدة طلقة وعلى قولهما يطلقن ثلاثاً ثلاثا * (مسألة) * (وإن قال أوقعت بينكن خمساً وقع بكل واحدة طلقتان) وبه قال الحسن وقتادة والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي لأن نصيب كل واحدة تطليقة وربع ثم يكمل وكذلك إن قال ستاً أو سبعاً أو ثمانياً وإن قال أوقعت بينكن تسعاً وقع بكل واحدة ثلاث على القولين جميعاً (فصل) فإن قال أوقعت بينكن طلقة وطلقة وطلقة وقع بكل واحدة منهن ثلاث لأنه لما عطف وجب قسم كل طلقة على حدتها ويستوي في ذلك المدخول بها وغيرها في قياس المذهب لأن الواو لا تقتضي ترتيباً وقيل يقع بها واحدة على الأولى خاصة كما إذا قال أوقعت بينكن ثلاثاً ذكره صاحب المجرد
وإن قال أوقعت بينكن نصف طلقة وثلث طلقة وسدس طلقة فكذلك لأن هذا يقتضي وقوع ثلاث على ما قدمنا وإن قال أوقعت بينكن طلقة فطلقة فطلقة أو طلقتها طلقة ثم طلقة أو أوقعت بينكن طلقة وأوقعت بينكن طلقة طلقن ثلاثاً إلا التي لم يدخل بها فإنها لا تطلق إلا واحدة لأنها بانت بالأولى فلم يلحقها ما بعدها (فصل) فإن قال لنسائه أنتن طالق ثلاثاً أو طلقتكن ثلاثاً طلقن ثلاثاً نص عليه أحمد لأن قوله طلقتكن يقتضي تطليق كل واحدة منهن وتعميمهن به ثم وصف ما عمهن به من الطلاق بأنه ثلاث فصار

(8/336)


لكل واحدة ثلاث بخلاف قوله أوقعت بينكن ثلاثاً فإنه يقتضي قسمة الثلاث عليهن لكل واحدة منهن جزءا منها وجزء الواحدة من الثلاث ثلاثة أرباع تطليقة (فصل) إذا قال نصفك أو جزء منك أو أصبعك أو دمك طالق طلقت، متى طلق جزءاً من المرأة من أجزائها النابتة طلقت كلها سواء كان شائعاً كنصفها أو سدسها أو جزءاً من ألف جزء منها أو جزءا معينا كيدها أو رأسها أو أصبعها، وهذا قول الحسن ومذهب الشافعي وأبي ثور وابن القاسم من أصحاب مالك وقال أصحاب الرأي ان أضافة إلى جزء شائع أو واحد من أعضاء خمسة: الرأس والوجه والرقبة والظهر والفرج طلقت وإن أضافة إلى جزء معين غير هذه الخمسة لم تطلق لأنه جزء تبقى الجملة بدونه أو جزء لا يعبر به عن الجملة فلم تطلق المرأة لاضافة الطلاق إليه كالسن والظفر ولنا أنه أضاف الطلاق إلى جزء ثابت استباحه بعقد النكاح فأشبه الجزء الشائع والأعضاء الخمسة ولأنها جملة لا تتبعض في الحل والحرمة وجد فيها ما يقتضي التحريم والإباحة فغلب فيها حكم التحريم كما لو اشترك مسلم ومجوسي في قتل صيد، وفارق ما قاسوا عليه فإنه ليس يبقى فإن الشعر والظفر يزولان ويخرج غيرهما ولا تنقض منها الطهارة

(8/337)


* (مسألة) * (وإن قال شعرك أو ظفرك أو سنك طالق لم تطلق) وبهذا قال أصحاب الرأي ويحتمل أن تطلق ذكره صاحب المحرر وقال مالك والشافعي تطلق بذلك ونحوه عن الحسن لأنه جزء يستباح بنكاحها فتطلق بطلاقه كالأصبع
ولنا أنه جزء ينفصل عنها في حال السلامة، وفارق الاصبع فإنها لا تنفصل في حال السلامة والسن تزول من الصغير ويخلق غيرها وتنقلع من الكبير بخلاف الاصبع فلم تطلق بطلاقه كالحمل والريق ولأن الشعر لا روح فيه ولا ينقض الوضوء مس فأشبه العرق واللبن * (مسألة) * (وإن أضافه إلى الريق والحمل والدمع والعرق لم تطلق) لا نعلم فيه خلافاً لأن هذه ليست من جسمها فإن الريق والدمع والعرق فضلات والحمل وإن كان متصلاً بها إلا أن مآله إلى الانفصال فلذلك لم تطلق به وهو مودع فيها.
قال الله تعالى (وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة فمستقر ومستودع) في بطن الام * (مسألة) * (وإن قال روحك طالق طلقت) لأن الحياة لا تبقى بدون روحها كالدم، وقال أبو بكر لا يختلف قول أحمد في الطلاق والعتاق والظهار والحرام أن هذه الأشياء لا تقع إذا ذكر أربعة أشياء: الشعر والسن والظفر والروح.
جرد لقول عنه مهنأ بن يحيى والفضل بن زياد القطان فبذلك أقول ووجهه أن الروح ليست عضواً ولا شيئاً يستمتع به

(8/338)


(فصل) فيما يخالف المدخول بها غيرها * (مسألة) * (إذا قال للمدخول بها أنت طالق أنت طالق طلقت طلقتين إلا أن ينوي بالثانية التأكيد أو افهامها) إذا قال لامرأته المدخول بها أنت طالق مرتين ونوى بالثانية إيقاع طلقة ثانية وقعت بها طلقتان بلا خلاف وإن نوى بها افهامها أن الأولى قد وقعت بها أو التأكيد لم تطلق إلا واحدة، وإن لم تكن له نية وقعت طلقتان، وبه قال أبو حنيفة ومالك وهو الصحيح من قولي الشافعي وقال في الآخر تطلق واحدة لأن التكرار يكون للتأكيد والإفهام ويحتمل الإيقاع فلا نوقع طلقة بالشك ولنا أن هذا اللفظ للايقاع ويقتضي الوقوع بدليل ما لو يتقدمه مثله وإنما ينصرف عن ذلك بنية التأكيد والإفهام فإذا لم يوجد ذلك وقع مقتضاه كما يجب العمل بالعموم في العام إذا لم يوجد المخصص وبالاطلاق في المطلق إذا لم يوجد المقيد، فأما غير المدخول بها فلا تطلق إلا واحدة سواء نوى الإيقاع
أو غيره وسواء قال ذلك منفصلاً أو متصلاً وهذا قول عكرمة والنخعي وحماد بن أبي سليمان والحكم والثوري والشافعي وأصحاب الرأي وأبي عبيد وابن المنذر وذكره الحاكم عن علي وزيد بن ثابت وابن مسعود وقال مالك والاوزاعي والليث يقع بها طلقتان وإن قال ذلك ثلاثا طلقت ثلاثا إذا كان متصلاً لأنه طلق ثلاثاً بكلام متصل أشبه قوله أنت طالق ثلاثاً

(8/339)


ولنا أنه طلاق مفرق في غير المدخول بها فلم يقع إلا الاولى كما لو فرق كلامه ولأن غير المدخول بها تبين بطلقة لأنه لا عدة عليها فتصادفها الطلقة الثانية بائناً فلا يقع الطلاق بها لأنها غير زوجة ولأنه قول من سمينا من الصحابة ولا نعلم لهم مخالفاً في عصرهم فيكون إجماعاً (فصل) فأما إن قال أنت طالق ثم مضى زمن طويل ثم أعاد ذلك للمدخول بها طلقت ثانية ولم يقبل قوله نويت التوكيد لأن التوكيد تابع للكلام فشرطه أن يكون متصلاً به كسائر التوابع من العطف والصفة والبدل.
* (مسألة) * (وإن قال أنت طالق فطالق أو ثم طالق أو طالق بل طلقتين أو بل طلقة أو طالق طلقة بعدها أو قبل طلقة طلقت طلقتين إن كانت مدخولا بها وإن كانت غير مدخول بها بانت بالأولى ولم يلزمها ما بعدها وعنه فيما إذا قال أنت طالق طلقة بل طلقة أو طالق بل طالق أنه لا يقع بالمدخول بها إلا طلقة بناء على ما إذا قال له علي درهم بل درهم ذكره في المحرر) كل طلاق مرتب في الوقوع يأتي بعضه بعد بعض لا يقع بغير المدخول بها منه أكثر من واحدة لما ذكرنا ويقع بالمدخول بها ثلاث إذا أوقعها كقوله أنت طالق فطالق أو أنت طالق ثم طالق وأنت طالق أو فطالق وأشباه ذلك لأن هذه حروف تقتضي الترتيب فتقع بها الأولى فتبينا فتأتي الثانية فتصادفها بائناً غير زوجة فلا تقع بها

(8/340)


فأما المدخول بها فتأتي الثانية فتصادفها محل النكاح فتقع وكذلك الثالثة وكذلك لو قال أنت طالق بل طالق وطالق ذكره أبو الخطاب، وإن قال أنت طالق طلقة قبل طلقة أو بعد طلقة أو بعدها طلقة أو
طلقة فطلقة أو طلقة ثم طلقة وقع بغير المدخول بها طلقة وبالمدخول بها اثنتان لما ذكرنا من أن هذا يقتضي طلقة بعد طلقة * (مسألة) * (وإن قال أنت طالق طلقة قبلها طلقة فكذلك عند القاضي) وهو ظاهر مذهب الشافعي وقال بعضهم لا يقع بغير المدخول بها شئ بناء على قولهم في السريجية وقال أبو بكر وأبو الخطاب يقع اثنتان وهو قول أبي حنيفة لأنه استكمال وقوع الطلقة الأخرى قبل الطلقة الموقعة فوقعت معها لأنها لما تأخرت عن الزمن الذي قصد إيقاعها فيه لكونه زمانا ماضياً وجب إيقاعها في أقرب الأزمنة وهو معها ولا يلزم تأخرها إلى ما بعدها لأن قبله زمناً يمكن الوقوع فيه وهو زمن قريب فلا يؤخر إلى البعيد ولنا أن هذا طلاق بعضه قبل بعض فلم يقع بغير المدخول بها جميعه كما لو قال طلقة بعد طلقة أو قال أنت طالق طلقة غداً وطلقة اليوم ولو قال جاء زيد بعد عمرو أو جاء زيد وقبله عمرو أو أعط زيداً بعد عمرو كان كلامه صحيحاً يفيد تأخر المتقدم لفظاً عن المذكور بعده.
وليس هذا طلاقاً في زمن ماض وإنما يقع إيقاعه في المستقبل على الوجه الذي رتبه، ولو قدر أن إحداهما موقعة في زمن ماض

(8/341)


لامتنع وقوعها ووقعت الاخرى وهذا تعليل القاضي لكونه لا يقع إلا واحدة.
قال شيخنا والأول من التعليلين أصح إن شاء الله تعالى * (مسألة) * (وإن قال أنت طالق طلقة معها طلقة أو مع طلقة أو طالق وطالق طلقت طلقتين) إذا قال أنت طلق طلقة معها طلقة وقع بها طلقتان سواء في ذلك المدخول بها أو غيرها وإن قال معها اثنتان وقع بها ثلاث في قياس المذهب وهو أحد الوجهين لأصحاب الشافعي وقال أبو يوسف تقع واحدة لأن الطلقة إذا وقعت مفردة لم يكن أن يكون معها شئ ولنا أنه أوقع ثلاث طلقات بلفظ يقتضي وقوعهن معا فوقعن كلهن كما لو قال أنت طالق ثلاثاً ولا نسلم أن الطلقة تقع مفردة فإن الطلاق لا يقع بمجرد اللفظ به إذ لو وقع بذلك لما صح تعليقه بشرط ولا صح وصفه بالثلاث ولا بغيرها
(فصل) إذا قال لغير مدخول بها أنت طالق وطالق وقعت طلقتان، وإن قال أنت طالق وطالق وطالق طلقت ثلاثاً وبه قال مالك والاوزاعي والليث وربيعة وابن أبي ليلى وحكي عن الشافعي في القديم ما يدل عليه، وقال الثوري والشافعي لا يقع إلا واحدة لأنه أوقع الأولى قبل الثانية فلم يقع عليها شئ آخر كما لو فرقها وذكره ابن أبي موسى في الإرشاد وجها في المذهب ولنا أن الواو تقتضي الجمع ولا ترتيب فيها فيكون موقعاً للثلاث جميعاً فيقعن عليها كقوله أنت طالق

(8/342)


ثلاثاً أو طلقة معها طلقتان، ويفارق ما إذا فرقها فإنه لا يقع جميعاً وكذلك إذا عطف بعضها على بعض بحرف يقتضي الترتيب فإن الأولى تقع قبل الثانية بمقتضى إيقاعه وههنا لا تقع الاولى حين نطقه بها حتى يتم كلامه بدليل أنه لو ألحقه استثناءا أو شرطاً لحق به ولم يقع الأول مطلقاً ولو كان يقع حين نطقه لم يلحقه شئ من ذلك، وإذا ثبت أنه يقف وقوعه على تمام الكلام فإنه يقع عند تمام كلامه على الوجه الذي اقتضاه لفظه ولفظه يقتضي وقوع الطلقات الثلاث مجتمعات، فإن قيل إنما أوقعنا أول الكلام على آخره مع الشرط والاستثناء لأنه معبر له والعطف لا يعبر فلا يتوقف عليه، ويتبين أنه وقع أول ما لفظ به وكذلك لو قال لها أنت طالق أنت طالق لم يقع إلا واحدة، قلنا ما لم يتم الكلام فهو عرضة للتغيير اما بما يخصه بزمن أو يقيده بقيد كالشرط وإما بما يمنع بعضه كالاستثناء، وإما بما يبين عدد الواقع كالصفة بالعدد واشباه هذا فيجب أن يكون واقعاً ولولا ذلك لما وقع بغير المدخول بها ثلاث بحال لأنه لو قال لها أنت طالق ثلاثا فوقعت بها طلقة قبل قوله ثلاثاً لم يكن أن يقع شي آخر وأما إذا قال أنت طالق أنت طالق أنت طالق فهاتان جملتان لا تتعلق إحداهما بالأخرى ولو تعقب إحداهما شرط أو استثناء أو صفة لم يتناول الأخرى فلا وجه لوقوف إحداهما على الأخرى والمعطوف مع

(8/343)


المعطوف عليه شئ واحد لو تعقبه شرط لعاد إلى الجميع ولأن المعطوف لا يستقل بنفسه ولا يفيد بمفرده بخلاف قوله أنت طالق فانها جملة مفيدة لا تعلق لها بالأخرى فلا يصح قياسها عليها (فصل) فإن قال أنت طلق طلقتين ونصفاً فهي عندنا كالتي قبلها تقع الثلاث وقال مخالفونا تقع طلقتان
(فصل) وإذا قال أنت طالق طلقة بعدها طلقة ثم قال أردت أن أوقع بعدها طلقة دين وهل يقبل في الحكم؟ يخرج على روايتين.
وإن قال أنت طالق طلقة قبلها طلقة وقال أردت أني طلقتها قبل هذا في نكاح آخر أو أن زوجا قبلي طلقها دين، وهل يقبل في الحكم؟ فيه ثلاثة أوجه (أحدها) يقبل (والثاني) لا يقبل (والثالث) يقبل إن كان وجد، والصحيح أنه لا يقبل إذا لم يكن وجد لأنه لا يحتمل ما قاله.
(فصل) فإن قال أنت طالق طالق طالق وقال أردت التوكيد قبل منه لأن الكلام تكرار للتأكيد كقوله عليه السلام " فنكاحها باطل باطل باطل " وإن قصد الايقاع وتكرار اللفظان طلقت ثلاثاً.
وإن لم ينو شيئاً لم يقع إلا واحدة لأنه لم يأت بينهما بحرف يقتضي المغايرة فلا تكن متغايرات، وإن قال أنت طالق وطالق وطالق وقال أردت بالثانية التأكيد لم يقبل لأنه غاير بينهما وبين الأولى بحرف يقتضي العطف والمغايرة وهذا يمنع.
وأما الثالثة فهي كالثانية في لفظها فإن قال أردت بها التوكيد دين وهل يقبل في الحكم؟ على روايتين

(8/344)


(إحداهما) يقبل وهو مذهب الشافعي لأنه كرر لفظ الطلاق مثل الاول فقبل تفسيره بالتأكيد كما لو قال أنت طالق أنت طالق والثانية لا يقبل لأن حرف العطف للمغايرة فلا يقبل منه ما يخالف ذلك كما لا يقبل في الثانية ولو قال أنت طالق فطالق فطالق أو أنت طالق ثم طالق ثم طالق فالحكم فيها كالتي عطفها بالواو فإن غاير بين الحروف فقال أنت طالق وطالق ثم طالق ثم طالق وطالق أو طالق وطالق فطالق ونحو ذلك فلم يقبل في شئ منها إرادة التوكيد لأن كل كلمة مغايرة ما قبلها مخالفة لها في لفظها والتوكيد إنما يكون بتكرير الأول بصورته (فصل) فإن قال أنت مطلقة أنت مسرحة أنت مفارقة وقال اردث التوكيد بالثانية والثالثة قبل لانه لم يغاير بينهما بالحروف الموضوعة للمغايرة بين الألفاظ بل أعاد اللفظة بمعناها ومثل هذا يعاد توكيداً وإن قال أنت طلقة ومسرحة ومفارقة وقال أردت التوكيد أحتمل أن يقبل منه لأن اللفظ المختلف يعطف بعضه على بعض توكيداً * فالفي قولها كذبا ومينا * ويحتمل أن لا يقبل لأن الواو تقتضي المغايرة فأشبه
ما لو كان بلفظ واحدا * (مسألة) * (والمعلق كالمنجز في حكم المدخول بها وغيرها) فلو قال إن دخلت الدار فانت طالق وطالق فدخلت الدار طلقت ثلاثاً وبه قال أبو يوسف

(8/345)


ومحمد وأصحاب الشافعي في أحد الوجهين وقال أبو حنيفة تقع واحدة لأن الطلاق المطلق إذا وجدت الصفة يكون كأنه أوقعه في الحال على تلك الصفة ولو أوقعه كذلك لم يقع إلا واحدة ولنا أنه وجد شرط وقوع ثلاث طلقات غير مرتبات فوقع الثلاث كما لو قال إن دخلت الدرا فانت طالق وكرر ذلك ثلاثاً فدخلت فانها تطلق ثلاثاً في قول الجميع * (مسألة) * (وإن قال إن دخلت الدار فأنت طالق طلقة معها طلقة فدخلت طلقت طلقتين وذكر مثل هذا بعض أصحاب الشافعي ولم يحك عنهم فيه خلافاً وكذلك إذا قال طلقة مع طلقة فدخلت * (مسألة) * (وإن قال لغير مدخول بها أنت طالق ثم طالق ثم طالق إن دخلت الدار وإن دخلت الدار فأنت طالق فطالق فطالق فدخلت طلقت واحدة فبانت بها ولم تطلق غيرها) وبهذا قال الشافعي وذهب القاضي إلى أنها تطلق في الحال واحدة تبين بها وهو قول أبي حنيفة في الصورة الأولى لأن ثم تقطع الأولى عما بعدها للمهلة فتكون الأولى واقعة والثانية معلقة بالشرط وقال أبو يوسف ومحمد لا يقع حتى تدخل الدار فيقع بها ثلاث لأن دخول الدار شرط للثلاث فوقعت كما لو قال إن دخلت الدار فانت طالق وطالق وطالق ولنا أن ثم للعطف وفيها ترتيب فتعلقت التطليقات كلها بالدخول لأن العطف لا يمنع تعلق الشرط

(8/346)


بالمعطوف عليه ويجب الترتيب فيها كما يجب لو لم يعلقه بالشرط وفي هذا انفصال عما ذكروه ولأن الأولى تلي الشرط فلم يجز وقوعها بدونه كما لو لم يعطف عليها ولأنه جعل الأولى جزءاً للشرط وعقبه إياها بفاء التعقيب الموضوعة للجزاء فلم يجز تقديمها عليه كسائر نظائره ولأنه لو قال إن دخل زيد داري فاعطه درهما ثم درهما لم يجز أن يعطيه قبل دخوله فكذا ههنا وما ذكروه تحكم ليس له شاهد
في اللغة ولا أصل في الشرع فأما إن قال لمدخول بها إن دخلت الدار فانت طالق ثم طالق ثم طالق لم يقع بها شئ حتى تدخل الدار فيقع بها الثلاث وبهذا قال الشافعي وأبو يوسف ومحمد وذهب القاضي إلى وقوع طلقتين في الحال وتبقى الثالثة معلقة بالدخول وهو ظاهر الفساد فإنه يجعل الشرط المتقدم للمعطوف دون المعطوف عليه ويعلق به ما بعد عنه دون ما يليه ويجعل جزاءه ما لم يوجد فيه الفاء التي يجازى بها دون ما وجدت يه تحكما لا يعرف عليه دليل ولا نعلم له نظيراً وإن قال لها إن دخلت الدار فانت طالق فطالق فطالق فدخلت طلقت ثلاثاً في قولهم جميعاً * (مسألة) * (وإن قال إن دخلت الدار فانت طالق ان دخلت فانت طالق فدخلت طلقت طلقتين بكل حال) وإن كرر ذلك ثلاثا طلقت ثلاثاً في قول الجميع لأن الصفة وجدت فاقتضى وقوع الطلاق والثلاث دفعة واحدة والله أعلم

(8/347)


(باب الاستثناء في الطلاق) حكي أبي بكر أنه لا يصح الاستثناء في الطلاق والمذهب على أنه يصح استثناء ما دون النصف ولا يصح فيما زاد عليه وفي استثناء النصف وجهان إذا اسثني في الطلاق بلسانه صح استثناؤه وهو قول جملة أهل العلم قال ابن المنذر أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن الرجل إذا قال لامرأته أنت طالق ثلاثا إلا واحدة انها تطلق طلقتين منهم الثوري والشافعي وأصحاب الرأي وحكي عن أبي بكر ان الاستثناء لا يؤثر في عدد الطلقات ويجوز في المطلقات فلو قال أنت طالق ثلاثا إلا واحدة وقع الثلاث ولو قال نسائي طوالق إلا فلانة لم تطلق لأن الطلاق لا يمكن رفعه بعد إيقاعه والاستثناء يرفعه لو صح وما ذكره من التحليل باطل بما يسلمه من الاستثناء في المطلقات وليس الاستثناء رفعا لما وقع إذ لو كان كذلك لما صح في المطلقات والاعتاق لا في الإقرار ولا في الاخبار وإنما هو مبين أن المسنثى غير مراد في الكلام فهو يمنع أن يدخل فيه ما لولاه لدخل فقوله (فليث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما) عبارة عن تسعمائة وخمسين عاماً، وقوله (إنني براء مما تعبدون إلا الذي فطرني) مقتضاه أنه لم يتبرأ من الله، فكذلك قوله أنت طالق ثلاثا إلا واحدة عبارة
عن اثنتين لا غير، وحرف الاستثناء المستولى عليه إلا ويشبه به أسماء وأفعال وحروف فالأسماء غير

(8/348)


وسوى، والأفعال ليس وعدا، والحروف حاشا وخلا، فبأي كلمة استثنى بها صح الاستثناء (فصل) ولا يصح استثناء الأكثر، نص عليه أحمد فلو قال أنت طالق ثلاثا إلا اثنتين وقع ثلاث والأكثرون على أن ذلك جائز، إلا أن أهل العربية إنا أجازوه في القليل من الكثير حكي ذلك عن جماعة من أئمة اللغة فإذا قال أنت طالق ثلاثا إلا واحدة وقع اثنتان ولو قال إلا اثنتين وقع ثلاث، وإن قال طلقتين إلا طلقة ففيه وجهان [أحدهما] يقع طلقة (والثاني) طلقتان بناء على صحة استثناء النصف هل يصح أولا؟ على وجهين * (مسألة) * (وإن قال أنت طالق ثلاثا إلا ثلاثاً أو ثلاثاً إلا اثنتين أو خمساً إلا ثلاثاً أو ثلاثاً إلا ربع طلقة طلقت ثلاثاً) إذا قال أنت طالق ثلاثا إلا ثلاثا وقع ثلاث بغير خلاف لأن الاستثناء لرفع المستثنى منه فلا يصح أن يرفع جميعه وإن قال ثلاثاً إلا اثنتين فعندنا يقع ثلاث بناء على أنه لا يصح استثناء الأكثر وسنذكر ذلك والخلاف فيه ودليل كل واحد من القولين في كتاب الاقرار إن شاء الله تعالى وإن قال أنت طالق خمساً إلا ثلاثاً وقع ثلاث لأن الاستثناء إن عاد إلى الخمس فقد استثنى الأكثر وإن عاد إلى الثلاث التي يملكها فقد رفع جميعها وكلامها لا يصح، وإن قال خمساً إلا طلقة ففيه وجهان [أحدهما] يقع ثلاث لأن الكلام مع الاستثناء كأنه نطق بما عدا المستثنى فكأنه قال أنت طالق

(8/349)


أربعاً (والثاني) يقع اثنتان، ذكره القاضي لأن الاستثناء يرجع إلى ما ملكه من الطلقات وما زاد عليها يلغو وقد استثنى واحدة من الثلاث فيصح ويقع طلقتان وإن قال ثلاث إلا ربع طلقة طلقت ثلاثاً لأن الطلقة الناقصة تكمل فتصير ثلاثا * (مسألة) * (وإن قال أنت طالق اثنتين إلا واحدة فعلى وجهين ذكرناهما، وذلك مبني على صحة استثناء النصف)
وإن قال أنت طالق أربعاً إلا اثنتين فعلى الوجهين يصح الاستثناء ويقع طلقتان وعلى قول القاضي ينبغي أن لا يصح الاستثناء ويقع ثلاث لأن الاستثناء يرجع إلى الثلاث فيكون استثناء الاكثر * (مسألة) * (وإن قال أنت طالق ثلاثا إلا اثنتين إلا واحدة، فهل تطلق ثلاثاً أو اثنتين؟ على وجهين) .
وجملة ذلك أن الاستثناء من الاستثناء لا يصح منه في الطلاق إلا هذه المسألة فإنه يصح إذا أجزنا استثناء النصف فيقع به طلقتان فإن قيل فكيف أجزتم أستثناء الثنتين من الثلاث وهي أكثرها؟ قلنا لأنه لم يسكت عليها بل وصلها بأن استثنى منهها طلقة فصارنا عبارة عن واحدة وإن قلنا لا يصح استثناء النصف وقع الثلاث.

(8/350)


* (مسألة) * (وإن قال أنت طالق ثلاثا إلا ثلاثاً إلا واحدة لم يصح ووقع ثلاث) لأنه إذا استثنى واحدة من ثلاث بقي اثنتان لا يصح استثناؤهما من الثلاث الأولى فيقع الثلاث وذكر أبو الخطاب فيها وجهاً آخر أنه يصح لأن الاستثناء الاول يغلو لكونه استثنى الجميع فيرجع قوله إلا واحدة إلى الثلاث المثبتة فيقع منها طلقتان والأول أولى لأن الاستثناء من الاثبات نفي، ومن النفي اثبات، فإذا استثنى من الثلاث المنفية طلقة كان مثبتاً لها فلا يجوز جعلها من الثلاث المثبتة لأنه يكون إثباتاً من اثبات.
* (مسألة) * (وإن قال أنت طالق وطالق إلا واحدة أو طلقتين وواحدة إلا واحدة أو طلقتين ونصفاً إلا واحدة طلقت ثلاثاً ويحتمل أن يقع طلقتان) في هذه المسائل الثلاث وجهان: (أحدهما) لا يصح الاستثناء لأن الاستثناء يرفع الجملة الأخيرة بكمالها من غير زيادة عليها فيصير ذكره استثناءها لغواً وكل استثناء أفضى تصحيحه إلى الغائه والغاء المستثنى منه بطل كاستثناء الجميع ولأن الغاءه وحده أولى من إلغائه وإلغاء غيره ولأن الاستثناء يعود إلى الجملة الأخيرة في أحد الوجهين فيكون استثناء للجميع

(8/351)


(والوجه الثاني) يصح الاستثناء ويقع طلقتان لأن العطف بالواو يجعل الجملتين كالجملة الواحدة فيصير مستثنياً واحدة من ثلاث وكذلك لو قال له علي مائة وعشرون إلا خمسين صح والأول مذهب أبي حنيفة والشافعي.
* (مسألة) * (وإن قال أنت طالق واحدة، واثنتين إلا واحدة) فعلى الوجه الثاني يصح الاستثناء، وعلى الوجه الأول يخرج في صحته وجهان بناء على استثناء النصف فإن كان العطف بغير واو كقوله أنت طالق فطالق أو طالق ثم طالق ثم طالق إلا طلقة لم يصح الاستثناء لأن هذا حرف يقتضي الترتيب وكون الطلقة الأخيرة مفردة عما قبلها فيعود الاستثناء إليها وحدها فلا يصح، وإن قال أنت طالق اثنتين واثنتين الا اثنتين لم يصح لأنه إن عاد إلى الجملة الأخيرة فهو رفع لجميعها وإن عاد إلى الثلاث التي يملكها فهو رفع لاكثرها وكلاهما لا يصح، ويحتمل أن يصح بناء على أن العطف بالواو يجعل الجملتين جملة واحدة وإن استثناء النصف يصح فكأنه قال أربعاً إلا اثنتين فإن قال أنت طالق اثنتين واثنتين الا واحدة احتمل أن يصح لأنه استثنى واحدة من ثلاث واحتمل أن لا يصح لأنه عاد إلى الرابعة فقد بقي بعدها ثلاث، وإن عاد إلى الواحدة الباقية من الاثنتين فهو استثناء الجميع.
(فصل) وإن قال أنت طالق ثلاثاً إلا طلقة وطلقة وطلقة ففيه وجهان (أحدهما) يلغو الاستثناء

(8/352)


ويقع ثلاث لأن العطف يوجب اشتراك المعطوف مع المعطوف عليه فيصير مستثنياً ثلاثاً من ثلاث وهذا وجه لأصحاب الشافعي، وقال أبو حنيفة والشافعي يصح الاستثناء في طلقة لأن استثناء الأقل جائز وإنما لا يصح استثناء الثانية والثالثة فيلغو وحده، وقال أبو يوسف ومحمد يصح استثناء الثنتين وتلغو الثالثة بناء علي أصلهم في أن استثناء الأكثر جائز وهو الوجه الثاني لأصحاب الشافعي، وإن قال أنت طالق طلقتين إلا طلقة وطلقة ففيه الوجهان، وإن قال أنت طالق ثلاثا إلا طلقة ونصفاً احتمل وجهين أيضاً أحدهما يلغو الاستثناء لأن النصف يكمل فيكون مستثنياً للأكثر فيلغو والثاني يصح في طلقة فيقع
طلقتان لما ذكرنا في التي قبلها، وإن قال أنت طالق ثلاثا إلا واحدة وإلا واحدة كان عاطفاً لاستثناء على استثناء فيصح الأول ويلغو الثاني لأننا لو صححناه لكان مستثنياً للأكثر فيقع به طلقتان، ويجئ على قول من أجاز استثناء الأكثر أنه يصح فيها فيقع طلقة واحدة، وإن قال أنت طالق ثلاثا إلا واحدة إلا واحدة كان مستثنياً من الواحدة المستثناة واحدة فيحتمل أن يلغو الاستثناء الثاني ويصح الأول فيقع به طلقتان ويحتمل أن يقع به الثلاث لأن الاستثناء الثاني معناه اثبات طلقة في حقها لكون الاستثناء من النفي اثباتاً فيقع ذلك في إيقاع طلاقه وإن لم يقبل في نفيه كما لو طلق طلقتين ونصفاً وقع به ثلاث

(8/353)


* (مسألة) * (وإن قال أنت طالق ثلاثا واستثنى بقلبه إلا واحدة وقعت الثلاث وإن قال نسائي طوالق واستثنى واحدة بقلبه لم تطلق) وجملة ذلك أن ما يتصل باللفظ من قرينة أو استثناء على ثلاثة أضرب (أحدها) ما لا يصح نطقاً ولا نية وذلك نوعان (أحدهما) ما يرفع حكم اللفظ كله مثل أن يقول أنت طالق ثلاثا إلا ثلاثاً وأنت طالق طلقة لا تلزمك ولا تقع عليك فهذا لا يصح بلفظه ولا نيته لأنه يرفع حكم اللفظ كله فيصير الجميع لغوا فلا يصح هذا في اللغة بالاتفاق وإذا كان كذلك سقط الاستثناء والصفة ووقع الطلاق (الضرب الثاني) ما يقبل لفظاً ولا يقبل نية لا في الحكم ولا فيما بينه وبين الله تعالى وهو استثناء الأقل فهذا يصح لفظاً لأنه من لسان العرب ولا يصح بالنية مثل أن يقول أنت طالق ثلاثاً واستثنى بقلبه إلا واحدة أو أكثر فهذا لا يصح لأن العدد نص فيما يتناوله لا يحتمل غيره فلا يرتفع بالنية ما ثبت بنص اللفظ فإن اللفظ أقوى من النية ولو نوى بالثلاث اثنتين كان مستعملاً للفظ في غير ما يصلح له فوقع مقتضى اللفظ ولغت نيته، وحكي عن بعض الشافعية أنه يقبل فيما بينه وبين الله تعالى كما لو قال نسائي طوالق واستثنى بقلبه إلا فلانة، والفرق بينهما أن نسائي اسم عام يجوز التعبير به عن بعض ما وضع له وقد استعمل العموم بازء الخصوص كثيراً فإذا أراد به البعض صح وقوله ثلاثاً اسم عدد للثلاث لا يجوز

(8/354)


التعبير به عن عدد غيرها ولا يحتمل سواها بوجه فإذا أراد بذلك اثنتين فقد أراد باللفظ ما لا يحتمله وإنما تعمل النية في صرف اللفظ المحتمل إلى أحد محتملاته فأما ما لا يحتمل فلا فإنه لو عملنا بها فيما لا يحتمل كان عملاً بمجرد النية ومجرد النية لا يعمل في نكاح ولا طلاق ولا بيع، ولو قال نسائي الأربع طوالق أو قال لهن اربعتكن طوالق واستثنى بعضهن بالنية لم يقبل على قياس ما ذكرناه ولا يدين فيه لأنه عنى باللفظ ما لا يحتمله (الضرب الثالث) ما يصح نطقاً وإذا نواه دين فيما بينه وبين الله تعالى وذلك مثل تخصيص العام واستعمال اللفظ في مجازه مثل قوله نسائي طوالق يريد بعضهن أو ينوي بقوله طالق أي من وثاق فهذا يقبل إذا كان لفظاً واحداً لأنه وصل كلامه بما بين به مراده وإن كان بنيته قبل منه فيما بينه وبين الله تعالى لأنه أراد تخصيص اللفظ العام واستعماله في الخصوص وهذا سائغ في الكلام فلا يمنع من استعماله والتكلم به ويكون اللفظ بنيته منصرفاً إلى ما أراده دون ما لم يرده وهل يقبل ذلك في الحكم؟ يخرج على روايتين (إحداهما) يقبل لأنه فسر كلامه بما لا يحتمله فصح كما لو قال أنت طالق أنت طالق وأراد بالثانية إفهامها (والثانية) لا يقبل لأنه خلاف الظاهر وهو مذهب الشافعي والأول أولى إن شاء الله تعالى لأن

(8/355)


أكثر نصوص القرآن العامة أريد بها الخصوص، ومن شرط هذا ان تكون النية مقارنة للفظ وهو أن يقول نسائي طوالق يقصد بهذا اللفظ بعضهن فأما إن كانت متأخرة عن اللفظ مثل أن قال نسائي طوالق ثم بعد فراغه نوى بلفظه بعضهن لم تنفعه النية ووقع الطلاق بجميعهن وكذلك لو طلق نساءه ونوى بعد طلاقهن أي من وثاقي لزمه الطلاق لأنه مقتضى اللفظ والنية إلا أن خبره نية لا لفظ معها فلا تعمل، ومن هذا الضرب تخصيص حال دون حال مثل أن يقول أنت طالق ثم يصله بشرط أو صفة مثل قوله إن دخلت الدار أو بعد شهر أو قال إن دخلت الدار بعد شهر فهذا يصح إذا كان نطقاً بغير خلاف وإن نواه ولم يلفظ به دين، وهل يقبل في الحكم؟ يخرج على روايتين قال أحمد في رواية إسحاق بن إبراهيم فيمن حلف لا تدخل الدار وقال نويت شهراً يقبل منه
أو قال إذا دخلت دار فلان فأنت طالق ونوى تلك الساعة وذلك اليوم قبلت نيته والرواية الأخرى لا يقبل فإنه قال إذا قال لامرأته أنت طالق ونوى في قلبه إلى سنة تطلق ليس بنظر إلى نيته وقال إذا قال أنت طالق وقال نويت إن دخلت الدار لا يصدق، ويمكن الجمع بين هاتين الروايتين بأن يحمل قوله في عدم القبول على الحكم فلا يكون بينهما اختلاف، والفرق بين هذه الصورة والتي قبلها أن ارادة الخاص بالعام شائع كثير وإرادة الشرط من غير ذكره غير سائغ فهو قريب من الاستثناء ويمكن أن يقال هذا كله من جملة التخصيص

(8/356)


(فصل) إذا قالت له امرأة من نسائه طلقني فقال نسائي طوالق ولا نية له طلقن كلهن بغير خلاف لأن لفظه عام وإن قالت له طلق نساءك فقال نسائي طوالق فكذلك وحكي عن مالك ان السائلة لا تطلق في هذه الصورة لان الخطاب يقصر على سببه الخاص وسببه سؤال طلاق من سواها ولنا إن اللفظ عام فيها ولم يرد به غير مقتضاه فوجب العمل بعمومه كالصورة الأولى والعمل بعموم اللفظ أولى من خصوص السبب لأن ذلك الحكم هو للفظ فيجب اتباعه والعمل بمقتضاه في خصوصه وعمومه، وكذلك لو كان أخص من السبب لوجب قصره على خصوصه واتباع صفة اللفظ دون صفة السبب، فأما إن أخرج السائلة بنيته دين فيما بينه وبين الله تعالى في الصورتين وقيل في الحكم وقيل في الصورة الثانية لأن خصوص السبب دليل على نيته ولم يقبل في الصورة الأولى قاله ابن حامد لأن طلاقه جواب لسؤالها الطلاق لنفسها فلا يصدق في صرفه عنها لأنه يخالف الظاهر من وجهين ولأنها سبب الطلاق وسبب الحكم لا يجوز إخراجه من العموم بالتخصيص وقال القاضي يحتمل أن لا تطلق لأن لفظه عام والعام يحتمل التخصيص

(8/357)


* (باب الطلاق في الماضي والمستقبل) * * (مسألة) * (إذا قال لزوجته أنت طالق أمس أو قبل أن أنكحك ينوي الايقاع وقع في الحال) لأنه يقر على نفسه بما هو أغلظ
* (مسألة) * (وإن لم ينو لم يقع في ظاهر كلامه) فروي عنه فيمن قال لزوجته أنت طالق أمس وإنما تزوجها اليوم ليس بشئ وهذا قول أبي بكر وقال القاضي في بعض كتبه يقع الطلاق وهو مذهب الشافعي لأنه وصف المطلقة بما لا تتصف به فلغت الصفة ووقع الطلاق كما لو قال لمن لا سنة لها ولا بدعة أنت طالق للسنة أو قال أنت طالق طلقة لا تلزمك، ووجه الأول أن الطلاق رفع للاستباحة ولا يمكن رفعها في الزمن الماضي فلم يقع كما لو قال أنت طالق قبل قدوم زيد بيومين فقدم اليوم فإن أصحابنا لم يختلفوا في أن الطلاق لا يقع وهو قول أصحاب الشافعي وهذا طلاق في زمن ماض ولأنه علق الطلاق بمستحيل فلغا كما لو قال أنت طالق إن قلبت الحجر ذهباً، والحكم في قوله أنت طالق قبل أن تزوجك كما إذا قال أنت طالق أمس * (مسألة) * (وحكي عن أبي بكر أنه يقع إذا قال قبل أن أتزوجك ولا يقع إذا قال أنت طالق أمس) قال القاضي ورأيت بخط أبي بكر في جزء مفرد أنه قال إذا قال أنت طالق قبل أن أتزوجك طلقت ولو قال أنت أمس لم يقع لأن أمس لا يمكن وقوع الطلاق فيه وقبل تزوجها متصور

(8/358)


الوجود فإنه يمكن أن يتزوجها ثانياً وهذا الوقت قبله فوقع في الحال كما لو قال انت طالق قبل قدوم زيد * (مسألة) * (وإذا قال أردت أن زوجا قبلي طلقها أو طلقتها أنا في نكاح قبل هذا قبل منه إذا احتمل الصدق في ظاهر كلام أحمد) إذا أراد الاخبار أنه كان طلقها هو أو زوج قبله في ذلك الزمان الذي ذكره وكان قد وجد ذلك قبل منه ذكره أبو الخطاب وقال القاضي يقبل على ظاهر كلام أحمد لأنه فسره بما يحتمله وإن أراد اني كنت طلقتك أمس فكذبته لزمتها الطلقة وعليها العدة من يومها لأنها اعترفت أن أمس لم يكن من عدتها * (مسألة) * فإن مات أو جن أو خرس قبل العلم بمراده فهل تطلق؟ على وجهين) بناء على اختلاف القولين في المطلق إن قلنا لا يقع به شئ لم يلزمه ههنا شئ وإن قلنا بوقوعه ثم وقع ههنا * (مسألة) * (وإن قال أنت طالق قبل قدوم زيد بشهر فقدم قبل مضي شهر لم تطلق بغير خلاف من أصحابنا)
وهو قول أكثر أصحاب الشافعي لأنه تعليق للطلاق على صفة كان وجودها ممكناً فوجب اعتبارها وإن قدم زيد مع مضي الشهر لم تطلق لانه لابد من جزء يقع الطلاق فيه * (مسألة) * (وإن قدم بعد شهر وجزء يقع الطلاق فيه تبينا وقوعه فيه لأنه ايقاع للطلاق بعد عقده) وبهذا قال الشافعي وزفر وقال أبو حنيفة وصاحباه يقع عند قدومه لأنه جعل الشهر شرطاً لوقوع الطلاق فلا يسبق الطلاق شرطه

(8/359)


ولنا أنه أوقع الطلاق في زمن على صفة فإذا حصلت الصفة وقع فيه كما لو قال أنت طالق قبل شهر رمضان بشهر أو قبل موتك بشهر فإن أبا حنيفة خاصة يسلم ذلك ولا نسلم أنه جعل الشهر شرطاً وليس فهى حرف الشرط * (مسألة) * (وإن خالعها بعد اليمين بيوم وكان الطلاق بائناً ثم قدم بعد الشهر بيومين صح الخلع وبطل الطلاق) لأنه صادفها بائناً وإن قدم بعد شهر وساعة وقع الطلاق دون الخلع ولها الرجوع بالعوض إلا أن يكون الطلاق رجعيا لان الرجعية يصح خلعها (فصل) فإن مات أحدهما بعد عقد الصفة بيومين ثم قدم زيد بعد شهر وساعة من حين عقد الصفة لم يرث أحدهما الآخر لأنا تبينا أن الطلاق قد كان وقع قبل موت الميت منهما فلم يرثه صاحبه إلا أن يكون الطلاق رجعياً فإنه لا يقطع التوارث ما دامت في العدة فإن قدم بعد الموت بشهر وساعة تبينا أن الفرقة وقعت بالموت ولم تقع بالطلاق، فإن قال أنت طالق قبل موتي بشهر فمات أحدهما قبل مضي شهر لم يقع طلاق لأن الطلاق لا يقع في الماضي وإن مات بعد عقد اليمين بشهر وساعة تبينا وقع الطلاق في تلك الساعة ولم يتوارثا إلا أن يكون الطلاق رجعيا وتموت في عدتها * (مسألة) * (وإن قال أنت طالق قبل موتي طلقت في الحال) لأن ما قبل موته من حين عقد الصفة محل للطلاق فوقع لأوله، وإن قال قبل موتك أو موت زيد فكذلك وإن قال أنت طالق قبيل موتي أو قبيل قدوم زيد لم يقع في الحال وإنما يقع ذلك في الجزء الذي

(8/360)


يليه الموت لأن ذلك تصغير يقتضي الجزء الصغير الذي يبقى وإن قال أنت طالق قبل قدوم زيد أو قبل دخولك الدار فقال القاضي تطلق في الحال سواء قدم زيد أو لم يقدم بدليل قول الله تعالى (يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها) ولم يوجد الطمس في المأمورين ولو قال لغلامه اسقيني قبل أن أضربك فسقاه في الحال عد ممتثلا وإن لم يضربه وإن قال أنت طالق قبل موت زيد وعمرو بشهر فقال القاضي تتعلق الصفة بأولهما موتا لأن اعتباره بالثاني يفضي إلى وقوعه بعد موت الأول واعتباه بالأول لا يفضي إلى ذلك فكان أولى * (مسألة) * (وإن قال أنت طالق بعد موتي أو مع موتي لم تطلق نص عليه أحمد) وكذلك إن قال بعد موتك أو مع موتك وبه قال الشافعي ولا نعلم في مخالفا لأنها تبين بموت أحدهما فلا يصادف الطلاق نكاحا يزيله * (مسألة) * (وإن تزوج أمة أبيه ثم قال إذا مات أبي أو اشتريتك فأنت طالق فمات أبوه أو اشتراها لم يقع الطلاق) اختاره القاضي لأنه بالموت والشراء يملكها فينفسخ نكاحها بالملك وهو زمن الطلاق فلم يقع كما لو قال أنت طالق مع موتي ويحتمل أن تطلق اختاره أبو الخطاب لأن الموت سبب ملكها وطلاقها

(8/361)


وفسخ النكاح يترتب على الملك فيوجد الطلاق في زمن الملك السابق على الفسخ فيثبت حكمه وهذا أظهر إن شاء الله تعالى.
(فصل) وإن قال الأب إذا مت فأنت حرة وقال الابن إذا مات أبي فأنت طالق وكانت تخرج من من الثلث فكذلك لأن بعضها ينقل إلى الورثة فيملك الابن جزءاً منها فينفسخ به النكاح فيكون ذلك جميعها في فسخ النكاح ومنع وقوع الطلاق فإن أجاز الورثة عتقها فذكر بعض أهل العلم أن هذا ينبني على الإجازة هل هي تنفيذ أو عطية مبتدأة؟ فإن قلنا هي عطية مبتدأة فقد انفسخ النكاح قبلها فلم يقع الطلاق وإن قلنا هي تنفيذ لما فعل السيد وقع الطلاق وكذلك إن أجاز الزوج وحده عتق ابنه فإن كان على الأب دين يستغرق تركته لم يعتق.
قال شيخنا والصحيح أن ذلك لا يمنع نقل التركة إلى الورثة
فهو كما لو لم يكن عليه دين في فسخ النكاح فإن كان الدين لا يستغرق التركة وكانت تخرج من الثلث بعد اداء الدين عتقت وطلقت وإن لم تخرج من الثلث لم تعتق كلها فيكون حكمها في فسخ النكاح ومنع الدين كما لو استغرق الدين التركة وإن أسقط الغريم الدين بعد الموت لم يقع الطلاق لأن النكاح انفسخ قبل اسقاطه.
* (فصل) * قال الشيخ رضي الله عنه (وإن قال أنت طالق لاشربن الماء الذي في الكون ولا ماء

(8/362)


فيه أو لأقتلن فلانا الميت أو لأصعدن السماء أو لأطيرن أو إن لم أصعد السماء ونحوه طلقت في الحال وقال أبو الخطاب في موضع لا تنعقد يمينه) وجملة ذلك أنه قد استعمل الطلاق والعتاق استعمال القسم وجعل جواب القسم جواباً له فإذا قال أنت طالق لأقومن وقام لم تطلق امرأته فإن لم يقم في الوقت الذي عينه حنث هذا قول أكثر أهل العلم منهم سعيد بن المسيب والحسن وعطاء والزهري وسعيد بن جبير والشعبي والثوري وأصحاب الرأي وقال شريح يقع طلاقه وإن قام لأنه طلق طلاقاً غير معلق بشرط فوقع كما لو لم يقم ولنا أنه حلف برفيه فلم يحنث كما لو حلف بالله تعالى وإن قال أنت طالق إن أخاك لعاقل وكان أخوها عاقلاً لم يحنث وإن لم يكن عاقلاً حنث كما لو قال والله إن أخاك لعاقل وإن شك في عقله لم يقع الطلاق لأن الأصل بقاء النكاح فلا يزول بالشك وإن قال أنت طالق لا أكلت هذا الرغيف فأكله حنث وإلا فلا وإن قال أنت طالق ما أكلته لم يحنث أن كان صادقاً ويحنث ان كان كاذبا كما لو قال والله ما أكلته وإن قال أنت طالق لولا أبوك لطلقتك وكان صادقاً لم تطلق وإن كان كاذباً لم تطلق ولو قال أن حلفت بطلاقك فأنت طالق ثم قال أنت طالق لأكرمتك طلقت في الحال ولو قال أن حلفت بعتق عبدي فأنت طالق ثم قال عبدي حر لاقومن طلقت المرأة وإن قال إن حلفت بعتق عبدي فأنت طالق لقد صمت أمس عتق العبد

(8/363)


رجعنا إلى مسائل الكتاب وهو ما إذا علقه على مستحيل كقوله أنت طالق لاشربن الماء الذي
في الكوز ولا ماء فيه أو لأقتلن الميت وقع الطلاق في الحال كما لو قال انت طالق أو لم أبع عبدي فمات العبد ولأنه علق الطلاق على نفي فعل مستحيل وعدمه معلوم في الحال وفي الثاني وقوع الطلاق لما ذكرناه وكذلك قوله أنت طالق لأصعدن السماء أو لأطيرن أو إن لم أصعد السماء أو أطيرن وذكر أبو الخطاب عن القاضي أنه لا تنعقد يمينه والصحيح أنه يحنث فإن الحالف على فعل الممتنع كاذب حانث قال الله تعالى (وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت) إلى قوله (وليعلم الذين كفروا أنهم كانوا كاذبين) ولأنه لو حلف على فعل متصور فصار ممتنعا حنث بذلك فلأن يحنث بكونه ممتنعا حال يمينه أولى * (مسألة) * (وإن قال أنت طالق إن شربت ماء الكوز ولا ماء فيه وإن صعدت السماء أو إن شاء الميت أو البهيمة لم تطلق في أحد الوجهين وتطلق في الآخر) إذا علق الطلاق على فعل مستحيل كالذي ذكرناه ونحوه كقوله ان جمعت بين الضدين أو كان الواحد أكثر من اثنين وسواء كان مستحيلا عقلا أو عادة كقوله ان طرت أو صعدت السماء أو قلبت الحجر ذهباً أو شربت ماء النهر كله أو حملت الجبل ففيه وجهان: (أحدهما) يقع الطلاق في الحال لأنه أردف الطلاق بما يرفع جملته ويمنع وقوعه في الحال وفي الثاني فلم يصح كاستثناء الكل وكما لو قال أنت طالق طلقة لا تقع عليك (والثاني) لا يقع، وهو الصحيح، ولأنه علق الطلاق بصفة لم توجد

(8/364)


ولأن ما يقصد تبعيده يعلق على المحال.
قال الله تعالى في حق الكفار (لا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط) .
وقال الشاعر إذا شاب الغراب أتيت أهلي * وصار القار كاللبن الحليب أي لا يأتيهم أبداً، وقيل إن علقه على ما يستحيل عقلا وقع في الحال لأنه لا وجود له فلم تتعلق به الصفة وبقي مجرد الطلاق فوقع، وإن علقه على المستحيل عادة كالطيران وصعود السماء لم يقع لأن له وجودا أو قد وجد جنس ذلك في معجزات الأنبياء وكرامات الأولياء فجاز تعلق الطلاق به ولم يقع قبل وجوده.
* (مسألة) * (وإن قال أنت طالق اليوم إذا جاء غداً فعلى وجهين) وقال القاضي لا تطلق، وقال أبو الخطاب يقع في الحال لأنه علقه بشرط محال، فلغا الشرط
ووقع الطلاق كما لو قال لمن لا سنة لطلاقها ولا بدعة أنت طالق للسنة أو للبدعة وقال في المجرد لا يقع لأن شرطه لم يتحقق لأن مقتضاه وقوع الطلاق إذا جاء غد في اليوم ولا يأتي غد إلا بعد ذهاب اليوم وذهاب محل الطلاق وهو قول أصحاب الشافعي.
(فصل) في الطلاق في زمن مستقبل.
* (مسألة) * (إذا قال أنت طالق غداً أو يوم السبت في رجب طلقت بأول ذلك)

(8/365)


إذا قال أنت طالق في شهر عينه كشهر رجب وقع الطلاق في أول جزء من الليلة الأولى منه، وذلك حين تغرب الشمس من آخر الشهر الذي قبله وهو شهر جمادي، وبهذا قال أبو حنيفة.
وقال أبو ثور يقع الطلاق في آخر رجب لأن ذلك يحتمل وقوعه في أوله وآخره فلا يقع إلا بعد زوال الاحتمال ولنا أنه جعل الشهر ظرفاً للطلاق فإذا وجد ما يكون ظرفاً له طلقت كما لو قال إذا دخلت الدار فانت طالق فإذا دخلت أول جزء منها طلقت فأما إن قال إن لم أقضك حقك في شهر رمضان فامرأتي طالق لم تطلق حتى يخرج رمضان قبل قضائه لأنه إذا قضاه في آخره لم توجد الصفة وفي الموضعين لا يمنع من وطئ زوجته قبل الحنث.
وقال مالك يمنع وكذلك كل يمين على فعل يفعله يمنع من الوطئ قبل فعله لأن الظاهر أنه على حنث لان الحنث ترك الفعل وليس بفاعل ولنا أن طلاقه لم يقع فلا يمنع من الوطئ لأجل اليمين كما لو حلف لا فعلت كذا ولو صح ما ذكره لوجب إيقاع الطلاق، ولو قال أنت طالق غداً أو يوم السبب وقع الطلاق في أول جزء منه لما ذكرنا * (مسألة) * (ولو قال أنت طالق اليوم أو في هذا الشهر فكذلك لما ذكرنا وإن قال أردت في آخره أو أوسطه أو يوم كذا من الشهر أو في النهار دون الليل قبل فيما بينه وبين الله تعالى، وهل يقبل في الحكم؟ يخرج على روايتين) (إحداهما) يقبل وهو الصحيح ولأن آخر الشهر منه فإرادته لا تخالف ظاهر لفظه وكذلك

(8/366)


وسطه إذا ليس أوله بأولى في ذلك من وسطه وآخره بل ربما كان آخره أولى لأنه متيقن وما قبله مشكوك فيه
(والثانية) لا يقبل لأنه لو أطلق لتناول أوله فأما إن قال أنت طالق في أول رمضان أو غرة رمضان أو في رأس شهر رمضان أو استقبال شهر رمضان أو مجئ شهر رمضان طلقت بأول جزء منه ولم يقبل قوله أردت أوسطه أو آخره ظاهراً أو باطناً لأن لفظه لا يحتمله.
وإن قال بانقضاء رمضان أو انسلاخه أو نفاده أو مضيه طلقت في آخر جزء منه.
وإن قال أنت طالق أول نهار من شهر رمضان أو في أول يوم منه طلقت بطلوع فجر أول يوم منه لأن ذلك أول النهار واليوم ولهذا لو نذر اعتكاف يوم أو صيام يوم لزمه من طلوع الفجر وإن قال أنت طالق إذا كان رمضان أو إلى رمضان أو إلى هلال رمضان أو في هلال رمضان طلقت ساعة يستهل إلا أن يكون من الساعة إلى الهلال فتطلق في الحال.
وإن قال أنت طالق في مجئ ثلاثة أيام طلقت في أول اليوم الثالث * (مسألة) * (وإن قال أنت طالق اليوم وغداً وبعد غدا أو في اليوم وفي غد وفي بعده فهل تطلق ثلاثاً أو واحدة؟ على وجهين) [أحدهما] تطلق واحدة لأنها إذا طلقت اليوم فهي طالق في غد وفي بعده (والثاني) تطلق ثلاثاً لأن ذكره لأوقات الطلاق يدل على تعداده لعدم الفائدة ثم ذكر أوقاته بدون تعداد وقيل في الأولى واحدة لما ذكرنا للوجه الأول وفي الثانية ثلاثاً لأن ذكره في وتكرارها يدل على تكرار الطلاق

(8/367)


* (مسألة) * (وإن قال أنت طالق اليوم إن لم أطلقك اليوم طلقت في آخر جزء منه إذا بقي من اليوم مالا يتسع لتطليقها فيه) وهذا اختيار أبي الخطاب وقول أصحاب الشافعي، وحكى القاضي فيها وجهين هذا ووجها آخر أن الطلاق لا يقع وحكي ذلك عن أبي بكر وابن سريج لأن محل الطلاق اليوم ولا يوجد شرط طلاقها إلا بخروجه فلا يبقى من محل طلاقها ما يقع الطلاق فيه ولنا أن خروج اليوم يفوت به طلاقها فوجب وقوعه قبله في آخر وقت الامكان كموت أحدهما في اليوم وذلك لأن معنى يمينه إن فاتني طلاقك اليوم فأنت طالق فيه فإذا بقي من اليوم ما لا يتسع لتطليقها فقد فاته طلاقها فيه فوقع حينئذ كما يقع طلاقه في مسئلتنا في آخر حياة أولهما موتاً وما ذكروه باطل
بما لو مات أحدهما في اليوم فإن محل الطلاق يفوت بموته ومع ذلك فإن الطلاق يقع قبيل موته كذا ههنا فإن قال لها أنت طالق اليوم إن لم أتزوج عليك اليوم أو إن لم اشتر لك ثوباً اليوم ففيه الوجهان والصحيح منهما وقوع الطلاق بها إذا بقي من اليوم مالا يتسع لفعل المحلوف عليه فيه، فإن قال لها أنت طالق إن لم أطلقك اليوم طلقت بغير خلاف في آخر اليوم في أحد الوجهين، والوجه الآخر بعد خروج اليوم وإن قال أنت طالق اليوم إن لم أطلقك فهو كقوله أنت طالق اليوم إن لم أطلقك اليوم لأنه جعل عدم طلاقها شرطاً لطلاقها اليوم والشرط يتقدم المشروط

(8/368)


(فصل) فإن قال لعبده إن لم أبعك اليوم فامرأتي طالق اليوم ولم يبعه حتى خرج اليوم ففيه الوجهان وإن أعتق العبد أو مات أو مات الحالف أو المرأة في اليوم طلقت زوجته حينئذ لأنه قد فات بيعه وإن دبره أو كاتبه لم تطلق امرأته لأن بيعه جائز ومن منع بيعهما قال يقع الطلاق بذلك كما لو مات وإن وهب العبد لإنسان لم يقع الطلاق لأنه يمكن عوده إليه فيبيعه فلم يفك بيعه ولو قال أن لم أبع عبدي فامرأتي طالق ولم يقيده باليوم فكاتب العبد لم يقع الطلاق لأنه يمكن عجزه فلم يعلم فوات البيع فإن عتق بالكتابة أو غيرها وقع الطلاق حينئذ لأنه قد فات بيعه * (مسألة) * (وإن قال أنت طالق يوم يقدم زيد فماتت غدوة وقدم بعد موتها فهل يقع بها لطلاق؟ على وجهين) .
[أحدهما] يبين أن طلاقها وقع من أول اليوم لأنه لو قال أنت طالق يوم الجمعة طلقت من أوله فكذا إذا قال أنت طالق يوم يقدم زيد ينبغي أن تطلق بطلوع فجره (والثاني) لا يقع الطلاق لأن شرطه قدوم زيد ولم يوجد إلا بعد موت المرأة فلم يقع بخلاف يوم الجمعة فإن شرط الطلاق مجئ يوم الجمعة وقد وجد وههنا شرطان فلا تطلق بأحدهما والأول أولى ليس هذا شرطاً إنما هو بيان للوقت الذي يقع فيه الطلاق معرفاً بفعل يقع فيه فيقع في أوله كقوله

(8/369)


أنت طالق اليوم الذي نصلي فيه الجمعة، وإن قال أنت طالق في اليوم الذي يقدم فيه زيد، وكذلك
لو مات الرجل غدوة ثم قدم زيد أو مات لزوجان قبل قدوم زيد كان الحكم كما لو ماتت المرأة ولو قال أنت طالق في شهر رمضان إن قدم زيد فقدم زيد فيه ففيه وجهان [أحدهما] لا تطلق حتى يقدم زيد لأن قدومه شرط فلا يتقدمه المشروط بدليل ما لو قال أنت طالق إن قدم زيد فإنها لا تطلق قبل قدومه بالاتفاق وكما لو قال إذا قدم زيد (والثاني) أنه إن قدم زيد تبينا وقوع الطلاق من أول الشهر وهو أصح قياساً على المسألة التي قبل هذه * (مسألة) * (وإن قال أنت طالق في غد إذا قدم زيد فماتت قبل قدومه لم تطلق حتى يقدم لأن إذا اسم زمن مستقبل فمعناه أنت طالق غداً وقت قدوم زيد فإن لم يقدم زيد في غد لم تطلنى وإن قدم بعده لأنه قيد طلاقها بقدوم مقيد بصفة فلا تطلق حتى توجد، وإن ماتت غدوة وقدم بعد موتها لم تطلق لأن الوقت الذي أوقع طلاقها فيه لم يأت وهي محل للطلاق فلم تطلق كما لو ماتت قبل دخوله ذلك اليوم.
* (مسألة) * (وإن قال أنت طالق اليوم غداً طلقت اليوم واحدة لأن من طلقت اليوم فهي طالق غدا * (مسالة) * (فإن أراد طالق اليوم وطالق غداً فتطلق طلقتين في اليومين فإن قال أردت أنها تطلق في أحد اليومين طلقت اليوم ولم تطلق غداً لأنه جعل الزمان كله ظرفاً لوقوع الطلاق فوقع في أوله

(8/370)


* (مسألة) * (وإن أراد نصف طلقة اليوم ونصفها غدا فتعلق اليوم واحدة وغداً الاخرى لأن النصف يكمل فيصير طلقة تامة وإن قال أردت نصف طلقة اليوم وباقيها غداً احتمل وجهين [أحدهما] لا تطلق إلا واحدة لأنه إذا قال نصفها اليوم كملت كلها فلم يبق لها بقية تقع غداً ولم يقع شئ غيرها لأنه ما أوقعه، وذكر القاضي هذا لاحتمال أيضاً في المسألة الأولى وهو مذهب الشافعي، ذكر اصحابه فيها الوجهين، ويحتمل أن يقع اثنتان كالمسألة التي قبلها * (مسألة) * (وإن قال أنت طالق إلى شهر طلقت عند انقضائه) إذا قال أنت طالق إلى شهر كذا أو سنة كذا فهو كما لو قال في شهر كذا أو سنة كذا ولا يقع طلاق إلا في أول ذلك الوقت، وبه قال الشافعي وقال أبو حنيفة تطلق في الحال لأن قوله أنت
طالق إيقاع في الحال وقوله إلى شهر كذا توقيت له وغاية وهو لا يقبل التأقيت فوقع في الحال لأنه لا يقبل التأقيت.
ولنا أن ذلك قد روي عن ابن عباس وأبي ذر ولأن هذا يحتمل أن يكون توقيتاً لايقاعه كقول الرجل أنا خارج إلى سنة أي بعد سنة وإذا احتمل الأمرين لم يقع الطلاق بالشك وقد ترجح ما ذكرناه من وجهين.

(8/371)


[أحدهما] أنه جعل للطلاق غاية ولا غاية لآخره وإنما الغاية لأوله (والثاني) ان ما ذكرناه عمل باليقين وما ذكروه أخذ بالشك.
(فصل) فإن نوى طلاقها في الحال إلى سنة كذا وقع في الحال، لأنه يقر على نفسه بما هو أغلط ولفظه يحتمله.
(فصل) وإن قال أنت طالق من اليوم إلى سنة طلقت في الحال لأن من لابتداء الغاية فيقتضي أن طلاقها من اليوم فإن قال أردت تكرير طلاقها من حين لفظت به إلى سنة طلقت من ساعتها ثلاثاً إذا كانت مدخولا بها.
قال أحمد إذا قال لها أنت طالق من اليوم إلى سنة يريد التوكيد وكثرة الطلاق فتلك طالق من ساعتها.
* (مسألة) * (وإن قال أنت طالق في آخر الشهر أو أول أخره طلقت في أول جزء من آخر يوم منه لأنه آخره.
وإن قال في آخر أوله طلقت في آخر أول يوم منه لأنه أوله) وقال أبو بكر تطلق في المسئلتين بغروب شمس الخامس عشر منه لأن الشهر نصفان أول وآخر فآخر أوله يلي أول آخره وهذا قول أبي العباس بن شريح وقال أكثرهم كقولنا وهو أصح فإن ما عدا اليوم الأول لا يسمى أول الشهر ويصح نفيه عنه وكذلك لا يمسى أوسط الشهر آخره ولا يفهم ذلك من اطلاقه لفظه فوجب أن لا يصرف كلام الحالف إليه ولا يحمل عليه

(8/372)


* (مسألة) * (وإن قال إذا مضت سنة فأنت طالق طلقت إذا مضى اثنا عشر شهراً بالاهلة ويكمل
الشهر الذي حلف إلى تمام اثني عشر شهرا بالأهلة) لقوله تعالى (يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس) فإن حلف في أول شهر فإذا مضى اثنا عشر شهراً وقع طلاقه وإن حلف في أثناء شهر عددت ما بقي منه ثم حسبت بعد بالأهلة فإذا مضت أحد عشر شهراً بالأهلة نظرت ما بقي من الشهر الأول فكملت ثلاثين يوماً لأن الشهر اسم لما بين هلالين فإن تفرق كان ثلاثين يوماً، وفيه وجه آخر انه تعتبر الشهور كلها بالعدد نص عليه أحمد فيمن نذر صيام شهرين متتابعين فاعترض الأيام قال يصوم ستين يوماً، وإن ابتدأ من شهر فصام شهرين كانا ثمانية وخمسين يوماً أجزأه وذلك لأنه لما صام نصف شهر وجب تكميله من الذي يليه فكان ابتداء الثاني من نصفه أيضاً فوجب أن يكمله بالعدد وهذا المعنى موجود في السنة، ووجه الأول أنه أمكن استيفاء أحد عشر شهرا بالاهلة فوجب الاعتبار بها كما لو كانت يمينه في أول شهر ولا يلزمه أن يتم الأول من الثاني بل يتمه من آخر الشهور وإن قال أردت بقولي سنة إذا انسلخ ذو الحجة قبل لأنه يقر على نفسه بما هو أغلظ * (مسألة) * (وإن قال إذا مضت السنة فأنت طالق طلقت بانسلاخ ذي الحجة)

(8/373)


لأنه لما عرفها بلام التعريف انصرفت إلى السنة المعروفة التي آخرها ذو الحجة وإن قال أردت بالسنة اثني عشر شهراً قبل لأن السنة اثنا عشر شهراً حقيقة * (مسألة) * (وإذا قال أنت طالق في كل سنة طلقة فهذه صفة صحيحة) لأنه يملك إيقاعه في كل سنة فإذا جعل ذلك صفة جاز ويكون ابتداء المدة عقيب يمينه لأن كل أجل ثبت بمطلق العقد ثبت عقيبه كقوله والله لاكلمك سنة فتقع الأولى في الحال لأنه جعل السنة ظرفاً للطلاق فيقع في أول جزء منها وتقع الثانية في أول الثانية والثالثة إن دخلتها عليها وهي في نكاحه لكونها لم تنقض عدتها أو راجعها في عدة الطلقة الأولى وعدة الثانية أو جدد نكاحها بعد أن بانت فإن انقضت عدتها فبانت منه ودخلت السنة الثانية وهي بائن لم تطلق لكونها غير زوجة له فإن تزوجها في أثنائها اقتضى قول أكثر أصحابنا وقوع الطلاق عقيب تزوجه بها لأنه جزء من السنة الثانية التي
جعلها ظرفاً للطلاق ومحلا له وكان سبيله أن يقع في أولها فمنع منه كونها غير محل للطلاق لعدم نكاحه حينئذ، فإذا عادت الزوجة وقع في أولها، وقال القاضي تطلق بدخول السنة الثالثة، وعلى قول التميمي ومن وافقه ننحل الصفة بوجودها في حال البينونة فلا تعود بحال، وإن لم يتزوجها حتى دخلت السنة الثالثة ثم نكحها طلقت عقيب زويجها ثم طلقت الثالثة بدخول السنة الرابعة وعلى قول القاضي لا تطلق إلا بدخول السنة الرابعة ثم تطلق الثالثة بدخول الخامسة، وعلى قول التميمي قد انحلت الصفة، واختلف

(8/374)


في مبدأ السنة الثانية فظاهر ما ذكره القاضي أن أولها بعد انقضاء اثني عشر شهرا من حين يمينه وكذلك قال أصحاب الشافعي، وقال أبو الخطاب ابتداء السنة الثانية أول المحرم على ما ذكرناه لأنها السنة المعروفة فإذا علق ما يتكرر على تكرر السنين انصرف إلى السنين المعروفة لقول الله تعالى (أولا يرون أنهم يفتنون في كل عام) * (مسألة) * وإن قال أردت بالسنة اثني عشر شهراً قبل لأنها سنة حقيقة، وهل يقبل في الحكم؟ يخرج على روايتين) (أصحهما) أنه يقبل لما ذكرنا (والثانية) لا يقبل لأنه يخالف الظاهر وإن قال أردت أن أبتدئ السنين من المحرم دين ولم يقبل في الحكم ذكره القاضي لأنه خلاف الظاهر.
قال شيخنا والأولى أنه يخرج على روايتين لأنه محتمل مخالف للظاهر * (مسألة) * (وإذا قال أنت طالق يوم يقدم زيد فقدم ليلاً لم تطلق إلا أن يريد باليوم الوقت فتطلق وقت قدومه لأن الوقت يسمى يوما قال الله تعالى (ومن يولهم يومئذ دبره) * (مسألة) * (وإن قدم ميتاً أو مكرهاً لم تطلق) إذا كان محمولاً لم تطلق لأنه لم يقدم وإنما قدم به وهذا قول الشافعي ونقل عن أبي بكر أنه يحنث

(8/375)


لأن الفعل ينسب إليه ولذلك يقال دخل الطعام البلد إذا حمل إليه ولو قال أنت طالق إذا دخل الطعام البلد طلقت إذا حمل إليه
ولنا أن الفعل ليس منه والفعل لا ينسب إلى غير فاعله إلا مجازاً والكلام عند تحقيقه إذا أمكن فأما الطعام فلا يمكن وجود الفعل منه حقيقة فتعين حمل الدخول فيه على مجازه، فأما إن قدم بنفسه لاكراه فعلى قول الخرقي لا يحنث وهو أحد الوجهين لأصحاب الشافعي، وقال أبو بكر يحنث وحكاه عن أحمد لأن الفعل منه حقيقة وينسب إليه قال الله تعالى (وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا حتى إذا جاءوها) ويصح أمر المكره بالفعل قال الله تعالى (ادخلوا أبواب جهنم) ولولا أن الفعل يتحقق منه لما صح أمره به، ووجه الأول أنه بالإكراه زال اختياره فإذا وجدت الصفة منه كان كوجود الطلاق منه وهذا فيما إذا طلق وإن كانت له نية حمل عليها كلامه ويقيد بها (فصل) فإن قدم مختاراً حنث الحالف سواء علم القادم باليمين أو جهلها قال أبو بكر الخلال يقع الطلاق قولا واحداً وقال أبو عبد الله بن حامد إن كان القادم ممن لا يمنع القدوم بيمينه كالسلطان والحاج والرجل الأجنبي حنث الحالف ولا يعتبر علمه ولا جهله وإن كان ممن يمتنع باليمين من القدوم كقرابة لهما أو لأحدهما أو غلام لأحدهما فجهل اليمين أو نسيها فالحكم فيه كما لو حلف على فعل نفسه ففعله جاهلاً أو ناسياً وفي ذلك روايتان كذلك ههنا وذلك أنه إذا لم يكن ممن تمنعه اليمين كان تعليقاً للطلاق

(8/376)


على صفة ولم يكن يميناً فأشبه ما لو علقه على طلوع الشمس وإن كان ممن يمتنع كان يميناً فيعذر فيها بالنسيان والجهل وينبغي أن تعتبر على هذا القول نية الحالف وقرائن أحواله الدالة على قصده فإن كان قصده بيمينه منع القادم من القدوم كان يمينا وإن كان قصده جعله صفة في طلاقها مطلقة لم يكن يميناً ويستوي فيه علم القادم وجهله ونسيانه وجنونه وإفاقته مثل أن يقصد طلاقها إذا حصل معها محرمها ولا يطلقها وحدها وتعتبر قرائن الأحوال فمتى علق اليمين على قدوم غائب بعيد يعلم أنه لا يعلم اليمين ولا يمتنع بها أو فعل صغير أو مجنون أو من لا يمتنع بها لم تكن يمينا وإن علق ذلك على فعل حاضر يعلم بيمينه ويمتنع لأجلها من فعل ما علق الطلاق عليه كان يميناً ومتى اشكلت الحال فينبغي أن يقع الطلاق لأن لفظه يقتضي وقوع الطلاق عند وجود هذه الصفة على العموم وإنما ينصرف عن ذلك بدليل فمتى شككنا في الدليل المخصص وجب العمل بمقتضى العموم
(فصل) فإن قال إن تركت هذا الصبي يخرج فأنت طالق فانفلت الصبي بغير اختيارها فخرج فإن كان نوى أن لا يخرج فقد حنث وإن نوى أن لا تدعه لم يحنث نص أحمد على معنى هذا وذلك لأن اليمين إذا وقعت على فعلها فقد فعل الخروج بغير اختيار منها فكانت كالمكره إذا لم يمكنها حفظه ومنعه وإن نوى فعله فقد وجد وحنث وإن لم تعلم نيته انصرفت يمينه إلى فعلها لأنه الذي تناوله لفظه فلا يحنث إلا إذا خرج بتفريطها في حفظه أو باختيارها

(8/377)


(فصل) وإن حلف لا تأخذ حقك مني فأكره على دفعه أو أخذ منه قهراً حنث لأن المحلوف عليه فعل الأخذ وقد أخذه مختاراً وإن أكره صاحب الحق على أخذه خرج على الوجهين فيمن أكره على القدوم وإن وضعه الحالف في حجرة أو بين يديه أو جنبه فلم يأخذه لم يحنث لأن الأخذ ما وجد وإن أخذه الحاكم أو السلطان من الغريم فدفعه إلى المستحق فأخذه فقال القاضي لا يحنث وهو مذهب الشافعي لأنه ما أخذه منه وإن قال لا تأخذ حقك علي حنث لأنه قد أخذ حقه الذي عليه والمنصوص عن أحمد أنه يحنث في الصورتين قاله أبو بكر وهو الذي يقتضيه مذهبه لأن الايمان عنده على الأسباب لا على الأسماء ولأنه لو وكل وكيلا فأخذه منه كان آخذاً لحقه منه عرفاً ويمسى آخذاً قال الله تعالى (وأخذنا منهم ميثاقا غليظا) وقال (ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل) وإن كان اليمين من صاحب الحق فخلف لا أخذت حقي فالتفريع فيها كالتي قبلها فإن تركها الغريم في أثناء متاع في خرج ثم دفع الخرج إلى الحالف فأخذه ولم يعلم أنها فيه لم يحنث لأن هذا ليس معدوداً أخذاً ولا يبرأ بها الغريم منها، وإن كانت اليمين لا أعطيك حقك فأحذه الحاكم منه كرها ودفعه إلى الغريم لم يحنث وإن أكرهه على دفعه إليه خرج على الوجهين في المكره وان أعطاه باختياره حنث وإن وضعه في حجره أو جيبه أو صندوقه وهو يعلم حنث لأنه أعطاه وإن دفعه إلى الحاكم اختياراً ليدفعه إلى الغريم فدفعه أو أخذه من ماله باختياره فدفعه إلى الغريم حنث وقال القاضي لا يحنث والمذهب أنه يحنث لأنه أوصله إليه مختاراً

(8/378)


فأشبه ما لو دفعه إلى وكيله فأعطاه إياه ولأن الأيمان على الأسباب لا على الأسماء على ما ذكرناه فيما مضى
(فصل) وإن قال إن رأيت أباك فأنت طالق فرأته مينا أو نائماً أو مغمى عليه أو رأته من خلف زجاج أو جسم شفاف طلقت لأنها رأته وإن رأت خياله في ماء أو مرآة أو ضوءه على حائط أو غيره لم تطلق لأنها لم تره وإن أكرهت على رؤيته خرج على الوجهين (باب تعليق الطلاق بالشروط) يصح ذلك من الزوج ولا يصح من الأجنبي فلو قال ان تزوجت فلانة أو إن تزوجت امرأة فهي طالق لم تطلق ان تزوجها وعنه تطلق اختلفت الرواية عن أحمد رحمه الله في هذه المسألة فالمشهور عنه أنه لا يقع الطلاق وهو قول أكثر أهل العلم روي ذلك عن ابن عباس وسعيد بن المسيب وبه قال عطاء والحسن وعروة وجابر بن زيد وسوار القاضي والشافعي وأبو ثور وابن المنذر ورواه الترمذي عن علي رضي الله عنه وجابر بن عبد الله وسعيد بن جبير وعلي بن الحسين وشريح وغير واحد من فقهاء التابعين وروى عن أحمد رحمه الله ما يدل على وقوع الطلاق وهو قول الثوري وأصحاب الرأي لأنه يصح تعليقه على الاخطار فصح على

(8/379)


حدوث الملك كالوصية والأول أصح إن شاء الله تعالى لما روى عمرو بن شعيب عنه أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا نذر لابن آدم فيما لا يملك ولا عتق فيما لا يملك ولا طلاق لابن آدم فيما لا يملك " قال الترمذي هذا حديث حسن وهو أحسن ما روي في هذا الباب وعن عائشة أن رسول الله صلى الله عيه وسلم قال " لا طلاق ولا عتاق فيما لا يملك ابن آدم وإن عينها رواه الدارقطني وروى أبو بكر في الشافعي عن الخلال عن الرمادي عن عبد الرزاق عن معمر عن جوبر عن الضحاك عن النزال بن سبرة عن علي بن أبي طالب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " لا طلاق قبل نكاح " قال أحمد هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم وعدة من الصحابة ولأن من لا يقع طلاقه بالمباشرة لا تنعقد له صفة كالمجنون ولأنه قول من سمينا من الصحابة ولم يعرف لهم مخالف في عصرهم فيكون إجماعاً قال أبو بكر في كتاب الشافعي لا يختلف قول أبي عبد الله أن الطلاق إذا وقع قبل النكاح لا يقع والرواية الأولى أصح لأنه تعليق للطلاق قبل الملك فأشبه ما لو قال إن دخلت الدار فانت طالق ثم تزوج الأجنبية ودخلت فإن الطلاق لا يقع بغير خلاف نعلمه كذلك هذا
* (مسألة) * (وإن قال لأجنبية إن قمت فانت طالق فتزوجها ثم قامت لم تطلق) رواية واحدة لا نعلم فيه خلافا لأنه لم يضفه إلى زمن يقع فيه الطلاق فأشبه ما لو اسلم في معدوم ولم يذكر له أجلاً يوجد السلم فيه

(8/380)


* (مسألة) * (وإن علق الزوج الطلاق بشرط لم تطلق قبل وجوده) لأنه إزالة ملك بني على التغليب والسراية أشبه العتق * (مسألة) * (وإن قال عجلت ما علقته لم يتعجل) لانه تعلق بالشرط فلم يكن له تغييره فإن أراد تعجيل طلاق سوى تلك الطلقة وقعت بها فإذا جاء الزمن الذي علق الطلاق به وهي زوجته وقع بها الطلاق المعلق * (مسألة) * (وإن قال سبق لساني بالشرط ولم اراده وقع في الحال) لأنه أقر على نفسه بما يوجب التغليظ من غير تتمة وهو يملك إيقاعه في الحال (فصل) وإذا تخلل الشرط وحكمه غيرهما تخللا منتظماً كقوله أنت طالق يا زانية ان قمت لم يقطع التعليق وقال القاضي يحتمل ان يقطعه ويجعل كسكتة كما لو قال بنيهما سبحان الله أو أستغفر الله ذكره صاحب المحرر * (مسألة) * (فإن قال أنت طالق ثم قال أردت ان قمت دين) لأنه أعلم بنيته وما ادعاه محتمل فأشبه ما لو قال أنت طالق ثم قال من وثاقي ولم يقبل في الحكم نص عليه لأنه يدعي خلاف ما يقتضيه اطلاق اللفظ وقال شيخنا في كتاب الكافي يخرج على روايتين

(8/381)


(إحداهما) لا يقبل لما ذكرنا والثانية يقبل لأنه محتمل أشبه ما لو قال أنت طالق ثم قال أردت من وثاقي وهذا مثله والله أعلم (فصل) وأدوات الشرط ست إن وإذا ومتى ومن وأي وكلما * (مسألة) * (وليس فيها ما يقتضي التكرار الا كلما)
لأن موضوعها للتكرار قال الله تعالى (كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله) ولا نعلم في ذلك خلافاً فأما متى ففيها وجهان (أحدهما) إنها تقتضي التكرار ذكره أبو بكر لأنها تستعمل للتكرار بدليل قول الشاعر متى تأته تعشو إلى ضوء تاره * تجد خير نار عندها خير موقد أي في كل وقت ولأنها تستعمل في الشرط والجزاء ومتى وجد الشرط ترتب عليه جزاؤه (الثاني) لا تقتضيه قال شيخنا وهو الصحيح لأنها اسم زمن بمعنى أي وقت وبمعنى إذا فلا تقتضي ما لا يقتضيانه وكونها تستعمل للتكرار في بعض أحيانها لا يمنع استعمالها في غيره مثل إذا وأي وقت فانهما يستعملان في الأمرين قال الله تعالى (وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم - وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم - وإذا لم تأتهم بآية قالوا لولا اجتبيتها؟) وقال الشاعر قوم إذا الشر أبدى ناجذيه لهم * طاروا إليه زرافات ووحدانا

(8/382)


وكذلك أي وقت وزمان فانهما يستعملان للتكرار وسائر الحروف يجازى بها إلا أنها لما كانت تستعمل للتكرار وغيره لا تحمل على التكرار إلا بدليل كذلك حتى * (مسألة) * (وكلها على التراخي إذا تجردت عن لم فإذا اتصلت بها صارت على الفور إلا إن وفي إذا وجهان) متى علق الطلاق بإيجاد فعل بواحد منها كان على التراخي فإن قال إن قمت أو إذا قمت أو من قام منكن أو أي وقت قمت أو متى قمت أو كلما قمت فأنت طالق فمتى قامت طلقت لوجود الشرط وإن مات أحدهما قبل وجود الشرط سقط اليمين * (مسألة) * (وإن اتصلت بها أي بلم صارت على الفور إلا ان فانها عليا لتراخي لأنها لا تقتضي وقتاً إلا ضرورة أن الفعل لا يقع إلا في وقت فهي مطلقة في الزمان كله) فإذا قال إن لم تدخلي الدار فأنت طالق لم يقع الطلاق إلا عند تعذر إبقاعه بالموت أو ما يقوم مقامه * (مسألة) * (وفي إذا وجهان) (أحدهما) هي على التراخي وهو قول أبي حنيفة ونصره القاضي لأنها تستعمل شرطاً بمعنى ان.
قال الشاعر:
* وإذا تصبك خصاصة فتحملي * فجزم بها كما يجزم بإن ولأنها تستعمل بمعنى متى وان وإذا احتمات الأمرين فاليقين بقاء النكاح فلا يزول بالاحتمال (والآخر) أنها على الفور وهو قول أبي يوسف ومحمد وهو المنصوص عن الشافعي لأنها اسم لزمن

(8/383)


مستقبل فتكون كمتى وأما المجازاة بها فلا تخرجها عن موضعها فان متي بجازي بها ألا ترى إلى قول الشاعر متى تأته تعشو إلى ضوء ناره * تجد خير نار عندها خير موقد ومن يجازى بها أيضاً وكذلك أي وسائر الحروف ولم يخرجها ذلك عن كونها للفور في النفي (فصل) وقولهم ان هذه الأدوات الأربع في النفي تكون على الفور صحيح في كلما وأي ومتى فأنها تعم الزمان فإذا قال كلما لم أطلقك أو أي وقت لم أطلقك أو متى لم أطلقك فأنت طالق ثم مضى زمن يملك طلاقها فيه ولم يطلقها طلقت لوجوده الصفة فانها اسم لوقت الفعل فيقدر بهذا ولهذا يصح السؤال به فتقول متى دخلت أو أي وقت دخلت أما من فليست من أسماء الزمان انما تعم الأشخاص فلا يظهر لي انها تقتضي الفور لذلك فعلى هذا إذا قال من لم أطلقها منكن فهي طالق لم تطلق واحدة منهن إلا أن يتعذر طلاقها كما قلنا في أن..إذا قال إن لم أطلقك فأنت طالق فإن كل واحدة منهما ليست من أسماء الزمان * (مسألة) * (وإن تكرر القيام لم يتكرر الطلاق إلا في كلما وفي متى في أحد الوجهين وقد ذكرنا دليل الوجهين في مقتضى التكرار وعدمه) * (مسألة) * (فإذا قال إذا أكلت رمانة فأنت طالق وكلما أكلت نصف رمانة فأنت طالق فأكلت رمانة طلقت ثلاثاً لوجود صفة النصف مرتين والجميع مرة فتطلق بكل نصف طلقة وبالرمانة طلقة ولو

(8/384)


جعل مكان كلما (إن) لم تطلق إلا طلقتين بصفة النصف مرة وبالكمال مرة ولا تطلق بالنصف الآخر لأنها لا تقتضي التكرار * (مسألة) * (ولو علق طلاقها على صفات ثلاث فاجتمن في عين واحدة نحو أن يقول أن رأيت رجلا
فأنت طالق وإن رأيت أسود فأنت طالق وإن رأيت فقيها فأنت طالق فرأت رجلاً أسود فقيها طلقت ثلاثاً) لوجود الصفات الثلاث فيه أشبه ما لو رأت ثلاثة فيهم الثلاث صفات (فصل) وهذه الحروف الستة إذا تقدم جزاؤها عليها لم تحتج إلى حروف الفاء في الجزاء كقوله أنت طالق إن دخلت الدار وإن تأخر جزاؤها احتاجت في الجزاء إلى حرف الفاء إذا كان جملة من مبتدأ وخبر كقوله: إن دخلت الدار فانت طالق، وإنما اختصت بالفاء لأنها للتعقيب فتربط بين الجزاء وشرطه وتدل على تعقيبه به.
* (مسألة) * (وإن قال إن لم أطلقك فأنت طالق لم تطلق إلا في آخر جزء من حياة أحدهما إلا أن يكون له نية) لأن حرف إن موضوع للشرط لا يقتضي زمناً ولا يدل عليه إلا من حيث إن الفعل المعلق به من ضرورته الزمان فلا يتقيد بزمن معين فما علق عليه كان على التراخي سواء في ذلك الإثبات والنفي.

(8/385)


فعلى هذا إذا قال إن لم أطلقك فأنت طالق ولم ينو وقتاً بعينه ولم يطلقها كان على التراخي لا يحنث بتأخره لأن كل زمن يمكن أن يفعل فيه ما حلف عليه فلم يفت الوقت، فإذا مات أحدهما علمنا حنثه حينئذ لأنه لا يمكن إيقاع الطلاق بها بعد موت أحدهما فتبين أنه يقع إذا لم يبق من حياته ما يتسع لتطليقها وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي ولا نعلم فيه بين أهل العلم خلافاً، ولو قال أن لم أطلق عمرة فحفصة طالق فأي الثلاثة مات أولا وقع الطلاق قبل موته لأن تطليقه حفصة على وجه تنحل به يمينه إنما يكون في حياتهم جميعاً، وكذلك إن قال إن لم أعتق عبدي أو إن لم أضربه فامرأتي طالق وقع بها الطلاق في آخر جزء من حياة أولهم موتاً، فأما إن عين وقتاً بلفظه او نيته تعين وتعلقت يمينه به قال أحمد إذا قال إن لم أضرب فلاناً فأنت طالق ثلاثاً فهو على ما أراد من ذلك لأن الزمان المحلوف على ترك الفعل فيه تعين بينته وإرادته فصار كالمصرح به في لفظه فإن مبنى الأيمان على النية لقول النبي صلى الله عليه وسلم " وإنما لأمرئ ما نوى " (فصل) ولا يمنع من وطئ زوجته قبل فعل ما حلف عليه، وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي،
وقال سعيد بن المسيب والحسن والشعبي ومالك وأبو عبيد لا يطأ حتى يفعل لأن الأصل عدم الفعل ووقوع الطلاق.
وروى الأثرم عن أحمد مثل ذلك، وقال الانصاري وربيعة ومالك يضرب له أجل المولي كما لو حلف أن لا يطأها

(8/386)


ولنا أنه نكاح صحيح لم يقع فيه طلاق ولا غيره من أسباب التحريم فحل له الوطئ فيه كما لو قال إن طلقتك فأنت طالق، وقولهم الأصل عدم الفعل ووقوع الطلاق قلنا هذا الأصل لم يقتض وقوع الطلاق فلم يقتض حكمه ولو وقع الطلاق بعد وطئه لم يضر كما لو طلقها ناجزاً وعلى أن الطلاق ههنا إنما يقع في زمن يمكن الوطئ بعده بخلاف قوله إن وطئتك فأنت طالق.
(فصل) إذا كان المعلق طلاقاً بائناً فماتت لم يرثها لأن طلاقه أبانها منه فلم يرثها كما لو طلقها ناجزا عند موتها فإن مات ورثته نص عليه أحمد في رواية أبي طالب إذا قال الرجل لزوجته أنت طالق ثلاثاً إن لم أتزوج عليك ومات ولم يتزوج عليها ورثته، وإن ماتت لم يرثها وذلك لأنها تطلق في آخر حياته فأشبه طلاقه لها في تلك الحال ونحو هذا قال عطاء ويحيى الأنصاري.
ويتخرج لنا أنها لا ترثه أيضاً وهذا قول سعيد بن المسيب والحسن والشعبي وأبي عبيد لأنه إنما طلقها في صحته وإنما تحقق شرط وقوعه في المرض فلم ترثه كما لو علقه على فعلها ففعلته في مرضه، وقال أبو حنيفة إن حلف إن لم تأت البصرة فأنت طالق فلم تفعل فإنهما لا يتوارثان، وإن قال إن لم آت البصرة فأنت طالق فمات ورثته وإن ماتت لم يرثها فإنه في الأول علق الطلاق على فعلها فإذا امتنعت منه فقد حققت شرط الطلاق فلم ترثه كما لو قال إن دخلت الدار فانت طالق فدخلتها، وإذا علقه على فعل نفسه فامتنع كان الطلاق منه فأشبه ما لو نجزه في الحال، ووجه الأول أنه طلاق في مرض موته فمنعه ميراثها ولم يمنعها كما لو طلقها

(8/387)


ابتداء ولأن الزوج أخر الطلاق اختياراً منه حتى وقع ما علق عليه في مرضه فصار كالمباشر له، فأما ما ذكره عن أبي حنيفة فحسن إذا كان الفعل مما لا مشقة عليها فيه لأن تركها له كفعلها لما حلف عليها لتتركه، وإن كان مما فيه مشقة فلا ينبغي أن يسقط ميراثها بتركه، كما لو حلف عليها بترك
مالا بدلها من فعله.
(فصل) إذا حلف ليفعلن شيئاً ولم يعين له وقتاً بلفظه ولا نيته فهو على التراخي أيضاً لأن لفظه مطلقاً بالنسبة إلى الزمان كله فلا يتقيد بدون تقييده ولذلك لما قال الله تعالى في الساعة (قل بلى وربي لتأتينكم) وقال (قل بلى وربي لتبعثن ثم لتنبئون بما علمتم) وذلك على التراخي ولما قال الله (لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين) كان ذلك على التراخي فإن الآية نزلت في نوبة الحديبية في سنة ست وتأخر الفتح إلى سنة ثمان ولذلك روي عن عمر أنه قال قلت للنبي صلاى لله عليه وسلم أو ليس كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت ونتطوف به؟ قال " بلى أفأخبرتك أنك آتيه العام؟ " قلت لا قال " فإنك آتيه ومطوف به " وهذا لا خلاف فيه نعلمه.
* (مسألة) * (وإن قال إذا لم أطلقك فأنت طالق ولم يطلقها فهل تطلق في الحال؟ على وجهين) بناء على قولنا هي على الفور أو على التراخي وقد ذكرنا وجه القولين * (مسألة) * (وإن قال كلما لم أطلقك فأنت طالق فمضى زمن يمكن فيه طلاقها ثلاثاً ولم يطلقها

(8/388)


طلقت ثلاثاً) لأن كلما تقتضي التكرار على ما بينا قال الله تعالى (كلما جاء أمة رسولها كذبوه) فيقتضي زمن تكرار الطلاق بتكرار الصفة والصفة عدم طلاقه لها، فإذا مضى زمن يمكن فيه أن يطلقها ولم يفعل فقد وجدت الصفة فتقع واحدة وثانية وثالثة إن كانت مدخولاً بها وإن لم تكن مدخولاً بها بانت بالأولى ولم يلزمها ما بعدها لأن البائن لا يقع عليها طلاق * (مسألة) * (ولو قال العامي إن دخلت الدار فانت طالق بفتح الهمزة فهو شرط لأن العامي لا يريد بذلك إلا الشرط ولا يعرف أن مقتضاها التعليل فلا يريده فلا يثبت له حكم ما لا يعرفه ولا يريده كما لو نطق بكلمة الطلاق بلسان لا يعرفه، وإن كان نحوياً وقع في الحال لأن أن المفتوحة ليست للشرط إنما هي للتعليل فمعناه أنت طالق لانت دخلت الدار أو لدخولك الدار، كقوله تعالى (يمنون عليك أن أسلموا - وتخر الجبال هذا أن دعوا للرحمن ولدا - ويخرجون الرسول وإياكم أن تؤمنوا بالله ربكم) قال القاضي هذا التفصيل قياس المذهب، وحكي عن الخلال أن حكم النحوي حكم العامي في أنه لا يقع طلاقه بذلك إلا أن ينويه لأن الطلاق يحمل على العرف في حقهما جميعاً، وقال أبو بكر
تطلق في الحال في حقهما جميعاً عملاً بمقتضى اللغة، واختلف أصحاب الشافعي على ثلاثة أوجه (أحدها) يقع في الحال في حقهما جميعاً كقول أبي بكر (والثاني) يكون شرطاً في حق العاص وتعليلاً في حق النحوي على ما ذكره القاضي (والثالث) يقع الطلاق إلا أن يكون من أهل الأعراب فيقول أردت بالشرط فيقبل

(8/389)


لأنه لا يجوز صرف الكلام عن مقتضاه إلا بقصده، فان أنت طالق إذا دخلت الدار طلقت في الحال لأن إذ للماضي ويحتمل أن لا يقع لأن الطلاق لا يقع في زمن ماض كقوله أنت طالق أمس * (مسألة) * (وإن قال إن قمت وأنت طالق طلقت في الحال لأن الواو ليست جواباً للشرط فإن قال أردت بها الجزاء أو أردت أني أجعل قيامها وطلاقها شرطين لشئ ثم أمسكت دين لأن ما قاله محتمل وهل يقبل في الحكم؟ على روايتين) [إحداهما] لا يقبل لأنه خلاف الظاهر (والثانية) يقبل لأن قوله يحتمله وهو أعلم بمراده، وإن جعل لهذا جزاء فقال إن دخلت الدار وأنت طالق فعبدي حر صح ولم يعتق العبد حتى تدخل الدار وهي طالق لان الواو وههنا للحال كقول الله تعالى (لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ولو قال إن دخلت الدار طالقاً فانت طالق فدخلت وهي طالق طلقت أخرى لأن هذا حال فجرى مجرى قوله إن دخلت الدار راكبة.
(فصل) فإن قال إن دخلت الدار أنت طالق لم تطلق حتى تدخل، وبه قال بعض الشافعية وقال محمد بن الحسن تطلق في الحال لأنه لم يعلقه بدخول الدار بالفاء التي إنما يتعلق بها فيكون كلاما مستأنفاً غير معلق بشرط فيثبت حكمه في الحال.
ولنا أنه أنى يحرف الشرط فيدل بذلك على أنه أراد بتعليق وإنما حذف الفاء وهي مرادة كما

(8/390)


يحذف المبتدأ تارة والخبر أخرى لدلالة باقي الكلام على المحذوف، ويجوز أن يكون حذف الفاء على التقديم والتأخير ومهما أمكن حمل كلام العاقل على فائدة وتصحيحه عن الفساد وجب، وفيما ذكرنا تصحيحه وفيما ذكروه إلغاؤه، وإن قال أردت الإيقاع في الحال وقع لأنه يقر على نفسه بما هو أغلظ.
وإن قال
أنت طالق وإن دخلت الدار وقع الطلاق في الحال لأن معناه أنت طالق في كل حال ولا يمنع من ذلك دخولك لدار كقول النبي صلى الله عليه وسلم " من قال لا إله إلا الله دخل الجنة، وإن زنى وإن سرق " وقال صلى الله عليه وسلم " صلهم وإن قطعوك وأعطهم وإن حرموك "، وإن قال أردت الشرط دين وهل يقبل في الحكم؟ يخرج على روايتين، فإن قال إن دخلت لدار فأنت طالق وإن دخلت الاخرى فمنى دخلت الأولى طلقت سواء دخلت الأخرى أو لم تدخل ولا تطلق الأخرى وقال ابن الصباغ تطلق بدخول كل واحدة منهما ومقتضى اللغة ما قلناه، وإن قال أردت جعل الثاني شرطاً لطلاقها أيضاً طلقت بكل واحدة منهما لأنه يقر على نفسه بما هو أغلظ، وإن قال أردت أن دخول الثانية شرط لطلاق الثانية، فهو على ما أراده، وإن قال إن دخلت الدار وإن دخلت هذه الأخرى فأنت طالق فقد قيل لا نطلق إلا بدخولهما لانه جعل طلاقها جزاء لهذين الشرطين ويحتمل أن تطلق بإحداهما أيهما كان لأنه ذكر شرطين بحرفين فيقتضي كل واحد منهما جزاء افترك ذكر جزاء الأول وكان الجزاء الآخر دالاً عليه كما لو قال ضربت وضربتي زيد، قال الفرزدق

(8/391)


ولكن نصفا لو سبب وسبني * بنو عبد شمس من قريش وهاشم والتقدير سبني هؤلاء وسببتهم، وقال الله تعالى (عن اليمين وعن الشمال قعيد) أي عن اليمين قعيد وعن الشمال قعيد.
(فصل) ولو قال أنت طالق لو قمت كان ذلك شرطاً بمنزلة قوله إن قمت ويحكى هذا عن أبي يوسف لأنها لو لم تكن للشرط لكانت لغواً، والأصل اعتبار كلام المكلف وقيل يقع الطلاق في الحال وهذا قول بعض أصحاب الشافعي لأنها بعد الاثبات تستعمل لغير المنع كقوله تعالى (وإنه لقسم لو تعلمون عظم - ورأوا العذاب لو أنهم كانوا يهتدون) وإن قال أردت أن أجعل لها جواباً دين، وهل يقبل في الحكم؟ يخرج على روايتين * (مسألة) * (وإن قال إن قمت فقعدت فأنت طالق أو إن قمت ثم قعدت لم تطلق حتى تقوم ثم تقعد لأنهما حرفا ترتيب وكذلك إن قال إن قعدت إذا قمت أو إن قعدت إن قمت لأن اللفظ اقتضى
تعليق الطلاق بالعقود بعد القيام (فصل) وإن قال إن قمت إذا قعدت أو إن قمت إن قعدت لم تطلق حتى تقعد ثم تقوم وكذلك إن قال أنت طالق إن أكلت إذا لبست أو إن أكلت إن لبست أو إن أكلت متى لبست لم تطلق حتى تلبس ثم تأكل ويسميه النحويون اعتراض الشرط على الشرط فيقتضي تقديم المتأخر وتأخير المتقدم

(8/392)


لأنه جعل الثاني في اللفظ شرطاً للذي قبله والشرط يتقدم المشروط.
قال الله تعالى (ولا بنفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم) فلو قال لامرأته إن أعطيتك إن وعدتك ان سألتيني فأنت طالق لم تطلق حتى تسأله ثم يعدها ثم يعطيها لأنه شرط في العطية الوعد وفي الوعد السؤال فكأنه قال إن سألتني فوغدتك فأعطيتك وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي وقال القاضي إذا كان الشرط بإذا كقولنا وفيما إذا كان بإن مثل قوله إن شربت إن أكلت أنها تطلق بوجودهما كيفما وجدا قال لأن أهل العرف لا يعرفون ما يقوله أهل العربية في هذا فتعلقت اليمين بما يعرفه أهل العرف بخلاف ما إذا كان الشرط بإذا.
قال شيخنا والصحيح الأول وليس لأهل العرف في هذا عرف فإن هذا الكلام غير متداول بينهم ولا ينطقون به إلا نادراً فيجب الرجوع فيه إلى مقتضاه عند أهل اللسان والله أعلم.
* (مسألة) * (وإن قال إن قمت وقعدت فأنت طالق طلقت بوجودهما كيفما كان) لأن الواو لا تقتضي ترتيباً ولا تطلق بوجود أحدهما لأنها للجمع فلم يقع قبل وجودهما جميعاً وعنه أنها تطلق بوجود أحدهما وخرجه القاضي وجهاً بناء على إحدى الروايتين فيمن حلف لا يفعل شيئاً ففعل بعضه والأول أصح وهذه الرواية بعيدة جداً تخالف الأصول ومقتضى اللغة والعرف وعامة أهل

(8/393)


العلم فإنه لا خلاف بينهم في أنه إذا علق الطلاق على شرطين مرتبين في مثل قوله إن قمت فقعدت أنه لا يقع بوجود أحدهما فكذلك هنا ثم يلزم على هذا ما لو قال إن أعطيتني درهمين فأنت طالق أو إذا مضى شهران فأنت طالق فإنه لا خلاف في أنها لا تطلق قبل وجودهما جميعاً وكان قوله يقتضي الطلاق
باعطائه بعض درهم ومضي بعض يوم وأصول الشرع تشهد بأن الحكم المعلق بشرطين لا يثبت إلا بهما وقد نص أحمد رحمه الله في أنه إذا قال إذا حضت حيضة فأنت طالق أو إذا صمت يوماً فأنت طالق أنها لا تطلق حتى تحيض حيضة كاملة وإذا غابت الشمس من اليوم الذي يصوم فيه طلقت وأما اليمين فإنه متى كان في لفظه أو نيته ما يقتضي جميع المحلوف عليه لم يحنث إلا بفعل جميعه وفي مسئلتنا ما يقتضي تعليق الطلاق بالشرطين لتصريحه بهما وجعلهما شرط للطلاق والحكم لا يثبت بدون شرطه على أن اليمين مقتضاها المنع مما حلف عليه فيقتضي المنع من فعل جميعه كنهي الشارع عن شئ يقتضي المنع من كل جزء منه كما يقتضي المنع من جملته وما علق على شرط جعل جزاء وحكماً والجزاء لا يوجد بدون شرطه والحكم لا يتحقق قبل تمام شرطه لغة وعرفاً وشرعاً * (مسألة) * (وإن قال ان قمت أو قعدت فأنت طالق طلقت بوجود أحدهما) لأن أو لاحد الشيئين، كذلك إن قال إن أكلت أو إن لبست أو لا أكلت ولا لبست لأن

(8/394)


أو تقتضي تعليق الجزاء على واحد من المذكور، كقوله سبحانه (فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر) (فصل) في تعليقه بالحيض) قال الشيخ رحمه (إذا قال لامرأته إن حضت فأنت طالق طلقت بأول الحيض لأن الصفة وجدت وكذلك حكمنا أنه حيض في المنع من الصلاة والصيام فإن بان أن الدم ليس بحيض لم تطلق، وبه قال الثوري وأصحاب الرأي لأنا تبينا أن الصفة لم توجد (فصل) وإذا قال لطاهر إذا حضت حيضة فأنت طالق لم تطلق حتى تحيض ثم تطهر نص عليه لأنها لا تحيض حيضة إلا بذلك ولا تعتد بالحيضة التي هي فيها لأنها ليست حيضة كاملة، وإن قال إذا حضت حيضة فأنت طالق وإذا حضت حيضتين فأنت طالق فحاضت حيضة طلقت طلقة واحدة فإذا حاضت الثانية عند طهرها وإن قال إدا حضت حيضة فأنت طالق ثم إذا حضت حيضتين فأنت طالق لم تطلق الثانية حتى تطهر من الحيضة الثالثة لأن ثم للترتيب فتقتضي حيضتين بعد الطلقة الاولى لكونها مرتبتين عليها.
* (مسألة) * (وإذا قال إذا حضت نصف حيضة فأنت طالق طلقت إذا ذهب نصف الحيضة) وينبغي أن يحكم بوقوع الطلاق إذا حاضت نصف عادتها لأن الأحكام تعلقت بالعادة فيتعلق بها وقوع الطلاق، ويحتمل أن لا يقع الطلاق حتى يمضي سبعة أيام ونصف لانا لا نتيقن مضي نصف الحيض إلا بذلك إلا أن تطهر لأقل من ذلك ومتى طهرت تبينا وقوع الطلاق في نصف الحيضة،

(8/395)


وحكي عن القاضي أنه يلغو قوله نصف حيضة فعلى هذا يتعلق طلاقها بأول الدم لانها لا نصف لها فيكون كقوله إذا حضت وقيل يلغو قوله نصف فهو كقوله إذا حضت حيضة، والأول أصح فإن الحيض له مدة أقلها يوم وليلة أو يوم فيكون له حقيقة والجهل بقدر ذلك لا يمنع وجوده وتعلق الحكم به كالحمل.
* (مسألة) * (وإن قال إذا طهرت فأنت طالق وكانت طاهراً لم تطلق حتى تحيض ثم تطهر) وهذا يحكى عن أبي يوسف، وقال بعض أصحاب الشافعي الذي يقتضيه مذهب الشافعي أنها تطلق بما يتجدد من طهرها وكذلك قال في قوله إذا حضت فأنت طالق فكانت حائضاً أنها تطلق بما يتجدد من الحيض لأنه قد وجد منها الحيض والطهر فوقع الطلاق لوجود صفته ولنا أن إذا اسم لزمن مستقبل يقتضي فعلاً مستقبلاً، وهذا الطهر والحيض مستدام غير متجدد ولا يفهم من إطلاق حاضت المرأة وطهرت إلا ابتداء ذلك فتعلقت الصفة به فأما إذا قال إذا طهرت فأنت طالق وهي حائض طلقت بانقطاع الدم قبل الغسل نص عليه أحمد في رواية إبراهيم الحربي وذكر أبو بكر في التنبيه فيها قولاً أنها لا تطلق حتى تغتسل بناء على العدة في أنها لا تنقضي إلا بالغسل ولنا أن الله تعالى قال (ولا تقربوهن حتى يطهرن) أي ينقطع دمهن فإذا تطهرن أي اغتسلن ولأنه قد ثبت لها أحكام الطهارات في وجوب الصلاة وصحة الطهارة والصيام وإنما بقي بعض الأحكام

(8/396)


وقوفا على وجود الغسل ولأنها ليست حائضاً فيلزم أن تكون طاهراً لأنهما ضدان على التعيين فيلزم من انتفاء أحدهما وجود الآخر.
* (مسألة) * (وإذا قالت قد حضت وكذبها قبل قولها في نفسها في أحد الروايتين بغير يمين لأنها أمينة على نفسها) وهذا قول أبي حنيفة والشافعي وهو ظاهر المذهب لأن الله قال (ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن) قيل هو الحيض والحمل ولولا أن قولها فيه مقبول ما حرم الله عليها كتمانه وصار كقوله تعالى (ولا تكتموا الشهادة) لما حرم كتمانها دل على قبولها كذا ههنا ولأنه معنى فيها لا يعرف إلا من جهتها فوجب الرجوع الى قولها فيه كقضاء عدتها (والرواية الثانية) لا يقبل قولها ويختبرها النساء بإدخال قطنة في الفرج في الزمان الذي ادعت الحيض فيه فإن ظهر الدم فهي حائض وإلا فلا.
قال أحمد في رواية منها في رجل قال لامرأته إذا حضت فأنت طالق وعبدي حر قالت قد حضت ينظر إليها النساء فتعطى قطنة فتخرجها فإن خرج الدم فهي حائض تطلق ويعتق العبد، قال أبو بكر وبهذا أقول لأن الحيض يمكن التوصل الى معرفته من غيرها فلم يقبل فيه مجرد قولها كدخول الدار والأول المذهب ولعل أحمد إنما اعتبر البينة في هذه الرواية من أجل عتق العبد فإن قولها إنما يقبل في حق نفسها دون غيرها وهل تعتبر يمينها إذا قلنا القول قولها؟ على وجهين بناء على ما إذا ادعت أن زوجها طلقها وأنكرها

(8/397)


ولا يقبل قولها إلا في حق نفسها خاصة دون غيرها من طلاق أخرى أو عتق عبد نص عليه أحمد في رجل قال لامرأته إذا حضت فأنت طالق وهذه معك لامرأة أخرى قالت قد حضت من ساعتها تطلق هي ولا تطلق هذه حتى تعلم لأنها مؤتمنة في حق نفسها دون غيرها فصارت كالمودع يقبل قوله في الرد على المودع دون غيره.
* (مسألة) * (ولو قال قد حضت فأنكرته طلقت بإقراره) لأنه أقر بما يوجب طلاقها فأشبه ما لو قال قد طلقتها * (مسألة) * (فإن قال إن حضت فأنت وضرتك طالقتان فقالت قد حضت وكذبها طلقت وحدها) لأن قولها مقبول على نفسها ولا تطلق الضرة إلا أن تقيم بينة على حيضها وإن ادعت الضرة أنها قد حاضت لم تقبل لأن معرفتها بحيض غيرها كمعرفة الزوج به وإنما اؤتمنت على نفسها في حيضها، وإن
قال قد حضت وأنكرت طلقتا بإقراره.
* (مسألة) * (وإن قال لامرأتيه إن حضتما فأنتما طالقتان فقالتا قد حضنا فصدقهما طلقتا) لأنهما أقرتا وصدقهما فوجدت الصفة في حقهما وإن كذبهما لم تطلق واحدة منهن لأن طلاق كل واحدة منهما معلق على شرطين حيضها وحيض ضرتها ولا يقبل قول ضرتها عليها فلم يوجد الشرطان وإن كذب إحداهما طلقت المكذبة وحدها لأن قولها مقبول في حقها وقد صدق الزوج

(8/398)


ضرتها فوجد الشرطان في طلاقها ولم تطلق المصدقة لان قول ضرتها غير مقبول في حقها ولم يصدقها الزوج فلم يوجد شرط طلاقها * (مسألة) * (وإن قال ذلك لأربع فقد علق طلاق كل واحدة منهن على حيض الأربع فإن قلن قد حضن فصدقهن طلقن) لأنه قد وجد حيضهن بتصديقه وإن كذبهن لم تطلق واحدة منهن لأن شرط طلاقهن حيض الأربع ولم يوجد وإن صدق واحدة أو اثنتين لم تطلق واحدة منهن لأنه لم يوجد الشرط لكون قول كل واحدة منهن لا يوجد إلا في نفسها وإن صدق ثلاثاً طلقت المكذبة وحدها لأن قولها مقبول في حيضها وقد صدق الزوج صواحبها فوجد حيض الأربع في حقها فطلقت ولا تطلق المصدقات لأن قول المكذبة غير مقبول في حقهن.
* (مسألة) * (وإن قال كلما حاضت إحدا كن فضرائرها طوالق) فقد جعل حيض كل واحدة منهن شرطاً لطلاق ضرائرها فقلن قد حضن فصدقهن طلقت كل واحدة منهن لا قولهن غير مقبول عليه في طلاق غيرهن وإن صدق واحدة منهن لم تطلق لأنه لا ليس لها صاحبة ثبت حيضها وطلقت ضراتها طلقة طلقة لأن لهن صاحبة قد ثبت حيضها وإن صدق اثنتين طلقت كل

(8/399)


واحدة منهما طلقة لأن كل واحدة منهما ضرة مصدقة وطلقت المكذبتان طلقتين طلقتين لأن لكل واحدة منهما ضرتين مصدقتين وإن صدق ثلاثاً طلقت المكذبة ثلاثاً لأن لها ثلاث ضرائر مصدقات
وطلقت كل واحدة من المصدقات طلقتين لأن لكل واحدة ضرتين مصدقتين (فصل) إذا قال لامرأتيه إن حضتما حيضة واحدة فأنتما طالقتان لم تطلق واحدة منهما حتى تحيض كل واحدة منهما حيضة واحدة ويكون التقدير إن حاضت كل واحدة منكما حيضة واحدة فأنتما طالقتان ويكون كقوله تعالى (فاجلدوهم ثمانين جلدة) أي فاجلوا كل واحد منهم ثمانين جلدة، ويحتمل أن يتعلق بها الطلاق بحيض احداهما حيضة لأنه لما تعذر وجود الفعل منهما وجب اضافته الى إحداهما كقوله تعالى (يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان) وإنما يخرج من أحدهما.
وقال القاضي يغلو قول حيضة واحدة لأن حيضة وحدة من امرأتين محال فيبقى كأنه قال إن حضتما فأنتما طالقتان وهذا أحد الوجهين لأصحاب الشافعي والوجه الآخر لا تنعقد هذه الصفة لأنها مستحيلة فيصير كتعليق الطلاق بالمستحيلات.
والوجه الأول أولى لأن فيه تصحيح كلام المكلف بحمله على محل سائغ وتبعيداً لوقوع الطلاق واليقين بقاء النكاح فلا يزول حتى يوجد ما يقع به الطلاق يقينا وغير هذا الوجه لا يحصل به اليقين فإن أراد بكلامه أحد هذه الوجوه حمل عليه وإذا ادعى ذلك قبل منه وإذا قال أردت أن تكون الحيضة الواحدة منهما فهو تعليق للطلاق بمستحيل فيحتمل أن يلغو قوله حيضة

(8/400)


ويحتمل أن يقع الطلاق لأن هذه الصفة لا توجد فلا يوجد ما علق عليها ويحتمل أن يقع الطلاق في الحال ويلغو بناء على ما ذكرناه في تعليق الطلاق على المستحيل (فصل) إذا كان له أربع نسوة فقال أيتكن لما أطأها فضرائرها طوالق وقيده بوقت فمضى الوقت ولم يطأهن طلقن ثلاثاً ثلاثاً لأن لكل واحدة ثلاث ضرائر غير موطوءات وإن وطئ ثلاثاً وترك واحدة لم تطلق المتروكة لأنها ليست لها ضرة غير موطؤة وتطلق كل واحدة من الموطوءات طلقة طلقة وإن وطئ اثنتين طلقتا طلقتين وإن لم يقيده بوقت كان وقت الطلاق مقيداً بعمره وعمرهن فأيتهن مانت طلقت كل واحدة من ضرائرها طلقة طلقة وإذا ماتت أخرى فكذلك وإذا مات هو طلقن كلهن في آخر جزء من حياته * (فصل في تعليقه بالحمل) * قال شيخنا رحمه الله تعالى (إذا قال إن كنت حاملاً فأنت طالق فتبين
أنها كانت حاملاً تبينا وقوع الطلاق من حين اليمين وإلا فلا) ويعلم حملها بأن تلد لأقل من ستة أشهر من حين اليمين فيقع الطلاق لوجود شرطه، وإن ولدت لأكثر من أربع سنين لم تطلق لأنا علمنا براءتها من الحمل وإن ولدت لأكثر من ستة أشهر ولأقل من أربع سنين ولم يكن لها من يطؤها طلقت لأنها كانت حاملا وإن كان لها زوج يطؤها فولدت لأقل من ستة أشهر من حين وطئه طلقت لأننا علمنا أنه ليس من الوطئ وإن ولدته لأكثر من ستة أشهر من حين وطئ الزوج بعد اليمين ولأقل من أربع سنين من حين عقد الصفة لم تطلق لأن يقين النكاح باق والظاهر

(8/401)


حدوث الولد من الوطئ لأن الأصل عدمه قبله * (مسألة) * (وإن قال إن لم تكوني حاملاً فأنت طالق فهي بالعكس) ففي كل موضع يقع الطلاق في التي قبلها لا يقع ههنا وفي كل موضع لا يقع ثم يقع ههنا لأنها ضدها إلا إذا أتت بولد لأكثر من ستة أشهر ولأقل من أربع سنين هل يقع الطلاق ههنا؟ فيه وجهان (أحدهما) تطلق لأن الأصل عدم الحمل قبل الوطئ والثاني لا تطلق لأن الأصل بقاء النكاح * (مسألة) * (ويحرم وطؤها قبل استبرائها في إحدى الروايتين ان كان الطلاق بائناً نص عليه أحمد) وكذلك يحرم في التي قبلها لاحتمال الحمل فغلب التحريم وقال القاضي يحرم الوطئ وإن كان الطلاق رجعياً سواء قلنا إن الرجعية مباحة أو محرمة لأنه يمنع المعرفة بوقوع الطلاق وعدمه وقال أبو الخطاب فيه رواية أخرى أن الوطئ لا يحرم لأن الأصل بقاء النكاح وبراءة الرحم من الحمل فإن استبرأها حل وطؤها على الروايتين ويكفي في الاستبراء حيضة قال أحمد في رواية أبي الخطاب إذا قال لامرأته متى حملت فأنت طالق لا يقربها حتى تحيض فإذا طهرت وطئها فإن تأخر حيضها أريت النساء من أهل المعرفة فإن لم يوجدن أو خفي عليهن انتظر عليها تسعة أشهر غالب مدة الحمل، وذكر القاضي رواية أخرى أنها تستبرأ بثلاثة قروء لأنه استبراء الحرة وهو أحد الجهين لأصحاب الشافعي قال شيخنا

(8/402)


والصحيح ما ذكرناه لأن المقصود معرفة براءة رحمها وهو يحصل بحيضة بدليل قوله عليه السلام " لا توطأ حامل
حتى تضع ولا حائل حتى تستبرأ بحيضة " يعني حتى تعلم براءتها من الحمل بحيضة ولأن ما تعلم به البراءة في حق الامة والحرة واحد لأنه أمر حقيقي لا يختلف بالرق والحرية، وأما العدة ففيها نوع تعبد لا يجوزان يعدى بالقياس وهل يعتد بالاستبراء قبل عقد اليمين أو بالحيضة التي حلف فيها؟ على وجهين (أصحهما) الاعتداد به لأنه يحصل به ما يحصل بالاستبراء بعد اليمين (والثاني) لا يعتد به لأن الاستبراء لا يقدم على سببه ولأنه لا يعتد به في استبراء الأمة المملوكة قال أحمد إذا قال لامرأته إذا حبلت فأنت طالق يطؤها في كل طهر مرة يعني إذا حاضت ثم طهرت حل وطؤها لان الحيض علم على براءتها من الحمل ووطؤها سبب له فإذا وطئها اعتزلها لاحتمال أن تكون قد حملت من وطئه فطلقت به * (مسألة) * (وإذا قال إن كنت حاملاً بذكر فأنت طالق واحدة وإن كنت حاملاً بأنثى فأنت طالق اثنتين فولدت ذكراً وانثى طلقت ثلاثا لوجود الصفة) ولو قال إن كان حملك غلاماً فأنت طالق واحدة وإن كان حملك جارية فأنت طالق اثنتين فولدت غلاماً وجارية لم تطلق لأن حملها كله ليس بغلام ولا جارية.
ذكره القاضي في المجرد وأبو الخطاب، وبه قال الشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي وقال القاضي في الجامع في وقوع الطلاق وجهان بناء على الروايتين فيمن حلف لا لبست ثوبا من غزلها فلبس ثوباً فيه من غزلها

(8/403)


(فصل) في تعليقه بالولادة إذا قال إن ولدت ذكراً فأنت طالق واحدة وإن ولدت أنثى فأنت طالق اثنتين فولدت ذكراً ثم أنثى طلقت بالأول وبانت بالثاني ولم تطلق به.
ذكره أبو بكر لأن العدة انقضت بوضعه فصادفها الطلاق فلم يقع كما لو قال إذا مت فأنت طالق، وهذا قول الشافعي وأصحاب الرأي وحكى عن ابن حامد أنها تطلق لأن زمن البينونة زمن الوقوع فلا تنافي بينهما، والصحيح الأول لما ذكرنا وقد نص أحمد فيمن قال أنت طالق مع موتي أنها لا تطلق فهذا أولى فإن ولدتهما دفعة واحدة طلقت ثلاثاً لوجود الشرطين.
* (مسألة) * (فإن أشكل كيفية وضعهما وقعت واحدة بيقين ولغا ما زاد فلا تلزمه الثانية لأنه مشكوك فيه والورع أن يلتزمها)
وهذا قول الشافعي وأصحاب الرأي، قال القاضي قياس المذهب أن يقرع بينهما لانه يحتمل كل واحدة منهما احتمالاً مساوياً للأخرى فيقرع بينهما كما لو أعتق عبديه معاً ثم نسيه فإن قال إن كان أول ما تلدين ذكراً فأنت طالق واحدة وإن كان أنثى فأنت طالق اثنتين فولدتهما دفعة واحدة لم يقع بها شئ لأنه لا أول فيهما فلم توجد الصفة وإن ولدتهما دفعتين طلقت بالأول وبانت بالثاني ولم تطلق به إلا على قول ابن حامد وقد ذكرناه

(8/404)


* (مسألة) * (ولا فرق بين أن تلده حياً أو ميتاً) لان الشرط ولادة ذكر أو أنثى وقد وجد، لأن العدة تنقضي به وتصير به الجارية أم ولد كذلك هذا (فصل) إذا قال إن كنت حاملاً بغلام فأنت طالق واحدة وإن ولدت أنثى فأنت طالق اثنتين فولدت غلاماً كانت حاملاً به وقت اليمين تبينا أنها طلقت واحدة حين حلف وانقضت عدتها بوضعه وإن ولدت أنثى طلقت ولادتها طلقتين واعتدت بالقروء، وان ولد غلاماً وجارية وكان الغلام أولهما ولادة تبينا أنها طلقت واحدة وبانت بوضع الجارية ولم تطلق بهما إلا على قول ابن حامد وإن كانت الجارية ولدت أولاً طلقت ثلاثاً واحدة بحمل الغلام واثنتين بولادة الجارية وانقضت عدتها بوضع الغلام.
(فصل) فإن كان له أربع نسوه، فقال كلما ولدت واحدة منكن فضرائرها طوالق فولدن دفعة واحدة طلقتن كلهن ثلاثاً ثلاثاً، وان ولدن في دفعات وقع بضرائر الأولى طلقة طلقة فإذا ولدت الثانية بانت بوضع الولد ولم تطلق وهل يطلق سائرهن؟ فيه احتمالان [أحدهما] لا يقع بهن طلاق لانها لما انقضت عدتها بانت فلم يبقين ضرائر لها والزوج إنما علق بولادتها اطلاق ضرائرها.

(8/405)


(والوجه الثاني) يقع بكل واحدة طلقة طلقة لأنهن ضرائرها في حال ولادتها، فعلى هذا يقع بكل واحدة من اللتين لم يلدن طلقتان طلقتان وتبين هذه، ويقع بالوالدة الاولى طلقة فإذا ولدت الثالثة
بانت وفي وقوع الطلاق بالباقيتين وجهان، فإذا قلنا يقع بهن طلقت الرابعة ثلاثا والاولى طلقتين وبانت الثانية والثالثة وليس فيهن من له رجعتها إلا الأولى ما لم تنقض عدتها وإذا ولدت الرابعة لم تطلق واحدة منهن وتنقضي عدتها بذلك، وإن قال كلما ولدت واحدة منكن فسائركن طوالق أو فباقيكن طوالق فكلما ولدت واحدة منهن وقع بباقيهن طلقة طلقة وتبين الوالدة بوضع ولدها إلا الأولى، والفرق بين هذه وبين التي قبلها إن الثانية والثالثة يقع الطلاق بباقيهن بولادتهما ههنا وفي الأولى لا يقع لأنهن لم يبقين ضرائرها وههنا لم يعلقه بذلك وإن قال كلما ولدت واحدة منكن فأنتن طوالق فكذلك إلا أنه لا يقع على الاولى طلقة بولادتها، فإن كانت الثانية حاملاً باثنتين فوضعت الأولى منهما وقع بكل واحدة من ضرائرها طلقة في المسائل كلها ووقع بها طلقة في المسألة الثالثة، وإذا وضعت الثالثة أو كانت حائلا باثنتين فكذلك فتطلق الرابعة وتطلق كل واحدة من الوالدات طلقتين طلقتين في المسئلتين الأوليين وثلاثاً ثلاثاً في المسألة الثالثة ثم كلما وضعت واحدة منهن تمام حملها انقضت به عدتها، قال القاضي إذا كان له زوجتان فقال كلما ولدت واحدة منكما فأنتما طالقتان، فولدت إحداهما يوم الخميس طلقتا

(8/406)


جميعاً ثم ولدت الثانية يوم الجمعة بانت وانقضت عدتها ولم تطلق وطلقت الأولى ثانية فإن كانت كل واحدة منهما حائلا باثنين طلقتا بوضع الثانية طلقة طلقة أيضاً، ثم إذا ولدت الأولى تمام حملها انقضت عدتها به وطلقت الثانية ثلاثاً فإذا وضعت الثانية تمام حملها انقضت عدتها به (فصل) في تعليقه بالطلاق إذا قال إذا طلقتك فأنت طالق ثم قال أنت طالق وقعت واحدة بالمباشرة وأخرى بالصفة إن كانت مدخولاً بها لأنه جعل تطليقها شرط الوقوع طلاقها فإذا وجد الشرط وقع الطلاق، وإن كانت غير مدخول بها بانت بالأولى ولم تقع الثانية لأنه لا عدة عليها ولا تمكن رجعتها فلا يقع طلاقها إلا بائناً ولا يقع الطلاق بالبائن فإن قال عنيت بقولي هذا أنك تكونين طالقاً بما أوقعته عليك ولم أرد طلاقاً سوى ما باشرتك به دين وهل يقبل في الحكم، لا يخرج على روايتين [إحداهما] لا يقبل وهو مذهب الشافعي لأنه خلاف الظاهر إذ الظاهر أن هذا تعليق للطلاق بشرط الطلاق ولأن اخباره إياها بوقوع طلاقه بها لا فائدة فيه
(والوجه الثاني) لا يقبل قوله لأنه يحتمل ما قاله فقيل كما لو قال أنت طالق أنت طالق، وقال أردت بالثاني التأكيد أو افهامها.
* (مسألة) * (إذا قال إذا طلقتك فأنت طالق ثم قال إن قمت فانت طالق فقامت طلقت بقيامها

(8/407)


ثم طلقت بالصفة أخرى لأنه قد طلقها بعد عقد الصفة لأن الصفة تطليقة لها وتعليقه لطلاقها بقيامها إذا اتصل به القيام تطليق لها.
* (مسألة) * (ولو قال أولا إن قمت فانت طالق ثم قال إن طلقتك فأنت طالق فقامت طلقت بالقيام واحدة ولم تطلق بتعليق الطلاق لأنه لم يطلقها بعد ذلك) لأن هذا يقتضي ابتداء إيقاع وقوع الطلاق ههنا بالقيام إنما هو وقوع بصفة سابقة تعقد الطلاق شرطا * (مسألة) * (ولو قال أن قت فأنت طالق ثم قال إن وقع عليك طلاقي فأنت طالق فقامت طلقت بالقيام ثم تطلق الثانية بوقوع الطلاق عليها إن كانت مدخولاً بها لأن الطلاق الواقع بها طلاقه فقد وجدت الصفة * (مسألة) * (وإن قال كلما طلقتك فأنت طالق فهذا حرف يقتضي التكرار) فإذا قال لها بعد أنت طالق طلقت طلقتين إحداهما بالمباشرة والأخرى بالصفة ولا تقع ثالثة لأن الثانية لم تقع بإيقاعه بعد عقد الصفة لأن قوله كلما طلقتك يقتضي كلما أوقعت عليك الطلاق، وهذا يقتضي تجديد إيقاع طلاق بعد هذا القول وإنما وقعت الثانية بهذا القول، وإن قال لها بعد عقد الصفة إن خرجت فأنت طالق فخرجت طلقت بالخروج طلقة وبالصفة أخرى لأنه قد طلقها ولم تقع الثالثة فإن قال لها كلما أوقعت عليك طلاقي فأنت طالق فهو كقوله كلما طلقتك فأنت طالق، وذكر القاضي في هذه أنه إذا وقع عليها طلاقه بصفة عقدها بعد قوله إذا أوقعت عليك طلاقاً فأنت طالق لم تطلق

(8/408)


لأن ذلك ليس بإيقاع منه.
وهذا قول بعض أصحاب الشافعي، وفيه نظر فإنه قد أوقع الطلاق عليها بشرط فإذا وجد الشرط فهو الموقع للطلاق عليها فلا فرق بين هذا وبين قوله إذا طلقتك فأنت طالق * (مسألة) * (وإن قال كلما وقع عليك طلاقي فأنت طالق ثم وقع عليها طلاقه بمباشرة أو سبب
أو بصفة عقدها بعد ذلك أو قبله طلقت ثلاثاً لأن الثانية طلقة واقعة عليها فتقع بها الثالثة (فصل) فإن قال لها ان خرجت فأنت طالق ثم قال كلما وقع عليك طلاقي فأنت طالق ثم خرجت وقع عليها طلقة بالخروج ثم وقعت عليها الثانية بوقوع الاولى ثم وقعت الثالثة بوقوع الثانية لأن كلما تقتضي التكرار وقد عقد الصفة بوقوع الطلاق فكيفما وقع يقتضي وقوع أخرى ولو قال لها إذا طلقتك فأنت طالق ثم قال إذا وقع عليك طلاقي فأنت طالق ثم قال أنت طالق طلقت ثلاثاً واحدة بالمباشرة واثنتين بالصفتين لأن تطليقه لها يشتمل على الصفتين هو تطليق منه وهو وقوع طلاقه ولأنه إذا قال أنت طالق طلقت بالمباشرة واحدة فتطلق الثانية بكونه طلقها وذلك طلاق منه واقع عليها فتطلق به الثالثة وهذا كله في المدخول بها فأما غير المدخول بها فلا تطلق إلا واحدة في جميع هذا.
وهذا كله مذهب الشافعي وأصحاب الرأي ولا نعلم فيه خلافاً (فصل) فإن قال كلما طلقتك طلاقاً أملك فيه رجعتك فأنت طالق ثم قال أنت طالق طلقت اثنتين (إحداهما) بالمباشرة (والأخرى) بالصفة إلا أن تكون الطلقة بعوض أو في غير مدخول بها فلا يقع

(8/409)


بها ثانية لأنها تبين بالطلقة التي باشرها بها فلا يملك رجعتها فإن طلقها ثنتين طلقت الثالثة، وقال أبو بكر: قيل تطلق وقيل لا تطلق واختياري أنها تطلق، وقال أصحاب الشافعي لا تطلق الثالثة لأنا لو أوقعناها لم يملك الرجعة ولم يوجد شرط طلاقها فيفضي ذلك الى الدور فنسقطه بمنع وقوعه ولنا أنه طلاق لم يكمل به العدد بغير عوض في مدخول بها فتقع التي بعدها كالأولى وامتناع الرجعة ههنا لعجزه عنها لا لعدم الملك كما لو طلقها واحدة وأغمى عليه عقيبها وأن الثانية تقع وإن امتنعت الرجعة لعجزه عنها وإن كان الطلاق بعوض أو في غير المدخول بها لم يقع إلا الطلقة التي باشرها بها لأنه لا يملك رجعتها وإن قال كلما وقع عليك طلاق أملك فيه رجعتك فأنت طالق ثم وقع عليها طلقة بالمباشرة أو صفة طلقت ثلاثاً وعندهم لا تطلق لما ذكرنا في التي قبلها ولو قال لامرأته إذا طلقتك طلاقاً أملك فيه الرجعة فأنت طالق فأنت طالق فأنت طالق ثلاثا ثم طلقها طلقت ثلاثاً، وقال المزني لا تطلق وهو قياس قول أصحاب الشافعي لما تقدم
* (مسألة) * (وإن قال كلما وقع عليك طلاقي أو إن وقع عليك طلاقي فأنت طالق قبله ثلاثاً ثم قال أنت طالق فلا نص فيها) وقال أبو بكر والقاضي تطلق ثلاثاً واحدة بالمباشرة واثنتان بالمعلق، وهو قياس قول الشافعي وبعض أصحابه، وقال ابن عقيل تطلق بالطلاق المنجز ويلغوا المعلق لأنه طلاق في زمن ماض، وقال

(8/410)


أبو العباس بن سريج وبعض الشافعية لا تطلق أبداً لأن وقوع الواحدة يقتضي وقوع ثلاث قبلها وذلك يمنع وقوعها فإثباتها يؤدي الى نفيها فلا تثبت ولأن إيقاعها يفضي الى الدور لأنها إذا وقعت وقع قبلها ثلاث فيمنع وقوعها وما أفضى الى الدور وجب قطعه من أصله ولنا أنه طلاق من مكلف مختار في محل النكاح صحيح فيجب أن يقع كما لو لم يعقد هذه الصفة ولأن عمومات النصوص تقتضي وقوع الطلاق مثل قوله سبحانه (فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره) وقوله تعالى (والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء) وكذلك سائر النصوص ولأن الله تعالى شرع الطلاق لمصلحة تتعلق به وما ذكروه يمنعه بالكلية وتبطل مشروعيته وتفوت مصلحته فلا يجوز ذلك بمجرد الرأي والتحكم وما ذكروه غير مسلم فأما إذا قلنا لا يقع الطلاق المعلق فله وجه لأنه أوقعه في زمن ماض ولا يمكن وقوعه في الماضي فلم يقع كما لو قال أنت طالق قبل قدوم زيد بيوم فقدم في اليوم ولأنه جعل الطلقة الواقعة شرطاً لوقوع الثلاث ولا يوجد المشروط قبل شرطه فعلى هذا لا يمنع من وقع الطلقة المباشرة ولا يفضي إلى دور ولا غيره وإن قلنا بوقوع الثلاث فوجهه انه وصف الطلاق المعلق بما يستحيل وصفه به فلغت الصفة ووقع الطلاق كما لو قال أنت طالق طلقة لا تلزمك ولا تنقص عدد طلاقك أو قال للآيسة أنت طالق للسنة أو للبدعة وبيان استحالته ان تعليقه بالشرط يقتضي وقوعه بعده لأن الشرط يتقدم مشروطه ولذلك لو أطلق لوقع بعده وتعقيبه بالفاء في قوله فأنت طالق

(8/411)


يقتضي كونه عقيبه وكون الطلاق المعلق قبله بعده محال لا يصح الوصف به فلغت الصفة ووقع الطلاق كما لو قال إن طلقتك فأنت طالق ثلاثاً لا تلزمك ثم يبطل ما ذكروه بقوله إذا انفسخ نكاحك فأنت
طالق قبله ثلاثاً ثم وجد ما يفسخ نكاحها من رضاع أو ردة أو وطئ أمها أو ابنتها بشبهة فإنه يرد ما ذكروه ولا خلاف في انفساخ النكاح قال القاضي ما ذكروه ذريعة الى أن لا يقع عليها الطلاق جملة وإن قال أنت طالق ثلاثا قبيل وقوع طلاقي بك واحدة أو أنت طالق اليوم ثلاثاً أو طلقتك غداً واحدة فالكلام عليها من وجه آخر وهو وارد على المسئلتين جميعا وذلك ان الطلقة الموقعة يقتضي وقوعها وقوع ما لا يتصور وقوعها معه فيجب أن يقضى بوقوع الطلقة الموقعة دون ما تعلق بها لأن ما تعلق بها تابع ولا يجوز إبطال المتبوع لامتناع حصول التبع فيبطل التابع وحده كما لو قال في مرضه إذا اعتقت سالماً فغانم حر ولم يخرج من ثلثه إلا احدهما فان سالما يعتق وحده ولا يقرع بينهما لأن ذلك ربما أدى الى عتق المشروط دون الشرط وذلك غير جائز ولا فرق بين أن يقول فغانم معه أو قبله أو بعده أو يطلق كذا ههنا (فصل) إذا قال إن طلقت حفصة فعمرة طالق ثم قال إن طلقت عمرة فحفصة طالق ثم طلق حفصة طلقتا معاً حفصة بالمباشرة وعمرة بالصفة ولم تزد كل واحدة منهما على طلقة وإن بدأ بطلاق عمرة طلقت طلقتين وطلقت حفصة طلقة واحدة لأنه إذا طلق حفصة طلقت بالصفة لكونه علق طلاقها على طلاق حفصة ولم يعد على حفصة طلاق آخر لأنه ما أحدث في عمرة طلاقها إنما طلقت بالصفة السابقة

(8/412)


على تعليقه طلاقها وإن بدأ بطلاق عمرة طلقت حفصة لكون طلاقها معلقاً على طلاق عمرة ووقوع الطلاق بها تطليق منه لها لأنه أحدث فيه طلاقاً بتعليقه طلاقها على تطليق عمرة بعد قوله إن طلقت حفصة فعمرة طالق ومتى وجد التعليق والوقوع معاً فهو تطليق فإن وجدا معاً بعد تعليق الطلاق بطلاقها وقع الطلاق المعلق بطلاقها وطلاق عمرة ههنا معلق بطلاقها فوجب القول بوقوعه ولو قال لعمرة كلما طلقت حفصة فأنت طالق ثم قال لحفصة كلما طلقت عمرة فأنت طالق ثم قال لعمرة أنت طالق طلقت طلقتين وطلقت حفصة طلقة واحدة وإن طلق حفصة ابتداء لم يقع بكل واحدة منهما إلا طلقة لأن هذه المسألة كالتي قبلها سواء فإنه بدأ بطلاق عمرة على تطليق حفصة ثم ثنى بتعليق طلاق حفصة على تطليق عمرة ولو قال لعمرة إن طلقتك فحفصة طالق ثم قال لحفصة إن طلقتك فعمرة طالق ثم طلق حفصة طلقت طلقتين وطلقت عمرة طلقة، وإن طلق عمرة طقت كل واحدة منهما طلقة لأنها عكس التي قبلها وذكرها بين المسئلتين القاضي في المجرد ولو قال لأحدى زوجتيه كلما طلقت
ضرتك فأنت طالق ثم قال للأخرى مثل ذلك ثم طلق الأولى طلقت طلقتين وطلقت الثانية طلقة، وإن طلق الثانية طلقت كل واحدة منهما طلقة، وإن قال كلما طلقتك فضرتك طالق ثم قال للأخرى مثل ذلك ثم طلق الأولى طلقت كل واحدة منهما طلقة وإن طلق الثانية طلقت طلقتين وطلقت الأولى طلقة وتعليل ذلك على ما ذكرنا في المسألة الأولى

(8/413)


(فصل) فإن كان له ثلاث نسوة فقال إن طلقت زينب نعمرة طالق، وإن طلقت عمرة فحفصة طالق، وإن طلقت حفصة فزينب طالق ثم طلق زينب طلقت عمرة ولم تطلق حفصة لأنه ما أحدث في عمرة طلاقاً بعد تعليق طلاق حفصة بتطليقها، وإنما طلقت بالصفة السابقة على ذلك فيكون وقوعاً للطلاق وليس بتطليق، وإن طلق عمرة طلقت حفصة ولم تطلق زينب لذلك، وإن طلق حفصة طلقت زينب ثم طلقت حفصة فيقع الطلاق بالثلاث لأنه أحدث في زينب طلاقاً بعد تعليقه طلاق عمرة بتطليقها فكان وقوع الطلاق بزينب تطليقاً وطلقت به عمرة بخلاف غيرها ولو قال لزينب إن طلقت عمرة فأنت طالق ثم قال لعمرة إن طلقت حفصة فأنت طالق ثم قال لحفصة إن طلقت زينب فأنت طالق ثم طلق زينب طلق الثلاث زينب بالمباشرة وحفصة بالصفة ووقوع الطلاق بحفصة تطليق لها وتطليقها شرط طلاق عمرة فتطلق به أيضاً والدليل على أنه تطليق لحفصة أنه أحدث فيها طلاقاً بتعليقه طلاقها على تطليق زينب بعد تعليق طلاق عمرة بتطليقها وتحقق شرطه والتعليق مع شرطه تطلق وقد وجدا معاً بعد جعل تطليقها صفة لطلاق عمرة، وإن طلق عمرة طلقت هي وزينب ولم تطلق حفصة وإن طلق حفصة طلقت هي وعمرة ولم تطلق زينب لما ذكرنا في المسألة التي قبلها، وإن قال لزينب إن طلقتك فضرتاك طالقتان ثم قال لعمرة مثل ذلك ثم قال لحفصة مثل ذلك ثم طلق زينب طلقت كل واحدة منهن طلقة واحدة لأنه لم يحدث في غير زينب طلاقا وانما طلقتا بالصفة على تعليق

(8/414)


الطلاق بتطليقهما وإن طلق عمرة طلقت زينب طلقة وطلقت عمرة وحفصة كل واحدة منهما طلقتين لأن عمرة طلقت واحدة بالمباشرة وطلقت زينب وحفصة بطلاقها واحدة واحدة وطلاق زينب تطليق لها
لأنه وقع بها بصفة أحدثها فيهما بعد تعليق طلاقهما بتطليقها فعاد على حفصة وعمرة بذلك طلقتان ولم يعد على زينب بطلاقهما طلاق لما تقدم وإن طلق حفصة طلقت ثلاثاً لأنها طلقت واحدة بالمباشرة وطلقت بها ضرتاها ووقوع الطلاق بكل واحدة منهما تطليق لأنه بصفة أحدثها فيهما بعد تعليق طلاقها بطلاقهما فعاد عليها من طلاق كل واحدة منهم طلقة فكمل لها ثلاث وطلقت عمرة طلقتين واحدة بتطليق حفصة وأخرى بوقوع الطلاق على زينب لأنه تطليق لزينب على ما ذكرناه وطلقت زينب واحدة لأن طلاق ضرتيها بالصفة ليس بتطليق في حقها وإن قال لكل واحدة منهن كلما طلقت احدى ضرتيك فأنت طالق ثم طلق الأولى طلقت ثلاثاً وطلقت الثانية طلقتين والثالثة طلقة واحدة لأن تطليقة للأولى شرط لطلاق ضرتيها ووقوع الطلاق بهما تطليق بالنسبة إليها لكونه واقعاً بصفة أحدثها بعد تعليق طلاقها بطلاقهما فعاد عليها من تطليق كل واحدة منهما طلقة فكمل لها الثلاث وعاد على الثانية من طلاق الثالثة طلقة ثانية لذلك ولم يعد على الثالثة من طلاقهما الواقع بالصفة شئ لأنه ليس بتطليق في حقهما وإن طلق الثانية طلقت أيضاً طلقتين وطلقت الأولى ثلاثاً والثالثة طلقة وإن طلق الثالثة طلقت الأولى طلقتين وطلق كل واحدة من الباقيتين طلقة طلقة

(8/415)


(فصل) وإن قال لامرأته إن طلقتك فعبدي حر ثم قال لعبده إن قمت فامرأتي طالق فقام طلقت المرأة وعتق البعد ولو قال لعبده إن قمت فامرأتي طالق ثم قال لامرأته إن طلقتك فعبدي حر فقام العبد طلقت المرأة ولم يعتق العبد لأن وقوع الطلاق بالصفة إنما يكون تطليقاً مع وجود الصفة ففي الصورة الأولى وجدت الصفة والوقوع بعد قوله إن طلقتك فعبدي حر وفي الصورة الأخرى لم يوجد بعد ذلك إلا الوقوع وحده وكانت الصفة سابقة فلذلك لم يعتق العبد ولو قال لعبده إن أعتقتك فامرأتي طالق ثم قال لامرأته إن حلفت بطلاقك فعبدي حر ثم قال لعبده إن لم أضربك فامرأتي طالق عتق العبد وطلقت المرأة.
* (مسألة) * (وإن قال لنسائه الأربع أيتكن وقع عليها طلاقي فصواحبها طوالق ثم وقع على إحداهن طلاقه طلق الجميع ثلاثاً)
لأنه إذا وقع طلاقه على واحدة وقع على صواحبها ووقوعه على واحدة منهن يقتضي وقوعه على صواحبها فيتسلسل الوقوع عليهن الى أن تكمل الثلاث لكل واحدة منهن * (مسألة) * (وإن قال كلما طلقت واحدة منكن فعبد من عبيدي حر وكلما طلقت اثنتين فعبدان حران وكلما طلقت ثلاثاً فثلاثة أحرار وكلما طلقت أربعاً فأربعة أحرار ثم طلق الأربع مجتمعات أو متفرقات عتق خمسة عشر عبداً) وقيل يعتق عشرة بالواحدة واحد وبالثانية اثنان وبالثلاث ثلاثة وبالأربع أربعة وهذا غير صحيح فإن

(8/416)


قائل هذا لا يعتبر صفة طلاق الواحدة في غير الأولى ولفظة كلما تقتضي لتكرار فيجب تكرار الطلاق بتكرار الصفات وتسقط أيضاً صفة التثنية في الثالثة والرابعة، والصحيح أنه يعتق خمسة عشر عبداً لأن فيهن أربع صفات هن أربع فيقع اربعة وهن أربعة آحاد وهن اثنتان واثنتان فيعتق بذلك أربعة وفيهن ثلاث فيعتق بهن ثلاثة.
وإن شئت قلت يعتق بالواحدة واحد وبالثانية ثلاثة لأن فيها صفتين هي واحدة وهي مع الأولى اثنتان ويعتق بالثالثة أربعة لأنها واحدة وهي مع الأولى والثانية ثلاث ويعتق بالرابعة سبعة لأن فيها ثلاث صفات هي واحدة وهي مع الثالثة اثنتان وهي مع الثلاث التي قبلها أربع، وقيل يعتق سبعة عشر لأن صفة التثنية قد وجدت ثلاث مرات فإنها توجد بضم الأولى الى الثانية وبضم الثانية الى الثالثة وبضم الثالثة الى الرابعة، وقيل يعتق عشرون وهو قول أبي حنيفة لأن صفة الثالثة وجدت مرة ثانية بضم الثانية والثالثة الى الرابعة، وكلا القولين غير سديد لانهم عدوا الثانية مع الأولى في صفة التثنية مرة ثم عدوها مع الثالثة مرة أخرى وعدوا الثانية والثالثة في صفة الثلاث مرتين مرة مع الأولى ومرة مع الرابعة وما عد في صفة مرة لا يجوز عده في تلك الصفة مرة أخرى ولذلك لو قال كلما أكلت نصف رمانة فأنت طالق فأكلت رمانة لم تطلق إلا اثنتين لأن الرمانة نصفان ولا يقال انها تطلق ثالثة بان يضم الرابع الثاني الى الربع الثالث فيصيران نصفاً وكذلك في مسئلتنا لم تضم الأولى الى الرابعة

(8/417)


فيصيران اثنتين وعلى سياق هذا القول ينبغي أن يعتق اثنان وثلاثون واحد بطلاق واحدة وثلاثة بطلاق الثانية وثمانية بطلاق الثالثة لأنها واحدة وهي مع ما قبلها ثلاث وهي مع ضمها الى الأولى اثنتان ومع
ضمها الى الثانية اثنتان ففيها صفة التثنية مرتان، ويعتق بطلاق الرابعة عشرون لأن فيها ثماني صفات هي واحدة وهي مع ما قبلها أربع، وفيها صفة الثلاث ثلاث مرات هي مع الأولى والثانية ثلاث ومع الثمانية والثالثة ثلاث ومع الأولى والثالثة ثلاث فيعتق بذلك تسعة، وفيها صفة التثنية ثلاث مرات مع الأولى اثنتان ومع الثالثة اثنتان فيعتق لذلك ستة فيصير الجميع اثنين وثلاثين، وقال شيخنا وما نعلم بهذا قائلاً قال شيخنا ويحتمل أن لا يعتق إلا أربعة كما لو قال كلما أعتقت أربعة فأربعة أحرار لأن هذا الذي يسبق الى أذهان العامة، وهذه الأوجه التي ذكرناها مع الإطلاق، فأما إن نوى بلفظه غير ما يقتضيه الإطلاق مثل أن ينوي بقوله اثنين غير الواحدة فيمينه على ما نواه ومتى لم يعين العبيد المعتقين أخرجوا بالقرعة، ولو جعل مكان كلما إن في المسألة المذكورة لم يعتق إلا عشرة بالواحد واحد وبالثانية اثنان وبالثالثة ثلاثة وبالرابعة أربعة لأن إن لا تقتضي التكرار (فصل) ولو قال كلما أعتقت عبداً من عبيدي فامرأة من نسائي طالق وكلما اعتقت اثنين فامرأتان طالقتان ثم اعتق الاثنين طلق الأربع على القول الصحيح، وعلى القول الثاني يطلق ثلاث ويخرجن بالقرعة، ولو قال كلما اعتقت عبداً من عبيدي فجارية من جواري حرة وكلما اعتقت اثنين فجاريتان حرتان

(8/418)


وكلما اعتقت ثلاثة فثلاث أحرار وكلما اعتقت أربعة فأربع أحرار اعتق من جواريه بعدد ما اعتق من عبيده في المسألة التي ذكرنا خمس عشرة على الصحيح وقيل عشر وقيل تسع عشرة وقيل عشرون لأنها مثلها، وإن اعتق خمساً فعلى القول الصحيح يعتق إحدى وعشرون لأن عتق الخامس عتق به ست لكونه واحداً وهو ما قبله خمسة ولم يمكن عده في سائر الصفات لأن ما قبل ذلك قد عد في ذلك مرة فلا يعد ثانية وعلى القول الآخر يعتق من جواريه خمس عشرة: بالواحد واحدة وبالثاني اثنتين وبالثالث ثلاث وبالرابع أربع وبالخامس خمس (فصل) فإن قال ان دخل الدار رجل فعبد من عبيدي حر وإن دخلها طويل فعبدان حران وإن دخلها أسود فثلاثة أعبد أحرار، وإن دخلها فقيه فأربعة أعبد أحرار فدخلها فقيه طويل أسود عتق من عبيده عشرة
* (مسألة) * (إذا قال لامرأته إذا أتاك طلاقي فأنت طالق ثم كتب إليها إذا أتاك كتابي فأنت طالق فأتاها الكتاب طلقت طلقتين) لان علق طلاقها بصفتين مجئ الطلاق ومجئ كتابه وقد اجتمعت الصفات في مجئ الكتاب فوقع بها طلقتان، فإن قال أردت إذا أتاك كتابي فأنت طالق بالطلاق الأول دين لأنه يحتمل ما قاله فيدين فيه كما لو كرر قوله أنت طالق وقال أردت بالثانية افهامها والتأكيد ويقبل قوله في الحكم في إحدى الروايتين لما ذكرنا والأخرى لا يقبل لظاهر اللفظ والله أعلم

(8/419)


(فصل في تعليقه بالحلف) اختلف أصحابنا في الحلف بالطلاق فقال القاضي في الجامع وأبو الخطاب هو تعليقه على شرط أي شرط كان إلا قوله إذا شئت فأنت طالق ونحوه فإنه تمليك وإذا حضت فأنت طالق فإنه طلاق بدعة وإذا طهرت فأنت طالق فانه طلاق سنة وهو قول أبي حنيفة لأن ذلك يسمى حلفا عرفا فيتعلق الحكم به كما لو قال إن دخلت الدار فانت طالق ولأن الشرط معنى القسم من حيث كونه جملة غير مستقلة دون الجواب فأشبه قول والله وبالله وتالله، وقال القاضي في المجرد هو تعليقه على شرط يقصد به الحث على فعل أو المنع منه كقوله إن دخلت الدار فانت طالق أو إن لم تدخلي فأنت طالق، أو على تصديق خبره كقوله أنت طالق لقدوم زيد أو إن لم يقدم، فأما التعليق على غير ذلك كقوله أنت طالق إن طلعت الشمس أو قدوم الحاج أو إن لم يقدم السلطان فهو شرط محض ليس بحلف لأن حقيقة الحلف القسم، وإنما سمي تعليق الطلاق على شرط حلقا تجوزا المشاركته الحلف في المعنى المشهور وهو الحث أو المنع أو تأكيد الخبر نحو والله لا فعلن أو لا أفعل أو لقد فعلت أو إن لم أفعل، وما لم يوجه فيه هذا المعنى لا يصح تسميته حلفا وهذا مذهب الشافعي * (مسألة) * (فإذا قال ان حلفت بطلاقك فأنت طالق) ثم قال أنت طالق ان قمت أو دخلت الدار أن إن لم تدخلي الدار أو إن لم يكن هذا القول حقا فأنت طالق طلقت في الحال لأنه حلف بطلاقها فإن قال إن طلعت الشمس أو قدم الحاج فأنت طالق

(8/420)


لم تطلق في الحال على الوجه الثاني وهو قول الشافعي واختاره ابن عقيل وتطلق على الأول وهو قول أبي الخطاب وقد ذكرنا دليل القولين * (مسألة) * (وإن قال ان حلفت فأنت طالق وأعاده مرة أخرى طلقت واحدة لان إعادته حلف وإن أعاده ثلاثاً طلقت ثلاثاً) لأن كل مرة يوجد بها شرط الطلاق وينعقد شرط طلقة اخرى وبهذا قال الشافعي وأصحاب الرأي وقال أبو ثور ليس ذلك بحلف ولا يقع الطلاق بتكراره لأنه تكرار للكلام فيكون تأكيداً لا حلفاً ولنا أنه تعليق للطلاق على شرط يمكن فعله وتركه فكان حلفاً كما لو قال إن دخلت الدار فأنت طالق، وقوله أنه تكرار للكلام حجة عليه فإن تكرار الشئ عبارة عن وجوده مرة أخرى، وأما التأكيد فإنه يحمل عليه الكلام المكرر إذا قصده وههنا ان قصد إفهامها فاما أن كرر ذلك لغير مدخول بها بانت بطلقة ولم يقع بها أكثر منها * (مسألة) * (وإن قال ان كلمتك فأنت طالق وأعاده ثلاثا طلقت ثلاثا) لوجود الصفة كالمسألة قبلها * (مسألة) * (وإن قال لامرأتيه كلما حلقت بطلاقكما فأنتما طالقتان ثم أعاد ذلك ثلاثا طلقت كل واحدة منهما ثلاثاً)

(8/421)


لوجود شرطها وهو الحلف فإن كانت إحداهما غير مدخول بها بانت بالمرة الثانية فإذا أعاده بعد ذلك لم تطلق واحدة منهما لأن غير المدخول بها بائن فلم يكن إعادة هذا القول حلفا بطلاقها وهي غير زوجة فلم يوجد الشرط، فإن شرط طلاقهما الحلف بطلاقهما جميعاً فإن جدد نكاح البائن ثم قال لها ان تكملت فأنت طالق فقد قيل يطلقان حينئذ لانه بهذا صار حالفا بطلاقهما وقد حلف بطلاق المدخول بها بإعادة قوله في المرة الثالثة فطلقتا حينئذ، قال شيخنا ويقوى عندي أنه لا يقع الطلاق بهذه التي جدد نكاحها لانها حين إعادته المرة الثالثة بائن فلم تنعقد الصفة بالإضافة إليها كما لو قال لاجنبية ان حلفت بطلاقك فأنت طالق ثم تزوجها وحلف بطلاقها ولكن تطلق المدخول بها حينئذ لأنه قد حلف بطلاقها في المرة الثالثة وحلف بطلاق هذه حينئذ فكمل شرط طلاقها فطلقت وحدها
(فصل) فإن كان له امرأتان حفصة وعمرة، فقال ان حلفت بطلاقكما فعمرة طالق ثم أعاده لم تطلق واحدة منهما لأن هذا حلف بطلاق عمرة وحدها فلم يوجد الحلف بطلاقهما، وإن قال بعد ذلك أن حلفت بطلاقكما فحفصة طالق طلقت عمرة لأنه حلف بطلاقهما بعد تعليقه طلاقهما على الحلف بطلاقهما ولم تطلق حفصة لانها ما حلف بطلاقهما بعد تعليقه طلاقهما عليه، فإن قال بعد هذا ان حلفت بطلاقكما فعمرة طالق لم تطلق واحدة منهما لأنه لم يحلف بطلاقهما إنما حلف بطلاق عمرة وحدها فإن قال بعد هذا ان حلفت بطلاقكما فحفصة طالق طلقت حفصة وعلى هذا القياس

(8/422)


(فصل) إذا قال لإحداهما إذا حلفت بطلاقك فضرتك طالق ثم قال للأخرى مثل ذلك طلقت الثانية لأن إعادته للثانية هو حلف بطلاق الأولى وذلك شرط وقوع طلاق الثانية، ثم ان أعادة للأولى طلقت ثم كلما أعاده على هذا الوجه لامرأة طلقت حتى يكمل للثانية ثلاث، ثم إذا أعاده للاولى لم تطلق لأن الثانية قد بانت منه فلم يكن ذلك حلفاً بطلاقها، ولو قال هذا القول لامرأة ثم أعاده لها لم تطلق واحدة منهما لأن ذلك ليس بحلف بطلاقها إنما هو حلف بطلاق ضرتها ولم يعلق على ذلك طلاقا * (مسألة) * (وإن قال لإحداهما إذا حلفت بطلاق ضرتك فأنت طالق ثم قال ذلك للأخرى طلقت الأولى) لأن التعليق حلف وقد علق طلاق ضرتها فتطلق الأولى لوجود شرط طلاقها وهو تعليق طلاق ضرتها فإن أعاده الاولى طلقت الأخرى لذلك، وكلما أعاده لامرأة منها على هذا الوجه طلقت الأخرى وإن كانت إحداهما غير مدخول بها فطلقت مرة بانت ولم تطلق الأخرى بإعادته لها لأنه ليس بحلف بطلاقهما لكونها بائناً * (مسألة) * (وإن قال لمدخول بهما كلما حلفت بطلاق واحدة منكما فأنتما طالقتان وأعاد ثانياً طلقت كل واحدة طلقتين) لأن قوله ذلك حلف بطلاق كل واحدة منهما وحلفه بكل واحدة يقتضي طلاق اثنتين فطلقتا بحلفة بطلاق واحدة طلقة طلقة وبحلفه بطلاق الاخرى طلقة طلقة

(8/423)


* (مسألة) * (وإن قال كلما حلفت بطلاق واحدة منكما فهي طالق أو فضرتها طالق وأعاده طلقت كل واحدة منهما طلقة) لأن حلفه بطلاق واجازة إنما اقتضى طلاقها وحدها وما حلف بطلاقها إلا مرة فلا تطلق إلا طلقة (فصل) وإن قال لإحداهما إذا حلفت بطلاق ضرتك فهي طالق ثم قال للأخرى مثل ذلك لم تطلق واحدة منهما، ثم إن أعاد ذلك لاحداهما طلقت الأخرى ثم ان أعادة للأخرى طلقت صاحبتها ثم كلما أعاده لامرأة طلقت الأخرى إلا أن تكون إحداهما غير مدخول بها أو لم يبق من طلاقها إلا دون الثلاث فإنها إذا بانت صارت كلأجنبية، فإن قال لإحداهما إذا حلفت بطلاق ضرتك فهي طالق ثم قال للأخرى إذا حلفت بطلاقك فأنت طالق طلقت في الحال، ثم إن قال للأولى مثل ما قال لها أو قال للثانية مثل ما قال لها طلقت الثانية وكذلك الثالثة، ولا يقع بالأولى بهذا طلاق لأن الحلف في الموضعين إنما هو بطلاق الثانية، ولو قال للأولى ان حلفت بطلاقك فأنت طالق ثم قال للأخرى إن حلفت بطلاق ضرتك فهي طالق طلقت الأولى، ثم متى أعاد هذين الشرطنى مرة أخرى طلقت الأولى ثانية وكذلك الثالثة، ولا يقع به لثانية بهذا طلاق، ولو قال لإحداهما إذا حلفت بطلاق ضرتك فأنت طالق ثم قال للأخرى إذا حلفت بطلاق ضرتك فأنت طالق لم تطلق واحدة منهما لانه في الموضعين علق طلاق الثانية على الحف بطلاق الأولى ولم يحلف بطلاقها، ولو أعاد ذلك لهما لم تطلق

(8/424)


واحدة منهما وسواء تقدم القول للثانية على القول للأولى أو تأخر عنه (فصل) فإن كان له ثلاث نسوة فقال ان حلفت بطلاق زينب فعمرة طالق ثم قال إن حلفت بطلاق عمرة فحفصة طالق ثم قال إن حلفت بطلاق حفصة فزينب طالق طلقت عمرة وإن جعل مكان زينب عمرة طلقت حفصة ثم متى أعاده بعد ذلك طلقت منهن واحدة على الوجه الذي ذكرناه وإن قال إن حلفت بطلاق زينب فنسائي طوالق فقد حلف بطلاق زينب بعد تعليقه طلاق نسائه على الحلف بطلاقها فطلقت كل واحدة منهن طلقة ولما قال ان حلفت بطلاق حفصة فنسائي طوالق فقد حلف بطلاق عمرة ولم يقع بحلفة بطلاق زينب شئ لأنه قد حنث به مرة فلا يحنث ثانية ولو كان مكان قوله إن
كلما لطلقت كل واحدة منهن ثلاثاً لأن كلما تقتضي التكرار ولو قال كلما حلفت بطلاق واحدة منكن فأنتن طوالق ثم أعاد ذلك مرة ثانية طلقن ثلاثاً ثلاثاً لأنه بإعادته حالف بطلاق كل واحدة منهن وحلفه لطلاق واحدة شرط لطلاقهن جميعاً ولو قال أن حلفت بطلاق واحدة منكن فأنتن طوالق ثم أعاد ذلك طلقت كل واحدة منهن طلقة لأن إن لا تقتضي التكرار، وإن قال بعد ذلك لاحداهن إن قمت فأنت طالق لم تطلق واحدة منهن وإن قال ذلك للاثنتين الباقيتين طلق الجميع طلقة طلقة (فصل) وإن قال لزوجته إن حلفت بعتق عبدي فأنت طالق ثم قال إن حلفت بطلاقك فعبدي

(8/425)


حر طلقت ثم قال لعبده إن حلفت بعتقك فامرأتي طالق عتق العبد ولو قال له أن حلفت بطلاق امرأتي فأنت حر ثم قال لها ان حلف بعتق عبدي فأنت طالق عتق العبد ولو قال لعبده إن حلفت بعتقك فأنت حر ثم أعاده عتق العبد (فصل) في تعليقه بالكلام إذا قال إن كلمتك فأنت طالق فتحقفي ذلك طلقت لأنه كلمها بعد عقد اليمين إلا أن يريد بعد انقضاء كلامي هذا أو نحوه وكذلك ان زجرها فقال تنحي أو اسكتي أو قال إن قمت فأنت طالق طلقت لأنه كلمها بعد اليمين إلا أن ينوي كلاما مبتدأ ويحتمل أن لا يحنث بالكلام المتصل بيمينه لأن اتيانه به يدل على ارادته الكلام المفصل عنها وإن سمعها تذكرة فقال الكاذب عليه لعنة حنث نص عليه أحمد لأنه كلمها * (مسألة) * (وإن قال ان بدأنك بالكلام فأنت طالق فقالت ان بدأتك به فعبدي حر انحلت يمينه لأنها كلمته فلم يكن كلامه لها بعد ذلك ابتداء إلا أن ينوي أنه لا يبدؤها في مرة أخرى وبقيت يمينها معلقة فإن بدأها بكلام انحلت يمينها أيضاً وإن بدأته هي عتق عبدها هكذا ذكره أصحابنا، قال شيخنا: ويحتمل أن يحنث ببدايته إياها بالكلام في وقت آخر لأن الظاهر إرادته ذلك بيمينه * (مسألة) * (وإذا قال ان كلمت فلانا فأنت طالق فكلمته فلم يسمع لنشاغله أو غفلته أو كاتبته أو راسلته أو حنث)

(8/426)


إذا كلمته فلم يسمع لتشاغله أو غفلته حنث لأنها كلمته وكذلك ان كاتبته أو راسلته إلا أن يكون قصد ألا تشافهه، نص عليه أحمد، وذلك لقول الله تعالى (وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا) ولأن القصد بالترك لكلامها إياه هجرانا ولا يحصل ذلك مع مواصلته بالرسل والكتب، ويحتمل أن لا يحنث إلا أن ينوي ترك ذلك لأن هذا القسم ليس بتكلم حقيقة ولأنه لو حلف لتكلمنه لم يبرأ بذلك إلا أن ينويه فكذلك لا يحنث به فان أرسلت انسانا يسأل أهل العلم عن مسألة أحدثت فجاء الرسول فسأل المحلوف عليه لم يحنث بذلك * (مسألة) * (وإن أشارت إليه احتمل وجهين) (أحدهما) لا تطلق لأنه لم يوجد الكلام (والثاني) تطلق لأنه يحصل به مقصود الكلام والأول أولى * (مسألة) * (وإن كلمته سكران أو أصم بحيث يعلم أنها تكلمه أو مجنوناً يسمع كلامها حنث) لأن السكران يكلم ويحنث وربما كان تكليمه في حال سكره أضر من تكليمه في صحوه ولأن المجنون يسمع الكلام أيضاً ويحنث وكذلك أن كلمت صبيا يسمع ويعلم أنه مكلم حنث فأما إن جنت هي وكلمته.
لم يحنث لأن القلم مرفوع عنها ولم يبق لكلامها حكم وإن كلمته سكرانة حنث لأن حكمها حكم الصاحي وقيل لا يحنث لأنه لا عقل لها * (مسألة) * (وإن كلمته ميتاً أو غائباً أو مغمى عليه أو نائماً لم يحنث) وقال أبو بكر يحنث لقول أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كيف تكلم أجساداً لا أرواح فيها

(8/427)


ولنا أن التكليم فعل يتعدى إلى المكلم وقد قيل إنه مأخوذ من الكلم وهو الجرح لأنه يؤثر فيه كتأثير الجرح ولا يكون ذلك إلا باسماعه فأما تكليم النبي صلى الله عليه وسلم الموتى فمن معجزاته فانه قال " ما أنتم بأسمع لما أقول منهم " ولم يثبت هذا لغيره وقول أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كيف تكلم أجساداً لا أرواح فيها حجة لنا فانهم قالوا ذلك استعبادا وسؤالاً عما خفي عنهم سببه وحكمته حتى كشف لهم النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بأمر مختص به فيبقى الأمر فيمن سواه على النفي وإن سلمت عليه حنث لأنه كلام فإن كان أحدهما اماما
والآخر مأموما لم يحنث بتسليم الصلاة لأنه للخروج منها إلا أن ينوي بتسليمه المأمومين فيكون حكمه كما لو سلم عليهم في غير الصلاة، ويحتمل أن لا يحنث بحال لأن هذا لا يعد تكليما ولا يريده الحالف (فصل) فإن حلف لا يكلم إنساناً فكلم غيره وهو يسمع يقصد بذلك اسماعه كما لو قال إياك أعني واسمعي باجارة حنث نص عليه أحمد فقال إذا حلف لا يكلم فلانا فكلم انساناً وهو يسمع يريد بكلامه إياه المحلوف عليه حنث لأنه قد أراد تكليمه، وروي عن أبي بكرة ما يدل على أنه لا يحنث فانه حلف أن لا يكلم أخاه زياداً فأراد زياد الحج فجاء أبو بكرة فدخل قصره وأخذ ابنه في حجرة فقال ان أباك يريد الحج والدخول على زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا السبب وقد علم أنه غير صحيح ثم خرج ولم ير أنه كلمه والأول أصح لأنه أسمعه كلامه يريده به فأشبه ما لو خاطبه به ولأن مقصود تكليمه قد حصل باسماعه كلامه

(8/428)


(فصل) فإن حلف لا يكلم امرأته فجامعها لم يحنث إلا أن تكون نيته هجرانها قال أحمد في رجل قال لامرأته إن كلمتك خمسة أيام فأنت طالق أن له أن يجامعها ولا يكلمها فقال أي شئ كان به؟ وهذا يسوؤها أو يغبطها فإن لم تكن له نية فله أن يجامعها ولا يكلمها وإن حلف لا يقرأ كتاب فلان فقرأه في نفسه ولم يحرك شفتيه حنث لأن هذا قراءة الكتب في عرف الناس فتنصرف يمينه إليه إلا أن ينوي حقيقة القرآن قال أحمد إذا حلف لا قرأت لفلان كتابا ففتحه حتى استقصى آخره إلا أنه لم يحرك شفتيه فإن أراد أن يعلم ما فيه فقد علم ما فيه وقرأه * (مسألة) * (فإن قال لامرأتيه ان كلمتما هذين الرجلين فأنتما طالقتان فكلمت كل واحدة منهما واحداً طلقتا ويحتمل أن لا يحنث حتى تكلما جميعاً كل واحد منهما) هذه المسألة فيما وجهان (أحدهما) يحنث لان تكليمهما وجد منهما فحنث كما لو قال إن حضتما فأنتما طالقتان فحاضت كل واحدة حيضة وكذلك لو قال ان ركبتما دابتيكما فانتما طالقتان فركبت كل واحدة دابتها (والثاني) لا يحنث حتى تكلم كل واحدة منهما الرجلين معاً لأنه علق طلاقهما بكلامهما لهما فلا تطلق واحدة بكلام الاخرى وحدها، وهذا أظهر الوجهين لأصحاب الشافعي وهو أولى انشاء الله إذا لم تكن له نية وهكذا إن قال
إن دخلتما هاتين الدارين فالحكم فيها كذلك لأن الأصل بقاء النكاح قال شيخنا فيما لم تجر العادة بانفراد الواحدة به فأما ما جرت العادة بانفراد الواحدة فيه بالواحد كنحو ركبا دابتيهما ولبسا ثوبيهما وتقلدا سيفيهما

(8/429)


واعتقلا رمحيهما ودخلا بزوجتيهما وأشباه هذا فإنه يحنث إذا وجد منهما منفردين وما لم تجر العادة فيه بذلك فهو على الوجهين فأما إن قال ان أكلتما هذين الرغيفين فأكلت كل واحدة منهما رغيفا فإنه يحنث لأنه يستحيل ان تأكل كل واحدة منهما الرغيفين بخلاف الرجلين والدارين * (مسألة) * (فإن قال إن أمرتك فخالفتني فأنت طالق) فنهاها فخالفته لم يحنث إلا أن ينوي مطلق المخالفة اختاره أبو بكر وهو مذهب الشافعي لأنها خالفت أمره لانهيه، وقال أبو الخطاب يحنث إذا لم يكن ممن يعرف حقيقة الأمر والنهي إذا كان كذلك فانما يريد نفي المخالفة، ويحتمل أن تطلق بكل حال لأن الامر بالشئ نهي عن ضده والنهي عنه أمر بضده فقد خالفت أمره وإن قال لها أن نهيتني عن نفع أمي فأنت طالق فقالت له لا تعطها من مالي شيئاً لم يحنث لأن اعطاءها من مالها لا يجوز ولا يجوز النفع به فيكون هذا النفع محرما فلا تتناوله يمينه ويحتمل أن يحنث لأنه نفع ولفظه عام فيدخل المحرم فيه.
(فصل) إذا قال أنت طالق إن كلمت زيداً ومحمد مع خالد لم تطلق حتى تلكم زيداً في حال كون محمد فيها مع خالد، وذكر القاضي أنه يحنث بكلام زيد فقط لأن قوله ومحمد مع خالد استئناف كلام بدليل أنه مرفوع والصحيح الأول لأنه متى أمكن جعل الكلام متصلا كان أولى من فصله والرفع لا ينفي كونه حالاً فإن الجملة من المبتدأ والخبر تكون حالا كقوله (اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون)

(8/430)


وقوله (إلا استمعوه وهم يلعبون) وهذا كثير فلا يجوز قطعه عن الكلام الذي هو في سياقه مع امكان وصله به ولو قال أن كلمت زيداً ومحمد مع خالد لم تطلق حتى تكلم زيداً في حال كون محمد مع خالد فكذلك إذا تأخر قوله محمد مع خالد ولو قال أنت طالق إن كلمت زيداً وأنا غائب لم تطلق حتى تكلمه في حال غيبته وكذلك لو قال أنت طالق إن كلمت زيداً وأنت راكبة أو هو راكب أو ومحمد راكب
لم تطلق حتى تكلمه في تلك الحال ولو قال أنت طالق إن كلمت زيداً ومحمد أخوه مريض لم تطلق حتى تكلمه وأخوه محمد مريض (فصل) وإن قال ان كلمتني إلى أن يقدم زيد أو حتى يقدم زيد فأنت طالق فكلمته قبل قدومه حنث لأنه مد المنع إلى غاية هي قدوم زيد فلا يحنث بعدها فإن قال أردت ان استدمت كلامي من الآن إلى أن يقدم زيد دين وهل يقبل في الحكم؟ يحتمل وجهين (فصل في تعليقه بالاذن) * (مسألة) * (إذا قال إن خرجت بغير اذني أو الا باذني أو حتى آذن لك فأنت طالق ثم أذن لها فخرجت ثم خرجت بغير إذنه طلقت لخروجها بغير إذنه وعنه لا تطلق حتى ينوي الاذن في كل مرة) لأن إن لا تقتضي التكرار فتتناول الخروج في المرة الأولى * (مسألة) * (وإن أذن لها من حيث لا تعلم فخرجت طلقت)

(8/431)


لانها إذ لم تعلم فليس بإذن لأن الاذن هو الاعلام ولم يعلمها، ويحتمل أن لا تطلق لأنه يقال اذن لها ولم تعلم.
* (مسألة) * (وإن قال إن خرجت إلى غير الحمام بغير اذني فانت طالق فخرجت إلى غير الحمام طلقت سواء عدلت إلى الحمام أو لم تعدل وإن خرجت تريد الحمام وغيره ففيه وجهان (أحدهما) يحنت لأنها خرجت إلى غير الحمام وانضم إليه غيره فحنث بما حلف عليه كما لو حلف لا يكلم زيدا وعمرا (والثاني) لا يحنث لأنها ما خرجت إلى غير الحمام بل الخروج مشترك * (مسألة) * (وإن خرجت تريد الحمام ثم عدلت إلى غيره) فقياس المذهب أنه يحنث لأن ظاهر هذه اليمين المنع من غير الحمام فكيفما صارت إليه حنث كما لو خالفت لفظه، ويحتمل أن لا يحنث وهو قول الشافعي لأنها لم تفعل ما حلف عليه وتناوله لفظه ونقل الفضل بن زياد عن أحمد أنه سئل إذا حلف بالطلاق أنه لا يخرج من بغداد الا لنزهة فخرج إلى النزهة
ثم مر إلى مكة فقال النزهة لا تكون إلى مكة فظاهر هذا أنه أحنثه ووجهه ما ذكرنا وقال في رجل حلف بالطلاق أن لا يأتي ارمينية إلا بإذن امرأته فقالت امرأته اذهب حيث شئت فقال لا حتى تقول إلى أرمينية والصحيح أنه متى أذنت له اذنا عاما ما لم يحنث.
قال القاضي: وهذا من كلام أحمد محمول

(8/432)


على أن هذا خرج مخرج العضب والكراهة ولو قالت هذا بطيب قبلها كان إذنا منها وله الخروج وإن كان بلفظ عام.
* (مسألة) * (وإن حلف لعامل أن لا يخرج إلا بإذنه فعزل فهل تنحل يمينه؟ على وجهين) وهذا مبني على ما إذا خلف يميناً عامة لسبب خاص هل تختص يمينه بسبب اليمين؟ على وجهين (أحدهما) أنها تختص به لأن الظاهر أنه أراده فاختصت يمينه به كما لو نواه، فعلى هذا تنحل يمينه لأنه إنما حلف عليه لكونه عاملا له، وهذا قول أصحاب أبي حنيفة، وروى عن أحمد ما يدل على أن يمينه تحمل على العموم فقال فيمن قال لله على أن لا أصيد في هذا النهر لظلم رآه فتغير حاله فقال النذر يوفى به وذلك لأن اللفظ دليل الحكم فيجب اعتباره في الخصوص والعموم كما في لفظ الشارع ووجه الأول أن السبب الخاص يدل على قصد الخصوص ويقوم مقام النية عند عمومها لدلالته عليها فوجب أن يختص به اللفظ العام كالنية، وفارق لفظ الشارع فإنه يريد بيان الأحكام ولا يختص بمحل السبب لكون الحاجة داعية إلى معرفة الحكم في غير محل السبب، فعلى هذا لو قامت امرأته لتخرج فقال ان خرجت فانت طالق فرجعت ثم خرجت بعد ذلك أو دعاه انسان إلى غدائه فقال امرأتي طالق ان تغديت ثم رجع فتغدى في منزله لم يحنث على الأول ويحنث على الثاني وإن حلف

(8/433)


لعامل أن لا يخرج إلا بإذنه أو حلف بذلك على امرأته أو مملوكه فعزل العامل أو طلق المرأة أو باع المملوك أو حلف على وكيل فعزله خرج في ذلك كله وجهان (فصل في تعليقه بالمشيئة) إذا قال أنت طالق إن شئت أو إذا شئت أو متى شئت أو كلما شئت أو كيف شئت أو حيث شئت
أو أنى شئت لم تطلق حتى تقول قد شئت لأن ما في القلب لا يعلم حتى يعبر عنه اللسان فيعلق الحكم بما ينطق به دون ما في القلب فلو شاءت بقلبها دون نطقها لم يقع به طلاق ولو قالت قد شئت بلسانها وهي كارهة وقع الطلاق اعتباراً بالنطق وكذلك ان علق الطلاق بمشيئة غيرها * (مسالة) * (ومتى وجدت المشيئة باللسان وقع الطلاق سواء كان على الفور أو التراخي) نص عليه أحمد في تعليق الطلاق بمشيئة فلان وفيما إذا قال أنت طالق حيث شئت أو أين شئت ونحو هذا قال الزهري وقتادة، وقال أبو حنيفة دون صاحبيه إذا قال أنت طالق كيف شئت تطلق في الحال طلقة رجعية لأن هذا ليس بشرط انما هو صفة للطلاق الواقع بمشيئتها ولنا أنه أضاف الطلاق إلى مشيئتها فأشبه ما لو قال حيث شئت وقال الشافعي في جميع الحروف ان شئت في الحال وإلا فلا تطلق لأن هذا تمليك للطلاق فكان على الفور كقوله اخاري

(8/434)


وقال أصحاب الرأي في ان كقوله وفي سائر الحروف كقولنا لأن هذه الحروف صريحة في التراخي فحملت على مقتضاها بخلاف ان فإنها لا تقتضي زمانا وإنما هي لمجرد الشرط فتقيده بالفور يقتضيه وقال الحسن وعطاء في قوله أنت طالق إن شئت انما ذلك ماداما في المجلس ولنا أنه تعليق للطلاق على شرط فكان على التراخي كالعتق وفارق اختاري فإنه ليس بشرط انما هو تخيبر فتقيد بالمجلس كخيار المجلس ويحتمل ان يفف على المجلس كالاختيار لأنه تمليك للطلاق فكان على الفور كقوله اختاري، والصحيح الأول وقد ذكرنا الفرق بين الأصل والفرع فإن قيد المشيئة بوقت ففال أنت طالق إن شئت اليوم تقيد به فإن خرج اليوم قبل مشيئتها لم تطلق وإن علقه على مشيئة اثنين لم يقع حتى توجد مشيئتهما، وخرج القاضي وجها أنه يقع بمشيئة أحدهما كما يحنث بفعل بعض المحلوف عليه وقد بينا فساد هذا * (مسألة) * (وإن قال أنت طالق إن شئت فقالت قد شئت ان شئت فقال قد شئت لم تطلق) لأنها لم تشأ فإن المشيئة أمر حقيقي لا يصح تعليقها على شرط وكذلك ان قالت قد شئت إن طلعت الشمس نص أحمد على هذا وهو قول سائر أهل العلم منهم الشافعي واسحاق وأبو ثور وأصحاب الرأي
قال إبن المنذر أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على ان الرجل إذا قال لزوجته أنت طالق إن شئت فقالت قد شئت ان شاء فلان انها قد ردت الأمر ولا يلزمها الطلاق وإن شاء فلان وذلك لأنه لم يوجد منها مشيئة انما وجد منها تعليق مشيئتها بشرط وليس تعليق الشميئة بشرط مشيئة، وإن علق الطلاق

(8/435)


على مشيئة اثنين فشاء أحدهما على الفور والآخر على التراخي وقع الطلاق لأن المشيئة قد وجدت منهما جميعاً * (مسألة) * (وإن قال أنت طالق إن شئت وشاء أبوك لم تطلق حتى يشاءا) لأن الصفة مشيئتهما ولا تطلق بمشيئة أحدهما لعدم وجود الشرط * (مسألة) * (وإن قال أنت طالق إن شاء زيد فمات أو جن أو خرس قبل المشيئة لم تطلق) لأن شرط الطلاق لم يوجد وحكي عن أبي بكر أنه يقع ولأنه علقه على شرط فوقع في الحال كما لو قال أنت طالق إن شاء الله وليس بصحيح لأن الطلاق المعلق علي شرط لا يقع إذا تعذر شرطه كالمعلق على دخول الدار، وإن شاء وهو مجنون لم يقع طلاقه لأنه لا حكم لكلامه وإن شاء وهو منكران فالصحيح أنه لا يقع لأنه زائل العقل أشبه المجنون، وقال أصحابنا يخرج على الروايتين في طلاقه، والفرق بينهما أن إيقاع طلاقه تغليظ عليه كيلا تكون المعصية سببا للتخفيف عنه وههنا انما يقع الطلاق بغير فلا يصح منه في حال زوال عقله، وإن شاء وهو صبي طفل لم يقع كالمجنون وإن كان يعقل الطلاق وقع لأن له مشيئة ولذك صح إختياره لأحد أبويه وإن كان أخرس فشاء بالاشارة وقع الطلاق لأن إشارته تقوم مقام نطق الناطق ولذلك وقع طلاقه بها وإن كان ناطقا حال التعليق فخرس ففيه وجهان (أحدهما) يقع الطلاق بها لأن طلاقه في نفسه يقع بها فكذلك طلاق من علقه بمشيئته (والثاني)

(8/436)


لا يقع بها لانه حال التعليق كان لا يقع إلا بالنطق فلم يقع بغيره كما لو قال في التعليق ان نطق فلان بمشيئته فهي طالق * (مسألة) * (وإن قال أنت طالق الا ان يشا زيد فمات أو جن أو خرس طلقت في الحال)
لأنه أوقع الطلاق وعلق عقبه بشرط ولم يوجد وأما إذا خرس فشاء بالاشارة خرج فيه الوجهان اللذان ذكرناهما بناء على وقوع الطلاق بإشارته إذا علقت على مشيئته * (مسألة) * (وإن قال أنت طالق واحدة إلا أن يشاء زيد ثلاثا فشاء ثلاثا فقال أبو بكر تطلق ثلاثا في أحد الوجهين) لأن السابق إلى الفهم من هذا الكلام إيقاع الثلاث إذا شاءها زيد كما لو قال له علي درهم إلا أن تقيم بينة بثلاثة وخذ درهما إلا أن تريد أكثر منه ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم " البيعان بالخيار ما لم يتفرقا إلا بيع الخيار " أي أن بيع الخيار يثبت الخيار فيه بعد تفرقهما والثاني لا تطلق وقال أصحاب الشافعي وأبي حنيفة لا تطلق إذا شاء ثلاثاً لأن الاستثناء من الاثبات نفي فتقديره أنت طالق واحدة إلا أن يشاء زيد ثلاثا فلا تطلقي ولأنه لو لم يقل ثلاثا لما طلقت بمشيئه ثلاثاً فكذلك إذا قال ثلاثاً لأنه انما ذكر الثلاث صفة لمشيئة زيد الرافعة لطلاق الواحدة فيصير كما لو قال أنت طالق إلا أن يكرر زيد مشيئته ثلاثاً فأما إن لم يشأ زيد أو شاء أقل من ثلاث طلقت واحدة

(8/437)


* (مسألة) * (وإن قال أنت طالق إن شاء الله طلقت وإن قال لأمته أنت حرة إن شاء الله عتقت وحكي عنه أنه يقع العتق دون الطلاق) نص أحمد رحمه الله على وقوع الطلاق والعتق في رواية جماعة وقال ليس هما من الايمان وبهذا قال سعيد بن المسيب والحسن ومكحول وقتادة والزهري ومالك والليث والاوزاعي وأبو عبيد وعن أحمد ما يدل على أن الطلاق لا يقع ولا العتاق وهو قول طاوس والحكم وابي حنيفة والشافعي لأنه علقه على مشيئة لم يعلم وجودها فلم يقع كما لو علقها على مشيئة زيد ولقول النبي صلى الله عليه وسلم " من حلف فقال إن شاء الله لم يحنث " رواه الترمذي وقال حديث حسن ولنا ما روى أبو حمزة قال سمعت ابن عباس يقول إذا قال الرجل لامرأته أنت طالق إن شاء الله فهي طالق رواه أبو حفص بإسناده عن أبي بردة نحوه وروى ابن عمر وأبو سعيد قال كنا معاشر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم نرى الاستثناء جائزاً في كل شئ إلا في الطلاق والعتاق ذكره
أبو الخطاب وهذا نقل للإجماع فإن قدرته أنه قول بعضهم فقد انتشر ولم يعرف له مخالف فهو اجماع ولأنه استثناء يرفع جملة الطلاق فلم يصح كقوله أنت طالق ثلاثا إلا ثلاثا ولأنه انشاء حكم في محل فلم يرتفع بالمشيئة كالبيع والنكاح أو نقول إزالة ملك فلم يصح تعليقه على مشيئة الله كما لو قال ابرأتك

(8/438)


إن شاء الله أو تعليق على ما لا سبيل إلى علمه فأشبه تعليقه على المستحيلات، والحديث لا حجة لهم فيه فإن الطلاق انشاء وليس بيمين حقيقة وإن سمي بذلك فمجاز لا تترك الحقيقة من أجله، ثم ان الطلاق انما سمي يميناً إذا كان معلقا على شرط يمكن فعله وتركه ومجرد قوله أنت طالق ليس بيمين حقيقة ولا مجازا فلم يكن الاستثناء بعد يمين، وقولهم علقه على مشيئة لا نعلم قلنا قد علمت مشيئة الله للطلاق بمباشرة الآدمي سببه قال قتادة قد شاء الله حين أذن أن تطلق ولو سلمنا انها لم تعلم لكن قد علقه على شرط يستحيل علمه فيكون كتعليقه على المستحيلات يلغو ويقع الطلاق في الحال، وحكي عن أحمد أنه يقع العتق دون الطلاق وعلله أحمد رحمه الله بأن العتق لله سبحانه والطلاق ليس هو لله ولا فيه قربة إليه ولأنه لو قال لأمته كل ولد تلدينه فهو حر فهذا تعليق للحرية على الملك وهو صحيح ولأن من نذر العتق لزمه الوفاء به ومن نذر الطلاق لا يلزمه الوفاء به فكما افترقا في النذر جاز أن يفترقا في اليمين * (مسألة) * (وإن قال أنت طالق إلا أن يشاء الله طلقت) ووافق أصحاب الشافعي على هذا في الصحيح من المذهب لأنه أوقع الطلاق وعلق رفعه بمشيئة لم تعلم * (مسألة) * (وإن قال إن لم يشأ الله أو ما لم يشأ الله فعلى وجهين) (أحدهما) يقع في الحال لأن وقوع طلاقها إذا لم يشأ الله محال فلغت هذه الصفة ووقع الطلاق (والثاني) لا يقع بناء على تعليق الطلاق على المحال مثل قوله انت طلق ان جمعت بيبن الضدين أو شربت الماء الذي في الكوز ولا ماء فيه

(8/439)


(فصل) وإن قال أنت طالق لتدخلن الدار إن شاء الله لم تطلق دخلت أو لم تدخل لأنها إن دخلت فقد فعلت المحلوف عليه وإن لم تدخل علمنا إن الله لم يشأه لأنه لو شاءه لوجد فإن ما شاء الله
كان وكذلك إن قال أنت طالق لا تدخلي الدار إن شاء الله لما ذكرنا وإن أراد بالاستثناء والشرط رده إلى الطلاق دون الدخول خرج فيه من الخلاف ما ذكرنا في المنجز وإن لم تعلم نيته فالظاهر رجوعه إلى الدخول ويحتمل أن يرجع إلى الطلاق * (مسألة) * (وإن قال إن دخلت الدار فأنت طالق إن شاء الله فدخلت فهل تطلق؟ على روايتين) (إحدهما) يقع الطلاق بدخول الدار ولا ينفعه الاستثناء لأن الطلاق والعتاق ليسا من الايمان ولما ذكرناه فيما إذا قال أنت طالق إن شاء الله (والثانية) لا تطلق وهو قول أبي عبيد إذا علق الطلاق بشرط صار يمينا وحلفا فصح الاستثناء فيه لعموم قوله عليه السلام " من حلف على يمين فقال إن شاء الله لم يحنث " وفارق إذا لم يعلقه فإنه ليس بيمين فلا يدخل في العموم * (مسألة) * (وان إن قال أنت طالق لرضى زيد أو مشيئته طلقت في الحال) لأن معناه أنت طالق لكونه قد شاء ذلك أو رضيه كقوله هو حر لوجه الله أو لرضى الله فإن قال أردت به الشرط دين قال القاضي ويقبل في الحكم لأنه محتمل فإن ذلك يستعمل للشرط كقوله أنت طالق للسنة وهذا أظهر الوجهين لأصحاب الشافعي والوجه الثاني لا يقبل لأنه خلاف الظاهر

(8/440)


(فصل) فإن قال أنت طالق إن أحببت أو أردت أو كرهت أحتمل ان يتعلق الطلاق بقولها بلسانها قد أحببت أو أردت أو كرهت لأن هذه المعاني في القلب لا يمكن الاطلاع عليها إلا من قبلها فيعلق الحكم بقولها كالمشيئة ويحتمل أن يتعلق الحكم بما في القلب من ذلك ويكون اللسان دليلا عليه فعلى هذا لو أقر الزوج بوجوده وقع طلاقه وإن لم تتلفظ به ولو قالت أنا أحب ذلك ثم قالت كنت كاذبة لم تطلق * (مسألة) * (وإن قال إن كنت تحبين أن يعذبك الله في النار فأنت طالق أو قال إن كنت تحبينه بقلبك فقالت أنا أحبه) فقد توقف أحمد رحمه الله عنها وسئل فلم يجب فيها بشئ وفيها احتمالان (أحدهما) لا تطلق وهو قول أبي ثور لأن المحبة في القلب ولا يوجد من أحد محبة ذلك وخبرها بحبها له كذب معلوم فلم يصح دليلا على ما في قلبها (والاحتمال الثاني) تطلق قاله القاضي وهو قول أصحاب الرأي لأن ما في القلب
لا يوقف عليه إلا من لفظها فاقتضى تعليق الحكم بلفظها به كاذبة كانت أو صادقة كالمشيئة ولا فرق بين قوله إن كنت تحبين ذلك وبين قوله إن كنت تحبينه بقلبك لأن المحبة لا تكون إلا بالقلب.
قال شيخنا والأولى أنها لا تطلق إن كانت كاذبة، وهذا الاحتمال الأول والله أعلم

(8/441)


(فصل في مسائل متفرقة) إذا قال أنت طالق إذا رأيت الهلال طلقت إذا رئي في أول الشهر.
وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة لا تطلق حتى تراه لأنه علق الطلاق على رؤية نفسه أشبه تعليقه على رؤية زيد ولنا أن الرؤية في عرف الشرع العلم به في أول الشهر بدليل قوله عليه الصلاة والسلام " إذا رأيتم الهلال فصوموا وإذا رأيتموه فأفطروا " والمراد به رؤية البعض وحصول العلم فانصرف لفظ الحالف إلى عرف الشرع كما إذا قال إذا صليت فأنت طالق فإنه ينصرف إلى الطلاة الشرعية لا إلى الدعاء وفارق رؤية زيد فانه لم يثبت له عرف شرعي يخالف الحقيقة وكذلك لو لم يره أحد لكن ثبت الشهر بتمام العدد لأنه قد علم طلوعه إلا أن ينوي حقيقة رؤيتها فلا تطلق حتى تراه ويقبل قوله في ذلك لأنها رؤية حقيقة وتتعلق الرؤية برؤيته بعد الغروب فإن رأت قبل ذلك لم تطلق لأن هلال الشهر ما كان في أوله ولأنا جعلنا رؤية الهلال عبارة عن دخول الشهر، ويحتمل أن تطلق برؤيته قبل الغروب لأنه يسمى رؤية والحكم متعلق به في الشهر فإن قال أردت إذا رأيته أنا بعيني فلم يره حتى أقمر لم تطلق لأنه ليس بهلال، واختلف فيما يصير به قمراً فقيل بعد ثالثة وقيل إذا استدار وقيل إذا بهر ضوؤه (فصل) قال أحمد إذا قال لها أنت طالق ليلة القدر يعتزلها إذا دخل العشر وقبل الشعر أهل

(8/442)


المدينة يرونها في السبع عشرة إلا أن الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الشعرة الأواخر إنما أمره باجتنابها في العشر لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالتماس ليلة القدر في العشر الأواخر فيحتمل أن تكون أول ليلة منه ويمكن أو يكون هذا منه على سبيل الاحتياط ولا يتحقق حنثه إلى آخر ليلة من الشهر لاحتمال أن تكون هي تلك الليلة
* (مسألة) * (وإن قال من بشرتني بقدوم أخي فهي طالق فأخبرته امرأتاه طلقت الأولى منهما إلا أن تكون الثانية هي الصادقة وحدها فتطلق وحدها) إنما طلقت الأولى وحدها لأن التبشير خبر صدق تغير به بشرة الوجه من سرور أو غم وقد حصل بخبر الأولى واشترطنا صدقها لانه متى علم أنه كذب زال السرور فإن كانت الثانية هي الصادقة طلقت وحدها لأن السرور إنما حصل بخبرها هذا إذا أخبرته إحداهما بعد الأخرى، وإن بشره بذلك اثنتان أو ثلاث أو أربع دفعة واحدة طلقن كلهن لأن من تقع على الواحد فما زاد قال الله تعالى (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره) وقال (ومن يقنت منكن لله ورسوله وتعمل صالحا نؤتها أجرها مرتين) * (مسألة) * (وإن قال من أخبرتني بقدومه فهي طالق) فكذلك عند القاضي تطلق المخبرة الأولى إن كانت صادقة وإن كانت كاذبة احتمل أن لا تطلق

(8/443)


وهو ظاهر كلام القاضي لأن الظاهر من حاله أنه أراد من أعلمتني ولا يحصل إلا بالصدق ولذلك لو قال من بشرتني بقدومه فهي طالق لم تطلق الكاذبة وان كان السرور يحصل إذا جهل كذبها وإن أخبرته أخرى طلقت في قول أبي الخطاب لأنها مخبرة، ولم تطلق عند القاضي الثانية ولا الكاذبة كالبشارة سواء.
(فصل) إذا قال أول من يقوم منكن فهي طالق أو قال لعبيده أول من قام منكم فهو حر فقام الكل دفعة واحدة لم يقع طلاق ولا عتق لأنه لا أول فيهم وإن قام واحد أو واحدة ولم يقم بعد أحد احتمل وجهين (أحدهما) يقع الطلاق أو العتق لأن الأول ما كان بعده شئ ولم يوجد.
فعلى هذا لا يحكم بوقوع ذلك ولا انتفائه حتى ييأس من قيام أحد منهم بعده فتنحل بيمينه، وإن قام اثنان أو ثلاثة دفعة واحدة وقام بعدهم آخر وقع الطلاق والعتق بمن قام في الأول بوقوعه على القليل والكثير قال الله تعالى (ولا تكونوا أول كافر به) وحكي عن القاضي فيمن قال أول من يدخل من عبيدي فهو حر فدخل اثنتان دفعة واحدة ثم دخل بعدهم آخر: لم يعتق واحد منهم وهذا بعيد فإنه قد دخل بعضهم بعد بعض ولا أول فيهم وهذا لا يستقيم إلا أن يكون قال أول من يدخل منكم وحده ولم
يدخل بعد الثالث أحد فإنه لو دخل بعد الثالث أحد عتق لكونه أول من دخل وحده وإذا لم يقل وجده فإن لفظة الأول تتناول الجماعة كما ذكرنا، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم " أول من يدخله الجنة

(8/444)


فقراء المهاجرين " ولو قال آخر من يدخل منكن الدار فهي طالق فدخل بعضهن لم يحكم بطلاق واحدة منهن حتى ييئس من دخول غيرها بموته أو موتهن أو غير ذلك فيتبين وقوع الطلاق بآخرهن دخولاً من حين دخلت وكذلك الحكم في العتق (فصل) إذا قال إن دخل داري أحد فامرأتي طالق فدخلها هو أو قال لإنسان إن دخل دارك أحد فعبدي حر فدخلها صاحبها فقال القاضي لا يحنث لا قرينة حال المتكلم تدل على أنه إنما حلف على غيره ويمنع من سواه فيخرج هو من العموم بالقرينة ويخرج المخاطب من اليمين أيضا ويحتمل الحنث أخذاً بعموم اللفظ وإعراضاً عن السبب * (مسألة) * (وإن حلف لا يفعل شيئاً ففعله ناسياً حنث في الطلاق والعتاق ولم يحنث في اليمين المكفرة في ظاهر المذهب) نقل ذلك عن أحمد جماعة واختاره الخلال وصاحبه وهو قول أبي عبيد وعن أحمد رواية أخرى أنه لا يحنث في الطلاق والعتاق أيضاً وهو قول عطاء وعمرو بن دينار وابن ابي نجيح وإسحاق وابن المنذر وهو ظاهر مذهب الشافعي لقول الله تعالى (وليس عليكم جناع فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم) وقال النبي صلى الله عليه وسلم " إن الله تجاوز لأمتي عن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه " ولأنه غير قاصد للمخالفة فلم يحنث كالنائم والمجنون ولأنه أحد طرفي اليمين فاعتبر فيه القصد كحالة الابتداء بها

(8/445)


وعن أحمد رواية ثالثة أنه يحنث في الجميع وتلزمه الكفارة في اليمين المكفرة وهو قول سعيد بن جبير ومجاهد والزهري وقتادة وربيعة ومالك (والقول الثاني) للشافعي لأنه فعل ما حلف عليه قاصداً لفعله فلزمه الحنث كالذاكر وكما لو كانت اليمين بالطلاق والعتاق ووجه الأولى أن الكفارة إنما تجب لرفع الإثم ولا إثم على الناسي ولما ذكرنا من الآية والخبر وأما الطلاق والعتاق فهو معلق بشرط فيقع بوجود
شرطه من غير قصد كما لو قال أنت طالق إن طلعت الشمس أو قدم الحاج ولأن هذا يتعلق به حق آدمي فيعلق الحكم به مع النسيان كالإتلاف * (مسألة) * (وإن حلف لا يدخل على إنسان بيتاً أو لا يكلمه أو لا يسلم عليه أو لا يفارقه حتى يقضيه حقه فدخل بيتاً هو فيه ولم يعلم أو سلم على قوم هو فيهم ولم يعلم أو قضاه حقه ففارقه فخرج رديئاً أو أحاله به ففارقه ظنا منه أنه قد برئ خرج على الروايتين في الناسي والجاهل فإن في الناسي روايتين والجاهل مقيس عليه) لأنه غير قاصد للمخالفة وقد سبق دليل ذلك، وكذلك إن حلف لا يكلم فلانا فسلم عليه يحسبه أجنبياً أو حلف لا يبيع لزيد ثوبا فوكل زيد من يدفعه إلى من يبيعه فدفعه إلى الحالف فباعه من غير علمه فهو كالناسي لأنه غير قاصد للمخالة أشبه الناسي * (مسألة) * (وإن حلف لا يفعل شيئاً ففعل بعضه لم يحنث وعنه يحنث إلا أن ينوي جميعه)

(8/446)


هذه الرواية ظاهر المذهب نص أحمد على ذلك في رواية حنبل وصالح فيمن حلف على امرأته لا تدخل بيت أختها لم تطلق حتى تدخل كلها الا ترى أن عوف بن مالك قال كلي أو بعضي لأن الكل لا يكون بعضا والبعض لا يكون كلاً وهذا اختيار أبي الخطاب ومذهب أبي حنيفة والشافعي لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخرج رأسه وهو معتكف الى عائشة فترجله وهي حائض والمعتكف ممنوع من الخروج من المسجد والحائض ممنوعة من اللبث فيه وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لأبي بن كعب " إني لا أخرج من المسجد حتى أعلمك سورة " فلما أخرج رجله من المسجد علمه إياها ولأن يمينه تعلقت بالجميع فلم تنحل بالبعض كالإثبات وعنه أنه يحنث إلا أن ينوي جميعه حكي ذلك عن مالك وهو اختيار الخرقي لأن اليمين تقتضي المنع من تخلف فعل المخلوف عليه فاقتضت المنع من فعل شئ منه كالنهي ونظير الحلف على ترك الشئ قوله سبحانه (لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم) وقوله (لا تدخلوا بيوت النبي) لا يكون النهي ممتثلا الا بترك الدخول كله فمتى أدخل بعضه لم يكن تاركاً لما حلف عليه فكان مخالفاً كالنهي عن الدخول والخلاف إنما هو في اليمين المطلقة فأما إن نوى الجميع أو البعض فيمينه على ما نوى وكذلك إن اقترنت
به قرينة تقتضي أحد الأمرين تعلقت يمينه به كمن حلف لا شربت هذا النهر أو هذه البركة تعلقت يمينه ببعضه وجهاً واحدا وفيه خلاف نذكره في موضعه بعد

(8/447)


* (مسألة) * (وإن حلف ليفعلن شيئاً أو ليدخل الدار، لم يبرأ إلا بفعل جميعه، والدخول إلى الدار بجملته) .
لا يختلف المذهب في ذلك ولا نعلم بين أهل العلم فيه اختلافاً لأن اليمين تناولت فعل الجميع فلم يبرأ إلا بفعله كما لو أمره الله تعالى بفعل شئ لم يخرج من عهده الأمر إلا بفعل الجميع لأن اليمين على فعل شئ اخبار بفعله في المستقبل مؤكد بالقسم والخبر بفعل شئ يقتضي فعله كله * (مسألة) * (وإن حلف لا يدخل داراً فأدخلها بعض جسده أو دخل طاق الباب أولا يلبس ثوبا من غزلها فلبس ثوباً فيه منه أو لا يشرب ماء هذا الكوز فشرب بعضه خرج على الروايتين فيمن فعل بعض المحلوف عليه، وقد ذكرناه قبل هذه المسألة * (مسألة) * (وإن حلف لا يشرب ماء هذا النهر فشرب منه حنث وجها واحداً) لأن فعل الجميع ممتنع فلا تنصرف يمينه إليه وكذلك إن قال والله لا آكل الخبز ولا أشرب الماء وما أشبهه مما علق على اسم جنس أو علقه على اسم جمع كالمسلمين والمشركين والفقراء والمساكين فإنه يحنث بالبعض، وبهذا قال أبو حنيفة وسلمة وأصحاب الشافعي في أسم الجنس دون الجمع وموا؟ علقه على اسم جنس مضاف كقوله والله لا شربت ماء هذا النهر، أو قال والله لا شربت الماء وهو قول

(8/448)


أبي حنيفة وأحد الوجهين لأصحاب الشافعي والوجه الآخر لا يحنث لأن لفظه يقتضي جميعه فلم يحنث بفعل بعضه كالادواة ولنا أنه لا يمكن شرب جميعه فتعلقت يمينه ببعضه كما لو حلف لا يكلم الناس فكلم بعضهم وبهذا فارق ماء الادواة فإن نوى بيمينه فعل الجميع وكان في لفظه ما يتقضي ذلك لم يحنث إلا بفعل الجميع بلا خلاف فلو قال لا صمت يوماً أو لا صليت صلاة أو لا أكلت رغيفاً أو قال لزوجته إن حضت حيضة
فهذا وشبهه مما يدل على ارادة الجميع فوجب تعلق اليمين به (فصل) إذا حلف لا شربت من ماء الفرات فشرب من مائه حنث سواء كرع فيه أو اغترف منه ثم شربه وبه قال الشافعي وأبو يوسف ومحمد، وقال أبو حنيفة لا يحنث حتى يكرع فيه لأن حقيقة ذلك الركع فلم يحنث بغيره كما لو حلف لا يشرب من هذا الانا فصب منه في غيره وشرب ولنا أن معنى يمينه إن لا يشرب من ماء الفرات لأن الشرب يكون من مائها لا منها في العرف فحملت اليمين عليه كما لو حلف لا شربت من هذا البئر ولا أكلت من هذه الشجرة ولا شربت من هذه الشاة، ويفارق الكوز فإن الشرب في العرف منه لأنه آلة للشرب بخلاف النهر، وما ذكروه يبطل بالبئر والشاة والشجرة وقد سلموا أنه لو استسقى من البئر أو حلف لبن الشاء أو التقط من الشجرة فشرب وأكل أنه يحنث فكذا في مسئلتنا (فصل) وإن حلف لا يشرب من ماء الفرات فشرب من نهر يأخذ منه حنث لأنه من ماء الفرات وإن حلف لا يشرب من الفرات فشرب من نهر يأخذ منه ففيه وجهان [أحدهما] يحنث لأن معنى الشرب منه الشرب من مائه فحنث كما لو حلف لا شربت من مائه وهذا أحد الاحتمالين لاصحاب الشافعي (والثاني) لا يحنث، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه إلا ابا يوسف فإن عنه رواية أنه يحنث

(8/449)


وإنما قلنا إنه لا يحنث لأن ما أخذه النهر يضاف إلى ذلك النهر لا إلى الفرات وبزول باضافته إليه عن إضافته إلى الفرات فلا يحنث به كغير الفرات * (مسألة) * (وإن حلف لا يلبس ثوبا اشتراه زيد أو نسجه أو لا يأكل طعاماً طبخه فلبس ثوباً نسجه هو وغيره أو اشتراه أو أكل طعاماً طبخاه فعلى روايتين) [إحداهما] يحنث كما لو حلف أن لا يلبس من غزل فلانة فلبس ثوبا من غزلها وغزل غيرها (والثانية) لا يحنث وهو قول أبي حنيفة والشافعي لأنه لم يلبس ثوباً كاملاً، وكذلك إن حلف لا يلبس ثوبا نسجه زيد ولا يأكل من قدر طبخها ولا يدخل داراً اشتراها ولا يلبس ثوباً خاطه زيد ففعل ذلك
هو وغيره فلبس الثوب أو دخل الدار أو أكل الطعام ففي هذا كله من الخلاف ما ذكرنا فيمن حلف لا يفعل شيئاً ففعل بعضه، فأما إن حلف لا يلبس مما خاطه زيد فإنه يحنث بلبس ثوب خاطاه جيمعا لأنه لبس مما خاطه زيد بخلاف ما إذا قال ثوباً خاطه زيد، وإن حلف لا يدخل داراً لزيد فدخل داراً له ولغيره خرج فيه وجهان بناء على ما ذكرنا * (مسألة) * (وإن حلف لا يأكل طعاماً اشتراه زيد فأكل طعاماً اشتراه هو وغيره حنث إلا أن يكون اراد أن لا ينفرد أحدهما بالشراء) وبهذا قال أبو حنيفة ومالك وقال الشافعي لا يحنث وذكر أبو الخطاب فيه احتمالين لأن كل جزء لم ينفرد أحدهما بشرائه فلم يحنث كما لو حلف لا يلبس ثوباً اشتراه زيد فلبس ثوباً اشتراه هو وغيره ولنا أن زيداً اشترى نصفه وهو طعام وقد أكله فأشبه ما لو اشتراه زيد وخلطه بما اشتراه عمرو فأكل الجميع، فأما الثوب فلا نسلمه وإن سلمناه فالفرق بينهما أن نصف الثوب ليس بثوب ونصف الطعام طعام وقد أكله بعد أن اشتراه زيد، وإن اشترى زيد نصفه مشاعاً أو اشترى نصفه ثم اشترى آخر باقيه فأكل منه حنث والخلاف فيه على ما تقدم، فأما إن اشترى زيد نصفه معيناً ثم خلطه بالنصف الآخر ثم أكل أكثر من النصف حنث وجها واحداً بغير خلاف لأنه أكل مما اشتراه زيد يقيناً

(8/450)


وإن أكل نصفه أو أقل من نصفه ففيه وجهان [أحدهما] يحنث لأنه يستحيل في العادة انفراد ما اشتراه زيد من غيره فيكون الحنث ظاهراً (والثاني) لا يحنث لأن الأصل عدم الحنث ولم يتيقن وإن أكل من طعام اشتراه زيد ثم باعه أو اشتراه لغيره حنث ويحتمل أن لا يحنث وكل وضع لا يحنث فحكمه حكم ما لو حلف لا يأكل تمرة فوقعت في تمر فأكل منه واحدة على ما سنذكره إن شاء الله تعالى والله أعلم * (باب التأويل في الحلف) * ومعنى التأويل أن يريد بلفظه ما يخالف ظاهره فإن كان الحالف ظالماً لم ينفعه تأويله لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم " يمينك على ما يصدقك به صاحبك " وإن لم يكن ظالماً فله تأويله نحو أن يحلف أنه أخي
يريد بذلك أخره في الإسلام أو يعني بالسقف والبناء السماء وبالبساط والفراش الأرض وبالأوتاد الجبال وباللباس الليل أو يقول ما رأيت فلاناً أي ما ضربت رئته ولا ذكرته أي ما قطعت ذكره أو يقول جواري أحرار، يعني سفنه ونسائي طوالق يعني النساء الأقارب منه أو يقول ما كاتبت فلاناً ولا عرفته ولا أعلمته ولا سأله حاجة ولا أكلت له دجاجة ولا فروجاً ولا شربت له ماء ولا في بيتي فرش ولا حصير ولا بارية، ويعني بالمكاتبة مكاتبة الرقيق بالتعريف جعله عريفاً وبالاعلام جعله أعلم الشفة والحاجة شجرة صغيرة والدجاجة الكبة من الغزل والفروج الدراعة والفرش صغار الابل والحصير الحبس والبارية السكين التي يبري بها، أو يقول والله ما أكلت من هذا شيئاً ولا أخذت منه يعني الباقي بعد أخذه وأكله فهذا واشباهه مما يسبق إلى فهم السامع خلافه إذا عناه بيمينه فهو تأويل لأنه خلاف الظاهر.
(فصل) ولا يخلو حال الحالف المتأول من ثلاثة أحوال [أحدها] أن يكون مظلوماً مثل أن يستحلفه ظالم على شى لو صدقه لظلمه أو ظلم غيره أو نال

(8/451)


مسلماً منه ضرر فهذا له تأويله، قال مهنا سألت أحمد عن رجل له امرأتان اسم كل واحدة منهما فاطمة فماتت واحدة منهما فحلف بطلاق فاطمة ونوى التي ماتت، قال إن كان المستحلف له ظالما فالنية نية صاحب الطلاق وإن كان المطلق هو الظالم فالنية نية الذي استحلفه، وروى أبو داود بإسناده عن سويد بن حنظلة قال خرجنا نريد رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعنا وائل بن حجر فأخذه عدو له فتحرج القوم أن يحلفوا فحلفت أنه أخي فخلى سبيله فأتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرنا ذلك له فقال " إن كنت أصدقهم وأبرهم المسلم أخو المسلم " وقال النبي صلى الله عليه وسلم " إن في المعاريض لمندوحة عن الكذب " يعني سعة المعاريض التي يوهم بها السامع غير ما عناه، قال محمد بن سيرين الكلام أوسع من أن يكذب ظريف يعني لا يحتاج أن يكذب لكثرة المعاريض وخص الظريف بذلك يعني به الكيس الفطن فإنه يفطن التأويل فلا حاجة به إلى الكذب (الوجه الثاني) أن يكون الحالف ظالما كالذي يستحلفه الحاكم على حق عنده فهذا تنصرف
يمينه إلى ظاهر الذي عناه المستحلف ولا ينفع الحالف تأويله، وبهذا قال الشافعي ولا نعلم فيه مخالفاً فإن أبا هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يمينك على ما يصدقك به صاحبك " رواه مسلم ولأنه لو ساغ التأويل لبطل المعنى المبتغى باليمين إذ مقصودها تخويف الحالف ليرتدع عن الجحود خوفا من عاقبة اليمين الكاذبة، فمتى ساغ التأويل له انتفى ذلك فصار التأويل وسيلة إلى جحد الحقوق، قال إبراهيم في رجل استحلفه السلطان على شئ بالطلاق فورى في يمينه إلى شئ أجزأ عنه وإن كان ظالماً لم يجز عنه التأويل.
(الحال الثالث) أن لا يكون ظالماً ولا مظلوماً فظاهر كلام أحمد أن له تأويله فإنه روي أن مهنا كان عنده هو والمروذي وجماعة فجاء رجل يطلب المروذي ولم يرد المروذي أن يكلمه فوضع مهنا أصبعه في كفه، وقال ليس المروذي ههنا وما يصنع المروذي ههنا يريد ليس المروذي في كفه فلم ينكره أبو عبد الله.

(8/452)


وروي أن مهنا قال أني أريد الخروج يعني السفر الى بلده وأحب أن تسمعني الجزء الفلاني فاسمعه إياه ثم رآه بعد ذلك فقال ألم تقل إنك تريد الخروج فقال له مهنا قلت لك إني أريد الخروج الآن؟ فلم ينكر عليه، وهو مذهب الشافعي ولا نعلم في هذا خلافا أيضاً، وروى سعيد عن جرير عن المغيرة قال كان إذا طلب إنسان إبراهيم ولم يرد ابراهيم أن يلقاه خرجت إليه الخادم فقال اطلبوه في المسجد، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يمزح ولا يقول إلا حقاً ومزاحه أن يوهم السامع بكلامه غير ما عناه فقال لعجوز " لا يدخل الجنة عجوز " يعني أن الله ينشئهن عربا أترابا، وقال أنس أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله احملني فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إنا حاملوك على ولد ناقة " فقال وما أصنع بولد الناقة؟ قال " وهل تلد الإبل إلا النوق " رواه أبو داود وقال لامرأة وقد ذكرت له زوجها، هو الذي في عينه بياض " فقالت يا رسول الله أنه لصحيح العين وأراد النبي صلى الله عليه وسلم البياض الذي حول الحدقة وقال لرجل احتضنه من ورائه " من يشتري العبد؟ فقال يا رسول الله تجدني إذا كاسدا قال " لكنك عند الله لست بكاسد " وهذا كله من التأويل والمعاريض، وقد سماه النبي صلى الله عليه وسلم حقاً فقال " لا أقول إلا حقاً "
وروي عن شريح أنه خرج من عند ابن زيادة وقد حضره الموت فقيل له كيف تركت الأمير؟ فقال تركته يأمر وينهى فلما مات قيل له كيف قلت ذلك؟ فقال تركته يأمر بالصبر وينهي عن البكاء والجزع، ويروى عن شقيق أن رجلاً خطب امرأة وتحته أخرى فقالوا لا نزوجك حتى تطلق امرأتك فقال اشهدوا إني قد طلقت ثلاثاً فزوجوه فقام على امرأته فقالوا قد طلقت ثلاثاً قال ألم تعلموا أنه كان لي ثلاث نسوة فطلقتهن؟ قالوا بلى قال قد طلقت قالوا ما هذا أردنا فذكر ذلك شقق لعثمان فجعلها نيته، ويروى عن الشعبي أنه كان في مجلس فنظر إليه رجل ظن أنه طلب منه التعريف به والثناء عليه فقال الشعبي إن له بيتاً وشرفاً فقيل للشعبي بعد ما ذهب الرجل تعرفه؟ فقال لا ولكنه نظر

(8/453)


إلي قيل فكيف اثنيت عليه؟ قال شرفه اذناه وبيته الذي يسكنه، وروي ان رجلاً أخذ على شراب فقيل له من أنت فقال: أنا ابن الذي لا ينزل الدهر قدره * وإن نزلت يوماً فسوف تعود ترى الناس أفواجاً على باب داره * فمنهم قيام حولها وقعود فظنوه شريفاً فخلوا سبيله ثم سألوا عنه فإذا هو ابن الباقلاني، وأخذ الخوارج رافضياً فقالوا تبرأ من عثمان علي فقال أنا من علي وعثمان برئ فهذا وشبهه هو التأويل الذي لا يعذر به الظالم ويسوغ لغيره مظلوماً كان أو غير مظلوم لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول ذلك في المزاح من غير حاجة إليه * (مسألة) * (فإذا أكل تمراً فقال لتخبرني بعدد ما أكلت أو لتميزن نوى ما أكلت ولم تعلم فإنها تعد له عدداً يعلم أنه قد أتى على عدد ذلك) مثل أن يعلم أن عدد ذلك ما بين مائة إلى ألف فتعد ذلك كله وكذلك إن قال إن لم تخبريني بعدد حب هذه الرمانة ولا يحنث إذا كانت نيته ذلك، وإن نوى الاخبار بكميته من غير نقص ولا زيادة لم يبرأ إلا بذلك وإن أطلق فقياس المذهب أنه لا يبرأ إلا بذلك أيضاً لأن ظاهر حال الحالف إرادته فتنصرف يمينه إليه كالاسماء العرفية التي تنصرف اليمين عليها إلى مسماها عرفا دون مسماها حقيقة ولو أكلا تمراً فحلف لتميزن نوى ما أكلت فأفردت كل نواء وحدها فالحكم فيها كالتي قبلها
* (مسألة) * (وإن حلف ليقعدن على بارية في بيته ولا يدخله بارية فإنه يدخل قصبا فينسجه فيه فيجلس عليها في البيت فلا يحنث)

(8/454)


لأنه قد قعد على بارية في بيته ولم يدخله بارية إنما أدخله قصباً وليس هو بارية * (مسألة) * (وإن حلف ليطبخن قدراً برطل ملح ويأكل منه فلا يجد طعم الملح فإنه يسلق به بيضا ويأكل منه ولا يحنث) لأن الصفة وجدت * (مسألة) * (وإن حلف لا يأكل بيضاً ولا تفاحاً وليأكلن مما في هذا الوعاء فوجد فيه بيضا وتفاحا فإنه يعمل من البيض ناطفاً ومن التفاح شراباً ويأكل منه لا يحنث) لأن ذلك ليس ببيض ولا تفاح * (مسألة) * (وإن كان على سلم فحلف لا نزلت إليك ولا صعدت إلى هذه ولا أقمت مكاني ساعة) يريد إذا كان له امرأتان إحداهما في الغرفة والأخرى أسفل (فلتنزل العليا ولتصعد السفلى ثم ينزل إن شاء أو يصعد فتنحل يمينه) لأن الصفة لم توجد * (مسألة) * (وإن حلف لا قمت عليه ولا نزلت منه ولا صعدت فيه فإنه ينتقل إلى سلم آخر وتنحل يمينه) لأنه لم يقم عليه ولا صعد فيه ولا نزل منه إنما نزل أو صعد من غيره * (مسألة) * (وإن حلف لا قمت في هذا الماء ولا خرجت منه وكان الماء جارياً لم يحنث) لأن الماء المحلوف عليه جرى وصار في غيره فلم يحنث سواء أقام أو خرج لأنه إنما يقف في غيره أو يخرج منه، وهذا الذي ذكره القاضي في المجرد وهو مذهب الشافعي لأن الايمان عندهم تبنى على اللفظ لا على القصد وكذلك قالوا لا يحنث في هذه الأيمان السابقة كلها، وقال القاضي في كتاب آخر: قياس المذهب أنه يحنث إلا أن ينوي عين الماء الذي هي فيه لأن إطلاق يمينه يقتضي خروجها من النهر أو إقامتها فيه * (مسألة) * (فإن كان الماء واقفاً حمل منه مكرها) لئلا ينسب إليه فعل * (مسألة) * (وإن استحلفه ظالم ما لفلان عندك وديعة وكانت عنده وديعة فإنه يعني بما الذي ويبر في يمينه) لأنه صادق * (مسألة) * (وإن حلف عاملان ههنا وعنى موضعاً معينا بر في يمينه)
لصدقه في ذلك.
وقد ذكرنا ما رواه مهنا أنه كان هو والمروذي عند أحمد فجاء رجل يطلب المروذي ولم يرد المروذي أن يكلمه فوضع مهنا أصبعه في كفه وقال ليس المروذي ههنا، يريد ليس هو في كفه فلم ينكره أبو عبد الله * (مسألة) * ولو سرقت منه امرأته شيئاً فحلف بالطلاق لتصدقني أسرقت مني شيئاً أم لا وخانت

(8/455)


أن تصدقه فإنها تقول سرقت منك ما سرقت منك، ولو استحلفه ظالم هل رأيت فلاناً أو لا وكان قد رآه فإنه يعني بما رأيته ما ضربت رئته * (مسألة) * (ولو حلف على امرأته لا سرقت مني شيئاً فخانته في وديعته لم يحنث) لأن الخيانة ليس بسرقة إلا أن ينوي ذلك فيحنث (فصل) ولو قال أن كانت امرأتي في السوق فعبدي حر وإن كان عبدي في السوق فامرأتي طالق وكانا جميعا في السوق فقيل يعتق العبد ولا تطلق المرأة لأنه لما حنث في اليمين الأولى عتق العبد فلم يبق له في السوق عبد، ويحتمل أن يحنث بناء على قولنا فيمن حلف على معين تعلقت اليمين بعينه دون صفته كما لو قال إن كلمت عبدي سعداً فأنت طالق ثم أعتقه وكلمته طلقت فكذلك ههنا لأن يمينه تعلقت بعبد معين وإن لم يرد عبداً بعينه لم تطلق المرأة لأنه لم يبق له عبد في السوق، ولو كان في فيها تمرة فقال أنت طالق إن أكلتها أو ألقيتها أو أمسكتها فأكلت بعضها وألقت بعضها لم يحنث إلا على قول من قال إنه يحنث بفعل بعض المحلوف عليه وإن نوى الجميع لم يحنث بحال (فصل) قال عبد الله بن أحمد سألت أبي عن رجل قال لامرأته أنت طالق إن لم أجامعك اليوم وأنت طالق إن اغتسلت منك اليوم قال يصلي العصر ثم يجامعها فإذا غابت الشمس أغتسل إن لم يكن أراد بقوله اغتسلت منك المجامعة، وقال في رجل قال لامرأته أنت طالق إن لم أطأك في رمضان فسافر مسيرة أربعة أيام أو ثلاثة ثم وطئها فقال لا يعجبني لأنها حيلة ولا تعجبني الحيلة في هذا ولا في غيره قال القاضي إنما كره أحمد هذا لأن السفر الذي يبيح الفطر السفر المباح المقصود وهذا لا يقصد به غير حل اليمين، والصحيح أن هذا تنحل به اليمين ويباح به الفطر لأنه سفر بعيد مباح لقصد صحيح
فإن إرادة حل يمينه من المقاصد الصحيحة، وقد أبحنا لمن له طريقان قصيرة لا يقصر فيها وبعيدة أن يملك البعيدة ليقصر فيها الصلاة ويفطر مع أنه لا قصد له سوى الترخص فههنا أولى (باب الشك في الطلاق) إذا شك هل طلق أو لا لم تطلق) وجملة ذلك أن من شك في طلاقه لم يلزمه حكمه نص عليه أحمد وهو مذهب الشافعي وأصحاب الرأي لأن النكاح ثابت بيقين فلا يزول بالشك، والأصل في هذا حديث عبد الله بن زيد عن النبي

(8/456)


صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن الرجل يخيل إليه أنه يجد الشئ في الصلاة فقال " لا ينصرف حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحا " متفق عليه فأمره بالبناء على اليقين واطراح الشك ولأنه شك طرأ على يقين فوجب اطراحه كما لو شك المتطهر في الحدث.
قال شيخنا والورع التزام الطلاق فإن كان المشكوك فيه طلاقاً رجعياً راجع امرأته إن كانت مدخولا بها أو جدد نكاحها إن كانت غير مدخول بها، وقد انقضت عدتها وإن شك في طلاق ثلاث طلقها واحدة وتركها لأنه إذا لم يطلقها فيقين نكاحه باق فلا تحل لغيره وحكي عن شريك أنه إذا شك في طلاقه طلقها واحدة ثم راجعها لتكون الرجعة عن طلقة فتكون صحيحة في الحكم وليس بشئ لأن التلفظ بالرجعة ممكن مع الشك في الطلاق ولا يفتقر إلى ما تفتقر إليه العبادات من النية ولأنه لو شك في طلقتين فطلق واحدة لصار شاكاً في تحريمها عليه فلا تفيد الرجعة * (مسألة) * (وإن شك في عدد الطلاق بنى على اليقين لما ذكرنا وقال الخرقي إذا طلق فلم يدر واحد ة طلق أم ثلاثا اعتزلها وعليه نفقتها ما دامت في العدة فإن راجعها في العدة لزمته النفقة ولم يطأها حتى يتيقن كم الطلاق؟ لأنه متيقن للتحريم شاك في التحليل) وجملة ذلك أن من طلق وشك في عدد الطلقات بنى على اليقين نص عليه أحمد في رواية ابن منصور في رجل لفظ بطلاق امرأته لا يدري واحدة أم ثلاثاً فقال أما الواحدة فقد وجبت عليه وهي عنده حتى يستيقن وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي لأن ما زاد على القدر الذي تيقنه طلاق مشكوك فيه فلم يلزمه كما
لو شك في أصل الطلاق إذا ثبت هذا فإنه تبقى أحكامه أحكام المطلق دون الثلاث من إباحة الرجعة وإذا رجع عادت الى ما كانت عليه قبل الطلاق وقال الخرقي يحرم وطؤها ونحوه قول مالك إلا أنه حكي عنه أنه يلزمه الأكثر من الطلاق المشكوك فيه وقولهما متيقن للتحريم لأنه تيقن وجوده بالطلاق وشك في رفعه بالرجعة فلا يرتفع بالشك كما لو أصاب ثوبه نجاسة وشك في موضعها فإنه لا يزول حكم النجاسة بغسل موضع من الثوب ولا يزول حتى يغسله جميعه وفارق لزوم النفقة فإنها لا تزول بالطلقة الواحدة فهي باقية لأنها كانت باقية وقد شككنا في زوالها وظاهر قول سائر أصحابنا أنه إذا راجعها حلت له وهو قول أبي حنيفة والشافعي وهو ظاهر كلام أحمد في رواية ابن منصور لأن التحريم المتعلق بما تيقنه يزول بالرجعة يقينا فإن التحريم أنواع (تحريم)

(8/457)


تزيله الرجعة (وتحريم) يزيله نكاح جديد (وتحريم) يزيله نكاح بعد زوج وإصابة ومن تيقن الأدنى لا يثبت فيه حكم الأعلى كمن تيقن الحدث الأصغر لا يثبت فيه حكم الأكبر ويزول تحريم الصلاة بالطهارة الصغرى ويخالف الثوب فإن غسل بعضه لا يرفع ما تيقنه من النجاسة فنظير مسئلتنا إذا تيقن نجاسة كم الثوب وشك في نجاسة سائره فإن حكم النجاسة فيه يزول بغسل الكم وحده كذا ههنا ويمكن منع حصول التحريم ههنا ومنع تيقنه فإن الرجعية مباحة لزوجها في ظاهر المذهب فما هو إذا متيقن للتحريم بل هو متيقن للاباحة شاك في التحريم وكذلك قال الخرقي فيمن حلف لا يأكل تمرة فوقعت في تمر فأكل منه واحدة منع من وطئ امرأته حتى يعلم أنها ليست التي وقعت اليمين عليها ولا يتحقق حنثه حتى يأكل التمر كله وهذه المسألة لا تخلو من أحوال ثلاث (أحدها) أن يتحقق أكل التمرة المحلوف عليها إما أن يعرفها بعينها أو صفتها أو يأكل التمر كله أو الجانب الذي وقعت فيه كله فيحنث بلا خلاف بين أهل العلم لأنه أكل التمرة المحلوف عليها (الثاني) ان يتحقق أنه لم يأكلها أما بأن لا يأكل من التمر شيئاً أو يأكل شيئاً يعلم أنه غيرها فلا يحنث أيضاً بلا خلاف ولا يلزمه اجتناب زوجته (الثالث) أكل من التمر شيئاً واحدة أو أكثر الى أن لا يبقى منه إلا واحدة ولم يدر أكلها
أولا فهذه مسألة الخرقي ولا يتحقق حنثه لأن الباقية يحتمل أنها المحلوف عليها ويقين النكاح ثابت فلا يزول بالشك وهذا قول الشافعي وأصحاب الرأي فعلى هذا يكون حكم الزوجية باقياً في لزوم نفقتها وكسوتها ومسكنها وسائر أحكامها إلا في الوطئ فإن الخرقي قال يمنع من وطئها لأنه شاك في حلها فحرمت عليه كما لو اشتبهت عليه امرأته بأجنبية وذكر أبو الخطاب أنها باقية على الحل وهو مذهب الشافعي لأن الأصل الحل فلا يزول بالشك كسائر أحكام النكاح ولان النكاح باق حكمه فأثبت الحل كما لو شك هل طلق أولا؟ وإن كانت يمينه ليأكلن هذه التمرة فلا يتحقق بره حتى يعلم أنه أكلها * (مسألة) * (وإن قال لامرأتيه إحداكما طالق ينوي واحدة بعينها طلقت وحدها فإن لم ينو اخرجت المطلقة بالقرعة) أما إذا نوى واحدة بعينها فإنها تطلق وحدها لانه عينها بنيته فأشبه ما لو عينها بلفظه فإن قال إنما أردت فلانة قبل منه لأن ما قاله محتمل ولا يعرف إلا من جهته وأما إن لم ينو واحدة بعينها فانه تخرج بالقرعة نص عليه في رواية جماعة وبه قال الحسن وأبو ثور وقال قتادة ومالك يطلقن جميعاً وقال

(8/458)


حماد بن أبي سليمان الثوري وأبو حنيفة والشافعي له أن يختار أيتهن شاء فيوقع عليها الطلاق لأنه لا يمكن إيقاعه ابتداء وتعيينه فإذا أوقعه ولم يعينه ملك تعينه لأنه استيفاء ما ملكه ولنا أن ما ذكرناه مروي عن علي وابن عباس رضي الله عنهم ولا مخالف لهما من الصاحبة ولأنه إزالة ملك بني على التغليب والسراية فتدخله القرعة كالعتق وقد ثبت الأصل بكون النبي صلى الله عليه وسلم أقرع بين العبيد الستة ولأن الحق لواحد غير معين فوجب تعيينه بالقرعة كالحرية في العبيد إذا أعتقهم في مرضه ولم يخرج جميعهم من الثلث وكالسفر بإحدى نسائه والبداية باحداهن في القسم وكالشريكين إذا اقتسما ولأنه طلق واحدة من نسائه لا يعلم عينها فلم يملك تعيينها باختياره كالمنسية وأما الدليل على أنهن لا يطلقن جميعاً أنه أضاف الطلاق إلى واحدة فلم يطلق الجميع كما لو عينها، قولهم إنه كان يملك الإيقاع والتعيين قلنا ملكه للتعيين بالإيقاع لا يلزم أن يملكه بعده كما لو طلق واحدة بعينها وأنسيها فإن مات قبل القرعة والتعيين أقرع الورثة بينهن فمن وقعت عليها قرعة الطلاق فحكمها في الميراث حكم ما لو عينها
بالتطليق منهن وقال الشافعي يوقف الميراث المختص بهن حتى يصطلح من عليه لأنه لا يعلم المستحق منهن ووجه قول الخرقي قول علي رضي الله عنه ولأنهن قد تساوين ولا سبيل إلى التعيين فوجب المصير إلى القرعة كمن أعتق عبيداً في مرضه لا مال له سواهم وقد ثبت الحكم فيهم بالنص لأن في توريث الجميع توريث من لا يستحق يقينا والوقف لا إلى غاية حرمان للمستحق يقينا والقرعة تسلم من هذين المحذورين ولها نظير في الشرع * (مسألة) * (فإن قال لنسائه إحداكن طالق غداً طلقت واحدة منهن إذا جاء الغد وأخرجت بالقرعة) فإن مات قبل الغد ورثنه كلهن وإن ماتت إحداهن ورثها لأنها ماتت قبل وقوع الطلاق فإذا جاء غد أقرع بين الميتة والأحياء فإن وقعت القرعة على الميتة لم يطلق شئ من الأحياء وصارت كالمعينة بقوله أنت طالق غداً وقال القاضي قياس المذهب أن يتعين الطلاق في الأحياء فلو كانتا اثنتين فماتت إحداهما طلقت كما لو قال لامرأته واجنبية إحداكما طالق وهو قول أبي حنيفة والفرق بينهما ظاهر فإن الأجنبية ليست محلا للطلاق وقت قوله فلا ينصرف قوله إليها وهذه قد كانت محلاً للطلاق فإرادتها بالطلاق ممكنة وارادتها بالطلاق كإرادة الأخرى وحدوث الموت بها لا يقتضي في حق الاخرى طلاقها فتبقى على ما كانت عليه والقول في تعليق العتق كالقول

(8/459)


في تعليق الطلاق فإذا جاء غد وقد باع بعض العبيد أقرع بينه وبين العبد الآخر فإن وقعت على المبيع لم يعتق منه شئ وعلى قول القاضي ينبغي أن يتعين العتق في الباقين وكذلك ينبغي أن يكون مذهب أبي حنيفة والشافعي لأن له تعيين العتق عندهم بقوله فبيع أحدهم صرف للعتق عنه فيتعين في الباقين فإن باع نصف العبد أقرع بينه وبين الباقين فإن وقعت قرعة العتق عليه عتق نصفه وسرى إلى باقيه إن كان المعتق موسراً وإن كان معسراً لم يعتق إلا نصفه (فصل) وإذا قال امرأتي طالق وأمتي حرة وله نساء وإماء ونوى معينة انصرف إليها وإن نوى واحدة مبهمة فهي مبهمة فيهن وإن لم ينو شيئاً فقال أبو الخطاب يطلق نساؤه كلهن ويعتق إماؤه لأن الواحد المضاف يراد به الكل كقوله تعالى (وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها - و - أحل لكم ليلة الصيام) ولأن
ذلك يروي عن ابن عباس وقال الجماعة يقع على واحدة مبهمة وحكمه حكم ما لو قال إحداكن طالق وإحداكن حرة لأن لفظ الواحد لا يستعمل في الجمع إلا مجازاً والكلام يحمل على حقيقته ما لم يصرفه عنها دليل ولو تساوي الاحتمال لوجب قصره على الواحدة لأنها اليقين فلا يثبت الحكم فيما زاد عليها بأمر مشكوك فيه وهذا أصح والله أعلم * (مسألة) * (وإن طلق واحدة وأنسيها فكذلك عند أصحابنا) أكثر أصحابنا على أنه إذا طلق امرأة من نسائه وأنسيها أنها تخرج بالقرعة فيثبت حكم الطلاق فيها تحل له الباقيات وقد روى اسماعيل بن سعيد عن أحمد ما يدل على أن القرعة لا تستعمل ههنا لمعرفة الحل وإنما تستعمل لمعرفة الميراث فإنه قال سألت أحمد عن الرجل يطلق المرأة من نسائه ولا يعلم أيتهن طلق قال أكره أن أقول في الطلاق بالقرعة قلت أرأيت إن مات هذا؟ قال أقول بالقرعة وذلك لأن القرعة تصير على المال وجماعة من روي عنه القرعة في المطلقة المنسية إنما هو في التوريث فإما في الحل فلا ينبغي أن يثبت بالقرعة وهذا قول أكثر أهل العلم فالكلام إذا في المسألة في شيئين (أحدهما) في استعمال القرعة في المنسية في التوريث (والثاني) في استعمالها فيها للحل أما الأول فوجهه ما روى عبد الله بن حميد قال قال سألت أبا جعفر عن رجل قدم من خراسان وله أربع نسوة قدم البصرة فطلق إحداهن ونكح ثم مات لا يدري الشهود أيتهن طلق؟ فقال قال علي رضي الله عنه أقرع بين الأربع وأنذر منهن واحدة وأقسم بينهن الميراث ولأن الحقوق إذا تساوت على وجه لا يمكن التمييز إلا بالقرعة صح استعمالها لأنها اشتبهت عليه زوجته بأجنبية فلم تحل له إحداهما بالقرعة كما لو اشتبهت أجنبية لم يكن له عليها عقد ولأن القرعة لا تزيل التحريم عن المطلقة ولا ترفع الطلاق عمن وقع عليه ولاحتمال كون المطلقة غير من وقعت عليها القرعة ولهذا لو

(8/460)


ذكر أن المطلقة غيرها حرمت عليه ولو ارتفع التحريم أو زال الطلاق لما عاد بالذكر فيجب بقاء التحريم بعد القرعة كما كان قبلها وقال الخرقي فيمن طلق امرأته فلم يدر واحدة طلق أم ثلاثا؟ ومن حلف بالطلاق لا يأكل تمرة فوقعت في تمر فأكل منه واحدة لا تحل له امرأته حتى يعلم أنها ليست التي وقعت اليمين عليها فحرمها مع أن الأصل بقاء النكاح ولم يعارضه يقين التحريم فههنا أولى وكذلك الحكم فيمن أوقع الطلاق على امرأة بعينها
ثم اشتبهت بغيرها مثل أن يرى امرأة مولية فيقول أنت طالق ولا يعلم عينها من نسائه فإن جميع نسائه يحرمن عليه حتى يعلم المطلقة ويؤخذ بنفقة الجميع لأنهن محبوسات عليه وإن أقرع بينهن لم تفد القرعة شيئاً ولا يحل لمن وقعت عليها القرعة التزويج لأنها يجوز أن تكون غير المطلقة، وقال أصحابنا إذا أقرع بينهن فخرجت القرعة على إحداهن ثبت حكم الطلاق فيها فحل لها النكاح بعد قضاء عدتها وأبيح للزوج من سواها كما لو طلق واحدة غير معينة واحتجوا بما ذكرنا من حديث علي رضي الله عنه ولأنها مطلقة لم تعلم بعينها فأشبه ما لو قال إحداكن طالق ولم يرد واحدة بعينها ولأنه إزالة أحد الملكين المبنيين على التغليب والسراية أشبه العتق، قال شيخنا والصحيح أن القرعة لا مدخل لها ههنا لما ذكرنا من الأدلة وتحرمان عليه كما لو اشتبهت امرأته بأجنبية، وفارق ما قاسوا عليه فإن الحق لم يثبت لواحد بعينه فجعل الشرع القرعة معينة فإنها تصلح للتعيين، وفي مسئلتنا الطلاق واقع على معينة لا محالة والقرعة لا ترفعه عنها ولا توقعه على غيرها ولا يؤمن وقوع القرع على غيرها واحتمال وقوع القرعة على غيرها كاحتمال وقوعها عليها بل هو أظهر من غيرها فإنهن إذا كن أربعا فاحتمال وقوعه في واحدة منهن بعينها أندر من احتمال وقوعه في واحدة من ثلاث وكذلك لو اشتبهت أخته بأجنبية أو ميتة بمذكاة أو زوجته بأجنبية أو حلف بالطلاق لا يأكل تمرة فوقعت في تمر واشباه ذلك مما يطول ذكره لا تدخله قرعة فكذا ههنا وأما حديث علي فهو في الميراث لا في الحل وما نعلم بالقول بها في الحل من الصحابة قائلاً.
* (مسألة) * (فعلى قول اصحابنا إن تبين أن المطلقة غير التي وقعت عليها القرعة بأن يذكر ذلك تبين أنها كانت محرمة عليه ويكون وقوع الطلاق من حين طلق لا من حين ذكر، وقوله في هذا مقبول لأنه يقر على نفسه وترد إليه التي خرجت عليها القرعة لأننا ظهر لنا أنها غير مطلقة والقرعة ليس بطلاق صريح ولا كناية فإن لم تكن تزوجت ردت إليه وقبل قوله في هذا لأنه أمر من جهته لا يعرف إلا من قبله

(8/461)


* (مسألة) * (إلا أن تكون قد تزوجت أو يكون بحكم حاكم لأنها إذا تزوجت فقد تعلق بها
حق الزوج الثاني فلا يقبل قوله في فسخ نكاحه والقرعة من جهة الحاكم بالفرقة لا يمكن الزوج رفعها فتقع الفرقة بالزوجين) قال أحمد في رواية الميموني إذا كان له أربع نسوة فطلق واحدة منهن ولم يدر أيتهن طلق ويقرع بينهن فان وقت القرعة على واحدة ثم ذكر فقال هذه ترجع إليه والتي ذكر أنها التي طلق يقع الطلاق عليها فإن تزوجت فهذا شئ قد مر فإن كان الحاكم أقرع بينهن فلا أحب أن ترجع إليه لان الحاكم في ذلك أكثر منه، وقال أبو بكر وابن حامد تطلق المرأتان ولا يرجع إليه واحدة منهما لأن الثانية حرمت بقوله وترثه إن مات ولا يرثها ويجئ على قياس قولهما أن تلزمه نفقتها ولا يحل وطؤها والأولى بالقرعة (فصل) إذا قال هذه المطلقة قبل منه لما ذكرنا وان قال هذه المطلقة بل هذه طلقتا لأنه أقر بطلاق الأولى فقبل اقراره بطلاق الثانية، ولم يقبل اضرابه عن إقراره بطلاق الأولى وكذلك لو كن ثلاثا فقال هذه بل هذه بل هذه طلقن كلهن، وإن قال هذه أو هذه بل هذه طلقت الثالثة وإحدى الأولتين وإن قال طلقت هذه بل هذه أو هذه طلقت الأولى وإحدى الاخريين، وإن قال أنت طالق أو هذه أو هذه، فقال القاضي هي كذلك وذكر أنه قول الكسائي وقال محمد بن الحسن تطلق الثانية وبقي الشك في الأولى والثالثة، ووجه الأول أنه عطف الأولى على الثانية بغير شك ثم فصل بين الثانية والثالثة بحرف الشك فيكون الشك فيهما ولو قال طلقت هذه أو هذه طلقت الثالثة وكان الشك في الأولتين ويحتمل في هاتين المسئلتين أن يكون الشك في الجميع لأنه في الأولى أتى بحرف الشك بعدهما فيعود اليهما وفي المسألة الثانية عطف الثالثة على الشك فعلى هذا إذا قال طلقت هذه أو هذه وهذه طولب بالبيان فإن قال هي الثالثة طلقت وحدها وإن قال لم أطلقها طلقت الأولتان وإن لم يبين أقرع بين الأولتين والثالثة، قال القاضي في المجرد وهذا أصح، وإن قال ليست الأولى طلقت الأخيرتان كما لو قال طلقت هذه أو هاتين وليس له الوطئ قبل التعيين فإن فعل لم يكن تعيينا وإن ماتت إحداهما لم يتعين الطلاق في الأخرى وقال أبو حنيفة يتعين الطلاق في الأخرى لأنها ماتت قبل ثبوت طلاقها ولنا أن موت إحداهما أو وطأها لا ينفي احتمال كونها مطلقة فلم يكن تعيينا لغيرها مرضها وإن قال طلقت هذه وهذه وهذه والظاهر أنه طلق اثنتين لا يدري أيهما الأولتان أم الآخرتان؟ كما لو

(8/462)


قال طلقت هاتين أو هاتين فإن قال هما الأوليان تعين الطلاق فيهما وإن لم يطلق الأولتين تعين الآخرتان وإن قال إنما أشك في طلاق الثانية والأخريين طلقت الأولى وبقي الشك في الثلاث ومتى فسر كلامه بشئ يحتمل قبل منه.
(فصل) فإن مات بعضهن أو جميعهن أقرعنا بين الجميع خرجت القرعة لها لم نورثها وإن مات بعضهن قبله وبعضهن بعده فخرجت القرعة لميتة قبله حرمناه ميراثها وإن خرجت لميتة بعده حرمناها ميراثه والباقيات يرثهن ويرثنه، فإن قال الزوج بعد موتها هذه التي طلقتها أو قال في غير المعينة هذه التي أردتها حرم ميراثها لأنه يقر على نفسه ويرث الباقيات سواء صدقه ورثتهن أو كذبوه لان علم ذلك إنما يعرف من جهته لأن الأصل بقاء النكاح بينهما وهم يدعون طلاقه إياها والأصل عدمه وهل يستحلف في ذلك؟ فيه روايتان، فإن قلنا يستحلف فنكل حرمناه ميراثها لنكوله ولم يرث الأخرى لاقراره بطلاقها فإن مات فقال ورثته لاحداهن هذه المطلقة فأقرت أو أقر ورثتها بعد موتها حرمناها ميراثه وإن أنكرت أو أنكر ورثتها بقياس ما ذكرناه إن القول قولها لأنها تدعي بقاء نكاحها وهم يدعون زواله والاصل معها فلا يقبل قولهم عليها إلا ببينة وإن شهد اثنان من ورثته أنه طلقها قبلت شهادتهما إذا لم يكونا ممن يتوفر عليهما ميراثها ولا على من لا تقبل شهادتهم له كأمهما وجدتهما لان ميراث إحدى الزوجات لا يرجع إلى ورثة الزوج وإنما يتوفر على ضرائرها وإن ادعت إحدى الزوجات أنه طلقها طلاقاً تبين به فأنكرها فالقول قوله وإن مات لم ترثه لإقرارها بانها لا تستحق ميراثه فقبلنا قولها فيما عليها دون مالها وعليها العدة لأنا لم نقبل قولها فيما عليهما وهذا التفريع فيما إذا كان الطلاق يبينها فإن كان رجعياً ومات في عدتها أو ماتت ورث كل واحد منهما صاحبه (فصل) إذا كان له أربع نسوة فطلق إحداهن ثم نكح أخرى بعد قضاء عدتها ثم مات ولم يعلم أيتهن طلق؟ فللتي تزوجها ربع ميراث النسوة، نص عليه أحمد ولا خلاف فيه بين أهل العلم ثم يقرع بين الأربع فأيتهن خرجت قرعتها حرمت وورثت الباقيات، نص عليه أحمد أيضاً وذهب الشعبي والنخعي وعطاء الخراساني وأبو حنيفة إلى أن الباقي بين الأربع وزعم أبو عبيد أنه قول أهل الحجاز
وأهل العراق جميعاً، وقال الشافعي يوقف الباقي بينهن حتى يصطلحن، ووجه الأول ما تقدم وقد قال أحمد في رواية ابن منصور في رجل له أربع نسوة فطلق واحدة منهن ثلاثاً وواحدة اثنتين وواحدة واحدة ومات على أثر ذلك ولا يدري أيتهن طلق ثلاثاً وأيتهن طلق اثنتين وأيتهن واحدة يقرع بينهن

(8/463)


فالتي أبانها تخرج ولا ميراث لها هذا إذا مات في عدتهن وكان طلاقه في صحته فإنه لا يحرم الميراث إلا المطلقة ثلاثاً والباقيات رجعيات يرثنه في العدة ويرثن ومن انقضت عدتها منهن لم ترثه ولم يرثها ولو كان طلاقه في مرضه الذي مات فيه لورثه الجميع في العدة وفيما بعدها قبل التزويج روايتان (فصل) إذا طلق واحدة لا بعينها أو بعينها فان نسبها فانقضت عدة الجميع فله نكاح خامسة قبل القرعة وخرج ابن حامد وجهاً في أنه لا يصح نكاح الخامسة لأن المطلقة في حكم نسائه بالنسبة إلى وجوب الانفاق عليها وحرمة النكاح في حقها ولا يصح ما قاله لاننا علمنا أن منهن واحدة بائنا منه ليس في نكاحه ولا في عدة من نكاحه فكيف تكون زوجته وإنما الانفاق عليها لأجل حبسها ومنعها من التزوج بغيره لأجل اشتباهها؟ ومتى علمنا بعينها إما بتعيينه أو بقرعة فعدتها من حين طلقها لا من حين عينها، وذكر أبو حنيفة وبعض أصحاب الشافعي أن عدتها من حين التعيين وهذا فاسد فإن الطلاق وقع حين إيقاعه وثبت حكمه في تحريم الوطئ وحرمان الميراث من الزوج وحرمانه منها قبل التعيين فكذلك العدة وإنما التعيين يبين لما كان وقعا فإن مات الزوج قبل التعيين فعلى الجميع عدة الوفاة في قول الشعبي والنخعي وعطاء الخراساني، قال أبو عبيد وهو قول أهل الحجاز والعراق، لأن كل واحدة منهن يحتمل أنها باقية على النكاح والأصل بقاؤه فتلزمها عدته والصحيح أنه يلزم كل واحدة أطول الأجلين من عدة الوفاة وعدة الطلاق لكن عدة الطلاق من حين طلق وعدة الوفاة من حين موته لأن كل واحدة منهن يحتمل أن تكون عليها عدة الوفاة ويحتمل أنها المطلقة فعليها عدة الطلاق فلا تبرأ يقينا إلا بأطولهما وهذا في الطلاق البائن فأما الرجعية فعليها عدة الوفاة بكل حال لأنها زوجة (فصل) إذا ادعت المرأة أن زوجها طلقها فأنكرها فالقول قوله لأنه منكر ولان الأصل بقاء
النكاح فان كان لها بما ادعته بينة قبلت ولا يقبل فيه إلا عدلان، ونقل ابن منصور عن أحمد أنه سئل أتجوز شهادة رجل وامرأتين في الطلاق؟ قال: لا والله إنما كان كذلك لأن الطلاق ليس بمال ولا المقصود منه المال ويطلع عليه الرجال في غالب الأحوال فلم يقبل فيه إلا عدلان كالحدود والقصاص فإن عدمت البينة استحلف في أصح الروايتين نقلها أبو طالب عن أحمد لقول النبي صلى الله عليه وسلم " ولكن اليمين على المدعى عليه - وقوله - اليمين على من أنكر " ولأنه يصح من الزوج بذله فيستحلف فيه كالمهر، ونقل ابن منصور عنه لا يستحلف في الطلاق لأنه لا يقضى فيه بالنكول فلا يستحلف فيه كالنكاح إذا ادعى

(8/464)


زوجيتها فأنكرته فإن اختلفا في عدد الطلاق فالقول قوله لما ذكرنا، فعلى هذا إذا طلق ثلاثاً وسمعت ذلك فأنكر أو ثبت ذلك عندها بقول عدلين لم يحل لها تمكينه من نفسها وعليها أن تفر منه ما استطاعت وتمتنع منه إذا أرادها وتفتدي منه إن قدرت ولا تزين له ولا تقر به وتهرب إن قدرت ولا تقيم معه وهذا قول أكثر أهل العلم قال جابر بن زيد وحماد بن أبي سليمان وابن سيرين تفر منه ما استطاعت وتفتدي منه بكل ما يكن وقال الثوري وابو حنيفة وأبو يوسف تفر منه وقال مالك لا تتزين له ولا تبدي له شيئاً من شعرها ولا يصيبها إلا مكرهة، وروي عن الحسن والزهري والنخعي يستحلف ثم يكون الاثم عليه، والصحيح ما قاله الأولون لأن هذه تعلم أنها أجنبية منه محرمة عليه فوجب عليها الامتناع والفرار منه كسائر الأجانب، وهكذا لو ادعى نكاح امرأة كذباً وأقام بذلك شاهدي زور فحكم له الحاكم بالزوجية أو لو تزوجها تزويجاً باطلاً فسلمت إليه بذلك فالحكم في هذا كالحكم في المطلقة ثلاثاً (فصل) ولو طلقها ثلاثاً ثم جحد طلاقها لم ترثه نص عليه أحمد وبه قال قتادة وابو حنيفة وأبو يوسف والشافعي وابن المنذر وقال الحسن ترثه لأنها في حكم الزوجات ظاهراً ولنا أنها تعلم أنها أجنبية فلم ترثه كسائر الأجنبيات وقال أحمد في رواية أبي طالب تهرب منه ولا تتزوج حتى يظهر طلاقها ويعلم ذلك يجئ فيدعيها فترد عليه وتعاقب، وإن مات ولم يقر بطلاقها لا ترثه لا تأخذ ما ليس لها تفر منه ولا تخرج من البلد ولكن تختفي في بلدها، قيل له فإن بعض الناس قال تقتله هي بمنزلة من يدفع عن نفسه فلم يعجبه ذلك فمنعها من التزوج قبل ثبوت طلاقها لأنها في ظاهر
الحكم زوجة هذا المطلق فإذا تزوجت غيره وجب عليها في ظاهر الحكم العقوبة والرد إلى الأول ويجتمع عليها زوجان هذا بظاهر الأمر وذلك بباطنه ولم يأذن لها في الخروج من البلد لأن ذلك يقوي التهمة في نشوزها ولا في قتله قصداً لأن الدافع عن نفسه لا يقتل قصداً، فأما إن قصدت الدفع عن نفسها فآل إلى نفسه فلا أثم عليها ولا ضمان في الباطن فأما في الظاهر فإنها تؤخذ بحكم القتل ما لم يثبت صدقها (فصل) قال أحمد إذا طلقها ثلاثاً فشهد أربعة أنها وطئها أقيم عليه الحد إنما أوجبه لأنها صارت بالطلاق أجنبية فهي كسائر الأجنبيات بل هي أشد تحريماً لأنها محرمة وطأ ونكاحاً فان جحد طلاقها ووطئها ثم قامت البينة بطلاقه فلا حد عليه وبهذا قال الشعبي ومالك وأهل الحجاز والثوري والاوزاعي وربيعة والشافعي وأبو ثور وابن المنذر لأن جحده لطلاقه يوهمنا أنه نسيه وذلك شبهة

(8/465)


في درء والحد عنه ولا سبيل لنا إلى علم معرفته بالطلاق حالة وطئه إلا باقراره بذلك فإن قال وطئتها عالما بأنني كنت طلقتها ثلاثاً كان إقراراً منه بالزنا فيعتبر فيه ما يعتبر في الإقرار بالزنا * (مسألة) * (وإن طار طائر فقال إن كان هذا غراباً ففلانة طالق وإن لم يكن غراباً ففلانة طالق فهي كالمنسية والحكم فيها على ما ذكرنا فيها لأنها في معناها والخلاف فيها على ما ذكرنا * (مسألة) * (وإن قال إن كان الطائر غرابا ففلانة طالق وإن كان حماماً ففلانه طالق لم يحكم بحنثه في واحدة منهما) لأنه متيقن للنكاح شاك في الحنث فلا يزول عن يقين النكاح بالشك لأنه يحتمل أنه غيرهما (فصل) إذا رأى رجلان طائراً فحلف أحدهما بالطلاق أنه غراب وحلف الآخر أنه حمام فطار ولم يعلما حاله لم يحكم بحنث واحد منهما لأن يقين النكاح ثابت ووقوع الطلاق مشكوك فيه فإن ادعت امرأة أحدهما حنثه فيها فالقول قوله لأن الأصل واليقين في جانبه (فصل) فإن قال أحد الرجلين إن كان غراباً فامرأته طالق ثلاثاً وقال الآخر إن لم يكن غراباً فامرأته طالق ثلاثاً فطار ولم يعلما حاله فقد حنث أحدهما لا بعينه ولا يحكم به في حق واحد منهما بعينه بل يبقى في حقه أحكام النكاح من النفقة والكسوة والسكن لأن كل واحد منهما يقين نكاح باق ووقوع طلاقه مشكوك فيه، فأما الوطئ فذكر القاضي أنه يحرم عليهما لأن أحدهما حانث يقينا فأمرأته محرمة
عليه وقد أشكل فحرم عليهما جميعاً كما لو حنث في إحدى امرأتيه لا بعينها وقال أصحاب الرأي والشافعي لا يحرم على واحد منهما وطئ امرأته لأنه محكوم ببقاء نكاحه عن إحدى زوجتيه قمنا إنما تحقق حنثه في واحدة غير معينة وبالنظر إلى كل واحدة مفردة فيقين نكاحها باق وطلاقها مشكوك فيه لكن لما تحققنا أن إحداهما حرام ولم يمكن تمييزها حرمتا عليه جميعاً وكذلك ههنا قد علمنا أن أحد هذين الرجلين قد طلقت امرأته وحرمت عليه وتعذر التمييز فيحرم الوطئ عليهما ويصير كما لو تنجس أحد الانائين لا بعينه فإنه يحرم استعمال كل واحد منهما سواء كانا لرجل واحد أو لرجلين وقال مكحول يحمل الطلاق عليهما جميعاً ومال إليه أبو عبيد فإن ادعى كل واحدة منهما أنه علم الحال وأنه لم يحنث دين فيما بينه وبين الله تعالى ونحو هذا قال عطاء والشعبي والزهري والحارث العكلي والثوري والشافعي لأن كل واحد منهما يمكن صدقه فيما ادعاه وإن أقر كل واحد منهما أنه الحانث

(8/466)


طلقت زوجتاهما على أنفسهما وإن أقر أحدهما حنث وحده فإن ادعت امرأة أحدهما عليه الحنث فأنكر فالقول قوله وهل يحلف؟ على روايتين * (مسألة) * (فان قال أحدهما إن كان غراباً فعبدي حر وقال الآخر إن لم يكن غراباً فعبدي حر فطار ولم يعلما حاله لم يحكم بعتق واحد من العبدين) لأن الأصل بقاء الرق فإن اشترى أحدهما عبد الآخر بعد أن أنكر حنث نفسه عتق الذي اشتراه لان انكاره حنث نفسه اعتراف منه بحنث صاحبه واقرار منه بعتق الذي اشتراه، وإن اشترى من أقر بحريته عتق عليه، وإن لم يكن منه إنكار ولا اعتراف فقد صار العبدان في يده أحدهما حر لا يعلم عينه فيرجع في تعيينه إلى القرعة وهو قول أبي الخطاب وقال القاضي يعتق الذي اشتراه في الموضعين لأن تمسكه بعبده اعتراف منه برقه وحرية صاحبه وهذا مذهب الشافعي ولنا أنه لم يعترف لفظاً ولا فعل ما يلزم منه الاعتراف فإن الشرع سوغ له إمساك عبده مع الجهل استناداً إلى الأصل فكيف يكون معترفاً مع تصريحه بأنني لا أعلم الحر منهما؟ وإنما اكتفينا في إبقاء رق عبده باحتمال الحنث في حق صاحبه فإذا صار العبدان له وأحدهما حر لا بعينه صار كأنهما كانا له فاعتق
أحدهما وحده فيقرع بينهما حينئذ، فإن كان الحالف واحداً فقال إن كان غراباً فعبدي حر وإن لم يكن غراباً فأمتي حرة ولم يعلم حاله فإنه يقرع بينهما فيعتق أحدهما، فإن ادعى أحدهما أنه الذي أعتق أو إدعى كل واحد منهما ذلك فالقول قول السيد مع يمينه (فصل) فإن قال إن كان غراباً فنساؤه طوالق وإن لم يكن غراباً فعبيده أحرار ولم يعلم حاله منه من التصرف في الملكين حتى يبين وعليه نفقة الجميع فإن كان غراباً طلق نساؤه ورق عبيده فإن ادعى العبيد أنه لم يكن غراباً ليعتقوا فالقول قول السيد وهل يحلف؟ يخرج على روايتين، وإن لم يكن غراباً عتق عبيده ولم تطلق النساء فإن ادعين أنه كان غراباً ليطلقن فالقول قوله وفي تحليفه وجهان وكل موضع قلنا يستحلف فنكل قضي عليه بنكوله وإن قال لا أعلم ما الطائر فقياس المذهب أن يقرع بينهما فإن وقعت القرعة على الغراب طلق النساء ورق العبيد وإن وقعت على العبيد عتقوا ولم تطلق النساء وهذا قول أبي ثور وقال أصحاب الشافعي إن وقعت القرعة على العبيد عتقوا وإن وقعت على النساء لم يطلقن ولم يعتق العبيد لأن القرعة لها مدخل في العتق لكون النبي صلى الله عليه وسلم أقرع بين العبيد الستة ولا مدخل لها في الطلاق لأنه لم ينقل مثل ذلك

(8/467)


فيه ولا يمكن قياسه على العتق لان الطلاق حل قيد النكاح والقرعة لا تدخل في النكاح والقرعة حل الملك، والقرعة تدخل في تمييز الأملاك قالوا ولا يقرع بينهم إلا بعد موته.
قال شيخنا ويمكن أن يقال على هذا أن ما لا يصلح للتعيين في حق الموروث لا يصح في حق الوارث كما لو كانت اليمين في زوجتين ولأن الاماء محرمات على الموروث تحريماً لا تزيله القرعة فلم يبحن للوارث بها كما لو تعين العتق فيهن.
* (مسالة) * (إذا قال لامرأته واجنبية إحداكما طالق، أو قال لحماته ابنتك طالق أو قال سلمى طالق، واسم امرأته سلمى، طلقت امرأته) لأنه لا يملك طلاق غيرها ولأنه إزالة ملك أشبه ما لو باع ماله ومال غيره صح في ماله دون غيره فإن قال أردت الأجنبية لم يصدق.
قال أحمد في رجل تزوج امرأة فقال لحماته ابنتك طالق وقال أردت ابنتك الأخرى التي ليست بزوجتي فلا يقبل منه.
وقال في رواية أبي داود في رجل له امرأتان اسماهما فاطمة ماتت إحداهما فقال فاطمة طالق ينوي الميتة فقال الميتة تطلق؟ قال أبو داود كأنه أراد في الرواية الأولى أن لا نصدقه في الحكم، وفي الثانية يدين.
وقال القاضي فيما إذا نظر إلى امرأته وأجنبية فقال إحداكما طالق وقال أردت الأجنبية فهل يقبل؟ على روايتين.
وقال الشافعي يقبل ههنا ولا يقبل فيما إذا قال سلمى طالق وقال أردت أجنبية اسمها سلمى لأن سلمى لا يتناول الأجنبية بصريحه بل من جهة الدليل وقد عارضه دليل آخر وهو أن لا تطلق غير زوجته فصار اللفظ في زوجته أظهر فلم يقبل خلافه.
أما إذا قال إحداكما فانه تناول الأجنبية بصريحه، وقال أصحاب الرأي وأبو ثور يقبل في الجميع لأنه فسر كلامه بما يحتمله.
ولنا أنه لا يحتمل غير امرأته على وجه صحيح فلم يقبل تفسيره به كما لو فسر كلامه بما لا يحتمله وكما لو قال سلمى طالق عند الشافعي، ولا يصح ما ذكروه من الفرق فإن قوله إحداكما ليس بصريح في واحدة منهما بعينها وسلمى يتناول واحدة لا بعينها ثم تعينت الزوجة لكونها محلاً للطلاق وخطاب غيرها به عبث كما لو قال إحداكما طالق ثم لو تناولها بصريحه لكن صرفه عنها دليل فصار ظاهراً في غيرها فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما قال للمتلاعنين " أحداكما كاذب " لم ينصرف إلا إلى الكاذب منهما وحده ولما قال حسان يعني النبي صلى الله عليه وسلم وأبا سفيان * فشركما لخيركما الفداء * لم ينصرف شرهما إلا إلى أبي سفيان وخيرهما إلى النبي صلى الله عليه وسلم وحده وهذا في الحكم، وأما فيما بينه وبين الله تعالى فيدين فيه فمتى علم من

(8/468)


نفسه أنه أراد الأجنبية لم تطلق زوجته لأن اللفظ محتمل له وإن كان غير مقيد، ولو كانت ثم قرينة دالة على إرادته الأجنبية مثل أن يدفع بيمينه ظلما أو يتخلص بها من مكروه قبل قوله في الحكم لوجود الدليل الصارف اليها وان لم ينو زوجته ولا الأجنبية طلقت زوجته لأنها محل الطلاق واللفظ يحتملها ويصلح لها ولم يصرفه عنها فوقع بها كما لو نواها * (مسألة) * (فإن نادى امرأته فأجابته امرأة له أخرى فقال أنت طالق بظنها المناداة طلقت
في إحدى الروايتين) وهو قول النخعي وقتادة والاوزاعي وأصحاب الرأي واختاره ابن حامد لأنه خاطبها بالطلاق وهي محل له فطلقت كما لو قصدها (والثانية) تطلق التي ناداها وحدها وهو قول الحسن والزهري وابي عبيد، قال أحمد في رواية مهنا في رجل له امرأتان فقال فلانه أنت طالق فالتفت فإذا هي غير التي حلف عليها قال: قال ابراهيم يطلقان والحسن يقول تطلق التي نوى، قيل له ما تقول أنت، قال تطلق التي نوى وذلك لأنه لم يقصدها بالطلاق فلم تطلق كما لو أراد أن يقول أنه طاهر فسبق لسانه فقال أنت طالق، وقال أبو بكر لا يختلف كلام أحمد أنها لا تطلق، وقال الشافعي تطلق المجيبة وحدها لأنها مخاطبة بالطلاق فطلقت كما لو لم ينو غيرها ولا تطلق المنوية لأنه لم يخاطبها بالطلاق ولم يعترف بطلاقها، وهذا يبطل بما لو علم أن المجيبة غيرها فإن المنوية تطلق بارادتها بالطلاق ولولا ذلك لم تطلق بالاعتراف به لأن الاعتراف بما لا يوجب لا يوجب ولان التي لم تجب مقصودة بلفظ الطلاق فطلقت كما لو علم الحال، فإن قال علمت أنها غيرها واردت طلاق المناداة طلقتا معاً في قولهم جميعاً، وإن قال أردت طلاق الثانية وحدها طلقت وحدها لقصده لها وخطابه * (مسالة) * (وإن لقي أجنبية ظنها زوجته فقال فلانه أنت طالق فإذا هي أجنبية طلقت زوجته) نص عليه أحمد وقال الشافعي لا تطلق لأنه خاطب بالطلاق غيرها فلم يقع كما لو علم أنها اجنبية فقال أنت طالق ولنا أنه قصد زوجته بلفظ الطلاق واحتمل أن لا تطلق لأنه لم يخاطبها بالطلاق ولا ذكر اسمها معه وأن علمها اجنبية وأراد بالطلاق زوجته طلقت وإن لم يردها بالطلاق لم تطلق (فصل) وإن لقي امرأته فظنها اجنبية فقال أنت طالق أو تنحي يا مطلقة أو لقي أمته فظنها أجنبية فقال أنت حرة أو تنحي يا حرة فقال أبو بكر فيمن لقي امرأة فقال تنحي يا مطلقة أو يا حرة

(8/469)


وهو لا يعرفها فإذا هي زوجته أو أمته لا يقع بهما طلاق ولا حرية لأنه لم يردهما بذلك فلم يقع بهما شئ
كسبق اللسان إلى ما لم يرده ويحتمل أن لا تعتق الأمة لأن عادة الناس مخاطبة من لا يعرفها بقوله يا حرة وتطلق الزوجة لعدم العادة في المخاطبة بقوله يا مطلقة