الشرح
الكبير على متن المقنع باب الذكاة * (مسألة) * (ولا يباح من
الحيوان المقدور عليه بغير ذكاة إلا الجراد وشبهه وسائر مالا يعيش إلا في
الماء فلا ذكاة له، وعنه في السرطان وسائر البحري أنه يباح بلا ذكاة) أما
الحيوان المقدور عليه من الصيد والأنعام فلا يباح إلا بالذكاة بغير خلاف
بين أهل العلم لقول الله تعالى (حرمت عليكم الميتة - إلى قوله - إلا ما
ذكيتم) فأما السمك وشبهه مما لا يعيش إلا في
(11/42)
الماء فإنه يباح بغير ذكاة لا نعلم في هذا
خلافاً لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في البحر " هو الطهور ماؤه الحل
ميتته " وقد صح أن أبا عبيدة وأصحابه وجدوا على ساحل البحر دابة يقال لها
العنبر فأكلوا منها شهراً حتى سمنوا وادهنوا فلما قدموا علي رسول الله صلى
الله عليه وسلم اخبروه فقال " هو رزق أخرجه الله لكم فهل معكم من لحمه شئ
تطعمونا؟ " متفق عليه (فصل) ولا فرق في ذلك بين ما مات بسبب أو بغير سبب
لما ذكرنا من الحديثين وقد أجمع أهل العلم على إباحة ما مات بسبب مثل أن
صاده إنسان أو نبذه البحر أو جزر عنه وكذلك ما حبس في الماء بحظيرة حتى
يموت فإنه يحل، قال أحمد في الطافي يؤكل وما جزر عنه الماء أجود والسمك
الذي نبذه البحر لم يختلف فيه، وإنما اختلفوا في الطافي وليس به باس وممن
أباح الطافي من السمك ابو بكر الصديق وأبو أيوب رضي الله عنهما وبه قال
مالك والشافعي وروي ذلك عن عطاء ومكحول والثوري
والنخعي وكره الطافي جابر وطاوس وابن سيرين وجابر بن زيد وأصحاب الرأي لما
روي أن جابراً قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما ألقى البحر أو
جزر عنه فكلوه وما مات فيه وطفا فلا تأكلوه " رواه أبو داود ولنا قول الله
تعالى (أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم وللسيارة) وقال ابن عباس طعامه
ما مات فيه وأيضاً ما ذكر من الحديثين، وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه
الطافي حلال
(11/43)
ولأنه لو مات في البر أبيح كالجراد وأما
حديث جابر فإنما هو موقوف عليه وكذلك قال أبو داود رواه الثقات فأوقفوه على
جابر وقد اسنه من وجه ضعيف فإن صح فنحمله على نهي الكراهة لأنه إذا مات رسب
في أسفله فإذا انتن طفا فكرهه لنتنه لا لتحريمه.
* (مسألة) * (وعنه في السرطان وسائر البحري أنه يحل بلا ذكاة) قال أحمد
السرطان لا بأس به قيل له يذبح؟ قال لا وذلك أن مقصود الذبح إنما هو إخراج
الدم منه وتطيب اللحم بإزالته عنه فما لا دم فيه لا حاجة إلى ذبحه، فإن
قلنا يذكى فذكاته أن يفعل به ما يموت فأما ما كان مأواه البحر وهو يعيش في
البر من دواب البحر كطير الماء والسلحفاة وكلب الماء فلا يحل إلا أن يذبح
هذا الصحيح من المذهب، قال أحمد كلب الماء نذبحه ولا أرى بأساً بالسلحفاة
إذا ذبح، والرق نذبحه وفيه رواية أخرى أنه يحل بغير ذكاة وذهب إليه قوم من
أهل العلم لقول النبي صلى الله عليه وسلم في البحر " هو الطهور ماؤه الحل
ميتته " رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح ولأنه من حيوان الماء فأبيح بغير
ذكاة كالسمك والسرطان وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه كل ما في البحر قد
ذكاه الله لكم وروى الإمام أحمد بإسناده عن شريح رجل أدرك النبي صلى الله
عليه وسلم قال " كل شئ في البحر مذبوح " وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم
أنه قال " إن الله سبحانه ذبح كل شئ في البحر لابن آدم " والأولى أصح فيما
سوى السرطان لأنه حيوان يعيش في البر له نفس سائلة فلم يبح بغير ذكاة
كالطير، قال شيخنا ولا
(11/44)
خلاف فيما علمناه في الطير والأخبار محمولة
على مالا يعيش إلا في البحر كالسمك وشبهه لأنه لا يتمكن من تذكيته لأنه لا
يذبح إلا بعد إخراجه من الماء ومتى خرج مات
* (مسألة) * (وعنه في الجراد لا يؤكل إلا أن يموت بسبب ككبه وتغريقه) لا
خلاف في إباحة الجراد وقد روى عبد الله بن أبي أوفى قال غزونا مع رسول الله
صلى الله عليه وسلم سبع غزوات نأكل الجراد متفق عليه، ولا فرق بين أن يموت
بسبب أو بغير سبب في قول عامة أهل العلم منهم الشافعي وأصحاب الحديث وأصحاب
الرأي وابن المنذر، وعن أحمد إذا قتله البرد لم يؤكل وعنه لا يؤكل إذا مات
بغير سبب وهو قول مالك ويروى عن سعيد بن المسيب ولنا عموم قوله عليه الصلاة
والسلام " أحلت لنا ميتتان ودمان فالميتتان السمك والجراد " رواه ابن ماجه
ولم يفصل ولأنه تباح ميتته فلم يعتبر له سبب كالسمك ولأنه لو افتقر إلى سبب
لافتقر إلى ذبح وآلة كبهيمة الأنعام (فصل) يجوز أكل الجراد بما فيه وكذلك
السمك يجوز أن يقلى من غير أن يشق جوفه وقال أصحاب الشافعي في السمك لا
يجور لأن رجيعه نجس ولنا عموم النص في إباحته وما ذكروه غير مسلم وإن بلع
إنسان منه شيئاً وهو حي كره لأن فيه تعذيب الحيوان (فصل) وسئل أحمد عن
السمك يلقى في النار فقال ما يعجبني والجراد فقال ما يعجبني والجراد
(11/45)
أسهل فإن هذا له دم، ولم يكره أكل السمك
إذا ألقي في النار إنما كره تعذيبه بالنار وأما الجراد فسهل في إلقائه لأنه
لا دم ولأن السمك لا حاجة إلى إلقائه في النار لإمكان تركه حتى يموت بسرعة،
والجراد لا يموت في الحال بل يبقى مدة طويلة، وفي مسند الشافعي أن كعبا كان
محرما فمرت به رجل من جراد فنسي وأخذ جرادتين فألقاهما في النار فشواهما
وذكر ذلك لعمر فلم ينكر عمر تركهما في النار، وذكر له حديث ابن عمر كان
الجراد يقلى له فقال إنما يؤخذ الجراد فتقطع أجنحته فيلقى في الزيت وهو حي
* (مسألة) * (ويشترط للذكاة شروط أربعة (أحدها) أهلية الذابح وهو أن يكون
عاقلاً مسلماً أو كتابياً فتباح ذبيحته ذكراً كان أو أنثى وعنه لا تباح
ذبيحه نصارى بني تغلب ولا من أحد أبويه غير كتابي) أجمع أهل العلم على
إباحة ذبائح أهل الكتاب لقول الله تعالى (وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم)
يعني ذبائحهم، قال البخاري قال ابن عبسا طعامهم ذبائحهم وكذلك قال مجاهد
وقتادة
وروي معناه عن ابن مسعود وهذا قول مالك والشافعي وأصحاب الرأي، ولا فرق بين
العدم والفاسق من المسلمين وأهل الكتاب وعن أحمد لا تباح ذبيحة الاقلف وروي
عن ابن عباس، والصحيح إباحته فإنه مسلم أشبه سائر المسلمين، وإذا أبيحت
ذبيحة القاذف والزاني وشارب الخمر مع تحقق فسقه وذبيحة النصراني وهو كافر
أقلف فالمسلم أولى (فصل) ولا فرق بين الحربي والذمي في إباحة ذبيحة الكتابي
منهم وتحريم ذبيحة من سواه وسئل أحمد عن ذبائح نصارى أهل الحرب فقال لا باس
بها حديث عبد الله بن مغفل قال إسحاق أجاد قال إبن المنذر أجمع على هذا كل
من نحفظ عنه من أهل العلم منهم مجاهد والثوري والشافعي واحمد واسحاق وأصحاب
الرأي ولا فرق بين الكتابي العربي وغيره إلا أن في نصارى العرب اختلافا
ذكرناه في باب الجزية وسئل مكحول عن ذبائح نصارى العرب فقال أما بهرا وتنوخ
فلا باس
(11/46)
وأما بنو تغلب فلا خير في ذبائحهم لأنه
يروي عن علي رضي الله عنه وهو مذهب الشافعي ولا ذبائح العرب من أهل الكتاب
كلهم، والصحيح إباحته لعموم الآية فيهم، فأما من أحد أبويه غير كتابي ممن
لا تحل ذبيحته فقال أصحابنا لا تحل ذبيحته وبه قال الشافعي وإذا كان الأب
كتابياً ففيه قولان (أحدهما) تباح وهو قول مالك وابي ثور (والثاني) لا تباح
لأنه وجد ما يقتضي الإباحة والتحريم فغلب ما يقتضي التحريم كما لو جرحه
مسلم ومجوسي، وبيان وجود ما يقتضي التحريم إن كونه ابن مجوسي أو وثني يقتضي
تحريم ذبيحته وعنه تباح ذبيحته مطلقاً وهو قول أبي حنيفة لعموم النص ولأنه
كتابي يقر على دينه فتحل ذبيحته كما لو كان ابن كتابيين، فإن كان ابن
وثنيين أو مجوسيين فمقتضى قول أصحابنا والشافعي ومالك تحريمه، ومقتضى قول
أبي حنيفة حله لأن الاعتبار بدين الذابح لا بدين أبيه بدليل أن الاعتبار في
قبول الجزية بذلك ولعموم النص والقياس * (مسألة) * (ولا تباح ذكاة مجنون
ولا سكران ولا طفل غير مميز ولا مجوسي ولا وثني ولا مرتد) أما المجنون
والطفل والسكران فلا تحل ذبيحتهم لأنه لا يصح مع القصد أشبه ما لو ضرب
إنساناً بالسيف فقطع عنق شاة ولأنه أمر يعتبر له الدين فاعتبر له العقل
كالغسل وبهذا قال مالك وقال
الشافعي لا يعتبر العقل والأولى أولى لأن الذكاة يعتبر لها العقل كالعبادة
ومن لا عقل له لا يصح منه القصد فيصير ذبحه كما لو وقعت الحديدة بنفسها على
حلق شاة فذبحتها (فصل) فأما ذكاة المجوسي فلا تحل في قول أهل العلم وشذ أبو
ثور فأباح صيده وذبيحته لقول النبي صلى الله عليه وسلم " سنوا بهم سنة أهل
الكتاب " ولأنهم يقرون بالجزية فتباح ذبيحتهم وصيدهم كاليهود والنصارى وهذا
قول يخالف الإجماع فلا عبرة به قال ابراهيم الحربي خرق أبو ثور الإجماع،
قال
(11/47)
أحمد ههنا قوم لا يرون بذبائح المجوس بأساً
ما أعجب هذا؟ يفرض بأبي ثور، وممن كره ذبائحهم ابن مسعود وابن عباس وعلي
وجابر وابو بردة وسعيد بن المسيب وعكرمة والحسن بن محمد وعطاء ومجاهد وعبد
الرحمن بن أبي ليلى وسعيد بن جبير ومالك والثوري والشافعي وأصحاب الرأي قال
أحمد ولا أعلم أحداً يقول بخلافه إلا أن يكون صاحب بدعة ولأن الله تعالى
قال (وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم) فمفهومه تحريم طعام غيرهم من الكفار
لأنهم لا كتاب لهم فلم تحل ذبائحهم كأهل الأوثان، وقد روى الإمام أحمد
بإسناده عن قيس بن سكن الأسدي قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إنكم
قد تركتم بفارس من النبط فإذا اشتريتم لحماً فإن كان من يهودي أو نصراني
فكلوا وإن كان من ذبيحة مجوسي فلا تأكلوا " ولأن كفرهم مع كونهم غير أهل
كتاب يقتضي تحريم ذبائحهم ونسائهم بدليل سائر الكفار من غير أهل الكتاب
وإنما أخذت منهم الجزية لأن شبهة الكتاب تقتضي التحريم لدمائهم فلما غلبت
في التحريم لدمائهم فوجب أن يغلب عدم الكتاب في تحريم الذبائح والنساء
احتياطاً للتحريم في الموضعين، ولأنه إجماع فإنه قول من سمينا ولا مخالف
لهم في عصرهم ولا فيمن بعدهم إلا رواية عن سعيد بن المسيب روي عنه خلافها
(فصل) وسائر الكفار من عبدة الأوثان والزنادقة وغيرهم حكمهم حكم المجوس في
تحريم ذبائحهم قياساً عليهم بل هم شر من المجوس لأن المجوس لهم شبهة كتاب
بخلاف هؤلاء، قال أحمد وطعام المجوس ليس به بأس أن يؤكل، وإذا أهدي إليه أن
يقبل إنما كره ذبائحهم أو شيئاً فيه دسم.
يعني من اللحم ولم ير بالسمن والجبن بأساً، وسئل عما تصنع المجوس لأمواتهم
ويزمزمون عليهم
أياماً عشراً ثم يقسمون ذلك في الجيران قال لا بأس بذلك وعن الشعبي قال كل
مع المجوسي وإن
(11/48)
زمزم، وروى أحمد أن سعيد بن جبير كان يأكل
من كواميخ المجوس فأعجبه ذلك، وروى هشام عن الحسن أنه كان لا يرى بأساً
بطعام المجوس في المصر ولا بشواريزهم ولا بكواميخهم (فصل) ولا تباح ذبيحة
المرتد وإن كانت ردته إلى دين أهل الكتاب وهذا قول مالك والشافعي وأصحاب
الرأي، وقال إسحاق إن تدين بدين أهل الكتاب حلت ذبيحته ويحكى ذلك عن
الأوزاعي لأن علياً رضي الله عنه قال: من تولى قوماً فهو منهم ولنا أنه
كافر لا يقر على دينه فلم تحل ذبيحته كالوثني ولأنه لا تثبت له أحكام أهل
الكتاب إذا تدين بدينهم فإنه لا يقر بالجزية ولا يسترق ولا يحل له نكاح
المرتدة، وأما قول علي فهو منهم لم يرد أنه منهم في جميع الاحكام بدليل ما
ذكرنا ولأنه لم يكن يرى حل ذبائح نصارى بني تغلب ولا نكاح نسائهم مع توليهم
للنصارى ودخولهم في دينهم ومع إقرارهم على ما صولحوا عليه فلا يعتقد ذلك في
المرتدين.
إذا ثبت هذا فإنه إذا ذبح حيواناً لغيره بغير إذنه ضمنه بقيمته حياً لأنه
أتلفه وحرمة ولا يضمنه إذا كان باذنه لأنه أذن في إتلافه * (مسألة) * قال
رحمه الله (الثاني الآلة وهو أن يذبح بمحدد سواء كان من حديد أو حجر أو قصب
أو غيره إلا السن والظفر) الآلة لها شرطان (أحدها) أن تكون محددة تقطع أو
تخرق بحدها لا بثقلها (والثاني) أن لا تكون سناً ولا ظفراً فإذا اجتمع هذان
الشرطان في شئ حل الذبح به حديداً كان أو حجراً أو خشباً أو قصباً لقول
النبي صلى الله عليه وسلم " ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوا ليس
السن والظفر "
(11/49)
متفق عليه.
وعن عدي بن حاتم قال قلت يا رسول الله إن أحدنا صاد صيداً وليس معه سكين
أيذبح بالمروة وشقة العصا؟ فقال " أمرر الدم بما شئت واذكر اسم الله عليه "
والمروة الصوان، وعن رجل من بني حارثة أنه كان يرعى لقحة فأخذها الموت فلم
يجد شيئاً ينحرها به فوجد وتداً فوجأها به في
لبتها حتى أهريق دمها ثم جاء النبي صلى الله عليه وسلم فأمره بأكلها رواهما
أبو داود وبهذا قال الشافعي وإسحاق وأبو ثور ونحوه قول مالك وعمرو بن دينار
وهو قول أبي حنيفة إلا في السن والظفر فإنه قال إذا كانا متصلين لم يجز
الذبح بهما وإن كان منفصلين جاز ولنا عموم قول النبي صلى الله عليه وسلم "
ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوا إلا السن والظفر " ولأن ما لم تجز
الذكاة به متصلاً لم تجز منفصلاً كغير المحدد (فصل) فأما العظم غير السن
فمقتضى إطلاق قول أحمد والشافعي وأبي ثور إباحة الذبح به وهو قول مالك
وعمرو بن دينار وأصحاب الرأي وقال ابن جريج يذكى بعظم الحمار ولا يذكى بعظم
القرد لأنك تصلي على الحمار وتسقيه في جفنتك وعن أحمد لا يذكي بعظم ولا
ظفر، وقال النخعي لا يذكى بالعظم والقرن.
ووجهه قول النبي صلى الله عليه وسلم " ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه
فكلوا ليس السن والظفر وسأحدثكم عن ذلك أما السن فعظم وأما الظفر فمدى
الحبشة " فعلله بكونه عظما فكل عظم فقد وجدت فيه العلة والأول أصح إن شاء
الله تعالى قاله شيخنا، لأن العظم دخل في عموم اللفظ المبيح ثم استثنى السن
والظفر خاصة فتبقى سائر العظام داخلة فيما يباح الذبح به والمنطوق مقدم على
التعليل ولهذا علل الظفر بكونه من مدى الحبشة ولا يحرم الذبح بالسكين وإن
كانت مدية لهم ولأن العظام يتناولها سائر الأحاديث العامة ويحصل بها
المقصود فأشبهث سائر الآلات.
(11/50)
* (مسألة) * (فإن ذبح بآلة مغصوبة حل في
أصح الوجهين) .
لأن الذكاة وجدت ممن له أهلية الذبح أشبه ما لو ذبح شاة مغصوبة (والثاني)
لا يحل له لأنه منهي عنه لأن الآلة محرمة فلم يحصل مقصودها كما لو استجمر
بالروث والرمة.
* (فصل) * (الثالث أن يقطع الحلقوم والمرئ وعنه يشترط مع ذلك قطع الودجين)
وجملة ذلك أن محل الذبح الحلق واللبة وهي الوهدة التي بين أصل العنق الصدر
ولا يجوز الذبح في غير هذا المحل بالاجماع وقد روي عن النبي صلى الله عليه
وسلم أنه قال " الذكاة في الحلق واللبة " وقال أحمد الذكاة في الحلق واللبة
واحتج بحديث عمر وهو ما روى سعيد والاثرم باسنادهما عن الفرافصة
قال كنا عند عمر فنادى إن النحر في اللبة والحلق لمن قدر وانما نرى أن
الذكاة اختصت بهذا المحل لأنه مجمع العروق فينسفح الدم بالذبح فيه ويسرع
زهوق النفس فيكون اطيب للحم وأخف على الحيوان قال أحمد لو كان حديث أبي
العشراء حديثاً يعني ما روى أبو العشراء عن أبيه عن النبي صلى الله عليه
وسلم أنه سئل أما تكون الزكاة إلا في الحلق واللبة؟ فقال رسول الله صلى
الله عليه وسلم " لو طعنت في فخذها أجزأ عنك " قال أحمد ابو العشراء هذا
ليس بمعروف.
إذا ثبت ذلك فيشترط قطع الحلقوم والمرئ، وبهذا قال الشافعي وعن أحمد رواية
أخرى يشترط مع ذلك قطع الودجين، وبه قال مالك وأبو يوسف لما روى أبو هريرة
قال نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن شريطة الشيطان وهي التي تذبح فتقطع
الجلد ولا تفري الأوداج ثم تترك حتى تموت رواه أبو داود، وقال أبو حنيفة
يعتبر قطع الحلقوم والمرئ وأحد الودجين ولا خلاف في أن الاكمل قطع الاربعة
الحلقوم والمرئ والودجين فالحلقوم مجرى النفس والمرئ مجرى الطعام والشراب
والودجان هما عرقان محيطان بالحلقوم لأنه أسرع لخروج روح الحيوان فيخف عليه
ويخرج من الخلاف فيكون أولى والأول يجزئ لأنه قطع في محل الذبح ما لا تبقى
الحياة مع قطعه فأشبه ما لو قطع الأربعة والحديث محمول على من لم يقطع
المرئ.
(11/51)
* (مسألة) * (وإن نحره أجزأ وهو أن يطعنه
بمحدد في لبته، ويستحب أن ينحر البعير ويذبح ما سواه) ولا خلاف بين أهل
العلم في استحباب نحر الإبل وذبح ما سواها قال الله تعالى (فصل لربك وانحر)
وقال تعالى (إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة) قال مجاهد أمرنا بالنحر وأمر
بنو إسرائيل بالذبح فإن النبي صلى الله عليه وسلم بعث في قوم ماشيتهم الإبل
فسن النحر وبنو إسرائيل ماشيتهم البقر فأمروا بالذبح وثبت أن النبي صلى
الله عليه وسلم نحر بدنة وضحى بكبشين أقرنين ذبحهما بيده متفق عليه، والنحر
أن يطعنها بحربة أو نحوها في الوهدة التي بين عنقها وصدرها.
(فصل) فإن ذبح الإبل ونحر ما سواها أجزأه وهذا قول أكثر أهل العلم منهم
عطاء والزهري وقتادة ومالك والليث وابو حنيفة والشافعي واسحاق وأبو ثور،
وحكي عن داود أن الإبل لا تباح إلا بالنحر ولا يباح غيرها إلا بالذبح لأن
الله تعالى قال (إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة) والأمر يقتضي
الوجوب وقال تعالى (فصل لربك وانحر) ولأن النبي صلى الله عليه وسلم نحر
البدن وذبح الغنم وإنما نأخذ الأحكام من جهته، وحكي عن مالك أنه لا يجزئ في
الإبل إلا النحر لأن اعناقها طويلة فإذا ذبح تعذب بخروج روحه وحكى ابن أبي
موسى عن أحمد أنه توقف عن أكل البعير إذا ذبح ولم ينحر قال إبن المنذر إنما
كرهه ولم يحرمه.
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " أمرر الدم بما شئت " وقالت أسماء
نحرنا فرساً على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكلناه ونحن بالمدينة
متفق عليه، عن عائشة قالت نحر رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع
بقرة واحدة ولأنه ذكاه في محل الذكاة فجاز أكله كالحيوان الآخر.
(فصل) وتصح ذبيحة المرأة حرة كانت أو أمة إذا أطاقت الذبح ووجدت الشروط
وكذلك ذبح الصبي العاقل إذا أطاق حراً كان أو عبداً لا نعلم في هذا خلافاً
قال ابن المنذر أجمع كل من
(11/52)
نحفظ عنه من أهل العلم على إباحة ذبيحة
المرأة والصبي وقد روي أن جارية لكعب بن مالك كانت ترعى غنما بسلع فأصيبت
شاة منها فأدركتها فذكتها بحجر فسئل النبي صلى الله عليه وسلم فقال " خذوها
" متفق عليه وفي هذا الحديث فوائد سبع (أحدها) إباحة ذبيحة المرأة
(والثانية) إباحة ذبيحة الامة (والثالثة) إباحة ذبيحة الحائض لأن النبي صلى
الله عليه وسلم لم يستفصل (الرابعة) إباحة الذبح بالحجر (الخامسة) إباحة
ذبح ما خيف عليه الموت (السادسة) حل ما يذبحه غير مالكه بغير إذنه
(السابعة) إباحة ذبحه لغير مالكه * (مسألة) * (فإن عجز عن ذلك أي عن قطع
الحلقوم والمرئ مثل أن يند البعير أو يتردى في بئر فلا يقدر على ذبحه صار
كالصيد إذا جرحه في أي موضع أمكنه فقتله حل أكله إلا أن يموت بغيره مثل أن
يكون رأسه في الماء فلا يباح) هذا قول أكثر الفقهاء وروي ذلك عن علي وابن
مسعود وابن عمر وابن عباس وعائشة رضي الله عنهم وبه قال مسروق والحسن
والاسود وعطاء وطاوس واسحاق والشعبي والحكم وحماد والثوري وابو حنيفة
والشافعي وأبو ثور وقال مالك لا يجوز أكله إلا أن يذكى وهو قول ربيعة
والليث قال أحمد لعل مالكا لم يسمع حديث رافع بن خديج، واحتج مالك بان
الحيوان الا نسي إذا توحش لم
يثبت له حكم الوحشي بدليل أنه لا يجب على المحرم الجزاء بقتله ولا يصير
الحمار الأهلي مباحاً إذا توحش.
ولنا ما روى رافع بن خديج قال كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم فند بعير
وكان في القوم خيل يسيرة فطلبوه فأعياهم فأهوى إليه رجل بسهم فحبسه الله
فقال النبي صلى الله عليه وسلم " إن لهذه البهائم أوابد كأوابد الوحش فما
غلبكم منها فاصنعوا به هكذا " متفق عليه وحرب ثور في بعض دور الأنصار فضربه
رجل بالسيف وذكر اسم الله عليه فسئل عنه علي فقال ذكاة وحية فأمر بأكله،
وتردى بعير في بئر فذكي من قبل شاكلته فبيع بعشرين درهماً فأخذ ابن عمر
عشرة بدرهمين، ولأن الاعتبار في الذكاة بحال
(11/53)
الحيوان وقت ذبحه لا بأصله بدليل الوحشي
إذا قدر عليه وجبت تذكيته في الحلق واللبة فكذلك الأهلي إذا توحش اعتبر
بحاله وبهذا فارق ما ذكره، فإذا تردى فلم يقدر على تذكيته فهو معجوز عن
تذكيته فأشبه الوحشي، فأما إن كان رأس المتردي في الماء لم يبح لأن الماء
يعين على قتله فيحصل قتله بمبيح وحاظر فيحرم كما لو جرحه مسلم ومجوسي.
* (مسألة) * (وإن ذبح من قفاها وهو مخطئ فأتت السكين على موضع ذبحها وهي في
الحياة أكلت، وإن فعله عمداً فعلى وجهين) قال القاضي معنى الخطأ أن تلتوي
الذبيحة عليه فتأتي السكين على القفا لأنها مع التوائها معجوز عن ذبحها في
محل الذبح فسقط اعتبار المحل كالمتردية في بئر، فأما مع عدم التوائها فلا
تباح بذلك لأن الجرح في القفا سبب للزهوق وهو في غير محل الذبح فإذا اجتمع
مع الذبح منع حله كما لو بقر بطنها وقد روي عن أحمد ما يدل على هذا المعنى
فإن الفضل بن زياد قال سألت أبا عبد الله عمن ذبح في القفا فقال عامداً أو
غير عامد؟ قلت عامداً قال لا تؤكل فإذا كان غير عامد كأن التوى عليه فلا
بأس (فصل) فإن ذبحها من قفاها اختياراً فقد ذكرنا عن أحمد أنها لا تؤكل وهو
مفهوم كلام الخرقي وحكي هذا عن علي وسعيد بن المسيب ومالك واسحاق وقال
ابراهيم والنخعي تسمى هذه الذبيحة القفينة وقال القاضي إن بقيت فيها حياة
مستقرة قبل قطع الحلقوم والمرئ حلت وإلا فلا ويعتبر ذلك بالحركة القوية
وهذا مذهب الشافعي وهذا أصح لأن الذبح إذا أتى على ما فيه حياة
مستقرة أحله كأكيلة السبع والمتردية والنطيحة وعنه ما يدل على إباحتها
مطلقا، ولو ضرب عنقا بالسيف فأطار رأسها حلت بذلك فإن أحمد قال لو أن رجلاً
ضرب رأس بطة أو شاة بالسيف يريد بذلك
(11/54)
الذبيحة كان له أن يأكله، وروي عن علي رضي
الله عنه انه قال تلك ذكاة وحية وأفتى بأكلها عمران بن حصين وبه قال الشعبي
وأبو حنيفة والثوري، وقال أبو بكر: لأبي عبد الله فيها قولان الصحيح أنها
مباحة لأنه اجتمع قطع مالا تبقى الحياة معه مع الذبح فأبيح كما ذكرنا مع
قول من ذكرنا قوله من الصحابة من غير مخالف (فصل) فإن ذبحها من قفاها فلم
يعلم هل كانت فيها حياة مستقرة قبل قطع الحلقوم والمرئ أم لا؟ نظرت فإن كان
الغالب بقاء ذلك لحدة الآلة وسرعة القطع فالأولى إباحته لأنه بمنزلة ما
قطعت عنقه بضربة السيف وإن كانت الآلة كالة وابطأ قطعه وطال تعذيبه لم يبح
لأنه مشكوك في وجود ما يحله فيحرم كما لو أرسل كلباً على الصيد فوجد معه
كلباً آخر لا يعرفه * (مسألة) * (وكل ما وجد فيه سبب الموت كالمنخنقة
والموقوذة والمتردية والنطيحة وأكيلة السبع إذا أدرك ذكاتها وفيها حياة
مستقرة أكثر من حركة المذبوح حلت وإن صارت حركتها كحركة المذبوح لم تحل)
وجملة ذلك أن المنخنقة الموقوذة وسائر ما ذكر في هذه المسألة وما أصابها
مرض فماتت بذلك فهي محرمة إلا أن تدرك ذكاتها لقول الله تعالى (إلا ما
ذكيتم) وفي حديث جارية كعب أنها كانت ترعى غنما بسلع فأصيبت شاة من غنمها
فأدركتها فذبحتها بحجر فسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال " كلوها "
فإن كانت لم يبق من حياتها إلا مثل حركة المذبوح لم تبح الذكاة لأنه لو ذبح
ما ذبحه المجوسي لم يبح وإن أدركها وفيها حياة مستقرة بحيث يمكنه ذبحها حلت
لعموم الآية والخبر وسواء كانت قد انهت إلى حال يعلم أنها لا تعيش معه أو
تعيش لعموم الآية والخبر ولأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسأل ولم يستفصل
وقد قال ابن عباس في ذئب عدا على شاة فعقرها فوضع قصبها بالأرض فأدركها
فذبحها بحجر قال يلقي ما أصاب الأرض ويأكل سائرها قال أحمد في بهيمة عقرت
بهيمة حتى تبين فيها آثار الموت إلا أن فيه الروح
يعني فذبحت فقال إذا مصعت بذنبها وطرفت بعينها وسال الدم فأرجو إن شاء الله
أن لا يكون بأكلها بأس وروي ذلك بإسناده عن عقيل بن عمير وطاوس وقالا تحركت
ولم يقولا سال الدم
(11/55)
وهذا مذهب أبي حنيفة، وقال إسماعيل بن سعيد
سألت أحمد عن شاة مريضة خافوا عليها الموت فذبحوها فلم يعلم منها أكثر من
أنها طرفت بعينها أو حركت يدها أو رجلها أو ذنبها بضعف فنهر الدم قال لا
بأس، وقال ابن أبي موسى إذا انتهت إلى حد لا تعيش معه لم تبح بالذكاة ونص
عليه أحمد فقال إذا شق الذئب بطنها وخرج قصبها فذبحها لا تؤكل وقال إن كان
يعلم أنها تموت من عقر السبع فلا تؤكل وإن ذكاها وقد خاف على الشاة الموت
من العلة والشئ يصيبها فبادرها فذبحها يأكلها وليس هذا مثل هذه لا ندري
لعلها تعيش والتي قد خرجت أمعاؤها نعلم أنها لا تعيش وهذا قول أبي يوسف،
والأول أصح لأن عمر رضي الله عنه انتهى به الجرح إلى حد علم أنه لا يعيش
معه فوصى فقبلت وصاياه ووجبت العبادة عليه، وفيما ذكرنا من عموم الآية
والخبر وكون النبي صلى الله عليه وسلم لم يستفصل في جارية كعب ما يرد هذا،
وتحمل نصوص أحمد على شاة خرجت أمعاؤها وبانت منها فتلك لا تحل بالذكاة
لأنها في حكم الميت ولا تبقى حركتها إلا كحركة المذبوح، فأما ما خرجت
أمعاؤها وبانت منها فهي في حكم الحياة تباح بالذبح ولهذا قال الخرقي فيمن
شق بطن رجل فأخرج حشوته فقطعها فأبانها ثم ضرب عنقه آخر: فالقاتل هو الأول،
ولو شق بطن رجل وضرب عنقه آخر فالقاتل هو الثاني وقال بعض أصحابنا إذا كانت
تعيش معظم اليوم حلت بالذكاة وهذا التحديد بعيد يخالف ظواهر النصوص ولا
سبيل إلى معرفته، وقوله في حديث جارية كعب فذكتها بحجر يدل على أنها
بادرتها بالذكاة حين خافت موتها في ساعتها، والصحيح أنها إذا كانت تعيش
زمنا يكون الموت بالذبح أسرع منه حلت بالذبح وأنها متى كانت مما لا يتيقن
موتها كالمريضة أنها متى تحركت وسال دمها حلت والله أعلم * (فصل) * (الشرط
الرابع أن يذكر اسم الله تعالى عند الذبح وهو أن يقول بسم الله لا يقوم
غيرها مقامها) فهذه التسمية المعتبرة عند الذبح لأن اطلاق التسمية ينصرف
إليها وقد ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا ذبح قال " بسم الله
والله أكبر " وكان ابن عمر يقوله ولا خلاف أن قول بسم الله يجزئه
وإن قال اللهم اغفر لي لم يكف لأن ذلك طلب حاجة وإن هلل أو سبح أو كبر الله
أو حمد الله
(11/56)
احتمل الأجزاء لأنه ذكر اسم الله تعالى على
وجه التعظيم واحتمل المنع لأن اطلاق التسمية لا يتناوله وإن ذكر اسم الله
بغير العربية أجزأه وإن أحسن العربية لأن المقصود ذكر اسم الله وهو يحصل
بجميع اللغات بخلاف التكبير والسلام فإن المقصود لفظه * (مسألة) * (إلا
الأخرس فانه يومئ برأسه إلى السماء) قال إبن المنذر أجمع كل من نحفظ عنه من
أهل العلم على إباحة ذبيحة الأخرس منهم الليث والشافعي واسحاق وأبو ثور وهو
قول الشعبي وقتادة والحسن بن صالح.
إذا ثبت هذا فإنه يشير إلى السماء برأسه لأن إشارته تقوم مقام نطق الناطق
وإشارته إلى السماء تدل على قصده تسمية الذي في السماء ونحو هذا قال الشعبي
وقد دل على هذا حديث أبي هريرة أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم
بجارية أعجمية فقال يا رسول الله إن علي رقبة مؤمنة أفأعتق هذه؟ فقال لها
رسول الله صلى الله عليه وسلم " أين الله؟ " فأشارت إلى السماء فقال " من
أنا؟ " فأشارت بأصبعها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى السماء أي
أنت رسول الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أعتقها فإنها مؤمنة "
رواه الإمام أحمد والقاضي البرتي في مسنديهما فحكم رسول الله صلى الله عليه
وسلم وبايمانها باشارتها إلى السماء تريد أن الله سبحانه فيها فأولى أن
يكتفى بذلك علماً على التسمية ولو أنه أشار إشارة تدل على التسمية وعلم ذلك
كان كافياً (فصل) وإن كان المذكي جنبا جازت له التسمية لأنه إنما منع من
القرآن لا من الذكر ولهذا تشرع التسمية عند الاغتسال وليست الجناية أعظم من
الكفر والكافر يذبح ويسمي وممن رخص في ذبح الجنب الحسن والليث والحكم
والشافعي واسحاق وأبو ثور وأصحاب الرأي قال إبن المنذر لا أعلم أحداً كره
ذلك ولا منع منه، وتباح ذبيحة الحائض لأنها في معنى الجنب * (مسألة) * (فإن
ترك التسمية عمداً لم تبح وإن تركها ساهياً أبيحت وعنه تباح في الحالين
وعنه لا تباح فيهما)
(11/57)
المشهور من مذهب أحمد أن التسمية على
الذبيحة شرط في إباحة أكلها مع الذكر وتسقط بالسهو وروي ذلك عن ابن عباس
وبه قال مالك والثوري وأبو حنيفة واسحاق وممن أباح ما نسيت التسمية عليه
عطاء وطاوس وسعيد بن المسيب وعبد الرحمن بن أبي ليلى وجعفر بن محمد وربيعة
وعن أحمد أنها مستحبة وليست شرطاً في عمد ولا سهو وبه قال الشافعي لأن
البراء روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " المسلم يذبح على اسم الله
سمى أو لم يسم " وعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل فقيل أرايت
الرجل منا يذبح وينسى أن يذكر اسم الله؟ فقال " اسم الله في قلب كل مسلم "
قال أحمد إنما قال الله تعالى (ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه) يعني
الميتة وذكر ذلك عن ابن عباس، وعن أحمد رواية ثالثة أنها تجب في العمد
والسهو لقوله سبحانه (ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه) وهو عام في
العمد والسهو، ودليل الرواية الأولى ما روى راشد بن سعد قال قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم " ذبيحة المسلم حلال وإن لم يسم إذا لم يتعمد " أخرجه
سعيد فأما الآية فمحمولة على ما إذا ترك التسمية عمداً بدليل قوله تعالى
(وإنه لفسق) والأكل مما نسيت التسمية عليه ليس بفسق لقول النبي صلى الله
عليه وسلم " عفي لأمتي عن الخطأ والنسيان ".
إذا ثبت هذا فالتسمية مع العمد شرط سواء كان الذابح مسلماً أو كتابياً فإن
ترك الكتابي التسمية عمداً وذكر اسم غير الله لم تبح ذبيحته روى ذلك علي
وبه قال الشافعي والنخعي وحماد واسحاق وأصحاب الرأي، وقال عطاء ومكحول إذا
ذبح الكتابي باسم المسيح حل لأن الله تعالى أحل لنا ذبيحتهم وقد علم أنهم
يقولون ذلك ولنا قول الله تعالى (ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه)
وقوله (وما أهل لغير الله به) والآية أريد بها ما ذبحوه بشرطه كالمسلم، وإن
لم يعلم اسمى الذابح أم لا؟ أو ذكر اسم غير الله أو لا؟ فذبيحته حلال لأن
الله تعالى أباح لنا كل ما ذبحه المسلم والكتابي وقد علم أننا لا نقف على
كل ذابح
(11/58)
وقد روى عن عائشة أنهم قالوا يا رسول الله
إن قوما حديثو عهد بشرك يأتوننا بلحم لا ندري أذكروا اسم الله أم لم
يذكروا؟ قال " سموا أنتم وكلوا " أخرجه البخاري
(فصل) والتسمية على الذبيحة معتبرة حال الذبح أو قريبا منه كما تعتبر، في
الطهارة وإن سمى على شاة ثم أخذ أخرى فذبحها بتلك التسمية لم يجز سواء أرسل
الأولى أو ذبحها لأنه لم يقصد الثانية بهذه التسمية، فإن رأى قطيعاً من
الغنم فقال باسم الله ثم أخذ شاة فذبحها بغير تسمية لم تحل فإن جهل كون ذلك
لا يجزئ لم يجر مجرى النسيان لأن النسيان يسقط المؤاخذة والجاهل مؤاخذ
ولذلك يفطر الجاهل بالأكل في الصوم دون الناسي وإن أضجع شاة ليذبحها وسمى
ثم ألقى السكين وأخذ اخرى أو رد سلاما أو كلم إنساناً أو استسقى ماء حل
لأنه سمى على تلك الشاة بعينها ولم يفصل بينهما إلا بفصل يسير فأشبه ما لو
لم يتكلم * (مسألة) * (وذكاة الجنين ذكاة أمه إذا خرج ميتاً أو متحركاً
كحركة المذبوح وإن كانت فيه حياة مستقرة لم يبح إلا بذبحه وسواء أشعر أو لم
يشعر) وجملة ذلك أن الجنين إذا خرج ميتاً من بطن أمه بعد ذبحها أو وجد
ميتاً في بطنها أو كانت حركته بعد خروجه كحركة المذبوح فهو حلال روي هذا عن
عمر وعلي وبه قال سعيد بن المسيب والنخعي والشافعي وإسحاق وابن المنذر وقال
ابن عمر ذكاته ذكاة أمه إذا أشعر، وروي ذلك عن عطاء وطاوس ومجاهد والزهري
والحسن وقتادة ومالك والليث والحسن بن صالح وأبي ثور لأن عبد الله بن كعب
بن مالك قال كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون إذا أشعر
الجنين فذكاته ذكاة أمه وهذا إشارة إلى جميعهم فكان إجماعا، وقال أبو حنيفة
لا يحل إلا أن يخرج حياً فيذكى لأنه حيوان ينفرد بحياته فلا يتذكى بذكاة
غيره كما بعد الوضع، قال إبن المنذر وكان الناس على إباحته لا نعلم أحداً
منهم خالف ما قالوا إلى أن جاء النعمان فقال لا يحل لأن ذكاة نفس لا تكون
ذكاة لنفسين ولنا ما روى أبو سعيد قال قيل يا رسول الله إن أحدنا ينحر
الناقة ويذبح البقرة والشاة فيجد
(11/59)
في بطنها الجنين أيأكله أم يلقيه؟ قال "
كلوه إن شئتم فإن ذكاته ذكاة أمه " وعن جابر عن رسول الله صلى الله عليه
وسلم قال " ذكاة الجنين ذكاة أمه " رواه أبو داود ولأن هذا إجماع من
الصحابة ومن بعدهم فلا يعول على ما خالفه ولأن الجنين متصل بها اتصال خلقه
يتغذى بغذائها فتكون ذكاته
ذكاتها كاعضائها، ولأن الذكاة في الحيوان تختلف على حسب الإمكان فيه
والقدرة بدليل الصيد الممتنع والمقدور عليه والمتردية والجنين لا نتوصل إلى
ذبح بأكثر من ذبح أمه فيكون ذكاة له، فأما إن خرج حيا حياة مستقرة يمكن أن
يذكى فلم يذكه حتى مات فليس بذكي قال أحمد إن خرج حيا فلابد من ذكاته لأنه
نفس أخرى (فصل) واستحب أبو عبد الله أن يذبحه وإن خرج ميتاً ليخرج الدم
الذي في جوفه ولأن ابن عمر كان يعحبه أن يريق من دمه وإن كان ميتاً * (فصل)
* قال الشيخ رحمه الله (ويكره توجيه الذبيحة إلى غير القبلة وأن يذبح بآلة
كالة وأن يحد السكين والحيوان يبصره) وجملة ذلك أنه يستحب أن يستقبل بها
القبلة روى ذلك عن ابن عمر وابن سيرين وعطاء والثوري والشافعي وأصحاب الرأي
وكره ابن عمر وابن سيرين أكل ما ذبح لغير القبلة والأكثرون على أنه لا يكره
لأن أهل الكتاب يذبحون لغير القبلة، وقد أحل الله سبحانه ذبائحهم، ويكره أن
يذبح بآلة كالة لما روى أبو داود بإسناده عن شداد بن أوس قال خصلتان سمعتها
من رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن الله كتب الاحسان على كل شئ فاذا
قتلتم فأحسنوا القتلة وإذا ذبحتم فاحسنوا الذبحة وليحد أحدكم شفرته وليرح
ذبيحته " ويكره أن يحد السكين والحيوان يبصره، ورأى عمر رجلاً قد وضع رجليه
على شاة وهو يحد السكين فضربه حتى أفلت الشاة، ويكره أن يذبح شاة والأخرى
تنظر إليه كذلك * (مسألة) * (ويكره أن يكسر عنق الحيوان أو يسلخه حتى يبرد
أي حتى تزهق نفسه)
(11/60)
وقد قال عمر رضي الله عنه لا تعجلوا الأنفس
حتى تزهق، ولأن في ذلك تعذيب الحيوان فأشبه قطع عضو منه، وممن كره قطع عضو
منه قبل الزهوق عطاء وعمرو بن دينار ومالك والشافعي ولا نعلم لهم مخالفاً *
(مسألة) * (فإن فعل أساء وأكلت لأن ذلك حصل بعد ذبحها وحلها) وقد سئل أحمد
عن رجل ذبح دجاجة فأبان رأسها فقال يأكلها قيل له والذي بان منها أيضاً؟
قال نعم قال البخاري قال ابن عمر وابن عباس إذا قطع الراس فلا بأس به وهو
قول الحسن والنخعي والشعبي والزهري والشافعي وإسحاق وأبي ثور وأصحاب الرأي
وذلك لأن قطع ذلك العضو بعد حصول الذكاة فأشبه ما لو قطعه بعد الموت، فأما
إن قطع من الحيوان شئ وفيه حياة مستقرة فهو ميتة لما روى أبو واقد الليثي
قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما قطع من البهيمة وهي حية فهو
ميتة " رواه أبو داود ولأن إباحته إنما تحصل بالذبح وليس هذا بذبح *
(مسألة) * (وإن ذبح الحيوان ثم غرق في ماء أو وطئ عليه شئ يقتله مثله فهل
يحل؟ على روايتين) (إحداهما) لا يحل وهو الذي ذكره الخرقي ونص عليه أحمد
لقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث عدي ابن حاتم في الصيد " وإن وقعت
في الماء فلا تأكل " وقال ابن مسعود من رمى طائرا فوقع في ماء فغرق فيه فلا
يأكله ولأن الغرق سبب يقتل فإذا اجتمع مع الذبح فقد اجتمع ما يبيح ويحرم
فيغلب الحظر ولأنه لا يؤمن أن يعين على خروج الروح فيكون قد خرجت بفعلين
مبيح ومحرم فأشبه ما لو وجد الأمران في حال واحدة أو رماه مسلم ومجوسي فمات
(والثانية) لا يحرم وبه قال أكثر أصحابنا المتأخرين وهو قول أكثر الفقهاء
لأنها إذا ذبحت فقد صارت في حكم الميت وكذلك لو أبين رأسها بعد الذبح لم
يحرم نص عليه أحمد ولأنه لو ذبح إنسان ثم ضربه آخر أو غرقه لم يلزمه قصاص
ولا دية * (مسألة) * (وإذا ذبح الكتابي ما يحرم عليه كذي الظفر لم يحرم
علينا)
(11/61)
وذو الظفر قال قتادة هي الإبل والأنعام
والبط وما ليس بمشقوق الأصابع، وإذا ذبح حيواناً غيره لم تحرم علينا الشحوم
المحرمة عليهم وهي شحم الثرب والكليتين في ظاهر كلام أحمد رحمه الله
واختاره ابن حامد فإن أحمد حكى عن مالك في اليهودي يذبح الشاة قال لا تأكل
من شحمها قال أحمد هذا مذهب دقيق وظاهر أنه لم يره صحيحاً وهذا اختيار ابن
حامد وأبي الخطاب وذهب أبو الحسن التميمي والقاضي إلى تحريمها وحكاه
التميمي عن الضحاك ومجاهد وهو قول مالك لأن الله تعالى قال (وطعام الذين
أوتوا الكتاب حل لكم) وليس هذا من طعامهم ولأنه جزء من البهيمة
لم يبح لذابحها فلم يبح لغيره كالدم ولنا ما روى عبد الله بن مغفل قال دلي
جراب من شحم يوم خيبر فنزوت لآخذه فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يتبسم
إلي متفق عليه، ولأنها ذكاة أباحت اللحم فأباحت الشحم كذكاة المسلم والآية
حجة لنا فإن معنى طعامهم ذبائحهم كذلك فسره العلماء وقياسهم ينتقض بما ذبحه
الغاصب، وإن ذبح شيئاً يزعم أنه يحرم عليه ولم يثبت أنه محرم عليه حل لعموم
الآية وقوله إنه حرام غير معقول * (مسألة) * (وان ذبح لعيده أو ليتقرب به
إلى شئ مما يعظمونه لم يحرم عليه لأنه من طعامهم فيدخل في عموم الآية)
وجملة ذلك أن ما ذبحوه لكنائسهم ينظر فيه فإن ذبح مسلم فهو مباح نص عليه
وقال أحمد وسفيان في المجوسي يذبح لآلهته ويدفع الشاة إلى المسلم فيذبحها
فيسمي: يجوز الأكل منها وقال إسماعيل بن سعيد سألت أحمد عما يقرب لآلهتم
يذبحه رجل مسلم قال لا بأس به وأن ذبحها الكتابي وسمى الله وحده حلت أيضاً
لأن شرط الحل وجد، وإن علم أنه ذكر غير اسم الله عليها أو ترك التسمية
عمداً لم تحل، قال حنبل سمعت أبا عبد الله قال لا تؤكل يعني ما ذبح
لأعيادهم وكنائسهم لأنه أهل لغير الله به وقال في موضع يدعون التسمية عمداً
أنما يذبحون للمسيح، فأما ما سوى ذلك فرويت عن أحمد الكراهة فيما ذبح
لكنائسهم وأعيادهم مطلقاً وهو قول ميمون بن مهران لأنه ذبح لغير الله وروى
عن أحمد إباحته وسئل عنه العرباض بن سارية فقال كلوا وأطعموني وروي مثل ذلك
عن أبي أمامة الباهلي وأبي مسلم الخولاني وأكله أبو الدرداء
(11/62)
وجبير بن نفير ورخص فيه عمر بن الاسود
ومكحول وضمرة بن حبيب لقول الله تعالى (وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم)
وهذا من طعامهم قال القاضي ما ذبحه الكتابي لعيده أو نجم أو صنم أو نبي
فسماه على ذبيحته حرم لقول الله تعالى (وما أهل لغير الله به) وإن سمى الله
وحده حل لقول الله تعالى (فكلوا مما ذكر اسم الله عليه) لكنه يكره لقصده
بقلبه الذبح لغير الله تعالى (فصل) قال أحمد لا تؤكل المصبورة ولا المجثمة
وبه قال إسحاق والمجثمة هي الطائر والأرنب يجعل غرضا يرمى حتى يقتل
والمصبورة مثله إلا أن المجثمة لا تكون إلا في الطائر أو الأرنب وأشباهها
والمصبورة كل حيوان وأصل الصبر الحبس، والأصل في تحريمه أن النبي صلى الله
عليه وسلم نهى عن صبر البهائم وقال " لا تتخذوا شيئاً فيه الروح غرضا "
وروى سعيد بإسناده قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المجثمة وعن
أكلها ولأنه حيوان مقدور عليه فلم يبح بغير الذكاة كالبعير والبقرة *
(مسألة) * (ومن ذبح حيواناً فوجد في بطنه جراداً أو طائرا فوجد في حوصلته
حبا أو وجد الحب في بعر الجمل لم يحرم وعنه يحرم) قال أحمد في السمكة توجد
في بطن سمكة أخرى أو حوصلة طائر أو يوجد في حوصلته جراد فقال في موضع: كل
شئ أكل مرة لا يؤكل لأنه مستخبث وقال في موضع: الطافي أشد من هذا وقد رخص
فيه أبو بكر الصديق رضي الله عنه قال شيخنا وهذا هو الصحيح وهو مذهب
الشافعي فيما في بطن السمكة دون ما في حوصلة الطائر لأنه كالرجيع ورجيع
الطائر عنده نجس ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " أحلت لنا ميتتان
ودمان " ولأنه حيوان طاهر في محل طاهر لا تعتبر له ذكاة فأبيح كالطافي من
السمك وهذا يخرج في الشعير يوجد في بعر الجمل وخثي الجواميس ونحوها
(11/63)
|