الشرح
الكبير على متن المقنع * (باب جامع الأيمان) * * (مسألة) * (ويرجع
في الأيمان إلى النية فإن لم تكن له نية رجع إلى سبب اليمين وما هيجها)
الأيمان مبنية على نية الحالف فإذا نوى بيمينه ما يحتمله انصرفت يمينه إليه
سواء كان ما نواه موافقا لظاهر اللفظ أو مخالفاً له، فالموافق للظاهر أن
ينوي باللفظ موضوعه الأصلي مثل أن ينوي باللفظ العام العموم وبالمطلق
الإطلاق وبسائر الألفاظ ما يتبادر إلى الافهام منها.
والحالف يتنوع أنواعاً (أحدها) أن ينوي بالعام الخاص مثل أن يحلف لا يأكل
لحماً ولا فاكهة يريد لحماً بعينه وفاكهة بعينها (ومنها) أن يحلف على فعل
شئ أو تركه مطلقاً وينوي فعله أو تركه في وقت بعينه مثل أن يحلف لا يتغدى
ويريد اليوم أولا أكلت يعني الساعة (ومنها) أن ينوي بيمينه غير ما يفهمه
السامع منه كما ذكرنا في المعاريض في مسألة إذا تأول في يمينه فله تأويله
(ومنها) أن يريد بالخاص العام مثل أن يحلف لا شربت لفلان الماء من العطش
يعني قطع كل ماله فيه منه أو لا يأوي مع امرأته في دار يريد حفاءها بترك
اجتماعه بها في جميع الدور أو حلف لا يلبس ثوبا من غزلها يريد قطع منتها به
فتعلق يمينه بالانتفاع به أو بثمنه منها مما لها فيه منة عليه وبهذا قال
مالك، وقال أبو حنيفة والشافعي لا عبرة بالنية والسبب فيما يخالف لفظه لأن
الحنث مخالفة ما وقعت عليه اليمين واليمين لفظة فلو أحنثناه على ما سواه
لاحنثناه على ما نوى لا على ما حلف ولأن النية بمجردها لا تنعقد بها اليمين
فكذلك لا يحنث بمخالفتها ولنا أنه نوى بكلامه ما يحتمل ويسوغ في اللغة
التعبير عنه فتنصرف يمينه إليه كالمعاريض،
(11/209)
وبيان احتمال اللفظ له أنه يسوغ في كلام
العرب التعبير بالخاص عن العام قال الله تعالى (ما يملكون
من قطمير - ولا يظلمون فتيلا - وإذا لا يؤتون الناس نقيرا) والقطمير لفافة
النواة والفتيل ما في شقها والنقير النقرة التي في ظهرها ولم يرد ذلك بعينه
بل نفى كل شئ، وقال الحطيئة يهيج بني العجلان: * ولا يظلمون الناس حبة خردل
* ولم يرد الحبة بعينها إنما أراد لا يظلمونهم شيئاً وقد يذكر العام ويراد
به الخاص كقوله تعالى (الذين قال لهم الناس) أراد رجلاً واحداً (إن الناس
قد جمعوا لكم) يعني أبا سفيان وقال (تدمر كل شئ بأمر ربها) ولم تدمر السماء
والأرض ولا مساكنهم، وإذا احتمله اللفظ وجب صرف اليمين إليه إذا نواه لقول
النبي صلى الله عليه وسلم " وإنما لأمرئ ما نوى " ولأن كلام الشارع يحمل
على مراده به إذا ثبت ذلك بالدليل فكذلك كلام غيره.
قولهم أن الحنث مخالفة ما عقد اليمين عليه قلنا وهذا كذلك فإن اليمين إنما
انعقدت على ما نواه ولفظه مصروف إليه وليست هذه نية مجردة بل لفظ منوي به
ما يحتمله (فصل) ومن شرائط انصراف اللفظ إلى ما نواه احتمال اللفظ له فإن
نوى ما لا يحتمله اللفظ مثل أن يحلف لا يأكل خبزاً يعني به لا يدخل بيتاً
فإن يمينه لا تنصرف إلى المنوي لأنها نية مجردة لا يحتملها اللفظ فأشبه ما
لو نوى ذلك بغير يمين * (مسألة) * [فإن لم تكن له نية رجع إلى سبب اليمين
وما هيجها] إذا عدمت البينة نظرنا في سبب اليمين وما أثارها لدلالتها على
النية فإذا حلف ليقضينه حقه غداً فقضاه قبله لم يحنث إذا قصد أن لا يتجاوزه
أو كان السبب لا يقتضيه وبهذا قال أبو حنيفة ومحمد
(11/210)
وأبو ثور وقال الشافعي يحنث إذا قضاه قبله
لأنه يترك ما حلف عليه مختارف فحنث كما لو قضاه بعده ولنا أن مقضتى اليمين
تعجيل القضاء قبل خروج الغد فإذا قضاه قبله فقد قضى قبل خروج الغد وزاده
خيراً ولأن مبنى الأيمان على هذا ونية هذا بيمينه تعجيل القضاء قبل خروجه
فتعلقت يمينه بهذا المعنى كما لو صرح به، فإن لم تكن له نية رجع إلى سبب
اليمين فإن كان يقتضي التعجيل فهو كما لو نواه لأن السبب يدل على النية،
وإن لم ينو ذلك ولا كان السبب يقتضيه فظاهر كلام الخرقي أنه لا يبر إلا
بقضائه قبله وقال القاضي يبر على كل حال لأن اليمين للحنث على الفعل فمتى
عجله فقد أتى بالمقصود فيه فيبر كما لو نوى ذلك، والأول أصح إن شاء الله
تعالى لأنه ترك فعل ما تناولته يمينه لفظا ولم تصرفها عنه نية ولا سبب فحنث
كما لو حلف ليصومن شعبان فصام رجباً ويحتمل أن ما قاله القاضي في القضاء
خاصة لأن عرف هذه اليمين في القضاء التعجيل فتنصرف اليمين المطلقة إليه.
[فصل] فأما غير قضاء الحق كأكل شئ أو شربه أو بيع شئ أو شرائه أو ضرب عبده
أو نحوه فمتى عين وقتأً ولم ينو ما يقتضي تعجيله ولا كان سبب يمينه يقتضيه
لم يبر إلا بفعله في وقته، وذكر القاضي أنه يبر بتعجيله عن وقته وحكي ذلك
عن بعض أصحاب أبي حنيفة.
ولنا أنه لم يفعل المحلوف عليه في وقته من غير نية تصرف يمينه ولا سبب
فيحنث كالصيام، ولو فعل بعض المحلوف عليه قبل وقته وبعضه في وقته لم يبر
لأن اليمين في الإثبات لا يبر فيها إلا بفعل جميع المحلوف عليه، فترك بعضه
في وقته كترك جميعه إلا أن ينوي أن لا يجاوز ذلك الوقت أو يقتضي ذلك سببها.
(11/211)
* (مسألة) * (وإن حلف أن لا يبيع ثوبه إلا
بمائة فباعه باكثر لم يحنث أن باعه بأقل حنث) لأن قصده أن لا يبيعه بأقل
منها فحنث إذا باعه بالأقل ولا يحنث إذا باعه بأكثر لأن قرينة الحال تدل
على ذلك والعرف فهو كما لو حلف ليقضينه حقه غذا فقضاه اليوم، ومقتضى مذهب
الشافعي أنه يحنث إذا باعه بأكثر لمخالفته اللفظ * (مسألة) * (ومن حلف لا
يبيع ثوبه بعشرة فباعه بها أو بأقل حنث وإن باعه بأكثر لم يحنث) وقال
الشافعي لا يحنث إذا باعه بأقل لأنه لم تتناوله يمينه ولنا أن العرف في هذا
أن لا يبيعه بها ولا بأقل منها بدليل أنه لو وكل في بيعه إنساناً وأمره أن
لا يبيعه بعشرة لم يكن له بيعه بأقل منها، وإن هذا تنبيه على امتناعه من
بيعه بما دون العشرة والحكم يثبت بالتنبيه كثبوته باللفظ، وإن حلف لا
أشتريه بعشرة فاشتراه بأقل لم يحنث وإن اشتراه بها أو بأكثر منها حنث لما
ذكرنا، ومقتضى مذهب الشافعي أن لا يحنث إذا اشتراه بأكثر منها لأن يمينه لم
تتناوله لفظاً
ولنا أنها تناولته عرفا وتنبيهاً فكان حانثاً كما لو حلف أن ماله علي حبة
فإنه يحنث إذا كان عليه أكثر منها، قيل لاحمد رجل حلف لا ينقص هذا الثوب من
كذا قال قد أخذته ولكن هب لي كذا؟ قال هذا حيلة، قيل له فإن قال البائع
أبيعك بكذا وأهب لفلان شيئاً آخر؟ قال هذا كله ليس بشئ وكرهه.
* (مسألة) * (وإن حلف لا يدخل داراً ونوى اليوم لم يحنث بالدخول في غيره)
(11/212)
لأن قصده يتعلق باليوم فاختص الحنث بالدخول
فيه دون غيره * (مسألة) * (وإن دعي إلى غداء فحلف لا يتغدى اختصت يمينه به
إذا قصده لما ذكرنا) * (مسألة) * (وإن حلف لا يشرب له الماء من العطش يقصد
قطع منته حنث بأكل خبزه واستعارة دابته وكل ما فيه المنة) لأن ذلك للتنبيه
على ما هو أعلى منه كقول الله تعالى (ولا يظلمون فتيلا) يريد لا يظلمون
شيئاً وقال الشاعر: * ولا يظلمون الناس حبة خردل * * (مسألة) * (وإن حلف لا
يلبس ثوبا من غزلها يقصد قطع منتها فباعه واشترى بثمنه ثوبا فلبسه حنث
وكذلك إن انتفع بثمنه) هذه المسألة أصل فرع قد تقدم ذكره في أول الباب وهو
أن الأسباب معتبرة في الأيمان بتعدى الحكم بتعديها فإذا امتن عليه بثوب
فحلف أن لا يلبسه لتنقطع المنة به حنث بالانتفاع به في غير اللبس لأنه نوع
انتفاع به تلحق المنة به، فإن لم يقصد قطع المنة ولا كان سبب يمينه يقتضي
ذلك لم يحنث الا بما تناولته يمينه وهو لبسه خاصة، فلو أبدله بثوب غيره ثم
لبسه أو باعه وأخذ ثمنه لم يحنث لعدم تناول اليمين له لفظاً ونية وسبباً
(فصل) فإن فعل شيئاً لها فيه منة عليه سوى الانتفاع بالثوب وبعوضه مثل أن
سكن دارها أو أكل طعاماً أو لبس ثوبها لها غير الثوب المحلوف عليه لم يحنث
لأن المحلوف عليه الثوب فتعلقت يمينه به أو بما حصل به فلم يتعد إلى غيره
لاختصاص اليمين والسبب به
(11/213)
(فصل) وإن امتنت امرأته عليه بثوب فحلف أن
لا يلبسه قطعاً لمنتها فاشتراه غيرها ثم كساه إياه أو اشتراه الحالف ولبسه
على وجه لا منه لها فيه ففيه وجهان (أحدهما) يحنث لمخالفته يمينه لفظاً
ولأن لفظ الشارع إذا كان أعم من السبب وجب الأخذ بعموم اللفظ دون خصوص
السبب كذا في اليمين ولأنه لو خاصمتة امرأة له فقال نسائي طوالق طلقن كلهن
وإن كان سبب الطلاق واحدة كذا ههنا (والثاني) لا يحنث لأن السبب اقتضى
تقييد لفظه بما وجد فيه السبب فصار كالمنوي أو كما لو خصصه بقرينة لفظيه: *
(مسألة) * (فإن حلف لا يأوي معها في دار يرد جفاءها ولم يكن للدار سبب يهيج
يمينه فأوى معها في غيرها حنث) وهذه المسألة أيضاً من فروع اعتبار النية
وذلك أنه متى قصد جفاءها بترك الأوي معها ولم يكن للدار أثر في يمينه كان
ذكر الدار كعدمه وكأنه حلف لا يأوي معها فإذا أوى معها في غيرها حنث
لمخالفته ما حلف على تركه وصار هذا بمنزلة سؤال الإعرابي رسول الله صلى
الله عليه وسلم واقعت أهلي نهار رمضان فقال " أعتق رقبة " لما كان ذكره
أهله لا أثر له في إيجاب الكفارة حذفناه من السبب وصار السبب الوقاع سواء
كان للأهل أو لغيره، وإن كان للدار أثر في يمينه مثل أن يكره سكناها أو
خوصم من أجلها أو امتن عليه بها لم يحنث إذا أوى معها في غيرها لأنه قصد
بيمينه الجفاء في الدار بعينها فلم يخالف ما حلف عليه
(11/214)
وإن عدم السبب والنية لم يحنث إلا بفعل ما
تناوله لفظه وهو الأوي معها في تلك الدار بعينها لأنه لم يجب اتباع لفظه
إذا لم يكن سبب ولا نية تصرف اللفظ عن مقتضاه أو تقتضي زيادة عليه ومعنى
الأوي الدخول فمن حلف لا يأوي معها فدخل معها الدار حنث قليلاً كان لبثهما
أو كثيراً قال الله تعالى مخبراً عن فتى موسى (إذ أوينا إلى الصخرة) قال
أحمدكم كان ذلك إلا ساعة أو ما شاء الله يقال أويت أنا واويت غيري قال الله
تعالى (إذ أوى الفتية إلى الكهف) وقال تعالى (وآويناهما إلى ربوة)
(فصل) وإن برها بهدية أو غيرها أو اجتمع معها فيما ليس بدار ولا بيت لم
يحنث سواء كان للدار سبب في يمينه أو لم يكن لأنه قصد جفاءها بهذا النوع
فلم يحنث بغيره فإن حلف أن لا يأوي معها في دار لسبب فزال السبب الموجب
ليمينه مثل أن كان السبب امتنانها بها عليه فملك الدار أو صارت لغيرها فأوى
معها فيها فهل يحنث؟ على وجهين مضى ذكرهما وتعليلهما (فصل) وإن حلف لا يدخل
عليها بيتاً فدخل عليها فيما ليس ببيت فحكمه حكم المسألة التي قبلها إن قصد
جفاءها ولم يكن للبيت سبب هيج يمينه حنث وإلا فلا وإن دخل على جماعة هي
فيهم يقصد الدخول عليها معهم حنث وكذلك إن لم يقصد شيئاً، وإن استثناها
بقلبه ففيه وجهان (أحدهما) لا يحنث كما لو حلف أن لا يسلم عليها فسلم على
جماعة هي فيهم يقصد بقلبه السلام على غيرها فإنه لا يحنث (والثاني) يحنث
لأن الدخول فعل لا يتميز فلا يصح تخصيصه بالقصد وقد وجد في حق الكل على
السواء وهي منهم فحنث به كما لو لم يقصد استثناءها، وفارق السلام فإنه قول
يصح تخصيصه بالقصد ولهذا يصح أن يقال السلام عليكم إلا فلاناً ولأن السلام
قول يتناول ما يتناوله الضمير في عليكم
(11/215)
والضمير عام يصح أن يراد به الخاص فصح أن
يراد به من سواها والفعل لا يتأتى فيه هذا وإن دخل بيتاً لم يعلم أنها فيه
فوجدها فيه فهو كالدخول عليها ناسيا ففيه روياتان فإن قلنا لا يحنث بذلك
فخرج حين علم بها لم يحنث وكذلك إن حلف لا يدخل عليها فدخلت هي عليه فخرج
في الحال لم يحنث وأن أقام معها فهل يحنث؟ على وجهين بناء على من حلف لا
يدخل دارا هو فيه فاستدام المقام فهل يحنث؟ على وجهين * (مسألة) * (وإن حلف
لعامل لا يخرج إلا بإذنه فعزل أو على زوجته فطلقها أو على عبده فاعتقه
ونحوه يريد ما دام كذلك انحلت يمينه وإن لم تكن له نية انحلت يمينه أيضا)
ذكره الخرقي لأن الحال تصرف اليمين إليه وذكر في موضع آخر أن السبب إذا كان
يقتضي التعميم عممناها به وإن اقتضى الخصوص مثل من نذر لا يدخل بلداً لظلم
رآه فيه فزال الظلم فقال أحمد النذر يوفي به، قال شيخنا والأول أولى لأن
السبب يدل على النية فصار كالمنوي سواء، وإن حلف لا رأيت منكراً إلا رفعته
إلى فلان القاضي فعزل انحلت يمينه إن نوى مادام قاضياً وإن لم ينو
احتمل وجهين وقد ذكرنا في أول الباب أن النية إذا عدمت نظرنا في سبب اليمين
وما أثارها لدلالته على النية فإذا حلف لا يأوي مع امرأته في هذه الدار
وكان سبب يمينه غيظاً من جهة الدار لضرر لحقه منها أو منة عليه بها اختصت
يمينه بها، وإن كان لغيظ لحقه من المرأة يقتضي جفاءها لا أثر للدار فيه
تعلق بأويه معها في كل دار، ومثله إذا حلف لا يلبس ثوبا من غزلها إن كان
سببه المنة عليه منها فكيفما انتفع به أو بثمنه حنث، وإن كان سبب يمينه
خشونة غزلها أو رداءته لم تتعد يمينه لبسه وقد دللنا على تعلق اليمين بما
نواه والسبب دليل على النية فيتعلق اليمين به وقد ثبت أن كلام الشارع إذا
(11/216)
كان خاصاً في شئ لسبب عام تعدى إلى ما وجد
فيه السبب لنصه على تحريم التفاضل في أعيان ستة ثبت الحكم في كل ما وجد فيه
معناها كذلك في كلام الآدمي مثله، فأما إن كان اللفظ عاماً والسبب خاصاً
مثل من دعي إلى غداء فحلف لا يتغدى أو حلف أن لا يقعد فإن كانت له نية
فيمينه على ما نوى وإن لم تكن له نية فكلام أحمد يقتضي روايتين (إحداهما)
إن اليمين محمولة على العموم لأن أحمد سئل عن رجل نذر لا يدخل بلداً لظلم
رآه فيه فزال الظلم فقال النذر يوفي به يعني لا يدخله.
ووجه ذلك أن لفظ الشارع إذا كان عاماً لسبب خاص وجب الأخذ بعوم اللفظ لا
بخصوص السبب كذلك يمين الحالف وذكر القاضي فيمن حلف على زوجته أو عبده أن
لا يخرج إلا بإذنه فعتق العبد وطلقت المرأة وخرجا بغير إذنه لا يحنث لأن
قرينة الحال تنقل حكم الكلام إلى نفسها وإنما يملك منع الزوجة أو العبد مع
ولايته عليهما فكأنه قال ما دمتما في ملكي، ولأن السبب يدل على النية في
الخصوص كدلالته عليها في العموم ولو نوى الخصوص لاختصت يمينه به فكذلك إذا
وجد ما يدل عليها.
ولو حلف لعامل لا يخرج إلا بإذنه فعزل أو حلف لا يرى منكراً إلا رفعه إلى
فلان القاضي فعزل ففيه وجهان بناء على ما تقدم (أحدهما) لا تنحل اليمين
بعزله قال القاضي هذا قياس المذهب لأن اليمين إذا تعلقت بيمين موصوفة تعلقت
بالعين وإن تغيرت الصفة وهذا أحد الوجهين لأصحاب الشافعي (والوجه الآخر)
تنحل اليمين بعزله وهو مذهب أبي حنيفة لأنه لا يقال رفعه إليه إلا في حال
ولايته.
فعلى هذا إن رأى المنكر في ولايته فأمكنه رفعه فلم يرفعه إليه حتى عزل لم
يبر برفعه إليه في حال العزل وهل يحنث بعزله؟ فيه وجهان
(11/217)
(أحدها) يحنث لأنه قد فات رفعه إليه فأشبه
ما لو مات (والثاني) لا يحنث لأنه لم يتحقق فواته لاحتمال أن يلي فيرفعه
إليه بخلاف ما لو مات فإنه يحنث لأنه قد تحقق فواته، وإن مات قبل إمكان
رفعه إليه حنث أيضاً لأنه قد فات فأشبه ما لو حلف ليضر بن عبده في غد فمات
العبد اليوم ويحتمل أن لا يحنث لأنه لم يتمكن من فعل المحلوف عليه فأشبه
المكره، وإن قلنا لا تنحل يمينه فعزل فرفعه إليه بعد عزله بر بذلك (فصل)
وإن اختلف السبب والنية مثل أن امتنت عليه امرأته بغزلها فحلف أن لا يلبس
ثوبا من غزلها ينوي اجتناب اللبس خاصة دون الانتفاع بثمنه وغيره قدمت النية
على السبب وجهاً واحداً لأن النية وافقت مقتضى اللفظ وإن نوى بيمينه ثوباً
واحداً فكذلك في ظاهر كلام الخرقي وقال القاضي يقدم السبب لأن اللفظ، ظاهر
في العموم والسبب يؤكد ذلك الظاهر ويقويه لأن السبب هو الامتنان وظاهر حاله
قصد قطع المنة فلا يلتفت إلى نيته المخالفة للظاهرين والأول أصح لأن السبب
إنما اعتبر لدلالته على القصد فإذا خالف حقيقة القصد لم يعتبر فكان وجوده
كعدمه فلم يبق إلا اللفظ بعمومه والنية تخصه على ما بيناه فيما مضى * (فصل)
* قال الشيخ رحمه الله (فإن عدم ذلك رجع إلى التعيين - يعني إذا عدمت النية
والسبب رجع إلى التعيين - فإذا حلف لا يدخل دار فلان هذه فدخلها وقد صارت
فضاء أو حماماً أو مسجداً أو باعها فلان، أو لالبست هذا القميص فجعله
سراويل أو رداء أو عمامة ولبسه، أو لا كلمت هذا الصبي فصار شيخا أو امرأة
فلان أو صديقة فلان أو غلامه سعداً فطلقت الزوجة وزالت الصداقة وعتق العبد
فكلمهم، أو لا أكلت لحم هذا الحمل فصار كبشاً أو لا أكلت هذا الرطب فصار
تمراً أو دبساً أو خلا أو لا أكلت هذا اللبن فتغير أو عمل منه شئ فأكله حنث
في ذلك كله ويحتمل أن لا يحنث)
(11/218)
وجملة ذلك أنه إذا حلف على شئ عينه
بالإشارة مثل إن حلف لا يأكل هذا الرطب لم يخل من حالين (أحدهما) أن يأكله
رطبا فيحنث بلا خلاف بين الجميع لكون فعل ما حلف على تركه صريحا (الثاني)
أن تتغير صفته فذلك خمسة أقسام
(أحدها) أن تستحيل أجزاؤه ويتغير اسمه مثل إن حلف لا أكلت هذه البيضة فصارت
فرخاً أو لا أكلت هذه الحنطة فصارت زرعا فأكله فلا يحنث لأنه زال اسمه
واستحالت أجزاؤه وعلى قياسه لا شربت هذا الخمر فصار خلا وشربه (القسم
الثاني) وتغيرت صفته وزال اسمه مع بقاء أجزائه مثل أن حلف لا أكلت هذا
الرطب فصار تمراً، أو لا كلمت هذا الصبي فصار شيخاً، أو لا أكلت هذا الحمل
فصار كبشاً، أو لا دخلت هذه الدار فدخلها بعد تغيرها (1) وقاله أبو يوسف في
الحنطة إذا صارت دقيقاً وللشافعي في الرطب إذا صار تمراً والصبي إذا صار
شيخاً والحمل إذا صار كبشاً وجهان وقالوا في سائر الصور لا يحنث لأن اسم
المحلوف عليه وصورته زالت فلم يحنث كما لو حلف لا يأكل هذه البيضة فصارت
فرخا ولنا أن عين المحلوف عليه باقية فحنث كما لو حلف لا أكلت هذا الحمل
فأكل لحمه أو لا لبست هذا الغزل فصار ثوباً ولبسه أو لا لبست هذا الرداء
فلبسه بعد أن صار قميصاً أو سراويل، وفارق البيضة إذا صارت فرخا لان
أجزاءها استحالب فصارت عينا أخرى ولم تبق عينها ولأنه لا اعتبار بالاسم مع
التعيين كما لو حلف لا كلمت زيداً هذا فغير اسمه أو لا كلمت صاحب الطيلسان
__________
(1) سقط من الاصل هنا كلام كثير يراجع في المغني
(11/219)
فكلمه بعد بيعه ولأنه متى اجتمع التعيين مع
غيره فما يعرف به كان الحكم للتعيين كما لو اجتمع مع الإضافة (القسم
الثالث) تبدلت الإضافة مثل أن حلف لا كلمت زوجة زيد هذه ولا عبده هذا ولا
دخلت داره هذه فعلق الزوجة وباع العبد والدار فكلمهما ودخل حنث وبه قال
مالك والشافعي ومحمد وزفر، وقال أبو حنيفة وابو يوسف لا يحنث إلا في الزوجة
لأن الدار لا توالى ولا تعادى وإنما الامتناع لأجل مالكها فتعلقت اليمين
بها مع بقاء ملكه عليه وكذلك العبد في الغالب ولنا أنه إذا اجتمع في اليمين
التعيين والإضافة كان الحكم للتعيين كما لو قال والله لا كلمت زوجة فلان
ولا صديقه.
وما ذكروه لا يصح في العبد لأنه يوالى ويعادى ويلزمه في الدار إذا أطلق ولم
يذكر مالكها فإنه يحنث بدخولها بعد بيع مالكها إياها (القسم الرابع) إذا
تغيرت صفته بما يزيل اسمه ثم عادت كمقص انكسر ثم أعيد وقلم كسر ثم بري
وسفينة نقضت ثم أعيدت فإنه يحنث لأن اجزاءها واسمها موجودان فأشبه ما لو لم
يتغير (القسم الخامس) إذا تغيرت صفته بما لا يزيل اسمه كلحم شوي وعبد بيع
ورجل مرض فإنه يحنث به بلا خلاف نعلمه لأن الاسم الذي علق عليه اليمين لم
يزل، ولا زال التغيير فحنث به كما لو لم يتغير حاله (فصل) وإن قال والله لا
كلمت سعداً زوج هند او سيد صبيح أو صديق عمرو أو مالك هذا الدار أو صاحب
الطيلسان، أو لا كلمت هندا امرأة سعد أو صبيحاً عبده او عمرا صديقه ف؟ لق
الزوجة وباع العبد والدار والطيلسان وعادى عمرا وكلمهم حنث لأنه متى اجتمع
الاسم والاضافة غلب الاسم بجريانه مجرى التعيين في تعريف المحل (فصل) ولو
حلف لا يلبس هذا الثوب وكان رداء في حال حلفه فارتدى به او اتزر أو اعتم به
(11/220)
أو جعله قميصاً أو سراويل أو قباء فلبسه
حنث، وكذلك إن كان قميصاً فارتدى به أو سراويل فاتزر بها وهذا هو الصحيح من
مذهب الشافعي لأنه قد لبسه، وإن قال في يمينه لا لبسته وهو رداء فغيره عن
كونه رداء ولبسه لم يحنث لأن اليمين وقعت على ترك لبسه رداء، وكذلك أن نوى
بيمينه في شئ من هذه الأشياء مادام على تلك الصفة والإضافة وما لم يتغير في
هذه المسائل المذكورة في هذا الفصل والذي قبله لقوله عليه السلام " وانما
لا مرئ ما نوى) * (فصل) * قال الشيخ رحمه الله (فإن عدم ذلك رجعنا إلى ما
يتناوله الاسم.
والأسماء تنقسم ثلاثة أقسام شرعية وحقيقية وعرفية) وجملة ذلك أن الأسماء
تنقسم على ستة أقسام (أحدها) ماله مسمى واحد كالرجل والمرأة والإنسان
والحيوان فهذا تنصرف اليمين إلى مسماه بيغر خلاف (والثاني) ماله موضوع شرعي
وموضوع لغوي كالوضوء والصلاة والطهارة والزكاة والصوم والحج والعمرة والبيع
فهذا ينصرف اليمين عند الاطلاق إلى الموضوع الشرعي دون اللغوي لا نعلم
أيضاً فيه خلافاً إلا ما ذكره فيما يأتي إن شاء الله
(الثالث) ماله موضوع حقيقي ومجاز لم يستعمل أكثر من الحقيقة كالأسد والبحر
فيمين الحالف ينصرف عند الاطلاق إلى الحقيقة دون المجاز لأن كلام الشارع
إذا ورد مثل هذا حمل على حقيقته دون مجازه كذلك اليمين (الرابع) الأسماء
العرفية، وهي ما يشتهر مجازه حتى تصير الحقيقة مغمورة فيه فهذا على ضروب
(أحدها) ما يغلب على الحقيقة بحيث لا يعلمها أكثر الناس كالرواية وهي في
العرف اسم للمزادة
(11/221)
وفي الحقيقة اسم لما يستقى عليه من
الحيوانات، والظعينة في العرف المرأة وفي الحقيقة الناقة التي يظعن عليها،
والعذرة والغائط في العرف الفضلة المستقذرة، وفي الحقيقة العذرة فناء الدار
ولذلك قال علي رضي الله عنه لقوم ما لكم لا تنظفون عذراتكم؟ يريد أفنيتكم،
والغائط المطمئن من الأرض.
فهذا وأشباهه يصرف يمين الحالف إلى المجاز دون الحقيقة لأنه الذي يريده
بيمينه ويفهم من كلامه فأشبه الحقيقة في غيره (الضرب الثاني) أن يخص عرف
الاستعمال بعض الحقيقة بالاسم الموضوع ويتنوع أنواعاً نذكرها إن شاء الله
في المسائل كادابة والريحان وغير ذلك * (فصل) * في الأسماء الشرعية، إذا
حلف لا يبيع فباع بيعاً فاسداً أو لا ينكح فنكح نكاحاً فاسداً لم يحنث إلا
أن يضيف اليمين إلى شئ لا تتصور فيه الصحة مثل أن يحلف أن لا يبيع الحر أو
الخمر فيحنث بصورة البيع إذا حلف أن لا يبيع ولا ينكح انصرف إلى الصحيح دون
الفاسد وبهذا قال الشافعي، وقال أبو حنيفة إذا قال لعبده إن زوجتك أو بعتك
فأنت حر فزوجه تزويجاً فاسداً لم يعتق، وإن باعه بيعاً فاسداً يملك به حنث
لأن البيع ينصرف إلى الصحيح بدليل قول الله تعالى (وأحل الله البيع) وأكثر
ألفاظه في البيع إنما تنصرف إلى الصحيح فلا يحنث بما دونه كما في النكاح
وكالصلاة وغيرهما وما ذكروه من ثبوت الملك به ممنوع، وقال ابن أبي موسى لا
يحنث بالنكاح الفاسد وهل يحنث بالبيع الفاسد؟ على
(11/222)
روايتين، وقال أبو الخطاب إن نكحها نكاحاً
مختلفاً فيه مثل أن يتزوجها بلا ولي ولا شهود أو باع في وقت النداء فعلى
وجهين، وقال ابن أبي موسى إن تزوجها زواجاً مختلفاً فيه أو ملك ملكاً
مختلفاً فيه حنث فيهما جميعاً ولنا أنه نكاح فاسد وبيع فاسد فلم يحنث بهما
كالمتفق على فسادهما (فصل) والماضي والمستقبل سواء في هذا وقال محمد بن
الحسن إذا حلف ما تزوجت ولا صليت ولا بعت وكان قد فعله فاسداً حنث لأن
الماضي لا يقصد منه إلا الإسم والإسم يتناوله، والمستقبل بخلافه فإنه يراد
بالنكاح والبيع الملك وبالصلاة القربة ولنا أن ما لا يتناوله الإسم في
المستقبل لا يتناوله في الماضي وكغير المسمى وما ذكره لا يصح لأن الإسم لا
يتناول إلا الشرعي ولا يحصل (فصل) فإن حلف لا يبيع فباع بيعاً فيه الخيار
حنث، وقال أبو حنيفة لا يحنث لأن الملك لا يثبت في مدة الخيار فأشبه البيع
الفاسد ولنا أنه بيع صحيح شرعي فيحنث به كالبيع اللازم وما ذكره ممنوع فإن
بيع الخيار يثبت الملك به بعد انقضاء الخيار بالاتفاق وهو سبب له فكذلك
قبله (فصل) وإن حلف لا يبيع أو لا يزوج فأوجب البيع والنكاح ولم يقبل
المتزوج والمشتري لم يحنث وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي ولا نعلم فيه
خلافاً لأن البيع والنكاح عقدان لا يتمان إلا بالقبول فلم يقع الإسم على
الإيجاب بدونه فلم يحنث به
(11/223)
(فصل) وإن أضاف اليمين في البيع والنكاح
إلى ما تتصور فيه الصحة كالخمر والخنزير والحر حنث كصورة البيع لأنه يتعذر
حمل يمينه على عقد صحيح فتعين محملاً له ويحتمل أن لا يحنث لأنه ليس ببيع
في الشرع * (مسألة) * (وذكر الفاضي فيمن قال لامرأته إن سرقت مني شيئاً
ويعينه فأنت طالق ففعلت لم تطلق) لأن البيع الشرعي لم يوجد (1) والأول أولى
لأن صورة البيع وجدت
(فصل) وإن حلف لا يتزوج حنث بمجرد الإيجاب والقبول الصحيح لا نعلم فيه
خلافا لأن ذلك يحصل به المسمى الشرعي فتناولته يمينه، وإن حلف ليتزوجن بر
بذلك سواء كانت له امرأة أو لم تكن وسواء تزوج نظيرتها أو أعلى منها إلا أن
يحتال على حل يمينه بتزوج لا يحصل المقصود مثل ان يواطئ امرأته على نكاح لا
يغيظها به فلا يبر وبهذا قال أصحابنا إذا حلف ليتزوجن على امرأته لا يبر
حتى يتزوج نظيرتها ويدخل بها وهو قول مالك لأنه قصد غيظ زوجته ولا يحصل إلا
بذلك ولنا أنه تزوج تزويجاً صحيحاً فبر به كما لو تزوج نظيرتها والدخول غير
مسلم فإن الغيظ يحصل بمجرد الخطبة وإن حصل بما ذكروه زيادة في الغيظ فلا
يلزمه الزيادة على الغيظ الذي يحصل بما تناولته يمينه كما أنه لا يلزمه
نكاح اثنين ولا ثلاثة ولا أعلى من نظيرتها والذي تناولته يمينه مجرد
التزويج ولذلك لو حلف لا يتزوج على امرأة حنث بهذا فكذلك يحصل البر به لأن
المسمى واحد فما تناوله النفي تناوله في الإثبات وإنما لا يبر إذا زوج
تزويجاً لا يحصل به الغيظ كما ذكرناه من الصورة ونظائرها لأن مبنى الأيمان
على المقاصد والنيات ولم يحصل مقصوده ولأن التزويج يحصل ههنا حيلة على
التخلص من
(11/224)
يمينه بما لا يحصل مقصودها فلم تقبل منه
حيلته وقد نص أحمد على هذا فقال إذا حلف ليتزوجن على امرأته فتزوج بعجوز أو
زنجية لا يبر لأنه أراد أن يغيظها ويغيرها ويغمها وبهذا لا تغار ولا تغتم
فعلله أحمد بما يغيظ به الزوجة ولأن الغيظ لا يتوقف على ذلك، ولو قدر أن
تزوج العجوز يغيظها والزنجية لبر به وإنما ذكره أحمد لأن الغالب أنه لا
يغيظها لأنها تعلم أنه أنما فعل ذلك حيلة لئلا يغيظها ويبر به (فصل) وإن
حلف لا تسريت فوطئ جاريته حنث ذكره أبو الخطاب وقال القاضي لا يحنث حتى يطأ
فينزل فحلا كان أو خصيا وقال أبو حنيفة لا يحنث حتى يحصنها ويحجبها عن
الناس لأن التسري مأخوذ من السر وهو الوطئ لأنه يكون في السر قال الله
تعالى (ولكن لا تواعدوهن سرا) وقال الشاعر: فلن تطلبوا سرها للغنى * ولن
تسلموها لازهادها
وقال الآخر لقد زعمت بسباسة القوم أنني * كبرت وأن لا يحسن السر أمثالي
ولأن ذلك حكم تعلق بالوطئ فلم يعتبر فيه الأنزال ولا التحصن كسائر الأحكام
* (مسألة) * (إذا حلف لا يصوم لم يحنث حتى يصوم يوما) هذا اذا لم يسم عدداً
ولم ينوه وأقل ذلك صوم يوم لا خلاف فيه لأنه ليس في الشرع صوم مفرداً أقل
من يوم فلزمه لأنه اليقين
(11/225)
* (مسألة) * (وإن حلف لا يصلي لم يحنث حتى
يفرغ مما يقع عليه اسم الصلاة) وفيه روايتان (إحداهما) يجزئه ركعة نقلها
اسماعيل بن سعيد لأن أقل الصلاة ركعة فإن الوتر صلاة مشروعة وهي ركعة واحدة
وروي عن عمر رضي الله عنه أنه تطوع بركعة واحدة (والثانية) لا يجزئه إلا
ركعتان وبه قال أبو حنيفة لأن أقل صلاة وجبت بالشرع ركعتان فوجب حمل اليمين
عليه وقد قيل إنما يجب ركعتان في النذر لأنه واجب، أما الوتر فهو نفل ولأن
الركعة لا تجزئ في الفرض فلا تجزئ في النفل قياساً عليه وكالسجدة وللشافعي
قولان كالروايتين وقال القاضي إن حلف لا صليت صلاة لم يحنث حتى يفرغ من أقل
ما يقع عليه اسم الصلاة على ما ذكرنا وإن حلف لا يصلي حنث بالتكبير وهذا
أشبه ما إذا قال لزوجته إن حضت حيضة فأنت طالق فإنها لا تطلق حتى تحيض ثم
تطهر، ولو قال إن حضت طلقت بأول الحيض لأنه إذا شرع في الصلاة يسمى مصلياً.
قال شيخنا: يحتمل أن يخرج على هذا الروايتين فيمن حلف لا يفعل شيئاً ففعل
بعضه (فصل) وإن حلف لا يهب زيداً شيئاً ولا يوصي له ولا يتصدق عليه ففعل
ولم يقبل زيد حنث إذا حلف لا يهب زيداً شيئاً أو لا يعيره فأوجب ذلك ولم
يقبل زيد حنث ذكره القاضي وهو قول أبي حنيفة وابن شريح لأن الهبة والعارية
لا عوض فيهما فكان مسماهما الإيجاب والقبول شرط لنقل الملك وليس هو من
السبب فيجب بمجرد الإيجاب فيه كالوصية وقال الشافعي لا يحنث بمجرد الإيجاب
لأنه عقد لا يتم إلا بالقبول فلم يجب بمجرد الإيجاب كالنكاح والبيع، فأما
الهدية والوصية والصدقة
(11/226)
فتجب بمجرد الإيجاب وذكره أبو الخطاب قال
شيخنا ولا أعلم قولا للشافعي إلا أن الظاهر أنه لا يخالف في الوصية والهدية
لأن الإسم يقع عليها بدون القبول ولهذا لما قال الله تعالى (كتب عليكم إذا
حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين) إنما أراد الإيجاب
دون القبول ولان الوصية تصح قبل موت الموصي ولا قبول لها حينئذ * (مسألة) *
(وإن حلف لا يتصدق عليه فوهبه لم يحنث لأن التصدق نوع من الهبة ولا يحنث
الحالف على نوع آخر ولا يثبت للجنس حكم النوع ولهذا حرمت الصدقة على النبي
صلى الله عليه وسلم ولم تحرم الهبة ولا الهدية بدليل قول النبي صلى الله
عليه وسلم في اللحم الذي تصدق به على بريرة " هو عليها صدقة ولنا هدية "
وإن حلف لا يهبه شيئاً فأسقط عنه ديناً لم يحنث إلا أن ينوي لأن الهبة
تمليك عين وليس له إلا دين في ذمته * (مسألة) * (وإن حلف لا يهبه فتصدق
عليه حنث وكذلك إن اهدى له أو أعمره) لأن ذلك من أنواع الهبة وإن أعطاه من
الصدقة الواجبة يحنث لأن ذلك حق لله تعالى عليه يجب إخراجه فليس هو هبة منه
فإن تصدق عليه تطوعا حنث قال القاضي هو مذهب الشافعي وقال أبو الخطاب لا
يحنث وهو قول أصحاب الرأي لأنهما يختلفان اسما وحكما بدليل قول النبي صلى
الله عليه وسلم " هو عليها صدقة ولنا هدية " وكانت الصدقة محرمة عليه
والهدية حلال له ويقبل الهدية
(11/227)
ولا يقبل الصدقة ومع هذا الاختلاف لا يحنث
في أحدهما بفعل الآخر، ووجه الأول أنه تبرع بعين في الحياة فحنث به كالهدية
ولأن الصدقة تسمى هبة فلو تصدق بدرهم قيل وهب درهما وتبرع بدرهم واختلاف
التسمية لكون الصدقة نوعا من الهبة فتخص باسم دونها كاختصاص الهدية والعمري
باسمين ولم يخرجهما ذلك عن كونهما هبة وكذلك اختلاف الأحكام فإنه قد يثبت
للنوع ما لا يثبت للجنس كما يثبت للآدمي من الأحكام ما لا يثبت لمطلق
الحيوان * (مسألة) * (وإن أعاره لم يحنث إلا عند أبي الخطاب)
لأن العارية هبة المنفعة وقال القاضي لا يحنث وهو مذهب الشافعي وهو الصحيح
لأن الهبة تمليك الأعيان وليس في العارية تمليك عين ولأن المستعير لا يملك
المنفعة وإنما يستحقها ولهذا يملك المعير الرجوع ولا يملك المستعير إجارتها
* (مسألة) * [وإن وقف عليه حنث قاله أبو الخطاب] لأنه تبرع له بعين في
الحياة، ويحتمل أن لا يحنث لأن الوقف لا يملك في رواية ولأنه لا يطلق عليه
اسم الهبة * (مسألة) * (وإن وصى له لم يحنث) لأن الهبة تمليك في الحياة
والوصية إنما تملك بالقبول بعد الموت.
* (مسألة) * (وإن باعه وحاباه حنث في أحد الوجهين) .
(11/228)
لأنه ترك له بعض المبيع بغير عوض أو هبة
بعض الثمن، والوجه الآخر أنه لا يحنث وهو أولى لأنها معاوضة يملك الشفيع
أخذ جميع المبيع ولو كان هبة أو بعضه لم يملك أخذه كله وإن أضافه لم يحنث
لأنه لا يملكه شيئاً وإنما أباحه الأكل ولهذا لا يملك التصرف بغيره.
* (فصل) * قال رحمه الله (القسم الثاني الأسماء الحقيقية، فإذا حلف لا يأكل
اللحم فأكل الشحم أو المخ أو الكبد أو الطحال أو القلب أو الكرش أو المصران
أو الألية أو الدماغ أو القانصة لم يحنث) وجملة ذلك أن الحالف على أكل
اللحم لا يحنث بأكل ما ليس بلحم من الشحم والمخ وهو الذي في العظام والدماغ
وهو الذي في الرأس في قحفه ولا الكبد والطحال والرئة والقلب والكرش
والمصران والقانصة ونحوها، وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة ومالك يحنث
بأكل هذا كله لأنه لحم حقيقة ويتخذ منه ما يتخذ من اللحم فأشبه لحم الفخذ.
ولنا أنه لا يسمى لحماً وينفرد عنه باسمه وصفته، ولو أمر وكيله بشراء لحم
فاشترى هذا لم يكن ممتثلاً لأمره ولا ينفذ الشراء للموكل فلم يحنث بأكله
كالبغل، وقد دل على أن الكبد والطحال ليسا لحما قول النبي صلى الله عليه
وسلم " أحلت لنا ميتتان ودمان أما الدمان فالكبد والطحال " ولا نسلم أنه
لحم حقيقة
بل هو من الحيوان كالعظم والدم فأما أن قصد اجتناب الدسم حنث بأكل الشحم،
لأن له دسماً وكذلك المخ وكل ما فيه دسم ولا يحنث بأكل الألية، قال بعض
أصحاب الشافعي يحنث لأنها نابته في اللحم وتشبهه في الصلابة ولا يصح ذلك
لأنها لا تسمى لحماً ولا يقصد منها ما يقصد منه وتخالفه
(11/229)
في اللون والذوب والطعم فلم يحنث بأكلها
كشحم البطن فأما الذي على الظهر والجنب وفي تضاعيف اللحم فلا يحنث في أكله
في ظاهر كلام الخرقي فإنه قال اللحم لا يخلو من الشحم يشير إلى ما يخالط
اللحم مما تذيبه النار وهذا كذلك وهو قول طلحة العاقولي وممن قال هذا شحم
أبو يوسف ومحمد، وقال القاضي هو لحم يحنث بأكله من حلف لا يأكل شحما وهو
مذهب الشافعي لأنه لا يسمى شحماً ولا بائعه شحاماً ولا يفرد عن اللحم مع
الشحم ويسمى بائعه لحاما ويسمى لحماً سميناً ولو وكل في شراء لحم فاشتراه
الوكيل لزمه ولو اشتراه الوكيل في شراء الشحم لم يلزمه.
ولنا قول الله تعالى (ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومها إلا ما حملت
ظهورهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم) ولأنه يشبه اللحم في صفته وذوبه
ويسمى دهناً فكان شحما كالذي في البطن ولا نسلم أنه لا يسمى شحما ولا أنه
يسمى بمفرده لحماً وإنما يسمى اللحم الذي هو عليه لحماً سميناً ولا يسمى
بائعه شحاماً لأنه لا يباع بمفرده وإنما يباع تبعاً للحم وهو تابع له في
الوجود والبيع فلذلك سمي بائعه لحاما ولم يسم شحاما لأنه سمي بما هو الأصل
دون التبع.
* (مسألة) * (وإن أكل المرق لم يحنث) .
وقد قال أحمد لا يعجبني قال أبو الخطاب هذا على سبيل الورع وقال ابن موسى
والقاضي يحنث لأن المرق لا يخلو من أجزاء اللحم الذائبة فيه، وقد قيل المرق
أحد اللحمين.
ولنا أنه ليس بلحم حقيقة ولا يطلق عليه اسم اللحم فلا يحنث به كالكبد ولا
نسلم أن أجزاء اللحم
(11/230)
فيه وإنما فيه ماء اللحم ودهنه وليس ذلك
بلحم وأما المثل فإنما أريد به المجاز كما في نظائره من قولهم الدعاء أحد
الصدقتين وقلة العيال أحد اليسارين وهذا دليل على أنها ليست بلحم لأنه
جعلها
غير اللحم الحقيقي.
(فصل) فإن أكل رأساً أو كراعا لا يحنث إلا أن ينوي لا يشتري من الشاة
شيئاً، قال القاضي لأن إطلاق اسم اللحم لا يتناول الرؤوس والكوارع، ولو
وكله في شراء لحم فاشترى رأسا أو كارعاً لم يلزمه ويسمى بائع ذلك رواساً
ولا يسمى لحاماً، وقال أبو الخطاب يحنث بأكل لحم الخد لأنه لحم حقيقة وحكي
عن ابن أبي موسى أنه لا يحنث حتى ينويه باليمين، وإن أكل اللسان احتمل
وجهين [أحدهما] يحنث لأنه لحم حقيقة [والثاني] لا يحنث لأنه منفرد عن اللحم
باسمه وصفته فاشبه القلب.
* (مسألة) * [وإن حلف لا يأكل الشحم فأكل شحم الظهر حنث] .
ظاهر هذا أن الشحم كل ما يذوب بالنار مما في الحيوان وهو ظاهر كلام الخرقي
وظاهر الآية والعرف يشهد لذلك، وهو ظاهر قول أبي الخطاب وطلحة العاقولي،
وهو قول أبي يوسف ومحمد ابن الحسن، وقال القاضي الشحم هو الذي يكون في
الجوف من شحم الكلى أو غيره وإن أكل من كل شئ من الشاة من لحمها الأحمر
والأبيض والألية والكبد والطحال والقلب فقال شيخنا يعني
(11/231)
ابن حامد لا يحنث لأن اسم الشحم لا يقع
عليه وهو قول أبي حنيفة والشافعي وقد سبق الكلام في أن شحم الظهر والجنب
شحم فيحنث به، فأما إن أكل اللحم الأحمر وحده ولم يظهر فيه شئ من الشحم
فقال الخرقي يحنث لأنا قد ذكرنا أن الشحم كل ما يذوب بالنار ولا يكاد اللحم
يخلو من شئ منه وإن قل فيحنث به ولأنه يظهر في الطبخ فيبين على وجه المرق
وإن قل وهذا يفارق من حلف لا يأكل سمناً فأكل خبيصاً فيه سمن لا يظهر فيه
طعمه ولا لونه فإن هذا يظهر الدهن فيه، وقال غير الخرقي من أصحابنا لا يحنث
وهو الصحيح لأنه لا يسمى شحما ولا يظهر فيه طعمه ولا لونه والذي يظهر في
المرق قد فارق اللحم فلا يحنث بأكل اللحم الذي كان فيه.
(فصل) ويحنث بالأكل من الألية في ظاهر كلام الخرقي وموافقيه لأنها دهن تذوب
بالنار وتباع مع الشحم ولا تباع مع اللحم، وعلى قول القاضي وموافقيه ليست
شحما ولا لحما فلا
يحنث به الحالف على تركهما.
(فصل) إذا حلف لا يأكل لحما حنث بأكل اللحم المحرم كالميتة والخنزير
والمغصوب وبه قال أبو حنيفة وقال الشافعي في أحد قوليه لا يحنث بأكل اللحم
المحرم بأصله لأن يمينه تنصرف إلى ما يحل دون ما يحرم فلا يحنث بما لا يحل
كما لو حلف لا يبيع فباع بيعاً فاسداً.
ولنا أن هذا لحم حقيقة وعرفا فحنث به كالمغصوب وقد سماه الله تعالى لحما
فقال (ولحم الخنزير)
(11/232)
وما ذكروه يبطل بما إذا حلف لا يلبس ثوبا
فلبس ثوب حرير، وأما البيع الفاسد فلا يحنث به لأنه ليس ببيع في الحقيقة.
* (مسألة) * (وإن حلف لا يأكل لبنا فأكل زبدا أو سمنا أو كشكا أو بصلا أو
جبنا لم يحنث وإن حلف على الزبد والسمن فأكل لبناً لم يحنث) إذا حلف لا
يأكل لبناً فأكل من لبن الأنعام أو الصيد أو لبن آدمية حنث لأن الاسم
يتناوله حقيقة وعرفاً وسواء كان حليباً أو رائباً أو مائعاً أو مجمداً لأن
الجميع لبن.
ولا يحنث بأكل الجبن والسمن والبصل والأقط والكشك، وإن أكل زبداً فكذلك نص
عليه وقال القاضي يحتمل أن يقال في الزبد إن ظهر فيه لبن حنث بأكله وإلا
فلا كما لو حلف لا يأكل سمناً فأكل خبيصاً فيه سمن وهذا مذهب الشافعي، وإن
حلف لا يأكل زبداً فأكل سمناً أو لبنا لم يظهر فيه الزبد لم يحنث وإن كان
الزبد فيه ظاهراً حنث وإن أكل لبناً لم يحنث وكذلك سائر ما يصنع من اللبن
سوى السمن لم يحنث وإن أكل السمن منفرداً أو في عصيدة أو حلواء أو طبيخ
يظهر فيه طعمه حنث وكذلك إذا حلف لا يأكل لبناً فأكل طبيخاً فيه لبن أو لا
يأكل خلاً فأكل طبيخاً فيه خل يظهر فيه طعمه حنث وبهذا قال
(11/233)
الشافعي وقال بعض أصحابنا لا يحنث لأنه لم
يفرده بالأكل ولا يصح لأنه أكل المحلوف عليه وأضاف إليه غيره فحنث كما لو
أكله وأكل غيره * (مسألة) * (وإن حلف على الفاكهة فأكل من ثمر الشجر كالجوز
واللوز والتمر والرمان
حنث وإن أكل البطيخ حنث ويحتمل أن لا يحنث) إذا حلف لا يأكل فاكهة حنث بأكل
ما يسمى فاكهة وذلك كل ثمرة تخرج من الشجر يتفكه بها من العنب والرطب
والرمان والسفرجل والتفاح والكمثرى والخوخ والمشمش والأترج والتوت والنبق
واللوز والجميز وبهذا قال الشافعي وأبويوسث ومحمد بن الحسن وقال أبو حنيفة
وأبو ثور لا يحنث بأكل ثمرة النخل والرمان لقول الله تعالى (فيهما فاكهة
ونخل ورمان) والمعطوف يغاير المعطوف عليه ولنا أنها ثمرة شجرة يتفكه بها
فكانا من الفاكهة كسائر الأثمار ولأنهما فاكهة في عرف الناس ويسمى بائعهما
فاكهانياً وموضع بيعهما دار الفاكهة والأصل في العرف الحقيقة والعطف
لتشريفها وتخصيصهما كقوله تعالى (من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل
وميكال) وهما من الملائكة، فأما يابس هذه الفواكه كالزبيب والتمر والتين
والمشمش اليابس والاجاص ونحوها فهو من الفاكهة لأنه ثمر شجرة يتفكه به
ويحتمل أنه ليس منها لأنه يدخر ومنه ما يقتات فأشبه الحبوب، والزيتون ليس
بفاكهة لأنه لا يتفكه بأكله وإنما المقصود منه الأدم لا التفكه والبطم في
معناه لأن
(11/234)
المقصود زيته ويحتمل أنه فاكهة لأنه ثمر
شجرة يؤكل غضا ويابساً على جهته أشبه التوت، والبلوط ليس بفاكهة لأنه لا
يتفكه به وإنما يؤكل عند المجاعة أو للتداوي وكذلك سائر ثم الشجر البري
الذي لا يستطاب كالزعرور الأحمر وثمر القيقب والعفص وحب الآس ونحوه إن كان
فيها ما يستطاب كحب الصنوبر والبندق فهو فاكهة لأنه ثمر شجرة يتفكه به وفي
البطيخ وجهان (أحدهما) هو من الفاكهة ذكره القاضي وهو قول الشافعي وأبي ثور
لأنه ينضج ويحلو أشبه ثمر الشجر (والثاني) لا يحنث بأكله لأنه ثمر بقلة
أشبه الخيار * (مسألة) * [ولا يحنث بأكل القثاء والخيار ونحوه والقرع
والباذنجان] لأنه من الخضر وليس من الفاكهة وكذلك ما يكون في الأرض كالجزر
واللفت والفجل والقلقاس والسوطل ونحوه، ليس شئ من ذلك فاكهة لأنه لا يسمى
بها ولا هو في معناها * (مسألة) * [وإن حلف لا يأكل رطبا فأكل مذنبا حنث]
وهو الذي بدأ فيه الأرطاب من ذنبه وباقيه بسر أو منصفاً وهو الذي بعضه بسر
وبعضه رطب أو حلف لا يأكل بسراً فأكل ذلك حنث وبهذا قال أبو حنيفة ومحمد
والشافعي وقال أبو يوسف وبعض أصحاب الشافعي لا يحنث لأنه لا يسمى رطباً ولا
تمراً
(11/235)
ولنا أنه أكل رطباً وبسراً فحنث كما لو أكل
نصف رطبة ونصف بسرة منفردين وما ذكروه لا يصح فإن القدر الذي أرطب رطب
والباقي بسر ولو أنه حلف لا يأكل البسر فأكل البسر الذي في المنصف حنث وإن
أكل البسر من يمينه على الرطب وأكل الرطب من يمينه على البسر لم يحنث واحد
منهما وإن حلف واحد ليأكلن رطباً وآخر ليأكلن بسراً فأكل الحالف على أكل
الرطب ما في المنصف من الرطب وأكل الآخر باقيها برا جميعاً وإن حلف ليأكلن
رطبة أو بسرة أو لا يأكل ذلك فأكل منصفاً لم يبر ولم يحنث لأنه ليس فيه
رطبة ولا بسرة * (مسألة) * (وإن أكل تمراً أو بسراً لم يحنث) لأنه ليس برطب
[فصل] وإن حلف لا يأكل تمراً فأكل رطبا لم يحنث لأنه لم يتناوله الأسم
وكذلك لو أكل بسراً أو بلحاً وهذا مذهب الشافعي وأصحاب الرأي ولا نعلم فيه
خلافاً [فصل] فإن حلف لا يأكل عنباً فأكل زبيباً أو دبساً أو خلا أو ناطفاً
أو لا يكلم شاباً فكلم شيخاً أو لا يشتري جدياً فاشترى تيساً أو لا يضرب
عبداً فضرب عتيقاً لم يحنث بغير خلاف لأن اليمين تعلقت بالصفة دون العين
ولم توجد الصفة فجرى مجرى قوله لا أكلت هذه التمرة فأكل غيرها فأما إن عين
المحلوف عليه ففيه خلاف ذكرناه فيما مضى * (مسألة) * [وإن حلف لا يأكل
أدماً حنث بأكل البيض والشواء والجبن والملح والزيتون واللبن وسائر ما
يصطبغ به وفي التمر وجهان]
(11/236)
إذا حلف على ترك الأدم حنث بأكل ما جرت
العادة بأكل الخبز به لأن هذا معنى التأدم وسواء في هذا ما يصطبغ به
كالطبيخ والمرق والخل والزيت والسمن والشيرج واللبن قال الله تعالى (وصبغ
للآكلين) وقال النبي صلى الله عليه وسلم " نعم الادام الخل - وقال -
ائتدموا بالزيت وادهنوا به فإنه من شجرة مباركة " رواه ابن ماجه - أو من
الجامدات كالشواء والجبن والباقلا والزيتون والبيض وبهذا قال الشافعي وأبو
ثور وقال أبو حنيفة وأبو يوسف ما لا يصطبغ به فليس بأدم لأن كل واحد منهما
يرفع إلى الفم مفرداً ولنا ما روى عن البني صلى الله عليه وسلم أنه قال "
سيد الادام اللحم - وقال - سيد أدمكم الملح " رواه ابن ماجه ولأنه يؤكل به
الخبز عادة فكان أدماً كالذي يصطبغ به ولأن كثير مما ذكرنا لا يؤكل في
العادة وحده إنما يعد للتأدم به فكان أدماً كالخل واللبن وقولهم أنه يرفع
إلى الفم مفرداً عنه جوابان (أحدهما) أن منه ما يرفع مع الخبز كالملح ونحوه
(والثاني) أنهما يجتمعان في الفم والمضغ والبلع الذي هو حقيقة الأكل فلا
يضر افتراقهما قبله وأما التمر ففيه وجهان (أحدهما) أنه أدم لما روى يوسف
عن عبد الله بن سلام قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وضع تمرة على
كسرة وقال " هذا إدام هذه " رواه أبو داود وذكره الإمام أحمد (والثاني) ليس
بأدم لأنه
(11/237)
لا يؤتدم به عادة وإنما يؤكل قوتاً وحلاوة
ولأنه فاكهة فأشبه الزبيب [فصل] إذا حلف لا يأكل طعاما حنث بأكل كل ما يسمى
طعاما من قوت وأدم وحلواء وجامع ومائع قال الله تعالى (كل الطعام كان حلا
لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه - وقال تعالى - ويطعمون الطعام
على حبه) يعني على محبة الطعام وحاجتهم إليه وقيل على حب الله تعالى وقال
تعالى (قل لاجد فيما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو
دما مسفوحا أو لحم خنزير) وسمى النبي صلى الله عليه وسلم اللبن طعاما فقال
" إنما تخزن لهم ضروع مواشيهم أطعمتهم " وفي الماء وجهان (أحدهما) هو طعام
لقوله تعالى (ومن لم يطعمه فإنه مني) والطعام ما يطعم ولأن النبي صلى الله
عليه وسلم سمى اللبن طعاما وهو مشروب فكذلك الماء.
[والثاني] ليس بطعام لأنه لا يسمى طعاما ولا يفهم من إطلاقه اسم الطعام
ولهذا يعطف عليه فيقال طعام وشراب وقال النبي صلى الله عليه وسلم " لا أعلم
ما يجزئ من الطعام والشراب إلا اللبن " رواه ابن ماجه ويقال باب
الأطعمة والأشربة ولأنه إن كان طعاماً في الحقيقة فليس بطعام في العرف فلا
يحنث بشربه لأن مبنى الأيمان على العرف لكون الحالف في الغالب لا يريد
بلفظه إلا ما يعرفه، فإن أكل دواء ففيه وجهان:
(11/238)
(أحدهما) يحنث لأنه يطعم حال الاختيار وهو
مذهب الشافعي (والثاني) لا يحنث لأنه لا يدخل في إطلاق اسم الطعام ولا يوكل
إلا عند الضرورة، فإن أكل من نبات الأرض ما جرت العادة بأكله حنث وإن أكل
ما لم تجر به عادة كورق الشجر ونشارة الخشب والتراب احتمل وجهين (أحدهما)
يحنث لأنه قد أكله فأشبه ما جرت العادة بأكله ولأنه روي عن عتبة بن غزوان
أنه قال لقد رأيتنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سابع سبعة ما لنا طعام
إلا ورق الحبلة حتى قرحت أشداقنا (والثاني) لا يحنث لأنه لا يتناوله اسم
الطعام في العرف (فصل) وإن حلف لا يأكل قوتاً فأكل خبزاً أو تمراً أو تيناً
او لحماً أو لبناً حنث لأن كل واحد من هذه يقتات في بعض البلدان، ويحتمل أن
لا يحنث إلا بما يقتاته أهل بلده لأن يمينه تنصرف إلى القوت المتعارف عندهم
وفي بلدهم ولأصحاب الشافعي وجهان كهذين وإن أكل سويقاً أو استف دقيقا حنث
لأنه يقتات كذلك، ولهذا قال بعض اللصوص لا تخبزا خبزاً وبسابسا * ولا تطيلا
بمقام حبسا وإن أكل حباً يقتات خبزه حنث ولذلك روي أن النبي صلى الله عليه
وسلم كان يدخر قوت عياله سنة وإنما يريد الحب، ويحتمل أن لا يحنث لأنه لا
يقتات كذلك وإن أكل عنباً أو حصرما أو خلا لم يحنث لأنه لم يصر قوتا.
* (مسألة) * (وإن حلف لا يلبس شيئا فلبس ثوبا أو درعا أو جوشناً أو خفاً أو
نعلاً حنث) وكذلك إن لبس عمامة أو قلنسوة)
(11/239)
وقال أصحاب الشافعي في الخف والنعل وجهان
(أحدهما) لا يحنث ولنا أنه ملبوس حقيقة وعرفا فحنث كالثياب وفي الحديث أن
النبي صلى الله عليه وسلم أهدى إليه النجاشي خفين فلبسهما.
وقيل لأبن عمر: إنك تلبس هذه النعال فقال رأيت رسول الله
صلى الله عليه وسلم يلبسهما.
فإن ترك القلنسوة في رجله أو أدخل يده في الخف أو النعل لم يحنث لأن ذلك
ليس بلبسه لهما * (مسألة) * (وإن حلف لا يلبس حليا فلبس حلية ذهب أو فضة أو
جوهر حنث وإن لبس الدراهم والدنانير في مرسلة فعلى وجهين) إذا حلف لا يلبس
حليا فلبس حلية ذهب أو فضة حنث فإن لبس خاتماً من فضة أو مخنقة من لؤلؤ أو
جوهر وحده حنث وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة لا يحنث لأنه ليس بحلي
وحده ولنا قول الله تعالى (وتستخرجون منه حلية تلبسونها) وقال تعالى [يحلون
فيها من أساور من ذهب ولؤلؤا] وجاء في الحديث عن عبد الله بن عمر أنه قال:
قال الله تعالى للبحر الشرقي إني جاعل فيك الحلية والصيد والطيب ولأن الفضة
حلي إذا كانت سواراً أو خلخالاً فكانت حلياً إذا كانت خاتماً كالذهب
والجوهر، واللؤلؤ حلي مع غيره فكان حلياً وحده كالذهب وإن لبس عقيقاً أو
سبجاً لم يحنث
(11/240)
وقال الشافعي إن كان من أهل السواد حنث وفي
غيرهم وجهان لأن هذا حلي في عرفهم (ولنا) أن هذا ليس بحلي فلا يحنث به
كالودع وخرز الزجاج وما ذكروه ويبطل بالودع، وإن لبس الدراهم والدنانير في
مرسلة فعلى وجهين (أحدهما) لا يحنث لأنه ليس بحلي إذا لم يلبسه فكذلك إذا
لبسه [والثاني] يحنث لأنه ذهب وفضة لبسه فكان حلياً كالسوار والخاتم وإن
لبس سيفاً محلى لم يحنث لأن السيف ليس بحلي، وإن لبس منطقة محلاة ففيه
وجهان [أحدهما] لا يحنث لأن الحلية لها دونه فأشبهت السيف المحلى [والثاني]
يحنث لأنها من حلي الرجال ولا يقصد بلبسها محلاة في الغالب إلا التجمل بها،
وإن حلف لا يلبس خاتماً فلبسه في غير الخنصر من أصابعه حنث وقال الشافعي لا
يحنث لأن اليمين تقتضي لبساً معتاداً وليس هذا معتاداً فأشبه ما لو أدخل
القلنسوة في رجله ولنا انه لابس لما حلف على ترك لبسه فأشبه ما لو اتزر
بالسراويل.
وأما إدخال القلنسوة في رجله فهو عبث وسفه بخلاف هذا فإنه لا فرق بين
الخنصر وغيرها إلا من حيث الاصطلاح على تخصيصه بالخنصر
(11/241)
* (مسألة) * (وإن حلف لا يركب دابة فلان
ولا يلبس ثوبه ولا يدخل داره فركب دابة عبده ولبس ثوبه ودخل داره أو فعل
ذلك فيما استأجره فلان حنث وإن ركب دابة استعارها لم يحنث) إذا حلف لا يدخل
دار فلان فدخل دار مملوكة له أو دارا يسكنها بأجرة أو عارية أو غصب حنث
وبذلك قال أبو ثور وأصحاب الرأي وقال الشافعي لا يحنث إلا بدخول دار يملكها
لأن الإضافة في الحقيقة إلى المالك بدليل أنه لو قال هذه الدار لفلان كان
مقراً له بملكها ولو قال أنه يسكنها لم يقبل ولنا أن الدار تضاف إلى ساكنها
كإضافتها إلى مالكها قال الله تعالى (لا تخرجوهن من بيوتهن) وأراد بيوت
أزواجهن اللائي يسكنها وقال تعالى (وقرن في بيوتكن) ولأن الإضافة للاختصاص
ولذلك يضاف الرجل إلى أخيه بالإخوة وإلى أمه بالبنوة وإلى والده بالأبوة
وإلى امرأته بالزوجية وساكن الدار مختص بها فكانت إضافتها إليه صحيحة وهي
مستعملة في العرف فوجب أن يحنث بدخولها كالمملوكة له، وقولهم هذه الإضافة
مجاز ممنوع بل هي حقيقة لما ذكرناه ولو كانت مجازاً لكنه مشهور فيتناوله
اللفظ كما لو حلف لا شربت من رواية فلان فإنه يحنث بالشرب من مزادته.
أما الإقرار فإنه لو قال هذه دار زيد وفسر إقراره بسكناها احتمل أن لا يقبل
تفسيره، وإن سلمنا
(11/242)
فإن قرينة الإقرار تصرفه إلى الملك وكذلك
لو حلف لا دخلت مسكن زيد حنث بدخوله الدار التي يسكنها، ولو قال هذا المسكن
لزيد كان مقراً له به ولا خلاف في هذه المسألة وهي نظيرة مسئلتنا [فصل] وإن
ركب دابة عبده أو لبس ثوبة أو دخل داره حنث لأن ما في يد العبد لسيده فهو
كالذي في يده، وبه قال أبو حنيفة والشافعي ولا نعلم فيه خلافا لان دار
العبد ملك للسيد فإن حلف لا يلبس ثوب السيد ولا يركب دابته فلبس ثوب عبده
وركب دابته حنث وهو قول الشافعي وقال أبو حنيفة لا يحنث لأن العبد بهما أخص
ولنا أنهما مملوكان للسيد فتناولتهما يمين الحالف كالدار وما ذكروه يبطل
بالدار * (مسألة) * (وإن حلف لا يركب دابة فلان فركب دابة استعارها لم يحنث
وإن ركب دابة استأجرها حنث)
لأنه ملك منافعها بخلاف المستعير وهكذا ذكره أبو الخطاب ولو ركب دابة غصبها
فلان لم يحنث، وفارق مسألة الدار فإنه لم يحنث في الدار لكونه استعارها ولا
غصبها وإنما حنث لسكناه فيها فأضيفت الدار إليه لذلك ولو غصبها أو استعارها
من غير أن يسكنها لم تصح إضافتها إليه فلا يحنث الحالف فيكون كمستعير
الدابة وغاصبها * (مسألة) * (وإن حلف لا يركب دابة عبده فركب دابة جعلت
برسمه حنث)
(11/243)
وكذلك إن حلف لا يدخل دار هذا العبد ولا
يلبس ثوبه وعند الشافعي لا يحنث لأنه لا يملك شيئاً من ذلك والإضافة تقتضي
الملك وقد قدمنا الكلام معه فيما مضى ويخص هذا الفصل بأن الملكية لا تمكن
ههنا فلا تصح الإضافة بمعناها فتعين حمل الإضافة ههنا على إضافة الاختصاص
دون الملك * (مسألة) * (وإن حلف لا يدخل دارا فدخل سطحها حنث وإن دخل طاق
الباب احتمل وجهين) إذا حلف لا يدخل داراً فرقى سطحها حنث، وبه قال مالك
وأبو ثور وأصحاب الرأي وقال الشافعي لا يحنث ولأصحابه فيما إذا كان السطح
محجراً وجهان واحتجوا بأن السطح يقيها الحر والبرد ويحرزها فهو كحيطانها،
ولنا أن سطح الدار منها وحكمه حكمها فحنث بدخوله كالمحجر أو كما لو دخل بين
حيطانها ودليل ذلك أن الاعتكاف يصح في سطح المسجد ويمنع الجنب من اللبث
فيه، ولو حلف ليخرجن من الدار فصعد سطحها لم يبر ولو حلف أن لا يخرج منها
فصعد سطحها لم يحنث، ولأنه داخل في حدود الدار ومملوك لصاحبها ويملك
بشرائها ويخرج منها من ملك صاحبها ببيعها، والبائت عليه يقال بات في داره
وبهذا يفارق ما وراء حائطها، فان كان في اليمين قرينة لفظية أو حالية تقتضي
اختصاص الارادة بداخل الدار مثل أن يكون بسطح الدار طريق وسبب يمينه يقتضي
ترك وصلة أهل الدار لم يحنث بالمرور على سطحها وكذلك
(11/244)
أن نوى بيمينه باطن الدار تقيدت يمينه بما
نواه لانه ليس المرء الا ما نواه، وإن دخل طلق الباب احتمل وجهين (أحدهما)
يحنث لأنه دخل في حدها (والثاني) لا يحنث لأنه لا يسمى داخلاً وقال
القاضي إذا قام على العتبة لم يحنث لأن الباب إذا أغلق حصل خارجاً منها ولا
يسمى داخلا فيها (فصل) فإن تعلق بغصن شجرة في الدار لم يحنث لأنه لم يدخلها
فإن صعد حتى صار في مقابلة سطحها بين حيطانها حنث وإن لم ينزل بين حيطانها
احتمل أن لا يحنث لأنه في هوائها وهواؤها ملك لصاحبها فأشبه ما لو قام على
سطحها واحتمل أن لا يحنث لأنه لا يسمى داخلا ولا هو على شئ من أجزائها
وكذلك لو كانت الشجرة في غير الدار فتعلق بفرع ماد على الدار في مقابلة
سطحها وان قام على حائط احتمل وجهين (أحدهما) يحنث وهو قول أبي ثور وأصحاب
الرأي لأنه داخل في حدها فأشبه القائم على سطحها (والثاني) لا يحنث لأنه لا
يسمى دخولا (فصل) وان حلف لا يضع قدمه في الدار فدخلها راكباً أو ماشياً أو
حافياً أو منتعلا حنث كما لو حلف لا يدخلها وبهذا قال أصحاب الرأي وقال أبو
ثور أن دخلها راكباً لم يحنث لأنه لم يضع قدمه فيها ولنا أنه قد دخل الدار
فيحنث كما لو دخلها ماشياً ولا نسلم أنه لم يضع قدمه فيها فإن قدمه
(11/245)
موضوعة على الدابة فيها فأشبه ما لو دخلها
منتعلا وعلى أن هذا في العرف عبارة عن اجتناب الدخول فتحمل عليه يمينه، فإن
قيل هذا مجاز لا يحمل اليمين عليه قلنا المجاز اذا اشتهر صار من الأسماء
العرفية فينصرف اللفظ باطلاقه اليه كلفظ الرواية والدابة وغيرهما * (مسألة)
* (وإن حلف لا يكلم إنساناً حنث بكلام كل إنسان - لأنه فعل المحلوف عليه -
فإن زجره فقال تنح أو اسكت حنث) لأنه كلمة وقال أصحاب أبي حنيفة لا يحنث
بالقليل لأن هذا تمام الكلام الأول والذي يقتضيه يمينه إن لا يكلمه كلاماً
مستأنفاً ولنا أن هذا القليل كلام منه له حقيقة وقد وجد بعد يمينه فيحنث به
كما لو فصله ولأن ما يحنث به إذا فصله يحنث به إذا وصله كالكبير، وقولهم أن
اليمين تقتضي خطاباً مستأنفاً قلنا هذا خطاب مستأنف وهو غير الأول بدليل
أنه لو قطعه حنث به قال شيخنا وقياس المذهب أن لا يحنث لأن قرينة صلته
هذا الكلام بيمينه تدل على إرادة كلام يستانفه بعد انقضاء هذا الكلام
المتصل فلم يحنث كما لو وجدت النية حقيقة ولو نوى كلاماً غير هذا لم يحنث
بهذا في المذهبين (فصل) فإن صلى بالمحلوف عليه إماماً ثم سلم من الصلاة لم
يحنث نص عليه أحمد وبه قال أبو حنيفة وقال أصحاب الشافعي يحنث لأنه شرع له
أن ينوي السلام على الحاضرين
(11/246)
ولنا أنه قول مشروع في الصلاة فلم يحنث به
كتكبيرها وليست نية الحاضرين بسلامة واجبة في السلام وإن أرتج عليه في
الصلاة ففتح عليه الحالف لم يحنث لأن ذلك كلام الله وليس بكلام الآدميين *
(مسألة) * (وإن حلف لا يبتدئه بكلام فتكلما معاً حنث) لأن كل واحد منهما
مبتدئ إذ لم يتقدم كلامه كلام سواه (فصل) وإن كاتبه أو ارسل إليه رسولا حنث
إلا أن يكون أراد أن لا يشافهه وهذا قول الاصحاب ومذهب مالك والشافعي في
القديم وقد روى الأثرم وغيره عن أحمد في رجل حلف أن لا يكلم رجلاً فكتب
إليه كتاباً فقال وأي شئ كان سبب ذلك؟ إنما ننظر إلى سبب يمينه ولم حلف؟ إن
الكتاب يجري مجرى الكلام وقد يكون بمنزلة الكلام في بعض الحالات وهذا يدل
على انه لا يحنث بالكتاب إلا أن تكون نيته أو سبب يمينه يقتضي هجرانه وترك
صلته فإن لم يكن كذلك لم يحنث بكتاب ولا رسول لأن ذلك ليس بتكليم في
الحقيقة وهذا يصح نفيه فيقال ما كلمته إنما كاتبته أو راسلته ولذلك قال
الله تعالى (تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله - وقال - يا
موسى إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي) ولو كانت الرسالة تكليما
لشارك موسى غيره من الرسل ولم يختص بكونه كليم الله ونجيه، وقد قال أحمد
حين مات بشر الحافي لقد كان فيه أنس
(11/247)
وما كلمته قط وقد كانت بينهما مراسلة وممن
قال لا يحنث بهذا الثوري وأبو حنيفة وابن المنذر والشافعي في الجديد، واحتج
أصحابنا بقول الله تعالى (وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء
حجاب أو يرسل رسولا) فاستثنى الرسول من التكلم والأصل أن يكون المستثنى من
جنس
المستثنى منه ولأنه موضوع لإفهام الآدميين أشبه الخطاب والصحيح أن هذا ليس
بتكليم وهذا الاستثناء من غير الجنس كما قال في الآية الأخرى (آيتك أن لا
تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا) والرمز ليس بتكليم لكن أن نوى ترك مواصلته
أو كان سبب يمينه يقتضي هجرانه حنث ولذلك قال احمد الكتاب يجري مجرى الكلام
وقد يكون بمنزلة الكلام فلم يجعله كلاماً إنما قال هو بمنزلته في بعض
الحالات إذا كان السبب يقتضي ذلك وإن أطلق احتمل أن لا يحنث لأنه لم يكلمه
واحتمل أن يحنث لأن الغالب من الحالف بهذه اليمين قصد المواصلة فتعلق يمينه
بما يراد في الغالب (فصل) وإن اشار إليه ففيه وجهان (أحدهما) يحنث قاله
القاضي لأنه ليس بكلامه قال الله تعالى لمريم عليها السلام (فقولي إني نذرت
للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا - إلى قوله - فأشارت إليه) وقال في زكريا
(آيتك أن لا تكلم الناس ثلاث ليال سويا - إلى قوله - فخرج على قومه من
المحراب فأوحى إليهم أن سبحوا بكرة وعشيا) ولأن الكلام حروف وأصوات ولا
يوجد في الإشارة ولان
(11/248)
الكلام شئ مسموع وتبطل به الصلاة قال النبي
صلى الله عليه وسلم " إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شئ من كلام الناس "
والإشارة خلاف هذا، فإن قيل فقد قال الله تعالى (آيتك أن لا تكلم الناس
ثلاثة أيام إلا رمزا) قلنا هذا استثناء من غير الجنس بدليل ما ذكرنا ولصحة
نفيه عنه فيقال ما كلمه وإنما أشار إليه.
(فصل) فإن ناداه بحيث يسمع فلم يسمع لتشاغله أو غفلته حنث نص عليه أحمد
فإنه سئل عن رجل حلف أن لا يكلم إنساناً فناداه والمحلوف عليه لا يس؟ ع قال
يحنث وهذا لكون ذلك يسمى تكليما يقال فلم يسمع (فصل) وإن سلم على المحلوف
عليه حنث لأن السلام كلام تبطل به الصلاة فحنث به كغيره من الكلام *
(مسألة) * (وإن حلف لا يكلمه حينا فذلك ستة أشهر نص عليه) وجملة ذلك أنه
إذا حلف لا يكلمه حينا فقيد ذلك بلفظه او نيته بزمن تقيد به وإن اطلق انصرف
(11/249)
الى ستة أشهر روى ذلك عن ابن عباس وبه قال
أصحاب الرأي وقال مجاهد والحكم وحماد ومالك هو سنة لقوله تعالى (تؤتي أكلها
كل حين بإذن ربها) أي كل عام وقال الشافعي وأبو ثور ليس هو مقدراً ويبر
بأدنى زمن لان الحين اسم مبهم يقع على الكثير والقليل، قال الله تعالى
(ولتعلمن نبأه بعد حين) قيل اراد يوم القيامة، وقال (هل أتى على الإنسان
حين من الدهر؟ - وقال - فذرهم في غمرتهم حتى حين - وقال - حين تمسون وحين
تصبحون) ويقال جئت منذ حين وإن كان اتاه من ساعة ولنا أن الحين المطلق في
كلام الله تعالى اقله ستة أشهر قال عكرمة وسعيد بن جبير وأبو عبيد في قوله
تعالى (تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها) إنه ستة أشهر فيحمل مطلق كلام الآدمي
على مطلق كلام الله تعالى ولأنه قول ابن عباس ولا نعلم له في الصحابة
مخالفاً وما استشهدوا به من المطلق في كلام الله تعالى فما ذكرناه أقله
فيحمل عليه لأنه اليقين * (مسألة) * (وإن قال زمناً أو دهراً أو بعيداً أو
ملياً أو الزمان رجع إلى أقل ما يتناوله اللفظ) وكذلك وقتاً أو طويلاً أو
بعيداً أو قريبا في قول أبي الخطاب وهو مذهب الشافعي لأن هذه الأشياء لا حد
لها في اللغة وتقع على القليل والكثير فوجب حمله على أقل ما تناوله اسمه
وقد يكون القريب بعيداً بالنسبة إلى ما هو أقرب منه أو قريباً بالنسبة إلى
ما هو أبعد منه ولا يجوز التحديد بالتحكم
(11/250)
وإنما يصار إليه بالتوقيف ولا توقيف ههنا
فيجب حمله على اليقين وهو أقل ما تناوله الاسم وقال ابن أبي موسى الزمان
ثلاثة أشهر وقيل هو كالابد والدهر وهو أقيس لأنه بالألف واللام فهو على
معناهما وقال طلحة العاقولي: الحين والعمر والزمان واحد لأنهم لا يفرقون في
العادة بينها والناس يقصدون بذلك البعيد فلو حمل على القليل حمل على خلاف
قصد الحالف، ودهر يحتمل أنه كالحين أيضا لهذا المعنى وقال في بعيد وطويل
وملي هو على أكثر من شهر وهذا قول أبي حنيفة لأن ذلك ضد القليل فلا يجوز
حمله على ضده * (مسألة) * (وإن قال عمراً احتمل أنه كذلك واحتمل أن يكون
أربعين عاما)
واحتمل أن يكون كالحين وهو قول طلحة العاقولي واحتمل أن يكون أربعين عاماً
لقول الله تعالى (فقد لبثت فيكم عمرا من قبله) وكان ذلك أربعين سنة فيجب
حمل الكلام عليه ولأن العمر في الغالب لا يكون إلا مدة طويلة فلا يحمل على
خلاف ذلك وهذا قول حسن قاله شيخنا وقال القاضي هذه الألفاظ كلها مثل الحين
قياساً إلا بعيداً وملياً فإنه على أكثر من شهر لأنه يقتضي البعيد *
(مسألة) * (وإن قال الابد والدهر فذلك على الزمان كله) لأن الألف واللام
للاستغراق تقتضي الدهر كله وكذلك الزمان في الصحيح وقد ذكرناه
(11/251)
* (مسألة) * (والحقب ثمانون عاماً وقال
مالك أربعون يوماً) لأن ذلك يروي عن ابن عباس وقال القاضي وأصحاب الشافعي
هو أدنى زمان لأنه لم ينقل عن أهل اللغة فيه تقدير ولنا ما روى عن ابن عباس
أنه قال في تفسير قوله تعالى (لابثين فيها أحقابا) الحقب ثمانون سنة وما
ذكره القاضي وأصحاب الشافعي لا يصح لأن قول ابن عباس حجة لأن ما ذكروه يفضي
إلى حمل كلام الله تعالى (لابثين فيها أحقابا - وقول موسى - أو أمضي حقبا)
إلى اللكنة لأنه أخرج ذلك مخرج التكثير فإذا صار معنى ذلك لابثين فيها
ساعات أو لحظات أو أمضي لحظات أو ساعات صار مقتضى ذلك التقليل وهو ضد ما
أراد الله تعالى بكلامه وضد المفهوم منه ولم يذكره أحد من المفسرين فيما
نعلم فلا يجوز تفسير الحقب به * (مسألة) * والشهور اثنا عشر عند القاضي
وعند أبي الخطاب ثلاثة كالأشهر) أما الأشهر فهي ثلاثة لأنها أقل الجمع وأما
الشهور فاختار أبو الخطاب أنها ثلاثة أيضاً لذلك ولأن جمع الكثرة يستعمل
بمعنى القلة كقوله تعالى (ثلاثة قروء) وقال القاضي وغيره هي اثنا عشر شهراً
ولأن الشهور جمع الكثرة وأقله عشرة فلا يحمل على ما يحمل عليه جمع القلة *
(مسألة) * (والأيام ثلاثة) لأنها أقل الجمع قال الله تعالى (واذكروا الله
في أيام معدودات) وهي أيام التشريق)
(11/252)
(فصل) وإن حلف لا يتكلم ثلاث ليال أو ثلاثة
أيام لم يكن له أن يتكلم في الأيام التي بين الليالي ولا في الليالي التي
بين الأيام إلا أن ينوي قال الله تعالى (آيتك أن لا تكلم الناس ثلاثة أيام
إلا رمزا) وفي موضع آخر ثلاث ليال سوياً فكان كل واحد من اللفظين عبارة عن
الزمانين جميعاً وقال تعالى (وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر)
فدخل فيه الليل والنهار * (مسألة) * (وإن حلف لا يدخل باب هذه الدار فحول
ودخله حنث) إذا حلف لا يدخل هذه الدار من بابها فدخلها من غير الباب لم
يحنث لأن يمينه لم تتناول غير الباب ويتخرج أن يحنث إذا اراد بيمينه اجتناب
الدار ولم يكن الباب سبب هيج يمينه كما لو حلف لا يأوي مع زوجته في دار
فأوى معها في غيرها وإن حول بابها إلى مكان آخر فدخل منه حنث لأنه دخلها من
بابها وهذا أحد الوجهين لأصحاب الشافعي.
وإن حلف لا دخلت من باب هذه الدار فكذلك وإن جعل لها باب آخر مع بقاء الأول
فدخل منه حنث لأنه دخل من باب الدار وإن قلع الباب ونصب في دار أخرى وبقي
الممر حنث بدخوله ولم يحنث بالدخول من الموضع الذي نصب فيه الباب لأن
الدخول في الممر لا من المصراع * (مسألة) * (وإن حلف لا يكلمه إلى حين
الحصاد انتهت يمينه بأوله)
(11/253)
لان إلى لانتهاء الغاية فتنتهي عند أول
الغاية كقوله سبحانه (ثم أتموا الصيام إلى الليل) ويحتمل إن تتناول جميع
مدته لان إلى تستعمل بمعنى مع كقوله تعالى (ويزدكم قوة إلى قوتكم - وقوله -
ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم - وقوله - وأيديكم إلى المرافق) * (مسألة)
* (وإن حلف لا مال له وله مال غير زكوي أو دين على الناس حنث) إذا حلف لا
يملك مالا حنث بملك كل ما يسمى مالا سواء كان من الأثمان أو غيرها من
العقار والأثاث والحيوان وبهذا قال الشافعي وعن أحمد أ؟؟ إذا نذر الصدقة
بجميع ماله إنما يتناول نذره الصامت من ماله ذكرها ابن أبي موسى لأن إطلاق
المال ينصرف إليه وقال أبو حنيفة لا يحنث إلا أن يملك مالا زكويا استحساناً
لأن الله تعالى قال (وفي أموالهم حق للسائل والمحروم) فلا يتناول إلا
الزكوي
ولنا أن غير الزكوية أموال قال الله تعالى (أن تبتغوا بأموالكم) وهي مما
يجوز ابتغاء النكاح بها وقال أبو طلحة للنبي صلى الله عليه وسلم إن أحب
أموالي إلي ببرحا يريد حديقة وقال عمر أصبت أرضا بخيبر لم أصب مالا قط هو
أنفس عندي منه وقال أبو قتادة اشتريت مخرفا فكان أول مال تأثلته وفي حديث
آخر " المال سكة مأثورة أو مهرة مأمورة " ويقال خير المال عين خرارة في أرض
خوارة ولأنه يسمى مالا فحنث به؟ لزكوي وأما قوله تعالى (وفي أموالهم حق)
فالحق ههنا غير الزكاة لأن هذه الآية
(11/254)
مكية نزلت قبل فرض الزكاة لأن الزكاة إنما
فرضت بالمدينة ثم لو كان لحق الزكاة فلا حجة فيها فإن الحق إذا كان في بعض
المال كان في المال كما أن من هو في بيت في بلدة فهو في البيت وفي البلدة
قال الله تعالى (وفي السماء رزقكم وما توعدون) ولا يلزم أن يكون في جميع
أقطارها، ثم لو اقتضى هذا العموم لوجب تخصيصه فإن ما دون النصاب مال ولا
زكاة فيه وإن كان له دين حنث وهكذا ذكره أبو الخطاب وهو قول الشافعي وقال
أبو حنيفة لا يحنث لأنه لا ينتفع به ولنا أنه ينعقد عليه حول الزكاة ويصح
اخراجها عنه ويصح التصرف فيه بالإبراء والحوالة والمعاوضة عنه لمن هو في
ذمته والتوكيل في استيفائه فحنث به كالمودع (فصل) وإن كان له مال مغصوب حنث
لأنه باق على ملكه وإن كان له مال ضائع ففيه وجهان (أحدهما) يحنث لأن الأصل
بقاؤه على ملكه (والثاني) لا يحنث لأنه لا يعلم بقاؤه فإن ضاع على وجه قد
أيس من عوده كالذي سقط في بحر لم يحنث لأن وجوده كعدمه، ويحتمل أن لا يحنث
في كل موضع لا يقدر على أخذ ماله كالمجحود والمغصوب والدين على غير ملئ
لأنه لا نفع فيه وحكمه حكم المعدوم في جواز الأخذ من الزكاة وانتفاء وجوب
ادائها عنه وإن تزوج لم يحنث لأن ما ملكه ليس بمال وكذلك إن وجب له حق شفعة
لأنه لم يثبت له الملك به وإن استأجر عقاراً أو غيره لم يحنث لأنه لا يسمى
مالكاً لمال * (مسألة) * (وإن حلف لا يفعل شيئاً فوكل من يفعله حنث إلا أن
ينوي)
(11/255)
لأن الفعل ينسب إلى الموكل كما ينسب إلى
الوكيل فيحنث به كما لو حلف لا يحلق راسه فأمر من يحلقه فإنه يحنث لأن
الفعل منسوب إليه ولذلك تجب الفدية على من حلق رأسه بأذنه في الإحرام وإن
كانت نيته إن لا يباشر بنفسه لم يحنث لأن الأيمان مبناها على النية (فصل)
فأما الأسماء العرفية فهي أسماء اشتهر مجازها حتى غلب على الحقيقة كالرواية
والظعينة والدابة والغائط والعذرة ونحوها فيتعلق اليمين بالعرف دون الحقيقة
لأن الحقيقة صارت فيها مغمورة لا يعرفها أكثر الناس كالراوية للمزادة في
العرف وفي الحقيقة الجمل الذي يستقى عليه، والغائط والعذرة في العرف للخارج
المستقذر وفي الحقيقة الغائط المكان المطمئن والعذرة فناء الدار، والظعينة
في العرف للمرأة وفي الحقيقة الناقة التي يظعن عليها والدابة في الحقيقة
لكل ما يدب قال الله تعالى (والله خلق كل دابة من ماء فمنهم من يمشي على
بطنه ومنهم من يمشي على رجلين ومنهم من يمشي على أربع) وفي العرف اسم
للبغال والخيل والحمير فلهذا قلنا اليمين تنصرف إلى العرف دون الحقيقة لأنه
لا يعلم أن الحالف لا يريد غيره فصار كالمصرح به * (مسألة) * (وإن حلف على
وطئ امرأة تعلقت يمينه بجماعها) لأنه الذي يصرف اللفظ في العرف إليه وكذلك
إذا حلف على وطئ زوجته صار موليا منها
(11/256)
* (مسألة) * (وإن حلف على وطئ دار تعلقت
يمينه بدخولها راكباً أو ماشياً أو حافياً أو منعلا) لأن هذا في العرف
عبارة عن اجتناب الدخول فيحمل اليمين عليه بإطلاقه كلفظ الرواية والدابة
وغيرهما * (مسألة) * (وإن حلف لا يشم الريحان فشم الورد والبنفسج والياسمين
او لا يشم الورد والبنفسج فشم دهنهما أو ماء الورد فالقياس أنه لا يحنث
وقال بعض أصحابنا يحنث) إذا حلف لا يشم الريحان فإنه في العرف اسم يختص
الريحان الفارسي وفي الحقيقة اسم لكل نبت أو زهر طيب الريح مثل الورد
والبنفسج والنرجس وقال القاضي لا يحنث إلا بشم الريحان الفارسي وهو مذهب
الشافعي لأن الحالف لا يريد بيمينه في الظاهر سواه وقال أبو الخطاب يحنث
بشم ما يسمى في الحقيقة ريحاناً ولا يحنث بشم الفاكهة وجها واحدا وان حلف
لا يشم ورداً ولا بنفسجاً فشم دهنهما أو ماء الورد فقال القاضي لا يحنث وهو
مذهب الشافعي لأنه لم يشم ورداً ولا بنفسجاً وقال أبو الخطاب يحنث لأن الشم
إنما هو للرائحة دون الذات ورائحة الورد والبنفسج موجودة فيهما
(11/257)
وقال أبو حنيفة يحنث بشم دهن البنفسج لأنه
يسمى ورداً والأول أقرب إلى الصحة إن شاء الله تعالى فإن شم الورد والبنفسج
اليابس حنث وقال بعض أصحاب الشافعي لا يحنث كما لو حلف لا يأكل رطبا فأكل
تمراً ولنا أن هذا اسمه وحقيقته باقية فيحنث به كما لو حلف لا يأكل لحماً
فأكل قديداً وفارق ما ذكروه فإن التمر ليس برطب ولا يسمى رطباً * (مسألة) *
(وإن حلف لا يأكل لحما فأكل سمكا حنث عند الخرقي ولم يحنث عند ابن أبي
موسى) إذا حلف لا يأكل لحما ولم يرد لحما بعينه فأكل من الأنعام أو الصيد
أو الطير حنث في قول عامة علماء الأمصار وأما السمك فظاهر المذهب أنه يحنث
بأكله وبهذا قال قتادة والثوري ومالك وأبو يوسف وقال ابن أبي موسى في
الإرشاد لا يحنث إلا أن ينويه وهذا قول أبي نيفة والشافعي لأنه لا ينصرف
إليه اطلاق اسم اللحم ولو وكل وكيلاً في شراء اللحم فاشترى له سمكا لم
يلزمه ويصح أن ينفى عنه الاسم فيقول ما أكلت لحما إنما أكلت سمكا فلم يتعلق
به الحنث عند الإطلاق كما
(11/258)
لو حلف لاقعدت تحت سقف فإنه لا يحنث بقعوده
تحت السماء وقد سماه الله سقفا محفوظاً لأنه مجاز كذا ههنا ولنا قول الله
تعالى (وهو الذي سخر البحر لتأكلوا منه لحما طريا) ولأنه من جسم حيوان
ويسمى لحما فحنث بأكله كلحم الطير وما ذكروه يبطل بلحم الطائر، وأما السماء
فإن الحالف لا يقعد تحت سقف لا يمكنه التحرز من القعود تحتها فيعلم أنه لم
يردها بيمينه ولأن التسمية ثم مجاز وههنا حقيقة لكونه من جسم حيوان يصلح
للأكل فكان الإسم فيه حقيقة كلحم الطير حيث قال الله تعالى (ولحم طير مما
يشتهون)
* (مسألة) * (وإن حلف لا يأكل راسا ولا بيضا حنث يأكل رءوس الطير والسمك
والجراد عند القاضي وعند أبي الخطاب لا يحنث إلا بأكل رأس كل حيوان جرت
العادة بأكله منفرداً أو بيض بزايل بائضه في حال الحياة) إذا حلف لا يأكل
راسا فانه يحنث باأكل رأس كل حيوان من الإبل والصيود والحيتان والجراد ذكره
القاضي وقال أبو الخطاب لا يحنث إلا بأكل رأس جرت العادة ببيعه للأكل
منفرداً
(11/259)
وقال الشافعي لا يحنث إلا بأكل رءوس بهيمة
الأنعام دون غيرها إلا أن يكون ببلد تكثر فيه الصيود وتميز رؤوسها فيحنث
بأكلها، وقال أبو حنيفة لا يحنث بأكل روس الإبل لأن العادة لم تجر ببيعها
للأكل منفردة وقال صاحباه لا يحنث الا بأكل رءوس الغنم لأنها التي تباع في
الأسواق دون غيرها فيمينه تنصرف إليها، ووجه الأول أن هذه رءوس حقيقة
وعرفاً وهي مأكولة فيحنث بأكلها كما لو حلف لا يأكل لحما فأكل من لحم
النعام والزرافة وما يندر وجوده وبيعه، وأما إذا حلف لا يأكل بيضاً فيحنث
بأكل بيض كل حيوان كثر وجوده كبيض الدجاج أو قل كبيض النعام وبهذا قال
الشافعي وقال أصحاب الرأي لا يحنث بأكل بيض النعام وقال أبو ثور لا يحنث
إلا بأكل بيض الدجاج وما يباع في السوق ولنا أن هذا كله بيض حقيقة وعرفا
وهو مأكول فيحنث بأكله كبيض الدجاج ولأنه أو حلف لا يشرب ماء فشرب ماء
البحر أو ماء نجساً أو لا يأكل خبزاً فأكل خبز الأرز والذرة في مكان لا
يعتاد أكله فيه حنث، فأما أن أكل بيض السمك والجراد فقال القاضي يحنث لأنه
بيض حيوان أشبه بيض النعام وقال أبو الخطاب لا يحنث إلا بأكل بيض يزايل
بائضه حال الحياة وهذا قول الشافعي وأبي ثور وأصحاب الرأي وأكثر العلماء
وهو الصحيح لأن هذا لا يفهم من إطلاق
(11/260)
اسم البيض ولا يذكر إلا مضافاً إلى بائضه
ولا يحنث بأكل شئ يسمى بيضاً غير بيض الحيوان ولا شئ يسمى رأساً غير رءوس
الحيوان لأن ذلك ليس برأس ولا بيض في الحقيقة * (مسألة) * (وإن حلف لا يدخل
بيتاً فدخل مسجداً أو حماماً أو بيت شعر أو أدم أو لا يركب
فركب سفينة حنث عند أصحابنا ويحتمل أن لا يحنث) وجملة ذلك أنه إذا حلف لا
يدخل بيتاً فدخل مسجداً أو حماماً حنث نص عليه أحمد ويحتمل أن لا يحنث وهو
قول أكثر الفقهاء لأنه لا يسمى بيتاً في العرف والأول المذهب لأنهما بيتان
حقيقة وقد سمى الله عزوجل المساجد بيوتاً فقال (في بيوت أذن الله أن ترفع -
وقال - إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا) وروي في حديث " المسجد بيت
كل تقي " وروي في الحديث " بئس البيت الحمام " فإذا كان في الحقيقة بيتاً
وفي عرف الشرع حنث بدخوله كبيت الإنسان وإن دخل بيت شعر أو أدم حنث سواء
كان الحالف حضرياً أو بدوياً فإن اسم البيت يقع عليه حقيقة وعرفا قال الله
تعالى (والله جعل لكم من بيوتكم سكنا وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتا
تستخفونها) وأما مالا يسمى في العرف بيتاً كالخيمة فالأولى أن لا يحنث
بدخوله من لا يسميه بيتاً لأن يمينه لا تنصرف إليه وإن دخل دهليز دار
وصفتها لم يحنث وهو قول بعض أصحاب الشافعي وقال أبو حنيفة يحنث لأن جميع
الدار بيت
(11/261)
ولنا أنه لا يسمى بيتاً ولهذا يقال ما دخل
البيت وإنما وقف في الصحن فإن حلف لا يركب فركب سفينة حنث وهو قول أبي
الخطاب لأنه ركوب قال الله تعالى (اركبوا فيها بسم الله مجريها) وقال (فإذا
ركبوا في الفلك) ويحتمل أن لا يحنث لأنه لا يسمى في العرف ركوباً.
* (مسألة) * (وإن حلف لا يتكلم فقرأ أو سبح أو ذكر الله تعالى لم يحنث) .
إذا حلف لا يتكلم فقرأ لم يحنث وبه قال الشافعي وقال أبو حنيفة ان قرأ في
الصلاة لم يحنث وإن قرأ خارجاً منها حنث لأنه يتكلم بكلام الله تعالى وإن
ذكر الله تعالى لم يحنث ومقتضى مذهب أبي حنيفة أنه يحنث ولأنه كلام الله
قال الله تعالى (وألزمهم كلمة التقوى) وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "
كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرحمن: سبحان
الله وبحمده سبحان الله العظيم " ولنا أن الكلام في العرف لا يطلق إلا على
كلام الآدميين، ولهذا لما قال النبي صلى الله عليه وسلم " إن الله يحدث من
أمره ما شاء وإنه قد أحدث أن لا تتكلموا في الصلاة " لم يتناول المختلف فيه
وقال زيد بن
أرقم كنا نتكلم في الصلاة حتى نزل (وقوموا لله قانتين) فأمرنا بالسكوت
ونهينا عن الكلام وقال الله تعالى (آيتك ألا تكلم الناس ثلاث ليال سويا)
وقال (آيتك أن لا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا - واذكر ربك كثيرا وسبح
بالعشي والإبكار) فأمره بالتسبيح مع قطع الكلام عنه ولان مالا
(11/262)
يحنث به في الصلاة لا يحنث به خارجاً منها
كالإشارة وما ذكروه يبطل بالقراءة والتسبيح في الصلاة وذكر الله المشروع
فيها وإن استأذن عليه إنسان فقال (ادخلوها بسلام آمنين) يقصد القرآن لم
يحنث، لأن هذا من القرآن فلا يحنث به ولذلك لا تبطل الصلاة به وإن لم يقصد
القرآن حنث لأنه من كلام الناس.
* (مسألة) * (وإن حلف لا يضرب امرأته فخنقها أو نتف شعرها أو عضها حنث)
لأنه يقصد ترك تأليمها وقد آلمها فأما إن عضها بتلذذ ولم يقصد تأليمها لم
يحنث وإن حلف ليضربنها ففعل ذلك بر لوجود المقصود بالضرب.
* (مسألة) * (وإن حلف ليضربنه مائة سوط فجمعها فضربه بها ضربة واحدة لم يبر
في يمينه) .
وبهذا قال مالك وأصحاب الرأي وقال ابن حامد يبر، لأن أحمد قال في المريض
عليه الحد يضرب بعثكال النخل ويسقط عنه الحد، وبهذا قال الشافعي إذا علم
أنها مسته كلها وإن علم أنها لم تمسه كلها لم يبر وإن شك لم يحنث في الحكم
لأن الله تعالى قال (فخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث) وقال النبي صلى الله
عليه وسلم في المريض الذي زنى " خذوا له عثكالا فيه مائة شمراخ فاضربوه بها
ضربة واحدة " ولأنه ضرب بمائة سوط فبر في يمينه كما لو فرق الضرب.
(11/263)
ولنا أن معنى يمينه أن يضربه مائة ضربة ولم
يضربه إلا ضربة واحدة، الدليل على هذا أنه لو ضربه مائة ضربة بسوط بر بغير
خلاف ولو عاد العدد إلى السوط لم يبر بالضرب بسوط واحد كما لو حلف ليضربنه
بعشرة أسواط ولأن السوط ههنا آلة أقيمت مقام المصدر وانتصب انتصابه لأن
معنى كلامه لاضربنه مائة ضربة بسوط وهذا هو المفهوم من يمنيه والذي يقتضيه
لغة فلا يبر
بما يخالف ذلك، وأما أيوب عليه السلام فإن الله تعالى أرخص له رفقا بامرأته
لبرها به وإحسانها إليه ليجمع له بين بره في يمينه ورفقه بامرأته ولذلك
امتن عليه بهذا وذكره في جملة ما من به عليه من معافاته من بلائه وإخراج
الماء له فيختص هذا به كاختصاصه بما ذكر معه ولو كان هذا الحكم عاما بكل
أحد لما خص أيوب بالمنة عليه، وكذلك المريض الذي يخاف تلفه أرخص له بذلك في
الحد دون غيره وإذا لم يتعده هذا الحكم في الحد الذي ورد النص به فيه فلأن
لا يتعداه إلى اليمين أولى ولو خص بالبر من له عذر يبيح العدول في الحد إلى
الضرب بالعثكال لكان له وجه أما بعد تعديته إلى غيره فبعيد جداً.
[فصل] ولو حلف أن يضربه بعشرة أسواط فجمعها فضربه بها بر لأنه قد فعل ما
حلف عليه وإن حلف ليضربنه عشر ضربات فكذلك إلا وجهاً لأصحاب الشافعي أنه
يبر وليس بصحيح لأن
(11/264)
هذه ضربة واحدة بأسواط ولهذا يصح أن يقال
ما ضربته واحدة ولو حلف لا يضربه أكثر من ضربة واحدة ففعل هذا لم يحنث في
يمينه.
و [فصل] ولا يبر حتى يضربه ضرباً يؤلمه، وبهذا قال مالك وقال الشافعي يبر
بما لم يؤلم لأن الإسم يتناوله فوقع البر به كالمؤلم.
ولنا أن هذا يقصد به في العرف التأليم فلا يبر بغيره وكذلك كل موضع وجب
الضرب في الشرع في حد أو تعزير كان من شرطه التأليم كذا ههنا.
* (فصل) * إذا حلف لا يأكل شيئاً فأكله مستهلكاً في غيره مثل أن لا يأكل
لبنا فأكل زبداً أو لا يأكل سمناً فأكل خبيصاً فيه سمن لا يظهر فيه طعمه أو
لا يأكل بيضاً ناطفاً أو لا يأكل شحما فأكل اللحم الأحمر أو لا يأكل شعيراً
فأكل حنطة فيها حبات شعير لم يحنث وإن ظهر طعم السمن أو طعم شئ من المحلوف
عليه حنث وقال الخرقي يحنث بأكل اللحم الأحمر وحده وقال غيره يحنث بأكل
حنطة فيها حبات شعير) أما إذا حلف لا يأكل لبنا فأكل زبدا لا يظهر فيه طعم
اللبن لم يحنث لأنه لم يأكل لبناً فأشبه ما لو أكل كشكاً وكذلك إن حلف لا
يأكل سمناً فأكل خبيصاً فيه سمن لا يظهر فيه طعمه
لا يحنث لذلك، فأما إن ظهر طعم شئ من المحلوف عليه حنث كما لو أكل كل واحد
منفرداً، وإن حلف لا يأكل بيضاً فأكل ناطفاً لم يحنث لأنه لا يسمى بيضاً.
(11/265)
(مسألة) وإن حلف لا يأكل شحما فأكل اللحم
الأحمر فقال الخرقي يحنث لأن الشحم ما يذوب بالنار مما في الحيوان والعرف
يشهد لقوله وهو ظاهر قول أبي الخطاب واللحم لا يكاد يخلو من شئ منه فيحنث
به، وإن قل لأنه يظهر في الطبيخ فيبين على وجه المرق وفارق، من حلف لا يأكل
سمناً فأكل خبيصاً فيه سمن لا يظهر فيه طعمه ولا لونه، لأن هذا قد يظهر
الدهن فيه وقال غير الخرقي من أصحابنا لا يحنث، قال شيخنا وهو الصحيح لأنه
لا يسمى شحما ولا يظهر فيه طعمه ولا لونه والذي يظهر في المرق قد فارق
اللحم فلا يحنث بأكل اللحم الذي كان فيه فإن حلف لا يأكل شعيراً فأكل حنطة
فيها حبات شعير فقال غير الخرقي يحنث لأنه أكل شعيراً فأشبه ما لو أكله
منفرداً أو حلف لا يأكل رطبا فأكل منصفاً والأولى أن لا يحنث لأنه مستهلك
في الحنطة أشبه السمن في الخبيص الذي لا يظهر طعمه، وإن نوى بيمينه أن لا
يأكل الشعير منفرداً أو كان السبب يقتضي ذلك أو يقتضي أكل شعير يظهر أثر
أكله لم يحنث بذلك * (فصل) * قال رضي الله عنه (فإن حلف لا يأكل سويقاً
فشربه أو لا يشربه فأكله فقال الخرقي يحنث وقال أحمد من حلف لا يشرب نبيذاً
فثرد فيه وأكله لا يحنث فيخرج في كل ما حلف لا يأكله فشربه أو لا يشربه
فأكله وجهان وقال القاضي إن عين المحلوف عليه حنث وإلا فلا)
(11/266)
وجملة ذلك أن من حلف لا يأكل شيئاً فشربه
أو لا يشربه فأكله فقد نقل عن أحمد ما يدل على روايتين (إحداهما) يحنث لأن
اليمين على ترك أكل شئ أو شربه يقصد بها في العرف اجتناب ذلك الشئ فحملت
اليمين عليه ألا ترى إلى قوله تعالى (ولا تأكلوا اموالهم - وان الذين
يأكلون أموال اليتامى) لم يرد به الأكل على الخصوص؟ ولو قال طبيب لمريض لا
تأكل العسل لكان ناهياً عن شربه (والثانية) لا يحنث وهو مذهب الشافعي وأبي
ثور وأصحاب الرأي، لأن الأفعال أنواع
كاليمين ولو حلف على نوع من الأعيان لم يحنث بغيره كذلك الأفعال، وقال
القاضي إنما الروايتان فيمن عين المحلوف عليه مثل من حلف لا أكلت هذا
السويق فشربه أو لا يشربه فأكله أما إذا أطلق فقال لا أكلت سويقاً فشربه أو
لا يشربه فأكله لم يحنث رواية واحدة لا يختلف المذهب فيه وهذا يخالف ما
ذكرنا ههنا من الإطلاق ومخالف لما أطلقه الخرقي، وليس للتعيين أثر في الحنث
وعدمه فإن الحنث في المعين إنما كان لتناوله ما حلف عليه وإجراء معنى الأكل
والشرب على التناول العام فيهما وهذا لا فرق فيه بين التعيين وعدمه وعدم
الحنث معلل بإنه لم يفعل الفعل الذي حلف على تركه وإنما فعل غيره وهذا في
المعين كهو في المطلق لعدم الفارق بينهما، ولأن الرواية في الحنث أحدث من
كلام الخرقي وليس فيه تعيين ورواية عدم الحنث أحدث من رواية مهنا عن أحمد
فيمن حلف لا يشرب هذا النبيذ فأكله لا يحنث لأنه لا يسمى شربا وهذا في
المعين فإن عديت كل رواية
(11/267)
إلى محل الأخرى وجب أن يكون في الجميع
روايتان، وإن قصرت كل رواية على محلها كان الأمر على خلاف ما قال القاضي
وهو أن يحنث في المطلق ولا يحنث في المعين.
(فصل) فإن حلف ليشربن شيئاً فأكله أو ليأكلنه فشربه خرج فيه وجهان بناء على
الروايتين في الحنث إذا حلف على الترك ومتى تقيدت يمينه بنية أو سبب يدل
عليها كانت يمينه على ما نواه أو دل عليه السبب لأن الأيمان على النية
(فصل) فإن حلف لا يشرب شيئاً فمصه ورمى به فقد روي عن أحمد فيمن حلف لا
يشرب فمص قصب السكر لا يحنث وقال ابن أبي موسى إذا حلف لا يأكل ولا يشرب
فمص قصب السكر لا يحنث وهذا قول أصحاب الرأي فإنهم قالوا إذا حلف فمص حب
رمان ورمى بالتفل لا يحنث لأنه ليس بأكل ولا شرب ويجئ على قول الخرقي أنه
يحنث لأنه قد تناوله فوصل إلى حلقه وبطنه فيحنث به على ما قلناه فيمن حلف
لا يأكل شيئاً فشربه أو لا يشربه فأكله وإن حلف لا يأكل سكرا فتركه في فيه
حتى ذاب وابتلعه خرج على الروايتين * (مسألة) * (فإن حلف لا يطعم شيئاً حنث
بأكله وشربه ومصه)
لأن ذلك كله طعم قال الله تعالى في النهر (من ولم يطعمه)
(11/268)
* (مسألة) * (وإن ذاقه ولم يبتلعه لم يحنث)
في قولهم جميعاً لأنه ليس بأكل ولا شرب ولذلك لا يفطر به الصائم، وإن حلف
لا يذوقه فأكله أو شربه أو مصه حنث لأنه ذوق وزيادة وكذلك إن مضغه ورمى به
لأنه قد ذاقه * (مسألة) * (وإن حلف لا يأكل مائعاً فأكله بالخبز حنث) لأن
ذلك يسمى أكلا ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم " كلوا الزيت وادهنوا به
" (فصل) وإن حلف ليأكلن أكلة بالفتح لم يبر حتى يأكل ما يعده الناس أكلة
وهي المرة من الأكل والأكلة بالضم اللقمة ومنه " فليناوله في يده أكلة أو
أكلتين " * (فصل) * وإن حلف لا يتزوج ولا يتطهر ولا يتطيب فاستدام ذلك لم
يحنث) في قولهم جميعاً لأنه لا يطلق اسم الفعل على مستديم هذه الثلاثة فلا
يقال تزوجت شهراً ولا تطهرت شهراً ولا تطيبت شهراً وإنما يقال منذ شهر ولم
ينزل الشارع استدامة التزويج والطيب منزلة ابتدائهما في تحريمه في الإحرام
* (مسألة) * (وإن حلف لا يركب ولا يلبس فاستدام ذلك حنث) من حلف لا يلبس
ثوبا هو لابسه فنزعه في الحال وإلا حنث وكذلك إن حلف لا يركب دابة هو
راكبها فنزل في أول حالة الامكان والاحنث وبهذا قال الشافعي وأصحاب الرأي
وقال أبو ثور
(11/269)
لا يحنث باستدامة اللبس والركوب حتى يبتدئه
لأنه لو حلف أن لا يتزوج ولا يتطهر فاستدام ذلك لم يحنث كذا ههنا ولنا أن
استدامة اللبس والركوب تسمى لبساً وركوباً ويسمى لابساً وراكباً ولذلك يقال
لبست هذا الثوب شهراً وركبت دابتي يوما فحنث باستدامته كما لو حلف لا يسكن
فاستدام السكنى وقد اعتبر الشرع هذا في الإحرام حيث حرم لبس المخيط وأوجب
الكفارة في استدامته كما أوجبها
في ابتدائه، وفارق التزويج فإنه لا يطلق على الاستدامة فلا يقال تزوجت
شهراً وإنما يقال منذ شهر ولهذا لم تحرم استدامته في الإحرام ويحرم ابتداؤه
* (مسألة) * (وإن حلف لا يدخل داراً هو داخلها فأقام فيها حنث عند القاضي
ولم يحنث عند أبي الخطاب) وجه قول القاضي أن استدامة المقام في ملك الغير
كابتدائه في التحريم قال أحمد في رجل حلف على امرأته لا دخلت أنا وأنت هذه
الدار وهما جميعاً فيها قال أخاف أن يكون قد حنث [والثاني] لا يحنث اختاره
أبو الخطاب وهو قول أصحاب الرأي لأن الدخول لا يستعمل في الاستدامة ولهذا
يقال دخلتها منذ شهر ولا يقال دخلتها شهراً فجرى مجرى التزويج ولان الدخول
الانفصال من خارج إلى داخل ولا يوجد في الاقامة وللشافعي قولان كالوجهين،
ويحتمل أن من أحنثه
(11/270)
إنما كان لأن ظاهر حال الحالف أنه يقصد
هجران الدار ومباينتها والإقامة فيها تخالف ذلك فجرى مجرى الحالف على ترك
السكنى بها (فصل) وإن حلف لا يضاجع امرأته على فراش وهما متضاجعان فاستدام
ذلك حنث لأن المضاجعة تقع على الاستدامة ولهذا يقال اضطجع على الفراش ليلة
وإن كان هو مضطجعاً على الفراش وحده فاضطجعت عنده عليه نظرت، فإن قام لوقته
لم يحنث وإن استدام حنث لما ذكرنا، وإن حلف لا يصوم وهو صائم فأتم يومه
فقال القاضي لا يحنث ويحتمل أن يحنث لان الصوم يقع على الاستدامة يقال صام
يوماً، ولو شرع في صوم يوم العيد حرمت عليه استدامته وإن حلف لا يسافر وهو
مسافر فأخذ في العود أو أقام لم يحنث وإن مضى في سفره حنث لأن الاستدامة
سفر ولهذا يقال سافرت شهراً * (مسألة) * (وإن حلف لا يدخل على فلان بيتاً
فدخل فلان عليه فأقام معه فعلى الوجهين) * (مسألة) * (وإن حلف لا يمكن
داراً ولا يساكن فلانا وهما متساكنان ولم يخرج في الحال حنث إلا أن يقيم
لنقل متاعه أو يخشى على نفسه الخروج فيقيم إلى أن يمكنه) وجملة ذلك أنه إذا
حلف لا يسكن داراً هو ساكنها خرج من وقته فإن أقام فيها بعد يمينه زمنا
يمكنه الخروج حنث لان استدامة السكنى سكنى كابتدائها في وقع السكنى عليها
ألا تراه
(11/271)
يقول سكنت في هذه الدار شهراً كما يقول
لبست هذا الثوب وبهذا قال الشافعي، فإن أقام لنقل رحله وقماشه لم يحنث لأن
الانتقال لا يكون إلا بالأهل والمال فيحتاج إلى أن ينقل ذلك معه حتى يكون
منتقلاً وحكي عن مالك أنه إن أقام دون اليوم والليلة لم يحنث لأن ذلك قليل
يحتاج إليه في الانتقال فلم يحنث به وعن زفر أنه يحنث وإن أنتقل في الحال
لأنه لابد أن يكون ساكناً عقيب يمينه ولو لحظة فحنث بها وليس بصحيح فإنه لا
يمكن الاحتراز منه لأنه لا يراد باليمين ولا تقع عليه أما إذا أقام زمنا
يمكنه الانتقال فيه فإنه يحنث لأنه فعل ما يقع عليه اسم السكنى فحنث به
كموضع الاتفاق ألا ترى أنه لو حلف لا يدخل الدار فدخل إلى أول جزء منها
يحنث وإن كان قليلاً * (مسألة) * (وإن أقام لنقل أهله ومتاعه لم يحنث) وبه
قال أبو حنيفة وقال الشافعي يحنث ولنا أن الانتقال إنما يكون بالأهل والمال
على ما سنذكره فلا يمكنه التحرز من هذه الإقامة فلا يقع اليمين عليها وعلى
هذا لو خرج بنفسه وترك أهله وماله في المسكن مع إمكان نقلهم عنه حنث وقال
الشافعي لا يحنث إذا خرج بنية الانتقال لأنه إذا خرج بنية الانتقال فليس
بساكن لأنه يجوز أن يريد السكنى وحده دون أهله وماله
(11/272)
ولنا أن السكنى تكون بالأهل والمال ولهذا
يقال فلان ساكن في البلد الفلاني وهو غائب عنه بنفسه، وإذا نزل بلداً بأهله
وماله يقال سكنه، وقولهم أنه نوى السكنى بنفسه لا يصح فإن من خرج إلى مكان
لينقل أهله إليه ولم ينو السكنى به بنفسه منفرداً عن أهله الذي في الدار لم
يحنث فيما بينه وبين الله تعالى ذكره القاضي وعن مالك أنه اعتبر نقل عياله
دون ماله والأولى إن شاء الله أنه إذا انتقل بأهله فسكن في موضع آخر أنه لا
يحنث وإن بقي متاعه في الأولى لأن مسكنه حيث حل أهله به ونوى الإقامة به
ولهذا لو حلف
(11/273)
لا يسكن داراً لم يكن ساكناً بها فنزلها
بأهله ناوياً للسكنى بها حنث وقال القاضي إن نقل إليها ما يتأثث به
ويستعمله في منزله فهو ساكن وإن سكنها بنفسه * (مسألة) * (وإن خرج دون أهله
ومتاعه حنث) لما ذكرنا في المسألة قبلها إلا أن يودع متاعه أو بعيره أو
تأبى امرأته الخروج معه ولا يمكنه إكراهها فيخرج وحده فلا يحنث
(11/274)
(فصل) وإن أكره على المقام لم يحنث لقول
النبي صلى الله عليه وسلم " عفي لأمتي عن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه
" وكذلك إن كان في جوف الليل في وقت لا يجد منزلا يتحول إليه أو تحول بينه
وبين المنزل أبواب مغلقة لا يمكنه فتحها أو خوف على نفسه أو أهله أو ماله
فأقام في طلب النقلة أو انتظار الزوال المانع منها أو خرج طالباً للنقلة
فتعذرت عليه أما لكونه لم يجد مسكناً يتحول اليه لتعذر الكراء أو غيره.
أو لم يجد بهائم ينتقل عليها ولا يمكنه النقلة بدونها فأقام ناوياً للنقلة
متى قدر
(11/275)
عليها لم يحنث وإن أقام أياما وليالي، لأن
أقامته من غير اختيار منه لعدم تمكنه من النقلة فإنه إذا لم يجد مسكناً لا
يمكنه ترك أهله أو القاء متاعه في الطريق فلم يحنث به كالمقيم للإكراه، فإن
أقام في هذا الوقت غيرنا وللنقلة حنث ويكون نقله لما يحتاج إلى نقله على ما
جرت العادة فلو كان ذا متاع كثير فنقله قليلاً قليلاً على العادة بحيث لا
يترك النقل المعتاد لم يحنث وإن أقام أياماً، ولا يلزمه
(11/276)
جمع دواب البلد لنقله.
ولا النقل بالليل ولا وقت الاستراحة عند التعب، ولا أوقات الصلوات لأن
العادة لم تجر بالنقل فيها (فصل) ولو وهب رحله أو أودعه أو أعاره وخرج وحده
لم يحنث لأن يده زالت عن المتاع وكذلك إن أبت امرأته الخروج معه ولم يمكنه
إكراهها أو كان له عائلة فامتنعوا من الخروج والانتقال، ولم يمكنه إخراجهم
فتركهم لم يحنث لأن هذا مما لم يمكنه فأشبه ما لم يمكنه نقله من
(11/277)
رحله، وإن تردد إلى الدار لنقل المتاع أو
عائداً أو زائراً لصديق لم يحنث، وقال القاضي إن دخلها ومن رأيه الجلوس
عنده حنث وإلا فلا ولنا أن هذا ليس بسكنى ولذلك لو حلف ليسكنن داراً لم يبر
بالجلوس فيها على هذا الوجه، ولا يسمى ساكناً بها بهذا القدر فلم يحنث كما
لو لم ينو الجلوس
(11/278)
(فصل) وإن حلف لا يساكن فلانا وهو مساكنه
فالحكم في الاستدامة على ما ذكرنا في الحلف على السكنى وإن انتقل أحدهما
وبقي الآخر لم يحنث لزوال المساكنة * (مسألة) * (وإن حلف لا يساكن فلانا
فبنيا بينهما حائط وهما متساكنان حنث وإن كان في الدار حجرتان كل حجرة تختص
ببابها وطريقها فسكن كل واحد حجرة لم يحنث) إذا كان في دار واحدة حالة
اليمين فخرج أحدهما منها وقسماها حجرتين وفتحا لكل واحدة
(11/279)
منهما بابا وبينهما حاجز ثم سكن كل واحد
منهما في حجره لم يحنث لأنهما غير متساكنين، وإن بنيا الحاجز بينهما وهما
متساكنان حنث لأنهما تساكنا قبل انفراد إحدى الدارين من الأخرى وهذا قول
الشافعي ولا نعمل فيه خلافاً (فصل) وإن سكنا في دار واحدة كل واحد في بيت
ذي باب وغلق رجع إلى نيته بيمينه
(11/280)
أو إلى سببها، وما دلت عليه قرائن أحواله
في المحلوف على المساكنة فيه.
فإن عدم ذلك حنث وهذا قول مالك، وقال الشافعي إن كانت الدار صغيرة فهما
متساكنان، وإن كانا في بيتين كل واحد منهما له غلق أو كانا في خان فليسا
متساكنين.
لأن كل واحد منهما ينفرد بمسكنه دون الآخر فأشبها المتجاورين
(11/281)
(فصل) وإن حلف لا ساكنت فلانا في هذه الدار
فقسماها ججرتين وبنيا بينهما حائطاً وفتح
كل واحد منهما باباً لنفسه وسكناها لم يحنث كما ذكرنا في التي قبلها وهذا
قول الشافعي وابن المنذر وأبي ثور وأصحاب الرأي وقال مالك لا يعجبني ذلك
ويحتمله قياس المذهب لكونه عين الدار فلا تنحل يمينه بتغييرها كما لو حلف
لا يدخلها فصارت فضاء والأول أصح لأنه لا يساكنه فيها لكون المساكنة في
الدار لا تحصل مع كونها دارين وفارق الدخول فإنه دخلها متغيرة
(11/282)
* (مسألة) * (وإن حلف ليخرجن من هذه البلدة
فخرج دون أهله لم يحنث وإن حلف ليخرجن من هذه الدار فخرج دون أهله لم يبر)
إذا حلف ليخرجن من هذه الدار اقتضت يمينه الخروج بنفسه وأهله كما لو حلف لا
يسكنها وإن حلف ليخرجن من هذه البلدة تناولت يمينه الخروج بنفسه لان الدار
يخرج منها صاحبها
(11/283)
في اليوم مرات عادة فظاهر حاله أنه لم يرد
الخروج المعتاد، وإنما أراد الخروج الذي هو النقلة.
والخروج من البلد بخلاف ذلك * (مسألة) * (وإن حلف ليخرجن من هذه البلدة أو
ليرحلن عن هذه الدار ففعل فهل له العودة إليها؟ على روايتين (إحداهما) لا
شئ عليه في العود ولا يحنث به لأن يمينه على الخروج، وقد خرج فانحلت يمينه
لفعل ما حلف عليه فلم يحنث فيها بعد
(11/284)
(والثانية) يحنث بالعود لأن ظاهر حاله قصد
هجران ما حلف على الرحيل منه ولا يحصل ذلك بالعود ويمكن حمل هذه الرواية
على أن المحلوف عليه شئ هيج يمينه أو دلت قرينة حاله على إرادة هجرانه أو
نوى ذلك بيمينه فاقتضت يمينه دوام اجتنابها فإن لم يكن كذلك لم يحنث بالعود
لان اليمين عند عدم ذلك على مقتضى اللفظ ومقتضاه ههنا الخروج وقد فعله
فانحلت يمينه به وكذلك الحكم إذا حلف على الرحيل من بلد لم يبر إلا بالرحيل
بأهله
(11/285)
(فصل) (إذا حلف لا يدخل دارا فحمل فأدخلها
أو يمكنه الامتناع فلم يمتنع أو حلف لا يستخدم رجلاً فخدمه وهو ساكت فقال
القاضي يحنث) إذا حلف لا يدخل دارا فحمل فأدخلها فلم يمكنه الامتناع لم
يحنث نص عليه أحمد في رواية أبي طالب، وبه قال الشافعي وأبو ثور وأصحاب
الرأي ولا نعلم فيه خلافاً لأن الفعل غير موجود منه ولا منسوب إليه فإن حمل
بأمره فأدخلها حنث لأنه دخل مختاراً فأشبه ما لو دخل راكباً.
فإن حمل بغير أمره لكنه أمكنه الامتناع فلم يمتنع حنث أيضاً
(11/286)
اختاره القاضي لأنه دخلها غير مكره فأشبه
ما لو حمل بأمره، وقال أبو الخطاب في الحنث وجهان (أحدهما) لا يحنث لأنه لم
يفعل الدخول ولم يأمر به فأشبه ما لو لم يمكنه الامتناع، ومتى دخل باختياره
حنث سواء كان ماشياً أو راكباً أو محمولاً أو القى سفينة في ماء فجره إليها
أو سبح فيها
(11/287)
فدخلها، وسواء دخل من بابها أو تسور حائطها
أو دخل من طاقة فيها أو نقب حائطها أو دخل من ظهرها أو غير ذلك (فصل) فإن
أكره بالضرب وتحوه فدخلها لم يحنث في أحد الوجهين وهذا أحد قولي الشافعي
(والثاني) يحنث وهو قول أصحاب الرأي ونحوه عن النخعي لانه دخلها وفعل ما
حلف على تركه
(11/288)
والصحيح لاول لقول النبي صلى الله عليه
وسلم " عفي لأمتي عن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه " ولأنه دخلها مكرها
أشبه ما لو حمل فأدخلها مكرهاً وكذلك إن حلف لا يستخدم رجلاً فخدمه وهو
ساكت فيه من الخلاف ما ذكرناه في دخول الدار لأنه في معناه (فصل) وان حلف
لا يستخدم عبداً فخدمه وهو ساكت لم يأمره ولم ينهه فقال القاضي إن كان عبده
حنث وإن كان عبد غيره لم يحنث وهو قول أبي حنيفة لأن عبده يخدمه عادة بحكم
استحقاقه
(11/289)
ذلك عليه ويكون معنى يمينه لا منعتك خدمتي
فإذا لم ينهه لم يمنعه وعبد غيره بخلافه وقال أبو الخطاب يحنث في الحالين
لأن إقراره على الخدمة استخدام ولهذا يقال فلان يستخدم عبده إذا خدمه وإن
لم يأمره ولأنه ما حنث به في عبده حنث به في عبد غيره كسائر الأشياء وقال
الشافعي لا يحنث في الحالين لأنه حلف على فعل نفسه فلا يحنث بفعل غيره
كسائر الأفعال * (مسألة) * (وإن حلف ليشربن هذا الماء أو ليضربن عبده غداً
فتلف المحلوف عليه قبل الغد حنث عند الخرقي ويحتمل أن لا يحنث وإن مات
الحالف لم يحنث)
(11/290)
أما إذا مات الحالف من يومه فلا حنث عليه
لأن الحنث إنما يحصل بفوات المحلوف عليه وفي وقته وهو الغد والحالف قد خرج
عن أهلية التكليف قبل الغد فلا يمكنه حنثه وكذلك إن جن الحالف من يومه فلم
يفق إلا بعد خروج الغد لأنه خرج عن كونه من أهل التكليف، وإن هرب العبد أو
مرض هو أو الحالف أو نحو ذلك فلم يقدر على ضرب العبد حنث لأنه لم يفعل ما
حلف عليه مع كونه من أهل التكليف وإن لم يمت الحالف ففيه سبع مسائل
(11/291)
(أحدها) أن يضرب العبد في غد أي وقت كان
منه فانه ببر في يمينه بلا خلاف.
(الثانية) أمكنه ضربه في غد فلم يضربه حتى مضى الغد وهما في الغد فيحنث بلا
خلاف أيضاً (الثالثة) مات العبد من يومه فإنه يحنث وهو أحد قولي الشافعي
ويتخرج أن لا يحنث وهو قول أبي حنيفة ومالك والقول الثاني للشافعي لأنه قد
ضربه بغير اختياره فمل يحنث كالمكره والناسي ولنا أنه لم يفعل ما حلف عليه
في وقته من غير إكراه ولا نسيان وهو من أهل الحنث فحنث
(11/292)
كما لو أحلفه باختياره وكما لو حلف ليحجن
العام فلم يقدر على الحج لمرض أو عدم النفقة وفارق الإكراه والنسيان فإن
الامتناع لمعنى في الحلف وههنا الامتناع لمعنى في المحل فأشبه ما لو ترك
ضربه لصعوبته
أو ترك الحالف الحج لصعوبة الطريق وبعدها عليه فأما إن كان تلف المحلوف
عليه بفعله واختياره حنث وجهاً واحداً لأنه فوت الفعل على نفسه قال القاضي
ويحنث الحالف ساعة موته لأن يمينه انعقدت من حين حلفه وقد تعذر عليه الفعل
فحنث في الحال كما لو لم يؤقت ويتخرج أن لا يحنث قبل الغد لأن الحنث مخالفة
ما عقد يمينه عليه فلا يحصل المخالفة إلا بترك الفعل في وقته
(11/293)
(الرابعة) مات العبد في غد قبل التمكن من
ضربه فهو كما لو مات في يومه (الخامسة) مات العبد في غد بعد التمكن من ضربه
قبل ضربه فإنه يحنث وجها واحداً وهو قول بعض أصحاب الشافعي وقال بعضهم فيه
قولان ولنا أنه تمكن من ضربه في وقته فلم يضربه فحنث كما لو مضى الغد قبل
ضربه
(11/294)
(السادسة) مات الحالف في غد بعد التمكن من
ضربه فلم يضربه حنث وجها واحداً لما ذكرنا (السابعة) ضربه في يومه فإنه لا
يبر وهذا قول أصحاب الشافعي وقال القاضي وأصحاب أبي حنيفة يبر لأن يمينه
للحنث على ضربه فإذا ضربه اليوم فقد فعل المحلوف عليه وزيادة فأشبه ما لو
حلف ليقضيه غدا فقضاه اليوم
(11/295)
ولنا أنه لم يفعل المحلوف عليه في وقته فلم
يبر كما لو حلف ليصومن يوم الجمعة فصام يوم الخميس وفارق قضاء الدين
فالمقصود تعجيله لا غير وفي قضاء الدين زيادة في التعجيل فلا يحنث فيها
لأنه علم من قصده إرادة أن لا يتجاوز غداً بالقضاء فصار كالملفوظ به إذا
كان مبنى الأيمان على النية ولا يصح
(11/296)
قياس ما ليس مثله عليه وسائر المحلوفات لا
يعلم منها إرادة التعجيل عن الوقت الذي وقته لها فامتنع الألحاق وتعين
التمسك باللفظ (الثامنة) ضربه بعد موته فلا يبر لأن اليمين تنصرف إلى ضربه
حياً يتألم بالضرب وقد زال هذا بالموت
(11/297)
(التاسعة) ضربه ضرباً لا يؤلمه لا يبر لما
ذكرناه (العاشرة) خنقه أو نتف شعره أو عصر ساقه بحيث يؤلمه فإنه يبر لانه
يسمى ضربا لما تقدم ذكرنا له (الحادية عشر) جن العبد فضربه فإنه يبر لأنه
حي يتألم بالضرب وإن لم يضربه حنث وإن
(11/298)
حلف لا يضربه في غد ففيه نحو هذه المسائل
ومتى فات ضربه بموته أو غيره لم يحنث لأنه لم يضربه * (مسألة) * (وإن قال
والله لأشربن ماء هذا الكوز غدا فاندفق اليوم أو لآكلن هذا الخبز غدا فتلف
فهو على ما نحو ما ذكرنا في العبد)
(11/299)
قال صالح سألت أبي عن الرجل يحلف أن يترب
الماء ف؟ نصب فقال يحنث وكذا لو حلف أن يأكل هذا الرغيف فأكله كلب قال يحنث
لان ذا لا يقدر عليه (فصل) ومن حلف لا يتكفل بمال فكفل ببدن فقال أصحابنا
يحنث لأن المال يلزمه بكفالته إذا تعذر إحضار المكفول به قال شيخنا والقياس
أنه لا يحنث لأنه لم يكفل بمال إنما يلزمه المال لتعذر إحضار المكفول به
وأما قبل ذلك فلا يلزمه، ولأن هذا لا يسمى كفالة بالمال ويصح نفيها عنه
فيقال
(11/300)
ما تكفل بمال إنما تكفل بالبدن وهذا مذهب
أبي حنيفة والشافعي * (مسألة) * (وإن حلف ليقضينه حقه فأبرأه فهل يحنث؟ على
وجهين) وذلك مبني على ما إذا حلف على فعل شئ فتلف قبل فعله وفيه وجهان
(11/301)
(أحدهما) يحنث لأنه لم يفعل ما حلف عليه
(والثاني) لا يحنث لأنه منع من فعله فأشبه المكره على فعل ما حلف على تركه
وقد ذكرنا ذلك
فيمن حلف ليضربن غلامه فتعذر ضربه * (مسألة) * (وإن مات المستحق فقضى ورثته
لم يحنث ذكره أبو الخطاب لأن قضاء ورثته يقوم مقام قضائه في إبراء ذمته
فكذلك في البر في يمينه)
(11/302)
وحكي عن القاضي أنه يحنث لأنه تعذر قضاؤه
فأشبه ما لو حلف ليضربن عبده غداً فمات العبد اليوم ومن نصر قول أبي الخطاب
قال موت العبد يخالف ذلك لأن ضرب غيره لا يقوم مقام ضربه وقال أصحاب الرأي
وأبو ثور تنحل اليمين بموت المستحق ولا يحنث سواء قضى ورثته أو لم يقضهم
لأنه تعذر عليه فعل ما حلف عليه بغير اختياره أشبه المكره وقد سبق الكلام
على هذا في مسألة من حلف ليضربن عبده غداً فمات العبد اليوم
(11/303)
* (مسألة) * (وإن باعه بحقه عرضا لم يحنث
عند ابن حامد لأنه قد قضاه حقه) وقال القاضي يحنث لأنه لم يقض الحق الذي
عليه بعينه * (مسألة) * (وإن حلف ليقضينه حقه عند رأس الهلال أو مع رأسه أو
إلى رأس الهلال أو إلى
(11/304)
استهلاله أو عند رأس الشهر أو مع رأسه
فقضاه عند غروب الشمس في أول الشهر بر في يمينه وإن أخر ذلك مع امكانه حنث
وإن شرع في عده أو وكيله أو وزنه فتأخر القضاء لم يحنث) لأنه لم يترك
القضاء وكذلك إذا حلف ليأكلن هذا الطعام في هذا الوقت فشرع في أكله
(11/305)
فيه وتأخر الفراغ لكثرة لم يحنث لأن أكله
كله غير ممكن في هذا الوقت للعلم بالعجز عن غير ذلك ومذهب الشافعي في هذا
كما ذكرنا
(11/306)
* (مسألة) * (وإن حلف لا فارقتك حتى استوفي
حقي منك فهرب منه حنث نص عليه وقال الخرقي
لا يحنث وإن فلسه الحاكم وحكم عليه بفراقه خرج على روايتين) وإذا حلف لا
فارقتك ففيه عشر مسائل
(11/307)
(أحدها) أن يفارقه الحالف مختاراً فيحنث
سواء أبرأه من الحق أو فارقه والحق عليه لأنه فارقه قبل استيفاء حقه منه
(11/308)
(الثانية) فارقه مكرهاً فينظر فإن كان حمل
مكرهاً حتى فارقه لم يحنث وإن أكره بالضرب والتهديد لم يحنث وفي قول أبي
بكر يحنث وفي الناسي تفصيل ذكرناه فيما مضى (الثالثة) هرب منه الغريم بغير
اختياره فلا يحنث وبهذا قال مالك وابو ثور وابن المنذر وأصحاب الرأي وروي
عن أحمد أنه يحنث لأن معنى يمينه أن لا تحصل بينهما فرقة وقد حصلت
(11/309)
ولنا أنه حلف على فعل نفسه في الفرقة ولا
فعل باختياره فلم يحنث كما لو حلف لا قمت فقام غيره (الرابعة) إذن له
الحالف في الفرقة ففارقه فمفهوم كلام الخرقي أنه يحنث وقال الشافعي لا يحنث
قال القاضي وهو قول الخرقي لأنه لم يفعل الفرقة التي حلف أنه لا يفعلها
ولنا أن معنى يمينه لألزمنك فإذا فارقه بإذنه فما لزمه ويفارق ما إذا هرب
منه لأنه فر بغير اختياره وليس هو قول الخرقي لأن الخرقي قال فهرب منه
ففهومه انه إذا فارفه بغير هرب أنه يحنث
(11/310)
(الخامسة) فارقه من غير إذن ولا هرب على
وجه تمكنه ملازمته والمشي معه أو إمساكه فهي كالتي قبلها
(11/311)
(السادسة) قضاه قدر حقه ففارقه ظنا منه أنه
قد وفاه فخرج رديئاً أو بعضه فيخرج في الحنث روايتان بناء على الناسي
وللشافعي قولان كالروايتين
(أحدهما) يحنث وهو قول مالك لأنه فارقه قبل استيفاء حقه مختاراً (والثانية)
لا يحنث وهو قول أبي ثور وأصحاب الرأي إذا وجدها زيوفاً وإن وجد أكثرها
(11/312)
نحاساً أنه يحنث وإن وجدها مستحقه فأخذها
صاحبها خرج أيضاً على الروايتين في الناسي لأنه ظان أنه مستوف حقه فأشبه ما
لو وجدها رديئة وقال أبو ثور وأصحاب الرأي لا يحنث وإن علم بالحال ففارقه
حنث لأنه لم يوفه حقه
(11/313)
(السابعة) فلسه الحاكم ففارقه فإن الزمه
الحاكم فهو كالمكره وإن لم يلزمه مفارقته لكن فارقه لعلمه بوجوب مفارقته
حنث لأنه فارقه من غير إكراه فحنث كما لو حلف لا يصلي فوجبت عليه صلاة
فصلاها
(11/314)
(الثامنة) احاله الغريم بحقه ففارقه فإنه
يحنث وبهذا قال الشافعي وأبو يوسف وأبو ثور وقال أبو حنيفة ومحمد لا يحنث
لأنه قد برئ إليه منه
(11/315)
ولنا أنه ما استوفى حقه منه بدليل أنه لم
يصل إليه شئ ولذلك يملك المطالبة به فحنث كما لو لم يحله فإن ظن أنه قد
يريد بذلك مفارقته ففارقه خرج على الروايتين ذكره أبو الخطاب، قال شيخنا
(11/316)
والصحيح أنه يحنث لأن هذا جهل بحكم الشرع
فيه فلا يسقط الحنث كما لو جهل كون اليمين موجبة للكفارة فأما إن كانت
يمينه لا فارقتك ولي قبلك حق فاحاله ففارقه لم يحنث لأن هذا لم
(11/317)
يبق له قبله حق فإن أخذ به ضميناً أو
كفيلاً أو رهناً ففارقه حنث بلا إشكال لأنه يملك مطالبة الغريم (التاسعة)
قضاه عن حق عوضا عنه ثم فارقه فقال ابن حامد لا يحنث وهو قول أبي حنيفة
(11/318)
لأنه قد قضاه حقه وبرئ إليه منه بالقضاء
وقال القاضي يحنث لأن يمينه على نفس الحق وهذا بدله والأول أولى إن شاء
الله تعالى لحصول المقصود به فإن كانت يمينه لا فارقتك حتى تبرأ من حقي أو
(11/319)
ولي قبلك حق لم يحنث وجهاً واحداً لأنه لم
يبق قبله حق وهذا مذهب الشافعي (العاشرة) وكل وكيلا يستوفي له حقه فإن
فارقه قبل استيفاء الوكيل حنث لأنه فارقه قبل
(11/320)
استيفاء حقه، وإن استوفى الوكيل ثم فارقه
لم يحنث لأن استيفاء وكيله استيفاء له ببراءة غريمه ويصير
(11/321)
في ضمان الموكل فأما إن قال لا فارقتني حتى
استوفي حقي منك ففارقه المحلوف عليه مختاراً حنث وإن
(11/322)
أكره على فراقه لم يحنث وإن فارقه الحالف
مختاراً حنث إلا على ما ذكره القاضي في تأويل كلام الخرقي
(11/323)
وهو مذهب الشافعي وسائر الفروع تأتي ههنا
على نحو ما ذكرنا
(11/324)
* (مسألة) * (فإن حلف لا فترقنا فهرب منه
حنث)
(11/325)
إذا هرب من المحلوف عليه لأن يمينه تقتضي
أن لا تحصل بينهما فرقة بوجه وقد حصلت الفرقة
(11/326)
بهربه وان أكرها على الفرقة لم يحنث إلا
على قول من لا يرى الإكراه عذراً
(11/327)
(فصل) وإن حلف لا فارقتك حتى أوفيك حقك
فأبرأه الغريم منه فهل يحنث؟ على وجهين بناء على المكره، وإن كان الحق
عيناً فوهبها له الغريم فقبلها حنث لأنه ترك إيفاءها له باختياره
(11/328)
وإن قبضها منه ثم وهبها أياه لم يحنث، وإن
كانت يمينه لا أفارقك ولك قبلي حق لم يحنث إذا أبرأه أو وهب العين له
(11/329)
* (مسألة) * (وقدر الفرقة ما عده الناس
فراقا كفرقة البيع وقد ذكرناه في البيع) وما نواه بيمينه عما تحتمله لفظه
فهو على ما نواه
(11/330)
|