الشرح الكبير على متن المقنع

باب النذر الأصل فيه الكتاب والسنة والإجماع.
أما الكتاب فقول الله تعالى (يوفون بالنذر) وقال سبحانه (وليوفوا نذورهم) وأما السنة فروت عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه " رواه البخاري وعن عمران بن حصين رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم يجئ قوم ينذرون ولا يوفون ويخونون ولا يؤتمنون ويشهدون ولا يستشهدون ويظهر فيهم السمن " رواه البخاري وأجمع المسلمون على صحة النذر في الجملة ووجوب الوفاء به (فصل) ولا يستحب النذر لأن ابن عمر روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن النذر وقال " إنه لا يأتي بخير وإنما يستخرج به من البخيل " متفق عليه وهذا نهي كراهة لا نهي تحريم لأنه لو كان حراماً لما مدح الموفين به لأن ذنبهم في ارتكاب المحرم أشد من طاعتهم في وفائه ولأن النذر لو كان مستحباً لفعله النبي صلى الله عليه وسلم وأفاضل أصحابه * (مسألة) * (وهو أن يلزم نفسه لله تعالى شيئا فقول: لله علي أن أفعل كذا، وإن قال على

(11/331)


نذر كذا لزمه أيضاً) لأنه صرح بلفظ النذر ولا يصح إلا من مكلف مسلماً كان أو كافراً لأنه قول يوجب على
المكلف عبادة أو مالا فلم يصح من غير المكلف كالإقرار ولأنه غير مكلف أشبه الطفل، ويصح من الكافر لحديث عمر حين قال للنبي صلى الله عليه وسلم إني نذرت إن أعتكف ليلة في المسجد الحرام: قال " أوف بنذرك " متفق عليه * (مسألة) * (ولا يصح إلا بالقول فإن نواه من غير قول لم يصح) لأنه موجب للكفارة في أحد طرفيه فلم ينعقد بالنية كاليمين * (مسألة) * (ولا يصح في محال ولا واجب فلو قال لله علي صوم أمس أو صوم رمضان لم ينعقد) لا ينعقد نذر المستحيل كصوم أمس ولا يوجب شيئاً لأنه لا يتصور انعقاده ولا الوفاء به لأنه لو حلف على فعله لم تلزمه كفارة فالنذر أولى قال شيخنا وعقد الباب في الصحيح من المذهب أن النذر كاليمين وموجبه موجبها إلا في لزوم الوفاء به إذا كان قربة وأمكنه فعله، ودليل هذا الأصل قول النبي صلى الله عليه وسلم لأخت عقبة لما نذرت المشي ولم تطقه " ولتكفر يمينها " وفي رواية " فلتصم ثلاثة أيام " قال أحمد إليه أذهب، وعن عقبة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " كفارة النذر كفارة اليمين " أخرجه مسلم وقول ابن عباس في التي نذرت

(11/332)


ذبح ابنها كفري يمينك ولأنه قد ثبت أن حكمه حكم اليمين في أحد أقسامه وهو نذر اللجاج فكذلك في سائره سوى ما استثناه الشرع فإن نذر واجباً كالصلاة المكتوبة فقال أصحابنا لا ينعقد نذره وهو قول أصحاب الشافعي لان النذر التزام ولا يصح التزام ما هو لازم له ويحتمل ان ينعقد نذره موجباً لكفارة يمين ان تكره كما لو حلف لا يفعله ففعله فإن النذر كاليمين وقد سماه النبي صلى الله عليه وسلم يميناً ولذلك لو نذر معصية أو مباحا لم يلزمه ويكفر إذا لم يفعله * (مسألة) * (والنذر المنعقد على خمسة أقسام (أحدها) النذر المطلق وهو أن يقول لله علي نذر فيجب به كفارة يمين في قول أكثر أهل العلم) روي ذلك عن ابن مسعود وبان عباس وجابر وعائشة رضي الله عنهم وبه قال الحسن وطاوس وسالم والقاسم والشعبي والنخعي وعكرمة وسعيد بن جبير ومالك والثوري ومحمد بن الحسن ولا نعلم
فيه محالفا إلا الشافعي قال: لا ينعقد نذره ولا كفارة فيه وأما ما روى عقبة بن عامر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " كفارة النذر إذا لم يسم كفارة يمين " رواه الترمذي وقال هذا حديث حسن صحيح غريب وهذا نص ولأنه قول من سمينا من الصحابة والتابعين ولا نعرف لهم في عصرهم مخالفاً فيكون إجماعاً

(11/333)


(الثاني) اللجاج والغضب وهو ما يقصد به المنع من شئ أو الحمل عليه كقوله إن كلمتك فلله علي الحج أو صوم سنة أو عتق عبدي أو الصدقة بمالي فهذا يمين يخير بين فعله وبين كفارة يمين لما روى عمران بن حصين قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " لا نذر في غضب وكفارته كفارة يمين " رواه سعيد في سننه، وعن أحمد أن الكفارة تتعين عليه ولا يجزئه غيرها للخبر والأول ظاهر المذهب لأنها يمين فيخير فيها بين الأمرين كاليمين بالله تعالى ولأن هذا جمع الصفتين فيخرج عن العهدة بكل واحدة منهما (الثالث) نذر المباح كقوله لله علي أن البس ثوبي أو أركب دابتي فهذا كاليمين يتخير بين فعله وبين كفارة يمين لما روى أن امرأة أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت إني نذرت أن أضرب على رأسك بالدف فقال النبي صلى الله عليه وسلم " أوف بنذرك " رواه أبو داود ولأنه لو حلف على فعل مباح بر بفعله فكذلك إذا نذره لأن النذر كاليمين، وإن شاء تركه وعليه كفارة يمين كما لو حلف ليفعلنه فلم يفعل ويتخرج أن لا كفارة فيه فإن أصحابنا قالوا من نذر أن يعتكف في مسجد معين أو يصلي فيه كان له أن يصلي ويعتكف في غيره ولا كفارة عليه ومن نذر أن يتصدق بماله كله أجزأته الصدقة بثلثه بلا كفارة وهذا مثله وقال مالك والشافعي لا ينعقد نذره لقول النبي صلى الله عليه وسلم " لا نذر إلا فيما يبتغى به وجه الله " وروى ابن عباس قال بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب إذا هو برجل قائم فسأل عنه فقالوا أبو إسرائيل نذر أن يقوم في الشمس ولا يستظل ولا يتكلم ويصوم فقال النبي صلى الله عليه وسلم " مروه فليجلس ويستظل وليتكلم وليتم صومه " رواه البخاري

(11/334)


وعن أنس قال نذرت امرأة أن تمشي إلى بيت الله فسئل نبي الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال " إن الله لغني عن مشيها مروها فلتركب "، قال الترمذي هذا حديث صحيح ولم يامر بكفارة وروي أن النبي
صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يهادى بين اثنين فسأل عنه فقالوا نذر أن يحج ماشياً فقال " إن الله لغني عن تعذيب هذا نفسه مروه فليركب " متفق عليه ولم يأمره بكفارة ولأنه نذر غير واجب لفعل ما نذره فلم يوجب كفارة كنذر المستحيل، ولنا ما تقدم في قسم نذر اللجاج ولا غضب فأما حديث التي نذرت المشي فقد أمر فيه بالكفارة في حديث آخر فروى عقبة بن عامر أن أخته نذرت أن تمشي إلى بيت الله الحرام فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال " مروها فلتركب ولتكفر عن يمينها " أخرجه أبو داود وهذه زيادة يجب الأخذ بها ويجوز أن يكون الراوي للحديث روى البعض وترك البعض أو يكون النبي صلى الله عليه وسلم ترك ذكر الكفارة في بعض الحديث إحالة على ما علم من حديثه في موضع آخر.
* (مسألة) (فإن نذر مكروهاً كالطلاق فإنه مكروه لقول النبي صلى الله عليه وسلم " أبغض الحلال إلى الله الطلاق " استحب أن يكفر ولا يفعله) لأن ترك المكروه أولى من فعله فإن فعله فلا كفارة عليه والخلاف فيه كالذي قبله (الرابع)

(11/335)


نذر المعصية كشرب الخمر وصوم يوم الحيض ويوم العيد فلا يجوز الوفاء به ويكفر لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال " من نذر أن يعصي الله فلا يعصه " ولأن معصية الله لا تباح في حال ويجب على الناذر كفارة يمين، روي نحو هذا عن مسعود وابن عباس وعمران بن حصين وسمرة بن جندب، وبه قال الثوري وأبو حنيفة وأصحابه، وروى عن أحمد ما يدل على أنه لا كفارة عليه وسنذكر ذلك إن شاء الله تعالى.
* (مسألة) * (إلا أن ينذر ذبح ولده ففيه روايتان (إحداهما) أنه كذلك (والثانية) يلزمه ذبح كبش اختلفت الرواية عن أحمد رحمه الله فيمن قال إن فعلت كذا فلله علي نحر ولدي أو يقول ولدي نحير إن فعلت كذا أو نذر ذبح ولده مطلقاً غير معلق بشرط فعن أحمد عليه كفارة يمين وهذا قياس المذهب لأن هذا نذر معصية أو نذر لجاج وكلاهما يوجب الكفارة وهو قول ابن عباس فإنه قال لامرأة نذرت أن تذبح ابنها لا تنحري ابنك كفري عن يمينك
(والرواية الثانية) كفارته ذبح كبش ويطعمه المساكين وهو قول أبي حنيفة ويروى ذلك عن ابن عباس أيضاً، لأن نذر ذبح الولد جعل في الشرع كنذره ذبح شاة بدليل أن الله تعالى أمر إبراهيم عليه السلام بذبح ولده وكان أمراً بذبح شاة وشرع من قبلنا شرع لنا ما لم يثبت نسخه ودليل أنه أمر بذبح شاة أن الله لا يأمر بالفحشاء ولا بالمعاصي وذبح الولد من كبائر المعاصي، قال الله

(11/336)


تعالى (ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق) وقال النبي صلى الله عليه وسلم " أكبر الكبائر أن تجعل لله ندا وهو خلقك " قيل ثم أي؟ قال " أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك "، وقال الشافعي ليس هذا بشئ ولا يجب به شئ لأنه نذر معصية لا يجوز الوفاء به ولا يجوز ولا تجب به كفارة لقول النبي صلى الله عليه وسلم " لا نذر في معصية ولا فيما لا يملك ابن آدم.
ولنا قوله عليه الصلاة والسلام " لا نذر في معصية وكفارته كفارة يمين " رواه سعيد في سننه ولأن النذر حكمه حكم اليمين بدليل قوله عليه الصلاة والسلام " النذر حلفة " وكفارته كفارة يمين فيكون بمنزلة من حلف ليذبحن ولده وقولهم أن النذر لذبح الولد كناية عن ذبح كبش لا يصح لأن ابراهيم عليه السلام لو كان مأموراً بذبح كبش لم يكن الكبش فداء ولا كان مصدقاً للرؤيا قبل ذبح الكبش وإنما أمر بذبح ابنه ابتلاء ثم فدي بذبح الكبش وهذا أمر اختص به ابراهيم عليه السلام لا يتعداه إلى غيره لحكمة علمها الله تعالى فيه ثم لو كان ابراهيم مأموراً بذبح كبش فقد ورد شرعنا بخلافه فإن نذر ذبح الابن ليس بقربة في شرعنا ولا مباح بل هو معصية فتكون كفارته كفارة سائر نذور المعاصي.
(فصل) فإن نذر ذبح نفسه أو أجنبي ففيها أيضاً عن أحمد روايتان فنقل ابن منصور عن أحمد

(11/337)


فيمن نذر ذبح نفسه إذا حنث يذبح شاة وكذلك إن نذر ذبح أجنبي لأن ذلك يروي عن ابن عباس والذي قال أنا أنحر فلاناً فقال عليه كبش ولأنه نذر ذبح آدمي فكان عليه ذبح كبش كنذر ذبح ابنه (والثانية) عليه كفارة يمين لأنه نذر معصية فكان موجبة كفارة لما ذكرنا فيما تقدم
وروى الجوزجاني بإسناده عن الأوزاعي قال حدثني أبو عبيد قال جاء رجل إلى ابن عمر فقال إني نذرت إن أنحر نفسي فتجهمه ابن عمر واقف منه ثم أتى ابن عباس فقال أهد مائة بدنة ثم أتى عبد الرحمن بن الحارث بن هشام فقال أرأيت لو نذرت أن لا تكلم أباك أو أخاك؟ إنما هذه خطوة من خطوات الشيطان استغفر الله وتب إليه فرجع إلى ابن عباس فأخبره نقال أصاب عبد الرحمن ورجع ابن عباس عن قوله والصحيح أن هذا نذر معصية حكمه حكم سائر المعاصي لا غير.
(فصل) قال أحمد في امرأة نذرت نحر ولدها ولها ثلاثة أولاد تذبح عن كل واحد كبشاً وتكفر عن يمينها وهذا على قولنا إن كفارة نذر ذبح الولد كبش فجعل عن كل واحد لأن لفظ الواحد إذا أضيف اقتضى التعميم فكان عن كل واحد كبش فإن عينت بنذرها واحدا فانما عليه كبش واحد بدليل إبراهيم عليه السلام لما أمر بذبح ابنه الواحد فدى بكبش واحد ولم يفد غير من أمر بذبحه من أولاده كذا ههنا وعبد المطلب لما نذر ذبح ابن من بنيه أن يبلغوا عشرة لم يفد منهم إلا واحداً وسواء نذرت معيناً أو عينت واحداً غير معين، فأما قول أحمد وتكفر يمينها فيحتمل

(11/338)


أنه أراد أن تذبح الكباش كفارة ويحتمل أنه كان مع نذرها يمين فأما على الرواية الأخرى تجزئها كفارة يمين على ما سبق.
* (مسألة) * (ويحتمل أن لا ينعقد نذر المباح ولا المعصية ولا تجب به كفارة ولهذا قال أصحابنا من نذر الاعتكاف أو الصلاة في مكان معين فله فعله في غيره ولا كفارة وقد روي عن أحمد ما يدل على ذلك فإنه قال فيمن نذر ليهدمن دار غيره لبنة لبنة لا كفارة عليه) وهذا في معناه وروى هذا عن مسروق والشعبي وهو مذهب الشافعي لقول النبي صلى الله عليه وسلم " لا نذر في معصية الله ولا فيما لا يملك العبد " رواه مسلم والمذهب أن عليه الكفارة وقد ذكرناه في نذر المباح ووجهه ما روت عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " لا نذر في معصية وكفارته كفارة يمين " رواه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وقال هذا حديث غريب (فصل) وإن نذر فعل طاعة وليس بطاعة لزمه فعل الطاعة كالذي في خبر أبي إسرائيل فإن
النبي صلى الله عليه وسلم أمره بإتمام الصوم وترك ما سواه لكونه ليس بطاعة وفي وجوب الكفارة لما تركه روايتان على ما ذكرناه وقد روى عقبة بن عامر أن أخته نذرت أن تمشي إلى بيت الله الحرام حافية غير مختمرة فذكر عقبة ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال " مر أختك فلتركب ولتختمر ولتعصم ثلاثة

(11/339)


أيام "، رواه الجوزجاني والترمذي فإن كان المتروك خصالا كثيرة أجزأته كفارة واحدة لأنه نذر واحد فتكون كفارته واحدة كاليمين الواحدة على أفعال ولهذا لم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم أخت عقبة بن عامر في ترك التحفي والاختمار بأكثر من كفاة.
* (مسألة) * (ولو نذر الصدقة بكل ماله فله الصدقة بثلثه ولا كفارة عليه لما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لأبي لبابة حين قال إن من توبتي يا رسول الله إن أنخلع من مالي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يجزيك الثلث " وبهذا قال الزهري ومالك وقال ربيعة يتصدق منه بقدر الزكاة لأن المطلق يحمل على معهود الشرع ولا يجب في الشرع إلا قدر الزكاة وعن جابر بن زيد قال إن كان كثيراً وهو ألفان تصدق بعشرة وإن كان متوسطاً وهو ألف تصدق بسبعة، وإن كان قليلاً وهو خمسمائة تصدق بخمسة وقال أبو حنيفة يتصدق بالمال الزكوي كله وعنه في غيره فيه روايتان.
[إحداهما] يتصدق به (والثانية) لا يلزمه منه شئ وقال النخعي والبتي والشافعي يتصدق بماله كله لقول النبي صلى الله عليه وسلم " من نذر أن يطيع الله فليطعه " ولأنه نذر طاعة فلزمه الوفاء به كنذر الصلاة والصيام ولنا حديث أبي لبابة المذكور وعن كعب أبن مالك قال قلت يا رسول الله إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله وإلى رسوله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك " متفق عليه ولأبي داود يجزئ عنك الثلث قالوا ليس هذا بنذر وإنما أراد الصدقة

(11/340)


بجميعه فأمره النبي صلى الله عليه وسلم؟ الاقتصار على الثلث وليس هذا محل النزاع إنما النزاع فيمن نذر الصدقة بجميعه فلنا عنه جوابان (احدهما) أن قوله " يجزئك الثلث " دليل على أنه أتى بلفظ يقتضي الإيجاب لأنها إنما تستعمل غالباً
في الواجبات ولو كان مخيراً بإرادة الصدقة لما لزمه شئ يجزئ عنه بعضه (الثاني) أن منعه من الصدقة بزيادة على الثلث دليل على أنه ليس بقربة لأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يمنع أصحابه من القرب ونذر ما ليس بقربة لا يلزم الوفاء به ولنا على أبي حنيفة أن غير الزكوي مال فتناوله النذر كغير الزكوي وما قاله ربيعة لا يصح فإن هذا ليس بزكاة ولا في معناها فإن الصدقة وجبت لاغناء الفقراء ومواساتهم وهذه صدقة تبرع بها صاحبها تقربا إلى الله تعالى ثم إن المحمول على معهود الشرع المطلق وهذه صدقة معينة غير مطلقة ثم تبطل بما لو نذر صياماً فإنه لا يحمل على صوم رمضان وكذلك الصلاة وما ذكره جابر بن زيد فهو تحكم بغير دليل * (مسألة) * (وإن نذر الصدقة بألف لزمه جميعه) وعنه يجزئه ثلثه إذا نذر الصدقة بمعين من ماله أو بمقدر كألف فروي عن أحمد أنه يجزئه ثلثه لأنه مال نذر الصدقة به فأجزأه ثلثه كجميع المال والصحيح في المذهب لزوم الصدقة بجميعه لانه

(11/341)


منذور هو قربة فلزمه الوفاء به كسائر المنذورات ولعموم قوله سبحانه (يوفون بالنذر) وإنما خولف هذا في جميع المال للأثر فيه ولما في الصدقة بالمال كله من الضرر اللاحق به اللهم إلا أن يكون المنذور ههنا يستغرق جميع المال فيكون كنذر ذلك ويحتمل أنه إن كان المنذور ثلث المال فما دون لزمه وفاء نذره وإن زاد على الثلث لزمه الصدقة بقدر الثلث منه لأنه حكم يعتبر فيه الثلث فأشبه الوصية به (فصل) إذا نذر الصدقة بقدر من المال فأبرأ غريمه من قدره يقصد به وفاء النذر لم يجزئه وإن كان الغريم من أهل الصدقة قال أحمد لا يجزئه حتى يقبضه وذلك لأن الصدقة تقتضي التمليك وهذا إسقاط فلم يجزئه كما في الزكاة قال أحمد فيمن نذر أن يتصدق بمال وفي نفسه أنه ألف أجزأه أن يخرج ما قلنا وذلك لأن اسم المال يقع على القليل وما نواه زيادة على ما تناوله الاسم والنذر لا يلزم بالنية والقياس أنه يلزمه ما نواه لأنه نوى بكلامه ما يحتمله فتعلق الحكم به كاليمين وقد نص أحمد فيمن نذر صوماً أو صلاة وفي نفسه أكثر مما تناوله لفظه أنه يلزمه ذلك وهذا كذلك
* (فصل) * قال رحمه الله (الخامس نذر التبرر كنذر الصلاة والصيام والصدقة والاعتكاف والحج والعمرة ونحوها من القرب سواء نذره مطلقا أو علقه بشرط يرجوه فقال إن شفى الله مريضي أو سلم الامالي فلله علي كذا فمتى وجد شرطه انعقد نذره ويلزمه الوفاء به) نذر التبرر يتنوع ثلاثة أنواع (أحدها) هذا الذي ذكرناه إذا كان في مقابلة نعمة استجلبها أو نقمة

(11/342)


استدفعها كقوله إن شفى الله مريضي فعلي صوم شهر وتكون الطاعة الملتزمة مما له أصل في الشرع كالصوم والصلاة والصدقة والحج فهذا يلزم الوفاء به بإجماع أهل العلم (والنوع الثاني) التزام طاعة من غير شرط كقوله ابتداء لله علي صوم شهر فيلزم الوفاء به في قول أكثر أهل العلم وهو قول أهل العراق وظاهر مذهب الشافعي وقال بعض أصحابه لا يلزم الوفاء به لأن أبا عمر غلام ثعلبة قال النذر عند العرب وعد بشرط ولأن ما التزمه الآدمي بعوض يلزمه كالبائع والمستأجر وما التزمه بغير عوض لا يلزمه بمجرد العقد كالهبة (النوع الثالث) نذر طاعة لا أصل لها في الوجوب كالاعتكاف وعيادة المريض فيلزم الوفاء به عند عامة أهل العلم وحكي عن أبي حنيفة أنه لا يلزمه الوفاء به لأن النذر فرع على المشروع فلا يجب به ما لا يجب له مالا نظير له بأصل الشرع ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " من نذر أن يطيع الله فليطعه " رواه البخاري وذمه الذين ينذرون.
ولا يوفون وقول الله تعالى (ومنهم من عاهد الله لان آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين) الآيات إلى قوله (بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون) وقال عمر إني نذرت إن أعتكف ليلة في المسجد الحرام فقال له النبي صلى الله عليه وسلم " أوف بنذرك " ولانه الزم نفسه قربة على وجه التبرر فلزمه كموضع الإجماع وكالعمرة فإنهم سلموها وهي غير واجبة عندهم كالاعتكاف وما ذكروه يبطل بهذين الأصلين وما حكوه عن أبي عمر لا يصح فإن العرب تسمي الملتزم نذراً وإن لم يكن بشرط قال جميل

(11/343)


فليت رجالا فيك قد نذروا دمي * وهموا بقتلي يابثين لقوني
والجعالة وعد بشرط وليست بنذر * (مسألة) * (وإن نذر صوم سنة لم يدخل في نذره رمضان ويوما العيد وفي أيام التشريق روايتان وعنه ما يدل على أنه يقضي يومي العيدين وأيام التشريق) إذا نذر صوم سنة معينة لم يدخل في نذره رمضان، ويوما العيدين لا يصح صومهما فلم يدخلا في نذره كالليل وفي أيام التشريق روايتان (إحداهما) لا يدخل في نذره لأنه منهي عن صومها أشبهت يومي العيدين (والثانية) تدخل في نذره ويصومها كالمتمتع إذا لم يجد الهدي وفيه رواية أخرى أن يومي العيدين وأيام التشريق يدخل في نذره فعلى هذا لا يصومها ويقضي بدلها وعليه كفارة يمين لقوله عليه السلام " لا نذر في معصية " وكفارته كفارة يمين رواه أبو داود وإن قلنا يجوز صيام أيام التشريق عن نذره فصامها فلا كفارة عليه لأنه أتى بالمنذور أشبه ما لو نذر غيرها مما يصح صومه * (مسألة) * (وإن نذر صوم يوم الخميس فوافق يوم عيد أو حيض افطر وقضى وكفر) لأن مثل هذا النذر ينعقد لأنه نذر نذراً يمكن الوفاء به غالباً فكان منعقداً كما لو وافق غير

(11/344)


يوم العيد أو غير يوم الحيض والنفاس ولا يجوز أن يصوم يوم العيد أن وافقه لأن الشرع حرم صومه فأشبه زمن الحيض ويلزمه القضاء لأنه نذر منعقد قد فاته الصيام بالعذر فلزمته الكفارة كما لو فاته لمرض وعنه يكفر من غير قضاء لأنه وافق يوم صومه معصية فأوجب الكفارة من غير قضاء كما لو نذرت المرأة صوم يوم حيضها * (مسألة) * (ونقل عنه ما يدل على أنه أن صام يوم العيد صح صومه) لأنه وفى بما نذر، فأما إن وافق نذره يوم حيض أو نفاس لم يصمه بغير خلاف نعلمه بين أهل العلم ويتخرج في القضاء والكفارة مثل ما في يوم العيد قياساً عليه * (مسألة) * (وإن وافق أيام التشريق فهل يصومها؟ على روايتين) (إحداهما) يصومها لقول عائشة لم يرخص في هذه الأيام أن يصمن إلا للمتمتع إذا لم يجد الهدي
فسنا عليه سائر الواجبات (والثانية) لا يصومها للنهي عن ذلك * (مسألة) * (وإن نذر صوم يوم يقدم فلان فقدم ليلا فلا شئ عليه وإن قدم نهاراً فعنه ما يدل على أنه لا ينعقد نذره ولا يلزمه إلا صيام ذلك اليوم إن لم يكن افطر وعنهه أنه يقضي ويكفر سواء قدم وهو مفطر أو صائم وإن وافق قدومه يوما من رمضان فقال الخرقي يجزئه صياما لرمضان ونذره وقال غيره عليه القضاء وفي الكفارة روايتان)

(11/345)


وجملة ذلك أنه إذا نذر أن يصوم يوم يقدم فلان صح نذره وهو قول أبي حنيفة وأحد قولي الشافعي وقال في الآخر لا يصح نذره لأنه لا يمكن صومه بعد وجود شرطه فلم يصم كما لو قال لله علي أن أصوم اليوم الذي قبل اليوم الذي يقدم فيه زيد ولنا أنه زمن يصح فيه صوم التطوع فانعقد نذره لصومه كما لو أصبح صائماً تطوعا وقال لله علي أن أصوم يومي وقولهم لا يصح صومه لا يصح لأنه قد يعلم اليوم الذي يقدم فيه قبل قدومه فينوي صومه من الليل ولأنه قد يجب عليه مالا يمكنه كالصبي يبلغ في اثناء يوم من رمضان والحائض تطهر فيه ولا نسلم ما قاسوا عليه: إذا ثبت ذلك لم يخل من أقسام خمسة (أحدهما) أن يقدم ليلا فلا شئ عليه في قول الجميع لأنه لم يقدم في اليوم ولا في وقت يصح فيه الصيام (الثاني) أن يعلم قدومه من الليل فينوي صومه ويكون يوما يجوز فيه صوم النذر فيصح صومه ويجزئه وفاء بنذره (الثالث) أن يقدم يوم فطر أو أضحى فاختلفت الرواية عن أحمد في هذه المسألة فعنه لا يصح ويقضي ويكفر نقله عن أحمد جماعة وهو قول أكثر أصحابنا ومذهب الحكم وحماد (والرواية الثانية) يقضي ولا كفارة عليه وهو قول الحسن والاوزاعي وأبي عبيد وقتادة وأبي ثور وأحد قولي الشافعي لأنه فاته الصوم الواجب بالنذر فلزمه قضاؤه كما لو تركه نسياناً ولم تلزمه كفارة لأن الشرع منعه

(11/346)


من صومه فهو كالمكره وعن أحمد رواية ثالثة ان صامه صح صومه وهو مذهب أبي حنيفة لأنه
قد وفى بما نذر فأشبه ما لو نذر معصية ففعلها ويتخرج أن يكفر من غير قضاء لأنه وافق يوماً صومه حرام فكان موجبة الكفارة كما لو نذرت المرأة صوم يوم حيضها ويتخرج أن لا يلزمه شئ من كفارة ولا قضاء بناء على من نذر المعصية.
ووجه قول الخرقي أن النذر ينعقد لأنه نذر نذراً يمكن الوفاء به غالباً فكان منعقداً كما لو وافق غير يوم العيد ولا يجوز أن يصوم يوم العيد لان الشارع حرم صومه فأصبه زمن الحيض ولزمه القضاء لأنه نذر منعقد قد فاته الصيام بالعذر فلزمته الكفارة لفواته كما لو فاته بمرض، وإن وافق يوم حيض أو نفاس فهو اكما لو وافق يوم فطر أو أضحى إلا أنها لا تصومه بغير خلاف بين أهل العلم (الرابع) أن يقدم في يوم يصح صومه والناذر مفطر ففيه روايتان (إحداهما) يلزمه القضاء والكفارة لأنه نذر صوما نذراً صحيحاً ولم يف به فلزمه القضاء والكفارة كسائر المنذورات ويتخرج أن لا تلزمه كفارة وهو مذهب الشافعي لأنه ترك المنذر لعذر (والثانية) لا يلزمه شئ من قضاء ولا غيره وهو قول أبي يوسف وأصحاب الرأي وابن المنذر لأنه قدم في زمن لا يصح صومه فيه فلم يلزمه شئ كما لو قدم ليلا

(11/347)


(الخامسة) قدم والناذر صائم فلا يخلو من أن يكون تطوعاً أو فرضاً فإن كان تطوعا فقال القاضي يصوم بقيته ويعقده عن نذره ويجزئه ولا قضاء ولا كفارة وهو قول أبي حنيفة لأنه يمكن صوم يوم بعضه تطوع وبعضه واجب كما لو نذر في صوم التطوع إتمام صوم ذلك اليوم وإنما وجد سبب الوجوب في بعضه وذكر القاضي احتمالا آخر أنه يلزمه القضاء والكفارة لأنه صوم واجب فلم يصح بنية من النهار كقضاء رمضان وذكر أبو الخطاب هذين الاحتمالين روايتين وعند الشافعي عليه القضاء فقط كما لو قدم وهو مفطر ويتخرج لنا مثله، وأما إن كان الصوم واجباً مثل أن يوافق يوما من رمضان فقال الخرقي يجزئه لرمضان ونذره لأنه نذر صومه وقد وفى به وقال غيره عليه القضاء لأنه لم يصمه عن نذره وفي الكفارة روايتان (إحداهما) يجب لتأخر النذر (والثانية) لا يجب لأنه أخر أشبه ما لو أخر صوم رمضان لعذر
* (مسألة) * (وإن وافق يوم نذره وهو مجنون فلا قضاء عليه ولا كفارة) لأنه خرج عن أهلية التكليف قبل وقت النذر أشبه ما لو فاته (فصل) وإن قال لله علي صوم يوم العيد فهذا نذر معصية على ناذر الكفارة لا غير نقلها حنبل عن أحمد وفيه رواية أخرى أن عليه القضاء مع الكفارة كما لو نذر يوم الخميس فوافق يوم العيد والاولى هي الصحيحة قاله القاضي لأن هذا نذر معصية فلم يوجب قضاء كسائر المعاصي وفارق ما

(11/348)


إذا نذر صوم يوم الخميس فوافق يوم العيد لأنه لم يقصد بنذره المعصية وإنما وقع اتفاقا وههنا وتعمدها بالنذر فلم ينعقد نذره ويدخل في قوله عليه الصلاة والسلام " لا نذر في معصية " ويتخرج ألا يلزمه شئ بناء على نذر المعصية فيما تقدم * (مسألة) * (وإن نذر صوم شهر معين فلم يصمه لغير عذر فعليه القضاء وكفارة يمين) لأنه صوم واجب معين أخره فلزمه قضاؤه كرمضان وتلزمه كفارة يمين لتأخير النذر عن وقته لأنه يمين وان لم يصمه لعذر فعليه القضاء لأنه واجب أشبه رمضان وفي الكفارة روايتان (إحداهما) تلزمه لتأخير النذر والأخرى لا تلزمه لأنه أخره لعذر أشبه تأخير رمضان ل؟ ذر * (مسألة) * (وإن صام قبله لم يجزئه) وكذلك إن نذر الحج في عام فحج قبله وقال أبو يوسف يجزئه كما لو حلف ليقضينه حقه في وقت فقضاه قبله ولنا ان المنذر محمول على المشروع ولو صام قبل رمضان لم يجزئه فكذلك إذا صام المنذور قبله ولأنه لم يأت بالمنذور في وقته فلم يجزئه كما لو لم يفعله أصلا * (مسألة) * (وإن أفطر في أثنائه لغير عذر لزمه استئنافه ويكفر ويحتمل أن يتم باقيه ويقضي ويكفر) إذا نذر صوم شهر معين فافطر في اثنائه لم يخل من حالين أحدهما الفطر لغير عذر ففيه روايتان (إحداهما) ينقطع صومه ويلزمه استئنافه لانه صوم يجب متتابعاً بالنذر فأبطله الفطر لغير عذر وفارق

(11/349)


رمضان فانه تتابعه بالشرع لا بالنذر وههنا أوجبه عل نفسه ثم فوته فأشبه ما لو شرطه متتابعاً
(الثانية) لا يلزمه الاستئناف إلا أن يكون قد شرط التتابع وهذا قول الشافعي لأن وجوب التتابع ضرورة التعيين لا بالشرط فلم يبطله الفطر في اثنائه كشهر رمضان ولان الاستئناف يجعل الصوم في غير الوقت الذي عينه والوفاء بنذره في غير وقته وتفويت البعض لا يوجب تفويت الجميع فعلى هذا يكفر عن فطره ويقضي أيام فطره بعد إتمام صومه وهذا أ؟ يس إن شاء الله تعالى وأصح وعلى الرواية الأولى يلزمه الاستئناف عقيب الأيام التي أفطر فيها ولا يجوز تأخيره لأن باقي الشهر منذور فلا يجوز ترك الصوم فيه وتلزمه كفارة أيضاً لا خلاله بصوم الأيام التي أفطرها (الحال الثاني) أفطر لعذر فإنه يبني على ما مضى من صيامه ويكفر هذا قياس المذهب وفيه رواية أخرى أنه لا كفارة عليه وهو مذهب مالك والشافعي وأبي ثور وابن المنذر لأن النذر محمول على المشروع ولو أفطر رمضان لعذر لم يلزمه شئ ولنا أنه فات ما نذره فلزمته كفارة لقول النبي صلى الله عليه وسلم لأخت عقبة بن عامر " ولتكفر بمينها " وفارق رمضان فإنه لو أفطر لغير عذر لم تجب عليه كفارة إلا في الجماع بخلاف هذا (فصل) وإن جن جميع الشهر المعين لم يلزمه قضاء ولا كفارة وقال أبو يوسف يلزمه القضاء لأنه

(11/350)


من أهل التكليف في وقت الوجوب فلم يلزمه القضاء كما لو كان في شهر رمضان وإن حاضت المرأة جميع الزمن المعين فعليها القضاء وفي الكفارة وجهان وقال الشافعي لا كفارة عليها وفي القضاء وجهان (أحدهما) لا يلزمها لأن زمن الصوم لا يمكن الصوم فيه فلا يدخل في النذر كزمن رمضان ولنا أن المنذور يحمل على المشروع ابتداء ولو حاضت في شهر رمضان لزمها القضاء فكذلك المنذور (فصل) وإن قال علي الحج في عامي هذا فلم يحج لعذر أو غيره فعليه القضاء والكفارة ويحتمل أن لا كفارة عليه إذا كان معذوراً وقال الشافعي إن تعذر عليه الحج لأحد الشرائط السبعة أو منعه منع سلطان أو عدو فلا قضاء عليه وإن حدث به مرض أو أخطأ أو توانى قضاه ولنا أنه فاته الحج المنذور فلزمه قضاؤه كما لو مرض ولأن المنذور محمول على المشروع ابتداء ولو فاته المشروع لزمه قضاؤه فكذلك المنذور
* (مسألة) * (وإن نذر صوم شهر لزمه التتابع) إذا نذر صوم شهر فهو مخير بين أن يصوم شهراً بالهلال فيجزئه وبين أن يصومه بالعدد ثلاثين يوما ويلزمه التتابع في أحد الوجهين وهو قول أبي ثور لأن إطلاق الشهر يقتضي التتابع (والثاني) لا يلزمه التتابع

(11/351)


وهو قول الشافعي ومحمد بن الحسن لأن الشهر يقع على ما بين الهلالين وعلى ثلاثين يوما ولا خلاف في أنه يجزئه ثلاثون يوما فلم يلزمه التتابع كما لو نذر ثلاثين يوما * (مسألة) * (وإن نذر أياما معدودة لم يلزمه التتابع الا أن يستر له) نص عليه أحمد وروي عنه فيمن قال لله علي صيام عشرة أيام يصومها متتابعاً وهذا يدل على وجوب التتابع في الأيام المنذورة وهو اختيار القاضي وحمل بعض أصحابنا كلام أحمد على من شرط التتابع أو نواه لأن لفظ العشرة لا يقتضي تتابعاً والنذر لا يقتضيه ما لم يكن في لفظه أو نيته وقال بعضهم كلام أحمد على ظاهره ويلزمه التتابع في نذر العشرة دون الثلاثين لأن الثلاثين شهر فلو أراد التتابع لقال شهراً فعدوله إلى العدد دليل على إرادة التفريق بخلاف العشرة والصحيح أنه لا يلزمه التتابع فإن عدم ما يدل على التفريق ليس بدليل على التتابع فإن الله تعالى قال في رمضان (فعدة من أيام أخر) ولم يذكر تفريقها ولا تتابعها ولم يجب التتابع فيها بالاتفاق وقال بعض أصحابنا أن نذر اعتكاف أيام لزمه التتابع ولا يلزم مثل ذلك في الصيام لأن الاعتكاف يتصل بعضه ببعض من غير فصل الصوم يتخلله الليل فيفل بعضه من بعض ولذلك لو نذر اعتكاف يومين متتابعين لدخل فيه الليل والصحيح التسوية لأن الواجب ما اقتضاه لفظه ولا يقتضي التتابع بدليل نذر الصوم وما ذكروه ومن قال يلزمه التتابع لزمته الليالي التي بين أيام الاعتكاف كما لو قال متتابعه

(11/352)


* (مسألة) * (وإن نذر صياما متتابعا فافطر لمرض أو حيض قضى لا غير وإن أفطر لغير عذر لزمه الاستيفاء وإن أفطر لسفر أو ما يبيح الفطر فعلى وجهين) وجملته أن من نذر صياما متتابعا غير معين لم يخل من حالين (أحدهما) أن يفطر لعذر من حيض
أو مرض أو نحوه فهو مخير بين أن يبتدئ الصوم ولا شئ عليه لأنه أتى بالمنذور على وجهه وبين أن يبني على صيامه ويكفر لأن الكفارة تلزم لتركه المنذور وإن كان عاجزاً بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أخت عقبة بن عامر بالكفارة لعجزها عن المشي ولأن النذر كاليمين، ولو حلف ليصومن صياماً متتابعاً ثم لم يأت به متتابعاً لزمته الكفارة، وإنما جوزنا له البناء ههنا لأن الفطر لعذر لا يقطع التتابع حكما كما لو أفطر في صيام الشهرين المتتابعين لعذر كان له البناء والذي ذكره شيخنا في الكتاب المشروح أنه لا كفارة عليه إذا أفطر لعذر فإنه قال: قضاه لا غير وهي إحدى الروايتين عن أحمد، كما لو ترك التتابع في الشهرين المتتابعين لعذر فإنه لا كفارة عليه كذا ههنا (الحال الثاني) أن يفطر لغير عذر فهذا يلزمه استئناف الصيام ولا كفارة عليه لأنه ترك التتابع المنذور لغير عذر مع إمكان الاتيان به فلزمه فعله كما لو نذر صوما معيناً فصام قبله فإن أفطر لعذر يبيح الفطر

(11/353)


كالسفر لم يقطع التتابع في أحد الوجهين لأنه عذر في فطر رمضان فأشبه المرض (والثاني) يفطر لأنه أفطر بإختياره أشبه ما لو أفطر لغير عذر (فصل) إذا نذر صوم شهر متتابع فصام من أول الهلال أجزأه تاما كان الشهر أو ناقصاً لأن ما بين الهلالين شهر ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم " الشهر تسع وعشرون " وإن بدأ من اثناء شهر لزمه شهر بالعدد ثلاثون يوما لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم " صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم علكيم فأكملوا ثلاثين " لأنه بدأ من أثنائه، إن كان ناقصاً قضى يومين وإن كان تاما أتم يوما واحداً وإن صام ذا الحجة أفطر يوم الأضحى وأيام التشريق ولم ينقطع تتابعه كما لو أفطرت المرأة لحيض، وعليه كفارة ويقضي أربعة أيام إن كان تاما وخمسة إن كان ناقصاً والأولى أن لا يلزمه إلا أربعة إذا كان ناقصاً لأنه بدأ من أوله فيقضي المتروك منه حسب، وإن صام من أول شهر فمرض فيه أياما معلومة أو حاضت المرأة فيه ثم طهرت قبل خروجه قضى ما أفطر منه بعدته إن كان الشهر تاما وإن كان ناقصاً فهل يلزمه الاتيان بيوم آخر؟ على وجهين بناء على ما ذكرنا فيما إذا أفطر يوم العيد وأيام التشريق.
(فصل) إذا نذر صيام شهر من يوم يقدم فلان فقدم في أول شهر رمضان فظاهر كلام الخرقي
إن هذا نذر منعقد يجزئ صيامه عن النذر ورمضان وهو قول أبي يوسف وقياس قول ابن عباس وعكرمة لأنه نذر صوما في وقت وقد صام فيه، وقال القاضي في شرحه ظاهر كلام الخرقي أنه غير

(11/354)


منعقد لأن نذره وافق زمنا يستحق صومه فلم ينعقد نذره كنذر صوم رمضان قال والصحيح عندي صحة النذر لأنه نذر طاعة يمكن الوفاء به غالباً فانعقد كما لو وافق شعبان فعلى هذا يصوم رمضان ثم يقضي ويكفر وهذا اختيار أبي بكر ونقل جعفر بن محمد عن أحمد أن عليه القضاء وقول الخرقي: أجزأه صيامه لرمضان ونذره دليل على أن نذره انعقد عنده لولا ذلك ما كان صومه عن نذره وقد نقل أبو طالب عن أحمد في من نذر أن يحج وعليه حجة مفروضة فاحرم عن النذر: وقعت عن المفروض ولا يجب عليه شئ آخر وهذا مثل قول الخرقي وروى عكرمة عن ابن عباس في رجل نذر أن يحج ولم يكن حج الفريضة قال يجزئ لهما جميعا، وعن عكرمة أنه سئل عن ذلك فقال عكرمة يقتضي حجة عن نذره وعن حجة الإسلام أرأيتم لو أن رجلا نذر أن يصلي أربع ركعات فصلى العصر أليس ذلك يجزئه من العصر والنذر؟ قال فذكرت قولي لابن عباس فقال أصبت وأحسنت وقال ابن عمر وأنس يبدأ بحجة الإسلام ثم يحج لنذره وفائدة انعقاد ونذره لزوم الكفارة بتركه وأنه لو لم ينوه لنذره لزمه قضاؤه وعلى هذا لو وافق نذره بعض رمضان وبعض شهر آخر إما شعبان وإما شوال لزمه صوم ما خرج عن رمضان ويتمه، ولو قال لله علي صوم رمضان فعلى قياس قول الخرقي يصح نذره ويجزئه صيامه عن الأمرين ولزمته الكفارة إن أخل به وعلى قول القاضي لا ينعقد نذره وهو مذهب الشافعي لأنه لا يصح صومه عن النذر أشبه الليل.

(11/355)


ولنا أن النذر يمين فينعقد في الواجب موجباً للكفارة كاليمين بالله تعالى وقد نقل عن أحمد فيمن نذر أن يحج العام وعليه حجة الإسلام روايتان.
(إحداهما) تجزئه حجة الإسلام عنها وعن نذره نقلها أبو طالب (والثانية) ينعقد نذره موجباً لحجة غير الإسلام ويبدأ بحجة الإسلام ثم يقضي نذره نقلها ابن منصور لأنهما عبادتان تجبان بسببين
مختلفين فلم تسقط إحداهما بالأخرى كما لو نذر حجتين.
ووجه الأولى أنه نذر عبادة في وقت معين وقد أتى بها فيه فأشبه ما لو قال لله علي أن أصوم رمضان.
(فصل) فأما إن قال لله علي أن أصوم شهراً فنوى صيام شهر رمضان لنذره ورمضان لم يجزئه لأن شهر رمضان واجب يفرض الله تعالى ونذره يقتضي إيجاب شهر فيجب شهران بسببين فلا يجزئ أحدهما عن الآخر كما لو نذر صوم شهرين وكما لو نذر أن يصلي ركعتين لم تجزئه صلاة الفجر عن نذره وعن الفجر * (مسألة) * (وإن نذر صياما فعجز عنه لكبر أو مرض لا يرجى برؤه أطعم عنه لكل يوم مسكينا ويحتمل أن يكفر ولا شئ عليه) من نذر طاعة لا يطيقها أو كان قادار عليها فعجز عنها فعليه كفارة يمين لما روى عقبة بن عامر قال نذرت أختي أن تمشي إلى بيت الله حافية فأمرتني أن استفتي لها رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستفتيته

(11/356)


فقال " لتمش ولتركب " متفق عليه ولأبي داود " ولتكفر يمينها " وللترمذي " ولتصم ثلاثة أيام " وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " لا نذر في معصية الله وكفارته كفارة يمين " قال " ومن نذر نذراً لا يطيقه فكفارته كفارة يمين " رواه أبو داود وقال وقفه من رواه عن ابن عباس وقال ابن عباس من نذر نذراً يطيقه فليف بما نذر فإذا كفر وكان المنذور غير الصيام لم يلزمه شئ آخر وإن كان صياماً فعن أحمد روايتان (إحداهما) يلزمه لكل يوم إطعام مسكين قال القاضي وهذا أصح لأنه صوم وجد سبب إيجابه عبثاً فإذا عجز عنه لزمه أن يطعم عن كل يوم مسكيناً كصوم رمضان ولأن المطلق من كلام الآدمي يحمل على المطلق من كلام الله تعالى، ولو عجز عن الصوم المشروع اطعم عن كل يوم مسكيناً كذلك إذا عجز عن الصوم المنذور (والثانية) لا يلزمه شئ آخر من إطعام ولا غيره لقوله من نذر نذراً لا يطيقه فكفارته كفارة يمين وهذا يقتضي أن تكون كفارة اليمين جميع كفارته ولأنه نذر عجز عن الوفاء به فكان الواجب
فيه كفارة يمين كسائر النذر ولأن موجب النذر موجب اليمين الا مع إمكان الوفاء به إذا كان قربة ولا يصح قياسه على صوم رمضان لوجهين (أحدهما) أن رمضان يطعم عنه عند العجز بالموت فكذلك في الحياة (الثاني) أن قياس المنذور على المنذور أولى من قياسه على المفروض بأصل الشرع لأن هذا قد وجبت فيه كفارة فأجزأت عنه بخلاف المشروع

(11/357)


(فصل) وإن عجز عن الصوم لعارض يرجى زواله من مرض أو نحوه انتظر زواله ولا تلزمه كفارة ولا غيرها لأنه لم يفت الوقت فيشبه المريض في شهر رمضان فإن استمر عجزه إلى أن صار غير مرجو الزوال صار إلى الكفارة والفدية على ما ذكرنا من الخلاف فيه، فإن كان العجز المرجو الزوال عن صوم معين فات وقته انتظر الامكان ليقضيه وهل تلزمه لفوات الوقت كفارة، على روايتين ذكرهما أبو الخطاب (إحداهما) تجب الكفارة لاته اخل بما نذره على وجهه فلزمته الكفارة كما لو نذر المشي إلى بيت الله الحرام فعجز ولأن النذر كاليمين ولو حلف ليصومن هذا الشهر لزمته الكفارة كذا ههنا (والثانية) لا يلزمه لأنه أتى بصيام اجزأ عن نذره من غير تفريطه فلم تلزمه كفارة كما لو صام عينه (فصل) فإن نذر غير الصيام فعجز عنه كالصلاة ونحوها فليس عليه الا الكفارة لأن الشرع لم يجعل لذلك حداً يصار إليه فوجبت الكفارة لمخالفته نذره فقط وإن عجز عنه لعارض فحكمه حكم الصيام سواء فيما فصلناه (فصل) وأن نذر صياماً ولم يسم عدداً ولم ينوه اجزأه صوم يوم لا خلاف فيه لأنه ليس في الشرع صوم مفرد أقل من يوم فلزمه لأنه اليقين فإن نذر صلاة مطلقة ففيها روايتان (إحداهما) تجزئه ركعة نقلها اسماعيل بن سعيد لأن أقل الصلاة ركعة فإن الوتر صلاة مشرعة وهي ركعة واحدة وروي عن عمر رضي الله عنه أنه تطوع بركعة واحدة

(11/358)


(والثانية) لا يجزئه إلا ركعتان ذكرها الخرقي وبه قال أبو حنيفة لأن أقل صلاة وجبت بالشرع ركعتان
فوجب حمل النذر عليه، وأما الوتر فهو نفل والنذر فرض فحمله على المفروض أولى ولأن الركعة لا تجزئ في الفرض ولا تجزئ في النفل كالسجدة وللشافعي قولان كالروايتين فأما أن عين بنذره عدداً لزمه قل أو كثر لأن النذر يثبت بقوله فكذلك عدده فإن نوى عدداً فهو كما لو سماه لأنه نوى بلفظه ما يحتمله فلزمه حكمه كاليمين (فصل) وإن نذر صوم الدهر لزمه ولم يدخل في نذره رمضان ولا أيام العيد والتشريق فإذا أفطر لعذر أو غيره لم يقضه لأن الزمن مستغرق بالصوم المنذور لكن تلزمه كفارة لتركه وأن لزمه قضاء لرمضان أو كفارة قدمه على النذر لأنه واجب بأصل الشرع فيقدم على ما اوجبه على نفسه لتقديم حجة الاسلام على المنذورة وإذا لزمته كفارة لتركه صوم يوم أو أكثر وكانت كفارته الصيام احتمل أن يجب لأنه لا يمكن التكفير الا بترك الصوم المنذور وتكره يوجب كفارة فيفضي إلى التسلسل وترك المنذور بالكلية ويحتمل أن تجب الكفارة ولا يجب بفعلها كفارة لأن ترك النذر لعذر لا يوجب كفارة فلا يفضي إلى التسلسل والله أعلم * (مسألة) * (وإن نذر المشي إلى بيت الله الحرام أو موضع من الحرم لم يجزئه إلا المشي في حج أو عمرة فإن ترك المشي لعجز أو غيره فعليه كفارة يمين وعنه عليه دم) وجملة ذلك أن من نذر المشي إلى بيت الله عزوجل لزمه الوفاء بنذره وبهذا قال مالك

(11/359)


والاوزاعي والشافعي وأبو عبيد وابن المنذر ولا نعلم فيه خلافا لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال " من نذر أن يطيع الله فليطعه - وقال - لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام ومسجدي هذا والمسجد الأقصى " ولا يجزئه المشي إلا في حج أو عمرة وبه يقول الشافعي ولا نعلم فيه خلافاً وذلك لأن المشي إليه في الشرع هو المشي في حج أو عمرة فإذا أطلق الناذر حمل على المعهود الشرعي ويلزمه المشي لنذره أياه فإن عجز عن المشي ركب وعليه كفارة يمين وعن أحمد رواية أخرى أنه يلزمه دم وهو قول الشافعي وبه قال عطاء لما روى ابن عباس أن أخت عقبة بن عامر نذرت المشي إلى بيت الله الحرام فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم إن تركب وتهدي هدياً رواه أبو داود وفيه ضعف لأنه أخل بواجب في الإحرام فلزمه هدي كتارك الاحرام من المقيات وعن ابن عمر وابن الزبير قالا يحج من قابل
ويركب ما مشى ويمشي ما ركب ونحوه قال ابن عباس وزاد ويهدي وعن الحسن مثل الأقوال الثلاثة وعن النخعي روايتان (إحداهما) كقول ابن عمر (والثانية) كقول ابن عباس وهذا قول مالك وقال أبو حنيفة يلزمه هدي سواء عجز عن المشي أو قدر عليه وأقل الهدي شاة وقال الشافعي لا تلزمه مع العجز كفارة بحال إلا أن يكون النذر إلى بيت الله فهل يلزمه هدي؟ فيه قولان وأما غيره فلا يلزم مع العجز شئ ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم لأخت عقبة بن عامر لما نذرت المشي إلى بيت الله " لتمش ولتركب

(11/360)


ولتكفر يمينها " وقول النبي صلى الله عليه وسلم " كفارة النذر كفارة اليمين " ولأن المشي مما لا يوجبه الاحرام فلم يجب الدم يتركه كما لو نذرت صلاة ركعتين فتركتهما وحديث الهدي ضعيف وهذا حجة على الشافعي حيث أوجب الكفارة عليها من غير ذكر العجز فإن قيل أن النبي صلى الله عليه وسلم أوجب عليه الكفارة من غير ذكر العجز قلنا يتعين حمله على حالة العجز لأن المشي قربة لكونه مشيا إلى عبادة والمشي إلى العبادة أفضل ولهذا روي أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يركب في عيد ولا جنازة فلو كانت قادرة على المشي لأمرها به ولم يأمرها بالتكفير ولأن المشي المقدور عليه لا يخلو من أن يكون واجباً أو مباحاً فإن كان واجباً لزم الوفاء به وإن كان مباحاً لم تجب الكفارة بتركه عند الشافعي وقد أوجب الكفارة ههنا وترك ذكره في الحديث إما لعلم النبي صلى الله عليه وسلم بحالها وعجزها وإما لأن الظاهر من حال المرأة العجز عن المشي إلى مكة أو يكون قد ذكر في الخبر فترك الراوي ذكره وقول أصحاب أبي حنيفة أنه أخل بواجب في الحج قلما المشي لم يوجبه الإحرام ولا هو من مناسكه فلم يجب بتركه هدي كما لو نذر صلاة ركعتين في الحج فلم يصلهما فأما أن ترك المشي مع إمكانه فقد أساء وعليه كفارة لتركه صفة النذر وقياس المذهب أن يلزمه استئناف الحج ماشياً لتركه صفة المنذور كما لو نذر صوماً متتابعاً فأتى به متفرقاً، فإن عجز عن المشي بعد الحج كفر واجزأه وإن مشى بعض الطريق وركب بعضاً فعلى هذا القياس يحتمل أن يكون كقول

(11/361)


ابن عمر وهو أن يحج فيمشي ما ركب ويركب ما مشى ويحتمل أن لا يجزئه إلا حج يمشي في جميعه
لأن ظاهر النذر يقتضي هذا ووجه القول الأول وهو ألا يلزمه بترك المشي المقدور عليه أكثر من كفارة أن المشي ليس بمقصود في الحج ولا ورد الشرع باعتباره في موضع فلم يلزمه بتركه أكثر من كفارة كما لو نذر النحفي وشبهه وفارق التتابع في الصيام فإنه صفة مقصودة فيه اعتبرها الشرع في صيام كفارتي الظهار والقتل * (مسألة) * (فإن نذر الركوب فمشى فعلى الروايتين) إذا نذر الحج راكباً لزمه الحج كذلك لأن فيه انفاقاً في الحج فإن ترك الركوع فعليه كفارة وقال أصحاب الشافعي يلزمه دم لترفهه بترك الإنفاق وعن أحمد مثل ذلك وقد بينا أن الواجب بترك النذر الكفارة دون الهدي إلا أن هذا إذا مشى ولم يركب مع إمكانه لم يلزمه أكثر من كفارة لأن الركوب في نفسه ليس بطاعة ولا قربة، وكل موضع نذر المشي فيه أو الركوب فإنه يلزمه الإتيان بذلك من ديرة أهله إلا أن ينوي موضعاً بعينه فيلزمه من ذلك الموضع لأن النذر محمول على اصله في الفرض، والحج المفروض يجب كذلك ويحرم للمنذور من حيث يحرم للواجب وقال بعض الشافعية يجب الإحرام من دويرة أهله لأن إتمام الحج كذلك ولنا أن المطلق محمول على المعهود في الشرع، والإحرام الواجب إنما هو من الميقات ويلزمه

(11/362)


المنذور من المشي أو الركوب في الحج والعمرة إلى أن يتحلل لأن ذلك انقضاء الحج والعمرة.
قال أحمد يركب في الحج إذا رمى وفي العمرة إذا سعى لانه لو وطئ بعد ذلك لم يفسد حجة ولا عمرته، وهذا يدل على أنه إنما يلزمه في الحج التحلل الأول (فصل) وإذا نذر المشي إلى البيت الحرام أو بقعة منه كالصفا والمروة وأبي قبيس، أو موضع من الحرم لزمه حج أو عمرة نص عليه أحمد وبه قال الشافعي، وقال أبو حنيفة لا يلزمه إلا أن ينذر المشي إلى الكعبة أو إلى مكة، وقال أبو يوسف ومحمد إن نذر المشي إلى الحرم أو المسجد الحرام كقولنا وفي باقي الصور كقول أبي حنيفة ولنا أنه نذر المشي إلى موضع من الحرم أشبه النذر إلى مكة فأما إن نذر المشي إلى غير الحرم
كعرفة ومواقيت الإحرام وغير ذلك لم يلزمه ذلك ويكون كنذر المباح وكذلك إن نذر اتيان مسجد سوى المساجد الثلاثة لم يلزمه اتيانه، وإن نذر الصلاة فيه لزمه الصلاة دون المشي ففي أي موضع صلى أجزأه لأن الصلاة لا تختص مكانا دون مكان فلزمته الصلاة دون الموضع ولا نعلم في هذا خلافاً إلا عن الليث فإنه قال لو نذر صلاة أو صياما بموضع لزمه فعله في ذلك الموضع ومن نذر المشي إلى مسجد مشى إليه قال الطحاوي ولم يوافقه على ذلك أحد من الفقهاء لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال " لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام ومسجدي هذا والمسجد الأقصى " متفق عليه ولو لزمه المشي إلى مسجد بعيد لشد الرحل إليه وقد ذكرناه في الاعتكاف

(11/363)


(فصل) فإن نذر المشي إلى بيت الله ولم ينو شيئاً ولم يعينه انصرف إلى بيت الله الحرام لأنه المخصوص بالقصد دون غيره، وإطلاق بيت الله ينصرف إليه دون غيره في العرف فينصرف إليه في النذر (فصل) إذا نذر المشي إلى بيت الله والركوب إليه ولم يرد بذلك حقيقة المشي إنما أراد اتيانه لزمه اتيانه في حج أو عمرة وعن أبي حنيفة لا يلزمه شئ لأن مجرد اتيانه ليس بقربة ولا طاعة ولنا أنه علق نذره بوصول البيت فلزمه كما لو قال لله علي المشي إلى الكعبة إذا ثبت هذا فإنه مخير في المشي والركوب، وكذلك إذا نذر أن يحج البيت أو يزوره لأن الحج يحصل بكل واحد من الأمرين فلم يتبين أحدهما وإن قال لله علي إن آتي البيت الحرام غير حاج ولا معتمر لزمه الحج أو العمرة وسقط شرطه وهذا أحد الوجهين لأصحاب الشافعي لأن قوله لله علي إن آتي البيت يقتضي حجا أو عمرة وشرط سقوط ذلك يخالف نذره فسقط حكمه.
(فصل) إذا نذر المشي إلى مسجد النبي صلى الله عليه وسلم أو المسجد الأقصى لزمه ذلك وبهذا قال مالك والاوزاعي وابو عبيد وابن المنذر وهو أحد قولي الشافعي وقال في الآخر لا يتبين لي وجوب المشي اليهما لأن البر بإتيان بيت الله فرض والبر بإتيان هذين نفل ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام ومسجدي هذا

(11/364)


والمسجد الأقصى " ولأنه أحد المساجد الثلاثة فيلزم النذر بالمشي إليه كالمسجد الحرام ولا يلزم ما ذكروه فإن كان قربة تجب بالنذر، وإن لم يكن لها أصل في الوجوب كعيادة المرضى وشهود الجنائز ويلزمه بهذا النذر أن يصلي في الموضع الذي أتاه ركعتين لأن القصد بالنذر القربة والطاعة وإنما يحصل ذلك بالصلاة فتضمن ذلك نذره كما يلزم ناذر المشي إلى بيت الله الحرام أحد النسكين ونذر الصلاة في أحد المسجدين كنذر المشي إليه كما أن نذر أحد النسكين في المسجد الحرام كنذر المشي وقال أبو حنيفة لا تتعين عليه الصلاة في موضع بالنذر سواء كان في المسجد الحرام أو غيره لأن مالا أصل له في الشرع لا يجب بالنذر بدليل نذر الصلاة في سائر المساجد ولنا ما روى أن عمر رضي الله عنه قال: يا رسول الله إني نذرت إن أعتكف ليلة في المسجد الحرام قال " أوف بنذرك " متفق عليه، روى عنه عليه الصلاة والسلام " صلاة في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة " وإن كانت فضيلة وقربة لزمت بالنذر كما لو نذر طول القراءة وما ذكروه ويبطل بالعمرة فإنها تلزم بالنذر وهي غير واجبة عندهم (فصل) إذا نظر الصلاة في المسجد الحرام لم تجز الصلاة في غيره لأنه أفضل المساجد واكثرها ثوابا للمصلي فيها وإن نذر الصلاة في المسجد الأقصى اجزأته الصلاة في المسجد الحرام لما روى جابر أن رجلاً قام يوم الفتح فقال يا رسول الله إني نذرت إن فتح الله عليك أن أصلي في بيت المقدس

(11/365)


ركعتين قال " صل ههنا " ثم اعاد عليه قال " صل ههنا " ثم اعاد عليه قال " صل ههنا " ثم اعاد عليه قال " شأنك " رواه الإمام أحمد ولفظه " والذي نفسي بيده لو صليت ههنا لأجزأ عنك كل صلاة في بيت المقدس " وقد سبق هذا في باب الاعتكاف (فصل) وإن أفسد الحج المنذور ماشياً وجب القضاء مشياً لأن القضاء يكون على صفة الأداء وكذلك إن فاته الحج لكن إن فاته الحج سقط توابع الوقوف من المبيت بمزدلفة ومنى والرمي وتحلل للعمرة ويمضي في الحج الفاسد ماشياً حتى يحل منه * (مسألة) * (فإن نذر رقبة فهي التي تجزئ عن الواجب إلا أن ينوي رقبة بعينها)
إذا نذر رقبة فهي التي تجزئ في الكفارة وهي المؤمنة السليمة من العيوب المضرة بالعمل على ما ذكرنا في بابا الظهار لأن النذر المطلق تحمل على المعهود في الشعر والواجب بأصل الشرع كذلك وهو أحد الوجهين لأصحاب الشافعي (والثاني) تجزئه أي رقبة كانت صحيحة أو معيبة مسلمة أو كافرة لأن الاسم يتناول جميع ذلك ولأن المطلق يحمل على معهود الشرع وهو الواجب في الكفارة وما ذكروه يبطل بنذر المشي إلى بيت الله الحرام فإنه لا يحمل على ما تناوله الاسم فأما إن نوى رقبة بعينها أجزأة عتقها أي رقبة كانت لأنه نوى بلفظه ما يحتمله، وأن نوى ما يقع عليه الاسم الرقبة أجزأه ما نواه لما ذكرنا فإن المطلق يتقيد

(11/366)


بالنية كما يتقيد بالقرينة اللفظية، وقال أحمد فيمن نذر رقبة معينة فمات قبل أن يعتقها تلزمه كفارة يمين ولا يلزمه عتق عبد لأن هذا شئ فاته على حديث عقبة بن عامر وإليه ذهب في الفائت وما عجز عنه (فصل) ومن نذر حجاً أو صياما أو صدقة أو عتقاً أو إعتكافاً أو صلاة أو غيرها من الطاعات ومات قبل فعله فعله الولي عنه وعن أحمد في الصلاة لا يصلى عن الميت لأنها لا بدل لها بحال وأما سائر الاعمال فيجوز أن ينوب الولي عنه فيها وليس بواجب عليه لكن يستحب له ذلك على سبيل الصلة له والمعروف وافتى بذلك ابن عباس في امرأة نذرت أن تمشي إلى قباء فماتت ولم تقضه أن تمشي ابنتها عنها، وروى سعيد عن سفيان عن عبد الكريم بن ابي أمية أنه سأل ابن عباس عن نذر كان على أمه من اعتكاف قال صم عنها واعتكف عنها وقال ثنا أبو الاحوص عن إبراهيم بن مهاجر عن عامر ابن شعيب أن عائشة اعتكفت عن أخيها عبد الرحمن بعدما مات وقال مالك لا يمشي أحد عن أحد ولا يصوم عنه ولا يصلي وكذلك سائر أعمال البدن قياساً على الصلاة، وقال الشافعي يقضي عنه الحج ولا يقضي الصلاة قولا واحداً ولا يقضي الصوم في أحد الوجهين ويطعم عنه في كل يوم مسكين لأن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من مات وعليه صيام شهر فليطعم عنه عن كل يوم مسكين " أخرجه ابن ماجة

(11/367)


وقال أهل الظاهر يجب القضاء على وليه بظاهر الاخبار الواردة فيه وجمهور أهل العلم على أن القضا ليس بواجب على الولي إلا أن يكون حقاً في المال ويكون للميت تركة فأمر النبي صلى الله عليه وسلم في هذا محمول على الندب والاستحباب بدليل قرائن في الخبر منها أن النبي صلى الله عليه وسلم شبهه بالدين وقضاء الدين عن الميت لا يجب على الوارث ما لم يخف تركة يقضي منها، ومنها أن السائل سأل النبي صلى الله عليه وسلم هل يفعل ذلك أولا؟ وجوابه يختلف بإختلاف مقتضى سؤاله فإن كان مقتضاه السؤال عن الاباحة فالامر في جوابه يقتضي الاباحة وان كان السؤال عن الاجزاء فأمره يقتضي الاجزاء كقولهم أنصلي في مرابض الغنم؟ قال " صلوا في مرابض الغنم " وان كان السؤال عن الوجوب فأمره يقتضي الوجوب كقولهم انتوضأ من لحوم الابل؟ قال " نعم توضئوا منها " وسؤال السائل في مسئلتنا كان عن الاجزاء فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالفعل يقتضيه لا غير ولنا على جواز الصيام عن الميت ما روت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " من مات

(11/368)


وعليه صيام صام عنه وليه " وعن ابن عباس قال جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إن أمي ماتت وعليها صوم شهر أفأصوم عنها؟ قال " لو كان على أمك دين أكنت قاضيه عنها؟ " قال نعم قال " فدين الله أحق أن يقضى " وفي رواية قال جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله إن أمي ماتت وعليها صوم أفأصوم عنها؟ قال " أرأيت لو كان على أمك دين فقضيته أكان يؤدي ذلك عنها؟ " قالت نعم قال " فصومي عن أمك " متفق عليهن وعن ابن عباس أن سعد بن عبادة استفتى النبي صلى الله عليه وسلم في نذر كان على أمه فتوفيت قبل أن تقضيه فأفتاه إن يقضيه فكانت سنة بعد وعنه أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال إن أمي نذرت أن تحج وإنها ماتت فقال النبي صلى الله عليه وسلم " لو كان عليها دين أكنت قاضيه؟ "

(11/369)


قال نعم قال " فاقض الله فهو أحق بالقضاء " رواه البخاري وهذا صريح في الصوم والحج ومطللق في النذر وما عدا المذكور في الحديث فمقاس عليه وحديث ابن عمر في الواجب بأصل الشرع ويتعين حمله عليه جميعا بين الحديثين ولو قدر التعارض لكانت أحاديثنا أصح وأكثر وأولى بالتقديم.
إذا ثبت
هذا فإن الأولى أن يقضي النذر عنه وارثه وإن قضاه غيره أجزأ عنه كما لو قضى عنه دينه فإن النبي صلى الله عليه وسلم شبهه بالدين وقاسه عليه ولأن ما يقضيه الوارث إنما هو تبرع منه وغيره مثله في التبرع وإن كان النذر في مال تعلق بتركته * (مسألة) * (وإن نذر أن يطوف على أربع طاف طوافين) نص عليه قال ذلك ابن عباس لما روى معاوية ابن خديج الكندي أنه قدم علي رسول الله صلى الله عليه وسلم

(11/370)


ومعه أمه كبشة بنت معدي كرب عمة الأشعث بن قيس فقالت يا رسول الله إني آليت أن أطوف بالبيت حبواً فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم " طوفي على رجليك سبعين سبعا عن يديك وسبعا عن رجليك " أخرجه الدارقطني بإسناده وقال ابن عباس في إمرأة نذرت أن تطوف بالبيت على أربع قال تطوف عن يديها سبعاً وعن رجلها سبعا رواه سعيد والقياس إن يلزمه طواف واحد على رجليه ولا يلزمه على يديه لأنه غير مشروع فسقط كما أن أخت عقبة بن عامر نذرت أن تحج غير مختمرة فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم

(11/371)


أن تحج وتختمر وروى عكرمة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في سفر فحانت منه نظرة فإذا امرأة ناشرة شعرها قال " فمروها فلتختمر " ومر برجلين مقرونين فقال " أطلقا قرانكا وقد ذكرنا حديث أبي اسرائل الذي نذر أن يصوم ويفعل أشياء فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصوم وحده ونهاه عن سائر نذوره وهل تلزمه كفارة؟ يخرج فيه وجهان بناء على ما تقدم وقياس المذهب لزوم الكفارة لا خلاله بصفة نذره وإن كان غير مشروع كما لو كان أصل النذر غير مشروع وأما وجه الأول فإن من نذر الطواف على أربع فقد نذر الطواف على يديه ورجليه فأقيم الطواف الثاني مقام طوافه على يديه

(11/372)