الشرح
الكبير على متن المقنع كتاب القضاء الأصل في القضاء ومشروعيته
الكتاب والسنة والإجماع أما الكتاب فقول الله تعالى (وإن احكم بينهم بما
أنزل الله) وقوله (وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم) وقال تعالى (فلا
وربك لا يؤمنون
حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم خرجا مما قضيت) وأما
السنة فروى عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما عن النبي صلى الله
عليه وسلم أنه قال " إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإذا اجتهد فأخطأ
فله أجر " متفق عليه في آي وأخبار سوى ذلك كثيرة وأجمع المسلمون على
مشروعية نصب القضاء والحكم بين الناس * (مسألة) * (وهو فرض كفاية) لأن أمر
الناس لا يستقيم بدونه فكان واجباً عليهم كالجهاد والأمامة قال أحمد رحمه
الله لابد للناس من حاكم أتذهب حقوق الناس؟ وفيه فضل عظيم لمن قوي على
القيام به وأداء الحق فيه ولذلك جعل الله فيه اجرا على الخطأ واسقط عنه
حكمه ولأن فيه أمرا بالمعروف ونصرة للمظلوم وأداء الحق إلى مستحقه ورد
الظالم عن ظلمه واصلاحاً بين الناس وتخليصا لبعضهم من بعض وذلك من أبواب
القرب ولذلك تولاه النبي صلى الله عليه وسلم والأنبياء قبله فكانوا يحكمون
لأممهم وبعث عليا إلى اليمن قاضيا وبعث معاذاً قاضيا، وعن عقبة بن عامر قال
جاء خصمان يختصمان إلى رسول الله صلى
(11/373)
الله عليه وسلم فقال " اقض بينهما " قلت
أنت أولى بذلك قال " وإن كان " قلت علام أقضي؟ قال " اقض فان صبت فلك عشرة
أجور وإن أخطأت فلك أجر واحد " رواه سعيد في سننه، وولى عمر شريحا قضاء
الكوفة وكعب بن سور قضاء البصرة (فصل) وفيه خطر عظيم ووزر كبير لمن لم يؤد
الحق فيه ولذلك كان السلف يمتنعون منه أشد الامتناع ويخشون على أنفسهم خطره
قال خاقان بن عبد الله أريد أبو قلابة على قضاء البصرة فهرب إلى اليمامة
فأريد على قضائها فهرب إلى الشام فأريد على قضائها وقيل ليس هناك غيرك قال
فأنزلوا الأمر على ما قلتم فإن مثلي مثل سابح وقع في البحر فسبح يومه
فانطلق ثم سبح اليوم الثاني فمضى أيضاً فلما كان اليوم الثالث فترت يداه،
وكان يقال أعلم الناس بالقضاء أشدهم له كراهة ولعظم خطره قال النبي صلى
الله عليه وسلم " من جعل قاضيا فقد ذبح بغير سكين " قال الترمذي هذا حديث
حسن قيل في هذا الحديث إنه لم يخرج مخرج الذم للقضاء وإنما وصفه بالمشقة
فكأن من وليه قد حمل
على مشقة كمشقة الذبح * (مسألة) * (فيجب على الإمام أن ينصب في كل إقليم
قاضيا ويختار لذلك أفضل من يجد وأورعهم) لأن النبي صلى الله عليه وسلم بعث
علياً قاضيا إلى اليمن وبعث معاذا قاضيا أيضا وقال " بم تحكم؟ " قال بكتاب
الله قال " فإن لم تجد؟ " قال بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " فإن
لم تجد؟ " قال اجتهد رأيي قال " الحمد
(11/374)
لله الذي وفق رسول رسول الله صلى الله عليه
وسلم لما يرضي رسول الله صلى الله عليه وسلم " وولى عمر شريحا قضاء الكوفة
وكتب إلى أبي عبيدة ومعاذ يأمرهما بتولية القضاء في الشام ولأن أهل كل بلد
يتحاجون إلى القاضي ولا يمكنهم المصير إلى الإمام ومن أمكنه ذلك شق عليه
فوجب اغناؤهم عنه * (مسألة) * (ويختار لذلك أفضل من يجد وأورعهم ويأمر
بتقوى الله تعالى وإيثار طاعته في سره وتحري العدل والاجتهاد في إقامة
الحق) إذا أراد الإمام تولية قاض فإن كان له خبرة بالناس ويعرف من يصلح
للقضاء ولاه وإن لم يعرف ذلك سأل أهل المعرفة بالناس واسترشدهم عنما يصلح
وإن ذكر له رجل لا يعرف احضره وسأله فإن عرف عدالته وإلا بحث عن عدالته
فإذا عرفها ولاه قال علي رضي الله عنه لا ينبغي للقاضي أن يكون قاضياً حتى
يكون فيه خمس خصال عفيف حليم عالم بما كان قبله يستشير ذوي الرأي، ويكتب له
الإمام عهداً يأمره فيه بتقوى الله والتثبت في القضاء ومشاورة أهل العلم
وتصفح حال الشهود وتأمل الشهادات وتعاهد اليتامى وحفظ أموالهم وأموال
الوقوف وغير ذلك مما يحتاج إلى مراعاته وإن يستخلف في كل صقع أصلح من يقدر
عليه ليكون قيما بما يتولاه * (مسألة *) (وهل يجب على من يصلح له إذا طلب
ولم يوجد غيره الدخول فيه وعنه أنه سئل هلى يأثم القاضي إذا لم يوجد غيره
ممن يوثق به؟ قال لا يأثم وهذا يدل على أنه ليس بواجب) الناس في القضاء على
ثلاثة أضرب (منهم) من لا يجوز له الدخول فيه وهو من لا يحسنه ولم
(11/375)
تجتمع فيه شروطه فقد روي عن النبي صلى الله
عليه وسلم أنه قال " القضاة ثلاثة " ذكر منهم رجالا قضى بين الناس
بجهل فهو في النار ولأن من لا يحسنه لا يقدر على العدل فيه فيأخذ الحق من
مستحقه ويدفعه إلى غيره (ومنهم) من يجوز له ولا يجب عليه وهو من كان من أهل
العدالة والاجتهاد ويوجد غيره مثله فله أن يلي القضاء بحكم حاله وصلاحيته
ولا يجب عليه لأنه لم يتعين له فظاهر كلام أحمد أنه لا يستحب له الدخول فيه
لما فيه من الخطر والغرر وفي تركه من السلامة ولما ورد فيه من التشديد
والذم ولأن طريقة السلف الامتناع منه والتوقي وقد أراد عثمان تولية ابن عمر
القضاء فأباه وقال أبو عبد الله ابن حامد أن كان رجلا خاملا يرجع إليه في
الأحكام فالأولى له توليه ليرجع إليه في الأحكام ويقوم به الحق وينتفع به
المسلمون، وإن كان مشهوراً في الناس بالعلم يرجع إليه في تعليم العلم
والفتوى فالأولى الاشتغال بذلك لما فيه من النفع مع الأمن من الغرر هذا قول
أصحاب الشافعي وقالوا أيضاً إذا كان ذا حاجة وله في القضاء رزق فالأولى له
الاشتغال به فيكون أولى من سائر المكاسب لأنه قربة وطاعة (والثالث) من يجب
عليه وهو من يصلح للقضاء ولا يوجد سواه فهذا يتعين عليه لأنه فرض كفاية لا
يقدر على القيام به غيره فيتعين عليه كغسل الميت وتكفينه وقد نقل عن أحمد
ما يدل على أنه لا يتعين عليه فأنه سئل هل يأثم القاضي إذا لم يوجد غيره؟
قال لا يأثم فهذا يحتمل أن يحمل على ظاهره في أنه لا يجب عليه لما فيه من
الخطر فلا يلزمه الإضرار بنفسه لنفع غيره ولذلك امتنع أبو قلابة منه وقد
قيل له ليس ههنا غيرك ويحتمل أن يحمل على من لم يمكنه القيام بالواجب لظلم
السلطان أو غيره فإن أحمد قال لابد للناس من حاكم أتذهب حقوق الناس؟
(11/376)
* (مسألة) * (وإن وجد غيره كره له طلبه
بغير خلاف في المذهب) .
لأن أنساً روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " من ابتغى القضاء وسأل فيه
الشفعاء وكل إلى نفسه ومن أكره عليه أنزل الله عزوجل ملكا يسدده " قال
الترمذي حديث حسن غريب وقال النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الرحمن بن سمرة
" يا عبد الرحمن لا تسأل الامارة فإنك إن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها وإن
أعطيتها عن غير مسألة أعنت عليها " متفق عليه.
* (مسألة) * (وإن طلب فالأفضل ألا يجيب في ظاهر كلام أحمد) .
وقال ابن حامد الأفضل الإجابة إذا أمن نفسه وقد ذكرنا أن ظاهر كلام أحمد
رحمه الله أن الأفضل والأولى له ألا يجيب إذا طلب ووجد غيره لما فيه من
الخطر والغرر وفي تركه من السلامة ولما ورد فيه من التشديد والذم ولأن
طريقة السلف الامتناع منه والتوفي لذلك وقد أراد عثمان تولية ابن عمر
القضاء فأباه وقد ذكرنا قول ابن حامد مفصلا وهو قول أصحاب الشافعي.
* (مسألة) * (ولا تثبت ولاية القضاء إلا بتولية الإمام أو نائبه لأنها من
المصالح العامة فلم تجز إلا من جهة الإمام كعقد الذمة) .
* (مسألة) * (ومن شرط صحتهما معرفة المولي كون المولى على صفة تصلح للقضاء)
.
لأن مقصود القضاء لا يحصل إلا بذلك فإن كان يعرف صلاحيته للقضاء ولاه وإن
لم يعرف ذلك سأل أهل المعرفة بالناس واسترشدهم فإن عرف ذلك ولاه.
(11/377)
* (مسألة) * (ويعين ما يوليه الحكم فيه من
الأعمال والبلدان ومشافهته بالولاية أو مكاتبته بها وإشهاد شاهدين على
توليته وقال القاضي تثبت بالاستفاضة إذا كان بلده قريباً يستفيض فيه أخبار
بلد الإمام) يشترط تعيين ما يوليه من الأعمال والبلدان ليعلم محمل ولايته
فيحكم فيه ولا يحكم في غيره وقد ولى النبي صلى الله عليه وسلم علياً قضاء
اليمن وولى عمر شريحا قضاء الكوفة وكعب بن سور قضاء البصرة وبعث في كل مصر
قاضياً ووالياً، ويشافهه الإمام بالولاية إن كان حاضراً أو يكاتبه بها إن
كان غائباً لأن التولية تحصل بالمشافهة في الحضرة وبالمكاتبة في الغيبة
كالتوكيل فإن كان البلد الذي لا قضاة فيه غير بلد الإمام كتب له العهد بما
ولاه، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كتب لعمر وبن حزم حين بعثه إلى اليمن
وكتب عمر إلى أهل الكوفة، أما بعد فاني قد بعثت عليكم عماراً أميراً وعبد
الله قاضياً فاسمعوا لهما وأطيعوا، فإن كان البلد الذي ولاه بعيداً لا
يستفيض إليه الخبر بما يكون في بلد الإمام احضر شاهدين عدلين وقرأ عليهما
العهد وأشهدهما على توليته ليمضيا معه إلى بلد ولايته فيقيما له الشهادة
ويقول لهما اشهدا على إني قد وليته قضاء البلد الفلاني وتقدمت إليه بما
يشتمل هذا العهد عليه، وإن كان البلد قريباً من بلد الإمام يستفيض إليه ما
يجري في بلد الإمام نحو أن يكون بينهما خمسة أيام أو ما دونها جاز أن يكتفي
بالاستفاضة دون
الشهادة، لأن الولاية تثبت بها وبهذا قال الشافعي إلا أن عنده في ثبوت
الولاية بالاستفاضة في البلد القريب وجهين، وقال أصحاب أبي حنيفة تثبت
بالاستفاضة ولم يفرقوا بين البلد القريب والبعيد
(11/378)
لأن النبي صلى الله عليه وسلم ولى علياً
قضاء اليمن وهو بعيد من غير شهادة وولى الولاة في البلدان البعيدة وفوض
اليهم الولاية والقضاء ولم يشهد وكذلك خلفاؤه ولم ينقل عنهم الأشهاد على
تولية القضاء مع بعد بلدانهم.
ولنا أن القضاء لا يثبت إلا بأحد أمرين وقد بعدت الاستفاضة في البلد البعيد
لعدم وصولها إليه فيتعين الأشهاد ولا نسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم
يشهد على توليته، فإن الظاهر أنه لم يبعث والياً إلا ومعه جماعة الظاهر أنه
أشهدهم وعدم نقله لا يلزم منه عدم فعله، وقد قام دليله فيتعين وجوبه.
* (مسألة) * (وهل تشترط عدالة المولي على روايتين) .
(إحداهما) تشترط كما تشترط في المتولي (والثانية) لا تشترط لأن ولاية
الإمامة الكبرى تصح من كل بر وفاجر فصحت ولايته كالعدل ولأننا لو اعتبرنا
العدالة في المولي أفضى إلى تعذرها بالكلية فيما إذا كان الإمام غير عدل.
* (مسألة) * (وألفاظ التولية الصريحة سبعة وليتك الحكم وقلدتك أو استنبتك
واستخلفتك ورددت إليك وفوضت إليك الحكم فإذا وجد لفظ منها والقبول من
المولى انعقدت الولاية) لأنها لا تحتمل إلا ذلك فمتى أني بواحدة منها واتصل
بها القبول صحت الولاية كالبيع والنكاح وغير ذلك والكناية أربعة اعتمدت
عليك وعولت عليك ووكلت اليك واسندت إليك الحكم فلا
(11/379)
تنعقد حتى يقترن بها قرينة نحو فاحكم أو
تول ما عولت عليك فيه وما أشبهه نحو وانظر فيما اسندت إليك واحكم فيما وكلت
إليك، ولان هذه الألفاظ تحتمل التولية وغيرها من كونه يأخذ برأيه وغير ذلك
فلم تنصرف إلى التولية إلا بقرينة تنفي الاحتمال.
(فصل) قال الشيخ رضي الله عنه وإذا ثبتت الولاية وكانت عامة اسنفاد بها
النظر عشرة أشياء: فصل الخصومات واستيفاء الحق ممن هو عليه ودفعه إلى ربه
والنظر في أموال اليتامى والمجانين والسفهاء والحجر على من يرى الحجر عليه
لسفه أو فلس والنظر في الوقوف في عمله باجرائها على شرط الواقف وتنفيذ
الوصايا وتزويج النساء اللاتي لا ولي لهن وإقامة الحدود وإقامة الجمعة
والنظر في مصالح عمله بكف الأذى عن طرقات المسلمين وافنيتهم وتصفح حال
شهوده وأمنائه والاستبدال بمن يثبت جرحه منهم وإنما تثبت هذه الولايات له
لأن العادة من القضاة توليها فعند إطلاق تولية القضاء تنصرف إلى ولاية ما
جرت العادة بولايته لها فأما جباية الخراج وأخذ الصدقة فعلى وجهين (أحدهما)
تدخلان فيه قياساً على سائر الخصال المذكورة وفي الآخر لا يدخلان فيه لأن
العادة لم تثبت بتولية القضاء لهما لأن الأصل عدم ذلك فلا يثبت * (مسألة) *
(وله طلب الرزق لنفسه وأمنائه وخلفائه مع الحاجة فأما مع عدمها فعلى وجهين)
يجوز للقاضي أخذ الرزق ورخص فيه شريح وابن سيرين والشافعي وأكثر أهل العلم
وروي
(11/380)
عن عمر رضي الله عنه أنه استعمل زيد بن
ثابت على القضاء وفرض له رزقا ورزق شريحاً في كل شهر مائة درهم وبعث إلى
الكوفة عماراً وابن مسعود وعثمان وكان ابن مسعود قاضيهم ومعلمهم وكتب إلى
معاذ بن جبل وأبي عبيدة حين بعثهما إلى الشام ان انظرا رجالاً من صالحي من
قبلكم فاستعملوهم على القضاء واوسعوا عليهم وارزقوهم واكفوهم من مال الله
وقال أبو الخطاب يجوز له أخذ الرزق مع الحاجة فأما مع عدمها فعلى وجهين،
وقد روي عن أحمد أنه قال ما يعجبني أن يأخذ على القضاء أجراً وإن كان فبقدر
عمله مثل مال اليتيم وكان ابن مسعود والحسن يكرهان الأجر على القضاء وكان
ابن مسعود وعبد الرحمن بن القاسم بن عبد الرحمن لا يأخذان عليه أجراً وقالا
لا نأخذ أجراً على أن نعدل بين اثنين وقال أصحاب الشافعي إن لم يكن متعيناً
جاز له أخذ الرزق وإن تعين لم يجز إلا مع الحاجة والصحيح جواز الأخذ عليه
مطلقاً لأن أبا بكر رضي الله عنه لما ولي الخلافة فرضوا له رزقاً كل يوم
درهمين ولما ذكرنا أن عمر رزق زيدا وشريحا وابن مسعود وأمر بفرض الرزق
لمن ولي من القضاة ولأن بالناس حاجة إليه ولو لم يجز فرض الرزق لتعطل وضاعت
الحقوق فأما الاستئجار عليه فلا يجوز قال عمر رضي الله عنه لا ينبغي لقاضي
المسلمين ان يأخذ على القضاء أجراً وهذا مذهب الشافعي ولا نعلم فيه خلافاً
لأنه قربة يختص فاعله أن يكون من أهل القربة فأشبه الصلاة ولأنه لا يعمله
الإنسان عن غيره وإنما يقع عن نفسه فأشبه الصلاة ولأنه عمل غير معلوم فإن
لم يكن القاضي رزق فقال للخصمين لا أقضي بينكما حتى تجعلا لي عليه جعلاً
جاز ويحتمل ألا يجوز
(11/381)
(فصل) قال رضي الله عنه ويجوز أن يوليه
عموم النظر في عموم العمل ويجوز أن يوليه خاصا في أحدهما أو فيهما ويوليه
النظر في بلد أو محلة خاصة فينفذ قضاؤه في أهله ومن طرأ إليه ويجعل إليه
الحكم في المداينات خاصة أو في قدر من المال لا يتجاوزه أو يفرض إليه عقود
الأنكحة دون غيرها لأن ذلك جميعه إلى الإمام وله الاستنابة في الكل فتكون
له الاستنابة في البعض فإن من ملك في الكل ملك في البعض وقد صح أن النبي
صلى الله عليه وسلم كان يستنيب أصحابه كلا في شئ فولى عمر القضاء وبعث عليا
قاضيا على اليمين وكان يرسل أصحابه في جمع الزكاة وغيرها وكذلك الخلفاء
بعده ولأنه نيابة فكان على حسب الاستنابة * (مسألة) * (فإن جعل إليهما عملا
واحداً جاز) وعند أبي الخطاب لا يجوز وهو أحد الوجهين لأصحاب الشافعي لأنه
يؤدي إلى إيقاف الأحكام والخصومات لأنهما يختلفان في الاجتهاد ويرى أحدهما
مالا يرى الآخر (والثاني) يجوز وهو قول أصحاب أبي حنيفة وهو أصح إن شاء
الله تعالى لأنه يجوز أن يستخلف في البلد الذي هو فيه فيكون فيه قاضيان
فجاز أن يكون فيها قاضيان أصلبان لأن الغرض فصل الخصومات وإيصال الحق إلى
مستحقه وهذا يحصل فأشبه القاضي وخلفاءه ولأنه يجوز للقاضي أن يستخلف
خليفتين في موضع واحد فالإمام أولى لأن توليته أقوى وقولهم يفضي إلى إيقاف
الأحكام لا يصح فإن كل حاكم يحكم بإجتهاده بين المتحاكمين إليه وليس للآخر
الاعتراض عليه ولا نقض حكمه فيما خالف اجتهاده
(11/382)
(فصل) ولا يجوز أن يقلد القضاء لواحد على
أن يحكم بمذهب بعينه وهذا مذهب الشافعي ولا نعلم فيه خلافاً لأن الله تعالى
قال (فاحكم بين الناس بالحق) والحق لا يتعين في مذهب وقد يظهر له الحق في
غير ذلك المذهب فإن قلده على هذا الشرط بطل الشرط وفي فساد التولية وجهان
بناء على الشروط الفاسدة في البيع (فصل) إذا فرض الإمام إلى إنسان تولية
القاضي جاز لأنه يجوز أن يتولى ذلك فجاز له التوكيل فيه كالبيع فإن فوض
إليه اختيار قاض جاز ولا يجوز له اختيار نفسه ولا والده ولا ولده كما لو
وكله في الصدقة بمال لم يجز له اخذه ولا دفعه إلى هذين ويحتمل أن يجوز له
اختيارهما إذا كانا صالحين للولاية لأنهما يدخلان في عموم من أذن له في
الاختيار منه مع أهليتهما أشبها الأجانب * (مسألة) * (إذا مات المولي أو
عزل المولى مع صلاحيته لم تبطل ولايته في أحد الوجهين وتبطل في الآخر) إذا
ولى الإمام قاضياً ثم مات لم ينعزل القاضي لأن الخلفاء رضي الله عنهم ولو
أحكاما في زمنهم فلم ينعزلوا بموتهم ولأن في عزله بموت الامام ضربرا على
المسلمين فإن البلد يتعطل من الحكام وتقف أحكام الناس إلى أن يولي الإمام
الثاني حاكما وفيه خطر عظيم وكذلك لا ينعزل القاضي إذا عزل الإمام لما
ذكرنا فأما إن عزله الإمام الذي ولاه أو غيره ففيه وجهان (أحدهما) لا ينعزل
وهو مذهب الشافعي لأنه عقد لمصلحة المسلمين فلم يملك عزله مع سداد حاله كما
لو عقد النكاح على موليته لم يكن له فسخه (والثاني) ينعزل لما روي عن عمر
رضي الله عنه أنه قال لأعزلن أبا مريم
(11/383)
وأولين رجلاً إذا رآه الفاجر فرقه فعزله عن
قضاء البصرة وولى كعب بن سور مكانه، وولى علي رضي الله عنه أبا الأسود ثم
عزله فقال له لم عزلتني وما خنت قال إني رأيتك يعلو كلامك على الخصمين
ولأنه يملك عزل امرائه وولاته على البلدان فكذلك قضاته وقد كان عمر رضي
الله عنه يولي ويعزل فعزل شر حبيل ابن حسنة عن ولايته في الشام وولى معاوية
فقال له شر حبيل أمن جبن عزلتني أو خيانة؟ قال من كل لا ولكن أردت رجلا
أقوى من رجل وعزل خالد بن الوليد وولى أبا عبيدة وقد كان يولي بعض الولاة
الحكم مع الإمارة فولى أبا موسى البصرة قضاءها وإمارتها ثم كان يعزلهم هو
ومن
لم يعزله عزله عثمان بعده إلا القليل منهم فعزل القاضي أولى ويفارق عزله
بموت من ولاه أو عزله لأن فيه ضرراً وههنا لا ضرر فيه لأنه لا يعزل قاضياً
حتى يولي آخر مكانه ولهذا لا ينعزل القاضي بموت الإمام وينعزل بعزله وقد
ذكر شيخنا في عزله بالموت في الكتاب المشروح وجهين وحكاهما أبو الخطاب
والأولى إن شاء الله ما ذكرنا فاما أن تغيرت حال القاضي بفسق أو زوال عقل
أو مرض يمنعه من القضاء أو أختل فيه بعض شروطه فإنه ينعزل بذلك ويتعين على
الإمام عزله وجهاً واحداً، وأما إذا استخلف القاضي خليفة فإنه ينعزل بموته
وعزله لانه نا؟؟ اشبه الوكيل * (مسألة) * (وهل ينعزل قبل العلم بالعزل على
روايتين بناء على الوكيل) وقد مضى ذلك في كتاب الوكالة
(11/384)
(فصل) وللإمام تولية القضاء في بلده وغيره
لأن النبي صلى الله عليه وسلم ولى عمر بن الخطاب القضاء وولى علياً ومعاذاً
وقال عثمان لابن عمر إن أباك كان يقضي وهو خير منك فقال إن أبي قد كان يقضي
فإن اشكل عليه شئ سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر الحديث رواه عمرو
بن شيبة في قضاة البصرة وروى سعيد في سننه عن عمرو بن العاص قال: جاء خصمان
إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لي " يا عمرو اقض بينهما " قال قلت
أنت أولى بذلك مني يا رسول الله قال " إن أصبت القضاء بينهما فلك عشر حسنات
وإن أخطأت فلك حسنة " وعن عقبة بن عامر مثله، ولأن الإمام يشتغل بأشياء
كثيرة من مصالح المسلمين فلا يتفرع للقضاء بينهم فإذا ولى قاضياً استحب أن
يجعل له أن يستخلف لأنه قد يحتاج إلى ذلك فإذا أذن له في الاستخلاف جاز له
بلا خلاف نعلمه، وإن نهاه لم يكن له أن يستخلف لأن ولايته بإذنه فلم يكن له
ما ذكرناه كالوكيل، وإن أطلق فله الاستخلاف، ويحتمل أن لا يكون له ذلك لأنه
يتصرف بالإذن فلم يكن له ما لم يأذن فيه كالوكيل ولأصحاب الشافعي في هذا
وجهان ووجه الأول أن الغرض من القضاء الفصل بين المتخاصمين إذا فعله بنفسه
بخلاف الوكيل فإن استخلف في موضع ليس له الاستخلاف فحكمه حكم من لم يول *
(مسألة) * (وإذا قال المولي من نظر في الحكم في البلد الفلاني من فلان
وفلان فهو خليفتي
أو قد وليته لم تنعقد الولاية لمن ينظر) لأنه علقها على شرط ولم يعين
بالولاية أحداً منهم، ويحتمل أن تنعقد لمن نظر لأن النبي صلى الله عليه
وسلم
(11/385)
قال " زيد فإن قتل فأميركم جعفر فإن قتل
فأميركم عبد الله بن رواحة " فعلق ولاية الامارة بعد زيد على شرط فكذلك
ولاية الحكم * (مسألة) * (وإن قال وليت فلانا وفلانا فمن نظر منهما فهو
خليفتي انعقدت الولاية) لمن ينظر منهما لأنه عقد الولاية لهما جميعاً (فصل)
قال الشيخ رحمه الله ويشترط في القاضي عشر صفات أن يكون بالغاً عاقلاً حراً
ذكراً مسلماً عدلا سميعا بصير متكلماً مجتهداً وهل يشترط كونه كاتباً؟ على
وجهين وجملة ذلك أنه يشترط للقاضي أن يكون بالغاً عاقلاً مسلماً لأن هذه
شروط العدالة فأولى أن تشترط للقضاء (الرابع) الذكورية فلا تصح تولية
المرأة، وحكي عن ابن جرير أن الذكورية لا تشترط لأن المرأة يجوز أن تكون
مفتية فيجوز أن تكون قاضياً، وقال أبو حنيفة يجوز أن تكون قاضية في غير
الحدود لأنه يجوز أن تكون شاهدة فيه ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم "
لا أفلح قوم ولوا أمرهم امرأة " ولأن القاضي يحضره محافل الخصوم والرجال
ويحتاج فيه إلى كمال الرأي وتمام العقل والفطنة، والمرأة ناقصة العقل ضعيفة
الرأي ليست من أهل الحضور في محافل الرجال ولا تقبل شهادتها ولو كان معها
ألف امرأة مثلها ما لم يكن معهن رجل وقد نبه الله تعالى على ضلالهن
ونسيانهن بقوله سبحانه (أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى) ولا تصلح
للإمامة العظمى ولا لتولية البلدان ولهذا لم يول النبي صلى الله عليه وسلم
ولا أحد من خلفائه
(11/386)
ولا من بعدهم امرأة قضاء ولا ولاية بلد
فيما بلغنا ولو جاز ذلك لم يخل منه جميع الزمان غالباً (الخامس) الحرية فلا
تصح تولية العبد لأنه منقوص برقه مشغول بحقوق سيده لا تقبل شهادته في جميع
الأشياء فلم يكن أهلا للقضاء كالمرأة
[السادس] أن يكون سميعاً (السابع) أن يكون بصيراً [الثامن] أن يكون متكلماً
لأن الأصم لا يسمع قول الخصمين والأعمى لا يعرف المدعي من المدعي عليه
والمقر من المقر له، والأخرس لا يمكنه النطق بالحكم ولا يفهم الناس جميع
إشارته وقال بعض أصحاب الشافعي يجوز أن يكون أعمى لأن شعيباً عليه السلام
كان أعمى ولهم في الأخرس الذي تفهم إشارته وجهان ولنا أن هذه الحواس تؤثر
في الشهادة فيمنع فقدها ولاية القضاء كالسمع وهذا لأن منصب الشهادة دون
منصب القضاء، والشاهد يشهد في أشياء يسيرة يحتاج إليه فيها وربما أحاط
بحقيقة علمها والقاضي ولايته عامة فيحكم في قضايا الناس عامة فإذا لم تقبل
منه الشهادة فالقضاء أولى، وما ذكر عن شعيب عليه السلام فممنوع فإنه لم
يثبت أنه كان أعمى ولو ثبت فيه ذلك فلا يلزم ههنا فإن شعيباً عليه السلام
كان من آمن معه من الناس قليلاً، وربما لا يحتاجون إلى الحكم بينهم لقلتهم
وتناصفهم فلا يكون حجة في مسئلتنا (التاسع) العدالة فلا يجوز تولية فاسق
ولا من فيه نقص يمنع الشهادة وسنذكر ذلك في الشهادة إن شاء الله تعالى،
وحكي عن الأصم أنه قال يجوز أن يكون القاضي فاسقاً لما روي عن النبي صلى
الله عليه وسلم أنه قال " سيكون بعدي أمراء يؤخرون الصلاة عن أوقاتها
فصلوها لوقتها واجعلوا صلاتكم معهم سبحة "
(11/387)
ولنا قول الله تعالى (يا أيها الذين آمنوا
إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا) فأمر بالتبيين عند قول الفاسق ولا يجوز أن
يكون الحاكم ممن لا يقبل قوله ويجب التبيين عند حكمه، ولأن الفاسق لا يجوز
أن يكون شاهداً فلئلا يجوز أن يكون قاضياً أولى فأما الخبر فاخبر بوقوع ذلك
مع كونهم أمراء لا بمشروعيته والنزاع في صحة توليته لا في وجودها (العاشر)
أن يكون مجتهداً وبهذا قال مالك والشافعي وبعض الحنفية، وقال بعضهم يجوز أن
يكون عامياً فيحكم بالتقليد لأن الغرض منه فصل الخصومات فأما إذا أمكنه ذلك
جاز كما يحكم بقول المقومين ولنا قول الله تعالى (وأن احكم بينهم بما أنزل
الله - وقال - وان تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول) وروى بريدة عن
رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال " القضاة ثلاثة اثنان في النار وواحد
في
الجنة رجل علم الحق فقضى به فهو في الجنة ورجل قضى للناس على جهل فهو في
النار ورجل جار في الحكم فهو في النار " رواه ابن ماجه والعامي يقضي على
جهل ولأن الحكم آكد من الفتيا لأنه فتيا وإلزام ثم المفتي لا يجوز أن يكون
عامياً مقلداً فالحكم أولى فإن قيل فالمفتي يجوز أن يخبر بما يسمع قلنا نعم
إلا أنه لا يكون مفتياً في تلك الحال وإنما هو مخبر فيحتاج أن يجبر عن رجل
بعينه من أهل الإجتهاد فيكون معمر لا بخبره لا بفتياه ويخالف قول المقومين
لأن ذلك لا تمكن الحاكم معرفته بنفسه بخلاف الحكم * (مسألة) * (وليس من شرط
الحاكم أن يكون كاتبا وفيه وجه آخر أنه يشترط ذلك ليعلم ما يكتبه كاتبه ولا
يتمكن من إخفائه عنه)
(11/388)
ولنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان
أمياً وهو سيد الحكام وليس من ضرورة الحكم الكتابة فلا تعتبر شرطا فإن
احتاج إلى ذلك جاز توليته لمن يعرفه كما أنه قد يحتاج إلى القسمة بين الناس
وليس من شرطه معرفة المساحة ويحتاج إلى التقويم وليس من شروط القضاء أن
يكون عالماً بقيم الأشياء * (مسألة) * (والمجتهد من يعرف من كتاب الله
تعالى وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم الحقيقة والمجاز والأمر والنهي
والمجمل والمبين والمحكم والمتشابه والخاص والعام والمطلق والمقيد والناسخ
والمنسوخ والمستثنى والمستثنى منه ويعرف من السنة صحيحها من سقيمها
وتواترها من آحادها ومرسلها ومتصلها ومسندها ومنقطعها مما له تعلق بالأحكام
خاصة وهي في كتاب الله تعالى نحو خمسمائة آية ولا يلزمه معرفة سائر القرآن،
ومن السنة ما يتعلق بالأحكام دون سائر الأخبار ومن خبر الجنة والنار
ونحوهما مما يتعلق بالأحكام وإنما كان المجتهد من يعرف هذه الأشياء
المذكورة لأن المجتهد هو من يمكنه تعرف الصواب بدليله كالمجتهد في القبلة
ومن لا يعرفه بدليله يكون مقلدا لكون يقبل قول غيره من غير معرفة بصوابه
كالذي يقبل قول الدليل على الطريق من غير معرفة بصوابه وقول من يعرف جهة
القبلة من غير معرفة.
وأدلة الأحكام الكتاب والسنة والإجماع والقياس وجهة دلالة الكتاب والسنة من
هذه الوجوه فالكلام بإطلاقه يحمل على الحقيقة دون المجاز والعام الخاص إذا
تعارضا قدم الخاص ويجوز تخصيص العام ولا يدخل الخاص تخصيص، والمطلق يحمل
على المقيد والمقصود أن لكل واحد مما ذكرنا دلالة لا تمكن
(11/389)
معرفتها إلا بمعرفته فوجب معرفة ذلك ليعرف
دلاله ووقف الاجتهاد على معرفته لذلك ومثاله أن المجتهد في القبلة يحتاج في
معرفة النجوم إلى معرفتها باعيانها وجهاتها فإذا عرف القطب احتاج إلى معرفة
كونه في الجهة الشمالية وكذلك إذا عرف الشمس احتاج إلى معرفة الجهة التي
تكون فيها في حال طلوعها وحال غروبها وتوسطها وهذا كذلك والمسند من السنة
والمتصل واحد والمرسل الذي يكون بين الراوي وبين رسول الله صلى الله عليه
وسلم رجل غير مذكور والمنقطع الذي يكون بينهما أكثر من واحد وقيل الذي
يرويه من لم يدرك الصحابة عنهم.
* (مسألة) * (ويعرف ما أجمع عليه مما اختلف فيه والقياس وحدوده وشروطه
وكيفية استنباط الأحكام من أصناف علوم الكتاب والسنة) وقد نص أحمد على
اشتراط ذلك للفتيا والحكم في معناه، وإنما اشترطوا معرفة ما أجمع عليه لأن
الاجتهاد إنما شرع فيما اختلف فيه أما المجمع عليه فيجب الرجوع إلى ما أجمع
عليه دون غيره فيجب معرفة ذلك ليرجع في المجمع عليه إلى الإجماع وفي غيره
إلى الاجتهاد وأما معرفة استنباط القياس وهو أحد أدلة الأحكام فإنه لا يمكن
معرفتها إلا بذلك فكان معرفة ذلك من ضرورة معرفة الأحكام وأما معرفة اللغة
والعربية فإن أدلة الأحكام كتاب الله تعالى وسنة رسوله والكتاب عربي مبين
نزل به الروح الأمين بلسان عربي مبين والسنة قول رسول الله صلى الله عليه
وسلم وما يقوم مقامه وقد قال الله سبحانه (وما أرسلنا من رسول إلا بلسان
قومه) فيعتبر معرفة اللغة التي هي لسان الكتاب والسنة ليعرف
(11/390)
مقتضاها فإن قيل فهذه الشروط لا تجتمع في
أحد فكيف يجوز اشتراطها؟ قلنا ليس من شرطه أن يكون محيطاً بهذه المعلوم
إحاطة تجمع أقصاها وإنما يحتاج أن يعرف من ذلك ما يتعلق بالأحكام من الكتاب
والسنة ولسان العرب ولا أن يحيط بجميع الأخبار الواردة في هذا فقد كان أبو
بكر الصديق وعمر ابن الخطاب خليفتا رسول الله صلى الله عليه وسلم ووزيراه
وخير الناس بعده في حال امامتهما يسئلان الحكم فلا يعرفان ما فيه من السنة
حتى يسألا الناس فيخبرا فسئل أبو بكر عن ميراث الجدة فقال مالك في كتاب
الله شئ ولا أعلم لك في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً ولكن ارجعي
حتى أسأل الناس ثم قام فقال أنشد الله من يعلم قضاء رسول الله صلى الله
عليه وسلم في الجدة فقام المغيرة بن شعبة فقال أشهد أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم أعطاها السدس وسأل عمر عن املاص المرأة فأخبره المغيرة أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم قضى فيه بفرة ولا تشترط معرفة المسائل التي عرفها
المجتهدون في كتبهم فإن هذه فروع فرعها الفقهاء بعد حيازة منصب الاجتهاد
فلا تكون شرطاً له وهو سابق وليس من شرط الاجتهاد في مسألة أن يكون مجتهداً
في كل المسائل بل من عرف أدلة مسالة وما يتعلق بها فهو مجتهد فيها وإن جهل
غيرها كمن عرف الفرائض وأصولها ليس من شرط اجتهاده فيها معرفته بالبيع
ولذلك ما من أمام إلا وقد توقف في مسائل، وقيل من يجيب في كل مسألة فهو
مجنون، وإذا ترك العالم لا أدري أصيبت مقاتله وحكي عن مالك أنه سئل عن
أربعين مسألة فقال في ستة وثلاثين لا أدري ولم يخرجه ذلك عن كونه مجتهداً
وإنما المعتبر أصول هذه الأمور وهو مجموع مدون في فروع الفقه وأصوله فمن
عرف ذلك ورزق فهمه كان مجتهداً وصلح للفتيا والقضاء وبالله التوفيق.
(11/391)
* (فصل) * قال الشيخ رحمه الله (وإذا تحاكم
رجلان إلى رجل يصلح للقضاء وحكماه بينهما جاز ذلك ونفذ حكمه عليهما وبهذا
قال أبو حنيفة وللشافعي قولان (أحدهما) لا يلزمه حكمه إلا بتراضيهما لأن
حكمه إنما يلزم بالرضى به فلا يكون الرضى إلا بعد المعرفة بحكمه.
ولنا ما روى أبو شريح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له " أن الله هو
الحكم فلم تكنى أبا الحكم؟ " قال إن قومي إذا اختلفوا في شئ أتوني فحكمت
بينهم فرضي علي الفريقان " قال ما أحسن هذا فمن أكبر ولدك؟ " قال شريح قال
" فأنت أبو شريح " أخرجه النسائي روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال
" من حكم بين اثنين تراضيا به فلم يعدل بينهما فهو ملعون " ولولا أن حكمه
يلزمهما لما لحقه هذا الذم، ولأن عمر وأبياً تحاكما إلى زيد وحاكم عمر
أعرابياً إلى شريح قبل أن يوليه القضاء وتحاكم عثمان وطلحة إلى جبير بن
مطعم ولم يكونوا قضاة فإن قيل فعمر وعثمان كانا إمامين فإذا ردا الحكم إلى
رجل صار قاضياً؟ قلنا لم ينقل عنهما إلا الرضا بتحكيمه خاصة وبهذا لا يعتبر
قاضياً وما ذكروه يبطل بما إذا رضي بتصرف وكيله
فإنه يلزمه قبل المعرفة به إذا ثبت هذا فإنه لا يجوز نقض حكمه فيما لا ينقض
فيه حكم من له ولاية، وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة للحاكم نقضه إذا
خالف رأيه، لأن هذا عقد في حق الحاكم فملك فسخه كالعقد الموقوف في حقه.
ولنا أن هذا حكم صحيح لازم فلم يجز فسخه لمخالفة رأيه كحكم من له ولاية وما
ذكروه لا يصح فإن حكمه لازم للخصمين فكيف يكون موقوفاً؟ ولو كان كذلك لملك
فسخه وإن لم يخالف رأيه ولا نسلم الوقوف في العقود إذا ثبت هذا فإن لكل
واحد من الخصمين الرجوع عن تحكيمه قبل شروعه
(11/392)
في الحكم لأنه لا يثبت إلا برضاه فأشبه ما
لو رجع عن التوكيل قبل التصرف، وإن رجع بعد شروعه ففيه وجهان.
(أحدهما) له ذلك لأن الحكم لم يتم أشبه قبل الشروع (والثاني) ليس له ذلك
لأنه يؤدي إلى أن كل واحد منهما إذا رأى من الحكم مالا يوافقه رجع فبطل
المقصود به واختلف أصحابنا فيمن يجوز فيه التحكيم فقال أبو الخطاب ظاهر
كلام أحمد أن تحكيمه يجوز في كل ما يتحاكم فيه الخصمان قياساً على قاضي
الإمام وقال القاضي يجوز حكمه في الأموال خاصة فأما النكاح واللعان والقذف
والقصاص فلا يجوز التحكيم فيها لأن لهذه الأحكام مزية على غيرها فاختص حاكم
الإمام بالنظر فيها كالحدود وذكر صاحب المحرر فيها روايتين ولأصحاب الشافعي
وجهان كهذين، وإذا كتب هذا القاضي بما حكم به كتاباً إلى قاض من قضاة
المسلمين لزمه قبوله وتنفيذ كتابه لأنه حاكم نافذ الأحكام فلزم قبول كتابه
كحاكم الإمام
(11/393)
* (باب أدب القاضي) * ينبغي أن يكون قوياً
من غير عنف لينا من غير ضعف لا يطمع القوي في باطله ولا ييأس الضعيف من
عدله ويكون حليماً متأنياً ذا فطنة وتيقظ لا يؤتى من غفلة ولا يخدع لغرة
صحيح السمع والبصر عالماً بلغات أهل ولايته عفيفاً ورعاً نزهاً بعيداً من
الطمع صدوق اللهجة ذا رأي ومشورة لكلامه
لين إذا قرب وهيبة إذا أوعد ووفاء إذا وعد ولا يكون جباراً ولا عسوفاً
فيقطع ذا الحجة عن حجته قال علي رضي الله عنه لا ينبغي أن يكون القاضي
قاضياً حتى يكون فيه خمس خصال عفيف حليم عالم بما كان قبله يستشير ذوي
الألباب لا يخاف في الله لومة لائم، وقال عمر بن عبد العزير ينبغي للقاضي
أن يكون فيه سبع خلال أن فاتته واحدة كانت فيه وصمة: العقل، والعفة،
والورع، والنزاهة، والصرامة، والعلم بالسنين، والحلم، ورواه سعيد وفيه
ويكون فهما حليماً عفيفاً صلباً سآلاً عما لا يعلم وفي رواية محتملاً
للأئمة ولا يكون ضعيفاً مهيناً لأن ذلك يبسط المتخاصمين إلى التهاتر
والتشائم بين يديه قال عمر رضي الله عنه لأعزلن فلانا عن القضاء ولأستعملن
رجلا إذا رآه الفاجر فرقه.
(فصل) وله أن ينتهر الخصم إذا التوى ويصيح عليه وأن استحق التعزير عزره بما
يرى من أدب أو حبس وإن افتات عليه بأن يقول حكمت علي بغير حق وارتشيت فله
تأديبه وله وان يعفو
(11/394)
وإن بدأ المنكر باليمين قطعها عليه وقال
البينة على خصمك فإن عاد نهره فإن عاد عزره إن رأى وأمثال ذلك مما فيه
اساءة الأدب فله مقابلة فاعله وله العفو.
* (مسألة) * (وإذا ولي في غير بلده سأل عمن فيه من الفقهاء والفضلاء
والعدول وينفذ عند مسيره من يعلمهم يوم دخوله ليتقوه) وجملة ذلك إذا ولي في
غير بلده فأراد المسير إلى بلد ولايته بحث عن قوم من أهل ذلك البلد ليسألهم
عنه ويتعرف منهم ما يحتاج إلى معرفته فإن لم يجد سال في طريقه فإن لم يجد
سال إذا دخل عن أهله ومن به من العلماء والفضلاء وأهل العدالة والسير وسائر
ما يحتاج إلى معرفته وإذا قرب من البلد بعث من يعلمهم بقدومه ليتلقوه.
* (مسألة) * (ويجعل دخوله يوم الاثنين أو الخميس أو السبت إن أمكنه لقوله
عليه الصلاة السلام بورك لأمتي في سبتها وخميسها) وروي عن النبي صلى الله
عليه وسلم أنه كان إذا قدم من سفر قدم يوم الخميس ويكون لابساً أجمل ثيابه
فيأتي الجامع فيصلي فيه ركعتين كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل إذا
دخل المدينة ويستقبل
القبلة لأنه روي " أفضل المجالس ما استقل به القبلة " * (مسألة) * (فإذا
اجتمع الناس أمر بعهده فقرئ عليهم ليعلموا توليته وأمر من ينادي من له حاجة
فليحضر يوم كذا ثم ينصرف إلى منزله الذي قد أعد له)
(11/395)
وأول ما يبدأ به أن يبعث إلى الحاكم
المعزول فيأخذ منه ديوان الحكم وهو ما فيه وثائق الناس من المحاضر وهو نسخ
ما يثبت عند الحاكم والسجلات نسخ ما حكم به وما كان عنده من حجج الناس
ووثائقهم مودعة في ديوان الحكم وكانت عنده بحكم الولاية فإذا انتقلت
الولاية إلى غيره كان عليه تسليمها إليه فتكون مودعة عنده في ديوانه *
(مسألة) * (ثم يخرج في اليوم الذي وعد الجلوس فيه على اعدل أحواله غير
غضبان ولا جائع ولا شبعان ولا حاقن ولا مهموم بأمر يشغله عن الفهم) كالعطش
الشديد والفرح الشديد والحزن الكبير والهم العظيم والوجع المؤلم والحر
المزعج والنعاس الذي يغمر القلب ليكون أجمع لقلبه واحضر لذهنه وأبلغ في
تيقظه للصواب وفطنته لموضع الرأي ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم " لا
يقضي القاضي بين اثنين وهو غضبان " فنص على الغضب ونبه على ما في معناه مما
ذكرنا ويسلم على من يمر به ثم يسلم على من هو في مجلسه وبصلى تحية المسجد
إن كان في المسجد ويجلس على بساط ولا يجلس على التراب ولا على حصر المسجد
لأن ذلك يذهب بهيبته من أعين الخصوم وهذه الآداب المذكورة في هذه المسألة
ليست شرطاً في الحكم إلا الخلو من الغضب وما في معناه وفي اشتراطه روايتان
وما ذكر ههنا من الجلوس على بساط ولا يجلس على التراب ولا حصر المسجد لم
نعلم أنه نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من خلفائه والإقتداء
بهم أولى إن شاء الله تعالى فيكون وجوده وعدمه سواء
(11/396)
* (مسألة) * (ويستعين بالله تعالى ويتوكل
عليه ويدعوه سراً أن يعصمه من الزلل ويوفقه للصواب ولما يرضيه من القول
والعمل ويجعل مجلسه في مكان فسيح كالجامع والقضاء الواسع في وسط البلدان
أمكن ليساوي فيه الناس) (فصل) ولا يكره القضاء في الجامع والمساجد فعل ذلك
شريح والحسن والشعبي ومحار ابن دثار ويحيى بن يعمر وابن أبي ليلى وابن خلدة
قاض لعمر بن عبد العزيز، وروي عن عمر وعلي وعثمان أنهم كانوا يقضون في
المسجد قال مالك القضاء في المسجد من أمر الناس القديم وبه قال مالك وإسحاق
وابن المنذر، وقال الشافعي يكره ذلك إلا أن ينفق خصمان عنده في المسجد لما
روي أن عمر كتب إلى القاسم بن عبد الرحمن لا تقض في المسجد لأنه يأتيك
الحائض والجنب والذمي وتكثر غاشيته ويجري بينهم اللغط والتكاذب والتجاحد
وربما أدى إلى السب وما لم تبن له المساجد ولنا إجماع الصحابة بما قد روينا
عنهم وقال الشعبي رأيت عمر مستنداً إلى القبلة يقضي بين الناس ولأن القضاء
قربة وطاعة وانصاف بين الناس ولا نعلم صحة ما رووه وقد روي عنه خلافه وأما
الحائض فإن عرضت لها حاجة إلى القضاء وكلت أو أتته في منزله والجنب يغتسل
ويدخل والذمي يجوز دخوله بإذن مسلم وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يجلس
في مسجده مع حاجة الناس إليه للحكومة والفتيا وغير ذلك من حوائجهم وكان
أصحابه يطالب بعضهم بعضا بالحقوق في المسجد وربما رفعوا أصواتهم فقد روي عن
كعب أبن مالك قال تقاضيت ابن أبي حدرد دينا في المسجد حتى ارتفعت أصواتنا
فخرج النبي صلى الله عليه وسلم فأشار إلي ضع من ديتك الشطر فقلت نعم يا
رسول الله فقال " قم فاقضه "
(11/397)
* (مسألة) * (ولا يتخذ حاجباً ولا بواباً
يحجب الناس عن الوصول إليه) لما روى القاسم بن مخيمرة عن أبي صاحب رسول
الله صلى الله عليه وسلم أنه قال " من ولي من أمور الناس شيئاً واحتجب دون
حاجتهم احتجب الله دون حاجته وفاقته وفقره " رواه الترمذي ولأن حاجبه ربما
قدم المتأخر وأخر المتقدم لغرض له وربما كسرهم بحجبهم والاستئذان لهم ولا
بأس باتخاذ حاجب في غير مجلس القضاء لأنه يحتاج إلى الخلوة بنفسه * (مسألة)
* (ويعرض القصص فيبدأ بالأول فالأول) لأن الأول سبق فقدم كما لو سبق إلى
موضع مباح ولا يقدم السابق في أكثر من حكومة واحدة
لئلا يستوعب المجلس بدعاويه فيضر بغيره فإن حضروا دفعة واحدة وتشاحوا أقرع
بينهم فقدم من تقع له القرعة ويعدل بين الخصمين في لحظه ولفظه والدخول عليه
إلا أن يكون أحدهما كافراً فيقدم المسلم عليه في الدخول ويرفعه في الجلوس
لحرمة الإسلام فإن الله تعالى قال (أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا
يستوون) ووجه وجوب العدل بين الخصمين فيما ذكرنا ما روى عمرو بن شبة في
كتاب القضاة بإسناده عن أم سلمة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه سلم
قال " من ابتلي بالقضاء بين المسلمين فليعدل بينهم في لفظه وإشارته ومقعده
ولا يرفعن صوته على أحد الخصمين ولا يرفعه على الآخر " وفي رواية " فليسو
بينهم في النظر والمجلس والاشارة " ولأنه إذا ميز أحد الخصمين عن الآخر حصر
وانكسر وربما لم يقم حجته فادى ذلك إلى ظلمه وقيل يسوي بين المسلم والكافر
لأن العدل يقتضي ذلك ولا يسار
(11/398)
(احداهما) ولا يلقنه حجته لما فيه من الضرر
ولا يضيفه لأنه يكسر قلب صاحبه وروي مثل ذلك عن علي إلا أن يضيف صاحبه معه
لما روي عن علي كرم الله وجهه أنه نزل به رجل فقال له إنك خصم قال نعم قال
تحول عنا فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " لا تضيفوا أحد
الخصمين إلا وخصمه معه " * (مسألة) * (ولا يعلمه كيف يدعي في أحد الوجهين
لما ذكرنا وفي الآخر له تحرير الدعوى إذا لم يحسن تحريرها) .
لأنه لا ضرر على خصمه وله أن يشفع إلى خصمه لينظره أو يضع عنه ويزن عنه لأن
النبي صلى الله عليه وسلم شفع إلى كعب بن مالك في أن يحط عن ابن أبي حدرد
بعض دينه وله أن يزن عن المدعي عليه ما وجب عليه لأنه نفع لخصمه ولا يكون
إلا بعد انقضاء الحكم * (مسألة) * (ويحضر مجلسه الفقهاء من كل مذهب) حتى
إذا حدثت حادثة يفتقر إلى سؤالهم عنها سألهم ليذكروا ادلتهم فيها وجوابهم
عنها فإنه اسرع لاجتهاده وأقرب لصوابه وأن حكم بإجتهاده فليس لأحد منهم
الإعتراض عليه وإن خالف اجتهاده ولان فيه افتياتا عليه إلا أن يحكم بما
يخالف نصا أو اجماعا ويستحب ان يشاورهم فيما يشكل عليه لقول الله سبحانه
(وشاورهم في الأمر) قال الحسن أن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لغنياً
عن مشورتهم
وإنما أراد أن يستن بذلك الحكام بعده وقد شاور النبي صلى الله عليه وسلم
أصحابه في أسارى بدر وفي مصالحة الكفار يوم الخندق وشاور ابو بكر رضي الله
عنه الناس في ميراث الجدة وعمر في دية الجنين وشاور
(11/399)
في حد الخمر وروي ان عمر كان يكون عنده
جماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم عثمان وعلي وطلحة
والزبير وعبد الرحمن بن عوف إذا نزل به الأمر شاورهم فيه ولا مخالف في
استحباب ذلك قال أحمد لما ولي سعد بن ابراهيم قضاء المدينة كان يجلس بين
القاسم وسالم ويشاورهما وولي محارب بن دثار قضاء الكوفة فكان يجلس بين
الحكم وحماد يشاورهما، ما أحسن هذا لو كان الحكام يفعلونه يشاورون ويتتظرون
لأنه يتنبه بالمشاورة ويتذكر ما نسيه بالمذاكرة ولأن الاحاطة بجميع العلوم
متعذرة وقد يتنبه لاصابة الحق ومعرفة الحادثة من من هو دون القاضي فكيف بمن
يساويه؟ فقد روي أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه جاءته الجدتان فورث أم
الأم واسقط أم الأب فقال له عبد الرحمن ابن سهل يا خليفة رسول الله لقد
أسقطت التي لو ماتت ورثها وورثت التي لو ماتت لم يرثها فرجع أبو بكر فأشرك
بينهما.
إذا ثبت هذا فإنه يشاور أهل العلم والأمانة لأن من ليس كذلك لا قول له في
الحادثة ولا يسكن إلى قوله قال سفيان وليكن أهل مشورتك أهل التقوى وأهل
الأمانة ويشاور الموافقين والمخالفين ويسألهم عن حججهم يبين له الحق *
(مسألة) * (والمشاورة ههنا لاستخراج الأدلة وتعرف الحق بالاجتهاد) *
(مسألة) * فإن اتضح له الحكم حكم وإلا أخره ولا يقلد غيره وإن كان أعلم منه
لا يجوز تقليد غيره سواء ظهر الحق فخالفه غيره فيه أو لم يظهر له شئ وسواء
ضاق الوقت أو لم يضق وكذلك ليس للمفتي الفتيا بالتقليد وبهذا قال الشافعي
وأبو يوسف ومحمد وقال أبو حنيفة اذا كان الحاكم من أهل الاجتهاد جاز له ترك
رأيه لرأي من هو افقه منه عنده إذا صار إليه فهو ضرب من الإجتهاد لأنه
يعتقد أنه أفقه منه بطريق الإجتهاد
(11/400)
ولنا أنه من أهل الإجتهاد فلم يجز له تقليد
غيره كما لو كان مثله كالمجتهدين في القبلة وما ذكروه لا يصح فان هو افقه
منه يجوز عليه الخطأ فإذا اعتقد أن ما قاله خطأ لم يجز له أن يعمل به وإن
كان
لم يبن له الحق فلا يجوز له أن يحكم بما يجوز أن يبين له خطؤه إذا اجتهد *
(مسألة) * (ولا يقضي وهو غضبان ولا حاقن ولا في شدة الجوع والعطش والهم
والوجع والنعاس والبرد المؤلم والحر المزعج فإن خالف وحكم فوافق الحق نفذ
حكمه وقال القاضي لا ينفذ وقيل إن عرض له ذلك بعد فهم الحكم جاز وإلا فلا)
لا خلاف بين أهل العلم فيما علمنا في أن القاضي لا ينبغي له أن يقضي وهو
غضبان كره ذلك شريح وعمر بن عبد العزيز وأبو حنيفة والشافعي لما روي أن ابا
بكرة كتب إلى إبنه عبد الله وهو قاض بسجستان لا تحكم بين اثنين وانت غضبان
فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " لا يحكم أحد بين اثنين وهو
غضبان " متفق عليه وروي عن عمر أنه كتب إلى أبي موسى إياك والقلق والغضب
والضجر والتأذي بالناس عند الخصومة فإذا رأيت الخصم يتعمد فأوجع رأسه،
ولأنه إذا غضب تغير عقله ولم يستوف رأيه وفكره وفي معنى الغضب كلما يشغل
فكره من الجوع المفرط والعطش الشديد والجوع المزعج ومدافعة احد الاخبثين
وشدة النعاس والهم والغم والحزن والفرح فهذه كلها تمنع الحكم لإنها تمنع
حضور القلب واستيفاء الفكر الذي يتوصل به إلى إصابة الحق في الغالب فهي في
معنى الغضب المنصوص عليه فتجري مجراه فإن خالف وحكم في الغضب أو ما شاكله
فوافق الحق نفذ قضاؤه
(11/401)
ذكره القاضي في المجرد وهو مذهب الشافعي
وحكي عن القاضي أنه لا ينفذ لأنه منهي عنه والنهي يقتضي فساد المنهي عنه
ولنا أن النبي صلى الله عليه وسلم اختصم إليه الزبير ورجل من الأنصار في
شراج الحرة فقال النبي صلى الله عليه وسلم " اسق ثم ارسل إلى جارك " فقال
الأنصاري إن كان ابن عمتك؟ فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال للزبير
" اسق ثم احبس الماء حتى يبلغ الجدر " متفق عليه فحكم في حال غضبه وقال بعض
أهل العلم إنما يمنع الغضب الحكم إذا كان قبل أن يتضح حكم المسألة للحاكم
لأنه يشغله عن استيفاء النظر فيها فأما ما حدث بعد اتضاح الحكم فلا يمنعه
لأن الحق قد استبان قبله كغضب النبي صلى الله عليه وسلم في قصة الزبير *
(مسألة) * (ولا يحل له أن يرتشي، ولا يقبل الهدية إلا ممن كان يهدي إليه
قبل ولايته
بشرط أن لا تكون له حكومة) أما الرشوة في الحكم ورشوة العالم فحرام على
الآخذ بلا خلاف قال الله تعالى (أكالون للسحت) قال الحسن وسعيد بن جبير في
تفسيره هو الرشوة، وقال إذا قبل القاضي الرشوة بلغت به الكفر، وروى عبد
الله بن عمر قال: لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الراشي والمرتشي قال
الترمذي: هذا حديث حسن صحيح ورواه أبو هريرة وزاد في الحكم رواه أبو بكر في
زاد المسافر وزاد والرائش وهو السفير بينهما ولأن المرتشي إنما يرتشي ليحكم
بغير الحق أو يتوقف الحكم عنه وذلك من أعظم الظلم قال مسروق سألت بن مسعود
عن السحت اهو الرشوة في الحكم؟ قال لا (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك
هم الكافرون) و (الظالمون) و (الفاسقون) وإنما السحت أن يستعينك على مظلمة
فيهدي لك فلا تقبل.
وقال
(11/402)
قتادة قال كعب الرشوة تسفه الحليم وتعمي
عين الحكيم.
فأما الراشي فإن رشاه ليحكم له بباطل أو يدفع عنه فهو ملعون وأن رشاه ليدفع
ظلمه ويجزئه على واجبه فقال عطاء وجابر بن زيد والحسن لا بأس ان يصانع عن
نفسه قال جابر: ما رأينا في زمن زياد أنفع لنا من الرشا ولأنه يستنقذ ماله
كما يستنفذ الرجل أسيره.
(فصل) ولا يقبل الحاكم هدية وذلك لأن الهدية يقصد بها في الغلب استمالته
ليعتني به في الحكم فيشبه الرشوة قال مسروق إذا قبل القاضي الهدية أكل
السحت وإذا قبل الرشوة بلغت به لكفر وقد روى أبو حميد الساعدي قال بعث رسول
الله صلى الله عليه وسلم رجلاً من الأزد يقال له ابن اللتبية على الصدقة
فقال هذا لكم وهذا أهدي إلي فقام النبي صلى الله عليه وسلم فحمد الله واثنى
عليه ثم قال " ما بال العامل نبعثه فيقول هذا لكم وهذا أهدي إلي؟ ألا جلس
في بيت أبيه وأمه فينظر أيهدى إليه أم لا؟ والذي نفس محمد بيده لا نبعث
أحداً منكم فيأخذ شيئاً إلا جاء يوم القيامة يحمله إن كان بعيراً له رغاء
أو بقرة لها خوار أو شاة تثغر " فرفع يده حتى رأيت عفرة أبطية فقال " اللهم
هل بلغت ثلاثاً؟ " متفق عليه ولأن حدوث الهدية عند حدوث الولاية يدل على
أنها من أجلها ليتوسل بها إلى ميل الحاكم معه على خصمه فلم يجز قبولها
كالرشوة فأما إن كان يهدي إليه قبل ولايته جاز قبولها منها بعد الولاية
لأنها لم تكن من أجل الولاية لوجود سببها قبلها بدليل وجودها
قبل الولاية قال القاضي ويستحب له التنزه عنها فإن أحس أنه يقدمها بين يدي
خصومة أو فعلها حال
(11/403)
الحكومة حرم أخذها في هذه الحال لانه
كالرشوة وهذا كله مذهب الشافعي وروي عن أبي حنيفة وأصحابه أن قبول الهدية
مكروه غير محرم وفيما ذكرناه دلالة على التحريم * (مسألة) * (فإن ارتشى
الحاكم أو قبل هدية ليس له قبولها ردها إلى أربابها) لأنه أخذها منهم بغير
حق فأشبه المأخوذ بعقد فاسد ويحتمل أن يجعلها في بيت المال لأن النبي صلى
الله عليه وسلم لم يأمر ابن اللتبية بردها إلى أربابها وقد قال أحمد إذا
أهدى البطريق لصاحب الجيش عينا أو فضة لم تكن له دون سائر الجيش قال أبو
بكر يكونون فيه سواء * (مسألة) * (ويكره أن يتولى البيع والشراء بنفسه
ويستحب أن يوكل في ذلك من لا يعرف أنه وكيله) لما روى أبو الأسود المالكي
عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " ما عدل ولي اتجر في
رعيته أبداً " ولأنه يعرف فيحابى فيكون كالهدية ولأن ذلك يشغله عن النظر في
أمور الناس وقد روي عن ابي بكر رضي الله عنه أنه لما بويع أخذ الذراع وقصد
السوق فقالوا يا خليفة رسول الله لا يسعك أن تشتغل عن أمور المسلمين فقال "
فإني لا أدع عيالي يضيعون " قالوا فنحن نفرض لك ما يكفيك ففرضوا له كل يوم
درهمين فإن باع واشترى صح البيع وتم بشروطه وأركانه إن احتاج إلى مباشرته
ولم يكن له ما يكفيه لم يكره لأن ابا بكر رضي الله عنه قصد السوق ليتجر حتى
فرضوا له ما يكفيه ولأن القيام بعياله فرض عين فلا يتركه لوهم مضرة وإنما
إذا استغنى عن مباشرته ووجد من يكفيه ذلك كره لما ذكرناه من المعنيين
وينبغي أن يوكل في ذلك من لا يعرف أنه وكيله لئلا يحابى
(11/404)
وهذا مذهب الشافعي وحكي عن أبي حنيفة أنه
قال لا يكره له البيع والشراء وتوكيل من لا يعرف لما ذكرنا من قضية أبي بكر
رضي الله عنه ولما ذكرناه وروي عن شريح أنه قال شرط علي عمر حين ولأني
القضاء أن لا أبيع ولا ابتاع ولا ارتشي ولا أقضي وأنا غضبان وقضية أبي بكر
حجة لنا فإن الصحابة أنكروا عليه فاعتذر بحفظ عياله عن الضياع فلما أغنوه
عن البيع والشراء بما فرضوا له قبل
قولهم وترك التجارة فحصل الاتفاق منهم على تركها عند الغنى عنها * (مسألة)
* (وتستحب له عيادة المرضى وشهود الجنائز ما لم تشغله عن الحكم وزيارة
الأخوان والصالحين من الناس لأنه قربة وطاعة وإن كثر ذلك فليس له الاشتغال
به عن الحكم) لأن هذا تبرع فلا يشتغل به عن الفرض وله حضور البعض لأن هذا
يفعله لنفع نفسه بتحصيل الأجر والقربة له بخلاف الولائم لأنه يراعي فيها حق
الداعي فيكسر قلب من لم يجب إذا أجيب غيره * (مسألة) * (وله حضور الولائم)
لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحضرها ويأمر بحضورها وقال من لم يجب فقد
عصى الله ورسوله فإن كثرت وازدحمت تركها كلها ولم يجب أحداً لأن هذا يشغله
عن الحكم الذي تعين عليه لكنه يعتذر إليهم ويسألهم التحليل ولا يجيب بعضاً
دون بعض لأن في ذلك كسراً لقلب من لم يجبه إلا أن يختص بعضها بعذر يمنعه
دون بعض مثل أن يكون في إحداها منكر أو تكون في مكان بعيد أو يشتغل
(11/405)
بها زمنا طويلا والأخرى بخلاف ذلك فله
الإجابة إليها دون الأولى لأن عذره ظاهر في التخلف عن الأولى * (مسألة) *
(ويوصي الوكلاء والأعوان على بابه بالرفق بالخصوم وقلة الطمع ويجتهد أن
يكونوا شيوخاً أو كهولاً من أهل الدين والعفة والصيانة) لأنهم أقل شرا فإن
الشباب شعبة من الجنون ولأن الحاكم يأتيه النساء وفي اجتماع الشباب بهن
ضرورة * (مسألة) * (ويتخذ كاتباً مسلماً مكلفاً عدلاً حافظاً عالماً يجلسه
حيث يشاهد ما يكتبه ويجعل القمطر مختوماً بين يديه) وجملة ذلك أنه يستحب
للحاكم أن يتخذ كاتباً لأن النبي صلى الله عليه وسلم استكتب زيد بن ثابت
وغيره ولأن الحاكم تكثر اشغاله ونظره فلا يمكنه تولي الكتابة بنفسه وإن
أمكنه الكتابة بنفسه جاز والاستنابة فيه أولى ولا يجوز أن يستنيب في ذلك
إلا عدلاً لأن الكتابة موضع أمانة ويستحب أن يكون فقيهاً ليعرف مواقع
الألفاظ التي تتعلق بها الأحكام ويفرق بين الجائز والواجب وينبغي أن يكون
وافر العقل نزها ورعا لئلا يستمال بالطمع ويكون مسلماً لأن الله تعالى قال
(يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم
لا يألونكم خبالا) وقد روي أن أبا موسى قدم على عمر ومعه كاتب نصراني فاحضر
أبو موسى شيئاً من مكتوباته عند عمر فاستحسنه وقال قل لكاتبك يجئ ويقرأ
كتابه قال إنه لا يدخل المسجد قال ولم؟ قال أنه نصراني فانتهره عمر وقال لا
تأتمنوهم وقد خونهم الله تعالى ولا تقربوهم وقد أبعدهم الله ولا تعزوهم وقد
أذلهم الله ولأن الإسلام من شروط العدالة والعدالة شرط وقال أصحاب الشافعي
في
(11/406)
اشراط عدالته وإسلامه وجهان (أحدهما) يشترط
لما ذكرنا (والثاني) لا يشترط لأن ما يكتبه لابد من وقوف القاضي عليه فهو
من الخيانة ويستحب أن يكون جيد الخط لأنه أكمل وإن يكون حراً ليخرج من
الخلاف وإن كان عبداً جاز لأن شهادة العبد جايزة ويكون القاسم على الصفة
التي ذكرنا في الكاتب ولابد من كونه حاسباً لأنه عمله وبه يقسم فهو كالخط
للكاتب والفقه للحاكم ويستحب للحاكم أن يجلس الكاتب بين يديه ليشاهد ما
يكتبه ويشافهه بما يملي عليه وان قصد ناحية جاز لأن المقصود يحصل لأن ما
يكتبه يعرض على الحاكم فيستبرئه ويجعل القمطر مختوماً بين يديه ليترك فيه
ما يجتمع من المحاضر والسجلات ويتحرز من أن يدخله كتاب مزور أو يؤخذ منه شئ
* (مسألة) * (ويستحب أن لا يحكم إلا بحضرة الشهود) ليستوفى بهم الحقوق
ويثبت بهم الحجج والمحاضر فإن كان ممن يحكم بعلمه فإن شاء أدناهم إليه وإن
شاء ابعدهم منه بحيث إذا احتاج إلى إشهادهم على حكمه استدعاهم ليشهدوا بذلك
وإن كان ممن لا يحكم بعلمه أجلسهم بالقرب حتى يسمعوا كلام المتحاكمين لئلا
يقر منهم مقر ثم ينكر ويجحد فيحفظوا عليه إقراره * (مسألة) * (ولا يحكم
لنفسه ولا لمن لا تقبل شهادته له ويحكم بينهم بعض خلفائه) أو بعض رعيته فإن
عمر حاكم أبيا إلى زيد وحاكم رجلاً عراقياً إلى شريح وحاكم علي يهودياً إلى
شريح وحاكم عثمان طلحة إلى جبير بن مطعم وإن عرضت حكومة لوالديه أو ولده أو
من لا تقبل شهادته له ففيه وجهان (أحدهما) لا يجوز له الحكم فيها بنفسه وإن
حكم لم ينفذ حكمه له كنفسه
(11/407)
(والثاني) ينفذ حكمه اختاره أبو بكر وهو
قول أبي يوسف وابن المنذر وأبي ثور لأنه حكم لغيره
أشبه الأجانب وعلى القول الأول متى عرضت لهؤلاء حكومة حكم بينهم الإمام أو
حاكم آخر أو بعض خلفائه فإن كانت الحكومة بين والديه أو ولديه أو والده
وولده لم يجز الحكم بينهما على أحد الوجهين لأنه لا تقبل شهادته لأحدهما
على الآخر فلم يجز الحكم بينهما كما لو كان خصمه أجنبياً وفي الآخر يجوز
وهو قول بعض أصحاب الشافعي لأنهما سواء عنده فارتفعت تهمة الميل فأشبها
الأجنبيين (فصل) قال رضي الله عنه وأول ما ينظر في أمر المحبسين فيبعث ثقة
إلى الحبس فيكتب اسم كل محبوس ومن حبسه؟ وفيم حبسه؟ في رقعة منفردة ثم
ينادي في البلدان القاضي ينظر في أمر المحبسين غداً فمن له منهم خصيم
فليحضر إنما بدأ بالنظر في امر المحبسين لأن الحبس عذاب وربما كان فيهم من
لا يستحق البقاء فيه فينفذ إلى حبس القاضي الذي كان قبله ثقة فيكتب اسم كل
محبوس وفيم حبس؟ ولمن حبس؟ وتحمل الرقاع إليه ويأمر منادياً ينادي في البلد
ثلاثة أيام أن القاضي فلان بن فلان ينظر في أمر المحبسين يوم كذا فمن كان
له محبوس فليحضر فإذا احضر الناس في ذلك اليوم جعل الرقاع بين يديه فيمد
يده إليها فما وقع في يده منها نظر إلى اسم المحبوس وقال من خصم فلان
المحبوس؟ فإذا قال خصمه أنا بعث ثقة إلى الحبس فاخرج خصمه وحضر معه مجلس
الحكم ويفعل ذلك في قدر ما يعلم أنه يتسع زمانه للنظر في ذلك المجلس ولا
يخرج غيرهم فإذا حضر المحبوس وخصمه لم يسأل خصمه لم حبسه؟ لأن الظاهر
(11/408)
أن الحاكم إنما حبسه بحق لكن يسار المحبوس
بم حبست؟ ولا يخلو جوابه من خمسة أقسام (أحدها) أن يقول حبسني بحق له حال
أنا ملئ به فيقول له الحاكم اقض؟ وإلا رددتك إلى الحبس (الثاني) أن يقول له
على دين أنا معسر به فيسال خصمه فإن صدقه فلسه الحاكم وأطلقه وإن كذبه نظر
في سبب الدين فإن كان سببا حصل له به مال كقرض أو شراء لم يقبل قوله في
الإعسار إلا ببينة بأن ماله تلف أو نفد أو ببينة أنه معسر فيزول الأصل الذي
ثبت ويكون القول قوله فيما يدعيه عليه من المال، وإن لم يثبت له أصل مال
ولم يكن لخصمه بينة بذلك فالقول قول المحبوس مع يمينه أنه معسر لأن الأصل
الإعسار، وإن شهدت لخصمه بينة بأن له مالا لم تقبل حتى يبين ذلك المال بما
يتميز به فإن شهدت عليه البينة بدار معينة أو غيرها فصدقها فلا كلام وإن
كذبها وقال ليس هذا لي وإنما هو في يدي لغيري لم يقبل إلا أن يعزوه إلى
معين فإن كان الذي أقر له حاضراً سئل فان كذبه في إقراره سقط وقضى من المال
دينه، وإن صدقه وكانت له بينة فهو أولى لأن له بينة وصاحب اليد يقر له به
وإن لم تكن له بينة فذكر القاضي أنه لا يقبل قولهما ويقضي الدين منه لأن
البينة شهدت لصاحب اليد بالملك فتضمنت شهادتها وجوب القضاء منه فإذا لم
تقبل شهادتها في حق نفسه قبلت فيما تضمنته لأنه حق لغيره ولأنه متهم في
إقراره لغيره لأنه قد يفعل ذلك ليخلص ماله ويعود إليه فتلحقه تهمة فلم تبطل
البينة بقوله وفيه وجه آخر يثبت الإقرار وتسقط البينة لأنها تشهد بالملك
لمن لا يدعيه وينكره
(11/409)
(القسم الثالث) أن يقول حبسني لأن البينة
شهدت علي لخصمي بحق ابتحث عن حال الشهود فهذا ينبني على أصل وهو أن الحاكم
هل له ذلك أولا؟ وفيه وجهان (أحدهما) ليس له ذلك لأن الحبس عذاب فلا يتوجه
عليه قبل ثبوت الحق عليه فعلى هذا لا يرده إلى الحبس أن صدقه خصمه في هذا
(والثاني) يجوز حبسه لأن المدعي قد أقام ما عليه وإنما بقي ما على الحاكم
من البحث ولأصحاب الشافعي وجهان كهذين يرده إلى الحبس حتى يكشف عن حال
شهوده وإن كذبه خصمه وقال بل عرف الحاكم عدالة شهودي وحكم عليه بالحق
فالقول قوله لأن الظاهر أن حبسه بحق (القسم الرابع) أن يقول حبسني الحاكم
بثمن كل أو قيمة خمر أرقته لذمي لأنه كان يرى ذلك فإن صدقه خصمه فذكر
القاضي أنه يطلقه لأن غرم هذا ليس بواجب وفيه وجه آخر أن الحاكم ينفذ حكم
الحاكم الأول لأنه ليس له نقض حكم غيره باجتهاده وفيه وجه ثالث أنه يتوقف
ويجتهد أن يصطلحا على شئ لأنه لا يمكنه فعل أحد الأمرين وللشافعي قولان
كالوجهين الآخرين فان كذه خصمه وقال بل حبست لحق واجب غير هذا فالقول قوله
لأن الظاهر حبسه لحق * (مسألة) * (وإن كان حبس في تهمة أو افتيات على
القاضي قبله خلى سبيله) لأن المقصود بحبسه التأديب وقد حصل)
(11/410)
* (مسألة) * (وإن لم يحضر له خصم فقال حبست
ظلما ولا حق علي ولا خصم نادى بذلك ثلاثا فإن حضر له خصم وإلا أحلفه وخلى
سبيله) لأن الظاهر أنه لو كان له خصم لظهر * (مسألة) * (ثم ينظر في أمر
المجانين واليتامى والوقوف) والنظر في ذلك بالنظر في أمر الأوصياء ونظار
الوقوف لأنهم يكونون ناظرين في أموال اليتامى والمجانين وتفرقة الوصية بين
المساكين لأن المنظور عليه إن كان من الأيتام والمجانين لم تمكنهم المطالبة
لأنهم لا قول لهم وإن كانوا مساكين لم يتعين الاخذ منهم فإذا قدم إليه
الوصي فإن كان الحاكم قبله نفذ وصيته لم يعزله لأن الحاكم ما نفذ وصيته إلا
بعد معرفته أهليته في الظاهر ولكن نراعيه فإن تغيرت حاله بفسق أو ضعف اضاف
إليه امينا قويا يعينه وإن كان الأول ما نفذ وصيته نظر فيه فإن كان أمينا
قويا أقره، وإن كان أمينا ضعيفا ضم إليه من يعينه، وإن كان فاسقاً عزله
وأقام غيره، وعلى قول الخرقي يضم اليه أمين ينظر عليه فإن كان قد تصرف أو
فرق الوصية وهو أهل الوصية نفذ تصرفه، فإن كان ليس بأهل وكان الموصى لهم
بالغين عاقلين معينين صح الدفع إليهم لأنهم قبضوا حقوقهم، وإن كانوا غير
معينين كالفقراء والمساكين ففيه وجهان (أحدهما) عليه الضمان ذكره القاضي
وأصحاب الشافعي لأنه ليس له التصرف (والثاني) لا ضمان عليه لأنه أوصله إلى
أهله، وكذلك إن فرق الوصية غير الموصى إليه بتفريقها فعلى الوجهين (فصل)
وينظر في أمناء الحاكم وهم من رد إليهم الحاكم النظر في أمر الأطفال وتفرقة
الوصايا
(11/411)
التي لم يتعين لها وصي فإن كانوا بحالهم
أقرهم لأن الذي قبله ولاهم، ومن تغير حاله عزله إن فسق، وإن ضعف ضم إليه
أميناً (فصل) ثم ينظر في أمر الضوال واللقطة التي يتولى الحاكم حفظها فإن
كانت مما يخاف تلفه كالحيوان أو في حفظه مؤنة كالأموال الحافية باعها وحفظ
ثمنها لأربابها، وإن لم تكن كذلك كالأثمان حفظها لأربابها ويكتب عليها
ليعرفها * (مسألة) * (ثم ينظر في حال القاضي قبله فإن كان ممن يصلح للقضاء
لم ينقض من أحكامه إلا
ما خالف نص كتاب أو سنه أو إجماعا) ولا يجب على الحاكم تتبع قضايا من كان
قبله لأن الظاهر صحتها وصوابها وأنه لا يتولى القضاء إلا من هو من أهل
الولاية فإن تتبعها نظر في الحاكم قبله فإن كان ممن يصلح للقضاء فما وافق
من أحكامه الصواب أو لم يخالف كتاباً ولا سنة ولا إجماعاً لم يجز نفضه، وإن
كان مخالفاً لأحد هذه الثلاثة وكان في حق الله تعالى كالعتاق والطلاق نقضه
لأن له النظر في حقوق الله تعالى، وإن كان يتعلق بحق آدمي لم ينقضه إلا
بمطالبة صاحبه لأن الحاكم لا يستوفي حقاً لمن لا ولاية عليه بغير مطالبته
فإن طلب صاحبه ذلك نقضه وبهذا قال الشافعي وزاد إذا خالف قياساً جلياً نقضه
وعن مالك وابي حنيفة أنهما قالا لا ينقض الحكم إلا إذا خالف الإجماع ثم
ناقضا قولهما فقال مالك إذا حكم بالشفعة للجار نقض حكمه، وقال أبو حنيفة
اذا حكم ببيع متروك التسمية أو حكم بين العبيد بالقرعة نقض حكمه، وقال محمد
بن الحسن إذا حكم بالشاهد واليمين نقض حكمه وهذه
(11/412)
مسائل خلاف موافقة للسنة، واحتجوا على أنه
لا ينقض ما لم يخالف الإجماع بأنه يسوع فيه الخلاف فلم ينقض حكمه كما لا نص
فيه وحكي عن أبي داود انه ينقض جميع ما بان له خطؤه لأن عمر رضي الله عنه
كتب إلى أبي موسى لا يمنعك قضاء قضيته بالأمس ثم راجعت نفسك فيه اليوم
فهديت لرشدك أن تراجع فيه الحق فإن الرجوع إلى الحق خير من التمادي في
الباطل ولأنه خطأ فوجب الرجوع عنه كما لو خالف الإجماع، وحكي عن مالك أنه
وافقهما في قضاء نفسه ولنا على نقضه إذا خالف نصاً أو إجماعاً أنه قضاء لم
يصادف شرطه فوجب نقضه كما لو خالف الإجماع وبيان مخالفته للشرط.
إن شرط الحكم بالاجتهاد عدم النص بدليل خبر معاذ، ولأنه إذا ترك الكتاب
والسنة فقد فرط فوجب نقض حكمه كما لو خالف الإجماع أو كما لو حكم بشهادة
كافرين وما قالوه يبطل بما حكيناه عنهم فإن قيل إذا صلى بالاجتهاد إلى جهة
ثم بان له الخطأ لم يعد قلنا القرق بينهما من ثلاثة أوجه
(أحدها) أن استقبال القبلة يسقط حال العذر في حال المسايفة، والخوف من عدو
أو سبع أو نحو مع العلم ولا يجوز له ترك الحق إلى غيره مع العلم بحال
الثاني إن الصلاة من حقوق الله تعالى تدخلها المسامحة (الثالث) أن القبلة
يتكرر فيها الإشتباه فيشق القضاء وههنا إذا بان له الخطاء لا يعود الاشتباه
بعد ذلك.
وأما إذا تغير اجتهاده من غير أن يخالف نصاً ولا إجماعاً أو خالف اجتهاده
اجتهاد من قبله لم ينقضه لمخالفته لأن الصحابة رضي الله عنهم أجمعوا على
ذلك فإن ابا بكر حكم في مسائل
(11/413)
باجتهاده وخالفه عمر فلم ينقض أحكامه وعلي
خالف عمر في اجتهاده فلم ينقض أحكامه وخالفهما علي فلم ينقض أحكامهما فإن
ابا بكر سوى بين الناس في العطاء وأعطى العبيد وخالفه عمر ففاضل بين الناس
وخالفهما علي فسوى بين الناس وحرم العبيد ولم ينقض أحد منهم ما فعله من
قبله وجاء أهل نجران إلى علي فقالوا يا أمير المؤمنين كتابك بيدك وشفاعتك
بلسانك فقال ويحكم إن عمر كان رشيد الأمر ولن ارد قضاء قضى به عمر رواه
سعيد وروي ان عمر حكم في المشركة بإسقاط الأخوة من الأبوين ثم شكر بينهم
بعد وقال تلك على ما قضينا هذه على ما قضينا، وقضى في الجد بقضايا مختلفة،
ولم يرد الأولى ولأنه يؤدي إلى نقض الحكم بمثله وهذا يؤدي إلى أن لا يثبت
الحكم أصلاً لأن الحكم الثاني يخالف الذي قبله والثالث يخالف الثاني فلا
يثبت الحكم فإن قيل فقد روي أن شريحاً حكم في ابني عم أحدهما أخ للأم أن
المال للأخ فرفع ذلك إلى علي رضي الله عنه فقال: علي بالعبد فجئ به فقال في
أي كتاب الله وجدت ذلك؟ فقال قال الله تعالى (وألو الأرحام بعضهم أولى ببعض
في كتاب الله) فقال له علي قد قال الله تعالى (وإن كان رجل يورث كلالة أو
امرأة وله أخ أو أخت فلكل واحد منهما السدس) ونقض حكمه قلنا لم يثبت عندنا
أن علياً نقض حكمه ولو ثبت فيحتمل أن يكون على اعتقاد أنه خالف نص الكتاب
في الآية التي ذكرها فنقض حكمه لذلك (فصل) إذا تغير اجتهاده قبل الحكم فإنه
يحكم بما تغير اجتهاده إليه ولا يجوز أن يحكم بإجتهاده الأول
(11/414)
لأنه إذا حكم به فقد حكم بما يعتقد أنه
باطل وهذا كما قلنا فيمن تغير اجتهاده في القبلة بعدما صلى لا يعيد وإن كان
قبل أن يصلي صلى إلى الجهة التي تغير اجتهاده إليها وكذلك إذا بان فسق
الشهود قبل الحكم بشهادتهم لم يحكم بها ولو بان بعد الحكم لم ينقضه *
(مسألة) * (وإن كان ممن لا يصلح نقض أحكامه وإن وافقت الصحيح ويحتمل أن لا
ينقض الصواب منها) أما إذا كان القاضي قبله لا يصلح للقضاء نقض قضاياه كلها
ما أخطأ فيها وما أصاب ذكره أبو الخطاب وهو مذهب الشافعي لأن وجود قضائه
كعدمه، قال شيخنا تنقض قضاياه المخالفة للصواب كلها سواء كانت مما يسوغ فيه
الاجتهاد أو لا يسوغ لأن حكمه غير صحيح وقضاؤه كلا قضاء لعدم شرط القضاء
فيه وليس في نقض قضاياه نقض الاجتهاد بالاجتهاد، لأن الأول ليس باجتهاد ولا
ينقض ما وافق الصواب لعدم الفائدة في نقضه فإن الحق وصل إلى مستحقه ولو وصل
الحق إلى مستحقه بطريق القهر من غير حكم لم يغير ذلك فكذلك إذا كان بقضاء
وجوده كعدمه * (مسألة) * (وإن استعداه أحد على خصم له أحضره وعنه لا يحضره
حتى يعلم أن لما ادعاه أصلا) هذه المسألة فيها روايتان (إحداهما) أنه يلزم
القاضي أن يعديه ويستدعي خصمه سواء عما بينهما معاملة أو لم يعلم وسواء كان
المستعدي ممن يعامل المستعدى عليه أو لا يعامله كالفقير يدعي على ذي ثروة
وهيئة نص على هذا في رواية الأثرم في الرجل يستعدي على الحاكم أنه يحضره
ويستحلفه، وهذا اختيار أبي بكر ومذهب
(11/415)
أبي حنيفة والشافعي لأن في تركه تضييعاً
للحقوق وإقراراً للظلم فإنه قد يثبت له الحق على من هو أرفع منه بغصب أو
يشتري منه شيئاً ولا يوفيه أو يودعه شيئاً أو يعيره إياه فلا يرده ولا تعلم
بينهما معاملة فإذا لم يعد عليه سقط حقه وهذا أعظم ضرراً من حضور مجلس
الحاكم فإنه لا يقبضه وقد حضر عمر وأبي عند زيد وحضر هو وآخر عند شريح وحضر
المنصور عند رجل من ولد طلحة بن عبيد الله (والثانية) لا يستعديه إلا أن
تعلم بينهما معاملة ويبين أن لما أعاده أصلا روى ذلك عن علي رضي الله عنه
هو مذهب مالك لأن في أعدائه على كل احد بتذيل أهل المروءات وإهانة ذوى
الهيآت فإنه
لا يشاء أحد أن يتبذلهم عند الحاكم إلا فعل وربما فعل هذا من لا حق له
ليفتدي المدعى عليه من حضوره وشر خصمه بطائفة من ماله والأولى أولى لأن ضرر
تضييع الحق أعظم من هذا وللمستعدى عليه أن يوكل من يقوم مقامه إن كره
الحضور.
* (مسألة) * (وإن استعداه على القاضي قبله سأله عما يدعيه فإن قال لي عليه
دين من معاملة أو رشوة راسلة بذلك، فإن اعترف أمره بالخروج منه وإن أنكر
وقال إنما يريد تبذيلي فإن عرف أن لما ادعاه أصلاً أحضره وإلا فهل يحضره؟
على روايتين) وجملة ذلك أنه إذا استعدي على الحاكم المعزول لم يعده حتى
يعرف ما يدعيه فيسأله عنه صيانة للقاضي عن الامتهان فإن ذكر أنه يدعي عليه
حقاً من دين أو غصب اعداه عليه وحكم بينهما كغير القاضي وكذلك إن ادعى أنه
أخذ منه رشوة على الحكم لأن أخذ الرشوة عليه لا يجوز فهي كالغصب وإن ادعى
عليه الجور في الحكم وكان المدعي بينة أحضره وحكم بالبينة وإن لم تكن معه
بينة ففيه
(11/416)
وجهان (أحدهما) لا يحضره لأن في إحضاره
وسؤاله امتهاناً له وأعداء القاضي كثير وإذا فعل هذا معه لم يؤمن أن لا
يدخل في القضاء أحد خوفاً من عاقبته (والثاني) يحضره لجواز أن يعترف فإن
حضر واعترف حكم عليه وإن أنكر فالقول قوله من غير يمين لأن قول القاضي
مقبول بعد العزل كما تقبل ولايته، وإن ادعى عليه أنه قتل ابنه ظلماً فهل
يستحضره من غير بينة؟ فيه وجهان فإن أحضره فاعترف حكم عليه وإلا فالقول
قوله، وإن ادعى أنه أخرج عيناً من يده بغير حق فالقول قول الحاكم من غير
يمين ويقبل قوله للمحكوم له على ما سنذكره إن شاء الله تعالى.
* (مسألة) * (وإن قال حكم علي بشهادة فاسقين فالقول قوله بغير يمين) لأن
القول قوله في حكمه فلو قال حكمت على فلان بكذا قبل قوله بغير يمين فكذا في
هذه المسألة لأنه شاهد على فعل نفسه أشبه المرضعة إذا شهدت بالرضاع لم
يلزمها يمين وكذلك القاسم إذا شهد بالقسمة لأن الشاهد لا يمين عليه.
* (مسألة) * (وإن قال الحاكم المعزول كنت حكمت في ولايتي لفلان على لفلان
بحق قبل قوله
وبه قال إسحاق ويحتمل أن لا يقبل قوله) .
ذكره أبو الخطاب قال شيخنا وقول القاضي في فروع هذه المسألة يقتضي أن لا
يقبل قوله ههنا وهو قول أكثر الفقهاء لأن من لا يملك الحكم لا يملك الإقرار
به كمن أقر بعتق عبد بعد بيعه، ثم اختلفوا فقال الأوزاعي وابن أبي ليلى هو
بمنزلة الشاهد إذا كان معه شاهد آخر قبل
(11/417)
وقال أصحاب الرأي لا يقبل إلا شاهدان سواه
يشهدان بذلك، وهو ظاهر مذهب الشافعي لأن شهادته على نفسه لا تقبل.
ولنا أنه لو كتب إلى غيره ثم عزل ووصل الكتاب بعد عزله لزم المكتوب إليه
قبول كتابه فكذلك هذا ولأنه أخبر بما حكم به وهو غير متهم فيجب قبوله كحال
ولايته.
(فصل) فأما إن قال في ولايته كنت حكمت لفلان بكذا قبل قوله سواء قال قضيت
عليه بشاهدين عدلين أو قال سمعت بينته وعرفت عدالتهم أو قال قضيت عليه
بنكوله أو قال أقر فلان عندي لفلان بحق فحكمت به، وبهذا قال أبو حنيفة
والشافعي وأبو يوسف، وحكي عن محمد بن الحسن أنه لا يقبل حتى يشهد معه رجل
عدل، لأنه إخبار بحق على غيره فلم يقبل فيه قول واحد كالشهادة.
ولنا أنه يملك الحكم فملك الإقرار به كالزوج إذا أخبر بالطلاق والسيد إذا
أخبر بالعتق ولأنه لو أخبر أنه رأى كذا وكذا فحكم به قبل كذا ههنا وفارق
الشهادة فإن الشاهد لا يملك إثبات ما أخبر به فأما إن قال حكمت بعلمي أو
بالنكول أو بشاهدين ويمين في الأموال فإنه يقبل أيضاً وقال الشافعي لا يقبل
قوله في القضاء بالنكول وينبني قوله حكمت عليه بعلمي على القولين في جواز
القضاء بعلمه لأنه لا يملك الحكم بذلك فلا يملك الإقرار به.
ولنا أنه أخبر بحكمه فيما لو حكم به لنفذ حكمه فوجب قبوله كالصور التي
تقدمت ولأنه حاكم أخبر يحكمه في ولايته فوجب قبوله كالذي سلمه ولأن الحاكم
إذا حكم في مسألة يسوغ فيها الاجتهاد لم يسغ
(11/418)
نقض حكمه ولزم غيره امضاؤه والعمل به فصار
بمنزلة الحكم بالبينة العادة ولا نسلم ما ذكره وإن قال حكمت لفلان على فلان
بكذا ولم يضف حكمه إلى بينة ولا غيرها وجب قبوله وهو ظاهر ما ذكره شيخنا في
الكتاب المشروع وظاهر قول الخرقي لأنه لم يذكر ما ثبت به الحكم وذلك لأن
الحاكم متى ما حكم بحكم يسوغ فيه الاجتهاد وجب قبوله وصار بمنزلة ما اجتمع
عليه.
(فصل) فإن أخبر القاضي بحكمه في غير موضع ولايته قبل وهو ظاهر كلام الخرقي
لأنه إذا قبل قوله بحكمه بعد العزل وزوال ولايته بالكلية فلأن يقبل مع
بقائها في غير موضع ولايته أولى وقال القاضي لا يقبل قوله وقال لو اجتمع
قاضيان في غير ولايتهما كقاضي دمشق وقاضي مصر اجتمعا في بيت المقدس فأخبر
أحدهما الآخر بحكم حكم به أو شهادة ثبتت عنده لم يقبل أحدهما قول صاحبه
ويكونان كشاهدين أخبر أحدهما صاحبه بما عنده وليس له أن يحكم به إذا رجع
إلى عمله لأنه خبر من ليس بقاض في موضعه، وإن كانا جميعاً في عمل أحدهما
كأنهما اجتمعا في دمشق فإن قاضي دمشق لا يعمل بما يخبره به قاضي مصر لأنه
يخبره في غير عمله وهل يعمل قاضي مصر بما أخبره به قاضي دمشق إذا رجع إلى
مصر؟ فيه وجهان بناء على القاضي هل له أن يحكم بعلمه؟ على روايتين لأن قاضي
دمشق اخبره به في عمله ومذهب الشافعي في هذا كقول القاضي ههنا.
* (مسألة) * (فإن ادعى على أمراة غير برزة لم يحضرها وامرها بالتوكيل فإن
وجبت عليها اليمين أرسل إليها من يحلفها) .
إذا كان المدعى عليه امرأة فإن كانت برزة وهي التي تبرز لقضاء حوائجها امرت
بالتوكيل فإن
(11/419)
توجهت اليمين عليها بعث الحاكم أميناً معه
شاهدان فيستحلفها بحضرتهما، فإن أقرت شهدا عليها، وذكر القاضي أن الحاكم
يبعث من يقضي بينها وبين خصمها في دارها وهو مذهب الشافعي لأن النبي صلى
الله عليه وسلم قال " واغد يا أنيس الى امرأة هذا فان اعترفت فارجمها "
فبعث إليها ولم يستدعها، وإن أحضروا عندها كان بينهم وبينها ستر تتكلم من
ورائه فإن اعترفت للمدعي أنها خصمه حكم بينهما وإن أنكرت ذلك جئ بشاهدين من
ذوي رحمها يشهدان أنها المدعى عليها
ثم يحكم بينهما وإن لم تكن بينة التحفت بجلبابها وأخرجت من وراء الستر
لموضع الحاجة وما ذكرناه أولى إن شاء الله لأنه أستر لها وإذا كانت خفرة
منعها الحياء من النطق بحجتها والتعبير عن نفسها سيما مع جهلها بالحجة وقلة
معرفتها بالشرع وحججه * (مسألة) * (وإن ادعى على غائب عن البلد في موضع لا
حاكم فيه كتب إلى ثقات من أهل ذلك البلد ليتوسطوا بينهما فإن لم يقبلوا قيل
للخصم حقق ما تدعيه ثم يحضره وإن بعدت المسافة) إذا استعدى على غائب وكان
الغائب في غير ولاية القاضي لم يكن له أن يعدي عليه فإن كان في ولايتة وله
في بلده خليفة فإن كانت له بينة ثبت الحق عنده وكتب إلى خليفته ولم يحضره
وإن لم تكن بينة حاضرة نفذ إلى خصمه ليحاكمه عند خليفته وإن لم يكن له فيه
خليفة وكان فيه من يصلح للقضاء قيل له حرر دعواك لأنه يجوز أن يكون ما
يدعيه ليس بحق عنده كالشفعة للجار وقيمة الكلب أو خمر الذمي فلا يكلف
الحضور لما لا يقضي عليه به مع المشقة فيه بخلاف الحاضر فإنه لا مشقة في
(11/420)
حضوره فإذا تحررت بعث فأحضر خصمه بعدت
المسافة أو قربت وبهذا قال الشافعي وقال أبو يوسف إن كان يمكنه أن يحضر
ويعود فيأوي إلى موضعه أحضره وإلا لم يحضره ويوجه من يحكم بينهما، وقيل إن
كانت المسافة دون مسافة القصر أحضره وإلا فلا ولنا أنه لابد من فصل الخصومة
بين المتخاصمين فإذا لم تمكن إلا بمشقة فعل ذلك كما لو امتنع من الحضور
فإنه يؤدب ولأن الحاق المشقة به أولى من إلحاقها بمن ينفذه الحاكم ليحكم
بينهما وإن كانت امراة برزة لم يشترط في سفره هذا محرم نص عليه أحمد لأنه
حق آدمي وحق الآدمي مبني على الشح والضيق (باب طريق الحكم وصفته) إذا جلس
إليه خصمان فله أن يقول من المدعي منكما؟ وله أن يسكت حتى يبتدئا ويستحب أن
يجلس الخصمان بين يدي الحاكم لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى أن
يجلس الخصمان بين يدي الحاكم رواه أبو داود وروى سعيد بإسناده عن الشعبي
قال كان بين عمر بن الخطاب وأبي بن كعب مداراة
في شئ فجعلا بينهما زيد بن ثابت فاتياه في منزله فقال له عمر أتيناك لتحكم
بيننا في بينة تؤتي الحكم فوسع له زيد عن صدر فراشه فقال ههنا يا أمير
المؤمنين فقال له عمر جرت في أول القضاء لكن أجلس مع خصمي فجلسا بين يديه
فادعى أبي فأنكر عمر فقال زيد لأبي أعف أمير المؤمنين
(11/421)
من اليمين فحلف عمر ثم أقسم لا يدرك زيد
باب القضاء حتى يكون عمر ورجل من عرض المسلمين عنده سواء وقال علي رضي الله
عنه حين خاصم اليهودي على درعه إلى شريح لو أن خصمي مسلم لجلست معه بين
يديك ولأن ذلك أمكن للحاكم في العدل بينهما والإقبال عليهما والنظر في
خصومتهما (فصل) فإذا جلسا بين يديه فإن شاء قال من المدعي منكما؟ لأنهما
حضرا لذلك، وإن شاء سكت ويقول القائم على رأسه من المدعي منكما؟ إن سكتا
جميعا ولا يقول الحاكم ولا صاحبه لأحدهما تكلم لأن في إفراده بذلك تفضيلاً
له وتركا للانصاف قال عمرو بن قيس شهدت شريحا إذا جلس إليه الخصمان ورجل
قائم على رأسه يقول أيكما المدعي فليتكلم؟ فإن ذهب الآخر يشغب نهره حتى
يفرغ المدعي ثم يقول تكلم فإن بدأ أحدهما فادعى فقال خصمه أنا المدعي لم
يلفت إليه وقال أجب عن دعواه ثم ادع بما شئت فإن ادعيا معاً فقياس المذهب
أن يقرع بينهما وهو قياس قول الشافعي لأن أحدهما ليس بأولى من الآخر وقد
تعذر الجمع بينهما فيقرع بينهما كالمرأتين إذا زفتا في ليلة واحدة واستحسن
ابن المنذر أن يسمع منهما جميعا وقيل يرجئ أمرهما حتى يتبين من المدعي
منها؟ وما ذكرناه أولى لأنه لا يمكن الجمع بين الحكم في القضيتين معاً
وارجاء أمرهما إضرار بهما وفيما ذكرناه دفع للضرر بحسب الإمكان وله نظير في
مواضع من الشرع فكان أولى * (مسألة) * (ثم يقول للخصم ما تقول فيما ادعاه)
لأن شاهد الحال يدل على طلب المطالبة لأن إحضاره والدعوى إنما يراد ليسأل
الحاكم المدعى عليه فقد أغنى ذلك عن سؤاله ويحتمل ألا يملك سؤاله عن ذلك
لأنه حق المدعي فلا يتصرف فيه بغير إذنه كالحكم له * (مسألة) * (وإن أقر لم
يحكم له حتى يطالبه المدعي بالحكم) إذا أقر المدعي عليه لزمه ما ادعي عليه
وليس للحاكم أن يحكم عليه إلا بمسألة المقر له لأن الحكم
(11/422)
عليه حق له فلا يستوفيه إلا بمسألة مستحقة
هكذا ذكره أصحابنا قال شيخنا: ويحتمل أن يجوز له الحكم قبل مسألة المدعي
لأن الحال تدل على إرادته ذلك فاكتفى بها كما اكتفى في مسألة المدعى عليه
الجواب ولأن كثيراً من الناس لا يعرف مطالبة الحاكم بذلك فيترك مطالبته به
لجهله فيضيع حقه فعلى هذا يجوز له الحكم قبل مسألته، وعلى القول الأول أن
سأله الخصم الحكم له حكم على المقر والحكم أن يقول ألزمتك ذلك أو قضيت عليك
له أو يقول اخرج إليه منه فمتى قال له أحد هذه الثلاثة كان حكما بالحق *
(مسألة) * (وإن أنكر مثل أن يقول المدعي أقرضته ألفاً أو بعته فيقول ما
أقرضني ولا باعني أو ما يستحق على ما ادعاه ولا شيئاً منه أو لا حق له علي
صح الجواب) * (مسألة) * (وللمدعي أن يقول لي بينة؟ وهذا موضع البينة فإن لم
يقل قال الحاكم ألك بينة؟ لما روى أن رجلين اختصما إلى النبي صلى الله عليه
وسلم حضرمي وكندي فقال الحضرمي يا رسول الله إن هذا غلبني على أرض لي فقال
الكندي هي أرضي في يدي ليس له فيها حق فقال النبي صلى الله عليه وسلم
للحضرمي " ألك بينة؟ - قال لا قال - فلك يمينه " وهو حديث حسن صحيح وإن كان
المدعي عارفاً بأنه موضع البينة فالحاكم مخير بين أن يقول ألك بينة؟ وبين
أن يسكت فإذا قال لي بينة حاضرة أمره بإحضارها ذكره شيخنا في الكتاب
المشروح وذكر في كتاب المغني أن المدعي إذا قال لي بينة لم يقل له الحاكم
أحضرها لأن ذلك حق له فله أن يفعل ما يرى فإذا أحضرها لم يسألها الحاكم عما
عندها حتى يسأله المدعي ذلك لأنه حق له فلا يتصرف فيه
(11/423)
من غير إذنه فإذا سأله المدعي سؤالها قال
من كانت عنده شهادة فليذكر إن شاء ولا يقول لهما اشهدا لأنه أمر وكان شريح
يقول للشاهدين ما أنا دعوتكما ولا أنهاكما أن ترجعا وما يقضي على هذا
المسلم غيركما وإني بكما أقضي اليوم وبكما أتقي يوم القيامة * (مسألة) *
(وإذا سمع الحاكم الشهادة وكانت صحيحة حكم بها إذا سأله المدعي)
فيقول للمدعي عليه قد شهدا عليك فإن كان عندك ما يقدح في شهادتهم فبينه
عندي فإن لم يظهر ما يقدح فيهما حكم عليه إذا سأل الحاكم لأن الحكم بالبينة
حق له فلا يستوفيه إلا بمسألة مستحقة * (مسألة) * (ولا خلاف في أنه يجوز له
الحكم بالإقرار والبينة في مجلسه إذا سمعه معه شاهدان فإن لم يسمعه معه أحد
أو سمعه معه شاهد واحد فله الحكم نص عليه) لأن الإقرار أحد البيتين فجاز
الحكم به في مجلسه كالشهادة وقال القاضي لا يحكم به حتى يسمعه معه شاهدان
لأنه إذا لم يسمعه معه أحد كان حكما بعلمه * (مسألة) * (وليس له الحكم
بعلمه فيما رآه أو سمعه في غير مجلسه نص عليه وهو اختيار الأصحاب وعنه ما
يدل على جواز ذلك سواء كان في حد أو غيره) ظاهر المذهب أن الحاكم لا يحكم
بعلمه في حد ولا غيره وسواء في ذلك ما علمه قبل الولاية أو بعدها وهذا قول
شريح والشعبي ومالك وأسحاق وأبي عبيد ومحمد بن الحسن وهو أحد قولي الشافعي
وعن أحمد رواية أخرى يجوز له ذلك وهو قول أبي يوسف وأبي ثور وهو القول
للشافعي واختيار المزني لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما قالت له هند أن
أبا سفيان رجل شحيح لا يعطيني من
(11/424)
النفقة ما يكفيني وولدي قال " خذي ما يكفيك
وولدك بالمعروف " فحكم لها من غير بينة ولا إقرار لعلمه بصدقها وروى ابن
عبد البر في كتابه إن عروة ومجاهد رويا أن رجلا من بني مخزوم استعدى عمر
ابن الخطاب على أبي سفيان بن حرب أنه ظلمه حداً في موضع كذا وكذا فقال عمر
إني لأعلم الناس بذلك وربما لعبت أنا وأنت فيه ونحن غلمان فاتي بأبي سفيان
فأتاه به فقال عمر يا أبا سفيان انهض بنا إلى موضع كذا وكذا فنهضوا ونظر
عمر فقال يا أبا سفيان خذ هذا الحجر من ههنا فضعه ههنا فقال والله لا أفعل
فقال والله لتفعلن فقال والله لا أفعل فعلاه بالدرة وقال خذه لا أم لك فضعه
ههنا فإنك ما علمت قدم الظلم فأخذ أبو سفيان الحجر فوضعه حيث قال عمر ثم أن
عمر استقبل القبلة فقال اللهم لك الحمد حيث لم تمتني حتى غلبت أبا سفيان
على رأيه وأذللته لي بالإسلام فاستقبل القبلة أبو سفيان وقال اللهم لك
الحمد حيث لم تمتني حتى جعلت في قلبي من الإسلام ما أذل به لعمر قال فحكم
بعلمه ولأن
الحاكم يحكم بالشاهدين لأنهما يغلبان على الظن فما تحققه وقطع به كان أولى
ولأنه يحكم في تعديل الشهود وجرحهم فكذلك في ثبوت الحق قياساً عليه وقال
أبو حنيفة ما كان من حقوق الله تعالى لا يحكم فيه بعلمه لأن حقوق الله
تعالى مبينة على المساهلة والمسامحة وأما حقوق الآدميين فما علمه قبل
ولايته لم يحكم به، وما علمه في ولايته حكم به لأن ما علمه قبل ولايته
بمنزلة ما سمعه من الشهود قبل ولايته، وما علمه في ولايته بمنزلة ما سمعه
من الشهود في ولايته ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " إنما أنا بشر
وإنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو
ما أسمع منه " فدل على أنه لم يقضي بما يسمع لا بما يعلم وقال النبي
(11/425)
صلى الله عليه وسلم في قضية الحضرمي
والكندي " شاهداك أو يمينه ليس لك منه إلا ذاك " وروي عن عمر رضي الله عنه
أنه تداعى عنده رجلان فقال له احدهما انت شاهدي فقال أن شئتما شهدت ولم
أحكم أو أحكم ولا أشهد وذكر ابن عبد البر عن عائشة رضي الله عنها أن النبي
صلى الله عليه وسلم بعث أبا جهم على على الصدقة فلاحاه رجل في فريضة فوقع
بينهما شجاج فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فأعطاهم الأرش ثم قال " إني
خاطب الناس ومخبرهم أنكم قد رضيتم أرضيتم؟ قالوا نعم فصعد رسول الله صلى
الله عليه وسلم وذكر القصة وقال - أرضيتم؟ - قالوا لا وهم بهم المهاجرون
فنزل النبي صلى الله عليه وسلم فأعطاهم ثم صعد فخطب الناس فقال - أرضيتم؟ "
قالوا نعم وهذا يبين أنه لم يأخذ بعلمه وروي عن أبي بكر رضي الله عنه قال
لو رأيت حداً على رجل لم آخذه حتى تقوم البينة ولأن تجويز القضاء بعلمه
يفضي إلى تهمته والحكم بما اشتهى ويحيله على علمه فأما حديث أبي سفيان فلا
حجة فيه لأنه فتيا لا حكم بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم أفتى في حكم
أبي سفيان من غير حضوره ولو كان حكما عليه لم يحكم عليه في غيبته وحديث عمر
الذي رووه كان إنكارا لمنكر رآه لا حكم بدليل أنه ما وجدت منهم دعوى ولا
إنكار بشروطهما ودليل ذلك ما رويناه عنه ثم لو كان حكما كان معارضاً بما
رويناه عنه ويفارق الحكم بالشهادة فإنه لا يفضي إلى تهمة بخلاف مسئلتنا،
وأما الجرج والتعديل فإنه يحكم فيه بعلمه بغير خلاف لأنه لو لم يحكم فيه
بعلمه لتسلسل فإن المزكيين يحتاج إلى معرفة عدالتهما وجرحهما فإذا لم يعمل
بعلمه احتاج كل واحد منهما إلى
مزكيين ثم كل واحد منهما يحتاج إلى مزكيين فيتسلسل وما نحن فيه بخلافه *
(مسألة) * (وإن قال المدعي مالي بينة فالقول قول المنكر مع يمينه فيعلمه أن
له اليمين على خصمه فإن سأله إحلافه أحلفه)
(11/426)
لأن الحق له فإذا أحلفه خلى سبيله وليس له
استحلافه قبل مسألة المدعي لأن اليمين حق له فلم يجز استيفاؤها قبل مطالبة
مستحقها كنفس الحق وسقطت الدعوى لما روى وائل بن حجر أن رجلا من حضرموت
ورجلاً من كندة أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال الحضرمي إن هذا
غلبني على أرض لي ورثتها من أبي وقال الكندي أرضي وفي يدي لا حق له فيها
فقال النبي صلى الله عليه وسلم " شاهداك أو يمينه " قال إنه لا يتورع من شئ
قال " ليس لك إلا ذلك " رواه مسلم بمعناه * (مسألة) * (وإن أحلفه أو حلف من
غير سؤال المدعي لم يعتد بيمينه) لأنه أتي بها في غير وقتها فإن سألها
المدعي أعادها له لأن الأولى لم تكن يمينه وإن أمسك المدعي عن إحلاف خصمه
الدعي عليه ثم اراد إحلافه بالدعوى المتقدمة جاز لأنه لم يسقط حقه منها
وإنما أخرها وإن قال أبرأتك من هذه اليمين سقط حقه منها في هذه الدعوى أوله
أن يستأنف الدعوى لأن حقه لا يسقط بالإبراء من اليمين وإن استأنف الدعوى
وأنكر المدعى عليه فله أن يحلفه لأن هذه الدعوى غير الدعوى التي أبرأه بها
من اليمين فإن حلف سقطت الدعوى ولم يكن للمدعي أن يحلفه يمينا أخرى لا في
هذا المجلس ولا في غيره * (مسألة) * (وإن نكل قضي عليه بالنكول) نص عليه
واختاره عامة شيوخنا فيقول له أن حلفت وإلا قضيت عليك ثلاثاً فإن لم يحلف
قضى عليه إذا سأل المدعي ذلك لما روى أحمد أن ابن عمر باع زيد بن ثابت
عبداً فادعى عليه زيد انه باعه إياه عالما بعيبه فأنكره ابن عمر فتحاكما
إلى عثمان رضي الله عنه فقال عثمان احلف بانك ما علمت به عيباً فأبى ابن
عمر أن يحلف فرد عليه العبد ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال " اليمين
على المدعي عليه "
(11/427)
فحصرها في جنبته فلم تشرع لغيره وهذا مذهب
أبي حنيفة واختار أبو الخطاب أنه لا يحكم بالنكول ولكن يرد اليمين على خصمه
وقال قد صوبه أحمد وقال ما هو ببعيد يحلف ويستحق فيقول الحاكم لخصمه لك رد
اليمين على المدعي فإن ردها حلف المدعي وحكم له لما روى ابن عمر أن النبي
صلى الله عليه وسلم رد اليمين على صاحب الحق رواه الدارقطني وروي أن
المقداد اقترض من عثمان مالا فقال عثمان هو سبعة آلاف وقال المقداد هو
أربعة آلاف فقال المقداد لعثمان احلف أنه سبعة آلاف فقال له عمر انصفك فإن
حلف حكم له * (مسألة) * (فإن نكل أيضاً صرفهما) إذا نكل المدعي سئل عن سبب
نكوله لأنه لا يجب بنكوله لغيره حق بخلاف المدعى عليه فإن قال امتنعت لأن
لي بينة أقيمها أو حساباً أنظر فيه فهو على حقه من اليمين ولا يضيق عليه في
اليمين لأنه لا يتأخر بتركه إلا حقه بخلاف المدعى عليه وإن قال لا أريد أن
أحلف فهونا كل فإن عاد أحدهما فبذل اليمين لم يسمعها في ذلك المجلس لأنه
اسقط حقه منها حتى يحتكما في مجلس آخر فإذا استأنف الدعوى أعيد الحكم
بينهما كالأول * (مسألة) * (وإن قال المدعي لي بينة بعد قوله مالي ببينة لم
يسمع ذكره الخرقي) لأنه أكذب بينته لكونه أقر أنه لا يشهد له أحد فإن شهد
له إنسان كان تكذيباً له ويحتمل أن يقبل لأنه يجوز أن ينسى ويكون الشاهدان
سمعا منه وصاحب الحق لا يعلمه فلا يثبت ذلك أنه كذب نفسه * (مسألة) * (وإن
قال لا أعلم لي بينة ثم قال علمت لي بينة سمعت) لأنه يجوز أن تكون له بينة
لم يعلمها ثم علمها
(11/428)
* (مسألة) * (وإن قال شاهدان نحن نشهد لك
فقال هذان بينتي سمعت) قاله أبو الخطاب لما ذكرنا * (مسألة) * (وإن قال ما
أريد أن تشهد الي لم يكلف إقامة البينة) لأنه أسقط حقه منها * (مسألة) *
(وإن قال لي بينة وأريد يمينه فإن كانت غائبة فله إحلافه وإن كانت حاضرة
فهل له ذلك؟ على وجهين)
إذا قال المدعي لي بينة غائبة قال الحاكم لك يمينه فإن شئت فاستحلفه وإن
شئت أخرته إلى أن تحضر بينتك وليس لك مطالبته بكفيل ولا ملازمته حتى تحضر
البينة نص عليه أحمد وهو مذهب الشافعي لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم "
شاهداك أو يمينه ليس لك إلا ذلك " فإن أحلفه ثم حضرت بينته حكم بها ولم تكن
اليمين مزيلة للحق لأن اليمين إنما يصار إليها عند عدم البينة فادا وجدت
البينة بطلت اليمين وتبين كذبها، فإن قال لي بينة حاضرة وأريد يمينه ثم
أقيم بينتي لم يملك ذلك في أحد الوجهين وفي الآخر له إحلافه وهو قول أبي
يوسف كما لو كانت البينة غائبة ولنا قوله عليه الصلاة والسلام " شاهداك أو
يمينه ليس لك إلا ذلك " وأو للتخيير بين شيئين فلا يكون الجمع بينهما لأنه
أمكن فصل الخصومة بالبينة فلم يشرع غيرها معها مع إرادة المدعي إقامتها
وحضورها كما لو يطلب يمينه ولأن اليمين بدل فلم يجب الجمع بينها وبين
مبدلها كسائر الأبدال مع مبدلاتها وإن قال المدعي لا أريد إقامتها وإنما
أريد يمينه اكتفي بها واستحلف لأن البينة حقه فإذا رضي بإسقاطها وترك
إقامتها فله ذلك كنفس الحق فإن حلف المدعى عليه ثم أراد المدعي إقامة
(11/429)
بينة لم يملك ذلك في أحد الوجهين لأنه قد
اسقط حقه من إقامتها ولأن تجويز إقامتها يفتح باب الحيلة لأنه يقول لا أريد
إقامتها ليحلف خصمه ثم يقيمها (والثاني) له ذلك لأن البينة لا تبطل
بالاستحلاف كما لو كانت غائبة فإن كان له شاهد واحد في المال عرفه الحاكم
أن له أن يحلف مع شاهده ويستحق فإن قال لا أحلف أنا وأرضى بيمينه استحلف
فإذا حلف سقط الحق عنه فإن عاد المدعي بعدها وقال أنا أحلف مع شاهدي لم
يستحلف ولم يسمع منه ذكره القاضي وهو مذهب الشافعي لأن اليمين فعله وهو
قادر عليها فأمكنه أن يسقطها بخلاف البينة وإن عاد قبل أن يحلف المدعي عليه
فبذل اليمين لم يكن له ذلك في هذا المجلس وكل موضع قلنا يستحلف المدعى عليه
فإن الحاكم يقول له أن حلفت وإلا جعلتك ناكلاً وقضيت عليك ثلاثاً فإن حلف
وإلا حكم عليه بنكوله إذا سأله المدعي ذلك * (مسألة) * (فإن سكت عن جواب
المدعي فلم يقر ولم ينكر حبسه الحاكم حتى يجيب ولا يجعله بذلك ناكلا)
ذكره القاضي في المحرر وقال أبو الخطاب يقول له الحاكم إن أجبت وإلا جعلناك
ناكلا وحكمت عليك ويكرر ذلك ثلاثا فإن أجاب وإلا جعله ناكلا وحكم عليه لأنه
ناكل عما توجه الجواب فيه فيحكم عليه بالنكول عنه باليمين * (مسألة) * (وإن
حلف المنكر ثم أحضر المدعي بينة حكم بها ولم تكن اليمين مزيلة للحق) وجملة
ذلك أن المدعي إذا ذكر أن له بينة بعيدة ولا يمكنة إحضارها أو لا يريد
إقامتها فطلب اليمين من المدعى عليه احلف له فإذا حلف ثم أحضر المدعي بينة
حكم له وبهذا قال شريح والشعبي ومالك والثوري والليث والشافعي وابو حنيفة
وأبو يوسف وإسحاق وحكي عن ابن أبي ليلى وداود
(11/430)
أن بينته لا تسمع لأن اليمين حجة المدعى
عليه فلا تسمع بعدها حجة المدعي كما لا تسمع يمين المدعى عليه بعد بينة
المدعي ولنا قول عمر رضي الله عنه البينة الصادقة أحب إلي من اليمين
الفاجرة، وظاهر هذه البينة الصدق ويلزم من صدقها فجوز اليمين المتقدمة
فتكون أولى ولأن كل حالة يجب عليه الحق فيها بإقراره يجب عليه بالبينة كما
قبل اليمين وما ذكراه لا يصح لأن البينة الأصل واليمين بدل عنها ولهذا لا
تشرع إلا عند تعذرها والبدل يبطل بالقدرة على المبدل كبطلان التيمم بالقدرة
على الماء ولا يبطل الأصل بالقدرة على البدل ويدل على الفرق بينهما أنهما
حال اجتماعهما وإمكان سماعهما تسمع البينة ويحكم بها ولا تسمع اليمين ولا
يسأل عنها (فصل) فإن طلب المدعي حبس المدعى عليه واقامة كقيل به إلى إقامة
ببيته البعيدة لم يقبل منه ولم تكن له ملازمة خصمه نص عليه أحمد لأنه لم
يثبت له قبله حق يحبس به ولا يقيم به كفيلاً ولأن الحبس عذاب فلا يلزم
معصوماً لم يتوجه عليه حق ولو جاز ذلك لتمكن كل ظالم من حبس من شاء من
الناس بغير حق وإن كانت ببيته قريبة فله ملازمته حتى يحضرها لأن ذلك من
ضرورة إقامتها فإنه لو لم يتمكن من ملازمته لذهب من مجلس الحاكم ولا تمكن
إقامتها إلا بحضرته ولأنه لما تمكن من إحضاره مجلس الحكم حتى يقيم فيه
البينة تمكن من ملازمته فيه حتى تحضر البينة ويفارق البينة البعيدة
ومن لا يمكن حضورها فإن إلزامه الإقامة إلى حين حضورها يحتاج إلى حبس أو ما
يقوم مقامه ولا سبيل إليه (فصل) ولو أقام المدعي شاهداً واحداً ولم يحلف
معه وطلب يمين المدعي عليه احلف له ثم أن أحضر شاهداً آخر بعد ذلك كملت
بينته وقضي بها لما ذكرنا في التي قبلها والله أعلم
(11/431)
* (مسألة) * (وإن قال لي مخرج مما ادعاه لم
يكن مجيباً) لأن الجواب أحد أمرين إقرار أو إنكار وليس هذا واحداً منهما *
(مسألة) * (وإن قال لي حساب أريد أن أنظر فيه لم يلزم المدعي إنظاره) لأن
حق الجواب يثبت له حالا فلم يلزمه أنظاره كما لو ثبت عليه الدين وذكر شيخنا
في كتاب الكافي أنه ينظر ثلاثا ولا يهمل أكثر منها لأنه كثير وهو الصحيح إن
شاء الله تعالى لأنه يحتاج إلى ذلك لمعرفة قدر دينه أو يعلم أهل عليه شئ
اولا والثلاث مدة يسيرة * (مسألة) * (وإن قال قضيته أو ابرأني ولي ببينة
بالقضاء أو الإبراء وسأل الأنظار أنظر ثلاثا) لأنها قريبة وللمدعي ملازمته
لئلا يهرب أو يتغيب ولا يؤخر الحق عن المدة التي انظر فيها فإن عجز عن
إقامة البينة حلف المدعي على نفي ما ادعاه واستحق لأنه يصير منكراً واليمين
على المنكر (فصل) فإن شهدت البينة للمدعي فقال المدعى عليه احلفوه أنه
يستحق ما شهدت به البينة لم يحلف لأن في ذلك طعنا على البينة * (مسألة) *
(وإن ادعى عليه عيناً في يده فاقربها لغيره جعل الخصم فيها وهل يحلف المدعى
عليه على وجهين فإن كان المقر له حاضراً مكلفاً سئل فإن ادعاها لنفسه ولم
تكن بينة وأخذها وإن أقر بها للمدعي سلمت إليه وإن قال ليست لي ولا أعلم
لمن هي؟ سلمت إلى المدعي في أحد الوجهين في الآخر لا تسلم إليه إلا ببينة
ويجعلها الحاكم عند أمين، وإن أقر بها لغائب أو صبي أو مجنون سقطت عنه
الدعوى، ثم إن كان للمدعي بينة سلمت إليه وهل يحلف؟ على وجهين وإن لم تكن
له بينة حلف المدعى عليه أنه لا يلزمه
(11/432)
تسليمها إليه وأقرت في يده إلا أن يقيم
بينة أنها لمن سمى فلا يحلف
وجملة ذلك أن الإنسان إذا ادعى داراً في يد غيره فقال الذي هي في يده ليست
لي إنما هي لفلان وكان المقر بها له حاضراً سئل عن ذلك فإن صدقه صار الخصم
فيها وكان صاحب اليد لأن من هي في يده اعترف أن يده بائنة عن يده وإقرار
الإنسان بما في يده إقرار صحيح فيصير خصماً للمدعي فإن كانت للمدعي بينة
حكم له بها، وإن لم تكن له بينة فالقول قول المدعى عليه مع يمينه، وإن قال
المدعي احلفوا المقر الذي كانت العين في يده أنه لا يعلم أنها لي فعليه
اليمين لأنه لو أقر بها لزم الغرم كما لو قال هذه العين لزيد ثم قال هي
لعمرو فانها تدفع إلى زيد ويغرم قيمتها لعمرو ومن لزمه الغرم مع الإقرار
لزمته اليمين مع الإنكار، وفيه وجه أنه لا يحلف لأنه أقام المقر له مقام
نفسه فيقوم مقامه في اليمين وتجزئ اليمين عنهما فإن رد المقر له الإقرار
فقال ليست لي وإنما هي للمدعي حكم له بها، وإن لم تكن له بينة ففيه وجهان
(أحدهما) تدفع إلى المدعي لأنه يدعيها ولا منازع له فيها ولأن من هي في يده
لو ادعاها ثم نكل قضينا له بها فمع عدم ادعائه لها أولى (والثاني) لا تدفع
اليه لأنه لم يثبت لها مستحق لأن المدعي لا يد له ولا بينة وصاحب اليد
معترف أنها ليست له فيأخذها الإمام فيحفظها لصاحبها وهذا الوجه الذي ذكره
القاضي والأول أصح لما ذكرنا من دليله ولأصحاب الشافعي وجهان كهذين ووجه
ثالث أن المدعي يحلف أنها له وتسلم إليه ويتخرج لنا مثله
(11/433)
بناء على القول برد اليمين إذا نكل المدعى
عليه وإن قال المقر له هي لثالث انتقلت الخصومة اليه وصار بمنزلة صاحب اليد
لأنه أقر له بها من له اليد حكما * (مسألة) * (وإن أقر بها الغائب أو لغير
مكلف معين كالصبي والمجنون صارت الدعوى عليه فإن لم تكن للمدعي بينة لم يقض
له بها) لأن الحاضر يعترف أنها ليست له، ولا يقضى على الغائب بمجرد الدعوى
ويقف الأمر حتى يقدم الغائب ويصير غير المكلف مكلفاً وتكون الخصومة معه،
فإن قال المدعي احلفو الى المدعى عليه أحلفناه لما تقدم، وإن أقر بها
للمدعي لم تسلم اليه لأنه اعترف أنها لغيره ويلزمه أن يغرم له قيمتها لأنه
فوتها عليه بإقراره بها لغيره، وإن كان مع المدعي بينة سمعها الحاكم وقضى
بها وكان الغائب على
خصومته متى خطر له أن يقدح في بينة المدعي وإن يقيم بينة تشهد بانتقال
الملك اليه من المدعي، وإن أقام بينة أنها ملكه فهل يقضي به؟ على وجهين
بناء على تقديم بينة الداخل والخارج فإن قلنا تقدم بينة الخارج فأقام
الغائب بينة تشهد له بالملك والنتاج أو لسبب من أسباب الملك فهل تسمع بينته
ويقضي بها؟ على وجهين فإن كان مع المقر بينة تشهد بها للغائب سمعها الحاكم
ولم يقض بها لأن البينة للغائب والغائب لم يدعها هو ولا وكيله وإنما سمعها
الحاكم لما فيها من الفائدة وهو زوال التهمة عن الحاضر وسقوط اليمين عنه
إذا ادعى عليه أنك تعلم أنها لي ويتخرج أن يقضى بها إذا قلنا بتقديم بينة
الداخل وان للمودع المحاكمة في الوديعة اذا غصبت لانها بينة مسموعة فيقضى
بها كبينة المدعي اذا لم تعارضها بينة أخرى فإن ادعى من هي في يده أنها معه
بإجارة أو عارية وأقام بينة بالملك للغائب لم يقض بها لوجهين (أحدهما) أن
ثبوت الإجارة والعارية يترتب على ثبوت الملك للمؤجر ولا يمكن ثبوت الملك
(11/434)
للمؤجر بهذه البينة فلا تثبت الإجارة
المترتبة عليها (والثاني) أن بينة الخارج مرتبة على بينة الداخل ويتخرج
القضاء بها على تقديم بينة الداخل وكون الحاضر له فيها حق ومتى عاد المقر
بها لغيره فأعادها لنفسه لم تسمع دعواه لأنه أقر بأنه لا يملكها فلا يسمع
منه الرجوع عن إقراره والحكم في غير المكلف كالحكم في الغائب على ما
ذكرناه.
* (مسألة) * (وإن أقر بها لمجهول قيل له إما إن تعرفه وإما أن نجعلك ناكلا
وقضينا عليك فإن أصر قضي عليه بالنكول) .
لأنه لا تمكن الدعوى على مجهول فيضيع الحق بإقراره هذا فيجب ان لا يقبل كما
لو يسكت.
* (فصل) * قال رحمه الله (ولا تصح الدعوى إلا محررة تحريراً يعلم به المدعي
إلا في الوصية والإقرار فإنه يصح بالمجهول) أما في غير ذلك فلا يصح لأن
الحاكم يسأل المدعى عليه عما ادعاه المدعي فإن اعترف به لزمه ولا يمكن أن
يلزمه مجهولا ويفارق الاقرار فإن الحق عليه فلا يسقط بتركه اثباته وإنما
صحت الدعوى في الوصية مجهولة فإنها تصح مجهولة فإنه لو وصى له بشئ أو سهم
صح فلا يمكنه أن يدعيها إلا مجهولة
كما يثبت وكذلك الاقرار لما صح أن يقر بمجهول صح لخصمه ان يدعى عليه أنه
أقر له بمجهول.
إذا ثبت هذا فإن كان المدعى أثمانا فلابد من ذكر ثلاثة أشياء الجنس والنوع
والقدر فيقول عشرة دنانير مصرية وإن اختلفت بالصحاح والمكسرة.
* (مسألة) * (فإن كان المدعى عيناً حاضرة عينها بالإشارة لأنها تعلم بذلك
وإن كانت غائبة ذكر صفاتها إن كانت تنضبط بها وإلا ذكر قيمتها) لإنها لا
تتميز ولا تصير معلومة إلا بذلك فإن تعذر ذلك رجعنا إلى القيمة كما لو تلفت
العين.
(11/435)
* (مسألة) * (وإن كانت تالفة من ذوات
الأمثال ذكر قدرها وجنسها وصفتها) .
لأن المثل واجب في ذوات الأمثال فوجبت فيه هذه الصفات لأنه لا يتحقق المثل
بدونها وإن ذكر قيمتها كان أولى لأنه أحصر، وإن كان مما لا مثل له كالنبات
والحيوان ذكر قيمته لأنها تجب بتلفه وكذلك إن كان جوهراً تعين ذكر قيمته
لأنها تجب بتلفه لأنها لا تنضبط إلا بذلك فإن كان المدعى دارا فلابد من
بيان موضعها وحدودها فيدعي إن هذا بحدودها وحقوقها لي وأنها في يده ظلماً
وأنا أطالبه بردها وإن ادعى عليه أن هذه الدار لي وأنه يمنعني منها صحت
الدعوى وإن لم يقل أنها في يده لأنه يجوز أن ينازعه ويمنعه وإن لم تكن في
يده وإن ادعى جراحة فيها أرش معلومة كالموضحة من الحر لم يحتج إلى ذكر
أرشها لأنه معلوم وان كانت من عبد أو كانت من حر لا مقدر فيها فلابد من ذكر
أرشها وإن ادعى على ابيه ديناً لم تسمع الدعوى حتى يدعي أن أباه مات وترك
في يده مالا لأن الولد لا يلزمه قضاء دين والده ما لم يكن كذلك ويحتاج أن
يذكر تركة أبيه ويحررها ويذكر قدرها كما يصنع في قدر الدين هكذا ذكره
القاضي، قال شيخنا والصحيح أنه يحتاج إلى ذكر ثلاثة أشياء قدر دينه وموت
أبيه وأنه وصل إليه من تركة أبيه ما فيه وفاء لدينه إن قال ما فيه وفاء
لبعض دينه احتاج أن يذكر ذلك القدر والقول قول المدعي عليه في نفي تركة
الأب مع يمينه وكذلك أن أنكر موت أبيه ويكفيه أن يحلف على نفي العلم لأنه
على نفي فعل الغير وقد يموت ولا يعلم به ابنه، ويكفيه أن يحلف أنه ما وصل
إليه من تركة أبيه شئ ولا يلزمه أن يحلف أن أباه لم يخلف شيئاً لأنه قد
يخلف تركة لا تصل
إليه فلا يلزمه الايفاء منه.
(11/436)
* (مسألة) * (وإن ادعى نكاحا فلابد من ذكر
المرأة بعينها إن حضرت وإلا ذكر اسمها ونسبها وذكر شروط النكاح وأنه تزوجها
بولي مرشد وشاهدي عدل ورضاها في الصحيح من المذهب إن كانت ممن يعتبر رضاها)
.
وهذا منصوص الشافعي وقال أبو حنيفة ومالك لا يحتاج إلى ذكر شرائطه لأنه نوع
ملك فأشبه ملك العبد إلا أنه لا يحتاج أن يقول وليست معتدة ولا مرتدة.
ولنا أن الناس اختلفوا في شرائط النكاح فمنهم من يشترط الولي والشهود ومنهم
من لا يشترط إذن البكر البالغ لأبيها في تزويجها ومنهم من يشترطه وقد يدعي
نكاحاً يعتقده صحيحاً والحاكم لا يرى صحته ولا ينبغي أن يحكم بصحته مع جهله
بها ولا يعلمها ما لم يذكر الشروط وتقوم البينة بها ويفارق المال فإن
أسبابه لا تنحصر وقد يخفى على المدعي سبب ثبوت حقه والعقود تكثر شروطها
ولذلك اشترطنا لصحة البيع شروطاً سبعة فربما لا يحسن المدعي عددها ولا
يعرفها والأموال مما يتساهل فيها ولذلك افترقا في اشتراط الولي والشهود في
عقوده فافترقا في الدعوى وأما الردة والعدة فالأصل عدمهما ولا يختلف الناس
فيه ولا تخ؟ لف به الأغراض فإن كانت المرأة أمة والزوج حراً فقياس ما
ذكرناه أنه يحتاج إلى عدم الطول وخوف العنت لأنهما من شرائط صحة نكاحهما
فأما ان ادعى استدامة الزوجية ولم يدع العقد لم يحتج إلى ذكر شروطه في أحد
الوجهين لأنه يثبت بالإستفاضة ولو اشترط ذكر الشروط لاشترطت الشهادة به ولا
يلزم ذلك في شهادة الاستفاضة وفي الثاني يحتاج إلى ذكر الشروط لأنه دعوى
نكاح أشبه دعوى العقد.
(11/437)
* (مسألة) * (وإذا ادعى بيعاً أو عقداً
سواه فهل يشترط ذكر شروطه؟ يحتمل وجهين) أما سائر العقود من البيع والإجارة
والصلح وغيرها فلا يفتقر إلى الكشف وذكر الشروط في أصح الوجهين لأنه لا
يحتاط لها ولا يفتقر إلى الولي والشهود فلم يفتقر إلى الكشف كدعوى العين
وسواء كان المبيع حارية أو غيرها لأنها مبيع فأشبهت العبد وكذلك إذا كان
المدعى عبداً أو ديناً لم يحتج إلى ذكر السبب لأن أسباب ذلك تكثر ولا تنحصر
وربما خفي على المستحق سبب استحقاقه فلا يكلف بيانه ويكفيه أن يقول استحق
هذه العين التي في يده وأستحق كذا وكذا في ذمته ويقول في البيع إني اشتريت
هذه الجارية بألف درهم أو بعتها منه بذلك ولا يحتاج أن يقول وهي ملكه أو
وهي ملكي ونحن جائز الأمر وتفرقنا عن تراض، وذكر أبو الخطاب في العقود
وجهاً آخر أنه يشترط ذكر شروطها قياساً على النكاح وذكر أصحاب الشافعي هذين
الوجهين ووجهاً ثالثاً إن كان المبيع جارية اشترط ذكر شروط البيع لأنه عقد
يستباح به الوطئ أشبه النكاح، وإن كان المبيع غيرهما لم يشترط لعدم ذلك
والأول أولى لأنها دعوى فيما لا يشترط فيه الولي والشهود أشبه دعوى العين
وما لزم ذكره في الدعوى فلم يذكر سأله الحاكم عنه لتصير الدعوى معلومة
فيمكن الحاكم الحكم بها.
* (مسألة) * (وإن ادعت المرأة نكاحاً على رجل وادعت معها نفقة أو مهراً
سمعت دعواها وإن لم تدع سوى النكاح فهل تسمع دعواها؟ على وجهين) إذا ذكرت
المرأة مع دعوى الزوجية حقاً من حقوق النكاح كالمهر والنفقة ونحوها فإن
دعواها تسمع بغير خلاف نعلمه لأنها تدعي حقا لها تضيفه إلى سببه فتسمع
دعواها كما لو ادعت اضافته إلى الشراء
(11/438)
وإن افردت دعوى النكاح فقال القاضي تسمع
دعواها أيضاً لأنه سبب لحقوق لها فتسمع دعواها كالبيع وقال أبو الخطاب فيه
وجه آخر أنه لا تسمع دعواها لأن النكاح حق للزوج عليها فلا تسمع دعواها
حقاً لغيرها وإن قلنا بالأول سئل الزوج فإن أنكر ولم تكن بينة فالقول قوله
بغير يمين لأنه إذا لم تستحلف المرأة والحق عليها فلألا لا يستحلف من الحق
له وهو ينكره أولى ويحتمل أن يستحلف لأن دعواها إنما سمعت لتضمنها دعوى
حقوق مالية تشرع فيها اليمين وإن أقامت البينة بالنكاح ثبت لها ما تضمنه
النكاح من حقوقها وأما إباحتها فتبنى على باطن الأمر فإن علم أنها امرأته
حلت له لأن إنكاره النكاح ليس بطلاق ولا نوى به الطلاق وإن علم أنها ليست
امرأته إما العدم العقد أو
لبينونتها لم تحل له وهل يمكن منها في الظاهر؟ يحتمل وجهين (احدهما) يمكن
منها لأن الحاكم قد حكم بالزوجية (والثاني) لا يمكن منها لإقراره على نفسه
بتحريمها عليه فيقبل قوله في حق نفسه دون ما عليه كما لو تزوج امرأة ثم قال
هي أختي من الرضاعة فإذا ثبت هذا فإن دعواها النكاح كدعوى الزوج فيما
ذكرناه من الكشف عن سبب النكاح وشرائط العقد ومذهب الشافعي قريب مما ذكرنا
في هذا الفصل * (مسألة) * (وإن ادعى قتل موروثه ذكر القاتل وأنه انفرد به
أو شاركه فيه غيره وأنه قتله عمداً أو خطأ أو شبه عمد ويصفه) ويذكر صفة
العمد لأنه قد يعتقد ما ليس بعد عمداً فلا يؤمن أن يقتص ممن لا يجب له
القصاص عليه وهو مما لا يمكن تلافيه فوجب الاحتياط فيه
(11/439)
* (مسألة) * (وإن ادعى الإرث ذكر سببه) لأن
أسبابه تختلف ولابد في الشهادة من ان تكون على سبب معين فكذلك في الدعوى *
(مسألة) * (وإن ادعى سيفاً محلى يذهب قومه بغير جنس حليته وإن كان محلى
يذهب وفضة قومه بما شاء منهما للحاجة) * (فل) * قال الشيخ رحمه الله
(وتعتبر في البينة العدالة ظاهراً وبالنا في اختيار الخرقي والقاضي وعنه
نقبل شهادة كل مسلم لم يظهر منه ريبة اختارها أبو بكر فإن جهل إسلامه رجع
إلى قوله والمذهب الأول) وجملة ذلك أن الحاكم إذا شهد عنده شاهدان فإن عرف
عدالتهما حكم بشهادتهما وإن عرف فسقهما لم يقبل قولهما وإن لم يعرف حالهما
سأل عنهما لأن معرفة العدالة شرط في جميع الحقوق وبهذا قال الشافعي وأبو
يوسف ومحمد وعن أحمد رواية أخرى يحكم بشهادتهما إذا عرف إسلامهما بظاهر
الحال إلا أن يقول الخصم هما فاسقان وهذا قول الحسن والمال والحد في ذلك
سواء لأن الظاهر من المسلمين العدالة ولهذا قال عمر رضي الله عنه المسلمون
عدول بعضهم على بعض وروي أن أعرابياً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم
فشهد برؤية الهلال فقال النبي صلى الله عليه وسلم " أتشهد أن لا إله إلا
الله؟ " قال نعم فصام
وأمر الناس بالصيام، ولأن العدالة أمر خفي سببها الخوف من الله عزوجل ودليل
ذلك الإسلام فإذا وجد فليكتف به ما لم يقم على طلاقه دليل وقال أبو حنيفة
في الحدود والقصاص كالرواية الأولى وفي سائر الحقوق كالثانية لأن الحدود
والقصاص مما يحتاط لهما وتندرئ بالشبهات بخلاف غيرها
(11/440)
ولنا أن العدالة شرط فوجب العلم بها
كالاسلام وكما لو طعن الخصم فيهما فأما الإعرابي المسلم فإنه من أصحاب رسول
الله صلى الله عليه وسلم وقد ثبتت عدالتهم بثناء الله تعالى عليهم فإن من
ترك دينه في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم إيثار الدين الإسلام وصحب
رسول الله صلى الله عليه وسلم ثبتت عدالته وأما قول عمر فالمراد به الظاهر
العدالة ولا يمنع ذلك وجوب البحث ومعرفة حقيقة العدالة فقد روي عنه أنه أتي
بشاهدين فقال لست أعرفكما ولا يضركما إن لم أعرفكما جيئا بمن يعرفكما فأتيا
برجل فقال له عمر تعرفهما؟ فقال نعم فقال عمر صحبتهما في السفر الذي تبين
فيه جواهر الناس؟ قال لا قال عاملتهما في الدراهم والدنانير التي تقطع فيها
الرحم؟ قال لا قال كنت جاراً لهما تعرف صباحهما ومساءهما؟ قال لا قال يا
ابن أخي لست تعرفهما جيئا بمن يعرفكما وهذا بحث يدل على أنه لا يكتفي
بدونه.
إذا ثبت هذا فإن الشاهد يعتبر فيه أربعة شروط الإسلام والبلوغ والعقل
والعدالة وليس فيها ما يحفى ويحتاج إلى البحث إلا العدالة فيحتاج إلى البحث
عنها لقول الله تعالى (ممن ترضون من الشهداء) ولا يعلم أنه مرضي حتى يعرفه
أو يخبر عنه فيأمر الحاكم بكتب اسمائهم وكناهم ونسبهم ويرفع فيها ما
يتميزون به عن غيرهم ويكتب صنائعهم ومعائشهم وموضع مساكنهم وصلاتهم ليسأل
عنهم جيرانهم وأهل سوقهم ومسجدهم ومحلتهم ويحكيهم فيكتب اسودا وأبيض أو
انزع أو أغم أو أشهل أو أكحل أقنى الأنف أو أفطس رقيق الشفتين أو غليظهما
طويل أو قصير أو ربعة ونحو هذا التمييز ولا يقع اسم على اسم ويكتب اسم
المشهود له وقدر الحق ويكتب ذلك كله لأصحاب مسائله لكل واحد رقعة وإنما
ذكرنا المشهود له لئلا يكون بينة وبين الشاهد عدواة وذكرنا قدر الحق لأنه
ربما كان ممن يرون قبوله في اليسير دون الكثير فتطيب نفس المزكي به إذا كان
يسيراً ولا تطيب إذا كان كثيراً
(11/441)
وينبغي للقاضي أن يخفي عن كل واد من أصحاب
مسائلة ما يعطي الآخر من الرقاع لئلا يتواطئوا، وإن
شاء الحاكم عين لصاحب مسائله من يسأله ممن يعرفه من جيران الشاهد وأهل
الخبرة به وإن شاء أطلق ولم يعين المسئول ويكون السؤال سراً لئلا يكون فيه
هتك المسئول عنه وربما يخاف المسؤل من الشاهد والمشهود له والمشهود عليه أن
يخبر بما عنده أو يستحي وينبغي أن يكون أصحاب مسائله غير معروفين لئلا
يقصدوا بهدية أو رشوة وأن يكونوا أصحاب عفاف في الطعمة والأنفس ذوي عقول
وافرة ايرياء من الشحناء والبغضة لئلا يطعنوا في الشهود ويسألوا عن الشاهد
عدوه فيطعن فيه فيضيع حق المشهود له ولا يكونوا من أهل الأهواء والعصبية
يميلون إلى من وافقهم على من خالفهم ويكونون أمناء ثقات لأن هذا موضع أمانة
وإذا رجع أصحاب مسائله فأخبر اثنان بالعدالة قبلت شهادته وإن أخبر بالجرح
رد شهادته وإن أخبر أحدهما بالجرح والآخر بالتعديل بعث آخرين فإن عادا
فأخبرا با التعديل تمت بينة التعديل وسقط الجرح لأن بينته لم تتم وإن أخبرا
بالجرح ثبت ورد الشهادة وإن أخبر أحدهما بالجرح والآخر بالتعديل لم تتم
البينتان ويقدم الجرح ولا يقبل الجرح والتعديل إلا من اثنين ويقبل قول
أصحاب المسائل وقيل لا تقبل شهادة المسؤولين ويكلف اثنين منهم أن يشهدوا
بالتزكية والجرح عنده على شرط الشهادة واللفظ وغيره ولا يقبل من صاحب
المسألة لأن ذلك شهادة على شهادة مع حضور شهود الأصل ووجه القول الأول إن
شهادة أصحاب المسائل شهادة استفاضة لا شهادة على شهادة فيكتفى بمن يشهد بها
كسائر شهادات الاستفاضة ولأنه موضع حاجة فإنه لا يلزم المزكي الحضور
للتزكية وليس للحاكم إجباره عليها فصار كالمرض والغيبة في سائر الشهادات
ولأننا لو لم نكتف بشهادة أصحاب المسائل لتعذرت التزكية لأنه قد لا يكون في
جيران الشاهد من يعرفه للحاكم فلا يعرفه الحاكم فيفوت الجرح والتعديل (فصل)
ولا بد للحاكم من معرفة إسلام الشاهد قاله القاضي ويحصل ذلك بأحد أمور
أربعة
(11/442)
(أحدها) إخباره عن نفسه أنه مسلم وإتيانه
بكلمة الإسلام وهي شهادة ألا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله لأنه لو لم
يكن مسلماً صار بذلك مسلماً (الثاني) إعتراف المشهود عليه بإسلامه لأنه حق
عليه (الثالث) خبرة الحاكم لإننا اكتفينا بذلك في عدالته فكذلك في إسلامه
(الرابع) أن تقوم به بينة ولا بد من معرفة الحرية في موضع تعتبر فيه ويكفي
في ذلك أحد أمور ثلاثة البينة أو إعتراف
المشهود عليه أو خبرة الحاكم ولا يكفي إعتراف الشاهد لأنه لا يملك أن يصير
حراً فلا يملك الإقرار به (فصل) إذا شهد عند الحاكم مجهول الحال فقال
المشهود عليه هو عدل ففيه وجهان (احداهما) يلزم الحاكم بشهادتة لأن البحث
عن عدالته لحق المشهود عليه وقد إعترف بها ولأنه إذا أقر بعدالته فقد أقر
بما يوجب الحكم لخصمه عليه فيؤخذ اقراره كسائر أقاريره (والثاني) لا يجوز
الحكم بشهادته لأن الحكم بها تعديل فلا يثبت بقول واحد ولأن اعتبار العدالة
في الشاهد حق لله تعالى ولهذا لو رضي الخصم بأن يحكم عيه بقول فاسق لم يجز
الحكم به لأنه لا يخلوا أما أن يحكم عليه مع تعديله أو مع انتفائه، لا يجوز
أن يقال مع تعديله لأن التعديل لا يثبت بقول الواحد ولا يجوز مع انتفاء
تعديله لأن الحكم بشهادة غير العدل لا يجوز بدليل شهادة من ظهر فسقه ومذهب
الشافعي مثل هذا فإن قلنا بالأول فلا يثبت تعديله في غير المشهد عليه لأنه
لم يوجد منه التعديل وإنما حكم عليه لإقراره بوجود شرط الحكم، وإقراره يثبت
في حقه دون غيره * (مسألة) * (وإن علم الحاكم عدالتهما عمل بعلمه وحكم
بشهادتهما) لا نعلم فيه خلافاً وإذا عرف عدالة الشهود قال للمشهود قد شهدا
عليك فإن كان عندك ما يقدح
(11/443)
في شهادتهم فبينه عندي فإن لم يقدح في
شهادتهم حكم عليه لأن الحق قد صح على وجه لا إشكال فيه * (مسألة) * (إلا أن
يرتاب بهما فيفرقهما ويسأل كل واحد منهما كيف تحملت الشهادة؟ ومتى؟ وفي أي
موضع؟ وهل كنت وحدك أو أنت وصاحبك؟ فإن اختلفا لم يحكم بشهادتهما وإن اتفقا
وعظهما وخوفهما فإن ثبتا حكم بها إذا سأله المدعي) وجملة ذلك أن الحاكم إذا
ارتاب بشهادة الشهود احتاج إلى البحث عنهم لقول الله تعالى (ممن ترضون من
الشهداء) ولا نعلم أنه مرضي حتى نعرفه أو نخبر عنه فيفرقهما ليظهر له
حالهما فيفرقهم ويسأل كل واحد عن شهادته وصفتها فيقول كنت أول من شهد أو
كتب أو لم يكتب وفي أي مكان شهدت؟ وفي أي شهر؟ وأي يوم؟ وهل كنت وحدك أو مع
غيرك؟ فإن اختلفوا سقطت شهادتهم لأنه قد ظهر له ما يمنع قبولها ويقال أول
من فعل هذا دانيال وقيل سليمان عليهما السلام وهو صغير
وروي عن علي رضي الله عنه أن سبعة نفر خرجوا فقد واحد منهم فأتت زوجته
علياً تدعي على الستة فسألهم علي فأنكروا وفرقهم وأقام كل واحد منهم عند
سارية ووكل به من يحفظه فدعا واحداً منهم فسأله فأنكر فقال الله أكبر فظن
الباقون أنه قد اعترف فدعاهم فاعترفوا فقال للأول قد شهدوا عليك وأنا قاتلك
فاعترف فقلتهم * (مسألة) * (وإن اتفقوا وعظهم وخوفهم كما روي عن شريح أنه
كان يقول للشاهدين إذا حضرا يا هذان ألا تريان؟ إني لم أدعكما ولست أمنعكما
إن ترجعا وإنما يقضي على هذا أنتما وأنا متق بكما فاتقيا وفي لفظ فإني بكما
أقضي وبكما أتقي يوم القيامة)
(11/444)
وروى أبو حنيفة قال كنت عند محارب بن دثار
وهو قاضي الكوفة فجاء رجل فادعى على رجل حقا فأنكره فأحضر المدعي شاهدين
فشهدا له فقال المشهود عليه والذي تقوم به السماء والأرض لقد كذبا علي في
الشهادة وكان محارب بن دثار متكئاً فاستوى جالساً وقال سمعت ابن عمر يقول
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " إن الطير لتخفق بأجنحتها وترمي
ما في حواصلها من هول يوم القيامة وإن شاهد الزور لا تزول قدماه حتى يتبوأ
مقعده من النار " فإن صدقتما فاثبتا وإن كذبتما فغطيا رؤوسكما وانصرفا *
(فصل) * قال رحمه الله (ينبغي للقاضي أن يسأل عن شهوده كل قليل لأن الرجل
ينتقل من حال إلى حال وهل هذا مستحب أو واجب؟ فيه وجهان) (أحدهما) مستحب
لأن الأصل بقاء ما كان فلا يزول حتى يثبت الجرح (والثاني) يجب البحث كلما
مضت مدة يتغير الحال فيها لأن العيب يحدث وذلك على ما يراه الحاكم، ولأصحاب
الشافعي وجهان مثل هذين * (مسألة) * (وليس للحاكم أن يرتب شهودا لا يقبل
غيرهم) لأن الله تعالى قال (وأشهدوا ذوي عدل منكم) ولأن فيه اضراراً بالناس
وتضيبقا عليهم لأن كثيراً من الوقائع التي يحتاج إلى البينة فيها تقع عند
غير المرتبين فمتى ادعى إنسان شهادة غير المرتبين وجب على الحاكم سماع
بينته والنظر في عدالة شاهديه ولا يجوز ردهما بكونهما من غير المرتبين
(11/445)
لأن ذلك يخالف الكتاب والسنة والإجماع لكن
له أن يرتب شهود اشهدهم الناس فيستغنون بإشهادهم عن تعديلهم ويستغني الحاكم
عن الكشف عن أحوالهم فيكون فيه تخفيف من وجه ويكونون أيضاً يزكون من عرفوا
عدالته من غيرهم إذا شهد * (مسألة) * (فإن ثبتا حكم بشهادتهما لأن الظاهر
صدقهما ولا يحكم حتى يسأله المدعي لان الحق وقد ذكرناه) (فصل) إذا اتصلت به
الحادثة واستنارت به الحجة لأحد الخصمين حكم إذا سأله لما بينا وإن كان
فيها لبس أمرهما بالصلح فإن أبيا أخرهما إلى البيان فان عجلها قبل البيان
لم يصح حكمه، وممن رأى الإصلاح بين الخصوم شريح وعبد الله بن عتبة وأبو
حنيفة والشعبي والعنبري وروي عن عمر أنه قال ردوا الخصوم حتى يصطلحوا فان
فصل القضاء يحدث بين القوم الضغئن قال أبو عبيد إنما يسعه الصلح في الأمور
المشكلة، أما إذا استنارت الحجة لأحد الخصمين وتبين له موضع الظلم فليس له
أن يحمله على الصلح ونحوه قول عطاء واستحسنه ابن المنذر، وروي عن شريح أنه
ما أصلح بين متحاكمين إلا مرة واحدة (فصل) وإذا حدثت حادثة نظر في كتاب
الله وإلا نظر في سنة رسول الله فإن لم يجدها نظر في القياس فألحقها بأشبه
الأشياء بها لما روى عمرو بن الحارث بن أخي المغيرة بن شعبة عن رجل من
أصحاب معاذ من أهل حمص عن معاذ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ حين
بعثه إلى اليمن " بم تحكم؟ - قال بكتاب الله قال - فإن لم تجد - قال بسنة
رسول الله قال - فإن لم تجد؟ - قال أجتهد رأيي ولا آلو قال - الحمد لله
الذي وفق رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم لما يرضي رسول الله " فإن قيل
عمرو بن
(11/446)
أخي المغيرة والرجال مجهولون قلنا قد رواه
عبادة بن نسي عن عبد الرحمن بن غنم عن معاذ ثم أنه حديث مشهور في كتب أهل
العلم رواه سعيد بن منصور والإمام أحمد وغيرهما وتلقاه العلماء بالقبول
وجاء عن الصحابة من قولهم ما يوافقه فروى سعيد أن عمر قال لشريح انظر ما
تبين لك في كتاب الله
فاتبع فيه السنة وما لم يتبين ذلك في السنة فاجتهد فيه رأيك وعن ابن مسعود
مثل ذلك * (مسألة) * (وإن جرحهما المشهود عليه كلف البينة بالجرح فإن سأل
الانظار وانظر ثلاثاً ليجرحهما) لما روي عن علي رضي الله عنه أنه قال في
كتابه إلى أبي موسى: واجعل لمن ادعى حقاً غائباً أمداً ينتهي إليه، فإن
أحضر بينة أخذت له حقه وإلا استحللت القضية عليه فإنه انفى للشك وأجلى
للعمى * (مسألة) * وللمدعي ملازمته إلا أن يقيم بينة بالجرح) لأن الحق قد
ثبت في الظاهر فإذا لم يقم بينة بالجرح حكم عليه لظهور الحق * (مسألة) *
(ولا يسمع الجرح إلا مفسراً بما يقدح في العدالة ويعتبر فيه اللفظ فيقول
أشهد أني رأيته يشرب الخمر أو سمعته يقذف أو رأيته يظلم الناس بأخذ أموالهم
أو ضربهم أو يعامل بالربا أو يعلم ذلك بالاستفاضة في الناس ولا بد من ذكر
السبب وتعيينه) وبهذا قال الشافعي وسوار وعنه يكفي أن يشهد أنه فاسق وليس
بعدل وبه قال أبو حنيفة لأن التعديل يسمع مطلقاً وكذلك الجرح لأن التصريح
بالسبب يجعل الجارح فاسقاً يوجب عليه الحد في بعض الحالات وهو أن يشهد عليه
بالزنا فيفضي الجرح إلى جرح الجارح وتبطل شهادته ولا يتجرح بها المجروح
(11/447)
ولنا أن الناس يختلفون في أسباب الجرح
كاختلافهم في شارب يسير النبيذ فوجب أن لا يقبل بمجرد الجرح لئلا يجرحه بما
لا يراه القاضي جرحاً ولأن الجرح ينقل عن الأصل فإن الأصل في المسلمين
العدالة والجرح ينقل عنها فلا بد أن يعرف الناقل لئلا يعتقد نقله بما لا
يراه الحاكم ناقلا وقولهم إنه يفضي إلى جرح الجارح وإيجاب الحد عليه قلنا
ليس كذلك لأنه يمكنه التعريض من غير تصريح فإن قيل ففي بيان السبب هتك
المجروح قنا لا بد من هتكه فإن الشهادة عليه بالفسق هتك ولكن جاز ذلك
للحاجة الداعية إليه كما جازت الشهادة عليه به لإقامة الحد عليه بل ههنا
أولى فإن فيه دفع الظلم عن المشهود عليه وهو حق آدمي فكان أولى بالجواز لأن
هتك عرضه بسببه لأنه تعرض للشهادة مع ارتكابه ما يوجب جرحه فكان هو الهاتك
لنفسه إذ كان فعله المحوج للناس إلى جرحه
فإن صرح الجارح بقذفه بالزنا فعليه الحد إن لم يأت بتمام أربعة شهداء وبه
قال أبو حنيفة وقال الشافعي لا حد عليه إذا كان بلفظ الشهادة لأنه لم يقصد
إدخال المعرة عليه ولنا قول الله سبحانه (والذين يرمون المحصنات ثم لم
يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة) ولأن أبا بكرة ورفيقه شهدوا على
المعيرة بالزنا ولم يكمل زياد شهادته فجلدهم عمر حد القذف بمحضر من الصحابة
ولم ينكره منكر فكان إجماعاً ويبطل ما ذكروه بما شهدوا عليه لإقامة الحد
عليه (فصل) فإن اقام المدعي بينة أن هذين الشاهدين شهدا بذا الحق عند حاكم
فردت شهادتهما لفسقهما بطلت شهادتهما لأن الشهادة إذا ردت لفسق لم تقبل مرة
ثانية (فصل) ولا يقبل الجرح والتعديل من النساء وقال أبو حنيفة يقبل لأنه
لا يعتبر فيه لفظ الشهادة فاشبه الرواية وأخبار الديانات
(11/448)
ولنا انها شهادة فيما ليس بمال ولا يقصد به
المال ويطلع عليه الرجال في غالب الأحوال فأشبه الشهادة في القصاص وما
ذكروه ممنوع (فصل) ولا يقبل الجرح من الخصم بلا خلاف بين العلماء فلو قال
المشهود عليه هذان فاسقان أو عدوان او أبا المشهود له لم يقبل قوله لأنه
متهم في قوله ويشهد بما يجر إلى نفسه نفعاً فأشبه الشهادة لنفسه ولأننا لو
قبلنا قوله لم يشأ أحد أن يبطل شهادة من شهد عليه إلا أبطلها فتضيع الحقوق
وتذهب حكمة البينة (فصل) ولا تقبل شهادة المتوسمين، وذلك إذ حضر مسافران
فشهدا عند حاكم لا يعرفهما لم تقبل شهادتهما، وقال مالك يقبلهما إذا رأى
منها سيما الخير لأنه لا سبيل إلى معرفة عدالتهما ففي التوقف عن قولهما
تضييع الحقوق فوجب الرجوع فيهما إلى السيماء الجميلة ولنا أن عدالتهما
مجهولة فلم يجز الحكم بشهادتهما كشاهدي الخضر وما ذكروه معارض بأن قبول
شهادتهما يفضي إلى القضاء بشهادتهما في دفع الحق إلى غير مستحقه * (مسألة)
* (وإن شهد عنده فاسق يعرف حاله قال للمدعي زدني شهودا)
ولا يقبل قوله لقول الله تعالى (يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ
فتبينوا) ويقول للمدعي زدني شهوداً لئلا يفضحه
(11/449)
* (مسألة) * (وإن جهل حاله طالب المدعي
بتزكيته) لأنه روي عن عمر رضي الله عنه انه أتي بشاهدين فقال لهما إني لا
أعرفكما ولا يضركما إن لم أعرفكما جيئا بمن يعرفكما ولأن العدالة شرط في
قبول الشهادة على ما ذكرنا فإذا شك في وجودها كانت كعدمها كشروط الصلاة *
(مسألة) * (ويكفي في التزكية شاهدان يشهدان أنه عدل رضي ولا يحتاج في
التزكية أن يقول علي ولي) وهذا قول أكثر أهل العلم وبه يقول شريح وأهل
العراق ومالك وبعض الشافعية وقال أكثرهم لا يكفيه إلا أن يقول علي ولي
واختلفوا في تعليله فقال بعضهم لئلا تكون بينهم عداوة أو قرابة وقال بعضهم
لئلا يكون عدلا في شئ دون شئ ولنا قوله تعالى (وأشهدوا ذوي عدل منكم) فإن
شهدا أنه عدل ثبت ذلك بشهادتهما فيدخل في عموم الآية ولأنه إذا كان عدلا
لزم أن يكون له وعليه وفي حق سائر الناس وفي كل شئ فلا يحتاج إلى ذكره ولا
يصح ما ذكروه فإن الإنسان لا يكون عدلا في شئ دون شي؟ ء ولا في حق شخص دون
شخص فإنها لا توصف بهذا ولا تنتفي ايضاً بقوله علي ولي فإن من ثبتت عدالته
لم تزل بقرابة ولا عداوة وإنما ترد شهادته للتهمة مع كونه عدلا ثم أن هذا
إذا كان معلوماً انتفاؤه بينهما لم يحتج إلى ذكره ولا نفيه عن نفسه ولأن
العداوة لا تمنع من شهادته له بالتزكية وإنما تمنع الشهادة عليه وهذا شاهد
له بالتزكية والعدالة فلا حاجة إلى نفي العداوة (فصل) ولا يكفي أن يقول ما
أعلم منه إلا الخير وهذا مذهب الشافعي وقال أبو يوسف يكفي لأنه إذا كان من
أهل الخبرة به ولا يعلم منه إلا الخير فهو عدل
(11/450)
ولنا أنه لم يصرح بالتعديل فلم يكن تعديلاً
كما لو قال أعلم منه خيراً وما ذكروه لا يصح لأن
الجاهل بحال أهل الفسق لا يعلم منهم إلا الخير لأنه يعلم إسلامهم وهو لا
يعلم منهم غير ذلك وهم غير عدول، قال أصحابنا ولا يقبل التعديل إلا من أهل
الخبرة الباطنة والمعرفة المتقادمة وهو مذهب الشافعي لخبر عمر الذي قدمناه،
ولأن عادة الناس إظهار الطاعات وإسرار المعاصي فإن لم يكن ذا خبرة باطنة
فربما اغتر بحسن ظاهره وهو فاسق في الباطن وهذا يحتمل أن يريد الأصحاب بما
ذكروه أن الحاكم إذا علم أن المعدل لا خبرة له لم تقبل شهادته بالتعديل كما
فعل عمر رضي الله عنه ويحتمل أنهم أرادوا أنه لا تجوز للمعدل الشهادة
بالعدالة إلا أن تكون له خبرة باطنة، فأما الحكم إذا شهد عنده العدل
بالتعديل ولم يعرف حقيقة الحال فله أن يقبل الشهادة من غير كشف، وإن استكشف
الحال كما فعل عمر رضي الله عنه فحسن * (مسألة) * (وإن عدله اثنان وجرحه
اثنان فالجرح أولى) وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي، وقال مالك ينظرا أيهما
أعدل الذان جرحاه أو الذان عدلاه؟ فيؤخذ بقول أعدلهما ولنا أن الجارح معه
زيادة علم خفيت على المعدل فوجب تقديمه لأن التعديل متضمن ترك الريب
والجارح مثبت لوجود ذلك والإثبات مقدم على النفي ولأن الجارح يقول رأيته
يفعل والمعدل مستنده أنه لم يره يفعل ويمكن صدقهما والجمع بين قوليهما بإن
يراه الجارح يفعل المعصية ولا يراه المعدل فيكون مجروحاً
(11/451)
* (مسألة) * (وإن سأل المدعي حبس المشهود
عليه حتى يزكي شهوده فهل يحبس؟ على وجهين) (أحدهما) يحبس لأن الظاهر
العدالة وعدم السبق ولأن الذي على الغريم قد أتى به وإنما بقي ما كان على
الحاكم وهو الكشف عن عدالة الشهود (والثاني) لا يحبس لأن الأصل براءة الذمة
وقيل يحبس في المال فقط * (مسألة) * (وإن أقام شاهداً وسأل حبسه حتى يقيم
الآخر حبسه إن كان في المال) لأن الشاهد حجة فيه وإنما اليمين معونة له،
وإن كان في غيره لم يحبس لأنه لا يكون حجة في
إثباته أشبه ما لو لم يقم شاهداً وفيه وجه آخر أنه يحبس كالتي قبلها والأول
أولى لأنه إن حبس ليقيم شاهداً آخر لتتم بهما البينة فهو كالحق الذي لا
يثبت إلا بشاهدين، وإن حبس ليحلف معه فلا حاجة إليه لأن الحلف ممكن في
الحال، فإن حلف ثبت حقه وإلا لم يجب شئ، ويحتمل أن يقال إن كان المدعى
بازلا لليمين والتوقف لإثبات عدالة الشاهدين حبس كما ذكرنا في التي قبلها،
وإن كان التوقف عن الحكم لغير ذلك لم يحبس لما ذكرناه قال القاضي وكل موضع
حبس فيه بشاهدين دام الحبس حتى تثبت عدالة الشهود أو فسقهم، وكل موضع حبس
لشاهد واحد فإنه يقال للمشهود له إن جئت بشاهد آخر إلى بكيت وإلا أطلقناه،
وإن أقام شاهدين فحبس حتى يزكي شهوده فقيل يمهل ثلاثة أيام ايضاً كالتي
قبلها وهو أولى إن شاء الله تعالى لأن الحبس عقوبة فإذا قلنا يحبس حتى يزكي
شهوده فكل من أراد حبس خصمه أقام شاهدين مجهولين لا يعرفهما الحاكم ويبقى
خصمه في الحبس دائماً وهذا ضرر كثير مع أن الأصل براءة الذمة فأما الثلاثة
أيام فهي يسيرة
(11/452)
(فصل) إذا ادعى العبد أن سيده أعتقه وأقام
شاهدين لم يعدلا فسأل الحاكم أن يحول بينه وبين سيده إلى أن يبحث الحاكم عن
عدالة الشهود فعل الحاكم ذلك ويؤجره من ثقة ينفق عليه من كسبه ويحبس الباقي
فإن عدل الشاهدان ان أسلم إليه الباقي من كسبه وإن فسقا رد إلى سيده وإنما
حلنا بينهما لما ذكرناه في الفصل الذي قبل هذا، ولأننا لو لم نحل بينهما
أفضى إلى أن تكون أمة يطؤها وإن أقام شاهداً واحداً وسأل أن يحال بينهما
ففيه وجهان (فصل) وإن أقامت المرأة شاهدين يشهدان بطلاقها ولم تعرف عدالة
الشهود حيل بينه وبينها وإن أقامت شاهداً واحداً لم يحل بينهما لأن البينة
لم تتم وهذا مما لا يثبت إلا بشاهدين * (مسألة) * (وإن حاكم إليه من لا
يعرف لسانه ترجم له من يعرف لسانه) إذا تحاكم إلى القاضي العربي أعجميان أو
أعجمي وعربي فلا بد من مترجم عنهما * (مسألة) * (ولا يقبل في الترجمة
والجرح والتعديل والتعريف والرسالة إلا قول عدلين) وبهذا قال الشافعي وعن
أحمد أنه يقبل واحد وهذا اختيار أبي بكر عبد العزيز وابن المنذر
وقول أبي حنيفة قال ابن المنذر في حديث زيد بن ثابت أن النبي صلى الله عليه
وسلم أمره أن يتعلم كتاب يهود قال فكنت أكتب له إذا كتب إليهم وأقرأ له إذا
كتبوا ولأنها مما لا تفتقر إلى لفظ الشهادة فأجزأ فيها الواحد كإخبار
الديانات ولأنه نقل ما خفي عن الحاكم إليه فيما يتعلق بالمتحاكمين فوجب فيه
العدد كالشهادة ولأن ما لا يفهمه الحاكم وجوده عنده كغيبته فإذا ترجم له
كان كنقل الإقرار اليه من غير مجلسه ولا يقبل ذلك إلا من شاهدين كذا ههنا
فعلى هذه الرواية تكون الترجمة شهادة تفتقر إلى العدد
(11/453)
والعدالة ويعتبر فيها من الشروط ما يعتبر
في الشهادة على الإقرار بذلك الحق فإن كان مما يتعلق بالحدود والقصاص اعتبر
فيه الحرية ولم يكف إلا شاهدان ذكران إن كان مما لا يكفي فيه ترجمة رجل
وامرأتين ولم تعتبر الحرية فيه وإن كان في حد زنا خرج في الترجمة وجهان
(أحدهما) لا يكفي فيه أقل من أربعة رجال احرار عدول (والثاني) يكفي فيه
اثنان بناء على الروايتين في الشهادة على الإقرار بالزنا ويعتبر فيه لفظ
الشهادة لأنه شهادة وإن قلنا يكفي فيه واحد فلا بد من عدالته ولا يقبل من
كافر ولا فاسق ويقبل من العبد لأنه من أهل الشهادة ولرواية وقال أبو حنيفة
لا يقبل من العبد لكونه ليس من أهل الشهادة ولنا أنه خبر يكفي فيه قول
الواحد فيقبل فيه خبر العبد كإخبار الديانات ولا نسلم أن هذه شهادة ولأن
العبد ليس من أهل الشهادة ولا يعتبر فيه لفظ الشهادة كالرواية وعلى هذا
الأصل ينبغي أن يقبل فيه ترجمة المرأة إذا كانت من أهل العدالة لأن روايتها
مقبولة، فأما الجرح والتعديل فلا يكون إلا من إثنين وبهذا قال مالك
والشافعي ومحمد بن الحسن وابن المنذر وعن أحمد يقبل ذلك من واحد وهو اختيار
أبي بكر وقول أبي حنيفة لأنه خبر ولا يعتبره فيه لفظ الشهادة فيقبل من واحد
كالرواية ولنا أنه إثبات صفة من يبني الحاكم حكمة على صفته فأعتبر العدد
كالحضانة وفارق الرواية فإنها على المساهلة ولا نسلم أنها لا تفتقر إلى لفظ
الشهادة (فصل) والحكم في التعريف والرسالة كالحكم في الترجمة وفيها من
الخلاف ما فيها، ذكره شيخنا في الكتاب المشروح وذكره الشريف أبو جعفر وأبو
الخطاب
(11/454)
* (مسألة) * (ومن ثبتت عدالته مرة فهل
يحتاج إلى تجديد البحث عن عدالته مرة أخرى؟ على وجهين) وجملة ذلك أن من
ثبتت، عدالته ثم شهد عند الحاكم بعد ذلك بزمن قريب حكم بشهادتة وعدالته لأن
عدالته ثبتت وإن كان بعده بزمن طويل ففيه وجهان (أحدهما) لا يحتاج إلى ذلك
(والثاني) يحتاج لأن من طول الزمان تتغير الأحوال * (فصل) * قال الشيخ رحمه
الله (وإن ادعى على غائب أو مستتر في البلد أو ميت أو صبي أو مجنون وله
بينة سمعها الحاكم وحكم بها) من ادعى حقاً على غائب في بلد آخر وطلب من
الحاكم سماع البينة والحكم بها عليه فعلى الحاكم إجابته إذا كملت الشروط
وبهذا قال ابن شبرمة ومالك والشافعي والاوزاعي والليث وسوار وأبو عبيد
وإسحاق وابن المنذر وكان شريح لا يرى القضاء على الغائب وعن أحمد مثله وبه
قال ابن أبي ليلى والثوري وأبو حنيفة وأصحابه وروي ذلك عن القاسم والشعبي
إلا أن أبا حنيفة قال إذا كان له خصم حاضر من وكيل أو شفيع جاز الحكم عليه
واحتجوا بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لعل " إذا تقاضى إليك
رجلان فلا تقض للأول حتى تسمع كلام الآخر فإنك تدري بما تقضي " قال الترمذي
هذا حديث حسن صحيح ولأنه قضاء لأحد الخصمين وحده فلم يجز كما لو كان الآخر
في البلد ولأنه يجوز أن يكون الغائب مما يبطل البينة ويقدح فيها فلم يجز
الحكم عليه
(11/455)
ولنا أن هنداً قالت يا رسول الله إن أبا
سفيان رجل شحيح وليس يعطيني ما يكفيني وولدي قال " خذي ما يكفيك وولدك
بالمعروف " متفق عليه ففضى عليه لها ولم يكن حاضراً، ولأن هذا بينة مسموعة
وعادلة فجاز الحكم بها كما لو كان الخصم حاضراً يقدم عليه إذا كان غائباً
كسماع البينة وأما حديثهم فنقول به إذا تقاضى إليه رجلان لم يجز الحكم قبل
سماع كلامهما وهذا يقتضي أن يكونا حاضرين ويفارق الحاضر الغائب فإن البينة
لا تسمع على حاضر إلا بحضرته والغائب بخلافه، وقد ناقض أبو حنيفة
أصله فقال إذا جاءت امرأة فادعت أن لها زوجاً غائباً وله مال في يد رجل
وتحتاج إلى النفقة فاعترف لها بذلك فإن الحاكم يقضي عليه بالنفقة، ولو ادعى
على حاضر أنه اشترى من غائب ما فيه شفعة وأقام بينة بذلك حكم بالبيع والأخذ
بالشفعة ولو مات المدعى عليه فحضر بعض ورثته أو حضر وكيل الغائب وأقام
المدعي بينة حكم له بما ادعاه، والغيبة المعتبرة إلى مسافة القصر لأنها
التي تبنى عليها الأحكام (فصل) وكذلك الحكم في المستتر في البلد لأنه تعذر
حضوره أشبه الغائب بل أولى فإن الغائب معذور ولا عذر للمستتر نص عليه أحمد
في رواية حرب وروى حرب بإسناده عن أبي موسى قال كان الخصمان إذا اختصما إلى
رسول الله صلى الله عليه وسلم فاتعدا الموعد فوفى أحدهما ولم يوف الآخر قضى
للذي وفى ولأنه لو لم يحكم عليه لجعل الاستتار وسيلة إلى تضييع الحقوق *
(مسألة) * (والميت المدعى عليه كالغائب بل أولى) لأن الغائب قد يحضر بخلاف
الميت
(11/456)
قال الشاعر: وكل ذي غيبة يؤوب * وغائب
الموت لا يؤوب وكذلك الصبي والمجنون المدعى عليهما يجوز سماع البينة عليهما
والحكم عليهما لأنه لا يعبر عن نفسه فهو كالغائب وفي المستتر قول آخر يأتي
ذكره إن شاء الله تعالى.
* (مسألة) * (وهل يحلف المدعى عليه إذا لم يبرأ إليه منه ولا من شئ منه؟
على روايتين) وجملة ذلك أن البينة إذا قامت على غائب أو غير مكلف كالصبي
والمجنون لم يستحلف المدعي مع يمينه في أشهر الروايتين لقول رسول الله صلى
الله عليه وسلم " البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه " ولأنها بينة
عادلة فلم تجب اليمين معها كما لو كانت على حاضرة والثانية يستحلف معها
وقول الشافعي لأنه يجوز أن يكون استوفى ما قامت به البينة أو ملكه العين
التي قامت بها البينة، ولو كان حاضراً فادعى ذلك لوجبت اليمين فإذا تعذر
ذلك منه لغيبته أو عدم تكليفه يجب أن يقوم الحاكم مقامه فيما يمكن دعواه
ولأن الحاكم مأمور بالاحتياط في حق الصبي والمجنون والغائب لأن كل ولاحد
منهم لا يعبر عن نفسه وهذا من الاحتياط والأولى ظاهر المذهب * (مسألة) *
(ثم إذا قدم الغائب أو بلغ الصبي أو أفاق المجنون فهو على حجته)
أما إذا قدم الغائب عن الحكم فإن الحكم يقف على حضوره وإن جرح الشهود لم
يحكم عليه وإن استنظر الحاكم أجله ثلاثاً فإن أقام البينة بجرحهم وإلا حكم
عليه وإن ادعى القضاء أو الإبراء وكانت له بينة به برئ وإلا حلف المدعي
وحكم، له وإن قدم بعد الحكم فجرح الشهود بأمر كان قبل الشهادة
(11/457)
بطل الحكم لفوات شرطه، وإن جرحهم بأمر بعد
أداء الشهادة أو مطلقاً لم يبطل الحكم ولم يقبله الحاكم لجواز أن يكون بعد
الحكم فلا يقدح فيه (فصل) ولا يقضى على الغائب إلا في حقوق الآدميين فأما
في الحدود التي لله تعالى فلا يقضي بها عليه لأن مبناها على المساهلة
والاسقاط فإن قامت بينة على غائب بسرقة مال حكم بالمال دون القطع (فصل)
ظاهر كلام أحمد أنه إذا قضى على الغائب بعين سلمت الى المدعي وإن قضى عليه
بدين ووجد له مال احذ منه فإنه قال في رواية حرب في رجل أقام بينة أن له
سهماً من ضيعة في أيدي قوم فتواروا عنه يقسم عليهم شهدوا أو غابوا ويدفع
إلى هذا حقه ولأنه ثبت حقه بالبينة فيسلم إليه كما لو كان خصمه حاضراً
ويحتمل ألا يدفع إليه شئ حتى يقيم كفيلاً أنه متى حضر خصمه وأبطل دعواه
فعليه ضمان ما أخذه لئلا يأخذ المدعي ما حكم له به ثم يأتي خصمه فيبطل حجته
أو يقيم بينة بالقضاء والإبراء أو يملك العين التي قامت بها البينة بعد
ذهاب المدعي أو موته فيضيع مال المدعى عليه، وظاهر كلام أحمد الأول فإنه
قال في رجل عنده دابة مسروقة فقال هي عندي وديعة إذا أقيمت البينة أنها له
تدفع إلى الذي أقام البينة حتى يجئ صاحب الوديعة فيثبت.
* (مسألة) * (وإن كان الخصم في البلد غائباً عن المجلس لم تسمع البينة حتى
يحضر فإن امتنع من الحضور سمعت البينة وحكم بها في إحدى الروايتين، وفي
الأخرى لا تسمع حتى يحضر فإن أبى بعث إلى صاحب الشرطة ليحضره فإن تكرر منه
الاستتار أقعد على بابه من يضيق عليه في دخوله وخروجه حتى يحضر) .
وجملة ذلك أن الحاضر في البلد أو قريباً منه إذا لم يمتنع من الحضر لم يحكم
عليه قبل
(11/458)
حضوره في قول أكثر أهل العلم ولأصحاب
الشافعي وجه أنه يقضي عليه في غيبته لأنه غائب أشبه الغائب البعيد.
ولنا أنه أمكن سؤاله فإن امتنع من الحضور أو توارى فظاهر كلام أحمد جواز
القضاء عليه لما ذكرنا عنه في رواية حرب وروى عنه أبو طالب في رجل وجد
غلامه عند رجل فأقام البينة أنه غلامه فقال الذي عنده الغلام أودعني هذا
رجل فقال أحمد أهل المدينة يقضون على الغائب ويقولون أنه لهذا الذي أقام
البينة وهو مذهب حسن وأهل البصرة يقضون على غائب يسمونه الأعذار وهو إذا
ادعى على رجل ألفاً وأقام بينة فاختفى المدعى عليه يرسل إلى بابه فينادي
الرسول ثلاثاً فإن جاء وإلا فقد أعذروا اليه فهذا يقوي قول أهل المدينة وهو
مذهب حسن، قد ذكر الشريف أبو جعفر وأبو الخطاب انه يقضى عى الغائب الممنع
وهو مذهب الشافعي لأنه تعذر حضوره وسؤاله فجاز القضاء عليه كالغائب البعيد
بل هو أولى لأن البعيد معذور وهذا لا عذر له وعلى القول الآخر إذا امتنع من
الحضور بعث إلى صاحب الشرطة ليحضره فإن تكرر منه الاستتار أقعد على بابه من
يضيق عليه في دخوله وخروجه حتى يحضر لأن ذلك طريق إلى حضوره وتخليص الحق
منه.
* (مسألة) * (وإن ادعى أن أباه مات عنه وعن اخ له غائب وله مال في يد فلان
أو دين عليه فأقر المدعى عليه أو ثبتت بينته سلم إلى المدعي نصيبه وأخذ
الحاكم نصيب الغائب فحفظ له ويحتمل أنه إذا كان المال ديناً أن يترك نصيب
الغائب في ذمة الغريم حتى يقدم) .
وجملة ذلك أن من ادعى أن أباه مات وخلفه وأخاً غائبا لا وارث له سواهما
وترك في يد إنسان
(11/459)
داراً أو عيناً منقولة فأقر له صاحب اليد
أو أنكر فثبت ما ادعاه ثبت ما في يد المدعي للميت وانتزع من يد المنكر فدفع
نصفها إلى المدعي وجعل النصف الآخر في يد أمين للغائب تكرمة له إن كان يمكن
كراؤه وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة ان كان مما لا ينقل ولا يحول ومما
ينحفظ ولا يخاف هلاكه لم ينزع نصيب الغائب من يد المدعي عليه لأن الغائب لم
يدعه هو ولا وكيله فلم ينزع من يد من هو فيه كما لو ادعى أحد الشريكين
داراً مشتركة بينه وبين أجنبي فإنه يسلم إلى المدعي نصيبه
ولا ينزع نصيب الغائب كذا ههنا.
ولنا أنها تركة ميت ثبتت ببينة فوجب أن ينزع نصيب الغائب كالنقول وكما لو
كان أخوه صغيراً أو مجنوناً ولأن في بقائه له ضرراً لانه قد يتعزر على
الغائب إقامة البينة وقد يموت الشاهدان أو يغيبا أو تزول عدالتهما ويعزل
الحاكم فيضيع حقه فوجب أن يحفظ بانتزاعه كالمنقول ويفارق الشريك للأجنبي
إجمالاً وتفصيلاً، أما الإجمال فإن المنقول ينتزع نصيب شريكه في الميراث
ولا ينزع نصيب الأجنبي وأما التفصيل فإن البينة ثبت بها الحق للميت بدليل
أنه تقضى منه ديونه وتنفذ منه وصاياه ولأن الأخ يشاركه فيما أخذه إذا تعذر
عليه أخذ الباقي فأما إن كان ديناً في ذمة إنسان فهل يقبض الحاكم نصيب
الغائب؟ فيه وجهان.
(أحدهما) يقبضه كما يقبض العين (والثاني) لا يقبضه لأنه إذا كان في ذمة من
هو عليه كان أحوط من أن يكون أمانة في يد الأمين لأنه لا يؤمن عليه التلف
إذا قبضه والأول أولى لأن في الذمة يعرض التلف بالفلس والموت وعزل الحاكم
وتعذر البينة إذا ثبت هذا فإننا إذا دفعنا إلى الحاضر نصف العين أو الدين
لم نطالبه بضمين لأننا دفعناه بقول الشهود والمطالبة بالضمين طعن عليهم قال
أصحابنا سواء كان الشاهدان من أهل الخبرة الباطنة أو لم يكونا، ويحتمل أن
لا تقبل شهادتهما في نفي وارث آخر حتى يكونا من أهل الخبرة الباطنة
والمعرفة المتقادمة لأنه ليس من أهل المعرفة لأن جهله بالوارث دليل على
عدمه فلا يكتفى به وهذا قول الشافعي فعلى هذا تكون الدار موقوفة فلا يسلم
إلى الحاضر نصفها حتى يسأل الحاكم ويكشف عن المواضع التي كان يطرقها وينادي
منادياً ينادي أن فلاناً مات فإن كان له وارث فليأت فإذا غلب على ظنه أنه
لو كان له وارث ظهر دفع إلى الحاضر نصيبه وهل يطلب منه ضمين يحتمل وجهين
وكذلك الحكم اذا كانا من أهل الخبرة الباطنة لكن لم يقولا ولا نعلم له
وارثاً سواه.
(11/460)
(فصل) فإن كان مع الابن ذو فرض فعلى ظاهر
المذهب يعطى فرضه كاملاً وعلى هذا التخريج يعطى اليقين فإن كانت له زوجة
أعطيت ربع الثمن عائلاً فيكون ربع التسع لجواز أن يكون
له أربع زوجات وإن كانت له جدة ولم يثبت موت أمه لم يعط شيئاً وإن علم
موتها أعطيت ثلث السدس لجواز أن يكون له ثلاث جدات وتعطاه عائلاً فيكون ثلث
العشر ولا يعطى العصبة شيئاً لجواز أن يكون وارث يحجبه وإن كان زوجاً أعطي
الربع عائلاً وهو الخمس لجواز أن تكون المسألة عائلة فيعطى اليقين فإذا كشف
الحاكم أعطى الزوج نصيبه وكمل لذوي الفروض فروضهم.
(فصل) إذا اختلفا في دار في يد أحدهما فأقام المدعي بينة أن الدار كانت
ليست ملكه أو منذ شهر فهل تسمع البينة ويقضي بها على وجهين.
(أحدهما) تسمع ويحكم بها لأنها تثبت الملك في الماضي وإذا ثبت استديم حتى
يعلم زواله (والثاني) لا تسمع، قال القاضي هو الصحيح لأن الدعوى لا تسمع ما
لم يدعي المدعي الملك في الحال فلم يسمع ما لم يدعه لكن إن انضم إلى
شهادتهما بيان سبب يد الثاني وتعريف تعديها فقالا نشهد أنها كانت ملكه أمس
فغصبها هذا منه أو سرقها أو ضلت منه فالتقطها هذا ونحو ذلك سمعت وقضي بها
لأنه إذا لم يتبين السبب فاليد دليل الملك ولا تنافي بين ما شهدت به البينة
وبين دلالة اليد لجواز أن يكون ملكه أمس ثم ينتقل إلى صاحب اليد فإذا ثبت
أن سبب اليد عدوان خرجت عن كونها دليلاً فوجب القضاء باستدامة الملك
السابق، فإن أقر المدعي عليه أنها كانت للمدعي أمس أو فيما مضى سمع إقراره
في الصحيح وحكم به لأنه حينئذ يحتاج إلى سبب انتقالها إليه فيصير هو المدعي
فيحتاج إلى بينة ويفارق البينة من وجهين.
(أحدهما) أنه أقوى من البينة لكونها شهادة الإنسان على نفسه ويزول به
النزاع بخلاف البينة (الثاني) أن البينة لا تسمع إلا على ما ادعاه والدعوى
يجب أن تكون معلقة بالحال والإقرار يسمع ابتداء، فإن شهدت البينة أنها كانت
في يده أمس ففي سماعها وجهان، وإن أقر المدعي عليه بذلك فالصحيح أنها تسمع
ويقضي بها لما ذكرنا.
* (مسألة) * (وإن ادعى إنسان أن الحاكم حكم له بحق فصدقه قبل قول الحاكم
وحده) وإن لم يذكر الحاكم ذلك فشهد عدلان أنه حكم له به قبل شهادتهما وأمضى
القضاء وكذلك
(11/461)
إن شهدا أن فلاناً وفلاناً شهدا عندك بكذا
قبل شهادتهما) إذا ادعى إنسان على الحاكم أنك حكمت لي بهذا الحق على خصمي
فذكر الحاكم حكمه أمضاه وألزم خصمه ما حكم به عليه وليس هذا حكما بالعلم
إنما هو امضاء لحكمه السابق وإن لم يذكره القاضي فشهد عنده شاهدان على حكمه
لزمه قبولهما وامضاء القضاء وبه، قال ابن ابي ليلى ومحمد بن الحسن قال
القاضي هذا قياس قول أحمد لأنه قال يرجع الإمام إلى قول اثنين فصاعدا من
المأمومين وقال أبو حنيفة وابو يوسف والشافعي لا يقبل لأنه لا يمكنه الرجوع
إلى الإحاطة والعلم فلا يرجع إلى الظن كالشاهد إذا نسي شهادته نشهد عنده
شاهدان أنه شهد لم يكن له أن يشهد.
ولنا أنهما لو شهدا عنده بحكم غيره قبل فكذلك إذا شهدا عنده بحكمه فإنهما
شهدا بحكم حاكم وما ذكروه لا يصح لأن ذكر ما نسيه اليه ويخالف الشاهد لأن
الحاكم يمضي ما حكم به إذا ثبت عنده والشاهد لا يقدر على إمضاء شهادته
وإنما يمضيها الحاكم وكذلك إن شهدا أن فلاناً وفلاناً شهدا عندك بكذا قبل
شهادتهما على الشاهدين كما يقبل شهادتهما على الحق نفسه * (مسألة) * (وإن
لم يشهد به أحد لكن وجده في قمطره في صحيفة تحت ختمه بخطه فهل ينفذه؟ على
روايتين) (إحداهما) لا ينفذه إلا أن يذكره نص عليه أحمد في الشهادة قاله
بعض أصحابنا وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي ومحمد بن الحسن (والثانية) أنه
يحكم به وبه قال ابن ابي ليلى قال شيخنا وهذا الذي رأيته عن أحمد في
الشهادة لأنه إذا كان في قمطره تحت ختمه لم يحتمل أن يكون إلا صحيحاً ووجه
الأولى أنه حكم حاكم لم يعلمه فلم يجز انفاذه إلا ببينة كحكم غيره ولأنه
يجوز أن يزور عليه وعلى خطه وختمه والخط يشبه الخط فإن قيل فلو وجد في دفتر
أبيه حقاً على إنسان جاز له أن يدعيه ويحلف عليه فلنا هذا يخالف الحكم
والشهادة بدليل الإجماع على أنه لو وجد خط أبيه بشهادة لم يجز أن يحكم بها
ولا يشهد بها ولو وجد حكم أبيه مكتوباً بخطه لم يجز له انفاذه ولأنه يمكنه
الرجوع فيما حكم به إلى نفسه لأنه فعله فروعي ذلك، وأما ما كتبه أبوه فلا
يمكنه الرجوع فيه إلى نفسه فكفى فيه الظن
* (مسألة) * (وكذلك الشاهد إذا وجد خطه بشهادة في كتاب ولم يذكرها فهل له
أن يشهد بها؟ على روايتين)
(11/462)
(إحداهما) له أن يشهد بها لأن الظاهر أنه
خطه (والثانية) لا يشهد بها إلا أن يذكرها لأنها قد تتزور على خطه وقد وجد
ذلك (فصل) قال الشيخ رحمه الله ومن كان له على إنسان حق ولم يمكنه أخذه
بالحاكم وقدر له على مال لم يجز أن يأخذ قدر حقه نص عليه أحمد واختاره عامة
شيوخنا وجملة ذلك أنه إذا كان لرجل على غيره حق وهو مقر به باذل له لم يكن
له أن يأخذ من ماله إلا ما يعطيه بلا خلاف بين أهل العلم فإن أخذ من ماله
شيئاً بغير إذنه لزمه رده إليه وإن كان قد حقه لأنه لا يجوز أن يملك عليه
عيناً من أعيان ماله بغير اختياره لغير ضرورة وان كانت من جنس حقه لأنه قد
يكون للإنسان غرض في العين فإن أتلفها أو تلفت فصارت ديناً في ذمته وكان
الثابت في ذمته من جنس حقه تقاصا في قياس المذهب والمشهور من مذهب الشافعي
وإن كان مانعاً له لأمر يبيح المنع كالتأجيل والإعسار لم يجز أخذ شئ من
ماله بغير خلاف، وإن أخذ شيئاً لزمه رده ما كان باقياً أو عوضه إن كان
تالفاً ولا يحصل التقاص ههنا لأن الدين الذي له لا يستحق أخذه في الحال
بخلاف التي قبلها، وإن كان ماله بغير حق وقدر على استخلاصه بالحاكم
والسلطان لم يجز له الأخذ أيضاً بغير خلاف لأنه قدر على استيفاء حقه ممن
يقوم مقامه فأشبه ما لو قدر على استيفائه من وكيله، وإن لم يقدر على ذلك
لكونه جاحداً له ولا بينة به ولكونه لا يجيبه إلى المحاكمة ولا يمكنه
إجباره على ذلك أو نحو هذا فالمشهور في المذهب أنه ليس له أخذ قدر حقه وهو
إحدى الروايتين عن مالك قال ابن عقيل قد جعل أصحابنا المحدثون بجواز الأخذ
وجها في المذهب أخذاً من حديث هند حين قال لها النبي صلى الله عليه وسلم "
خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف " وقال أبو الخطاب ويتخرج لنا جواز الأخذ فإن
كان المقدور عليه قدر حقه من جنسه أخذه وإن كان من غير جنسه تحرى واجتهد في
تقويمه لما ذكرنا من حديث هند، ومن قوله الرهن يركب
ويحلب بقدر ما ينفق والمرأة تأخذ مؤنتها، وبائع السلعة يأخذها من مال
المفلس بغير رضاه وقال الشافعي إن لم يقدر على استخلاص حقه ببينة فله أخذ
قدر حقه من جنسه أو من غير جنسه وإن كان له بينة وقدر على استخلاصه ففيه
وجهان والمشهور من مذهب مالك أنه إن لم يكن لغيره عليه دين فله أن يأخذ
بقدر حقه وإن كان عليه دين لم يجز لأنهما يتحاصان في ماله إذا أفلس وقال
أبو حنيفة له ان يأخذ بقدر حقه إن كان عيناً أو ورقاً أو من جنس حقه، وإن
كان المال عرضاً لم يجز لأن أخذ العرض عن حقه اعتياض ولا تجوز المعاوضة إلا
برضاء من المتعاوضين قال الله
(11/463)
تعالى (إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم)
واحتج من أجاز الأخذ بحديث هند حين جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
فقالت يا رسول الله أن أبا سفيان رجل صحيح وليس يعطيني من النفقة ما يكفيني
وولدي فقال " خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف " متفق عليه وإذا جاز لها أن
تأخذ من مالها ما يكفيها بغير إذنه جاز للرجل الذي له الحق على الرجل ولنا
قول النبي صلى الله عليه وسلم " أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك
" رواه الترمذي وقال حديث حسن ومتى أخذ منه قدر حقه من ماله بغير إذنه فقد
خانه فيدخل في عموم الخبر وقال عليه الصلاة والسلام " لا يحل مال امرئ مسلم
إلا عن طيب نفس منه " ولأنه إن أخذ من غير جنسه كان معاوضة بغير تراض، وإن
أخذ من جنس حقه فليس له تعيين الحق بغير رضاء صاحبه فإن التعيين إليه ألا
ترى أنه لا يجوز له أن يقول لا آخذ حقي إلا من هذا الكيس دون هذا ولأن كل
ما لا يجوز له تملكه إذا لم يكن له دين لا يجوز له أخذه إذا كان له دين كما
لو كان باذلا له فأما حديث هند فإن أحمد اعتذر عنه بأن حقها واجب عليه في
كل وقت وهذا إشارة منه إلى الفرق بالمشقة في المحاكمة في كل وقت والمخاصمة
كل يوم تجب فيه النفقة بخلاف الدين، وفرق أبو بكر بينهما بفرق آخر وهو أن
قيام الزوجية كقيام البينة فكأن الحق صار معلوماً بعلم قيام مقتضيه وبينهما
فرقان آخران (احداهما) أن للمرأة من البسط في ماله بحكم العادة ما يؤثر في
إباحة أخذ الحق وبذل اليد فيه بالمعروف بخلاف الأجنبي
(الثاني) أن النفقة تراد لاحياء النفس وابقاء المهجة وهذا مما لا يصبر عنه
ولا سبيل إلى تركه فجاز أخذ ما تندفع به هذه الحاجة بخلاف الدين حتى يقول
لو صارت النفقة ماضية لم يكن لها أخذها ولو وجب لها عليه دين آخر لم يكن
لها أخذه فعلى هذا إن أخذ شيئاً لزمه رده إن كان باقيا وإن كان تالفاً وجب
مثله إن كان مثلياً أو قيمته أن كان متقوماً فإن كان من جنس دينه تقاصا
وتساقطا في قياس المذهب وإن كان من غير جنسه غرمه، ومن جوز من أصحابنا
الأخذ فإنه إن وجد جنس حقه جاز له الأخذ بقدر حقه من غير زيادة وليس له
الأخذ من غير جنسه مع قدرته على جنس حقه، وإن لم يجد إلا من جنس غير حقه
فيحتمل أن لا يجوز له تملكه لأنه لا يجوز له أن يبيعه من نفسه وهذا يبيعه
من نفسه وتلحقه فيه تهمة، ويحتمل أن يجوز له ذلك كما قالوا الرهن ينفق عليه
إذا كان محلوباً أو مركوباً
(11/464)
يحلب ويركب بقدر النفقة وهي من غير الجنس.
واختلف أصحاب الشافعي في هذا فمنهم من جوزه له ومنهم من قال: يواطئ رجلاً
يدعي عليه عند الحاكم ديناً فيقر له بملك الشي المأخوذ الذي أخذه فيمتنع من
عليه الدعوى من قضاء الدين ليبيع الحاكم الشئ المأخوذ ويدفعه إليه *
(مسألة) * (وحكم الحاكم لا يزيل الشئ عن صفته في الباطن وذكر ابن أبي موسى
عنه رواية أخرى أنه يزيل العقود والفسوخ) ذهب جمهور العلماء إلى أن حكم
الحاكم لا يزيل الشئ عن صفته في الباطن منهم مالك والاوزاعي والشافعي واحمد
وإسحاق وابو ثور وداود ومحمد بن الحسن وقال أبو حنيفة إذا حكم بعقد أو فسخ
أو طلاق نفذ حكمه ظاهراً وباطناً، فلو أن رجلين تعمدا الشهادة على رجل أنه
طلق امرأته فقبلهما القاضي بظاهر عدالتهما ففرق بين الزوجين لجاز لأحد
الشاهدين نكاحها بعد قضاء عدتها وهو عالم بتعمد الكذب، ولو أن رجلاً ادعى
نكاح امرأة وهو يعلم أنه كاذب وأقام شاهدي زور فحكم الحاكم حلت له بذلك
وصارت زوجته قال إبن المنذر وتفرد أبو حنيفة فقال لو استأجرت امرأة شاهدين
شهدا لها بطلاق زوجها وهما يعلمان كذبها وتزويرها فحكم الحاكم بطلاقها يحل
لها أن تتزوج وحل لأحد الشاهدين نكاحها، واحتج بما روي عن علي رضي الله عنه
ان رجلاً ادعى على امرأة نكاحا فرفعها إلى علي رضي الله عنه فشهد له شاهدان
بذلك
فقضى بينها وبالزوجية فقالت والله ما تزوجني يا أمير المؤمنين اعقد بيننا
عقداً حتى أحل له فقال شاهداك زوجاك فدل على أن النكاح ثبت بحكمه ولأن
اللعان يفسخ به النكاح وإن كان أحدهما كاذباً فالحكم أولى ولنا قول النبي
صلى الله عليه وسلم " إنما أنا بشر مثلكم وإنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم أن
يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع منه فمن قضيت له بشئ من
حق أخيه فلا يأخذ منه شيئاً فإنما أقطع له قطعة من النار " متفق عليه وهذا
يدخل فيه ما إذا دعى أنه اشترى منه شيئاً فحكم له ولأنه
(11/465)
حكم له بشهادة زور فلا يحل له ما كان محرما
عليه كالمال المطلق، وأما الخبر عن علي أن صح فلا حجة لهم فيه لأنه أضاف
التزويج إلى الشاهدين لا إلى حكمه ولم يجبها إلى التزويج لأن فيه طعنا على
الشهود فأما اللعان فإنما حصلت الفرقة به لا بصدق الزوج ولهذا لو قامت
البينة به لم ينفسخ النكاح.
إذا ثبب هذا فإذا شهد على امرأة بنكاح وحكم به الحاكم ولم تكن زوجته فإنها
لا تحل له ويلزمها في الظاهر وعليها أن تمتنع منه ما أمكنها فإن أكرهها
فالإثم عليه دونها، وإن وطئها الرجل فقال أصحابنا وبعض الشافعية عليه الحد
لأنه وطئها وهو يعلم أنها أجنبية، وقيل لاحد عليه لانه وطئ مختلف في حكمه
فيكون شبهة وليس لها أن تتزوج غيره وقال أصحاب الشافعي تحل لزوج ثان غير
أنها ممنوعة منه في الحكم وقال القاضي يصح النكاح ولنا أن هذا يفضي إلى
الجمع بين الوطئ للمرأة من اثنين أحدهما يطؤها بحكم الظاهر والآخر بحكم
الباطن وهذا فساد فلا يشرع ولأنها منكوحة لهذا الذي قامت به البينة في قول
بعض الأئمة فلم يجز تزويجها لغيره كالمنكوحة بغير ولي، وحكى أبو الخطاب عن
أحمد رواية أخرى مثل مذهب أبي حنيفة كما حكى ابن أبي موسى في أن حكم الحاكم
يزيل العقود والفسوخ والأول هو المذهب (فصل) قال ابن المنذر ويكره للقاضي
أن يفتي في الأحكام كان شريح، يقول أنا أقضي ولا أفتي أما الفتيا في
الطهارة وسائر ما لا يحكم في مثله فلا بأس بالفتيا فيه.
(11/466)
باب حكم كتاب القاضي إلى القاضي الأصل في
كتاب القاضي والامير إلى الامير الكتاب والسنة والإجماع أما الكتاب فقول
الله
تعالى (إني ألقي إلي كتاب كريم إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم
أن لا تعلوا علي وأئتوني مسلمين) وأما السنة فإن النبي صلى الله عليه وسلم
كتب إلى كسرى وقيصر والنجاشي وإلى ملوك الأطراف وكان يكتب إلى ولاته وعماله
وسعاته وكان في كتابه إلى قيصر " بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله
إلى قيصر عظيم الروم أما بعد فأسلم تسلم واسلم يؤتك الله أجرك مرتين وإن
توليت فإن عليك أثم الأريسيين ويا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا
وبينكم " وروى الضحاك بن سفيان قال كتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
أن أورث امرأة أشيم الضبابي من دية زوجها وأجمعت الأمة على كتاب القاضي إلى
القاضي ولأن الحاجة إلى قبوله داعية فإن من له حق في بلد غير بلده لا يمكنه
إثباته والمطالبة به إلا بكتاب القاضي فوجب قبوله * (مسألة) * (يقبل كتاب
القاضي إلى القاضي في المال وما يقصد به المال كالقرض والغصب والبيع والرهن
والصلح والوصية له والجناية الموجبة للمال ولا يقبل في حد لله تعالى وهل
يقبل فيما عدا ذلك مثل القصاص والنكاح والطلاق والخلع والعتق والنسب
والكتابة والتوكيل والوصية إليه؟ على روايتين فأما حد القذف فان قلنا هو حق
لله تعالى فلا يقبل فيه وإن قلنا هو حق آدمي فهو كالقصاص)
(11/467)
وجملة ذلك أن كتاب القاضي إلى القاضي يقبل
في المال بغير خلاف علمناه ولا يقبل في الحدود كحق الله تعالى وهل يقبل
فيما عدا هذا؟ على وجهين وبهذا قال أصحاب الرأي وقال الشافعي يقبل كل حق
لآدمي من الجراح وغيرها وهل يقبل في الحدود التي لله تعالى؟ على قولين
(أحدهما) يقبل وهو قول مالك وأبي ثور وحد القذف ينبني على الخلاف فيه على
ما ذكرنا ولنا على أنها لا تقبل في الحدود أنها مبنية على الستر والدرء
بالشبهات والإسقاط بالرجوع عن الإقرار وكتاب القاضي إلى القاضي شهادة وفيه
شبهة فإنه يتطرق إليه احتمال الغلط أو السهو في شهود الفرع مع احتمال ذلك
في شهود الأصل وهذا احتمال زائد لا يوجد في شهادة الأصل وهو معتبر بدليل
أنها لا تقبل مع القدرة على شهود الأصل فوجب أن لا تقبل فيما يندرئ
بالشهبات ولأن كتاب القاضي إلى القاضي إنما يقبل للحاجة ولا حاجة الى ذلك
في الحد لأن ستر صاحبه أولى من الشهادة عليه ولأنه لا نص في ذلك ولا يصح
قياسه على
الأموال لما بينهما من الفرق والتساهل وظاهر كلام أحمد رحمه الله أن كتاب
القاضي إلى القاضي لا يقبل في القصاص أيضاً ولا حد القذف لأنه قال إنما
يجوز في الحقوق أما الدماء والحد فلا وهذا قول أبي حنيفة، وظاهر كلام
الخرقي أنه يقبل وهو قول مالك والشافعي وأبي ثور ولأنه حق آدمي لا يسقط
بالرجوع عن الإقرار به أشبه الأموال وذكر أصحابنا عن أحمد هذا رواية لأنه
قال شهادة رجل في
(11/468)
الطلاق جائزة قال أحمد ما أحسن ما قال
فجعله أصحابنا رواية في القصاص قال شيخنا وليس هذا برواية فإن الطلاق لا
يشبه القصاص والمذهب أنها لا تقبل فيه لأنه عقوبة بدنية تدرأ بالشبهاب
وتبنى على الإسقاط فأشبهت الحد فأما ما عدا الحدود ولاموال كالنكاح والطلاق
وسائر ما لا يثبت إلا بشاهدين فنص أحمد على قبولها في الطلاق والحقوق فدل
على جميعها في قبول هذا الحقوق وهو قول الخرقي وقال ابن حامد لا يقبل في
النكاح ونحوه قول أبي بكر فعلى قولهما لا تقبل الشهادة على الشهادة إلا في
المال وما يقصد به وهو قول أبي عبيد لأنه حق لا يثبت إلا بشاهدين فأشبه حد
القذف ووجه الأول أنه حق لا يدرأ بالشبهات فيثبت بالشهادة على الشهادة
كالمال وبهذا فارق الحدود وكتابة القاضي إلى القاضي حكمها حكم الشهادة على
الشهادة لأنه شهادة على شهادة * (مسألة) * (ويجوز كتاب القاضي فيما حكم به
لينفذه في المسافة القريبة ومسافة القصر ويجوز فيما ثبت عنده ليحكم به في
المسافة البعيدة دون القريبة) وجملة ذلك أن كتاب القاضي على ضربين (أحدهما)
أن يكتب بما حكم به وذلك مثل أن يحكم على رجل بحق فيتغيب قبل وفائه أو يدعي
حقاً على غائب ويقيم به بينة ويسأل الحاكم الحكم عليه فيحكم عليه ويسأله أن
يكتب له كتاباً بحكمه إلى قاضي البلد الذي فيه الغائب فيكتب اليه أو تقوم
البينة على حاضر فيهرب قبل الحكم عليه فيسأل صاحب الحكم الحاكم الحكم عليه
وأن يكتب له كتاباً بحكمه ففي هذه
(11/469)
الصور الثلاث تلزم الحاكم إجابته إلى
الكتابة ويلزم المكتوب اليه قوله سواء كان بينهما مسافة قريبة أو بعيدة حتى
لو كانا في جانبي البلد أو مجلس الحاكم لزمه قبوله وامضاؤه وسواء كان حكما
على حاضر أو غائب لا نعلم
في هذا خلافاً لأن حكم الحاكم يجب امضاؤه على كل حاكم (الضرب الثاني) أن
يكتب بعلمه شهادة شاهدين عنده بحق لفلان مثل أن تقوم البينة عنده بحق لرجل
على آخر ولم يحكم به فيسأل صاحب الحق ان يكتب له كتاباً بما حصل عنده فإنه
يكتب له أيضاً، قال القاضي ويكون في كتابه شهد عندي فلان وفلان بكذا ليكون
المكتوب اليه هو الذي يقضي به ولا يكتب ثبت عندي لأن قوله ثبت عندي حكم
بشهادتهما فهذا لا يقبله المكتوب اليه الا في المسافة البعيدة التي هي
مسافة القصر ولا يقبله فيما دونها لأنه نقل شهادة فاعتبر فيه ما يعتبر في
الشهادة على الشهادة ونحو هذا قول الشافعي وقال أبو يوسف ومحمد يجوز أن
يقبله في بلده وحكي عن أبي حنيفة مثل هذا وقال بعض المتأخيرين من أصحابه
الذي يقتضيه مذهبه أنه لا يجوز كما لا يجوز ذلك في الشهادة على الشهادة
واحتج من أجازه لأنه كتاب الحاكم بما ثبت عنده فجاز قبوله مع القرب ككتابة
حكمه ولنا أن ذلك نقل الشهادة إلى المكتوب اليه فلم يجز مع القرب كالشهادة
على الشهادة ويفارق كتابه بالحكم فليس هو نقل إنما هو خبر
(11/470)
(فصل) ويقبل الكتاب من قاضي مصر إلى قاضي
مصر وإلى قاضي قرية ومن قاضي قرية إلى قاضي قرية وإلى قاضي مصر * (مسألة) *
(ويجوز أن يكتب إلى قاض معين وإلى من يصل إليه كتابي هذا من قضاة المسلمين
وحكامهم من غير تعيين ويلزم من وصله قبوله) وبهذا قال أبو ثور واستحسنه ابو
يوسف وقال أبو حنيفة لا يجوز أن يكتب إلى غير معين ولنا أنه كتاب حاكم من
ولايته وصل إلى حاكم فلزم قبوله كما لو كان الكتاب اليه بعينه * (مسألة) *
(ولا يقبل الكتاب إلا أن يشهد به شاهدان يحضرهما القاضي الكاتب فيقرؤه
عليهما ثم يقول أشهدكما أن هذا كتابي إلى فلان بن فلان ويدفعه إليهما فإذا
وصلا إلى المكتوب إليه دفعا إليه الكتاب وقالا نشهد أن هذا كتاب فلان إليك
كتبه من عمله وأشهدنا عليه، والاحتياط
أن يشهد عليه بما فيه ويختمه ولا يشترط ختمه وإن كتب كتاباً وأدرجه وختمه
وقال هذا كتابي إلى فلان اشهدا علي بما فيه لم يصح لأن أحمد قال فيمن كتب
وصيته وختمها ثم أشهد على ما فيها فلا حتى يعلمه ما فيها ويتخرج الجواز
لقوله إذا وجدت وصية الرجل مكتوبة عند رأسه من غير أن يكون أشهد
(11/471)
أو أعلم أحداً بها عند موته وعرف خطه وكان
مشهورا فإنه ينفذ ما فيها فعلى هذا عرف المكتوب إليه أنه خط القاضي الكاتب
وختمه جاز قبوله والعمل على الأول) وجملته أنه يشترط لقبول كتاب القاضي
شروط ثلاثة (أحدها) أن يشهد به شاهدان عدلان ولا يكفي معرفة المكتوب اليه
خط الكاتب وختمه ولا يجوز له قبوله بذلك في قول الجمهور وحكي عن الحسن
وسوار العنبري أنهم قالوا إذا كان يعرف خطه وختمه قبله وهو قول أبي ثور
والاصطخري ويتخرج لنا مثل ذلك لأنه تحصل به غلبة الظن فأشبه شهادة الشاهدين
ولنا أن ما أمكن أثباته بالشهادة لم يجز الاقتصار على الظاهر كإثبات العقود
ولان الخط يشبه الخط والختم يمكن التزوير عليه ويمكن الرجوع إلى الشهادة
فلم يعول على الخط كالشاهد لا يعول في الشهادة على الخط وفي هذا انفصال عما
ذكروه.
إذا اثبت هذا فإن القاضي إذا كتب الكتاب دعا رجلين يخرجان إلى البلد الذي
فيه القاضي المكتوب إليه فيقرأ عليهما الكتاب أو يقرؤه غيره عليهما والأحوط
أن ينظرا معه فيما يقرؤه فإن لم ينظرا جاز لأنه لا يستقرأ إلا ثقة فإذا قرأ
عليهما قال اشهدا على أن هذا كتابي إلى فلان وإن قال اشهدا علي بما فيه كان
أولى فان اقتصر على قوله هذا كتابي إلى فلان فظاهر كلام الخرقي أنه لا يجزئ
لانه يحملها الشهادة فاعتبر أن يقول اشهدا علي كالشهادة
(11/472)
على الشهادة وقال القاضي يجزئ وهو مذهب
الشافعي ثم إن كان ما في الكتاب قليلاً اعتمدا على حفظه وإن كان كثيراً فلم
يقدرا على حفظه كتب كل واحد منهما مضمونه وقابل بها لتكون معه يذكر بهاما
يشهد به ويقبضان الكتاب قبل أن يغيبا لئلا يدفع اليهما غيره فإذا وصل
الكتاب معهما اليه قرأه الحاكم أو غيره عليهما فإذا سمعاه قالا نشهد أن هذا
كتاب فلان لأنها أداء شهادة
فلا بد فيها من لفظ الشهادة، ويجب أن يقولا من عمله لأن الكتاب لا يقبل إلا
إذا وصل من مجلس عمله وسواء وصل الكتاب مختوماً أو غير مختوم مقبولاً أو
غير مقبول لأن الاعتماد على شهادتهما لا على الخط والختم فإن امتحى الكتاب
وكانا يحفظان ما فيه جاز لهما أن يشهدا بذلك، وإن لم يحفظاه لم يمكنهما
الشهادة، وقال أبو حنيفة وابو ثور لا يقبل الكتاب حتى يشهد شاهدان على ختم
القاضي ولنا أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب كتاباً إلى قيصر ولم يختمه
فقيل له أنه لا يقرأ كتاباً غير مختوم فاتخذ الخاتم واقتصاره على الكتاب
دون الختم دليل على أن الختم ليس بشرط في القبول وإنما فعله النبي صلى الله
عليه وسلم ليقرءوا كتابه ولأنهما لو شهدا بما في الكتاب وعرفا ما فيه لوجب
قبوله كما لو وصل مختوماً وشهدا بالختم.
إذا ثبت هذا فانه انما يعتبر ضبطهما لمعنى الكتاب وما يتعلق به الحكم قال
الأثرم سمعت أبا
(11/473)
عبد الله يسأل عن قوم شهدوا على صحيفة
وبعضهم ينظر فيها وبعضهم لا ينظر قال إذا حفظ فليشهد قيل كيف وهو كلام
كثير؟ قال يحفظ ما كان عليه الكلام والوضع قلت يحفظ المعنى؟ قال نعم قيل له
والحدود والثمن وأشباه ذلك؟ قال نعم * (مسألة) * (ولو أدرج الكتاب وختمه
وقال هذا خطي اشهدا علي بما فيه أو قد أشهدتكما على نفسي بما فيه لم يصح
هذا التحمل) وبه قال أبو حنيفة والشافعي، وقال أبو يوسف إذا ختمه بختمه
وعنونه جاز أن يتحملا الشهادة عليه مدرجاً فإذا وصل الكتاب شهدا عنه أنه
كتاب فلان ويتخرج لنا مثل هذا فإنهما شهدا بما في الكتاب فجاز، وإن لم
يعلما تفصيله كما لو شهدا بما في هذا الكيس من الدراهم جازت شهادتهما وإن
لم يعرفا قدرها ولنا انهما شهدا بمجهول لا يعلمانه فلم تصح شهادتهما كما لو
شهد أن لفلان على فلان مالا، وفارق
(11/474)
ما ذكره فإن تعيينه الدراهم التي في الكيس
أغنى عن معرفة قدرها، وههنا الشهادة على ما في الكتاب
دون الكتاب وهما لا يعرفانه (الشرط الثاني) أن يكتبه القاضي من موضع عمله
وولايته فإن كتبه من غير ولايته لم يسغ قبوله لأنه لا يسوغ له في غير
ولايته حكم فهو فيه كالعامي (الشرط الثالث) أن يصل الكتاب إلى المكتوب اليه
في موضع ولايته فإن وصله في غيره لم يكن له قبوله حتى يصير إلى موضع
ولايته، ولو ترافع اليه خصمان في غير محل ولايته لم يكن له الحكم بينهما
بحكم ولايته إلا إذا تراضيا عليه فيكون حكمه حكم غير القاضي إذا تراضيا به،
وسواء كان الخصمان من أهل عمله أو لم يكونا، ولو ترافع اليه خصمان وهو في
موضع ولايته من غير أهل ولايته كان له الحكم بينهما لأن الاعتبار بموضعهما
إلا أن يأذن الإمام لقاض أن يحكم بين أهل ولايته حيث كانوا ويمنعه من الحكم
بين غير أهل ولايته حيثما كان فيكون الأمر على ما أذن فيه ومنع منه لأن
الولاية بتوليته فيكون الحكم على وفقها * (مسألة) * (وإذا وصل الكتاب فأحضر
المكتوب إليه الخصم المحكوم عليه في الكتاب فقال لست فلان بن فلان فالقول
قوله مع يمينه إلا أن تقوم به بينة فإن ثبت أنه فلان من فلان ببينة أو
إقرار فقال: المحكوم عليه غيري لم يقبل الا ببينة تشهد أن في البلد من
يساويه فيما سمي ووصف به فيتوقف حتى يعلم المحكوم عليه منهما) وجملة ذلك
أنه إن أنكر وقف الحاكم ويكتب إلى الحاكم الكاتب يعلمه الحال وما وقع من
الإشكال حتى يحضر الشاهدين فيشهدا عنه بما يتميز به المشهود عليه منهما فإن
ادعى المسمى أنه كان في البلد من
(11/475)
يشاركه في الاسم والصفة وقد مات نظر فإن
كان موته قبل وقوع المعاملة التي وقع الحكم بها أو كان ممن لم يعاصره
المحكوم عليه أو المحكوم له لم يقع إشكال وكان وجوده كعدمه، وإن كان موته
بعد الحكم أو بعد المعاملة وكان ممن أمكن أن تجري بينه وبين المحكوم له
معاملة فقد وقع الإشكال كما لو كان حياً لجواز أن يكون الحق على الذي مات
(فصل) وإذا كتب بثبوت بينة أو إقرار بدين جاز وحكم به المكتوب اليه وأخذ
المحكوم عليه
وإن كان ذلك عيناً كنقار محدود أو عيناً مشهورة لا تشتبه بغيرها كعبد معروف
مشهورا ودابة كذلك حكم المكتوب اليه أيضاً والزم تسليمه إلى المحكوم له به،
وإن كان عينا لا تتميز إلا بالصفة كعبد غير مشهور أو غيره من الأعيان التي
لا تتميز إلا بالوصف ففيه وجهان (أحدهما) لا يقبل كتابه به وهو قول أبي
حنيفة وأحد الوجهين لأصحاب الشافعي لأن الوصف لا يكفي بدليل أنه لا يجوز أن
يشهد لرجل بالوصف والتحلية كذلك المشهود به (والثاني) يجوز لأنه يثبت في
الذمة بالعقد على هذه الصفة فأشبه الدين ويخالف المشهود له فإنه لا حاجة
إلى ذلك فيه فإن الشهادة له لا تثبت إلا بعد دعواه ولأن المشهود عليه يثبت
بالصفة والتحلية فكذلك المشهود به فعلى هذا الوجه ينفذ العين مختومة وإن
كان عبداً أو أمة ختم في عنقه وبعثه إلى القاضي الكاتب ليشهد الشاهدان على
عينه فإن شهدا عليه دفع إلى المشهود له به وإن لم يشهدا على عينه وقالا:
المشهود به غير هذا وجب على آخذه رده إلى صاحبه ويكون حكمه حكم المغصوب
(11/476)
في ضمانه وضمان نقصه ومنفعته فلزمه أجره إن
كان له أجر من يوم أخذه إلى أن يصل الى صاحبه لأنه أخذه من صاحبه قهراً
بغير حق (فصل) وإن تغيرت حال القاضي الكاتب بعزل أو موت لم يقدح في كتابه،
وإن تغيرت بفسق لم يقدح فيما حكم به، وبطل فيما ثبت عنده ليحكم به، وإن
تغيرت حال المكتوب إليه فلمن قام مقامه قبول الكتاب والعمل به وجملة ذلك
أنه لا يخلو من أن تتغير حال القاضي الكاتب أو المكتوب اليه أو حالهما معاً
فإن تغيرت حال الكاتب بموت أو عزل بعد أن كتب الكتاب وأشهد على نفسه لم
يقدح في كتابه وكان على من وصله الكتاب قبوله والعمل به سواء تغيرت حاله
قبل خروج الكتاب من بلده أو بعده وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة لا يعمل
به في الحالين.
وقال أبو يوسف إن مات قبل خروجه من يده لم يعمل به، وإن مات بعد خروجه من
يده عمل به لأن كتاب الحاكم بمنزلة الشهادة على الشهادة لأنه ينقل شهادة
شاهدي الأصل فإذا مات قبل وصول الكتاب صار بمنزلة موت شاهدي الفرع قبلي
أداء شهادتهما ولنا أن المعول في الكتاب على الشاهدين اللذين يشهدان على
الحاكم وهما حيان فيجب أن ينقل
كتابه كما لو لم يمت ولأن كتابه إن كان فيما حكم به فحكمه لا يبطل بموته
وعزله وإن كان فيما ثبت عنده بشهادة فهو أصل واللذان شهدا عليه فرع ولا
تبطل شهادة الفرع بموت شاهدي الأصل وما ذكروه
(11/477)
حجة عليهم لأن الحاكم قد اشهد على نفسه
وإنما يشهد عند المكتوب اليه شاهدان عليه وهما حيان وهما شاهدا الفرع وليس
موته مانعاً من شهادتهما فلا يمنع قبولها كموت شاهدي الأصل وإن تغيرت بفسق
قبل الحكم بكتابه لم يحكم به لأن حكمه لا يصح فكذلك لا يجوز الحكم بكتابه
ولأن بقاء عدالة شاهدي الأصل شرط في الحكم بشاهدي الفرع فكذلك بقاء عدالة
الحاكم لأنه بمنزلة شاهدي الأصل وإن فسق بعد الحكم بكتابه لم يتغير كما لو
حكم بشئ ثم بان فسقه فإنه لا ينقض ما مضى من أحكامه كذا ههنا وأما إن تغيرت
حال المكتوب إليه بأي حال كان من موت أو عزل أو فسق فلمن وصل اليه الكتاب
ممن قام مقامه قبول الكتاب والعمل به وبه قال الحسن حكي عنه أن قاضي الكوفة
كتب إلى إياس ابن معاوية قاضي البصرة كتابا فوصل وقد عزل وولي ألحسن فعمل
به وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة لا يعمل به لأن كتاب القاضي بمنزلة
الشهادة على الشهادة عند المكتوب اليه وإذا شهد شاهدان عند قاض لم يحكم
بشهادتهما غيره.
ولنا أن المعول على شهادة الشاهدين بحكم الأصل أو ثبوت الشهادة عنده وقد
شهدا عند الثاني فوجب أن يقبل كالأول وقولهم إنها شهادة عند الذي مات ليس
بصحيح فإن الحاكم الكاتب ليس
(11/478)
بفرع وقد أديا الشهادة عند المحدود ولو ضاع
الكتاب فشهدا بذلك عند الحاكم المكتوب اليه قبل فدل ذلك على أن الاعتبار
بشهادتهما دون الكتاب، وقياس ما ذكرناه إن الشاهدين إذا حملا الكتاب إلى
غير المكتوب اليه في حال حياته وشهدا عنده عمل به لما بيناه فإن كان
المكتوب اليه خليفة المكاتب فمات الكالب أو عزل انعزل المكتوب اليه لأنه
نائب عنه فينعزل بعزله وموته كوكلائه، وقال بعض أصحاب الشافعي لا ينعزل
خليفته كما لا ينعزل القاض الأصلي بموت الإمام ولا عزله.
ولنا ما ذكرناه ويفارق الإمام فإن الإمام يعقد القضاء والإمارة للمسلمين
فلم يبطل ما عقده لغيره كولاية النكاح فإذا مات الولي لم يبطل النكاح بخلاف
نائب الحكم فإنه تنعقد ولايته لنفسه نائباً عنه فيملك عزله ولأن القاضي لو
انعزل بموت الإمام لدخل الضرر على المسلمين لأنه يفضي إلى عزل القضاة في
جميع بلاد الإسلام وتتعطل الأحكام، وإذا ثبت أنه ينعزل فليس له قبول الكتاب
لانه حنيئذ ليس بقاض.
* (فصل) * قال الشيخ رحمه الله (وإذا حكم عليه فقال اكتب لي إلى الحاكم
الكاتب أنك حكمت علي حتى لا يحكم علي ثانياً لم يلزمه ذلك ولكنه يكتب له
محضراً بالقضية
(11/479)
لأن المحكوم عليه إذا استوفى الحق منه فقال
للحاكم اكتب لي محضراً بما جرى لئلا يلقاني خصمي في موضع آخر فيطالبني
ثانياً ففيه وجهان.
(أحدهما) تلزمه اجابه ليتخلص من المحذور الذي يخافه (والثاني) لا تلزمه لأن
الحاكم إنما يكتب بما ثبت عنده أو حكم به فأما استئناف ابتداء فيكفي فيه
الأشهاد فيطالبه أن يشهد على نفسه بقبض الحق لأن الحق ثبت عليه بالبينة.
* (مسألة) * (وكل من ثبت له عند حاكم حق أو ثبتت براءته مثل أن أنكر وحلفه
الحاكم أن يكتب له محضراً بما جرى ليثبت حقه أو براءته لزمته إجابته) أما
إذا ثبت له حق بإقرار فسأله المقر له أن يشهد على نفسه شاهدين لزمه ذلك لأن
الحاكم لا يحكم بعلمه فربما جحد المقر لا يمكنه الحكم عليه ولو قلنا يحكم
بعلمه احتمل ان ينسى فإن الإنسان عرضة النسيان فلا يمكنه الحكم بإقراره وإن
ثبت عليه حق بنكول المدعى عليه أو بيمين المدعي بعد النكول فسأله المدعي أن
يشهد على نفسه لزمه ذلك لأنه لا حجة للمدعي سواء الاشهاد فأما إن ثبت عنده
ببينة فلا يجب جعل بينة أخرى (والثاني) يجب لأن في الاشهاد فائدة جديدة وهي
إثبات تعديل بينته وإلزام خصمه وإن حلف المنكر وسأل الحاكم الأشهاد على
براءته لزمه ليكون حجة له
(11/480)
في سقوط المطالبة مرة أخرى وفي جميع ذلك
إذا سأله أن يكتب له محضراً بما جرى ففيه وجهان (أحدهما) يلزمه ذلك لأنه
وثيقة له فهو كالاشهاد لأن الشاهدين ربما نسيا الشهادة أو نسيا الخصمين فلا
يذكرهما إلا رؤية خطهما (والثاني) لا يلزمه لأن الأشهاد يكفيه والأول أصح
لأن الشهود تكثر عليهم الشهادات ويطول عليهم الأمد فالظاهر أنهما لا
يتحققان الشهادة تحققاً يحصل به اداؤها فلا يفيد إلا بالكتاب.
* (مسألة) * (وإن سأل من ثبت محضره عند الحاكم أن يسجل به فعل ذلك وجعله
نسختين نسخة يدفعها إليه ونسخة يحبسها عنده والورق من بيت المال فإن لم يكن
فمن مال المكتوب له) .
ينبغي أن يجعل من بيت المال شئ برسم الكاغد الذي يكتب فيه المحاضر والسجلات
لأنه من المصالح فإنه يحفظ به الوثائق ويذكر الحاكم حكمه والشاهد شهادته
ويرجع بالدرك على من يرجع عليه فإن أعوز ذلك لم يلزم الحاكم ذلك ويقول
لصاحب الحق إن شئت جئت بكاغد أكتب لك فيه فإنه حجة لك ولست أكرهك عليه فإن
اختار أن يكتب له محضراً فصفته: بسم الله الرحمن الرحيم حضر القاضي فلان بن
فلان قاضي عبد الله الإمام فلان على كذا وكذا وإن كان خليفة القاضي قال
خليفة القاضي فلان بن فلان الفلاني قاضي الإمام بمجلس حكمه وقضائه بكذا فإن
كان يعرف المدعي والمدعى عليه بأسمائهما وانسابهما قال فلان بن فن؟
الوللافلاني حضر معه فلان بن فلان الفلاني ويرفع في نسبهما
(11/481)
ويذكر حليتهما لأن الاعتماد عليها فربما
استعار النسب فادعى عليه كذا وكذا فأقر له ولا يحتاج أن يقول بمجلس حكمه
لأن الإقرار يصح في غير مجلس الحكم وإن كتب أنه يشهد على إقراره شاهدان كان
آكد ويكتب الحاكم على رأس المحضر: الحمد لله رب العالمين أو ما أحب فأما أن
أنكر المدعى عليه وشهدت عليه بينة قال: فادعى عليه كذا وكذا فأنكر فسأل
الحاكم المدعي ألك بينة؟ فأحضرها وسأل الحاكم سماعها ففعل وسأله أن يكتب له
محضراً بما جرى فأجابه اليه وذلك في وقت كذا ويحتاج ههنا أن يذكر مجلس حكمه
وقضائه بخلاف الإقرار لأن البينة لا تسمع إلى في مجلس الحكم والإقرار
بخلافه، ويكتب الحاكم في آخر المحضر شهدا عندي بذلك ويكتب علامته في رأس
المحضر وإن اقتصر على ذلك دون المحضر جاز لئلا يحلف ثانياً وكتب له مثل ما
تقدم إلا أنه يقول فأنكر فسأل الحاكم المدعي ألك بينة؟ قال لا قال فلك
يمينه وسأل إحلافه فاحلفه في مجلس حكمه وقضائه في وقت كذا وكذا ولابد من
ذكر تحليفه لأن الاستحلاف لا يكون إلا بمجلس الحكم ويعلم في أوله خاصة
ويعلم في الإقرار والأحلاف على رأس المحضر جرى الأمر على ذلك فإن نكل
المدعى عليه عن اليمين قال فعرض اليمين على المدعي عليه فنكل عنها فسأل
خصمه الحاكم أن يقضي عليه بالحق في وقت كذا وإن رد اليمين على المدعى فحلف
وحكم له بذلك ذكره، ويعلم في آخره ويذكر أن ذلك في مجلس حكمه وقضائه وهذه
صفة المحضر وأما السجل.
فهو لا نفاذ ما ثبت عنده والحكم به وصفته بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما
أشهد
(11/482)
عليه القاضي فلان بن فلان ويذكر ما تقدم في
أول المحضر ومن حضره من الشهود أشهدهم أنه ثبت عنده بشهاة فلان وفلان وقد
عرفهما بما رأى معه قبول شهادتهما بمحضر من خصمين ويذكرهما إن كانا معروفين
وإلا قال مدع ومدعى عليه عليه جاز حضورهما وسماع الدعوى من أحدهما على
الآخر معرفة فلان بن فلان ويذكر المشهود عليه وإقراره طوعاً في صحة منه
وجواز أمر الجميع ما سمي ووصف به في كتاب نسخته وينسح الكتاب المثبت ألو
المحضر جميعه حرفا بحرف فإذا فرغ منه قال وإن القاضي امضاه وحكم به على ما
هو الواجب في مثله بعد أن سأله ذلك والأشهاد به الخصم المدعي ويذكر اسمه
ونسبه ولم يدفعه الخصم الحاضر بحجة وجعل كل ذي حجة حجته على واشهد القاضي
فلان على أنفاسه وحكمه من حضره من الشهود في مجلس حكمه في اليوم المؤرخ في
أعلاه وأمر يكتب هذا السجل نسختين متساويتين تخلد نسخة منهما في ديوان
الحكم والأخرى تدفع إلى من كتبها له ولك واحد منهما حجة وثيقة فيما أنفذه
منهما وهذا يذكر ليخرج من الخلاف ولو
(11/483)
قال إنه ثبت عنده بشهادة فلان وفلان ما في
كتاب نسخته كذا ولم يذكر الاعاء عليه جاز وساغ لجواز القضاء على الغائب وما
يجتمع عنده من المحاضر والسجلات في كل أسبوع أو شهر بضم بعضها إلى بعض
ويكتب عليه محاضر وقت كذا في سنة كذا.
* (فصل في صفة الكتاب لى القاضي) * بسم الله الرحمن الرحيم سبب هذه
المكاتبة أطال الله بقاء من يصل إليه من قضاء المسلمين وحكامهم أنه ثبت
عندي في مجلس حكمي وقضائي الذي أتولاه بمكان كذا وإن كان نائباً قال
(11/484)
الذي أنوب فيه عن القاضي فلان بمحضر من
خصمين مدع ومدعى عليه جاز سماع الدعوى بينهما وقبول البينة من أحدهما على
الآخر بشهادة فلان وفلان وهما من الشهود المعدلين عندي عرفتهما وقبلت
شهادتهما بما رأيت معه قبولها معرفة فلان بن فلان الفلاني بعينه واسمه
ونسبه فان كان في إثبات أسر أسير قال وإن الفرنج خذلهم الله اسروه من مكان
كذا في وقت كذا وحملوه إلى مكان كذا وهو مقيم تحت حوطتهم أبادهم الله وإنه
فقير من فقراء المسلمين ليس له شئ من الدنيا لا يقدر على فكاك نفسه ولا شئ
منه وإنه مستحق للصدقة على ما يقتضيه كتاب المحضر المشار اليه المتصل أوله
بآخر كتابي المؤرخ بكذا وإن كان في إثبات دين قال وأنه يستحق في ذمة فلان
بن فلان الفلاني ويرفع
(11/485)
في نسبه ويصفه بما يتميز به من الدين كذا
وكذا ديناً عليه حالاً وحقاً واجباً لازماً وإنه يستحق مطالبته واستيفاءه
منه وإن كان في إثبات عين كتب: وأنه مالك لما في أيدي فلان من الشئ الفلاني
ويصفه صفة يتميز بها، مستحق لأخذه وتسلمه على ما يقتضيه كتاب المحضر المتصل
بآخر كتابي المؤرخ بتاريخ كذا وقال الشاهدان المذكوران أنهما بما شهدا به
عالمان وله محققان وأنهما لا يعلمان خلاف ما شهدا به إلى حين أقاما الشهادة
عندي فأمضيت ما ثبت عندي من ذلك وحكمت بموجبه بسؤال من جازت مسألته وسألني
من جاز سؤاله وسوغت الشريعة المطهرة إجابته المكاتبة إلى القضاة والحكام
فأجبته إلى ملتمسه لجوازه شرعاً وتقدمت بهذا فكتب وبالصاق المحضر المشار
اليه فألصق فمن وقف عليه منهم وتأمل ما ذكرته وتصفح ما سطرته واعتمد في
انفاذه والعمل بموجبه ما وجبه الشرع المطهر أحرز من الاجر أجز له وكتب في
مجلس الحكم المحروس من مكان كذا في وقت كذا ولا يشترط أن يذكر القاضي اسمه
في العنوان ولا ذكر المكتوب اليه في باطنه وبهذا قال
(11/486)
الشافعي وقال أبو حنيفة إذا لم يذكر اسمه
فلا يقبله لأن الكتاب ليس اليه ولا يكفي ذكر اسمه في العنوان دون باطنه لأن
ذلك لم يقع على وجه المخاطبة ولنا أن المعول فيه على شهادة الشاهدين على
الحاكم الكاتب بالحكم ولا يقدح ولو ضاع الكتاب وامتحى سمعت شهادتهما وحكم
بها
(11/487)
* (باب القسمة) * قسمة الأملاك جائزة
والأصل في القسمة قول الله تعالى (ونيتهم أن الماء قسمة بينهم كل شرب
محتضر) وقوله تعالى (وإذا حضر القسمة أولوا القربى) الآية وقول النبي صلى
الله عليه وسلم " الشفعة فيما لم يقسم فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا
شفعة " وقسم النبي صلى الله عليه وسلم خيبر وكان يقسم الغنائم وأجمعت الأمة
على جواز القسمة ولأن بالناس؟ حاجة إلى القسمة ليتمكن كل واحد من الشركاء
من التصرف على إيثاره ويتخلص من سوء المشاركة وكثرة الأيدي * (مسألة) *
(وهو نوعان قسمة تراض وهي ما فيها ضرر ورد عوض من أحدهما كالدور الصغار
والحمام والعضائد المتلاصعة اللاتي لا يمكن قسمة كل عين منفردة والأرض التي
في بعضها بئر أو بناء ونحوه لا يمكن قسمته بلاجزا والتعديل إذا رضوا
بقسمتها أعياناً بالقيمة جاز لأن الحق لهم لا يخرج عنهم وقد رضوا بقسمته
وهذا جارية مجرى البيع لا يجبر عليها الممتنع لا يجوز فيها إلا ما يجوز في
البيع) وجملة ذلك أن الشريكين والشركاء في شئ ربعاً كان أو غيره والربع هو
العقار من الدور ونحوها إذا طلبها من الحاكم أن يقسمه بينهما اجابهما إليه
وإن لم يثبت عنده ملكهما وبهذا قال أبو
(11/488)
يوسف ومحمد وقال أبو حنيفة ان كان عقاراً
نسبوه إلى ميراث لم يقسمه حتى يثبت الموت والورثة لأن الميراث باق على حكم
ملك الميت فلا يقسمه احتياطاً للميت وما عدا العقار يقسمه وإن كان ميراثاً
لأنه يثوى ويهلك وقسمته تحفظه وكذلك العقار الذي لا ينسب إلى الميراث وظاهر
قول الشافعي
أنه لا يقسم عقاراً كان أو غيره ما لم يثبت ملكهما لأن قسمه بقولهم لو دفع
بعد ذلك إلى حاكم آخر سهل أن يجعله حكماً لهم ولعله أن يكون لغيرهم ولنا ان
اليد تدل على الملك ولا منازع لهم فيثبت لهم من طريق الظاهر ولهذا يجوز لهم
التصرف فيه ويجوز شراؤه منهم واتهابه واستئجاره وما ذكره الشافعي يندفع إذا
ثبت في القصة إني قسمته بينهم بإقرارهم لا عن بينة شهدت لهم انه ملكهم وكل
ذي حجة على حجته وما ذكره أبو حنيفة لا يصح لأن الظاهر تملكهم ولا حق للميت
فيه إلا أن يكون عليه دين وما ظهر والأصل عدمه ولهذا اكتفينا به في غير
العقار وفيما لم ينسبوه إلى الميراث * (مسألة) * (وهذه القسمة جارية مجرى
البيع لما فيها من الرد وبهذا يصير بيعا) لأن صاحب الرد بذل المال عوضاً
عما حصل له من حق شريكه وهذا هو البيع ولا يجبر عليها الممتنع منها لما روى
مالك في موطئه عن عمر بن يحيى المازني عن أبيه عن رسول الله صلى الله عليه
وسلم أنه قال
(11/489)
" لا ضرر ولا ضرار " ولأنه لا يجير على بيع
ملكه فلا يجبر على قسمته لأنها بيع ولا يجوز فيها إلا ما يجوز في البيع
كذلك (فصل) وهل تلزم قسمة التراضي بالقرعة إذا قسمها الحاكم أو رضوا بقاسم
يقسم بينهم؟ فيه وجهان (أحدهما) تلزم كقسمة الاجبار لأن القاسم كالحاكم
وقرعته كحكمه (والثاني) لا تلزم الا في البيع والبيع لا يلزم الا بالتراضي
لا بالقرعة وإنما القرعة فيه لتعريف البائع من المشتري، فأما أن تراضيا على
أن يأخذ كل واحد منهما من السهمين بغير قرعة فإنه يجوز لأن الحق لهما لا
يخرج عنهما وكذلك لو خير أحدهما صاحبه فأختار ويلزم ههنا بالتراضي والتفرق
كما يلزم البيع.
* (مسألة) * (والضرر المانع من القسمة هو نقص القيمة بالقسم في ظاهر كلام
أحمد ولا ينتفعان به مقسوما في ظاهر كلام الخرقي) اختلفت الرواية في الضرر
المانع من القسمة ففي قول الخرقي هو ما لا يمكن أحدهما معه
الإنتفاع بنصيبه مفرداً فيما كان ينتفع به مع الشركة مثل أن تكون بينهما
دار صغيرة إذا قسمت أصاب كل واحد منهما موضعاً ضيقاً لا ينتفع به ولو امكن
أن ينتفع به في شئ غير الدار لم يجبر على القسمة أيضاً لأنه ضرر يجرى مجرى
الإتلاف
(11/490)
(والرواية الأخرى) أن المانع من القسمة هو
أن ينقص قيمة نصيب أحدهما بالقسمة عن حال الشركة سواء انتفعوا به مقسوماً
أو لم ينتفعوا.
قال القاضي هذا ظاهر كلام أحمد لأنه قال في رواية الميموني إذا قال بعضهم
يقسم وبعضهم لا يقسم فإن كان فيه نقصان من ثمنه بيع وأعطي الثمن فأعتبر
نقصان الثمن وهذا الظاهر من كلام الشافعي لأن نقص قيمته ضرر والضرر منفي
شرعاً وقال مالك يجبر الممتنع وإن استضر قياساً على ما لا ضرر فيه ولا يصح
لقوله عليه السلام " لا ضرر ولا ضرار " من المسند ولأن في قسمته ضرراً فلم
يجبر عليه كقسمة الجوهرة بكسرها ولأن في قسمته إضاعة المال وقد نهى النبي
صلى الله عليه وسلم عن إضاعة المال ولا يصح القياس على ما لا ضرر فيه لما
بينهما من الفرق * (مسألة) * (وإن كان الضرر على أحدهما دون الآخر كرجلين
لأحدهما الثلثان وللآخر الثلث ينتفع صاحب الثلثين بقسمها ويتضرر الآخر فطلب
من لا يتضرر القسم لم يجبر الآخر عليه وإن طلبه الآخر أجبر الأول وقال
القاضي إن طلبه الأول أجبر الآخر وإن طلبه المضرور لم يجبر الآخر) أما إذا
طلب القسمة من لا يتضرر لم يجبر الآخر ذكره أبو الخطاب وهو ظاهر كلام أحمد
في رواية حنبل قال كل قسمة فيها ضرر لا أرى قسمها وهذا قول ابن أبي ليلى
وأبي ثور وقال القاضي يجبر
(11/491)
الآخر عليها وهو قول الشافعي وأهل العراق
لأنه طلب إفراد نصيبه الذي لا يستضر بتميزه فوجبت اجابته إليه كما لو كانا
لا يستضران بالقسمة ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " لا ضرر ولا ضرار "
ولأنها قسمة يضر بها صاحبه فلم يجبره عليها كما لو استضرا معاً ولأن فيه
إضاعة المال وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن إضاعته وإذا حرم عليه
إضاعة ماله فإضاعة مال غيره أولى وقد روى عمرو بن جميع عن النبي صلى الله
عليه وسلم أنه قال " لا تعصبة على أهل الميراث
الا ما حصل القسم " قال أبو عبيدة هو أن يخلف شيئاً إذا قسم كان فيه ضرر
على بعضهم أو على جميعهم ولأننا اتفقنا على أن الضرر مانع من القسمة وإن
الضرر في حق أحدهما مانع ولا يجوز أن يكون المانع هو ضرر الطالب لأنه مرضي
به من جهته فلا يجوز كونه مانعاً كما لو تراضيا عليها مع ضررهما أو ضرر
أحدهما فتعين الضرر من المانع في جهة المطلوب ولأنه ضرر غير مرضي به من جهة
صاحبه فمنع القسمة كما لو استضرا معاً، فأما إذا طلب القسمة المستضر بها
كصاحب الثلث في المسألة المفروضة أجبر الآخر عليها هذا مذهب أبي حنيفة
ومالك لأنه طلب دفع ضرر الشركة عنه بأمر لا ضرر على صاحبه فيه فأجبر عليه
كما لا ضرر فيه يحققه إن ضرر الطالب مرضي به من جهته فسقط حكمه والآخر لا
ضرر عليه فصارت كما لا ضرر فيه، وذكر أصحابنا أن المذهب أنه لا يجبر
الممتنع عن القسمة لنهي
(11/492)
النبي صلى الله عليه وسلم عن إضاعة المال
ولأن طلب القسمة من المستضر سفه فلا تجب إجابته إلى السفه قال الشريف متى
كان أحدهما يستضر لم تجب القسمة، وقال أبو حنيفة متى كان أحدهما ينتفع بها
وجبت وإن استضر بها الغالب فعل وجهين وقال مالك تجب على كل حال (فصل) ولو
كانت دار بين ثلاثة لأحدهم نصفها وللآخرين نصفها لكل واحد منهما ربعها فإذا
قسمت استضر كل واحد منهما ولا يستضر صاحب النصف فطلب صاحب النصف القسمة
وجبت إجابته لأنه يمكن قسمتها نصفين من غير ضرر فيصير حقهما لهما داراً وله
النصف فلا يستضر واحد منهما ويحتمل ألا تجب عليهما الإجابة لأن كل واحد
منهما يستضر بإفراد نصيبه وإن طلبا المقاسمة فامتنع صاحب النصف أجبر لأنه
لا ضرر على واحد منهم، وإن طلبا إفراد نصيب كل واحد منهما أو طلب أحدهما
أفراد نصيبه لم تجب القسمة على قياس المذهب لأنه إضرار بالطالب وسفه وعلى
الوجه الذي ذكرناه تجب القسمة لأن المطلوب منه لا ضرر عليه * (مسألة) *
(وإن كان بينهما عبيد أو بهائم أو ثياب ونحوها فطلب أحدهما قسمها أعياناً
بالقيمة لم يجبر الآخر عليه وقال القاضي يجبر) أما إذا اتفقا على القسمة
جاز لأن النبي صلى الله عليه وسلم قسم الغنائم يوم بدر ويوم خيبر ويوم حنين
وهي
تشتمل على أجناس المال وسواء اتفقا على قسمة كل جنس بينهما أو اتفقا على
قسمتها أعياناً بالقيمة وإن
(11/493)
طلب أحدهما قسمة كل نوع على حدته إن أمكن
وإن طلب أحدهما القسمة وأبى الآخر وكان مما لا تمكن قسمته إلا بأخذ عوض من
غير جنسه أو قطع ثوب في قطعه نقص أو كسر أناء أو رد عوض لم يجبر الممتنع
وإن أمكن قسمة كل نوع على حدته من غير ضرر ولا رد عوض فقال القاضي يجبر
الممتنع وهو ظاهر مذهب الشافعي وقال أبو الخطاب لا أعرف في هذا عن إمامنا
رحمه الله رواية ويحتمل أن لا يجبر الممتنع عليه وهو قول بن خيران من أصحاب
الشافعي لأن هذا إنما يقسم أعياناً بالقيمة فلم يجبر الممتنع عليه كما لا
يجبر على قسمة الدور بأن يأخذ هذا دارا وهذا داراً كالجنسين المختلفين ووجه
الأول أن الجنس الواحد كالدار الواحدة وليس اختلاف الجنس أو احد في القيمة
بأكثر من اختلاف قيمة الدار الكبيرة والقرية العظيمة فإن أرض القرية تختلف
لا سيما إذا كانت ذات أشجار مختلفة وأرض متنوعة والدار ذات بيوت واسعة
وضيقة وحديثة وقديمة ثم هذا الاختلاف لا يمنع الإجبار على القسمة كذلك
الجنس الواحد وفارق الدور فإنه أمكن قسمة كل دار على حدتها وههنا لا يمكن
قسمة كل ثوب منها أثواباً على حدته فإن كانت الثياب أنواعاً كالحرير والقطن
والكتان فهي كالأجناس فكذلك سائر المال والحيوان كغيره من الأموال ويقسم
النوع الواحد
(11/494)
منه وبه قال الشافعي وأبو يوسف ومحمد وقال
أبو حنيفة لا يقسم الرقيق قسم إجبار لأن منافعه تختلف ويقصد منه العقل
والدين والفطنة وذلك لا يقع فيه التعديل ولنا أن النبي صلى الله عليه وسلم
جزأ العبيد الذين أعتقهم الأنصاري في مرضه ثلاثة أجزاء ولأنه نوع حيوان
يدخله التقويم فجازت قسمته كسائر الحيوان وما ذكروه غير صحيح لأن القيمة
تجمع ذلك وتعدله كسائر الأشياء المختلفة * (مسألة) * (وإن كان بينهما حائط
لم يجبر الممتنع من قسمته وإن استهدم لم يجبر على قسم عرصته وقال أصحابنا
إن طلب قسمته طولاً بحيث يكون له نصف الطول في كمال العرض أجبر الممتنع
وإن طلب قسمه عرضاً وكانت تسع حائطين أجبر الا فلا) وجملة ذلك أن الشريكين
إذا كان بينهما حائط لم يجبر الممتنع من قسمه لأن قسمه إفراد حق أحد
الشريكين من حق الآخر على وجه يمكن كل واحد منهما الانتفاع بحقه مفرداً ولا
يمكن ذلك في الحائط لأنه إن طلب قسمته طولاً في كمال العرض فقطع الحائط
ففيه إتلاف فإن لم يقطعه أفضى إلى الضرر لأن في ذلك تحميل أحدهما ثقلاً على
نصيب صاحبه وإن طلب قسمته عرضا في كمال الطول لم يجبر الممتنع لأن فيه
إفسادا وفيه وجه آخر أنه يجبر لأنه لا ضرر في قسمته وان اسهدم لم يجبر على
قسم عرصته وقال أصحابنا إن طلب قسمه عرضاً ليحصل لكل واحد منهما نصف الطول
في كمال
(11/495)
العرض أجبر الممتنع لأنه لا ضرر ويحتمل أن
لا يجبر لأنه يفضي إلى الا يبقى ملكه الذي يلي نصيب صاحبه بغير حائط وإن
طلب قسمه عرضاً ليحصل لكل واحد نصف العرض في كمال الطول وكان يحصل لكل واحد
منهما ما لا يمكن أن يبني فيه حائطاً لم يجبر الممتنع لأنه يتضرر بذلك وإن
حصل له ما يمكن بناء حائط فيه أجبر الممتنع لأنه ملك مشترك يمكن كل واحد
منهما الانتفاع به مقسوماً ويحتمل ألا يجبر لأنه لا تدخله القرعة خوفاً من
أن يحصل لكل واحد منهما ما يلي ملك الآخر * (مسألة) * (وإن كان بينهما دار
لها علو وسفل فطلب أحدهما قسمها لأحدهما العلو وللآخر السفل أو كان بينهما
منافع لم يجبر الممتنع من قسمها وإن تراضيا على قسمها كذلك وعلى قسم
المنافع بالمهايأة جاز) إذا كانت دار بين اثنين سفلها وعلوها فطلبا قسمها
نظرت فإن طلب أحدهما قسمة السفل والعلو بينهما ولا ضرر في ذلك أجبر الآخر
عليه لأن البناء في الأرض يجري مجرى الغرس يتبعها في البيع والشفعة ولو طلب
قسمة أرض فيها غراس أجبر شريكه عليه كذلك البناء وإن طلب أحدهما جعل السفل
لأحدهما والعلو للآخر ويقرع بينهما لم يجبر عليه الآخر لثلاثة معان
(احدهما) أن العلو تبع السفل ولهذا إذا بيعا ثبتت الشفعة فيهما وإذا افرد
العلو بالبيع لم تثبت الشفعة فيه وإذا كان تبعا له لم يجعل المتبوع بينهما
والتبع بينهما فيصير التبع أصلاً (الثاني) إن السفل والعلو يجريان مجرى
(11/496)
الدارين المتلاصقتين لأن كل واحد منهما
يسكن منفرداً ولو كان بينهما دارن لم يكن لأحدهما المطالبة يجعل كل دار
نصيباً كذلك ههنا (الثالث) إن صاحب القرار يملك قرارها وهواءها فإذا جعل
السفل نصيبا للفرد صاحبه بالهواء وليست هذه قسمة عادلة وبهذا قال الشافعي
وقال أبو حنيفة يقسم الحاكم فيجعل ذراعاً من السفل بذراعين من العلو وقال
أبو يوسف ذراع بذراع.
وقال محمد يقسمها بالقيمة واحتجوا بأنها دار واحدة فإذا قسمها على ما يراه
جاز كالتي لا علو لها ولنا ما ذكرناه من المعاني الثلاثة وفيها رد ما ذكروه
وما يذكرونه من كيفية القسمة تحكم وبعضه يرد بعضاً، وإن طلب أحدهما قسمة
العلو وحده أو السفل وحده لم يجب إليه لأن القسمة تراد للتمييز ومع بقاء
الإشاعة لا يحصل التمييز، وإن طلب أحدهما قسمة العلو منفرداً والسفل
منفرداً لم يجب إليه لأنه قد يحصل لكل واحد منهما علو سفل الآخر فيستضر كل
واحد منهما ولا يتميز الحقان (فصل) وإن كان بينهما منافع فطلب أحدهما قسمها
بالمهايأة لم يجبر الآخر لأن قسمة المنافع إنما تكون بقسمة الزمان والزمان
إنما يقسم بأن يأخذ أحدهما قبل الآخر وهذا لا تسوية فيه فإن الآخر يتأخر
حقه فلا يجبر على ذلك فأما أن تراضيا على قسمه العلو لاحدهما والسفل للآخر
أو تراضيا على
(11/497)
قسمة المنافع بالمهايأة جاز لأن الحق لا
يخرج عنهما فيجوز تراضيهما، وذكر ابن البناء في كتاب الخصال أن الشركاء إذا
اختلفوا في منافع دار بينهما أن الحاكم يجبرهم على قسمها بالمهايأة أو
يؤجرها عليهم * (مسألة) * (وإن كان بينهما أرض ذات زرع فطلب أحدهما قسمتها
دون الزرع قسمت لأنه لا ضرر في قسمها ويجبر الممتنع) لأن الزرع في الأرض
كالقماش في الدار فلم يمنع القسمة وسواء خرج الزرع أو كان بذراً لم يخرج
فإذا قسماها بقي الزرع بينهما مشتركاً كما لو باعا الأرض لغيرهما، وإن طلب
أحدهما قسمة الزرع منفرداً لم يجبر الآخر عليه لأن القسمة لا بد فيها من
تعديل المقسوم وتعديل الزرع بالسهام لا يمكن لأنه يشترط بقاؤه في الأرض
المشتركة * (مسألة) * (وإن طلب قسمتها مع الزرع لم يجبر الآخر)
هكذا ذكره في الكتاب المشروح وهو قول الشافعي، وذكر في كتابه المغني
والكافي أنه يجبر إذا كان الزرع قد خرج لأن الزرع كالشجر في الأرض والقسمة
إفراز حق وليست بيعاً وإن قلنا هي بيع لم يجز إذا اشتد الحب لأنه يتضمن بيع
السنبل بعضه ببعض، ويحتمل الجواز لأن السنبل ههنا داخل تبعاً للأرض، وليس
بمقصود فأشبه بيع النخلة المثمرة بمثلها، وقال الشافعي لا يجبر الممتنع من
قسمها مع الزرع لأن الزرع مودع في الأرض للنقل عنها فلم تجب قسمته معها
كالقماش فيها
(11/498)
ولنا أنه ثابت فيها للنماء والنفع فأشبه
الغراس وفارق القماش فإنه غير متصل بالدار ولا ضرر في نقله * (مسألة) *
(وإن تراضوا عليه والزرع قصيل أو قطن جاز) لأن الحق لهم لا يخرج عنهم، وإن
كان بذراً أو سنابل قد اشتد حبها ففيه وجهان (أحدهما) لا يجوز في البذر
لجهالته وكونه لا يمكن إفرازه وهذا مذهب الشافعي (والثاني) يجوز لأنه يدخل
تبعاً للأرض فأشبه أساسات الحيطان وكذلك القول فيما اذا اشتد حبه فيه
الوجهان (أحدهما) لا يجوز لافضائه إلى بيع السنبل بعضه ببعض (والثاني) يجوز
لأنه يدخل تبعاً وقال القاضي يجوز في السنابل ولا يجوز في البذر لجهالته
ووجه الجواز أنه يدخل تبعاً فلا يكون مانعاً من الصحة كما لو اشترى أرضاً
فيها زرع واشترطه فإنه يملكه بالشرط، وإن كان بذراً مجهولاً * (مسألة) *
(وإن كان بينهما نهر أو قناة أو عين ينبع ماؤها فالماء بينهما على ما
اشترطا عند استخراج ذلك) لقول النبي صلى الله عليه وسلم " المؤمنون على
شروطهم) فإن اتفقا على قسمة بالمهايأة جاز لأن الحق لهما لا يخرج عنهما،
ولأن المنافع ملكهما فجاز قسمها كالأعيان والمهاياة أن يكون في يد كل واحد
منهما مدة معلومة على قدر حقه من ذلك)
(11/499)
* (مسألة) * (وإن أراد قسم ذلك بنصب خشبة
أو حجر في مصدم الماء فيه ثقبان على قدر حق كل واحد منهما جاز ويسمى
المرار) لأن ذلك طريق إلى التسوية بينهما فجاز كقسم الأرض بالتعديل، وإن
أراد أحدهما أن يسقى
بنصيبه أرضاً ليس لها رسم شرب من هذا النهر جاز لأنه من نصيبه فجاز التصرف
فيه كيف شاء كسائر ماله وكما لو لم يكن له شريك، ويحتمل أن لا يجوز لأنه
إذا جعل لهذه الأرض حقاً في الشرب من هذا النهر المشترك فربما أفضى إلى أن
يجعل لها حقاً في نصيب شريكه لأنه إذا طال الزمان يظن أن لهذه الأرض حقاً
من السقي من النهر المشترك فيأخذ لذلك أكثر من حقه ويجئ على أصلنا أن الماء
لا يملك وينتفع بها كل واحد منهما على قدر حاجته * (فصل) * قال الشيخ رحمه
الله (النوع الثاني قسمة الإجبار وهي ما لا ضرر فيها ولا رد عوض كالأرض
الواسعة والقرى والبساتين والدور الكبار والدكاكين الواسعة والمكيلات
والموزونات من جنس واحد سواء كان مما مسته النار كالدبس وخل التمر أو لم
تمسه كخل العنب والألبان والأدهان فإذا طلب أحدهما قسمها وأبى الآخر أجبر
عليه) أما المكيلات والموزونات من المطعومات وغيرها فيجوز قسمها لأن جواز
قسم الأرض مع اختلافها يدل على جواز ما لا يختلف بطريق التنبيه وسواء في
ذلك الحبوب والثمار والنورة والأشنان
(11/500)
والحديد والرصاص ونحوها من الجامدات
والعصير والخل واللبن والعسل والسمن والدبس والزيت والرب ونحوها من
المائعات وسواء قلنا أن القسمة بيع أو إفراز حق لأن بيعه جائز وإفرازه جائز
فإن كان فيها أنواع كحنطة وشعير وتمر وزبيب فطلب أحدهما قسمها كل نوع على
حدته أجبر الممتنع وإن طلب قسمها أعياناً لم يجبر الممتنع لأن هذا بيع نوع
بنوع آخر، وليس بقسمة فلم يجبر عليه كغير الشريك فإن تراضيا عليه جاز وكان
بيعاً يعتبر له التقابض قبل التفرق فيما يعتبر التقابض فيه، وسائر شروط
البيع (فصل) إذا طلب أحد الشركاء القسمة وامتنع بعض الشركاء في الأرض
والدور ونحوهما مما ذكرنا أجبر الممتنع على القسمة بثلاثة شروط (أحدها) أن
يثبت عند الحاكم ملكهم ببينة لأن في الإجبار عليها حكما على الممتنع منها
فلا يثبت إلا بما يثبت به الملك لخصمه بخلاف حالة الرضاء فإنه لا يحكم على
أحدهما إنما يقسم بقولهما ورضاهما
(الشرط الثاني) ألا يكون فيها ضرر فإن كان فيها ضرر لم يجبر الممتنع لقول
رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا ضرر ولا ضرار " رواه ابن ماجه، وفي لفظ
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى ألا ضرر ولا ضرار (الشرط الثالث) أن
يمكن تعديل السهام من غير شئ يجعل معها فإن لم يكن ذلك لم يجبر الممتنع
لأنها تصير بيعاً والبيع لا يجبر عليه أحد المتبايعين، ومثال ذلك ارض
قيمتها مائة فيها شجرة
(11/501)
وبئر يساوي مائتين فإذا جعلت الأرض سهماً
كانت الثلث فيحتاج أن يجعل معها خمسون يردها عليه من لم تخرج له البئر أو
الشجرة ليكونا نصفين متساويين فهذه فيها بيع.
الا ترى أن آخذ الأرض قد باع نصيبه من الشجرة والبئر بالثمن الذي أخذه.
والبيع لا يجبر عليه لقول الله تعالى (إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم)
فإذا اجتمعت الشروط الثلاثة أجبر الممتنع من القسمة عليها لأنها تتضمن
إزالة ضرر الشركة عنهما وحصول النفع لهما لأن نصيب كل واحد منهما إذا تميز
كان له أن يتصرف فيه بحسب اختياره ويتمكن من إحداث الغراس والبناء فيه
والإجارة والعارية، ولا يمكنه ذلك مع الاشتراك فوجب أن لا يجبر الآخر عليه
لقوله عليه السلام " لا ضرر ولا ضرار " وقد اختلف في الضرر المانع من
القسمة وقد ذكرناه * (مسألة) * (وهذه القسمة إفراز حق (أحدهما) من الآخر
وليست بيعاً) وهذا أحد قولي الشافعي وفي الآخر هي بيع وحكي ذلك عن أبي عبد
الله بن بطة لأنه يبدل نصيبه من أحد السهمين بنصيب صاحبه من السهم الآخر
وهذا حقيقة البيع ولنا أنها لا تفتقر إلى لفظ التمليك ولا يجب فيها شفعة
ويلزم بإخراج القرعة ويتقدر أحد النصيبين بقدر الآخر والبيع لا يجوز فيه شئ
من ذلك ولأنها تنفرد عن البيع باسمها وأحكامه فلم تكن بيعاً كسائر العقود
وفائدة الخلاف أنها إذا لم تكن بيعاً جازت قسمة الثمار خرصا والمكيل وزنا
(11/502)
والموزون كيلا والتفرق قبل القبض فيما
يشترط فيه القبض في البيع إذا حلف لا يبيع فقسم لم يحنث وإذا كان العقار أو
بعضه وقفاً جازت قسمته وإن قلنا هي بيع انعكست هذه الأحكام، هذا إذا خلت
من الرد فإن كان فيها رد عوض فهي بيع لأن صاحب الرد يبدل المال عوضاً عما
حصل له من مال شريكه وهذا هو البيع فإن فعلا ذلك في وقف لم يجز لأن بيعه
غير جائز وإن كان بعضه طلقا وبعضه وقفا والرد من صاحب الطلق لم يجز لأنه
يشتري بعض الوقف، وإن كان من أهل الوقف جاز لأنهم يشترون بعض الطلق وذلك
جائز * (فصل) * قال الشيخ رحمه الله (ويجوز للشركاء أن ينصبوا قاسماً يقسم
بينهم وأن يسألوا الحاكم نصب قاسم فإن نصب الحاكم قاسماً فمن شرطه أن يكون
عدلا عالماً بالحساب ليوصل إلى ذي حق حقه كما يلزم أن يكون الحاكم عالماً
بالحكم ليحكم بالحق) وهذا قول الشافعي إلا أنه يشترط أن يكون حراً وإن
نصبوا قاسماً بينهم فكان على صفة قاسم الحاكم في العدالة والمعرفة فهو
كقاسم الحاكم في لزوم قسمته بالقرعة وإن كان كافراً أو فاسقاً أو جاهلاً
بالقسمة لم تلزم قسمته إلا بتراضيهم بها ويكون وجوده فيما يرجع إلى لزوم
القسمة كعدمه * (مسألة) * (فمتى عدلت السهام وأخرجت القرعة لزمت القسمة)
لأنها كالحكم من الحاكم ويحتمل أن لا تلزم فيما فيه رد بخروج القرعة حتى
يرضيا بذلك لأن
(11/503)
ما فيه رد بيع حقيقة لأن صاحب الرد يبدل
عوضاً لما حصل له من حق شريكه وهذا هو البيع والبيع لا يلزم بالقرعة *
(مسألة) * (وإذا كان في القسمة تقويم لم يجز أقل من قاسمين لأنها شهادة
بالقيمة فلم يقبل فيها أقل من اثنين كسائر الشهادات وإن لم يكن فيها تقويم
أجزأ قاسم واحد) لأن القاسم يجتهد في التقويم وهو يعمل باجتهاده؟ أشبه
الحاكم ومتى اقتسما بأنفسهما واقترعا لم تلزم القسمة إلا بتراضيهما *
(مسألة) * (وإذا سألوا الحاكم قسمة عقار لم يثبت عنده أنه لهم قسمه وذكر في
كتاب القسمة أنه قسمة بمجرد دعواهم لا عن بينة شهدت لهم بملكهم) لأن اليد
دليل الملك وقال الشافعي لا يقسمه حتى يثبت عنده ملكهم وفي ذلك اختلاف
ذكرناه في أول باب القسمة ولا يجب عليه أن يقسم بينهم في هذه الحال بل يجوز
له ذلك وقد ذكرناه
* (فصل) * قال الشيخ رحمه الله (ويعدل القاسم السهام بالأجزاء إن كانت
متساوية وبالقيمة إن كانت مختلفة وبالرد إن كانت تقتضيه) القسمة على ضربين
قسمة إجبار وقسمة تراض وقسمة الإجبار ما أمكن التعديل فيها من غير رد
(11/504)
ولا تخلو من أربعة أقسام: (أحدهما) أن تكون
السهام متساوية وقيمة الأجزاء متساوية (الثاني) أن تكون السهام متساوية
وقيمة الأجزاء مختلفة (الثالث) أن تكون السهام مختلفة وقيمة الاجزاء
مستاوية (الرابع) أن تكون السهام مختلفة والقيمة مختلفة فأما الأول فمثل
أرض بين ستة لكل واحد منهم سدسها وقيمة أجزاء الأرض متساوية فهذه تعدلها
بالمساحة ستة أجزاء متساوية لأنه يلزم من تعديلها بالمساحة تعديلها بالقيمة
لتساوي أجزائها في القيمة ثم يقرع بينهم وكيفما أقرع بينهم جاز في ظاهر
كلام أحمد فإنه قال في رواية أبي داود إن شاء رقاعاً وإن شاء خواتيم يطرح
ذلك في حجر من لم يحضر ويكون لكل واحد خاتم معين ثم يقال أخرج خاتماً على
هذا السهم فمن خرج خاتمه فهو له وعلى هذا لو أقرع بالحصى أو غيرها جاز
واختار أصحابنا في القرعة أن يكتب رقاعاً متساوية بعدد السهام وهو ههنا
مخير بين أن يخرج السهام على الأسماء أو يخرج الأسماء على السهام فإن أخرج
الأسماء على السهام كتب في كل رقعة اسم واحد من الشركاء وتترك في بنادق شمع
أو طين متساوية القدر والوزن وتترك في حجر رجل لم يحضر القسمة ويقال له
اخرج بندقة على هذا السهم فإذا أخرجها كان ذلك السهم لمن خرج اسمه في
البندقة ثم يخرج على سهم آخر كذلك حتى يبقى الأخير فيتعين لمن بقي وإن
اختار إخراج السهام على الأسماء في الرقاع أسماء السهام فيكتب في رقعة
الأول مما يلي جهة كذا وفي الآخر الثاني حتى يكتب الستة ثم يخرج القرعة على
واحد بعينه فيكون له السهم الذي في الرقعة ويفعل ذلك حتى يبقى الأخير
فيتعين لمن بقي وذكر
(11/505)
أبو بكر إن البنادق تجعل طيناً وتطرح في
ماء ويعين واحداً فأي البنادق انحل الطين عنها وخرجت رقعتها على الماء فهي
له وكذلك الثاني والثالث وما بعده فإن خرج اثنان معاً أعيد الإقراع والأول
أولى واسهل (القسم الثاني) أن تكون السهام متفقة والقيمة مختلفة فإن الأرض
تعدل بالقيمة وتجعل ستة أسهم متساوية القيمة ويفعل في إخراج السهام مثل
الذي قبله سواء لا فرق بينهما إلا أن التعديل ثم بالسهام وههنا بالقيمة
(القسم الثالث) أن تكون القيمة متساوية والسهام مختلفة كأرض بين ثلاثة
لأحدهم النصف وللآخر الثلث وللثالث السدس وأجزاؤها متساوية القيم فإنها
تجعل سهاما بقدر أقلها وهو السدس فيجعل ستة أسهم ويعدل بالأجزاء ويكتب ثلاث
رقاع باسمائهم وبخرج رقعة على السهم الأول فإن خرجت لصاحب السدس أخذه ثم
يخرج أخرى على الثاني فإن خرجت لصاحب الثلث أخذ الثاني والثالث وكانت
الثلاثة الباقية لصاحب النصف بغير قرعة وإن خرجت القرعة الثانية لصاحب
النصف أخذ الثاني والثالث والرابع وكان الخامس والسادس لصاحب الثلث وإن
خرجت القرعة الأولى لصاحب النصف أخذ الثلاثة الأول وتخرج الثانية على
الرابع فإن خرجت لصحاب الثلث أخذه والذي يليه وكان السادس لصاحب السدس وإن
خرجت الثانية لصاحالب السدس أخذه وأخذ الآخر الخامس والسادس وإن خرجت
الأولى لصاحب الثلث أخذ الأول والثاني ثم تخرج الثانية على الثالث فإن خرجت
لصاحب النصف أخذ الثالث والرابع والخامس وأخذ الآخر السادس فإن
(11/506)
خرجت الثانية لصاحب السدس أخذه وأخذ صاحب
النصف ما بقي وقيل يكيب ست رقاع باسم صاحب النصف ثلاث وباسم صاحب الثلث
اثنان وباسم صاحب السدس واحدة وهذا لا فائدة فيه فإن المقصود خروج اسم صاحب
النصف وإذا كتب ثلاث رقاع حصل المقصود فاغنى ولا يصح إن كتب رقاعاً باسماء
السهام ويخرجها على أسماء الملاك لأنه إذا أخرج واحدة فيها السهم الثاني
لصاحب افيسدس ثم اخرج أخرى لصاحب النصف والثلث فيها السهم الأول احتاج أن
يأخذ نصيبه متفرقا الستضر بذلك (القسم الرابع) إذا اختلفت السهام والقيمة
فإن القاسم يعدل السهام بالقيمة ويجعلها ستة أسهم متساوية القيم ثم يخرج
الرقاع فيها الأسماء على السهام كما ذكرنا في القسم الثالث سواء لا فضل
بينهما إلا أن التعديل ههنا بالقيم وفي التي قبلها بالمساحة (فصل) إذا كان
بينهما دار أو خان كبير فطلب أحدهما قسمة ذلك ولا ضرر في قسمته أجبر
الممتنع على القسمة وتفرد بعض المساكن عن بعض وإن كثرت المساكن وإن كان
بينهما داران أو خانان أو أكثر فطلب أحدهما أن يجمع نصيبه في إحدى الدارين
ويجعل الباقي نصيباً للآخر لم يجبر الممتنع وبهذا قال الشافعي وقال أبو
يوسف ومحمد يجبر إذا رأى الحاكم ذلك فله فعله سواء تقاربتا أو تفرقتا لأنه
انفع وأعدل وقال مالك وان كانت متجاورتين أجبر الممتنع من ذلك عليه لأن
(11/507)
المتجاورتين تتفاوت منفعتهما بخلاف
المتباعدتين وقال أبو حنيفة ان كانت إحداهما احجزة الأخرى أجبر وإلا فلا
لانهما يجريان مجرى الدار الواحدة ولنا أنه نقل حقه من عين إلى عين أخرى
فلم يجبر عليه كالمتفرقتين عند مالك وكما لو لم تكن حجزتها عند ابي حنيفة
وكما لو كانتا داراً أو دكاناً مع أبي يوسف ومحمد الحكم في الدكاكين كالحكم
في الدور ولو كانت لهما عضائد صغار لا يمكن قسمة كل واحدة منهما منفردة لم
يجبر الممتنع من قسمتها عليها (فصل) وإن كان أرض واحدة تمكن قسمتها ويؤخذ
فيها الشروط التي ذكرناها أجبر الممتنع على قسمتها سواء كانت فارغة أو ذات
شجر وبناء فإن كان فيها نخل وكرم وشجر مختلف وبناء فطلب أحدهما قسمة كل عين
على حدتها وطلب الآخر قسمة الجميع بالتعديل بالقيمة فقال أبو الخطاب تقسم
كل عين على حدتها وهو ظاهر كلام شيخنا في الكتاب المشروح وكذلك كل مقسوم
إذا أمكنت التسوية بين الشريكين في جيده ورديئه كان أولى ونحو هذا قال
أصحاب الشافعي فمنهم قالوا إذا أمكنت التسوية بين الشريكين في جيده ورديئه
بأن يكون الجيد في مقدمها والردئ في مؤخرها فإذا قسمناها صار لكل واحد من
الجيد والردئ مثل ما للآخر وجبت القسمة وأجبر الممتنع عليها وإن لم تمكن
القسمة بأن تكون العمارة والشجر والجيد لا يمكن قسمته وحده وأمكن التعديل
بالقيمة
(11/508)
عدلت بالقيمة وأجبر الممتنع من القسمة
عليها وقال الشافعي في أحد القولين لا الممتنع من القسم عليها وقالوا إذا
كانت الأرض ثلاثين جزءاً قيمة عشرة منها كقيمة عشرين لم تجبر الممتنع من
القسمة عليها لتعذر التساوي في الذرع ولأنه لو كان حقلان متجاوران لم يجبر
الممتنع من القسمة إلا بأن يجعل
كل واحد منهما سهما كذا ههنا.
ولنا أنه مكان واحد أمكنت قسمته وتعديله من غير ضرر ولا دعوض فوجبت قسمته
كالدور ولأن ما ذكروه يفضي إلى منع وجوب القسمة في البساتين كلها والدور
فإنه لا يمكن تساوي الشجر وبناء الدور ومساكنها إلا بالقيمة ولأنه مكان لو
بيع بعضه وجبت فيه الشفعة لشريك البائع فوجبت قسمته كما لو أمكنت التسوية
فأما إن كان بستانان لكل واحد منهما طريق أو حقلان أو داران أو دكانان
متجاوران أو متباعدان فطلب أحد الشريكين قسمته بجعل كل واحد منهما سهما لم
يجبر الآخر على هذا سواء كانا متساويين أو مختلفين وهذا ظاهر مذهب الشافعي
لأنهما شيئان متميزان لو بيع أحدهما لم تجب الشفعة فيه لمالك الآخر بخلاف
البستان الواحد والأرض الواحدة وإن عظمت فإنها إذا بيع بعضها وجبت الشفعة
لمالك البعض الباقي والشفعة كالقسمة لأن كل واحد منهما يراد لازالة ضرر
الشركة ونقصان التصرف فما لا تجب قسمته لا تجب الشفعة فيه فكذلك ما لا شفعة
فيه لا تجب
(11/509)
قسمته وعكس هذا ما تجب قسمته يجب فيه
الشفعة وما تجب الشفعة فيه تجب قسمته ولأنه لو بدأ الصلاح في بعض البستان
كان صلاحاً لباقيه إن كان كثيراً ولم يكن صلاحا لما جاوزه وإن كان صغيراً.
(فصل) إذا كان بينهما ارض قيمتها مائة في أحد جانبيها بئر قيمتها مائة وفي
الآخر شجرة قيمتها مائة عدلت بالقيمة وجعلت البئر مع نصف الأرض نصيباً
والشجرة مع النصف نصيباً، فإن كانت بين ثلاثة أو أكثر نظرت في الأرض، فإن
كانت قيمتها مائة أو أقل لم تجب القسمة لأنها إذا كانت أقل لم يمكن التعديل
إلا بقسمة البئر أو الشجرة وذلك مما لا تجب قسمته وإن كانت قيمتها مائة
فجعلناها سهماً والشجرة سهماً لم يحصل مع البئر والشجرة شئ من الأرض فتصير
هذه كقسمة الشجر وحده وقسمة ذلك وحده ليست قسمة إجبار، وإن كانت الأرض
كثيرة القيمة بحيث يأخذ بعض الشركاء سهامهم منها ويبقي منها شئ مع البئر
والشجرة وجبت القسمة ومثاله أن تكون قيمة الأرض مائتين وخمسين فتجعل مائة
وخمسين سهما ويصير إلى البئر ما قيمته خمسون وإلى الشجرة مثل ذلك فتصير
ثلاثة سهام متساوية وفي كل سهم جزء من أجزاء الأرض فتجب القسمة حينئذ،
وكذلك لو كانوا
أربعة وقيمة الأرض أربعمائة وجبت القسمة لأننا نجعل ثلثمائة منها سهمين
ومائة مع البئر والشجرة سهمين فتعدلت السهام ولو كانت الأرض لاثنين فأرادا
قسمة البئر والشجر دون الأرض لم تكن قسمة إجبار ولو قسماها بشجرها كانت
قسمة إجبار لأن الشجر يدخل تبعاً للأرض فيصير الجميع كالشئ الواحد ولهذا
تجب فيه الشفعة إذا بيع شئ من الأرض بشجرة وإذا قسم ذلك
(11/510)
دون الأرض صار أصلا في القسمة ليس بتابع
لشئ واحد فيصير كأعيان مفردة من الدور والدكاكين المفرقة ولهذا لا تجب فيه
الشفعة.
(فصل) وعلى الإمام أن يرزق القاسم من بيت المال لأن هذا من المصالح، وقد
روي أن علياً رضي الله عنه اتخذ قاسماً وجعل له رزقا من بيت المال، فان لم
يرزقه الإمام قال الحاكم للمتقاسمين ادفعا إلى قاسم أجرة ليقسم بينكما، فإن
استأجره كل منهما بأجر معلوم ليقسم نصيبه جاز، وإن استأجروه جميعا أجارة
واحدة ليقسم بينهم بأجر واحد معلوم لزم كل واحد منهم من الأجر بقدر نصيبه
من المقسوم وبهذا قال الشافعي، وقال أبو حنيفة يكون عليهم على عدد رؤوسهم
لأن عمله في نصيب أحدهما مثل عمله في نصيب الآخر، وسواء تساوت سهامهم أو
اختلفت فكان الأجر بينهم سواء.
ولنا أن أجر القسمة يتعلق بالملك فكان بينهم على قدر الأملاك كنفقة العبد،
وما ذكروه لا يصح لأن العمل في أكبر النصيبين أكثر الا ترى أن المقسم إذا
كان مكيلا أو موزونا كان كيل الكثير أكثر عملا من كيل القليل وكذلك الوزن
والذرع، وعلى أنه يبطل بالحافظ فإن حفظ القليل والكثير سواء ويختلف أجره
باختلاف المال.
(فصل) وأجرة القسمة بينهما وإن كان أحدهما الطالب لها، وبهذا قال أبو يوسف
ومحمد والشافعي وقال أبو حنيفة هي على الطالب للقسمة لأنها حق له ولنا أن
الأجرة تجب بإفراز الأنصباء وهم سواء فيها فكانت الأجرة عليهما كما لو
تراضوا عليها * (فصل) * قال الشيخ رحمه الله (إذا ادعى بعضهم غلطا فيما
تقاسموه بأنفسهم وأشهدوا على
يراضيهم به لم يلتفت إليه، وإن كان فيما قسمه قاسم الحاكم فعلى المدعي
البينة وإلا فالقول قول المنكر
(11/511)
مع يمينه وإن كان فيما قسمه حاكمهم الذي
نصبوه وكان فيما اعتبرنا فيه الرضى بعد القرعة لم تسمع دعواه وإلا فهو
كقاسم الحاكم.
وجملة ذلك أنه إذا ادعى بعض المتقاسمين غلطاً في القسمة وأنه أعطي دون حقه
وكانت قسمة تلزم بالقرعة من غير تراض منهم فالقول قول المدعى عليه مع يمينه
ولا يقبل قول المدعي إلا ببينة، فإن أقام شاهدين عدليل نقضت القسمة وأعيدت،
وإن لم تقم بينة عادلة وطلب يمين شريكه أنه لا فضل معه أحلف له، وإنما
قدمنا قول المدعى عليه لأن الظاهر صحة القسمة وأداء الأمانة فيها، وإن كان
مما لا يلزم الا بالتراضي كالذي قسماها بأنفسهما ونحوه لم تسمع دعوى ادعاء
الغلط وهو الذي ذكره الأصحاب وهو مذهب الشافعي لأنه قد رضي بذلك ورضاؤه
بالزيادة في نصيب شريكه يلزمه، قال شيخنا والصحيح عندي أن هذه كالتي قبلها
وأنه متى أقام البينة بالغلط نقضت القسمة لأن ما ادعاه محتمل ثبت ببينة
عادلة فأشبه ما لو أشهد على نفسه بقبض الثمن أو المسلم فيه ثم ادعى غلطا في
كيله، وقولهم أن حقه في الزيادة سقط برضائه ممنوع فإنه إنما يسقط إذا علمه،
أما إذا ظن أعطي حقه فرضي بناء على هذا ثم بان له الغلط فلا يسقط به حق
كالثمن والمسلم فيه فإنه لو قبض المسلم فيه بناء على أنه عشرة أقفزة راضيا
بذلك ثم تعين له ثمانية وادعى المسلم اليه أنه غلط فأعطاه اثني عشر وثبت
ذلك ببينة لم يسقط حق واحد منهما بالرضا به ولا يمتنع سماع دعواه وبينته
ولأن المدعى عليه في مسئلتنا لو فرط بالغلط لنقضت القسمة ولو سقط حق المدعي
بالرضا لما نقضت القسمة باقراره كما لو وهبه الزائد وقد ذكر أصحابنا وغيرهم
فيمن باع داراً على أنها عشرة أذرع فبانت تسعة أو أحد عشر أن البيع باطل في
أحد الوجهين، وفي الآخر تكون الزيادة للبائع والنقص عليه والبيع إنما يلزم
بالتراضي فلو كان التراضي يسقط حقه من الزيادة لسقط حق البائع من الزيادة
وحق المشتري من النقص، ولأن من رضي بشئ بناء على ظن تبين خلافه لم يسقط به
حقه كما لو اقتسما شيئاً وتراضيا به ثم بان نصيب أحدهما مستحقاً
(11/512)
فإن قيل فلم لم يعط المظلوم حقه في هاتين
المسئلتين ولا تنقض القسمة كما لو تبين الغلط في الثمن أو المسلم؟ قلنا لأن
الغلط ههنا في نفس القسمة بتفويت شرط من شروطها وهو تعديل السهام فتبطل
لفوات شرطها وفي المسلم والثمن الغلط في القبض دون العقد فإن العقد قديم
بشروطه فلا يؤثر الغلط في قبض عوضه في صحته بخلاف مسئلتنا.
* (مسألة) * (وإن تقاسموا ثم استحق من حصة أحدهم شئ معين بطلت القسمة وإن
كان شائعاً فيهما فعلى وجهين) إذا اقتسم الشريكان شيئاً فبان بعضه مستحقاً
وكان معيناً في نصيب أحدهما بطلت القسمة، وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة
لا تبطل بل يخير من ظهر المستحق في نصيبه بين الفسخ والرجوع بما بقي من حقه
كما لو وجد عيبا فيما أخذه ولنا أنها قسمة لم تعدل فيها السهام فكانت باطلة
كما لو فعلا ذلك مع علمهما بالحال، وأما إذا بان عيب نصيب أحدهما فيحتمل أن
تمنع المسألة ونقول بطلان القسمة لعدم التعديل بالقيمة ويحتمل ان أن يفرق
بينهما فإن العيب لا يمكن التحرز منه فلم يؤثر في البطلان كالبيع وإن كان
المستحق في نصيبهما على السواء لم تبطل القسمة لأن ما يبقى لكل واحد منهما
بعد المستحق قدر حقه ولأن القسمة إفراز حق أحدهما من الآخر وقد أفرز كل
واحد منهما حقه إلا أن يكون ضرر المستحق في نصيب أحدهما أكثر مثل ان يسد
طريقه أو مجرى مائه أو ضوئه ونحو هذا فتبطل القسمة لأن هذا
(11/513)
يمنع التعديل فإن كان المستحق في نصيب
أحدهما أكثر من الآخر بطلت القسمة لما ذكرناه، وإن كان مشاعا فيهما بطلت
لأن الثالث شريكهما ولم يحضر ولا إذن فأشبه ما لو كان لهما شريك يعلمانه
فاقتسما دونه، وفيه وجه آخر أنها لا تبطل لأنه يأخذ من كل واحد منهما مثل
ما يأخذ من الآخر ويصير مع كل واحد قدر حقه فأشبه ما لو كان المستحق معينا
في نصيبهما على السواء * (مسألة) * (وإن اقتسما دارين قسمة تراض فبنى
أحدهما في نصيبه ثم خرجت الدار مستحقة فقلع بناؤه رجع بنصف قيمته على
شريكه)
هكذا ذكره الشريف أبو جعفر وحكاه أبو الخطاب عن القاضي وقال أبو يوسف ومحمد
بن الحسن ليس له الرجوع عليه بشئ لأنه غرس وبنى بإختياره فلم يرجع بنقص ذلك
على غيره كما لو بنى في ملك نفسه ولنا أن هذه القسمة بمنزلة البيع فإن
الدارين لا تقتسمان قسمة إجبار على أن يكون كل واحد منهما نصيباً وإنما
يقتسمان كذلك بالتراضي فتكون جارية مجرى البيع ولو باعه الدار جميعها ثم
انت مستحقة رجع عليه بالبناء كله وإن باعه نصفها رجع عليه بنصفه وكذلك يخرج
في كل قسمة جارية مجرى البيع وهي قسمة التراضي كالذي فيه رد عوض وما لا
يجبر على قسمته لضرر فيه ونحو ذلك فإما قسمة الاجبار إذا ظهر نصيب أحدهما
مستحقاً بعد البناء والغرس فيه فينقض البناء ويقلع الغرس فإن قلنا القسمة
بيع فكذلك وإن قلنا ليست بيعاً لم يرجع لأن شريكه لم يضره ولم ينتقل إليه
من جهته بيع وإنما فرز حقه من حقه فلم يضمن له ما غرم فيه هذا الذي يقتضيه
قول الاصحاب * (مسألة) * (وإن خرج في نصيب أحدهما عيب فله فسخ القسمة إذا
لم يعلمه أو الرجوع بارش العيب) لأنه نقص في نصيبه فملك ذلك كالمشتري
ويحتمل أن تبطل القسمة لأن التعديل فيها شرط ولم يوجد بخلاف البيع
(11/514)
* (مسألة) * (وإذا اقتسم الورثة العقار ثم
ظهر على الميت دين فإن قلنا هو إفراز حق لم تبطل القسمة، وإن قلنا هي بيع
انبنى على بيع التركة قبل قضاء الدين هل يجوز؟ على وجهين) وجملة ذلك أن
تركة الميت يثبت فيها الملك لورثته سواء كان عليه دين أو لم يكن نص عليه
أحمد فيمن أفلس ثم مات فقال قد انتقل المبيع إلى الورثة وحصل ملكا لهم
وبهذا قال الشافعي، وقال أبو حنيفة إن كان الدين يستغرق التركة منع نقلها
الى الورثة وإن كان لا يستغرقها لم يمنع انتقال شئ منها، وقال أبو سعيد
الاصطخري يمنع بقدره وقد أومأ إليه أحمد فإنه قال في أربعة بنين ترك أبوهم
داراً وعليه دين فقال أحد البنين أنا أعطي ودعوا لي الربع فقال أحمد هذه
الدار للغرماء لا يرثوا شيئاً حتى يؤدوا الدين وهذا يدل على أنها لم تنقل
إليهم عنده لأنه منع الوارث من إمساك بدفع قيمته
لأن الدين لم يثبت في ذمة الورثة فيجب أن يتعلق بالتركة والمذهب الاول
ولهذا قلنا ان الغريم لا يحلف على دين الميت لأن الدين محله الذمة وإنما
يتعلق بالتركة فيتخير الورثة بين قضاء الدين منها أو من غيرها كالرهن
والجاني ولهذا لا يلزم الغرماء نفقة العبد ولا يكون نماء التركة لهم ولأنه
لا ينتقل الى الورثة أو الى الغرماء أو يبقى للميت أو لا يكون لأحد، لا
يجوز أن ينتقل إلى الغرماء لأنها لو انتقلت إليهم لزمهم نفقة الحيوانات
وكان نماؤها لهم غير محسوب من دينهم، ولا يجوز أن يبقى للميت لأنه لم يبق
أهلا للملك، ولا يجوز أن يكون لأحد لأنها مال مملوك فلا بد من مالك، ولأنها
لو بقيت بغير مالك لابيحت لأن يتملكها كسائر المباحات فثبت أنها انتقلت الى
الورثة فعلى هذا إذا تمت التركة ثم إن غلبت الدار او اثمرت النخيل او نتجت
الماشية فهو للوارث ينفرد به لا يتعلق به حق الغرماء لأنه نماء ملكه اشبه
كسب الجاني ويحتمل أن يتعلق به حق الغرماء كنماء الرهن ومن اختار الاول قال
تعلق حق الغرماء بالرهن آكد لا يثبت باختيار المالك ورضاه ولهذا منع
المتصرف فيه وهذا يثبت بغير رضاء المالك فلم يمنع التصرف لأنه اشبه الجاني
وعلى الرواية الأخرى يكون حكمه حكم
(11/515)
التركة وما يحتاج إليه من المؤنة منها فعلى
هذا إن تصرف الورثة في التركة ثم إن غلت الدار او اثمرت النخيل او نتجت
الماشية فهو للوارث ينفرد به لا يتعلق به حق الغرماء لأنه نماء ملكه اشبه
كسب الجاني ويحتمل أن يتعلق به حق الغرماء كنماء الرهن ومن اختار الاول قال
تعلق حق الغرباء بالرهن آكد لا يثبت باختيار المالك ورضاه ولهذا منع التصرف
فيه وهذا يثبت بغير رضاء المالك فلم يمنع التصرف لأنه اشبه الجاني وعلاى
لرواية الاخرى يكون حكمه حكم التركة وما يحتاج إليه من المؤنة منها فعلى
هذا إن تصرف الورثة في التركة ببيع أو هبة فعلى الرواية الأولى تصرفهم صحيح
فإن قضوا الدين وإلا نقضت تصرفاتهم كما إذا تصرف السيد في العبد الجاني ولم
يود الجناية وعلى الروية الأخرى تصرفاتهم فاسدة لأنهم تصرفوا فيما لم
يملكوه والأول أولى إن شاء الله تعالى (فصل) وإن اقتسم الورثة تركة الميت
ثم ظهر عليه دين لا وفاء له إلا ما اقتسموه لم تبطل القسمة إذا قلنا هي
إفراز حق لأن تعلق الدين بالتركة لا يمنع تصرف الوارث فيها كما لا يمنع
تصرف السيد في
العيد الجاني لكن إن امتنعوا من وفاء الدين بيعت في الدين وبطلت القسمة لأن
الدين يقدم على الميراث لقوله تعالى (من بعد وصية يوصى بها أو دين) فإن وفي
أحدهما دون الآخر صح في نصيبه وبيع نصيب الآخر فإن قلنا أن القسمة بيع
انبنى على بيع التركة وفيه وجهان ذكرنا دليلهما في المسألة قبل هذا فإن
قلنا يجوز لم تبطل القسمة وإن قلنا لا يجوز فالقسمة باطلة لأنه بيع فإن
قضوا الدين أعادوها وإلا بيع في قضائه والخلاف في ذلك بني على الخلاف في
انتقال التركة إلى الورثة إذا كان على الميت دين وفيه روايتان ذكرناهما
والمختار منهما والله أعلم (فصل) قال أحمد في قوم اقتسموا دار أو حصل
لبعضهم فيها زيادة أذرع ولبعضهم نقصان ثم باعوا الدار جملة قسمت الدار
بينهم على قدر الأذرع يعني أن الثمن يقسم بينهم على قدر ملكهم فيها
(11/516)
وهذا محمول على ان زيادة أحدهما في الأذرع
لزيادة ملكه فيها مثل أن يكون لأحدهما الخمسان فيحصل له أربعون ذراعاً
وللآخر ثلاثة أخماس فيحصل له ستون ذراعاً فإن الثمن يقسم بينهم أخماساً على
قدر ملكهما في الدار، فأما إن كانت زيادة الأذرع لرداءة ما أخذ صاحبها كدار
تكون بينهما نصفين فأخذ أحدهما بنصيبه من جيدها أربعين ذراعاً وأخذ الآخر
من رديئها ستين فلا ينبغي أن يقسم الثمن على قدر الأذرع بل يقسم بينهما
نصفين لأن الستين ههنا معدولة بالأربعين فلذلك تعدل بها في الثمن، وقال
أحمد رحمه الله في قوم اقتسموا داراً كانت أربعة أسطحة يجري عليها الماء من
أحد الأسطحة فلما اقتسموا أراد أحدهما منع جريان لآخر عليه وقال هذا شئ قد
صار لي قال إن كان بينهما شرط برد الماء فله ذلك وإن لم يشترط فليس له منعه
ووجه ذلك أنهم اقتسموا الدار واطلقوا فاقتضى ذلك أن يملك كل واحد حصته
بحقوقها كما لو اشتراها بحقوقها ومن حقها جريان مائها فيما كان يجري إليه
معتاداً له وهو على سطح المانع فلهذا استحقه حالة الإطلاق فإن تشارطا على
رده فالشرط أملك والمؤمنون على شروطهم * (مسألة) * (وإن اقتسما فحصلت
الطريق في نصيب أحدهما ولا منفذ للآخر بطلت القسمة) لأن القسمة تقتضي
التعديل.
والنصيب الذي لا طريق له لا قيمة له إلا قيمة قليلة فلا يحصل التعديل، ولأن
من شرط الإجبار على القسمة أن يكون ما أخذه كل واحد منهما يمكن الانتفاع
فيحصل له أربعون ذراعاً وللآخر ثلاثة أخماس فيحصل له ستون ذراعاً فإن الثمن
يقسم بينهم أخماساً على قدر ملكهما في الدار، فأما إن كانت زيادة الاذرع
لرداءة ما أخذ صاحبها كدار تكون بينهما نصفين فأخذ أحدهما بنصيبه من جيدها
أربعين ذراعاً وأخذ الآخر من رديئها ستين فلا ينبغي أن يقسم الثمن على قدر
الأذرع بل يقسم بينهما نصفين لأن الستين ههنا معدولة بالأربعين فلذلك تعدل
بها في الثمن، وقال أحمد رحمه الله في قوم اقتسموا داراً كانت أربعة أسطحة
يجري عليها الماء من أحد الأسطحة فلما اقتسموا أراد أحدهما منع جريان لآخر
عليه وقال هذا شئ قد صار لي قال إن كان بينهما شرط برد الماء فله ذلك وإن
لم يشترط فليس له منعه ووجه ذلك أنهم اقتسموا الدار واطلقوا فاقتضى ذلك أن
يملك كل واحد حصته بحقوقها كما لو اشتراها بحقوقها ومن حقها جريان مائها
فيما كان يجري إليه معتاداً له وهو على سطح المانع فلهذا استحقه حالة
الإطلاق فإن تشارطا على رده فالشرط أملك والمؤمنون على شروطهم * (مسألة) *
(وإن اقتسما فحصلت الطريق في نصيب أحدهما ولا منفذ للآخر بطلت القسمة) لأن
القسمة تقتضي التعديل.
والنصيب الذي لا طريق له لا قيمة له إلا قيمة قليلة فلا يحصل التعديل، ولأن
من شرط الإجبار على القسمة أن يكون ما أخذه كل واحد منهما يمكن الانتفاع
به، وهذا لا ينتفع به آخذه، فإن كان قد أخذه راضياً عالماً بأنه لا طريق له
جاز لأن قسمة التراضي بيع وشراؤه على هذا الوجه جائز.
قال شيخنا وقياس المسألة التي قبل هذا أن الطريق تبقى بحالها في نصيب الآخر
ما لم يشترط صرفها عنه كجري الماء * (مسألة) * (ويجوز للأب والوصي قسم مال
المولى عليه مع شريكه) لأن القسمة إما افراز حق أو بيع وكلاهما جائز لهما.
ولأن في القسمة مصلحة للصبي فجازت كالشراء له، ويجوز لهما قسمة التراضي من
غير زيادة في العوض لأن فيه دفعاً لضرر الشركة فأشبه ما لو باع لضرر الحاجة
إلى قضاء الدين أو النفقة والله أعلم
(11/517)
* (تم بحمد الله وعونه الجزء الحادي عشر من
كتابي المغني والشرح الكبير) * * (ويليه بمشيئة الله وتوفيقه الجزء الثاني
عشر منهما وأوله (كتاب الشهادات)) *
(11/518)
|