الشرح الكبير على متن المقنع

كتاب الرضاع الأصل في التحريم بالرضاع الكتاب والسنة والإجماع أما الكتاب فقول الله سبحانه وتعالى (وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة) ذكرهما الله سبحانه في جملة المحرمات وأما السنة فما روت عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " إن الرضاعة تحرم ما تحرم الولادة " متفق عليه وفي لفظ " يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب " رواه النسائي وعن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في بنت حمزة " لا تحل لي يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب وهي ابنة أخي من الرضاعة " متفق عليه في أخبار كثيرة نذكر أكثرها في تضاعيف الباب إن شاء الله تعالى وأجمع علماء الأمة على التحريم بالرضاع إذا ثبت ذلك فإن تحريم الأم والاخت ثبت بنص الكتاب وتحريم البنت بالبينة فإنه إذا حرمت الأخت فالبنت أولى وسائر المحرمات ثبت تحريمهن بالسنة وتثبت المحرمية لأنها فرع على التحريم إذا كان

(9/191)


بسبب مباح وأما بقية أحكام النسب من النفقة والإرث والعتق ورد الشهادة وغير ذلك فلا يتعلق به لأن النسب أقوى منه فلا يقاس عليه في جميع أحكامه وإنما شبه به فيما نص عليه فيه (مسألة) (إذا حملت المرأة من رجل ثبت نسب ولدها منه فثاب لها لبن فارضعت به طفلاً صار ولداً لهما في تحريم النكاح وإباحة النظر والخلوة وثبوت المحرمية وأولاده وإن سلفوا أولاد أولادهما وصار أبويه وآباؤهما أجداده وجداته وإخوة المرأة وأخواتها أخواله وخالاته وإخوة الرجل وأخواته أعمامه وعماته وتنتشر حرمة الرضاع من المرتضع إلى أولاده وأولاد أولاده وإن سفلوا فيصيرون أولاداً لهما) وجملة ذلك أن المرأة إذا حملت من رجل يثبت نسب ولدها منه وثاب لها منه لبن فارضعت به طفلاً رضاعاً محرماً صار الطفل المرضع ابناً للمرضعة بغير خلاف وصار أيضاً ابناً لمن نسب الحمل إليه فصار في التحريم وإباحة النظر والخلوة ولداً لهما وأولاده من البنين والبنات وأولاد أولادهما وإن نزلت
درجتهم وجميع أولاد المرأة المرضعة من زوجها ومن غيره وجميع أولاد الرجل الذي نسب الحمل إليه من المرضعة وغيرها إخوة المرتضع وأخواته وأولاد أولادهما أولاد إخوته وأخواته وإن نزلت درجتهم وأم المرضعة جدته وأبوها جده وإخوتها أخواله وأخواتها خالاته وأبو الرجل جده وأمه جدته واخوته أعمامه وأخواته عماته وجميع أقاربهما ينسبون إلى المرتضع كما ينسبون إلى ولدهما من النسب لأن اللبن الذي ثاب للمرأة مخلوق من ماء الرجل والمرأة فنشر التحريم أليهما ونشر الحرمة إلى الرجل وإلى

(9/192)


أقاربه وهو الذي يسمى لبن الفحل وفي التحريم به اختلاف ذكر في باب المحرمات في النكاح، والحجة فيه ما روت عائشة أن أفلح أخا أبي القعيس استأذن علي بعد ما أنزل الحجاب فقلت والله لا آذن له حتى استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت يا رسول الله إن الرجل ليس هو أرضعني ولكن أرضعتني المرأة فقال " ائذني له فإنه عمك تربت يمينك " قال عروة فبذلك كانت عائشة تأخذ بقول " حرموا من الرضاع ما تحرموا من النسب " متفق عليه وسئل ابن عباس عن رجل تزوج امرأتين فأرضعت إحداهما جارية والأخرى غلاماً هل يتزوج الغلام الجارية؟ فقال لا اللقاح واحد.
قال مالك اختلف قديماً في الرضاعة من قبل الأب ونزل برجال من أهل المدينة في أزواجهم منهم محمد بن المنكدر وابن أبي حبيبة فاستفتوا في ذلك فاختلف عليهم ففارقوا زوجاتهم، فأما الولد المرتضع فإن الحرمة تنتشر إليه وإلى أولاده وإن نزلوا (مسألة) (ولا ينتشر إلى من في درجته من إخوته وأخواته ولا من هو أعلى منه من آبائه وأمهاته وأعمامه وعماته وأخواله وخالاته فلا تحرم المرضعة على أبي المرتضع ولا أخيه، ولا تحرم أم المرتضع ولا أخته على أبيه من الرضاع ولا أخيه فيجوز للمرضعة نكاح أبي الطفل المرتضع وأخيه وعمه وخاله، ولا يحرم على زوج المرضعة نكاح أم الطفل المرتضع ولا أخته ولا عمته ولا خالته، ولا بأس أن يتزوج أولاد المرضعة وأولاد زوجها إخوة الطفل المرتضع وأخواته)

(9/193)


قال أحمد لا بأس أن يتزوج الرجل أخت أخيه من الرضاع ليس بينهما رضاع ولا نسب وإنما الرضاع بين الجارية وأخيه
(مسألة) (وإن أرضعت بلبن ولدها من الزنا طفلاً صار ولداً لها وحرم على الزاني تحريم المصاهرة ولم تثبت حرمة الرضاع في حقه في قول الخرقي وقال أبو بكر تثبت) قال أبو الخطاب وكذلك الولد المنفي باللعان الذي ذكره شيخنا في الكتاب المشروح أن من شرط ثبوت الحرمة بين المرتضع وبين الرجل الذي ثاب اللبن بوطئه أن يكون لبن حمل ينسب إلى الواطئ كالوطئ في نكاح أو وطئ يملك يمين أو شبهة، فأما لبن الزاني والولد المنفي باللعان فلا ينشر الحرمة بينهما في مفهوم كلام الخرقي وهو قول ابن حامد ومذهب الشافعي، وقال أبو بكر عبد العزيز ينشر الحرمة بينهما لأنه معنى ينشر الحرمة فاستوى فيه مباحة ومحظورة كالوطئ، يحققه ان الوطئ حصل منه لبن وولد ثم إن الولد ينشر الحرمة بينه وبين الواطئ كذلك اللبن، ولأنه رضاع ينشر الحرمة إلى المرضعة فينشرها إلى الواطئ كصورة الإجماع، ووجه القول الأول أن التحريم بينهما فرع لحرمة الأبوة فلما لم تثبت حرمة الأبوة لم يثبت ما هو فرع لها، ويفارق تحريم ابنته من الزنا لأنها من نطفته حقيقة بخلاف مسئلته، ويفارق تحريم المصاهرة فإن التحريم ثم لا يقف على ثبوا النسب ولهذا تحرم أم زوجته وابنتها من غير نسب وتحريم الرضاع مبني على النسب ولهذا قال عليه الصلاة السلام " يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب "

(9/194)


وقال أبو الخطاب في الولد المنفي باللعان انه في تحريم الرضاع على الملاعن كتحريم ولد الزنا على الزاني، قال شيخنا ويحتمل أن لا يثبت حكم الرضاع في حق الملاعن بحال لأنه ليس بولده حقيقة ولا حكماً، فأما المرضعة فإن الطفل المرتضع محرم عليها ومنسوب إليها عند الجميع وكذلك يحرم جميع أولادها واقاربها الذين يحرمون على أولادها على هذا المرتضع كما في الرضاعة باللبن المباح، وإن كان المرتضع جارية حرمت على الملاعن بغير خلاف أيضاً لانها ريبته فإنها بنت امرأته من الرضاع وتحرم على الزاني عند من برى تحريم المصاهرة وكذلك تحريم بناتها وبنات المرضع من العلماء كذلك (مسألة) (وإن وطئ رجلان امرأة بشبهة فأتت بولد فأرضعت بلبنه طفلاً صار ابناً لمن يثبت نسب المولود منه سواء ثبت بالقافة أو بغيرها) لأن تحريم الرضاع فرع على ثبوت النسب وإن ألحق بهما كان المرتضع ابناً لهما لأن المرتضع في
كل موضع تبع للمناسب فمتى لحق المناسب بشخص فالمرتضع مثله وإن لم يلحق بواحد منهما ثبت التحريم بالرضاع في حقهما وإذا لم يثبت نسبه منهما لتعذر القافة أو لاشتباهه عليهم أو نحو ذلك حرم عليهما تغليباً للحظر فإنه يحتمل أن يكون منهما ويحتمل أن يكون ابن أحدهما فيحرم عليه أقاربه دون أقارب

(9/195)


الآخر فقد اختلطت اخته بغيرها فحرم الجميع كما لو علم أخته بعينها ثم اختطلت بأجنبيات، وإن انتفى عنهما جميعاً بأن تأتي به لدون ستة أشهر من وطئهما أو لأكثر من أربع سنين من وطئ الآخر انتفى المرتضع عنهما ايضاً، فإن كان المرتضع جارية حرمت عليهما تحريم المصاهرة وتحرم أولادهما عليهما أيضاً لأنها ابنة موطوءتهما فهي ابنة لهما (مسألة) (وإن ثاب لامرأة لبن من غير حمل تقدم لم ينشر الحرمة نص عليه في لبن البكر وعنه ينشرها ذكرها ابن أبي موسى) قال شيخنا والظاهر أنه قول ابن حامد ومذهب مالك والثوري والشافعي وأبي ثور وأصحاب الرأي وابن المنذر لقول الله تعالى (وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم) ولأنه لبن امرأة فتعلق به التحريم كما لو ثاب بوطئ ولأن ألبان النساء خلقت لغذاء الأطفال وإن كان هذا نادراً فجنسه معتاد (والرواية الثانية) لا ينشر الحرمة لأنه نادر لم تجر العادة به لتغذية الأطفال فأشبه لبن الرجال والأول أصح (مسألة) (ولا ينشر الحرمة غير لبن المرأة فلو ارتضع طفلان من رجل أو بهيمة أو خنثى مشكل لم ينشر الحرمة وقال ابن حامد يوقف أمر الخنثى حتى يتبين أمره) وجملة ذلك أن ابنين لو ارتضعا من بهيمة لم يصيرا أخوين في قول عامة أهل العلم منهم الشافعي

(9/196)


وابن القاسم وأبو ثور وأصحاب الرأي وكذلك لو ارتضعا من رجل لم يصيرا أخوين ولم تنشر الحرمة بينه وبينهما في قول علمتهم وقال الكرابيسي يتعلق به التحريم لأنه لبن آدمي اشبه لبن المرأة، وحكي عن بعض السلف أنهما إذا ارتضعا من لبن بهيمة صارا أخوين وليس ذلك صحيحاً لأن هذا لا يتعلق به تحريم الأمومة فلا يثبت به تحريم الأخوة لأن الأخوة فرع على الأمومة، وكذلك لا يتعلق به تحريم
الأبوة ولأن هذا اللبن لم يخلق لغذاء المولود الآدمي فلم يتعلق به التحريم كسائر الطعام، فإن ثاب لخنثى مشكل لبن لم يثبت به التحريم لأنه لم يثبت كونه امرأة فلا يثبت التحريم مع الشك، وقال ابن حامد يقف الأمر حتى ينكشف أمر الخنثى، فعلى هذا يثبت التحريم إلى أن يتقين كونه رجلاً لأنه لا يأمن كونه محرماً (فصل) قال الشيخ رحمه الله (ولا تثبت الحرمة بالرضاع إلا بشرطين) (أحدهما) أن يرتضع في الحولين فلو ارتضع بعدهما بلحظة لم يثبت هذا قول أكثر أهل العلم روي نحو ذلك عن عمر وعلي وابن عمر وابن مسعود وابن عباس وأبي هريرة وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم سوى عائشة وإليه ذهب الشعبي وابن شبرمة والاوزاعي والشافعي واسحاق وأبو يوسف ومحمد وأبو ثور ورواية عن مالك، وروي عنه إن زاد شهراً جاز، وروي شهران وقال أبو حنيفة: يحرم الرضاع في ثلاثين شهراً لقوله سبحانه (وحمله وفصاله ثلاثون شهرا) ولم يرد بالحمل حمل الأحشاء لأنه يكون سنتين فعلم أنه أراد الحمل في الفصال، وقال زفر: مدة الرضاع ثلاث سنين وكانت عائشة رضي الله عنها

(9/197)


ترى رضاعة الكبير تحرم ويروى هذا عن عطاء والليث وداود لما روي أن سهلة بنت سهيل قالت: يا رسول الله إنا كنا نرى سالماً ولداً فكان يأوي معي ومع أبي حذيفة في بيت واحد ويراني فضلاً وقد أنزل الله فيهم ما قد علمت فكيف ترى فيه؟ فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم " أرضيعه " فأرضعته خمس رضعات فكان بمنزلة ولدها فبذلك كانت عائشة تأخذ: تأمر بنات أخواتها وبنات إخوتها يرضعن من أحبت عائشة أن يراها ويدخل عليها وإن كان كبيراً، وأبت ذلك أم سلمة وسائر أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدخل عليهن بتلك الرضاعة أحد من الناس حتى يرضع في المهد وقلن لعائشة والله ما ندري لعلها رخصة من النبي صلى الله عليه وسلم لسالم دون الناس رواه النسائي وأبو داود وغيرهما ولنا قول الله تعالى (والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة) فجعل تمام الرضاعة حولين كاملين فيدل على أنه لا حكم لها بعدهما، وعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل عليها وعندها رجل فتغير وجه النبي صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله أنه أخي من الرضاع فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " انظرن من إخوانكن فإنما الرضاعة من المجاعة " متفق عليه وعن أم سلمة
قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا يحرم من الرضاع إلا ما فتق الأمعاء وكان قبل الفطام " أخرجه الترمذي وقال حديث حسن صحيح وعند هذا يتعين حمل خبر أبي حذيفة على أنه خاص له دون الناس كما قال سائر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وقول أبي حنيفة تحكم يخالف ظاهر الكتاب والسنة وقول الصحابة

(9/198)


فقد روينا عن ابن عباس أن المراد بالحمل البطن وبه استدل على أن أقل الحمل ستة أشهر، وقد دل على هذا قول الله تعالى (وفصاله في عامين) فلو حمل على ما قاله أبو حنيفة لكان مخالفاً لهذه الآية: إذا ثبت هذا فالاعتبار بالعامين لا بالفطام فلو فطم قبل الحولين ثم ارتضع فيهما حصل التحريم ولو لم يفطم حتى يجاوز الحولين ثم ارتضع بعدهما قبل الفطام لم يثبت التحريم، وقال ابن القاسم صاحب مالك لو ارتضع بعد الفطام في الحولين لم يحرم لقوله عليه الصلاة والسلام " وكان قبل الفطام " ولنا قوله سبحانه (والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين) وروي عنه عليه الصلاة والسلام " لا رضاع إلا ما كان في الحولين " والفطام معتبر بمدته لا بنفسه (مسألة) (فلو ارتضع بعدهما بلحظة لم يثبت التحريم وقال أبو الخطاب إذا ارتضع بعد الحولين بساعة لم يحرم وقال القاضي لو شرع في الخامسة فحال الحول قبل كمالها لم يثبت التحريم) ولا يصح هذا لأن ما وجد من الرضعة في الحولين كاف في التحريم بدليل ما لو انفصل مما بعده فلا ينبغي أن يسقط حكمه باتصال ما لا أثر له به (الثاني) (أن يرتضع خمس رضعات وعنه ثلاث يحرمن وعنه واحدة) الصحيح من المذهب أن الذي يتعلق به التحريم خمس رضعات فصاعداً روي هذا عن عائشة وابن مسعود وابن الزبير وعطاء وطاوس وهو قول الشافعي، وعن أحمد رواية ثانية أن قليل الرضاع يحرم كما يحرم كثيره وروي ذلك عن

(9/199)


علي وابن عباس وبه قال سعيد بن المسيب والحسن ومكحول والزهري وقتادة والحكم وحماد ومالك والاوزاعي والثوري والليث وأصحاب الرأي وزعم الليث أن المسلمين أجمعوا على أن قليل الرضاع وكثيره يحرم في المهد ما يفطر به الصائم، واحتجوا بقول الله تعالى (وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم
وأخواتكم من الرضاعة) وقوله عليه الصلاة والسلام " يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب " وعن عقبة بن الحارث أنه تزوج أم يحيى بنت أبي أهاب فجاءت سوداء فقالت قد أرضعتكما فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال " وكيف وقد زعمت أن قد أرضعتكما؟ " متفق عليه ولأنه فعل يتعلق به تحريم مؤبد فلم يعتبر فيه العدد كحريم أمهات النساء ولا يلزم اللعان لأنه قول (والرواية الثالثة) لا يحرم إلا ثلاث رضعات وبه قال أبو ثور وأبو عبيد وداود وابن المنذر لقول النبي صلى الله عليه وسلم " لا تحرم المصة ولا المصتان " وعن أم الفضل بنت الحارث قالت قال نبي الله صلى الله عليه وسلم " لا تحرم إلا ملاجة ولا الا ملاجتان " رواهما مسلم ولأن ما يعتبر فيه العدد والتكرار يعتبر فيه الثلاث، وروي عن حفصة لا يحرم دون عشر رضعات وروي ذلك عن عائشة لأن عروة روي في حديث سهلة فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بلغنا " أرضعيه عشر رضعات فيحرم بلبنها " ولنا ما روى عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: أنزل في القرآن عشر رضعات معلومات يحرمن فنسخ من ذلك خمس وصار إلى خمس رضعات معلومات يحرمن فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم والأمر

(9/200)


على ذلك رواه مسلم، وروى مالك عن الزهري عن عروة عن عائشة عن سهلة بنت سهيل " أرضعي سالماً خمس رضعات " فتحرم بلبنها ولأنها فسرتها السنة وبينت الرضاعة المحرمة وصريح ما رويناه يخص مفهوم ما رووه فيجمع بين الأخبار بحملها على الصريح الذي رويناه (مسألة) (ومتى أخذ الثدي فامتص منه ثم تركه أو قطع فهي رضعة فإن عاد فأخذه فهي رضعة أخرى بعد ما بينهما أو قرب) يشترط أن تكون الرضعات متفرقات، وبه قال الشافعي والمرجع في معرفة الرضعة إلى العرف لأن الشرع ورد به مطلقاً ولم يحدها بزمن ولا مقدار فدل على أنه ردهم إلى العرف فإذا ارتضع الصبي وقطع قطعا بينا باختياره كان ذلك رضعة فإذا عاد كانت رضعة أخرى فأما إن قطع لضيق نفس أو للانتقال من ثدي إلى ثدي أو لشئ يلهيه أو قطعت عليه المرضعة فإن لم يعد قريباً فهي رضعة فإن عاد في الحال ففيه وجهان (أحدهما) أن الأول رضعة فإذا عاد فهي رضعة أخرى وهذا اختيار أبي بكر وظاهر كلام أحمد
في رواية حنبل فإنه قال أما ترى الصبي يرضع من الثدي فإذا أدركه النفس أمسك عن الثدي ليتنفس ويستريح؟ فإذا فعل ذلك فهي رضعة وذلك لأن الأولى رضعة لو لم يعد فكانت رضعة وإن عاد كما لو قطع باختياره

(9/201)


(والوجه الآخر) ان جميع ذلك رضعة وهو مذهب الشافعي إلا فيما إذا قطعت عليه المرضعة ففيه وجهان لأنه لو حلف لا أكلت اليوم إلا أكلة واحدة فاستدام الأكل زمناً أو قطع لشرب ماء أو انتقال من لون إلى لون أو انتظار لما يحمل إليه من الطعام لم يعد إلا أكلة واحدة فكذا ههنا والأولى أولى لأن اليسير من السعوط والوجور رضعة فكذا هذا، وقال ابن حامد إن قطع لعارض وعاد في الحال فهي رضعة وإن تباعدوا وانتقل من امرأة إلى أخرى فهما رضعتان كما ذكرنا في الأكل (مسألة) (والسعوط والوجور كالرضاع في إحدى الروايتين) السعوط أن يصيب في أنفه اللبن من إناء أو غيره فيدخل والوجور أن يصيب في حلقه من غير الثدي) واختلفت الرواية في التحريم بها فأصبح الروايتين أن التحريم يثبت بهما كما يثبت بالرضاع، وهو قول الشعبي والثوري وأصحاب الرأي وبه قال مالك في الوجور (والثانية) لا يثبت التحريم بهما وهو اختيار أبي بكر ومذهب داود وعطاء الخراساني في السعوط لأن هذا ليس برضعا وإنما حرم الله تعالى ورسوله بالرضاع، ولأنه حصل من غير ارتضاع فأشبه مال وحصل من جرح في بدنه ولنا ما روى ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم " لا رضاع إلا ما أنشز العظم وأنبت اللحم " رواه أبو داود ولأن هذا يصل إليه اللبن كما يصل بالارتضاع ويحصل به من إنبات اللحم وإنشاز العظم ما يحصل بالرضاع فيجب أن يساويه في التحريم والأنف سبيل لفطر الصائم فكان سبيلاً للتحريم كالرضاع بالفم

(9/202)


(فصل) وإنما يحرم من ذلك كالذي يحرم بالرضاع وهو خمس في الرواية المشهورة فإنه فرع على الرضاع فيأخذ حكمه فإن ارتضع دون الخمس وكمل الخمس بسعوط ووجور أو أسعط وأوجر وكمل الخمس برضاع ثبت التحريم لأنا جعلناه كالرضاع في أصل التحريم فكذلك في إكمال العدد ولو حلب
في إناء لبناً دفعة واحدة ثم سقى الغلام في خمسة أوقات فهو خمس رضعات فإنه لو أكل من طعام خمس دفعات متفرقات لكان قد أكل خمس أكلات وإن حلب في إناء خمس حلبات في خمسة أوقات ثم سقي دفعة واحدة كان رضعة واحدة كما لو جعل الطعام في إناء واحد في خمسة أوقات ثم أكله دفعة واحدة كان أكلة واحدة، وحكي عن الشافعي في الصورتين عكس ما قلناه اعتباراً بخروجه من المرأة لأن الاعتبار بالرضاع والوجور فرعه ولنا أن الاعتبار بشرب الصبي له لأنه المحرم ولهذا يثبت التحريم به من غير رضاع، ولو ارتضع بحيث يصل إلى فيه ثم مجه لم يثبت التحريم فكان الاعتبار به وما وجد منه إلا دفعة واحدة فكان رضعة واحدة وإن سقاه في أوقات فقد وجد في خمسة أوقات فكان خمس رضعات فأما إن سقاه اللبن المجموع جرعة بعد جرعة متتابعة، فظاهر قول الخرقي أنه رضعة واحدة لأن المعتبر في الرضعة العرف وهم لا يعدون هذا رضعات فأشبه ما لو أكل الطعام لقمة بعد لقمة فإنه لا يعد أكلات ويحتمل أن يخرج على ما إذا قطعت عليه المرضعة الرضاع على ما قدمناه

(9/203)


(فصل) فإن عمل اللبن جبناً ثم أطعمه الصبي ثبت به التحريم، وبه قال الشافعي وقال أبو حنيفة لا يحرم به لزوال الإسم، وكذلك على الرواية التي نقول لا يثبت التحريم بالوجور لا يثبت ههنا بطريق الأولى.
ولنا أنه واصل من الحلق يحصل به إنبات اللحم وإنشاز العظم فحصل به التحريم كما لو شربه (مسألة) (ويحرم لبن الميتة واللبن المشوب ذكره الخرقي وقال أبو بكر لا يثبت التحريم بهما) المنصوص عن أحمد في رواية إبراهيم الحربي في لبن الميتة أنه ينشر الحرمة، وهو اختيار أبي بكر وقول أبي ثور والاوزاعي وابن القاسم وأصحاب الرأي وابن المنذر وقال أبو بكر الخلال لا ينشر الحرمة وتوقف عنه أحمد في رواية مهنا، وهو مذهب الشافعي لأنه لبن ممن ليس هو بمحل للولادة فلم يتعلق به التحريم كلبن الرجل ولنا أنه وجد الرضاع على وجه يثبت اللحم وينشز العظم من امرأة فأثبت التحريم كحال الحياة
ولانه لا فارق بين شربه في حياتها وموتها إلا الحياة والموت أو النجاسة وهذا لا أثر له فإن اللبن لا يموت والنجاسة لا تؤثر كما لو حلب في إناء نجس ولأنه لو حلب منها في حياتها فشربه به بعد موتها لنشر الحرمة وبقاؤه في ثديها لا يمنع ثبوت الحرمة لأن ثديها لا يزيد على الاتاء في عدم الحياة وهي لا تزيد على عظم الميتة في ثبوت النجاسة

(9/204)


(فصل) ولو حلبت المرأة لبنها في إناء ثم ماتت فشربه صبي نشر الحرمة في قول كل من جعل الوجور محرماً، وبه قال أبو ثور والشافعي وأصحاب الرأي وذلك لأنه لبن امرأة حلب في حياتها فأشبه ما لو شربه وهي في الحياة.
(مسألة) (ويحرم اللبن المشوب) ذكره الخرقي والمشوب المختلط بغيره وسواء اختلط بطعام أو شراب أو غيره في قول الخرقي وبه قال الشافعي وقال أبو بكر قياس قوله أحمد أنه لا يحرم لأنه وجور وقال ابن حامد إن غلب اللبن حرم وإلا فلا وهو قول أبي ثور والمزني لأن الحكم للأغلب ولأنه يزول بذلك الإسم والمعنى، ونحوه قول أصحاب الرأي وزادوا فقالوا إن كانت النار مست اللبن حتى أنضجت الطعام أو حتى تغير فليس برضاع ووجه الأول أن اللبن متى كان ظاهرا فقد حصل شربه ويحصل به إنبات اللحم وإنشاز العظم فحرم كما لو كان غالباً وهذا فيما إذا كانت صفات اللبن باقية فأما إن صب في ماء كثير لم يتغير به لم يثبت به التحريم لأن هذا ليس بمشوب ولا يحصل به التغذي ولا إنبات اللحم وإنشاز العظم، وحكي عن القاضي أن التحريم يثبت به وهو قول الشافعي لأن أجزاء اللبن حصلت في بطته أشبه ما لو كان لونه ظاهراً ولنا أن هذا ليس برضاع ولا في معناه فوجب أن لا يثبت حكمه فيه (فصل) فإن حلب من نسوة وسقي الصبي فهو كما لو ارتضع من كل واحدة منهن لأنه لو شيب

(9/205)


بماء أو عسل لم يخرج عن كونه رضاعاً محرماً فكذلك إذا شيب بلبن آخر (مسألة) (والحقنة لا تنشر الحرمة نص عليه وقال ابن حامد ينشرها) المنصوص عن أحمد أن الحقنة لا تحرم قاله أبو الخطاب وهو مذهب أبي حنيفة ومالك وقال ابن حامد
وابن أبي موسى يحرم وهو من مذهب الشافي لأنه سبيل يحصل بالواصل منه الفطر فتعلق به التحريم كالرضاع ولنا أن هذا ليس برضاع ولا يحصل به التغذي فلم ينشر الحرمة كما لو قطر في إحليله ولأنه ليس برضاع ولا في معناه فلم يجز إثبات حكمه ويفارق فطر الصائم فإنه لا يعتبر فيه إثبات اللحم ولا إنشاز العظم وهذا لا يحرم فيه إلا ما أنبت اللحم وأنشز العظم ولأنه وصل اللبن إلى الباطن من غير الحلق أشبه ما لو وصل من جرح.
(فصل) قال الشيخ رحمه الله (إذا تزوج كبيرة لم يدخل بها وثلاث صغائر فأرضعت الكبيرة إحداهن في الحولين حرمت الكبيرة على التأبيد وثبت نكاح الصغيرة وعنه ينفسخ نكاحهما) ، إذا تزوج كبيرة وصغيرة فأرضعت الكبيرة الصغيرة قبل دخوله بها فسد نكاح الكبيرة في الحال وحرمت على التأبيد وبه قال الثوري والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي وقال الأوزاعي نكاح الكبيرة ثابت وتنزع منه الصغيرة ولا يصح ذلك فإن الكبيرة صارت من أمهات النساء فتحرم أبداً

(9/206)


لقول الله (وأمهات نسائكم) ولم يشترط دخوله بها فأما الصغيرة ففيها روايتان (إحداهما) نكاحها ثابت لأنها ربيبة ولم يدخل بأمها فلا تحرم لقول الله (فإن لم تكونوا دخلتهم بهن فلا جناح عليكم) (والرواية الثانية) ينفسخ نكاحها، وهو قول الشافعي وأبي حنيفة لأنهما صارتا إماء وبنتاً واجتمعتا في نكاحه والجمع بينهما محرم فانفسخ نكاحهما كما لو صارتا أختين وكما لو عقد عليهما بعد الرضاع عقداً واحداً ولنا أنه أمكن إزالة الجمع بانفساخ نكاح الكبيرة وهي أولى به لأن نكاحها محرم على التأبيد فلم يبطل نكاحهما به كما لو ابتدأ العقد على أخته وأجنبية ولأن الجمع طرأ على نكاح الأم والبنت فاختص الفسخ بنكاح الأم كما لو أسلم وتحته امرأة وبنتها وفارق الأختين لأنه ليست إحداهما أولى بالفسخ من الأخرى وفارق ما لو ابتدأ العقد عليهما لأن الدوام أقوى من الابتداء (مسألة) (وإن أرضعت اثنتين منفردتين انفسخ نكاحهما على الرواية الأولى وعلى الثانية ينفسخ
نكاح الأولى ويثبت نكاح الثانية) أما انفساخ نكاح الصغيرتين فلأنهما صارتا أختين واجتمعتا في الزوجية فينفسخ نكاحهما كما لو

(9/207)


أرضعتها معاً، وهذا على الرواية الأولى التي تقول ينفسخ نكاح الكبيرة وحدها فأما على الرواية التي تقول ينفسخ نكاحهما معاً فإنه يثبت نكاح الأخيرة من الصغيرتين لأن الكبيرة لما أرضعت الصغيرة أولا انفسخ نكاحها ثم أرضعت الأخرى فلم تجتمع معهما في النكاح فلم ينفسخ نكاحها (فصل) إذا أرضعت الصغيرة أجنبية انفسخ نكاحهما أيضاً، وهذا قول أبي حنيفة والمزني وهو أحد قولي الشافعي وقال في الآخر ينفسخ نكاح الأخيرة وحدها لأن سبب البطلان حصل بها وهو الجمع فأشبه ما لو تزوج إحدى الأختين بعد الأخرى ولنا أنه جمع بين الأختين في النكاح فانفسخ نكاحهما كما لو أرضعتهما معاً وفارق ما لو عقد على واحدة بعد أخرى فإن عقد الثانية لم يصح فلم يصير به جامعاً بينهما وههنا حصل الجمع برضاع الثانية ولا يمكن القول بأنه لم يصح فحصلتا معاً في نكاحه وهما أختان لا محالة (مسألة) (وإن أرضعت الثلاث متفرقات انفسخ نكاح الأولتين وثبت نكاح الثالثة على الرواية الأولى وعلى الثانية ينفسخ نكاح الجميع لأنهما صارتا أختين في نكاحه وثبت نكاح الثالثة لأن رضاعها بعد انفساخ نكاح الكبيرة والصغيرتين اللتين قبلها فلم يصادف اخوتها جمعاً في النكاح) (مسألة) (وأن أرضعت إحداهن منفردة واثنتين بعدها معاً بأن تلقم كل واحدة منهما ثدياً فيمتصان معاً أو تحلب من لبنها في إناء فتسقيهما معاً انفسخ نكاح الجميع لأنهن صرن أخوات في نكاحه)

(9/208)


لأنها إذا أرضعت إحداهن منفردة لم ينفسخ نكاحها لأنها منفردة ثم إذا أرضعت اثنتين بعد ذلك مجتمعات انفسخ نكاح الجميع لأنهن أخوات في النكاح، هذا على الرواية الأولى، وعلى الثانية ينفسخ نكاح الأم والأولى بالاجتماع ثم ينفسخ نكاح الأثنتين لكونهما صارتا أختين معاً.
(مسألة) (وله أن يتزوج من شاء من الأصاغر)
لأن تحريمهن تحريم جمع لا تحريم تأبيد فإنهن ربائب لم يدخل بأمهن وإن كان دخل بالأم حرم الكل عليه على الأبد لأنهن ربائب مدخول بأمهن.
(مسألة) (وكل امرأة تحرم ابنتها عليه كأمه وأخته وجدته وربيبته إذا أرضعت طفلة حرمتها عليه) لأنها تصير ابنتها وكل رجل تحرم ابنته كأخيه وابنه وأبيه إذا أرضعت امرأته بلبنه طفلة حرمتها عليه وفسخت نكاحها لأنها صارت ابنة من تحرم ابنته عليه، وإن أرضعتها امرأة أحد هؤلاء بلبن غيره لم تحرم عليه لأنها صارت ربيبة زوجها، وإن أرضعتها من لا تحرم بنتها كعمته وخالته لم تحرمها عليه، ولو تزوج بنت عمه فأرضعت جدتهما أحدهما صغيراً انفسخ النكاح لأنها إن أرضعت الزوج صار عم زوجته وإن ارضعت الزوجة صارت عمته وإن أرضعتهما جميعاً صار عمها وصارت عمته.
وإن تزوج بنت عمته فأرضعت جدتهما أحدهما صغيراً انفسخ النكاح لأنها إن أرضعت الزوج صار خالها وإن أرضعت الزوجة صارت عمته.
وإن تزوج بنت خاله فأرضعت جدتهما الزوج صار عم زوجته

(9/209)


وإن أرضعتها صارت خالته، وإن تزوج ابنة خالته فأرضعت الزوج صار خال زوجته وإن أرضعتها صارت خالة زوجها (فصل) وكل من أفسد نكاح امرأة برضاع قبل الدخول فإن الزوج يرجع عليه نصف مهرها الذي يلزمه لها لأنه قرره عليه بعد أن كان بعرض السقوط وفرق بينه وبين زوجته فلزمه ذلك كشهود الطلاق إذا رجعوا وإنما لزمه نصف مهر الصغيرة لأن نكاحها انفسخ قبل دخوله بها من غير جهتها والفسخ إذا جاء من أجنبي كان كطلاق الزوج في وجوب الصداق عليه (مسألة) (وإن أفسدت نكاحها قبل الدخول فلا مهر لها لأن فسخ نكاحها بسبب من وجهتها فسقط صداقها كما لو ارتدت وبهذا قال مالك والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي ولا نعلم فيه خلافا، فعلى هذا إذا أرضعت امرأته الكبرى الصغرى فانفسخ نكاح الصغرى فعلى الزوج نصف مهر الصغرى يرجع به على الكبرى لما ذكرنا، وبهذا قال الشافعي وحكي عن بعض أصحابه أنه يرجع بجميع صداقها لأنها اتلفت البضع فوجب ضمانه، وقال أصحاب الرأي إن كانت المرضعة أرادت الفساد رجع عليها بنصف الصداق وإلا فلا يرجع بشئ وقال مالك لا يرجع بشئ
ولنا على أنه يرجع عليها بالنصف انها قررته عليه وألزمته إياه وأتلفت عليه ما في مقابلته فوجب عليها الضمان كما لو أتلفت عليه المبيع.

(9/210)


ولنا على أبي حنيفة إن ما ضمن في العدة ضمن في الخطأ كالمال ولأنها أفسدت نكاحه وقررت عليه نصف الصداق فأشبه ما لو قصدت الإفساد.
ولنا على أن الزوج إنما يرجع بالنصف أنه لم يغرم إلا النصف فلم يجب لم أكثر مما غرم ولأنه بالفسخ رجع اليه بدل النصف الآخر فلم يجب له بدل ما أخذ بدله مرة أخرى، ولأن خروج البضع من ملك الزوج لا قيمة له وإنما ضمنت المرضعة ههنا لما ألزمت الزوج ما كان معرضاً للسقوط بسبب يوجد من الزوجة فلم يرجع ههنا أكثر مما ألزمته.
(فصل) والواجب نصف المسمى لا نصف مهر المثل لأنه إنما يرجع بما غرم والذي غرم نصف ما فرض لها فرجع به وبهذا قال أبو حنيفة، وقال الشافعي يرجع بنصف مهر المثل لأنه ضمان متلف فكان الاعتبار بقيمته دون ما ملكه به كسائر الأعيان ولنا أن خروج البضع من ملك الزوج لا قيمة له بدليل ما لو قتلت نفسها أو ارتدت أو أرضعت من ينفسخ نكاحها بارضاعه فانها لا نغرم له شيئا انما الرجوع ههنا بما غرم فلا يرجع بغيره ولأنه لو رجع بقيمة المتلف لرجع بمهر المثل كله ولم يختص بالنصف ولأن شهود الطلاق قبل الدخول إذا رجعوا لزمهم نصف المسمى كذلك ههنا.
(مسألة) وإن أفسدت نكاح نفسها بعد الدخول لم يسقط مهرها ويجب على زوجها وإن أفسده

(9/211)


غيرها وجب مهرها ولم يرجع به على أحد ونص أحمد على أنه يرجع بالمهر كله) قال القاضي وهو مذهب الشافعي لأن المرأة تستحق المهر كله على زوجها فيرجع بما لزمه كنصف المهر في غير المدخول بها، قال شيخنا والصحيح إن شاء الله أنه لا يرجع على من أفسده بعد الدخول بشئ لأنه لم يقرر على الزوج شيئاً ولم يلزمه إياه فلم يرجع عليه بشئ كما لو أفسدت المرأة نكاح نفسها ولأنه
لو ملك الرجوع بالصداق بعد الدخول لسقط إذا كانت المرأة هي المفسدة للنكاح كما قبل الدخول ولأن خروج البضع من ملك الزوج غير متقوم على ما ذكرناه فيما مضى وكذلك لا يجب مهر المثل وإنما رجع الزوج بنصف المسمى قبل الدخول لأنها قررته عليه وكذلك يسقط إذا كانت هي المفسدة لنكاحها قبل الدخول ولم يوجد ذلك ههنا وهذا قول بعض أصحاب الشافعي ولأنه لو رجع بالمهر بعد الدخول لم يخل إما أن يكون رجوعه ببدل البضع الذي فوتته أو بالمهر الذي أداه: لا يجوز أن يكون ببدل البضع لأنه لو وجب بدله لوجب له على الزوجة إذا فات بفعلها أو بقتلها ولكان الواجب لها مهر مثلها ولا يجوز أن يجب لها بدل ما أداه إليها لذلك ولأنها ما أوجبته ولا لها أثر في إيجابه ولا تقريره (مسألة) (وإن أفسدت نكاح نفسها بعد الدخول لم يسقط مهرها)

(9/212)


قال شيخنا لا نعلم بينهم خلافاً في ذلك وإن الزوج لا يرجع عليها بشئ إذا كان أداه إليها ولا في أنها إذا أفسدته قبل الدخول أنه يسقط وأنه يرجع عليها بما أعطاها (مسألة) (فإذا أرضعت امرأته الكبرى الصغرى فانفسخ نكاحها فعليه نصف مهر الصغرى يرجع به على الكبرى) ولا مهر للكبرى إن كان قبل الدخول لأنها أفسدت نكاح نفسها وقد ذكرنا وجه ذلك إن كان المفسدة غيرهما (مسألة) (فلو دبت الصغرى إلى الكبرى وهي نائمة فارتضعت منها خمس رضعات انفسخ نكاح الكبيرة وحرمت على التأبيد، فإن كان دخل بالكبيرة حرمت الصغيرة وانفسخ نكاحها ولا مهر للصغيرة) لأنها فسخت نكاح نفسها وعليه مهر الكبيرة يرجع به على الصغيرة عند أصحابنا ولا يرجع به على ما اخترناه وإن لم يكن دخل بالكبيرة فعليه نصف صداقها يرجع به في مال الصغيرة لأنها فسخت نكاحها، وإن ارتضعت الصغيرة منها رضعتين وهي نائمة ثم أنتهبت الكبيرة فأنمت لها ثلاث رضعات فقد حصل الفساد بفعليهما فينقسط الواجب عليهما وعليه مهر الكبيرة وثلاثة أعشار مهر الصغيرة ويرجع به على الكبيرة وإن لم يكن دخل بالكبيرة فعليه خمس مهرها يرجع به على الصغيرة وهل ينفسخ نكاح الصغيرة؟ على روايتين

(9/213)


(فصل) وإن أرضعت بنت الكبيرة الصغيرة فالحكم في التحريم والفسخ حكم ما لو أرضعتها الكبيرة لأنها صارت جدتها والرجوع بالصداق على المرضعة التي أفسدت النكاح، وإن ارضعتها أم الكبيرة انفسخ نكاحهما معاً لأنهما صارتا أختين، فإن كان لم يدخل بالكبيرة فله أن ينكح من شاء منهما ويرجع على المرضعة بنصف صداقها وإن كان دخل بالكبيرة فله نكاحها لأن الصغيرة لا عدة عليها وليس له نكاح الصغيرة حتى تنقضي عدة الكبيرة لأنها قد صارت أختها فلا ينكحها في عدتها وكذلك الحكم إن أرضعتها جدة الكبيرة لأنها تصير عمة الكبيرة أو خالتها والجمع بينهما محرم، وكذلك إن أرضعتها أختها أو زوجة أخيها بلبنه لأنها صارت بنت أخت الكبيرة أو بنت أخيه وكذلك إن أرضعتها أختها أو بنت أختها ولا يحرم في شئ من هذا واحدة منهن على التأبيد لانه تحريم جمع إلا إذا ارضعتها بنت الكبيرة وقد دخل بأمها (مسألة) (وإذا كان لرجل خمس أمهات أولاد لهن منه لبن فأرضعن امرأة الصغرى كل واحدة منهن رضعة حرمت عليه في أحد الوجهين) لأنها ارتضعت من لبنه خمس رضعات فكمل رضاعها من لبنه فصار أبا لها كما لو أرضعتها واحدة منهن والوجه الثاني لا يصير أباً لها لأنه رضاع لم تثبت به الأمومة فلم يثبت به الابوة كلبن البهيمة ولا تحرم أمهات الأولاد لأنه لم يثبت لهن أمومة (فصل) فإن أرضعن طفلاً كذلك لم يصرن أمهات له وصار المولى أبا له وهذا قول ابن حامد لأنه

(9/214)


ارتضع من لبنه خمس رضعات، وفيه وجه آخر لا نثبت الأبوة لأنه رضاع لم يثبت إلا مرمة فلم يثبت الأبوة كالارتضاع بلبن الرجل، والأول أصح لأن الأبوة إنما تثبت لكونه رضع من لبنه لا لكون المرضعة أماً له، ولأصحاب الشافعي وجهان كهذين وإذا قلنا بثبوت الأبوة حرمت عليه المرضعات لأنه ربيبهن وهن موطوءات أبيه.
(فصل) وإن كان لرجل خمس بنات فأرضعن طفلاً كل واحدة رضعة لم يصرن أمهات له وهل يصير الرجل جداً له وأولاده أخوالاً له وخالات؟ على وجهين: (أحدهما) يصير جداً وأخوهن خالاً لأنه قد كمل للمرتضع خمس رضعات من لبن بناته فأشبه ما لو كان
من واحدة (والآخر) لا يثبت ذلك لأن كونه جداً فرع كون ابنته أماً وكونه خالاً فرع كون أخته أماً ولم يثبت فلا يثبت ذلك الفرع، وهذا الوجه يترجح في هذه المسألة لأن الفرعية متحققة بخلاف التي قبلها.
فإن قلنا يصير أخوهن خالاً لم تثبت الخؤولة في حق واحدة منهن لأنه لم يرتضع من لبن أخواتها خمس رضعات ولكن يحتمل التحريم لأنه قد اجتمع من بنت المحرم خمس رضعات، ولو كمل للطفل خمس رضعات من أمه وأخته وابنته وزوجته وزوجة أبيه من كل واحدة رضعة خرج على الوجهين (فصل) إذا كان لامرأة لبن من زوج فأرضعت به طفلاً ثلاث رضعات وانقطع لبنها فتزوجت آخر فصار

(9/215)


لها منه لبن فأرضعت منه الصبي رضعتين صارت أماً له بغير خلاف علمناه عند القائلين بأن الخمس محرمات ولم يصيروا حد من الزوجين أباً له لأنه لم يكمل عدد الرضاع من لبنه ويحرم على الرجلين لكونه ربيبهما لا لكونه ولدهما (مسألة) (ولو كان له ثلاث نسوة لهن لبن منه فأرضعن امرأة له صغرى كل واحدة رضعتين لم تحرم المرضعات) لأنه لم تكمل عدد الرضعات لكل واحدة منهن وهل تحرم الصغرى؟ على وجهين أصحهما تحرم لأنها ارتضعت من لبنه خمس رضعات وعليه نصف مهرها يرجع به عليهن على قدر رضاعهن يقسم بينهن أخماساً لأن الرضعات الخمس محرمة وقد وجد من الأولى رضعتان ومن الثانية رضعتان والخامسة وجدت من الثانية فيجب على الأولى خمس مهرها وعلى الثانية خمس وعلى الثالثة عشر (مسألة) (فإن كل لرجل ثلاث بنات امرأة لهن لبن فأرضعن ثلاث نسوة له صغار حرمت الكبيرة) لأنها من جدات النساء وجدة الزوجة محرمة ولم ينفسخ نكاح الصغار لأنهن لسن أخوات وإنما هن بنات خالات ولبن الربيبة لا يحرم إلا بالدخول بالأم وإن كان دخل بالأم حرم الاصغار أيضاً لأنهن ربائب مدخول بأمهن وإن لم يكن دخل بها فهل ينفسخ نكاح من كمل رضاعها أولا؟ على روايتين بناء على ما إذا أرضعت زوجته الكبرى زوجته الصغرى فإن الكبرى تحرم وهل ينفسخ نكاح الصغرى؟ على روايتين ذكرنا توجيههما فيما مضى

(9/216)


(مسألة) (وإن أرضعن واحدة كل واحدة منهن رضعتين فهل تحرم الكبرى بذلك؟ على وجهين) (أحدهما) تحرم لأنها صارت جدة بكون الصغيرة قد كمل لها خمس رضعات من لبن بناتها (والثاني) لا تصير جدة ولا ينفسخ نكاحها لأن كونها جدة فرع على كون ابنتها أماً ولم تثبت الأموة فما هو فرع عليها أولى أن لا يثبت وهذا أولى والله أعلم (فصل) إذا تزوج كبيرة ثم طلقها فأرضعت صغيرة بلبنه صارت بنتاً له وإن أرضعتها بلبن غيره صارت ربيبته فإن كان قد دخل بالكبيرة حرمت الصغيرة على التأبيد وإن كان لم يدخل بها لم تحرم لأنها ربيبة لم يدخل بأمها وإن تزوج صغيرة ثم طلقها فأرضعت امرأة له حرمت المرضعة على التأبيد لأنها من أمهات نسائه وإن تزوج كبيرة وصغيرة ثم طلق الصغيرة فأرضعتها الكبيرة حرمت الكبيرة وانفسخ نكاحها فإن كان لم يدخل بها فلا مهر لها وله نكاح الصغيرة وإن كان دخل بها فلها مهرها وتحرم هي والصغيرة على التأبيد وإن طلق الكبيرة وحدها قبل الرضاع فأرضعت الصغيرة ولم يكن دخل بالكبيرة ثبت نكاح الصغيرة وإن كان دخل بها حرمت الصغيرة وانفسخ نكاحها ويرجع على الكبيرة بنصف صداقها وإن طلقهما جميعاً فالحكم في التحريم على ما مضى (فصل) ولو تزوج رجل كبيرة وآخر صغيرة ثم طلقاهما ونكح كل واحد منهما زوجة الآخر ثم

(9/217)


أرضعت الكبيرة الصغيرة حرمت الكبيرة عليهما وانفسخ نكاحها وإن كان زوج الصغيرة دخل بالكبيرة حرمت عليه وانفسخ نكاحها وإلا فلا (فصل) قال الشيخ رحمه الله إذا طلق امرأته ولها منه لبن فتزوجت بصبي فأرضعته بلبنه انفسخ نكاحها منه لأنها صارت أمه من الرضاع وحرمت عليه لأنها صارت أمه من الرضاع وإن تزوجت بآخره دخل بها ومات عنها لم يجز أن يتزوجها الأول لأنها صارت من حلائل الأبناء لما أرضعت الصبي الذي تزوجت به (مسألة) (ولو تزوجت الصبي أولاً ثم فسخت نكاحه لعيب ثم تزوجت كبيراً فصار لها منه لبن فأرضعت به الصبي حرمت عليهما على الأبد على الزوج الثاني لأنها صارت من حلائل أبنائه وعلى الصبي لأنها صارت أمه (فصل) ولو زوج رجل أم ولده أو أمته بصبي مملوك فأرضعته بلبن سيدها خمس رضعات انفسخ نكاحه
وحرمت على سيدها على التأبيد لأنها صارت من حلائل أبنائه فإن كان الصبي حراً لم يتصور هذا الفرع عندنا لأنه لا يصح نكاحه لأن من شرط نكاح الحر للأمة خوف العنت ولا يوجد ذلك في الطفل فإن تزوج بها كان النكاح فاسداً وإن أرضعته لم تحرم على سيدها لأنه ليس بزوج في الحقيقة (فصل) قال الشيخ رحمه الله فإن أفسد النكاح جماعة يسقط المهر عليهم فلو جاء خمس فسقين زوجة صغيرة من لبن أم الزوج خمس مرات انفسخ نكاحها ولزمهن نصف مهرها بينهن فإن سقتها واحدة شربتين وأخرى ثلاثاً فعلى الأولى الخمس وعلى الثانية خمس وعشر وإن اسقاها واحدة شربتين وسقاها

(9/218)


ثلاث ثلاث شربات فعلى الأولى الخمس وعلى كل واحدة من الثلاث عشر وإن كان له ثلاث نسوة كبار وواحدة صغيرة فأرضعت كل واحدة من الثلاث الصغيرة أربع رضعات ثم حلبن في إناء وسقينه الصغيرة حرم الكبار وانفسخ نكاحهن فإن لم يكن دخل بهن فنكاح الصغيرة ثابت على إحدى الروايتين وعليه لكل واحدة منهن ثلث صداقها ترجع به على ضرتيها لأن فساد نكاحها حصل بفعلها وفعلهما فسقط ما قابل فعلها وهو سدس الصداق وبقي عليه الثلث فرجع به على ضرتيها فإن كان صداقهن متساوياً سقط ولم يجب شئ لأنه يتقاص ما لها على الزوج بما يرجع به عليها إذ لا فائدة في أن يجب لها عليه ما يرجع به عليها وإن كان مختلفاً وهو من جنس واحد تقاص منه بقدر أقلهما ووجبت الفضلة لصاحبها وإن كان من أجناس ثبت التراجع على ما ذكرنا وإن كان قد دخل بإحدى الكبار حرمت الصغيرة أيضاً وانفسخ نكاحها ووجب لها نصف صداقها ترجع به عليهن أثلاثاً وللتي دخل بها المهر كاملاً وفي الرجوع به ما أسلفناه من الخلاف.
وإن حلبن في إناء فسقته إحداهن الصغيرة خمس مرات كان صداق ضراتها يرجع به عليها إن كان قبل الدخول بهن لأنها أفسدت نكاحهن ويسقط مهرها إن لم يكن

(9/219)


دخل بها وإن كان دخل بها فلها مهرها لا يرجع به على أحد وإن كانت كل واحدة من الكبار أرضعت الصغيرة خمس رضعات حرم الثلاث فإن كان لم يدخل بهن فلا مهر لهن عليه وإن كان دخل بهن فعليه لكل واحدة مهرها لا يرجع به على أحد وتحرم الصغيرة ويرجع بما لزمه من صداقها على المرضعة الأولى لأنها
التي حرمتها عليه وفسخت نكاحها ولو أرضع الثلاث الصغيرة بلبن الزوج فأرضعتها كل واحدة رضعتين صارت بنتاً لزوجها في الصحيح وينفسخ نكاحها وترجع بنصف صداقها عليهن على المرضعتين الأولتين أربعة أخماسه وعلى الثالثة خمسة لأن رضعتها الأولى هي التي حصل بها التحريم والثانية لا أثر لها ولا ينفسخ نكاح الأكابر لأنهن لم يصرن أمهات لها.
فإن قيل فلم لا ترجع به عليهن على عددهن لكون الرضاع مفسداً فيستوي قليله وكثيره كما لو طرح الجماعة نجاسة في مائع في حالة واحدة؟ قلنا لأن التحريم يتعلق بعدد الرضعات فكان الضمان متعلقاً بالعدد بخلاف النجاسة فان النتجيس لا يتعلق بقدر فيستوي قليله وكثيره لكون الكثير والقليل سواء في الإفساد فنظير ذلك أن يشرب في الرضعة من إحداهما أكثر ما يشرب من الأخرى (فصل) وإن كانت له زوجة أمة فأرضعت امرأته الصغيرة فحرمتها عليه وفسخت نكاحها كان ما لزمه من صداق الصغيرة له في رقبة الأمة لأن ذلك من جنايتها وإن أرضعتها أم ولده أفسدت نكاحها وحرمتها

(9/220)


عليها لأنها ربيبته دخل بأمها وتحرم أم الولد عليه أبداً لأنها من أمهات نسائه ولا غرامة عليها لأنها أفسدت على سيدها وإن كانت مكاتبته رجع عليها لأن المكاتبة يلزمها أرش جنايتها وإن أرضعت أم امرأة ابنة بلبنه فسخت نكاحها وحرمتها عليه لأنها صارت أخته وإن أرضعت زوجة أبيه بلبنه حرمتها عليه لأنها صارت بنت ابنه ويرجع الأب على ابنه باقل الأمرين مما غرمه لزوجتها أو قيمتها لأن ذلك من جناية أم ولده.
وإن أرضعت واحدة منهما بغير لبن سيدها لم تحرمها لأن كل واحدة منهما صارت بنت أم ولده (فصل) قال رضي الله عنه إذا شك في الرضاع أو عدده بني على اليقين فلم يحرم لأن الأصل عدم الرضاع في مسألة الأولى وعدم وجود الرضاع المحرم في الثانية فهو كما لو شك في وجود الطلاق أو عدده (مسألة) (وإن شهدت به امرأة مرضية ثبت بشهادتها وعنه أنها إن كانت مرضية استحلفت فإن كانت كاذبة لم يحل الحول حتى تبيض ثدياها وذهب فيه إلى قول ابن عباس) وجملة ذلك أن الرضاع إذا شهدت به امرأة مرضعة حرم النكاح وثبت الرضاع بشهادتها وعنه رواية أخرى كالتي ذكرناها عن ابن عباس فإن ابن عباس قال في امرأة زعمت أنها أرضعت رجلاً
وأهله قال إن كانت مرضية استحلفت وفارق أهله وقال إن كانت كاذبة لم يحل الحول حتى تبيض ثدياها أي يصيها فيهما برص عقوبة على كذبها وهذا لا يقتضيه القياس ولا يهتدى اليه رأي فالظاهر أنه لا يقوله إلا توقيفاً وممن ذهب إلى أن شهادة المرأة الواحدة مقبولة في الرضاع إذا كانت مرضية طاوس

(9/221)


والزهري والاوزاعي وابن أبي ذئب وسعيد بن عبد العزيز، وعن أحمد رواية أخرى لا تقبل إلا شهادة امرأتين، وهو قول الحكم لأن الرجال أكمل من النساء ولا تقبل إلا شهادة رجلين فالنساء أولى وقال عطاء والشافعي لا يقبل من النساء أقل من أربع لأن كل امرأتين كرجل، وقال أصحاب الرأي لا يقبل فيه إلا رجلان أو رجل وامرأتان، وروي ذلك عن عمر لقول الله تعالى (واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان) ولنا ما روى عقبة بن الحارث قال تزوجت أم يحيى بنت أبي أهاب فجاءت أمة سوداء فقالت قد أرضعتكما فأتينا النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فقال " وكيف وقد زعمت ذلك " متفق عليه، وفي لفظ رواه النسائي قال فأتيته من قبل وجهه فقلت إنها كاذبة فقال " وكيف وقد زعمت أنها قد أرضعتكما؟ خل سبيلها " وهذا يدل على الاكتفاء بالمرأة الواحدة، وقال الزهري فرق بين أهل ابيات في زمن عثمان بشهادة امرأة في الرضاع، وقال الشعبي كان القضاء يفرقون بين الرجل والمرأة بشهادة امرأة واحدة في الرضاع ولأن هذه شهادة على عورة فتقبل فيه شهادة المنفردات كالولادة وعلى الشافعي أنه معنى يقبل فيه قول

(9/222)


النساء المنفردات فيقبل فيه امرأة منفردة كالخبر (فصل) وتقبل فيه شهادة المرضعة على فعل نفسها لما ذكرنا من حديث عقبة من أن الاما السوداء قالت قد أرضعتكما فقبل النبي صلى الله عليه وسلم شهادتها ولأنه فعل لا يحصل لها به نفع مقصود ولا يدفع عنها به ضرراً فقبلت شهادتها كفعل غيرها فإن قيل فإنها تستبيح الخلوة به والسفر معه وتصير محرماً له قلنا ليس هذا من الأمور المقصودة التي ترد بها الشهادة الا ترى أن رجلين لو شهدا أن فلاناً طلق زوجته أو أعتق أمته قبلت شهادتهما وإن حل لهما نكاحها بذلك
(مسألة) (وإن تزوج امرأة ثم قال قبل الدخول هي أختي من الرضاع انفسخ النكاح فإن صدقته فلا مهر لها وإن كذبته فلها نصف المهر وجملته أن التزوج إذا أقر أن زوجته أخته من الرضاع انفسخ نكاحه ويفرق بينهما وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة إذا قال وهمت أو أخطأت قبل قوله ذلك يتضمن أنه لم يكن بينهما نكاح ولو جحد النكاح ثم أقر به قبل كذلك ههنا

(9/223)


ولنا أنه أقر بما يتضمن تحريمها عليه فلم يقبل رجوعه عنه كما لو أقر بالطلاق ثم رجع أو أقر أن أمته أخته من النسب وما قاسوا عليه ممنوع وهذا الكلام في الحكم فأما فيما بينه وبين الله تعالى فينبني ذلك على علمه بصدقه فإن علم أن الأمر كما قال فهي محرمة عليه ولا نكاح بينهما وإن علم كذب نفسه فالنكاح باق بحاله وقوله كذب لا يحرمها عليه لأن المحرم حقيقة الرضاع لا القول وإن شك في ذلك لم يزل عن اليقين بالشك وقيل في حلها له إذا علم كذب نفسه روايتان، والصحيح ما قلناه لأن قوله ذلك إذا كان كذباً لم يثبت التحريم كما لو قال لها وهي أكبر منه هي ابنتي من الرضاعة إذا ثبت هذا فإنه إن كان قبل الدخول وصدقته المرأة فلا شئ لها لأنهما اتفقا على أن النكاح باطل من أصله لا تستحق فيه مهراً فأشبه ما لو ئبت ذلك ببينة وإن أكذبته فالقول قولها لأن قوله غير مقبول عليها في إسقاط حقوقها فلزمه إقراره فيما هو حق له وهو يحرمها عليه وفسخ نكاحه ولم يقبل قوله فيما عليه من المهر (فصل) وإن قال ذلك بعد الدخول انفسخ النكاح لما ذكرنا ولها المهر بكل حال لأن المهر يستقر بالدخول "

(9/224)


(فصل) وإن قال هي عمتي أو خالتي أو ابنه أخي أو أختي أو أمي من الرضاع وأمكن صدقه فالحكم فيه كما لو قال هي أختي، وإن لم يمكن صدقه مثل أن يقول لهن هي مثله هذه أمي أو لأكبر منه أو لمثله هذه ابنتي لم تحرم عليه وبهذا قال الشافعي وقال أبو يوسف ومحمد تحرم عليه لأنه أقر بما يحرمها فقبل كما لو أمكن
ولنا أنه أقر بما يتحقق كذبه فأشبه ما لو قال أرضعتني وإياها حواء أو كما قال هذه حواء وما ذكروه تنتقض بهذه الصور، ويفارق ما إذا أمكن فإنه لا يتحقق كذبه والحكم في لاقرار بقرابة من النسب تحرمها عليه كالحكم في لاقرار بالرضاع لأنه في معناه (فصل) إذا ادعى أن زوجته أخته من الرضاع فأنكرته فشهدت بذلك أمة أو ابنته لم تقبل شهادتهما لان شهادة الولد لوالده والوالد لولده لا تقبل، وإن شهدت بذلك أمها أو ابنتها قبلت وعنه لا تقبل بناء على شهادة الوالد على ولده والد على والده وهي مقبولة في أصح الروايتين، وإن ادعت ذلك المرأة وأنكرها الزوج فشهدت لها أمها أو ابنتها لم تقبل وإن شهدت لها أم الزوج أو ابنته قبل في أصح الروايتين (مسألة) (وإن كانت هي التي قبلت هو أخي من الرضاع وأكذبها فهي زوجته في الحكم لأنه لا يقبل قولها في فسخ النكاح)

(9/225)


لأنه حق عليها فإن كان قبل الدخول فلا مهر لها لأنها تقر بأنها لا تستحقه وإن كانت قد قبضته لم يكن المزوج أخذه منها لأنه يقر بأنه حق لها، وإن كان بعد الدخول فأقرت أنها كانت عالمة بأنها أخته وبتحريمها عليه وطاوعته في الوطئ فلا مهر لها أيضاً لإقرارها بأنها زانية مطاوعة، وإن أنكرت شيئاً من ذلك فلها المهر لأنه وطئ بشبهة وهي زوجته في ظاهر الحكم لأن قولها غير مقبول، فأما فيما بينها وبين الله تعالى فإن علمت صحة ما أقرت به لم يحل لها مساكنته وتمكينه من وطئها وعليها أن تفر منه وتفتدي نفسها بما أمكنها لأن وطأه لها زنا فعليها التخلص منه مهما أمكنها كما قلنا في التي علمت أن زوجها طلقها ثلاثاً وأنكر وينبغي أن يكون الواجب لها من المهر بعد الدخول أقل الأمرين من المسمى أو مهر المثل لأنه إن كان المسمى أقل فلا يقبل قولها في وجوب زائد عليه، وإن كان الأقل مهر المثل لم يستحق أكثر منه لاعترافها بأن استحقاقها له بوطئها لا بالعقد فلا تستحق أكثر منه، وان كان إقرارها بأخوته قبل النكاح لم يجز لها نكاحه ولا يقبل رجوعها عن إقرارها في ظاهر الحكم لأن إقرارها لم يصادف زوجية عليها يبطلها فقبل إقرارها على نفسه بتحريمه عليها، وكذلك لو أقر الرجل أن هذه أخته من الرضاع أو محرمة عليه برضاع أو غيره وأمكن صدقه لم يحل له تزوجها فيما بعد ذلك في ظاهر الحكم، وأما فيما بينه وبين الله تعالى فينبني
على علمه بحقيقة الحال على ما ذكرنا (مسألة) (ولو قال الزوج هي ابنتي من الرضاع وهي في سنه أو أكبر منه لم تحرم) لتحققتا كذبه وقد ذكرناه.
(مسألة) (ولو تزوج رجل امرأة لها لبن من زوج قبله فحملت منه ولم يزد لبنها فهو للأول وإن

(9/226)


زاد لبنها فأرضعت به طفلاً صار ابناً لهما وإن انقطع من الأول ثم ثاب بحملها من الثاني فكذلك عند أبي بكر وعند أبي الخطاب هو ابن الثاني وحده) وجملة ذلك أن الرجل إذا طلق زوجته ولها منه لبن فتزوجت آخر لم يخل من خمسة أحوال (أحدها) أن يبقى الأول بحاله لم يزد ولم ينقص ولم تلد من الثاني فهو للأول سواء حملت من الثاني أو لم تحمل لا نعلم فيه خلافاً لأن اللبن كان للأول ولم يتجدد ما يجعله من الثاني فبقي للأول (الثاني) أن لا تحمل من الثاني فهو للأول سواء زاد أو لم يزد أو انقطع ثم عاد أو لم ينقطع (الثالث) أن تلد من الثاني فاللبن له خاصة، قال إبن المنذر أجمع على هذا كل من أحفظ عنه وهو قول أبي حنيفة والشافعي سواء زاد أو لم يزد انقطع أو لم ينقطع، لأن لبن الأول ينقطع بالولادة من الثاني فإن حا جة المولود تمنع كونه لغيره (الرابع) أن يكون لبن الأول باقياً وزاد بالحمل من الثاني فاللبن منهما جميعاً في قول أصحابنا، وقال أبو حنيفة هو للأول ما لم تلد من الثاني، وقال الشافعي إن لم ينته الحمل إلى حال ينزل به اللبن فهو للأول وإن بلغ إلى حال ينزل به اللبن فزاد به ففيه قولان (أحدهما) هو للأول والثاني هو لهما ولنا أن زيادته عند حدوث الحمل ظاهر في أنها منه وبقاء لبن الأول يقتضي كون أصله منه فيجب أن يضاف إليهما كما لو كان الولد منهما (الحال الخامس) انقطع من الأول ثم ثاب بالحمل من الثاني فقال أبو بكر هو منهما وهو أحد أقوال الشافعي إذا انتهى الحمل إلى حال ينزل به اللبن وذلك لأن اللبن كان للأول فلما عاد بحدوث الحمل فالظاهر أن لبن الأول ثاب بسبب الحمل

(9/227)


الثاني فكان مضافاً إليهما كما لو يقطع، واختار أبو الخطاب أنه من الثاني وهو القول الثاني للشافعي لان ليس الأول انقطع فزال حكمه بانقطاعه وحدث بالحمل من الثاني فكان له كما لو لم يكن لها لبن من الأول، وقال أبو حنيفة هو للأول ما لم تلد من الثاني وهو القول الثالث للشافعي لأن الحمل لا يقتضي اللبن وإنما يخلفه الله تعالى للولد عند وجوده لحاجته إليه وقد سبق الكلام عليه (فصل) وإذا ادعى أحد الزوجين على الآخر أنه أقر أنه أخو صاحبه من الرضاع فأنكر لم يقبل في ذلك شهادة النساء المنفردات لأنها شهادة على الاقرار والافرار مما يطلع عليه الرجال فلم يحتج فيه إلى شهادة النساء المنفردات فلم يقبل ذلك بخلاف الرضاع نفسه (فصل) كره أبو عبد الله الارتضاع بلبن الفجور والمشركات وقال عمر بن الخطاب وعمر بن عبد العزيز رضي الله عنهما: اللبن يشتبه فلا تستق من يهودية ولا نصرانية ولا زانية ولا يقل أهل الذمة المسلمة ولا يرى شعورهن، ولان لبن مفاجرة ربما أفضى إلى شبه المرضعة في الفجور ويجعلها أماً لولده فيتعير بها ويتضرر طبعاً وتعيراً والارتضاع من المشركة يجعلها أماً لها حرمة الأم مع شركها وربما مال إليها في محبة دينها، وبكره الارتضاع بلبن الحمقاء كيلا يشبهها الولد في الحمق فإنه يقال إن الرضاء يغير الطباع

(9/228)