الشرح الكبير على متن المقنع

بسم الله الرحمن الرحيم كتاب الشهادات والأصل فيها الكتاب والسنة والإجماع أما الكتاب فقول الله تعالى (واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء - وقال سبحانه - وأشهدوا ذوي عدل منكم - وقال عزوجل - وأشهدوا إذا تبايعتم) وأما السنة فروى وائل بن حجر رضي الله عنه قال جاء رجل من حضرموت ورجل من كندة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال الحضرمي يارسول الله إن هذا غلبني على أرض لي فقال الكندي هي أرضي وفي يدي فليس له فيها حق فقال النبي صلى الله عليه وسلم للحضرمي (ألك بينة؟ - فقال لا قال - فلك يمينه) قال يارسول الله الرجل فاجر لا يبالي على ما حلف عليه وليس يتورع من شئ قال (ليس لك منه إلا ذلك) قال فانطلق الرجل ليحلف له فقال النبي صلى الله عليه وسلم (لأن حلف على ماله ليأكله ظلما ليلقين الله وهو عنه معرض) قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح وروى محمد بن عبد الله العزرمي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن

(12/2)


النبي صلى الله عليه وسلم قال (البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه) قال الترمذي هذا حديث في إسناده
مقال والعزرمي يضعف في الحديث من قبل حفظه ضعفه ابن المبارك وغير إلا أن أهل العلم أجمعوا على هذا قال قال الترمذي والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وغيرهم ولأن العبرة تقتضي مشروعية الشهادة فإن الحاجة داعية إليها لحصول التجاحد بين الناس فوجب الرجوع إليها قال شريح القضاء جمر فنحه عنك بعودين يعني الشاهدين وإنما الخصم داء والشهود شفاء فافرغ الشفاء على الداء، واشتقاق الشهادة من المشاهدة لأن الشاهد يخبر عما شاهده، وقيل لأن الشاهد يخبره ويجعل الحاكم كالشاهد للمشهود عليه وتسمى بينة لأنها تبين ما التبس وتكشف الحق في المختلف فيه (مسألة) (تحمل الشهادة واداؤها فرض على الكفاية إذا قام بها من يكفي سقطت عن الباقين وإن لم يقم بها أحد تعينت على من وجد لقول الله تعالى (ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا - وقال - ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه) وإنما خص القلب بالإثم لأنه موضع العلم بها ولأن الشهادة أمانة فلزم أداؤها كسائر الأمانات وقال اله تعالى (إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها) إذا ثبت هذا فإذا دعي إلى تحمل شهادة في نكاح أو دين أو عدة لزمته الإجابة قال الله تعالى (يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله) فإن قام بافرض في التحمل والأداء اثنان سقط عن الجميع، وإن امتنع الكل أثموا، وإنما يأثم

(12/3)


الممتنع إذا لم عليه ضرر وكانت شهادته تنفع، فإن كان عليه ضرر في التحمل أو الأداء أو كان ممن لاتقبل شهادته أو يحتاج إلى التبذل في التزكية لم تلزمه لقول الله تعالى (ولا يضار كاتب ولا شهيد) وقول النبي صلى الله عليه وسلم (لا ضرر ولا ضرار) وإنه لا يلزمه أن يضر نفسه لنفع غيره وإذا كان ممن لا تقبل شادته لم تجب عليه لأن مقصود الشهادة لا يحصل منه وهل يأثم بالامتناع إذا وجد غيره ممن يقوم مقامه؟ فيه وجهان (أحدهما) يأثم لأنه قد تعين بدعاية ولأنه منهي عن الامتناع بقوله تعالى (ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا) (والثاني) لا يأثم لأن غيره يقوم مقامه فلم تتعين في حقه كما لو لم يدع إليها فأما قول الله تعالى (ولا يضار كاتب ولا شهيد) فقد قرئ بالقتح والرفع فمن رفع فهو خبر معناه النهي ويحتمل معنيين (أحدهما) أن يكون الكاتب فاعلا أي لا يضر الكاتب والشهيد من
يدعوه بألا يجيب أو يكتب ما لم يستكتب أو يشهد بما لم يستشهد (والثاني) أن يكون يضار فعل ما لم يسم فاعله فيكون معناه ومعنى الفتح واحدا أي لا يضر الكاتب والشهيد بقطعهما عن شغلهما بالكتابة والشهادة ويمنعا حاجتهما (مسألة) (قال الخرقي ومن لزمته الشهادة فعليه أن يقوم بها على القريب والبعيد ولا يسعه التخلف عن إقامتها وهو قادر على ذلك) قد ذكرنا أن الشهادة من فروض الكفايات فإن تعينت عليه بأن لا يتحملها من يكفي فيها سواه لزمه القيام بها، وإن قام بها من يكفي غيره سقط عنه اداؤها إذا قبلها الحاكم فإن كان تحملها

(12/4)


جماعة فأداؤها واجب على الكل إذا امتنعوا أثموا كلهم كسائر فروض الكفايات ودليل وجوبها قول الله تعالى (ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا - وقوله تعالى - يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط - وفي آية أخرى - كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين) ولأن الشهادة أمانة فلزمه أداؤها كالوديعة (مسألة) (ولا يجوز لمن تعينت عليه أخذ الأجرة عليها ولا يجوز ذلك لمن لم تتعين عليه في أصح الوجهين) من له كفاية فليس له أخذ الجعل على الشهادة لأنها أداء فرض فإن فرض الكفاية إذا قام به البعض وقع منهم فرضا، وإن لم تكن له كفاية ولا تعينت عليه حل له أخذ الجعل لأن النفقة على عياله فرض عين فلا يشتغل عنه بفرض الكفاية، فإذا أخذ الرزق جمع بين الأمرين فإن تعينت عليه الشهادة احتمل ذلك أيضا واحتمل ألا يجوز لئلا يأخذ العوض عن أداء فروض الأعيان وقال أصحاب الشافعي لا يجوز أخذ الأجرة لمن تعينت عليه وهل يجوز لغيره؟ على وجهين (مسألة) (ومن كانت عنده شهادة في حد لله تعالى أبيح إقامتها ولم يستحب وللحاكم أن يعرض له بالوقوف عنها في أحد الوجهين)

(12/5)


يجوز للشاهد إقامة الشهادة في حدود الله تعالى من غير تقدم دعوى لأن أبا بكرة وأصحابه شهدوا على المغيرة وشهد الجارود وأبو هريرة على قدامة بن مظعون بشرب الخمر من غير تقدم دعوى فأجيزت شهادتهم.
ولا يستحب أداؤها لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم (من ستر عورة ستره الله في الدنيا والآخرة) وللحاكم أن يعرض للشاهد بالوقوف عن الشهادة في أظهر الروايتين لما روى صالح في مسائله عن أبي عثمان النهدي قال جاء رجل إلى عمر فشهد على المغيرة بن شعبة فتغير لون عمر ثم جاء آخر فشهد فاستنكر ذلك ثم جاء شاب يخطر بيديه فقال عمر ما عندك يا سلح العقاب؟ وصاح به عمر صيحة فقال أبو عثمان والله لقد كدت أن يغشى علي فقال يا أمير المؤمنين رأيت أمرا قبيحا فقال الحمد لله الذي لم يشمت الشيطان بأصحاب محمد فأمر بأولئك النفر فجلدوا وفي رواية أنه لما شهد عنده على المغيرة شهد ثلاثة وبقي وأحد فقال عمر أرى شابا حسنا وأرجو أن لا يفضح الله على لسانه رجلا من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وهذا تعريض ظاهر (مسألة) (ومن كانت عنده شهادة لآدمي يعلمها لم يقمها حتى يسأله فإن لم يعلمها استحب له إعلامه بها وله إقامتها قبل ذلك) إذا كان المشهود له يعلم له شهادة عند إنسان لم يقمها الشاهد حتى يسأله صاحبها لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم يأتي قوم ينذرون ولا يوفون ويشهدون

(12/6)


ولا يستشهدون ويخونون ولا يؤتمنون) رواه البخاري فإن كان لا يعلمها استجب له إعلام صاحبها بها كالوديعة وله أداؤها قبل إعلامه لقول النبي صلى الله عليه وسلم (ألا أنبئكم بخير الشهداء؟ الذي يأتي بشهادته قبل أن يسألها) رواه أبو داود فيتعين حمل الحديث على هذه الصورة جمعا بين الخبرين (مسألة) (ولا يجوز أن يشهد إلا بما يعلمه برؤية أو سماع) وجملة ذلك أن الشهادة لا تجوز إلا بما يعلمه بدليل قول الله تعلى (إلا من شهد بالحق وهم يعلمون) وقوله تعالى (ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا) وتخصيص هذه الثلاثة بالسؤال لأن العلم بالفؤاد وهو يستند إلى السمع والبصر لأن مدرك
الشهادة الرؤية والسماع وهما بالبصر وقد روي عن ابن عباس أنه قال سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الشهادة قال (هل ترى المشس؟) قال نعم قال (على مثلها فاشهد أو دع) رواه الخلال بإسناده في جامعه.
إذا ثبت هذا فإن مدارك العلم كالشم والذوق واللمس لا حاجة إليها في الشهادة في الأغلب (مسألة) (والرؤية تخص بالأفعال كالقتل والغصب والسرقة وشرب الخمر والرضاع والولادة وغيرها) فهذا لا يتحمل الشهادة إلا بالرؤية لأنه تمكن الشهادة عليه قطعا ومن ذلك الصفات المرئية في المبيع ونحوها فلا يرجع إلى غير ذلك

(12/7)


(مسألة) (والسماع على ضربين سماع من المشهود عليه نحو الإقرار والعقود والطلاق) ونحو ذلك فيحتاج أن يسمع كلام المتعاقدين يقيناً ولا تعتبر رؤية المتعاقدين إذا عرفهما وتيقن أنه كلامهما وبهذا قال ابن عباس والزهري وربيعة والليث وشريح وعطاء وابن أبي ليلى ومالك، وذهب أبو حنيفة والشافعي إلى أن الشهادة لا تجوز حتى يشاهد القائل المشهود عليه لأن الأصوات تشتبه فلا يجوز أن يشهد عليها من غير رؤية كالخط ولنا أنه عرف المشهود عليه يقيناً فجازت شهادته عليه كما لو رآه وجواز اشتباه الأصوات كجواز اشتباه الصور، وإنما تجوز الشهادة لمن عرف المشهود عليه يقيناً، وقد يحصل العلم بالسماع يقيناً وقد اعتبره الشرع بتجويزه الرواية من غير رؤية ولهذا قبلت رواية الأعمى ورواية من روى عن أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير محارمهن (فصل) إذا عرف المشهود عليه باسمه وعينه ونسبه جاز أن يشهد عليه حاضرا كان أو غائبا، وإن لم يعرف ذلك لم يجز أن يشهد عليه مع غيبته وجاز أن يشهد عليه حاضراً بمعرفة عينه نص عليه أحمد قال مهنا سألت أحمد عن رجل يشهد لرجل بحق له على آخر وهو لا يعرف اسم هذا ولا اسم هذا إلا أنه يشهد له فقال إذ قال أشهد أن لهذا على هذا وهما شاهدان جميعاً فلا بأس وإذا كان غائباً فلا يشهد حتى يعرف اسمه، والمرأة كالرجل في أنه إذا عرف اسمها جاز أن يشهد عليها مع غيبتها وإن لم يعرفها

(12/8)


لم يشهد عليها إلا في حال حضورها، قال أحمد في رواية الجماعة لا تشهد إلا لمن تعرف وعلى من تعرف ولا يشهد إلا على امرأة قد عرفها، وإن كانت ممن عرف اسمها ودعيت وذهبت وجاءت فليشهد وإلا فلا يشهد، فأما إن لم يعرفها فلا يجوز أن يشهد مع غيبتها ويجوز أن يشهد على عينها إذا عرف عينها ونظر إلى وجهها.
قال أحمد لا تشهد على امرأة حتى تنظر إلى وجهها وهذا محمول على الشهادة على من لم يتيقن معرفتها فأما من تيقن معرفتها ويعرف صوتها يقيناً فيجوز أن يشهد عليها إذا تيقن صوتها على ما قدمناه في المسألة قبلها فإن لم يعرف المشهود عليه فعرفه عنده من يعرفه فروي عن أحمد أنه قال لا يشهد على شهادة غيره إلا بمعرفته لها، وقال لا يجوز للرجل أن يقول للرجل أشهد أن هذه فلانة ويشهد على شهادته وهذا صريح في المنع من الشهادة على من لا يعرفه بتعريف غيره وقال القاضي يجوز أن يحمل هذا على الاستحباب لتجويزه الشهادة بالاستفاضة وظاهر قوله المنع منه، وقال أحمد لا تشهد على امرأة إلا بإذن زوجها وهذا يحتمل أنه لا يدخل عليها بيتها إلا بإذن زوجها لما روى عمرو بن العاص قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يستأذن على النساء بالاذن أزواجهن رواه أحمد في مسنده فأما الشهادة عليها في غير بيتها فجائزة لأن إقرارها صحيح وتصرفها إذا كانت رشيدة صحيح فجاز أن يشهد عليها به

(12/9)


(فصل) إذا عرف الشاهد خطه ولم يذكر الشهادة فهل يجوز أن يشهد بذلك؟ على روايتين (إحداهما) لا يجوز، قال أحمد في رواية حرب فيمن يرى خطه وخاتمه ولا يذكر الشهاد: لا يشهد إلا بما يعلم، وقال في رواية يشهد إذا عرف خطه وكيف تكون الشهادة إلا هكذا؟ وقال في موضع آخر إذا عرف خطه ولم يحفظ فلا يشهد إلا أن يكون منسوخاً عنده موضوعاً تحت ختمه وحرزه فيشهد وإن لم يحفظ، وقال أيضاً إذا كان ردئ الحفظ يشهد ويكتبهما عنده وهذه رواية ثالثة وهو أن يشهد إذا كانت مكتوبة عنده بخطه في حرزه ولا يشهد إذا لم تكن كذلك بمنزله القاضي في إحدى الروايتين إذا وجد حكمه بخطه تحت ختمه ولا يمضيه إذا لم كن كذلك (مسألة) (الضرب الثاني سماع من جهة الاستفاضة فيما يتعذر علمه في الغالب إلا بذلك كالنسب
والموت والملك والنكاح والخلع والوقف ومصرفه والعتق والولاء والولاية والعزل وما أشبه ذلك) قال الخرقي وما تظاهرت به الأخبار واستقرت معرفته في قلبه شهد به كالشهادة على النسب والولادة، أجمع أهل العلم على صحة الشهادة بالنسب قال إبن المنذر لا أعلم أحداً من أهل العلم منع منه ولو منع ذلك لاستحالت معرفته إذ لا سبيل إلى معرفته قطعا بغيره ولا تمكن المشاهدة فيه ولو اعتبرت لما عرف أحد أباه ولا أمه ولا أحداً من أقاربه، وقد قال الله تعالى (يعرفونه كما يعرفون ابناءهم) وكذلك الولادة واختلف أهل العلم فيما تجوز الشهادة عليه بالاستفاضة غير النسب والولادة فقال

(12/10)


أصحابنا هو تسعة أشياء النكاح والملك المطلق والوقف ومصرفه والموت والعتق والولاء والولاية والعزل وبهذا قال أبو سعيد الاصطخري وبعض أصحاب الشافعي وقال بعضهم لا تجوز في الوقف والولاء والعتق والزوجية لأن الشهادة ممكنة فيه بالقطع ولأنها شهادة بعقد فأشبه سائر العقود، وقال أبو حنيفة لا تقبل إلا في النكاح والموت ولا تقبل في الملك المطلق لأنها شهادة بمال فشابه الدين، وقال صاحباه تقبل في الولاء مثل عكرمة مولى ابن عباس ولنا أن هذه تتعذر الشهادة عليها في الغالب بمشاهدتها أو مشاهدة أسبابها فجازت الشهادة عليها بالاستفاضة كالنسب قال مالك ليس عندنا من يشهد على أحباس أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بالسماع وقال: السماع في الأحباس والولاء جائز وقال أحمد في رواية المروذي أشهد ان داريختان لبختان وإن لم يشهدك وقيل له تشهد أن فلانة امرأة فلان ولم تشهد فقال نعم إذا كان مستفيضاً فأشهد أقول فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن خديجة وعائشة زوجتاه وكل أحد يشهد بذلك من غير مشاهدة، فإن قيل يمكنه العلم بذلك بمشاهدة السبب قلنا وجود السبب لا يفيد العلم بكونه سبباً يقيناً فإنه يجوز أن يشتري ما ليس بملك البائع ويصطاد صيداً صاده غيره ثم انفلت منه وإن تصور ذلك فهو نادر وقول أصحاب الشافعي تمكن الشهادة على الوقف باللفظ لا يصح لأن الشهادة ليست بالعقود ههنا إنما يشهد بالوقف الحاصل بالعقد فهو بمنزلة الملك وكذلك يشهد بالزوجية دون العقد وكذلك الحرية والولاء

(12/11)


وهذه جميعها لا يمكن القطع بها كما لا يمكن القطع بالملك لأنها مرتبة عليه فوجب أن تجوز الشهادة فيها بالاستفاضة كالملك سواء (مسألة) (ولا تقبل الاستفاضة إلا من عدد يقع العلم بخبرهم في ظاهر كلام أحمد والخرقي وقال القاضي تسمع من عدلين فصاعداً) ذكره في المحرر لأن الحقوق تثبت بقول اثنين وهذا قول المتأخرين من أصحاب الشافعي والقول الأول هو الذي تقضيه لفظة الاستفاضة فإنها مأخوذة من فيض الماء لكثرته ولأنه لو اكتفي فيه بقول اثنتين لا يشترط فيه ما يشترط في الشهادة على الشهادة وإنما اكتفي بمجرد السماع وقد ذكر شيخنا في كتاب المقنع الخلع فيما يثبت بالاستفاضة ولم يذكره في المغني ولا في الكافي ولا رأيته في كتاب غيره ولعله قاسه على النكاح والأولى أنه لا يثبت قياساً على الطلاق والنكاح بخلاف الخلع (مسألة) (وإن سمع إنساناً يقر بنسب أب أو ابن فصدقة المقر له جاز أن يشهد له به وإن كذبه لم يشهد وإن سكت جاز أن يشهد ويحتمل ألا يشهد حتى يتكرر) إذا سمع رجلاً يقول للصبي هذا ابني جاز أن يشهد به لأنه مقر بنسبه وإن سمع الصبي يقول هذا أبي فسكت الأب جاز أيضاً لأن سكوت الأب إقرار له والإقرار يثبت به النسب فجازت الشهادة به وإنما أقيم السكوت ههنا مقام الإقرار لأن الإقرار على الانتساب الباطل غير جائز بخلاف سائر

(12/12)


الدعاوي ولأن النسب يغلب فيه الإثبات ألا ترى أنه يلحق بالإمكان في النكاح؟ ويحتمل أن لا يشهد حتى يتكرر ذكره أبو الخطاب لأن السكوت ليس بإقرار حقيقي وإنما أقيم مقامه فاعتبرت تقويته بالتكرار كما اعتبرت تقوية اليد في العقار بالاستمرار (مسألة) (وإن رأى شيئاً في يد إنسان يتصرف فيه تصرف الملاك من النقض والبناء والإجارة والإعارة ونحوها جاز أن يشهد بالملك) قال ذلك أبو عبد الله ابن حامد وهو قول أبي حنيفة والاصطخري من أصحاب الشافعي ويحتمل أن لا يشهد الا باليد ولتصرف ذكره القاضي لأن اليد ليست منحصرة في الملك فإنه قد يكون باجارة
وإعارة وغضب ووكالة وهو قول بعض أصحاب الشافعي.
ووجه الأول أن اليد دليل الملك واستمرارها من غير منازع يقويها فجرت مجرى الاستفاضة فجاز أن يشهد بها كما لو شاهد سبب اليد من بيع أو إرث أو هبة واحتمال كونها من غصب وإجارة أو نحو ذلك يعارضه استمرار اليد من غير منازع فلا يبقى مانعاً كما لو شاهد سبب اليد فإن احتمال كون البائع غير المالك والوارث والواهب لا يمنع الشهادة كذا ههنا، فإن قيل فإذا بقي الاحتمال لم يحصل العلم ولا تجوز الشهادة إلا بما يعلم، قلنا الظن يسمى علماً قال الله تعالى (فإن علمتموهن مؤمنات) ولا سبيل إلى العلم اليقيني ههنا فجاز بالظن (فصل) قال الشيخ رحمه الله ومن شهد بالنكاح فلابد من ذكر شروطه وأنه تزوجها بولي

(12/13)


مرشد وشاهدي عدل ورضاها لأن الناس يختلفون في شروطه فيجب ذكرها لئلا يكون الشاهد معتقداً صحة النكاح وهو فاسد فإن شهد بعقد سواه كالبيع والإجارة فهل يشترط ذكر شروطه؟ على روايتين مبنيتين على الروايتين فيما ادعاها وقد ذكرناه (مسألة) (وإن شهد بالرضاع فلابد من ذكر عدد الرضعات وأنه شرب من ثديها أو من لبن حلب منه) لأن الناس يختلفون في الرضعات وفي الرضاع المحرم فإن شهد أنه ابنها من الرضاع لم يكف لاختلاف الناس فيما يصير به ابنها ولابد من ذكران ذلك في الحولين (مسألة) (وإن شهد بالقتل احتاج أن يقول ضربه بالسيف أو جرحه فقتله أو مات من ذلك فان قال جرحه فمات لم يحكم به) لجواز أن يكون مات بغير هذا وقد روي عن شريح أنه شهد عنده رجل فقال اتكأ عليه بمرفقه فمات فقال شريح فمات منه أو فقتله؟ فأعاد القول الأول فأعاد عليه شريح سؤاله فلم يقل فقتله ولا مات منه فقال له شريح قم فلا شهادة لك رواه سعيد (مسألة) (ومن شهد بالزنا فلا بد أن يذكر بمن زنى؟ واين زنى؟ وأنه رأى ذكره في فرجها)
لأن اسم الزنا يطلق على ما لا يوجب الجد وقد يعتقد الشاهد ما ليس بزنا زنا فاعتبر ذكر صفته ليزول الاحتمال واعتبر ذكر المرأة لئلا تكون ممن تحل له أوله في وطئها شبهة وذكر المكان لئلا

(12/14)


تكون الشهادة منهم على فعلين ومن أصحابنا من قال لا يحتاج إلى ذكر المزني بها ولا ذكر المكان لأنه محل الفعل فلا يعتبر ذكره كالزمان والأول أولى والزمان ممنوع في أحد الوجهين فإنه يشترط ذكره لتكون شهادتهم على فعل واحد لجواز أن يكون ما شهد به أحدهما غير ما شهد به الآخر ولأن الناس اختلفوا في الشهادة في الحد مع تقادم الزمان فقال ابن أبي موسى لا تقبل لأن عمر قال من شهد على رجل بحد فلم يشهد حين يصيبه فإنما يشهد على ضغن وقال غيره من أصحابنا تقبل لأنها شهادة بحق فجازت مع تقادم الزمان كالقصاص ولأنه قد يعرض له ما يمنعه الشهادة في حينها ويتمكن منها بعد ذلك (مسألة) (ومن شهد بالسرقة فلا بد من ذكر المسروق منه والنصاب والحرز وصفة السرقة) لاختلاف العلماء في ذلك (مسألة) (وإن شهد بالقذف فلابد من ذكر المقذوف وصفة القذف) لذلك (مسألة) (وإن شهدا أن هذا العبد ابن أمة فلان لم يحكم به حتى يقولا ولدته في ملكه) إذا ادعى عبداً أنه له فشهد له شاهدان أنه ابن أمته أو ادعى ثمرة شجرة فشهدت له البينة أنها ثمرة شجرته لم يحكم له بها لجواز أن تكون ولدته قبل تملكها وأثمرت الشجرة هذه الثمرة قبل ملكه إياها، وإن قالت البينة ولدته في ملكه أو أثمرتها في ملكه حكم له بالولد والثمرة لأنها شهدت أنها نماء ملكه ما لم يرد سبب ينقله عنه فإن قيل فقد قلتم لا تقبل شهادة بالملك السابق على الصحيح وهذه شهادة بملك سابق

(12/15)


قلنا الفرق بينهما على تقديم التسليم أن النماء تابع للملك في الأصل فإثبات ملكه في الزمن الماضي على وجه التبع وجرى مجرى ما لو قال ملكته منذ سنة وأقام البينة بذلك فإن ملكه يثبت في الزمن الماضي تبعاً للحال فيكون له النماء فيما مضى، ولأن البينة ههنا شهدت سبب الملك وهو ولادتها أو وجودها في ملكه فقويت بذلك ولهذا لو شهدت بالسبب في الزمن الماضي فقالت أفرضه ألفاً أو
باعه ثبت الملك وإن لم يذكره فمع ذكره أولى (مسألة) (وإن شهدت أنه اشتراها من فلان أو وقفها عليه أو أعتقها لم يحكم بها حتى يقولا وهي في ملكه) لما ذكرنا في المسألة قبلها ولأنه يجوز أن يبيع ويقف ويعتق ما لا يملك (مسألة) (وإن شهدان هذا الغزل من قطنه والطائر من بيضته أو الدقيق من حنطته حكم له بها) لأنه لا يتصور أن يكون الطير من بيضته قبل ملكه البيضة وكذلك الغزل والدقيق ولأن الغزل عين القطن وإنما تغيرت صفته والدقيق أجزاء الحنطة تفرقت والطير هو البيض استحال فكأن البينة قالت هذا غزله ودقيقه وطيره وليس كذلك الولد والئمرة فأنهما غير الأم والشجرة ولو شهد أن هذه البيضة من طيره لم يحكم له يها حتى يقول باضها في ملكه لأن البيضة غير الطير وإنما هي من نمائه فهي كالولد ومذهب الشافعي في هذا الفصل على ما ذكرنا (فصل) وإذا مات رجل فادعى آخر أنه وارثه فشهد له شاهدان أنه وارثه لا يعلمان له وارثاً غيره سلم المال إليه سواء كانا من أهل الخبرة الباطنة أو لم يكونا، وإن قالا لا نعلم له وارثاً غيره في هذا البلد احتمل أن يسلم المال إليه واحتمل أن لا يسلم إليه حتى يستكشف القاضي عن خبره في البلدان التي سافر إليها)

(12/16)


وجملة ذلك أن من ادعى أنه وارث فلان الميت فشهد له شاهدان أنه وارثه لا يعلمان له وارثاً غيره قبلت شهادتهما وسلم المال إليه وبهذا قال أبو حنيفة ومالك والشافعي والعنبري، وقال ابن أبي ليلى لا يقبل حتى يبينا أنه لا وارث له سواه ولنا أن هذا مما لا يمكن علمه فكفى فيه الظاهر من شهادة الأصل بعدم وارث آخر قال أبو الخطاب سواء كانا من أهل الخبرة الباطنة أو لم يكونا وكذلك ذكره شيخنا ويحتمل أن لا يقبل إلا من أهل الخبرة الباطنة لأن عدم علمهم بوارث آخر ليس بدليل على عدمه بخلاف أهل الخبرة الباطنة فإن الظاهر أنه لو كان له وارث آخر لم يخف عليهم وهذا قول الشافعي فأما إن قالا لا نعلم له وارثاً بهذه البلدة أو بأرض كذا وكذا احتمل أن يسلم المال إليه وبهذا قال أبو حنيفة كما لو قالا لا نعلم له وارثاً وذكر
ذلك مذهباً لأحمد واحتمل أن هذا ليس بدليل على عدم وارث سواه لأنهما قد يعلمان أنه لا وارث له في تلك الأرض ويعلمان له وارثاً في غيرها فلم تقبل شهادتهما كما لو قالا لا نعلم له وارثاً في هذا البيت وهذا قول مالك والشافعي وأبي يوسف ومحمد وهو أولى إن شاء الله تعالى (فصل) إذا مات رجل فشهد رجلان أن هذا الغلام ابن الميت لا نعلم له وارثاً سواه وشهد آخران لاخران هذا الغلام بن هذا الميت لا نعلم له وارثاً سواه فلا تعارض بينهما وثبت نسب الغلامين منه ويكون الإرث بينهما لأنه يجوز أن تعلم كل بينة ما لم تعلمه الأخرى.

(12/17)


(مسألة) (وتجوز شهادة المستخفي) المستخفي هو الذي يخفي نفسه عن المشهود عليه ليسمع إقراره ولا يعلم به مثل أن بجحد الحق علانية ويقر به سرا فيختبئ شاهدان في موضع لا يعلم بهما ليسمعا إقراره به ثم يشهدا به فشهادتهما مقبولة على الرواية الصحيحة، وهو قول الشافعي وروى عن أحمد رواية أخرى لا تسمع شهادته اختاره أبو بكر وابن أبي موسى وروي ذلك عن شريح والشعبي لأن الله تعالى قال (ولا تجسسوا) وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (من حدث بحديث ثم التفت فهي أمانة) يعني أنه لا يجوز لسامعه ذكره عنه لالتفاته وحذره وقال مالك إن كان المشهود عليه ضعيفاً ينخدع لم يقبلا عليه وإن لم يكن كذلك قبلت.
ولنا انهما شهدا بما سمعاه يقينا فقبلت شهادتهما كما لو علم بهما.
(مسألة) (ومن سمع رجلاً يقر بحق أو يشهد شاهداً بحق أو سمع حاكماً يحكم أو يشهد على حكمه وإنفاذه جاز أن يشهد به في أحدى الروايتين ولا يجوز في الأخرى حتى يشهده على ذلك) اختلفت الرواية عن أحمد رحمه الله فيمن سمع رجلاً يقر بحق فالمذهب أنه يجوز أن يشهد عليه وإن لم يقل للشاهد اشهد علي وهي التي ذكرها الخرقي وبه قال الشعبي والشافعي، وعن أحمد رواية ثانية لا يشهد حتى يقول له المقر اشهد علي كما لا يجوز أن يشهد على شهادة رجل حتى يسترعيه إياها ويقول له أشهد على شهادتي وعنه رواية ثالثة إذا سمعه يقر بقرض لا يشهد وإذا سمعه يقر بدين شهد، لأن المقر بالدين معترف أنه عليه والمقر بالقرض لا يعترف بذلك لجواز أن يكون قد وفاه وعنه

(12/18)


رواية رابعة إذا سمع شيئاً فدعي إلى الشهادة به فهو بالخيار إن شاء شهد وإن شاء لم يشهد قال ولكن يجب عليه اذا شهد أن يشهد (ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا) قال إذا شهدوا وقال ابن أبي موسى إذا سمع رجلاً يقر لرجل بحق ولم يقل اشهد علي بذلك وسع الشاهد أن يشهد عليه فيقول أشهد أني حضرت إقرار فلان بكذا، وإن سمعه يقول اقترضت من فلان أو قبضت من فلان لم يجز أن يشهد وبه والصحيح الأول لأن الشاهد يشهد بما علمه وقد حصل له العلم بسماعه فجاز أن يشهد به كما يجوز أن يشهد بما رآه من الأفعال فأما الشهادة على الشهادة فهي ضعيفة فاعتبرت تقويتها بالاسترعاء وذكر القاضي أن في الأفعال روايتين (إحداهما) لا يشهد به حتى يقول له المشهود عليه اشهد، قال شيخنا وهذا إن أراد به العموم في جميع الأفعال فلا يصح لأن ذلك يؤدي إلى منع الشهادة عليه بالكلية فإن الغاصب لا يقول لأحد أشهد أني غصبت ولا السارق ولا الزاني وأشباه هؤلاء وقد شهد أبو بكرة وأصحابه على المغيرة بالزنا فلم يقل عمر هل أشهدكم أولاً؟ ولا قاله للذين شهدوا على قدامة بشرب الخمر ولا قاله عثمان للذين شهدوا على الوليد بن عقبة بشرب الخمر ولم يقل هذا أحد من الصحابة ولا غيرهم ولا بلغنا عن حاكم من حكام المسلمين في قديم الدهر وحديثه أنه رد شهادة على فعل بكون الشاهد لم يحملها فحصل ذلك إجماعاً ولان الشاهد مخبر صادق وهذا يحصل من غير أن يقال له اشهد وكذلك إن سمع

(12/19)


الحاكم يحكم أو شهد على حكمه وإنفاذه جاز أن يشهد على ذلك في أظهر الروايتين والأخرى لا يجوز حتى يشهده ووجههما ما ذكرنا والله أعلم (فصل) ولو حضر شاهدان حساباً بين رجلين شرطا عليهما ان لا يحفظا عليهما شيئاً كان للشاهدين أن يشهدا بما سمعاه منهما ولم يسقط ذلك بشرطهما لأن للشاهد أن يشهد بما سمعه أو علمه وقد حصل ذلك سواء أشهده أو منعه وكذلك يشهدان على العقود بحضورهما وعلى الجنايات بمشاهدتهما ولا يحتاجان إلى إشهاد وبه قال ابن سيرين ومالك والثوري والشافعي
(فصل) والحقوق على ضربين (أحدهما) حق لآدمي معين كالحقوق المالية والنكاح وغيره من العقود والعقوبات كالقصاص وحد القذف والوقف على آدمي معين فلا تسمع الشهادة فيه إلا بعد الدعوى لأن الشهادة فيه حق لآدمي فلا يستوفى إلا بعد مطالبته واذنه ولانه حجة على الدعوى ودليل لها فلا يجوز تقديمها عليها (الضرب الثاني) اما كان حقاً لآدمي غير معين كالوقوف على الفقراء والمساكين أو على مسجد أو سقاية أو مقبرة مسبلة والوصية لشئ من ذلك أو نحو هذا، وما كان حقاً لله تعالى كالحدود الخالصة لله تعالى أو الزكاة الكفارة قلا تفتقر الشهادة إلى تقدم الدعوى لأن ذلك ليس له مستحق معين من الآدميين يدعيه ويطالب به ولذلك شهد أبو بكرة وأصحابه على المغيرة وشهد الجارود وأبو هريرة على قدامة بن مظعون بشرب الخمر من غير تقدم دعوى فأجيزت شهادتهم

(12/20)


ولذلك لم يعتبر في ابتداء الوقف قبول من أحد ولا رضى منه وكذلك ما لا يتعلق به حق أحد كتحريم الزوجة بالطلاق أو الظهار أو إعتاق الرقيق تجوز الحسبة به ولا تعتبر فيه الدعوى فلو شهد شاهدان بعتق عبد أو أمة ابتداء ثبت ذلك سواء صدقهما المشهود عليه أو لم يصدقهما وبهذا قال الشافعي وقال به أبو حنيفة في الأمة وقال في العبد لا يثبت ما لم يصدق العبد به ويدعيه لأن العتق حقه فاشبه سائر حقوق ولنا انها شهادة بعتق فلا تفتقر إلى تقدم الدعوى كعتق الأمة وتخالف سائر حقوق الآدمي لأنه حق لله تعالى ولهذا لا يفتقر إلى قبول العتق ودليل ذلك الأمة وبه يبطل ما ذكروه فإن قال الأمة يتعلق بإعتاقها تحريم الوطئ قلنا هذا لا أثر له فإن البيع يوجب تحريمها عليه ولا تسمع الشهادة إلا بعد الدعوى (فصل) قال الشيخ رحمه الله (إذا شهد أحدهما أنه غصبه ثوباً أحمر وشهد آخر انه غصبه ثوباً أبيض أو شهد أحدهما أنه غصبه اليوم وشهد الآخر أنه غصبه أمس لم تكمل البينة وكذلك كل شهادة على الفعل إذا اختلفا في الوقت) متى كانت الشهادة على فعل فاختلف الشاهدان في زمنه أو مكانه أو صفة له تدل على تغاير الفعلين لم تكمل شهادتهما مثل أن يشهد أحدهما أنه غصبه ديناراً يوم السبت بدمشق ويشهد الآخر أنه غصبه بمصر أو يشهد أحدهما أنه غصبه دينارا ويشهد الآخر أنه غصبه ثوباً فلا تكمل الشهادة لأن كل فعل
لم يشهد به شاهدان.
وهكذا إن اختلفا في زمن القتل ومكانه أو صفته أو في شرب الخمر أو القذف

(12/21)


لم تكمل الشهادة لأن ما شهد به أحد الشاهدين غير الذي شهد به الآخر فلم يشهد بكل واحد من الفعلين إلا شاهد واحد فلم يقبل إلا على قول أبي بكر فإن هذه الشهادة تكمل ويثبت المشهود به إذا اختلفا في الزمان أو المكان، فأما إن اختلفا في صفة الفعل فشهد أحدهما أنه سرق مع الزوال كيساً أبيض وشهد الآخر أنه سرق مع الزوال كيساً أسود أو شهد أحدهما أنه سرق هذا الكيس غدوة وشهد الآخر أنه سرقه عشياً لم تكمل الشهادة ذكره ابن حامد وقال أبو بكر تكمل الشهادة والأول أصح لأن كل فعل لم يشهده إلا واحد على ما قدمنا، فإن اختلفا في صفة المشهود به اختلافاً يوجب تغايرهما مثل أن يشهد أحدهما بثوب والآخر بدينار فلا خلاف في أن الشهادة لا تكمل لأنه لا يمكن إيجابهما جميعاً لأنه يكون إيجاب حق عليه بشهادة واحد ولا إيجاب أحدهما بعينه لأن الآخر لم يشهد به وليس أحدهما أولى من الآخر فأما إن شهد بكل فعل شاهدان واختلفا في المكان أو الزمان أو الصفة ثبتا جميعاً لأن كلاً منهما قد شهد به بينة عادلة لو انفردت أثبتت الحق وشهادة الأخرى لا تعارضها لإمكان الجمع بينهما إلا أن يكون الفعل مما لا يمكن تكراره كقتل رجل بعينه فتتعارض البينتان لعلمنا أن إحداهما كاذبة ولا نعلم أيتهما هي؟ بخلاف ما يتكرر ويمكن صدق البينتين فيه فإنهما يثبتان جميعاً إن أدعاهما وإن لم يدع إلا أحدهما ثبت له ما ادعاه دون ما لم يدعه، وإن شهد اثنان أنه سرق مع الزوال كيساً أسود وشهد آخران أنه سرق مع الزوال كيساً أبيض أو شهد اثنان أنه سرق هذا الكيس غدوة وشهد آخران أنه سرقه عشياً فقال القاضي يتعارضان وهو مذهب الشافعي كما لو كان المشهود به قتلاً، قال شيخنا والصحيح أن هذا لا تعارض فيه لأنه يمكن صدق البينتين بأن يسرق عند الزوال كيسين أبيض

(12/22)


وأسود وتشهد كل بينة بأحدهما ويمكن أن يسرق كيساً غدوةً ثم يعود إلى صاحبه أو غيره فيسرقه عشياً ومع إمكان الجمع لا تعارض فلي هذا ان ادعاهما المشهود له ثبتا له في الصورة الأولى وأما في الصورة الثانية فيثبت له الكيس المشهود به حسب فإن المشهود به وإن كان فعلين لكنهما في محل
واحد فلا يجب أكثر من ضمانه، وإن لم يدع المشهود له إلا أحد الكيسين ثبت له ولم يثبت له الآخر لعدم دعواه إياه، وإن شهد له شاهد بسرقة كيس في يوم وشهد آخر بسرقة كيس في يوم آخر أو شهد أحدهما بسرقته من مكان وشهد آخر بسرقته في مكان آخر أو شهد أحدهما بغصب كيس أبيض وشهد آخر بغصب كيس أسود فادعاها المشهود له فله أن يحلف مع كل واحد منهما ويحكم له به لأنه مال قد شهد له شاهد وإن لم يدع إلا أحدهما ثبت له ما ادعاه ولم يثبت له الآخر لأنه لم يدعه.
(مسألة) (وإن شهد أحدهما أنه أقر له بألف أمس وشهد آخر انه أقر له بألف اليوم أو شهد أحدهما أنه باعه داره أمس وشهد آخر انه باعه إياها اليوم كملت البينة وثبت البيع والاقرار وكذلك كل شهادة على القول) أما إذا شهد أحدهما أنه أقر له بألف أمس وشهد آخر انه أقر له بألف اليوم كملت البينة، لأن الألف التي شهد بها أحدهما هي الألف التي شهد بها الآخر ولأن الشاهدين شهدا بألف وإن شهد أحدهما أنه باعه أمس وشهدا آخر انه باعه اليوم أو شهد أحدهما أنه طلقها أمس وشهد آخر انه طلقها

(12/23)


اليوم، فقال أصحابنا تكمل الشهادة وقال الشافعي لا تكمل لأن كل واحد من البيع والطلاق لم يشهد به إلا واحد أشبه ما لو شهد بالغضب في وقتين.
ووجه قول اصحابنا إن المشهود به شئ واحد يجوز أن يعاد مرة بعد أخرى ويكون واحداً فاختلافهما في الوقت ليس باختلاف فيه فلم يؤثر كما لو شهد أحدهما بالعربية والآخر بالفارسية وكذلك الحكم في كل شهادة على قول فالحكم فيه كالحكم في البيع إلا النكاح فإنه كالفعل إذا شهد أحدهما أنه تزوجها أمس وشهد الآخر أنه تزوجها اليوم لم تكمل الشهادة في قولهم جميعاً لأن النكاح أمس غير النكاح اليوم فلم يشهد بكل واحد من العقدين إلا شاهد واحد فلم يثبت كما لو كانت الشهادة على فعل.
(مسألة) (وكذلك القذف إذا شهد أحدهما أنه قذفه غدوة وشهد الآخر أنه قذفه عشية أو شهد أحدهما أنه قذفه بالعربية وشهد الآخر أنه قذفه بالعجمية أو اختلفا في المكان لم يثبت القذف) لأن القذف في مكان غير القذف في المكان الآخر وكذلك الاختلاف في الزمان وقال أبو بكر يثبت
القذف لأن المشهود به واحد وإن اختلفت العبارة واختلف الزمان والأول المذهب (فصل) في الشهادة على الإقرار بالفعل مثل أن يشهد أحدهما أنه أقر عندي يوم الخميس بدمشق

(12/24)


أنه قتله أو قذفه أو غصبه كذا أو أن له في ذمته كذا ويشهد الآخر أنه أقر عندي بهذا يوم السبت بحمص كملت شهادتهما، وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي وقال زفر لا تكمل شهادتهما لأن كل إقرار لم يشهد به إلا واحد فلم تكمل الشهادة كالشهادة على الفعل ولنا أن المقر به واحد وقد شهد اثنان بالإقرار به فكملت شهادتهما كما لو كان الإقرار بهما واحدا وفارق الشهادة على الفعل فإن الشهادة فيها على فعلين مختلفين فنظيره من الإقرار أن يشهد أحدهما أنه أقر عندي أنه قتله يوم الخميس وشهد الآخر أنه أقر أنه قتله يوم الجمعة فإن شهادتهما لا تقبل ههنا ويحقق ما ذكرناه أنه لا يمكن جمع الشهود لسماع الشهادة في حق كل واحد والعادة جارية بطلب الشهود في أماكنهم لا في جمعهم إلى المشهود له فيمضي إليهم في أوقات منفردة وأماكن مختلفة فيشهدهم على إقراره فإن كان الإقرار بفعلين مختلفين مثل أن يقول أحدهما أشهد أنه أقر عندي أنه قتله يوم الخميس وقال الآخرر أشهد أنه أقر عندي أنه قذفه بالعجمية لم تكمل الشهادة لأن الذي يشهد به أحدهما غير الذي شهد به صاحبه فلم تكمل الشهادة كما لو شهد أحدهما أنه أقر أنه غصبه دنانير وشهد الآخر أنه غصبه دراهم لم تكمل وعلى قول أبي بكر تكمل الشهادة في القتل والقذف لأن القذف بالعربية أو العجمية والقتل بالبصرة أو الكوفة ليس من المقتضي فلا تعتبر في الشهادة والأول أصح

(12/25)


(فصل) فإن شهد أحدهما أنه غصبه هذا العبد وشهد الآخر أنه أقر بغصبه منه كملت الشهادة ويحكم بها لأنه يجوز أن يكون الغصب الذي أقر به هو الذي شهد الشاهد به فلم يختلف الفعل وكملت الشهادة كما لو شهدا في وقتين على إقراره بالغصب وقال القاضي لا تكمل الشهادة ولا يحكم بها وهو قول الشافعي لأنه يجوز أن يكون ما أقر به غير ما شهد به الشاهد وهذا يبطل بالشهادة على إقرارين فإنه يجوز أن يكون ما أقر به عند أحد الشاهدين غير ما أقر به عند الآخر إذا كانا في وقتين مختلفين
ولأنه إذا أمكن جعل الشهادة على فعل واحد لم يحمل على اثنين كالإقرارين وكما لو شهد بالغصب إثنان وشهد على الإقرار به إثنان فإن شهد أحدهما أنه غصب هذا العبد من زيد أو أقر بغصبه منه وشهد الآخر أنه ملك زيد لم تكمل شهادتهما لأنهما لم يشهدا على شئ واحد وإن شهد أنه اخذه من يديه ألزمه الحاكم رده إلى يديه لأن اليد دليل الملك فيرده إلى يده لتكون دلالتها ثابتة له قال مهنا سألت أبا عبد الله عن رجل ادعى داراً في يد رجل وأقام شاهدين شهد أحدهما قال أشهد أن هذه الدار لفلان وقال الآخر أشهد أن هذه الدار دار فلان قال شهادتهما جائزة (مسألة) (وإن شهد شاهد أنه أقر له بألفين وشهد آخر انه أقر له بألف ثبت الألف ويحلف على الآخر مع شاهده إن أحب) وجملة ذلك أنه إذا شهد احد الشاهدين بشئ وشهد الآخر ببعضه صحت الشهادة وثبت ما اتفقا عليه وحكم به وهذا قول شريح ومالك والشافعي وابن أبي ليلى وأبي يوسف ومحمد واسحاق وابي

(12/26)


عبيد وحكي عن الشعبي أنه شهد عنده رجلان شهد أحدهما أنه طلقها تطليقة وشهد آخر انه طلقها تطليقتين فقال قد اختلفتما قوما وحكي عن أبي حنيفة أنه إذا شهد شاهد أنه أقر بألف وشهد آخر أنه أقر بألفين لم تكمل الشهادة لأن الإقرار بالالف غير الاقرار بألفين ولم يشهد بكل إقرار إلا واحد.
ولنا أن الشهادة قد كملت فيما اتفقا عليه فحكم به كما لو لم يرد أحدهما على صاحبه وما ذكروه من أن كل إقرار إنما شهد به واحد يبطل بما إذا شهد أحدهما أنه أقر بألف غدوة وشهد الآخر أنه أقر بألف عشياً فإن الشهادة تكمل مع أن كل إقرار إنما شهد به واحد فأما ما انفرد به أحدهما فإن للمدعي أن يحلف معه ويستحق هذا قول من يرى الحكم بشاهد ويمين وهذا فيما إذا أطلقا الشهادة أو لم تختلف الأسباب والصفات.
(فصل) إذا شهد له شاهدان بألف وشاهدان بخمسمائة ولم تختلف الأسباب والصفات دخلت الخمسمائة في الألف ووجب له الألف بالشاهدين، وإن اختلفت الأسباب والصفات وجب له الألف والخمسمائة ولم يدخل أحدهما في الآخر لأنهما مختلفان
(مسألة) (وإن شهد أحدهما أن له عليه ألفاً وشهد آخران له عليه ألفين فهل تكمل البينة على ألف؟ على وجهين) (أحدهما) : تكمل كالتي قبلها، (والثاني) : لا تكمل لأنه يحتمل أن يكون الألف المنفرد من غير الألفين.

(12/27)


(مسألة) (وإن شهد أحدهما أن له عليه ألفاً من قرض وشهد آخران أن له عليه ألفاً من ثمن مبيع لم تكمل البينة) أما إذا اختلفت الأسباب والصفات مثل أن يشهد شاهد بألف من قرض وآخر بألف من ثمن مبيع أو يشهد شاهد بألف بيض وآخر بألف سود أو يشهد أحدهما بألف دينار والآخر بألف درهم لم تكمل البينة وكان له أن يحلف مع كل واحد منهما ويستحقها أو يحلف مع أحدهما ويستحق ما شهد به (مسألة) (وإن شهد شاهدان أن له عليه ألفاً وقال أحدهما قضاه بعضه بطلت شهادته نص عليه وإن شهد أنه أقرضه ألفاً وقال أحدهما قضاه نصفه صحت شهادتهما) إذا شهدا أن له عليه ألفاً ثم قال أحدهما قضاه نصفه بطلت شهادته وهكذا ذكره أبو الخطاب وذلك بأنه شهد بأن الألف جميعه عليه فإذا قضاه بعضه لم يكن الألف كله عليه فيكون كلامه متناقضاً فتفسد شهادته وفارق هذا ما لو شهد بألف ثم قال بل بخمسمائة لأن ذلك رجوع عن الشهادة بخمسمائة وإقرار بغلط نفسه وهذا لا يقول ذلك على وجه الرجوع والمنصوص عن أحمد أن شهادته تقبل بخمسمائه فإنه قال إذا شهد بألف ثم قال أحدهما قبل الحكم قضاه منه خمسمائه أفسد شهادته والمشهود له ما اجتمعا عليه وهو خمسمائه فصحت شهادته في نصف الألف الباقي وأبطلها في النصف الذي ذكر أنه قضاه لأنه بمنزلة الرجوع عن الشهادة به فأشبه ما لو قال أشهد بألف بل خمسمائه قال أحمد ولو جاء

(12/28)


بعد هذا المجلس فقال أشهد أنه قضاه منه خمسمائه لم يقبل منه لأنه قد أمضى الشهادة فهذا يحتمل أنه أراد إذا جاء بعد الحكم فشهد بالقضاء لم يقبل منه لأن الألف قد وجب بشهادتهما وحكم الحاكم ولا
تقبل شهادته بانقضاء لأنه لا يثبت بشاهد واحد فألما إن شهد أنه أقرضه ألفاً ثم قال أحدهما قضاه منه خمسمائه قبلت شهادته في باقي الألف وجهاً واحداً لأنه لا تناقض في كلامه ولا اختلاف (مسألة) (وإن كانت له بينة بألف فقال أريد أن تشهدا لي بخمسمائة لم يجز) وعند أبي الخطاب يجوز قال أحمد إذ شهد على الف وكان الحاكم لا يحكم إلا على مائتين فقال له صاحب الحق أريد أن تشهدا لي على مائة لم يشهد إلا بألف قال القاضي وذلك أن على الشاهد نقل الشهادة على ما شهد قال الله تعالى (ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها ولأنه لو ساغ للشاهد أن يشهد ببعض ما أشهد لساغ للقاضي أن يقضي ببعض ما شهد به الشاهد وقال أبو الخطاب عندي يجوز بذلك لأن من شهد بألف فقد شهد به بمائة وإذا شهد بمائة لم يكن كاذباً في شهادته فجاز كما لو كان قد أقرضه مائة مرة وتسعمائة أخرى: قال شيخنا والأول أصح لما ذكر القاضي لأن شهادته بمائة ربما أوهمت أن هذه المائة غير التي شهدت بأصله فيؤدي إلى إيجابها عليه مرتين قال أحمد إذا

(12/29)


قال أشهد على مائة درهم ومائة درهم ومائة درهم فشهد على مائة دون مائة كره إلا أن يقول أشهدوني على مائة ومائة ومائة يحكيه كله للحاكم كما كان (فصل) قال أحمد إذا شهد بألف درهم ومائة درينار فله دراهم ذلك البلد ودنانيره قال القاضي لانه لما جاز آن يحمل مطلق العقد على ذلك جاز آن تحمل الشهادة عليه (فصل) إذا شهد شاهد انه باعه هذا العبد بألف وشهد آخر انه باعه إياه بخمسمائة لم تكمل البينة لاختلافهما في صفة البيع وله أن يحلف مع أحدهما ويثبت له ما حلف عليه فإن شهد بكل عقد شاهدان ثبت البيعان فإن أضافا البيع إلى وقت واحد مثل أن يشهدا أنه باعه هذا العبد مع الزوال بألف وشهد آخر انه باعه إياه مع الزوال بخمسمائة تعارضت البينتان وسقطتا لأنه لا يمكن اجتماعهما وكل بينة تكذب الأخرى وان شهد بكل واحد من هذين شاهد واحد كان له أن يحلف مع أحدهما ولا يتعارضان لأن التعارض إنما يكون مع البينتين الكاملتين

(12/30)


(باب شروط من تقبل شهادته) وهي ستة أحدها البلوغ فلا تقبل شهادة الصبيان وعنه تقبل ممن هو في حال العدالة وعنه لا تقبل إلى في الجراح إذا شهدوا قبل الافتراق عن الحال التي تجارحوا عليها اختلفت الرواية عن أحمد رحمه الله في ذلك فالمشهور عنه أنها لا تقبل شهادة الصبي ما لم يبلغ روي هذا عن ابن عباس وبه قال القاسم وسالم وعطاء ومكحول وابن أبي ليلى والاوزاعي والثوري والشافعي واسحاق وأبو عبيد وأبو ثور وأبو حنيفة وأصحابه وعن أحمد رواية ثانية أن شهادته تقبل إذا كان ابن عشر قال ابن حامد فعلى هذه الرواية تقبل شهادتهم في غير الحدود والقصاص كالعبيد وروي عن علي رضي الله عنه أن شهادة بعضهم تقبل على بعض، وروي ذلك عن شريح والحسن والنخعي قال ابراهيم كانوا يجيزون شهادة بعضهم على بعض فيما كان بينهم قال المغيرة وكان أصحابنا لا يجيزون شهادتهم على رجل ولا على عبد.
وروى الإمام أحمد بإسناده عن مسروق قال كنا عند علي فجاءه خمسة غلمة فقالوا إنا كنا ست غلمة تتغاط فغرق منا غلام فشهد الثلاثة على الإثنين أنهما غرقاه وشهد الاثنان على الثلاثة أنهم غرقوه فجعل على الاثنين ثلاثة اخماس الدية وجعل على الثلاثة خمسيها وقضى بنحو هذا مسروق وعنه رواية ثالثة أن شهادتهم لا تقبل إلا في الجراح إذا شهدوا قبل الافتراق عن الحال التي تجارحوا عليها فإن تفرقوا لم تقبل شهادتهم وهو قول مالك لأن الظاهر صدقهم وضبطهم ولا تقبل بعد الإفتراق لأنه يحتمل أن يلقنوا.
قال ابن الزبير إن أخذوا عند مصاب

(12/31)


ذلك فبالحري أن يعقلوا ويحفظوا وعن الزهري أن شهادتهم جائزة ويستحلف أولياء المشجوج وذكره عن مروان والمذهب أن شهادتهم لا تقبل في شئ لقول الله تعالى (وأشهدوا ذوي عدل منكم) وقال سبحانه (ممن ترضون من الشهداء) والصبي لا يرضى وقال عزوجل (ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه) فأخبر أن الشاهد الكاتم لشهادته آثم والصبي لا يأثم فيدل على أنه ليس بشاهد ولأن الصبي لا يخاف من مأثم الكذب فيزعه عنه ويمنعنه منه فلا تحصل الثقة بقوله ولأن من لا يقبل قوله على نفسه في الاقرار لا تقبل شهادته على غيره كالمجنون يحقق هذا أن
الاقرار اوسع لأنه يقبل من الكافر والفاسق والمرأة ولا تصح الشهادة منهم ولأن من لا تقبل شهادته في المال لا تقبل في الجراح كالفاسق (والثاني) العقل فلا تقبل شهادة معتوه ولا مجنون إلا من يخنق في الاحيان إذا شهد في حال إفاقته ولا تقبل شهادة من ليس بعاقل إجماعاً قال إبن المنذر وسواء ذهب عقله بجنون أو سكر أو صغر لأنه ليس بمحصل ولا تحصل الثقة بقوله فأما من يخنق في الاحيان إذا شهد في حال إفاقته فتقبل شهادته لأنها شهادة من عاقل أشبه من يخنق

(12/32)


(الثالث) الكلام فلا تقبل شهادة الأخرس نص عليه أحمد قيل له وإن كتبها؟ قال لا أدري وهو قول أصحاب الرأي وقال مالك والشافعي وابن المنذر تقبل إذا فهمت إشارته لفيامها مقام نطقه في كل أحكامه من كلامه ونكاحه وغير ذلك فكذلك في شهادته واستدل ابن المنذر بأن النبي صلى الله عليه وسلم أشار وهو جالس إلى الناس وهو قيام (أن اجلسوا فجلسوا) ولنا انها شهادة بالإشارة فلم تجز كإشارة الناطق لأن الشهادة يعتبر فيها اليقين ولذلك لا يكتفي بايماء الناطق ولا يحصل اليقين بالإشارة وإنما اكتفي بإشارته في أحكامه المختصة به للضرورة ولا ضرورة ههنا وما استدل به ابن المنذر لا يصح فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان قادراً على الكلام وعمل بإشارته إلى الصلاة ولو شهد الناطق بالإشارة والايماء لم تصح شهادته إجماعاً فعلم أن الشهادة تفارق غيرها من الأحكام ويحتمل أن تقبل فيما طريقه الرؤية إذا فهمت إشارته لأن إشارته بمنزلة نطقه كما في سائر احكامه والأول أولى لأنا إنما قبلنا إشارته فيما يختص به للضرورة ولا ضرورة ههنا (الرابع) الإسلام فلا تقبل شهادة كافر إلا أهل الكتاب في الوصية في السفر إذا لم يوجد غيرهم وحضر الموصي الموت فتقبل شهادتهم ويحلفهم الحاكم بعد العصر لا نشتري به ثمنا ولو كان ذا قربى ولا نكتم شهادة الله وانها لوصية الرجل بعينه فإن عثر على أنهما استحقا إثما قام آخران من أولياء

(12/33)


الوصي فحلفا بالله لشهادتنا احق من شهادتهما ولقد خانا وكتما ويقضي لهم وعنه أن شهادة بعض أهل
الذمة تقبل على بعض والأول المذهب وجملة ذلك أن شهادة أهل الكتاب لا تقبل في شئ على مسلم ولا كافر إلا في الوصية في السفر على ما نذكره ذكره الخرقي، وروي ذلك عن أحمد نحو من عشرين نفساً وممن قال لا تقبل شهادتهم الحسن وابن أبي ليلى والاوزاعي ومالك وأبو ثور ونقل حنبل عن أحمد أن شهادة بعضهم تقبل على بعض وخطأه الخلال في نقله هذا وقال صاحبه أبو بكر هذا غلط لا شك فيه وقال ابن حامد بل المسألة على ووايتين قال ابو حفص البرمكي تقبل شهادة السبي بعضهم على بعض في النسب إذا ادعى أحدهم أن الآخر أخوه والمذهب الأول والظاهر غلط من روى خلاف ذلك وذهبت طائفة من أهل العلم إلى أن شهادة بعضهم على بعض تقبل ثم اختلفوا فمنهم من قال الكفر ملة واحدة فتقبل شهادة اليهودي على النصراني والنصراني على اليهودي هذا قول حماد وسوار والثوري وأبي حنيفة وأصحابه وعن قتادة والحكم وأبي عبيد واسحاق تقبل شهادة كل ملة بعضها على بعض ولا تقبل شهادة يهودي على نصراني ولا نصراني على يهودي ويروى عن الزهري والشعبي كقولنا وقولهم، واحتجوا بما روي عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم أجاز شهادة أهل الذمة بعضهم على بعض رواه ابن ماجه ولأن بعضهم يلي على بعض فتقبل شهادة بعضهم على بعض كالمسلمين ولنا قول الله تعالى (وأشهدوا ذوي عدل منكم) وقال تعالى (واستشهدوا شهيدين من رجالكم -

(12/34)


إلى قوله - ممن ترضون من الشهداء) والكافر ليس بذي عدل ولا هو منا ولا من رجالنا ولا ممن نرضاه ولأنه لا تقبل شهادته على غير أهل دينه فلا تقبل على أهل دينه كالحربي والخبر يرويه أهل مجلد وهو ضعيف وإن ثبت فيحتمل أنه أراد اليمين فإنها تسمى شهادة قال الله تعالى في اللعان (فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين) وأما الولاية فمتعلقها القرابة والشفقة وقرابتهم ثابتة وشفقتهم كشفقة المسلمين وجازت لموضع الحاجة فإن غير أهل دينهم لا يلي عليهم والحاكم يتعذر عليه ذلك لكثرتهم بخلاف الشهادة فإنها ممكنة من المسلمين، وقد روي عن معاذ رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (لا تقبل شهادة أهل دين إلا المسلمين فإنهم عدول على أنفسهم وعلى غيرهم
(فصل) فأما شهادة أهل الكتاب بوصية المسافر الذي مات في سفره إذا شهد بها شاهدان من أهل الذمة قبلت شهادتهم إذا لم يوجد غيرهما من المسلمين ويستحلفان بعد العصر على ما ذكرنا في صدر المسألة قال إبن المنذر وبهذا قال أكابر الماضين يعني الآية التي في سورة المائدة ومن قاله شريح والنخعي والأوزاعي ويحيى بن حمزة وقضى بذلك عبد الله بن مسعود وأبو موسى رضي الله عنهما وقال أبو حنيفة ومالك والشافعي لا تقبل لأن من لا تقبل شهادته في غير الوصية لا تقبل في الوصية كالفاسق ولأن الفاسق لا تقبل شهادته فالكافر أولى واختلفوا في تأويل الآية فمنهم من حملها على التحمل دون الأداء ومنهم قال المراد بقوله من غيركم أي من عشيرتكم ومنهم من قال المراد بالشهادة اليمين

(12/35)


ولنا قول الله تعالى (يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منك أو آخران من غيركم إن أنتم ضربتم في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت) الأية وهذا نص الكتاب وقد قضى به رسول الله صلى الله عليه وسلم فروى ابن عباس قال خرج رجل من بني تميم الداري وعدي بن زيد فمات السهمي بأرض ليس بها مسلم فلما قدما بتركته فقد واجام فضة مخوصاً بالذهب فاحلفهما رسلو الله صلى الله عليه وسلم ثم وجدوا الجام بمكة فقالوا اشتريناه من تيمم وعدي فقام رجلان من أولياء السهمي فحلفا بالله لشهادتنا احق من شهادتهما وأن الجام لصاحبهم فنزلت فيهم (يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم) الآية وعن الشعبي أن رجلاً من المسلمين حضرته الوفاة بدقوقا ولم يجد أحداً من المسلمين يشهده على وصيته فأشهد رجلين من أهل الكتاب فقدما الكوفة فأتيا الأشعري فأخبراه وقدما بتركته ووصيته فقال الأشعري هذا أمر لم يكن بعد الذي كان في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فاحلفهما بعد العصر ما خانا ولا كذبا ولا بدلا ولا كتما ولا غيرا وانها لوصية الرجل وتركته فأمضى شهادتهما رواه أبو داود وروى الخلاف حديث أبي موسى باسناده وحمل الآية على أنه أراد من غير عشيرتكم لا يصح لأن الآية نزلت في قصة عدي وتميم بلا خلاف بين المفسرين وقد فسره بما قلنا سعيد بن المسيب والحسن

(12/36)


وابن سيرين وعبيدة وسعيد بن جبير وسليمان التيمي وغيرهم ودلت عليه الأحاديث التي رويناها ولأنه لو صح ما ذكروه لم تجب الأيمان لأن الشاهدين من المسلمين لاقسامة عليهم وحملها على التحمل لا يصح لأنه أمر باحلافهم ولا أيمان في التحمل وحملها على اليمين لا يصح لقوله (فيقسمان بالله إن ارتبتم لا نشتري به ثمنا ولو كان ذا قربى ولا نكتم شهادة الله) ولأنه عطفها على ذوي العدل من المؤمنين وهما شاهدان وروى أبو عبيد في الناسخ المنسوخ أن ابن مسعود قضى بذلك في زمن عثمان قال أحمد أهل المدينة ليس عندهم حديث أبي موسى من أين يعرفونه؟ فقد ثبت هذا الحكم بكتاب الله وقضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وقضاء الصحابة وعملهم بما ثبت في الكتاب والسنة فتعين المصير إليه والعمل به سواء وافق القياس أو خالفه (الخامس) أن يكون ممن يحفظ فلا تقبل شهادة مغفل ولا معروف بكثرة الغلط والنسيان لان الثقة لا تحصل بقوله لاحتمال أن يكون من غلطه وتقبل شهادة من يقل ذلك منه لأن أحداً لا يسلم من الغلط.
(فصل) قال رحمه الله (السادس) (العدالة وهي استواء احواله في دينه واعتدال اقواله وافعاله وقيل العدل من لم تظهر منه ريبة ويعتبر له شيئان الصلاح في الدين وهو أداء الفرائض واجتناب المحارم وهو أن لا يرتكب كبيرة ولا يد من على صغيرة) فإن الله تعالى نهى ان تقبل شهادة القاذف

(12/37)


فيقاس عليه كل مرتكب كبيرة ولا يخرجه عن العدالة فعل صغيرة لقول الله تعالى (الذين يجتنبون كبائر الاثم والفواحش إلا اللمم) قيل اللمم صغار الذنوب ولان التحرز منها غير ممكن وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (إن تغفر اللهم تغفر جما واي عبد لك لا ألما) اي لم يلم فان لامع الماضي بمنزلة لم مع المستقبل وقيل اللمم ان يلم بالذنب ولا يعود فيه والكبائر كل ذنب فيه حد والاشراك بالله وقتل النفس التي حرم الله وعقوق الوالدين، وقد روى أبو بكرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (ألا أنبئكم بأكبر الكبائر الإشراك بالله وقتل النفس التي حرم الله وعقوق الوالدين - وكان متكئاً فجلس فقال - ألا وقول الزور وشهادة الزور) فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت متفق عليه قال أحمد لا تجوز شهادة
آكل الربا والعاق وقاطع الرحم ولا من لا يؤدي زكاة ماله، وإذا اخرج في طريق المسلمين الاسطوانة والكنيف لا يكون عدلا ولا يكون ابنه عدلا إذا ورث أباه حتى يرد ما أخذ من طريق المسلمين ولا يكون عدلا إذا كذب الكذب الشديد لأن النبي صلى الله عليه وسلم رد شهادة رجل في كذبة.
وقال عن الزهري عن عروة عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم (لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة ولا مجلود في حد ولا ذي غمر على أخيه في عداوة ولا القاطع لاهل البيت ولا مجرب عليه شهادة زور ولا ضنين في قرابة ولا ولاء) وقد رواه أبو داود (لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة ولا زان ولا زانية ولان ذي غمر على أخيه) فاما الصغائر فان كان مصرا عليها ردت شهادته وإن كان الغالب من امره الطاعات لم ترد لما ذكرنا من عدم إمكان التحرز منه.
(مسألة) (ولا تقبل شهادة فاسق لقوله سبحانه وتعالى (وأشهدوا ذوي عدل منكم)

(12/38)


وقال سبحانه (يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا) الآية والشهادة نبأ فيجب التوقف عنه وقد روي في الحديث (لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة ولا محدود في الإسلام ولا ذي غمر على أخيه) رواه أبو عبيد وكان أبو عبيد لا يرى الخائن والخائنة مختصا بامانات الناس بل جميع ما فرض الله تعالى على العباد القيام به واجتنابه من كبير ذلك وصغيره قال الله تعالى (انا عرضنا على السموات والارض والجبال) الآية وروي عن عمر أنه قال لا يؤسر رجل بغير العدول ولان دين الفاسق لا يزعه عن ارتكاب محظورات الدين فلا يؤمن أن لا يزعه عن الكذب فلا تحصل الثقة بخبره إذا تقرر هذا فالفسق نوعان: (احدهما) من جهة الأفعال فلا خلاف في رد شهادته (الثاني) من جهة الاعتقاد وهو اعتقاد البدعة فيوجب رد الشهادة أيضاً.
وبه قال مالك وشريك واسحاق وأبو عبيد وابو ثور قال شريك اربعة لا تجوز شهادتهم رافضي يزعم أنه له اماما مفترضة طاعته وخارجي يزعم ان الدنيا دار حرب وقد يزعم ان المشيثة إليه ومرجئ، ورد شهادة يعقوب وقال الا ارد شهادة قوم يزعمون ان الصلاة ليست من الأيمان؟ وقال أبو حامد من أصحاب الشافعي المختلفون على ثلاثة أضرب (ضرب) اختلفوا في الفروع
فهؤلاء لا يفسقون ولا ترد شهادتهم وقد اختلفت الصحابة في الفروع ومن بعدهم من التابعين

(12/39)


(الثاني) من نفسقه ولا نكفره وهو من سب القرابة كالخوارج أو من سب الصحابة كالروافض فلا تقبل لهم شهادة لذلك (الثالث) من نكفره وهو من قال بخلق القرآن ونفى الرؤية واضاف المشيئة إلى نفسه فلا تقبل له شهادة وذكر القاضي أبو يعلى مثل هذا سواء قال: وقال أحمد ما تعجبني شهادة الجهمية والرافضة والقدرية المعلنة وظاهر قول الشافعي وابن أبي ليلى والثوري وأبي حنيفة وأصحابه قبول شهادة أهل الاهواء وأجاز سوار شهادة ناس من بني العنبر ممن يرى الاعتزال قال الشافعي إلا أن يكون ممن يرى الشهادة بالكذب كالخطابية وهم أصحاب أبي الخطاب يشهد بعضهم لبعض بتصديقه ووجه قول من أجاز شهادتهم أنه اختلاف لم يخرجهم عن الاسلام أشبه الاختلاف في الفروع ولان فسقهم لا يدل على كذبهم لكونهم ذهبوا إلى ذلك تدينا واعتقادا أنه الحق ولم يرتكبوه عالمين بتحريمه بخلاف فسق الافعال.
(مسألة) (ويتخرج قبول شهادة أهل الذمة على قبول شهادة الفاسق من جبة الاعتقاد المتدين به إذا لم يتدين بالشهادة لموافقيه على مخالفيه كالخطابية.
وكذلك قال أبو الخطاب.
وروى عن أحمد جواز الرواية عن القدري إذا لم يكن داعية فكذلك الشهادة.

(12/40)


ولنا أنه أحد نوعي الفسق فترد به الشهادة كالنوع الآخر ولأنه فاسق فترد شهادته للآية (مسألة) (فأما من فعل شيئاً من الفروع المختلف فيها فتزوج بغير ولي أو شرب من النبيذ مالا يسكره أو أخر الحج مع امكانه ونحوه متأولاً فلا ترد شهادته) وإن فعله معتقداً تحريمه ردت شهادته.
ويحتمل أن لا ترد بنص عليه أحمد في شارب النبيذ يحد ولا ترد شهادته.
وبهذا قال لشافعي وقال مالك ترد شهادته لأنه فعل ما يعتقد الحاكم تحريمه
فأشبه المتفق على تحريمه ولنا أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يختلفون في الفروع فلم يكن بعضهم يعيب من خالفه ولا يفسقه ولأنه فرع مختلف فيه فلم ترد شهادة فاعله كالذي يوافقه عليه الحاكم، فأما إن فعله معتقداً تحريمه ردت شهادته إذا تكرر ويحتمل أن لا ترد وبه قال أصحاب الشافعي لأنه فعل لا يرد شهادة بعض الناس فلا يرد شهادة البعض الآخر كالمتفق على حله ووجه الأول أنه فعل محرم على فاعله ويأثم به فأشبه المتفق على تحريمه، وبهذا فارق معتقد حله وقد روي عن أحمد فيمن يجب عليه الحج فلا يحج ترد شهادته وهذا يحمل على من اعتقد وجوبه على الفور فأما من يعتقد أنه على التراخي وبتركه بنية فعله فلا ترد شهادته كسائر ما ذكرنا وقيل ترد لأنه

(12/41)


روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال لقد هممت أن أنظر في الناس فمن وجدته يقدر على الحج ولا يحج ضربت عليه الجزية ثم قال ما هم بمسلمين وما هم بمسلمين (مسألة) الثاني (استعمال المروءة وهو فعل ما يجمله ويزينه وترك ما يدنسه ويشينه فلا تقبل شهادة المصانع، والمتمسخر، والمغني، والرقاص، واللاعب بالشطرنج، والنرد، والحمام والذي يتغدى في السوق ويمد رجليه في مجمع الناس ويحدث بمباضعته أهله وأمته ويدخل الحمام بغير مئزر ونحو ذلك) المروءات اجتناب الأمور الدنيئة المزرية به وذلك نوعان (أحدهما) في الأفعال كالأكل في السوق وهو الذي ينصب مائدة في السوق ويأكل والناس ينظرون إليه ولا يعني أكل شئ يسير كالكسرة ونحوها، وإن كان يكشف ما جرت العادة بتغطيته من بدنه أو يمد رجليه في مجمع الناس أو يتمسخر بما يضحك الناس به أو يخاطب امرأته أو أمته أو غيرهما بحضرة الناس الخطاب الفاحش أو يحدث الناس بمباضعته أهله أو نحو هذا من الأفعال الدنيئة فلا تقبل شهادته لأن هذا سخف ودناءة فمن

(12/42)


رضيه لنفسه واستحسنه فليست له مروءة ولا تحصل الثقة بقوله قال أحمد في رجل شتم بهيمة
قال الصالحون لا تقبل شهادته حتى يتوب، وقد روى ابن مسعود البدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى إذا لم تستح فاصنع ما شئت) يعني من لم يستح صنع ما شاء ولان المروءة تمتنع الكذب وتزجر عنه ولهذا يمتنع منه دو المروة وإن لم يكن ذا دين فقد روي عن أبي سفيان أنه حين سأله قيصر عن النبي صلى الله عليه وسلم وصفته قال والله لولا أني كرهت أن يؤثر عني الكذب لكذبته ولم يكن يومئذ ذا دين ولأن الكذب دناءة والمروءة تمنع من الدناءة وإذا كانت المروءة مانعة من الكذب اعتبرت في العدالة كالدين ومن فعل شيئاً من هذا مختفياً به لم يمنع من قبول شهادته لأن مروءته لا تسقط به وكذلك إن فعله مرة أو شيئاً قليلاً لم ترد شهادته لأن صغير المعاصي لا يمنع الشهادة إذا قل فهذا أولى ولأن المروءة لا تختل بقليل هذا ما لم يكن عادة

(12/43)


(فصل في اللعب) كل لعب فيه قمار فهو محرم أي لعب كان وهو من الميسر الذي أمر الله تعالى باجتنابه ومن تكرر منه ذلك ردت شهادته وما خلا القمار وهو اللعب الذي لا عوض فيه من الجانبين ولا من أحدهما فمنه ما هو محرم ومنه ما هو مباح فالمحرم اللعب بالنرد وهذا قول أبي حنيفة وأكثر أصحاب الشافعي وقال بعضهم هو مكروه غير محرم.
ولنا ما روى أبو موسى قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (من لعب بالنرد شير فقد عصى الله ورسوله) .
وروى بريدة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (من لعب بالنردشير فكأنما غمس يده في لحم الخنزير ودمه)) رواه أبو داود وكان سعيد بن جبير إذا مر على أصحاب النردشير لم يسلم عليهم.
إذا ثبت هذا فمن تكرر منه اللعب به لم تقبل شهادته سواء لعب به قماراً أو غير قمار وهو قول أبي حنيفة ومالك وظاهر مذهب الشافعي.
وقال مالك: من لعب بالشطرنج والنرد فلا أرى شهادته إلا باطلة لأن الله تعالى قال (فماذا بعد الحق إلا الضلال) وهذا ليس من الحق فيكون من الضلال (فصل) والشطرنج كالنرد في التحريم إلا أن تحريم النرد آكد لورود النص في تحريمه وهذا
في معناه فيثبت فيه حكمه قياساً عليه، وذكر القاضي أبو الحسين ممن ذهب إلى تحريمه علي بن أبي طالب

(12/44)


وابن عمر وابن عباس وسعيد بن المسيب والقاسم وسالما وعروة ومحمد بن علي بن الحسين ومطر الوراق ومالكا وأبا حنيفة وذهب الشافعي إلى إباحته وحكى ذلك أصحابه عن أبي هريرة وسعيد بن المسيب وسعيد بن جبير واحتجوا بأن الأصل الإباحة ولم يرد بتحريمه نص ولا هو في معنى المنصوص عليه فيبقى على الإباحة ويفارق الشطرنج النرد من وجهين (أحدهما) أن في الشطرنج تدبير الحرب فأشبه اللعب بالحراب والرمي بالنشاب والمسابقة بالخيل (والثاني) أن المعول في النرد على ما يخرجه الكعبتان فأشبه الأزلام والمعول في الشطرنج على حذقه وتدبيره فأشبه المسابقة بالسهام ولنا قول الله سبحانه وتعالى (إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه) قال علي رضي الله عنه الشطرنج من الميسر ومر رضي الله عنه على قوم فقال ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون؟ قال أحمد أصح ما في الشطرنج قول علي رضي الله عنه وروى واثلة بن الاسقع قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (أن لله عزوجل في كل يوم ستمائة وستين نظرة ليس لصاحب الشاه فيها نصيب (ولأنه لعب يصد عن ذكر الله تعالى وعن الصلاة فأشبه اللعب بالنرد وقولهم لا نص فيها وقد ذكرنا فيها نصاً وهو في معنى المنصوص على تحريمه وقولهم إن فيها تدبير الحرب قلنا لا يقصد هذا

(12/45)


منها وأكثر اللاعبين بها انما يقصدون منها اللعب والقمار وقولهم إن المعول فيها على تدبيره فهو أبلغ في اشغاله بها وصدها عن ذكر الله وعن الصلاة.
إذا ثبت هذا فقال أحمد النرد أشد من الشطرنج إنما قال ذلك لورود النص في النرد بخلاف الشطرنج.
إذ ثبت هذا فقال القاضي: هو كالنرد في رد الشهادة وهو قول أبي حنيفة ومالك لاشتراكهما في التحريم وقال أبو بكر إن فعله من يعتقد تحريمه فهو كالنرد في حقه وإن فعله من يعتقد إباحته لم ترد شهادته إلا أن يشغله عن الصلاة في أوقاتها أو يخرجه إلى الحلف الكاذب أو نحوه من المحرمات أو يلعب بها على الطريق أو يفعل في لعبه ما يستخف
به من أجله ونحو هذا مما يخرجه عن المروءة، وهذا مذهب الشافعي وذلك لأنه مختلف فيه أشبه سائر المختلف فيه (فصل) فأما اللاعب بالحمام يطيرها فلا شهادة له وهذا قول أصحاب الرأي وكان شريح لا يجيز شهادة صاحب حمام ولا حمام ولأنه سفه ودناءة وقلة مروءة ويتضمن أذى الجيران وإشرافه على دورهم ورميه إياها بالحجارة، وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يتبع حماماً فقال (شيطان يتبع شيطانة) فإن اتخذ الحمام لطلب فراخها أو لحمل الكتب أو للانس بها من غير أذى يتعدى إلى الناس فلا بأس، وقد روى عبادة بن الصامت أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم (فشكا إليه الوحشة فقال (اتخذ زوجاً من الحمام)

(12/46)


(فصل) فأما المسابقة المشروعة بالخيل وغيرها من الحيوانات أو على الأقدام فمباحة ولا دناءة فيها ولا ترد بها الشهادة وقد ذكرنا مشروعية ذلك في باب المسابقة وكذلك ما في معناها من الثقاف واللعب بالحراب وقد لعب الحبشة بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم بالحراب وقامت عائشة رضي الله عنها تنظر اليهم وتستتر به حتى ملت وسائر اللعب إذا لم يتضمن ضرارا ولا شغلاً عن فرض فالأصل إباحته فما كان فيه دناءة ينرفع عنه ذووا المروءات منع الشهادة إذا فعله ظاهراً وتكرر منه ومالا دناءة فيه لم ترد الشهادة به بحال (مسألة) (فأما الشين في الصناعة كالحجام والحائك والنخال والنفاط والقمام والزبال والمشعوذ والدباغ والحارس والكناس فهل تقبل شهادتهم إذا حسنت طرائقهم؟ على وجهين) الصناعات الدنيئة كالكساح والكباش لا تقبل شهادتهما لما روى سعيد في سننه أن رجلاً أتى ابن عمر فقال له إني رجل كناس فقال له أي شئ تكنس؟ الزبل قال لا قال فالعذرة؟ قال نعم قال الأجر خبيث وما تزوجت فخبيث حتى تخرج منه كما دخلت فيه وعن ابن عباس مثله في الكساح ولأن هذا دناءة يجتنبه أهل المروءات فأشبه الذي قبله فأما الزبال ونحوهم ففيه وجهان (أحدهما) لا تقبل شهادتهم لأنها دناءة تجتنبها أهل المروءات فهو كالذي قبله (والثاني) يقبل لأن بالناس إليه
حاجة فعلى هذا الوجه إنما تقبل شهادته إذا كان يتنظف للصلاة في وقتها ويصليها فإن صلى بالنجاسة لم تقبل شهادته وجهاً واحداً، وأما الحائك والحارس والدباغ فهو أعلى من هذه الصنائع فلا ترد به

(12/47)


الشهادة وذكر شيخنا فيها وجهين وكذلك ذكرها أبو الخطاب والأولى قبول شهادة الحائك والحارس والدباغ لأنه قد تولاها كثير من الصالحين وأهل المروءات وأما سائر الصنائع التي لا دناءة فيها فلا ترد الشهادة بها إلا من كان منهم يحلف كاذباً أو يعد ويخلف وغلب هذا عليه فإن شهادته ترد وكذلك من كان منهم يؤخر الصلاة عن أوقاتها ولا يتنزه عن النجاسات فلا شهادة له ومن كانت صناعته يكثر فيها الربا كالصائغ والصيرفي ولم يتق ذلك ردت شهادته (فصل في الملاهي) وهي على ثلاثة أضرب: محرم وهو ضرب الأوتار والنايات والمزامير كلها والعود والطنبور والمعزفة والرباب ونحوها فمن أدام استماعها ردت شهادته لأنه بروى عن علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (إذا ظهر في أمتي خمس عشرة خصلة حل بهم البلاء) ذكر منها إظهار المعارف والملاهي وقال سعيد ثنا فرج بن فضالة عن علي بن يزيد عن القاسم عن أبي أمامة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن الله بعثني رحمة للعالمين وأمرني بمحق المعازف والمزامير لا يحل بيعهن ولا شراؤهن ولا التجارة فيهن وثمنهن حرام) يعني الضاربات وروى نافع قال سمع ابن عمر مزماراً فوضع اصبعيه على أذنيه ونأى عن الطريق وقال لي يا نافع هل تسمع شيئاً؟ قال فقلت لا قال فرفع اصبعيه من أذنيه وقال

(12/48)


كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم فسمع مثل هذا فصنع مثل هذا رواه الخلال في جامعه من طريقين ورواه أبو داود في سننه وقال حديث منكر وقد احتج قوم بهذا الخبر على إباحة المزمار وقالوا لو كان حراماً لمنع النبي صلى الله عليه وسلم ابن عمر من سماعه ومنع ابن عمر نافعاً من استماعه ولأنكر على الزامر بها قلنا الأول لا يصح لأن المحرم استماعها دون سماعها والاستماع غير السماع ولهذا فرق الفقهاء في سجود التلاوة بين السامع والمستمع ولم يوجبوا على من سمع شيئاً محرماً سد أذنيه قال الله تعالى (وإذا
سمعوا اللغو أعرضوا عنه) ولم يقل سدوا آذانهم والمستمع هو الذي يقصد السماع ولم يوجد هذا من ابن عمر وإنما وجد السماع ولأن بالنبي صلى الله عليه وسلم حاجة إلى معرفة انقطاع سماع الصوت عنه لأنه عدل عن الطريق وسد أذنيه فلم يكن ليرجع إلى الطريق ولا يرفع اصبعيه من أذنيه حتى ينقطع الصوت عنه فأبيح للحاجة وأما الانكار لعله كان في أول الهجرة حينما لم يكن الإنكار واجباً أو قبل إمكان الإنكار لكثرة الكفار وقلة أهل الإسلام فإن قيل فهذا الخبر ضعيف فإن أبا داود رواه وقال هو حديث منكر قلنا قد رواه الخلال من طريقين فلعل أبا داود ضعفه لأنه لم يقع له إلا من إحدى الطريقين (وضرب مباح) وهو الدف فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال (أعلنوا النكاح واضربوا عليه بالدف) أخرجه مسلم وذكر أصحابنا وأصحاب الشافعي أنه مكروه في غير النكاح لأنه يروى عن عمر أنه كان إذا سمع صوت الدف بعث فنظر فان كان في وليمة سكت وإن كان في غيرها عمد الدرة

(12/49)


ولنا ما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أن امرأة جاءته فقالت إني نذرت إن رجعت من سفرك سالماً أن أضرب على رأسك بالدف فقال النبي صلى الله عليه وسلم (أوف بنذرك) رواه أبو داود ولو كان مكروهاً لم يأمرها به وإن كان منذوراً، وروت الربيع بنت معوذ قالت دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم صبيحة بنى بي فجعلت جويريات يضربن بدف لهن ويندبن من قتل من أبائي يوم بدر إلى أن قالت إحداهن وفينا نبي يعلم ما في غد فقال دعي هذا وقولي الذي كنت تقولين) متفق عليه فأما الضرب به للرجال فهو مكروه على كل حال لأنه إنما يضرب به النساء والمخنثون، والمشبهون بهن ففي ضرب الرجال به تشبه بالنساء.
فأما الضرب بالقضيب فيكره إذا انضم إليه مكروه أو محرم كالتصفيق والغناء والرقص وإن خلا عن ذلك كله لم يكره لأنه ليس بآلة لهو ولا بطرب ولا يسمع منفرداً بخلاف الملاهي، ومذهب الشافعي في هذا الفصل كما قلنا (فصل) واختلف أصحابنا في الغناء فذهب الخلال وصاحبه أبو بكر عبد العزيز إلى إباحته قال أبو بكر عبد العزيز الغناء والنوح معنى واحد مباح ما لم يكن معه منكر ولا فيه طعن فإن الخلال يحمل الكراهة من أحمد على الأفعال المذمومة لا على القول بعينه، وروي عن أحمد أنه سمع من عند ابنه صالح قوالاً فلم ينكر عليه، وقال له صالح يا أبه أليس كنت تكرههم؟ فقال قيل لي إنهم يستعملون
المنكر، وممن ذهب إلى إباحة الغناء من غير كراهة إبراهيم بن سعد وكثير من أهل المدينة والعنبري لما روي عن عائشة رضي الله عنها قالت كانت عندي جاريتان تغنيان فدخل أبو بكر فقال مزمور

(12/50)


الشيطان في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ (دعها فإنها أيام عيد) متفق عليه، وعن عمر رضي الله عنه أنه قال الغناء زاد الراكب واختار القاضي أنه مكروه غير محرم وهو قول الشافعي وقال من اللهو المكروه، وقال أحمد الغناء ينبت النفاق في القلب لا يعجبني، وذهب آخرون من أصحابنا إلى تحريمه قال أحمد فيمن مات وخلف ولداً يتيماً وجارية مغنية فاحتاج الصبي إلى بيعها تباع ساذجة قيل له إنها تساوي مغنية ثلاثين ألفاً وتساوي ساذجة عشرين ديناراً فقال لا تباع إلا على أنها ساذجة واحتجوا على تحريمه بما روي عن ابن الحنيفة في قوله تعالى (واجتنبوا قول الزور) قال الغناء وقال ابن عباس وابن مسعود في قول الله تعالى (ومن الناس من يشتري لهو الحديث) قال هو الغناء وعن أبي أمامة أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن شراء المغنيات وبيعهن والتجارة فيهن وأكل أثمانهن حرام أخرجه الترمذي وقال لا نعرفه إلا من حديث علي بن يزيد وقد تكلم أهل العلم فيه وروى ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (الغناء ينبت النفاق في القلب) والصحيح أنه قول ابن مسعود، وعلى كل حال من اتخذ الغناء صناعة يؤتى إليه ويأتي له أو اتخذ غلامه أو جارية مغنيين يجمع عليهما الناس فلا شهادة له لأن هذا عند من لم يحرمه سفه ودناءة وسقوط مروءة ومن حرمه فهو مع سفهه عاص مصر متظاهر بفسقه وبهذا قال الشافعي وأصحاب الرأي، وإن كان لا ينسب نفسه إلى الغناء وإنما يترثم لنفسه ولا يغني للناس أو كان غلامه وجاريته إنما يغنيان له انبنى هذا على الخلاف فيه فمن أباحه أو كرهه لم ترد شهادته، ومن حرمه قال إن دام عليه ردت شهادته كسائر الصغائر

(12/51)


وإن لم يداوم عليه لم ترد شهادته، وان فعله من يعتقد حله فقياس المذهب أن لا ترد شهادته بمالا لا يشتهر به منه كسائر المختلف فيه من الفروع، ومن كان يغشى بيوت المغني أو يغشاه المغنون للسماع متظاهراً بذلك وكثر منه ردت شهادته في قولهم جميعاً لأنه سفه ودناءة، وان كان مستتراً به فهو
كالمغني لنفسه على ما ذكر من التفصيل فيه (فصل) فأما الحداء وهو الإنشاد التي تساق به الإبل فمباح لا بأس به في فعله واستماعه لما روي عن عائشة رضي الله عنها قالت كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر وكان عبد الله بن رواحة جيد الحداء وكان مع الرجال وكان انجشة مع التساء فقال النبي صلى الله عليه وسلم لابن رواحة (حرك بالقوم) فاندفع ينشد فتبعه انجشة فأعنقت الإبل فقال النبي صلى الله عليه وسلم (لا نجشة رويدك رفقاً بالقوارير) يعني النساء وكذلك نشيد الأعراب وهو النصب لا بأس به وسائر أنواع الإنشاد ما لم يخرج إلى حد الغناء، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يسمع إنشاد الشعر فلا ينكره والغناء من الصوت ممدود مكسور والغنى من المال مقصور والحداء ممدود مضموم كالدعاء ويجوز الكسر كالنداء (فصل) والشعر كالكلام حسنه كحسنه وقبيحه كقبيحه، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (إن من الشعر لحكماً) وكان يضع لحسان منبراً يقوم عليه فيهجو من هجا رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين وأنشده كعب بن زهير قصيدته * بانت سعاد فقلبي اليوم متبول * في المسجد وقال له عمه العباس يارسول الله إني أريد أن أمتدحك فقال قل لا يفضض الله فاك فأنشده

(12/52)


من قبلها طبت في الظلال * وفي مستودع حيث يخصف الورق وقال عمر بن الشريد أردفني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال (امعك من شعر أمية؟) قلت نعم فأنشدته بيتاً فقال (هيه) حتى أنشدته مائة قافية وقال النبي صلى الله عليه وسلم يوم حنين أنا النبي لا كذب * أنا ابن عبد المطلب وقد اختلف في هذا فقيل ليس بشعر وإنما هو كلام موزون، وقيل بل هو شعر ولكنه بيت واحد قصير فهو كالنثر، ويروى أن أبا الدرداء قيل له ما من أهل بيت في الأنصار إلا وقد قال الشعر قال وأنا قد قلت يريد العبد أن يعطى مناه * ويأبى الله إلا ما أرادا يقول العبد فائدتي ومالي * وتقوى الله أفضل ما استفادا
وليس في إباحة الشعر اختلاف وقد قاله الصحابة والعلماء والحاجة تدعو إليه لمعرفة اللغة والعربية وللاستشهاد به في التفسير وتعرف معنى كلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم ويستدل به أيضاً على النسب والتاريخ وأيام العرب ويقال الشعر ديوان العرب فإن قيل فقد قال الله تعالى (والشعراء يتبهم الغاوون) وقال النبي صلى الله عليه وسلم (لأن يمتلئ أحدكم قيحاً حتى يريه خير له من أن يمتلئ شعراً) رواه أبو داود وابو عبيد وقال معنى يريه يأكل جوفه يقال ورواه يريه قال الشاعر:

(12/53)


وراهن ربي مثل ما قد ورينني * واحمى على أكبادهن المكاويا قلنا أما الآية فالمراد بها من أسرف وكذب بدليل وصفه لهم بقوله (ألم ترانهم في كل واد يهيمون وأنهم يقولون ما لا يفعلون؟) ثم استثني المؤمنين بقوله (إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا) ولأن الغالب على الشعراء قلة الدين والكذب وقذف المحصنات وهجاء الأبرياء لا سيما من كان في ابتداء الإسلام ممن يهجو النبي صلى الله عليه وسلم ويهجو المسلمين ويعيب الإسلام ويمدح الكفار فوقع الذم على الأغلب واستثنى منهم من لا يفعل الخصال المذمومة فالآية دليل على إباحته ومدح أهله المتصفين بالصفات الجميلة، وأما الخبر فقال أبو عبيد معناه أن يغلب عليه الشعر حتى يشغله عن القرآن والفقه وقيل المراد به ما كان هجاءً وفحشاً فما كان من الشعر يتضمن هجاء المسلمين والقدح في أعراضهم أو التشبب بإمرأة بعينها بالإفراط في وصفها فذكر أصحابنا أنه محرم وهذا إن أريد به أنه محرم على قائله فهو صحيح، وأما على راويه فلا يصح فإن المغازي يروى فيها قصائد الذين هاجوا بها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ينكر ذلك أحد، وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم أذن في الشعر الذي تقاولت به الشعراء في يوم بدر وأحد وغيرهما إلا قصيدة أمية بن أبي الصلت الحائية وكذلك يروى شعر قيس بن الحطيم في التشبب بعمرة بنت رواحة أخت عبد الله بن رواحة أم النعمان ابن بشير وقد سمع النبي صلى الله عليه وسلم قصيدة كعب بن زهير وفيها التشبب بسعاد ولم يزل الناس يروون أمثال هذا ولا ينكر وروينا أن النعمان بن بشير دخل مجلساً فيه رجل يغنيهم بقصيدة قيس بن الحطيم فلما دخل النعمان سكتوه من قبل أن فيها ذكر أمه فقال النعمان فلم يقل بأساً إنما قال

(12/54)


وعمرة من سروات النساء * تنفح بالمسك أردانها وكان عمر بن طلحة بمجلس فغناهم رجل بشعر فيه ذكر أمه فسكتوه فقال دعوه فإن قائل هذا الشعر كان زوجها فأما لشاعر فمتى كان يهجو المسلمين ويمدح بالكذب أو يقذف مسلماً أو مسلمة فإن شهادته ترد وسواء قذف المسلمة بنفسه أو بغيره وقد قيل أعظم الناس ذنباً رجل يهاجي رجلاً فيهجو القبيلة بأسرها وقد روينا أن أباد لامة؟ شهد عند قاض فخاف أن ترد شهادته فقال إن الناس غطوني تغطيت عنهم * وإن بحثوا عني ففيهم مباحث فقال القاضي ومن يبحثك يا أبا دلامة؟ وغرم المال من عنده ولم يظهر أنه رد شهادته (فصل في قراءة القرآن بالالحان) اما قراءته من غير تلحين فلا بأس بها وإن حسن صوته به فهو أفضل فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال (زينوا أصواتكم بالقرآن) وروي (زينوا القرآن بأصواتكم) وقال (لقد أوتي أبو موسى مزماراً من مزامير آل داود) فقال أبو موسى لو أعلم أنك تستمع لحبرته لك تحبيراً وروي أن عائشة أبطأت على النبي صلى الله عليه وسلم ليلة فقال أين كنت يا عائشة فقالت يارسول الله كنت أسمع قراءة رجل في المسجد لم أسمع أحداً يقرأ أحسن من قراءته فقام النبي صلى الله عليه وسلم فاستمع قراءته ثم قال (هذا سالم مولى أبي حذيفة الحمد لله الذي جعل في أمتي مثل هذا) قال صالح قلت (لأبي زينوا القرآن بأصواتكم) ما معناه قال أن تحسنه وقيل له ما معنى (من لم يتغن بالقرآن) قال يرفع صوته به، وهكذا قال الشافعي وقال الليث يتحزن به ويتخشع به ويتباكى به.
وقال ابن غيينة وعمر وبن الحارث ووكيع يستغني به فأما القرآن بالتلحين فينظر فيه فإن لم يفرط في التمطيط والمد وإشباع الحركات فلا بأس به فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد قرأ ورجع ورفع صوته

(12/55)


وقال الراوي لولا أن تجتمع الناس إلي لحكيت لكم قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال عليه الصلاة والسلام (ليس منا من لم يتغن بالقرآن) وقال (ما أذن الله لشئ كإذنه لنبي حسن الصوت يتغنى بالقرآن) أي يجهر به ومعنى أذن استمع قال القاضي هو مكروه على كل حال ونحوه قول أبي عبيد وقال معنى قوله (من لم يتغن بالقرآن) أي يستغني به قال الشاعر: وكنت امرأ زمناً بالعراق * عفيف النياح كثير التغني
قال ولو كان الغناء بالصوت لكان من لم يغن بالقرآن وروي نحو هذا التفسير عن ابن عيينة وقال القاضي أحمد بن محمد البرني: هذا قول من أدركنا من أهل العلم وقال الوليد بن مسلم يتغنى بالقرآن يجهر به وقيل يحسن صوته به.
قال شيخنا والصحيح أن هذا القدر من التلحين لا بأس به ولأنه لو كان مكروهاً لم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم ولا يصح حمله على التغني في حديث (ما أذن الله لشئ كإذنه لنبي يتغنى بالقرآن) على الاستغناء لأن معنى أذن استمع وإنما تسمع القراءة ثم قال يجهر والجهر صفة القراءة لا صفة الاستغناء فأما إذا أسرف في المد والتمطيط وإشباع الحركات بحيث يجعل الضمة واواً والفتحة ألفاً والكسرة ياء كره ذلك ومن أصحابنا من قال يحرم لأنه يغير القرآن ويخرج الكلمات عن وضعها ويجعل الحركات حروفاً، وقد روينا عن أبي عبد الله أن رجلاً سأله عن ذلك فقال له ما اسمك؟ قال محمد قال أيسرك أن يقال لك يا موحامد؟ قال لا قال ولا يعجبني أن يتعلم الرجل الألحان إلا أن يكون حرمه مثل حرم أبي موسى قال له رجل فيكلمون قال لا كل ذا

(12/56)


واتفق أهل العلم على أنه تستحب قراءة القرآن بالتحزين والترتيل والتحسين وروى بريدة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (اقرءو القرآن بالحزن فإنه نزل بالحزن) وقال المروذي سمعت أبا عبد الله قال لرجل لو قرأت وجعل أبو عبد الله ربما تغرغرت عينه وقال زهير بن حرب كنا عند يحيى القطان فجاء محمد بن سعيد فقال له يحيى اقرأ فقرأ فغشي على يحيى حتى حمل وأدخل وقال محمد بن صالح العدوي قرأت عند يحيى بن سعيد القطان فغشي عليه حتى فانه خمس صلوات (فصل) ولا تقبل شهادة الطفيلي وهو الذي يأتي طعام الناس من غير دعوة، وبهذا قال الشافعي ولا نعلم فيه مخالفاً وذلك لأنه يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (من أتى طعاماً لم يدع إليه دخل سارقاً وخرج معيراً) ولأنه يأكل محرماً ويفعل ما فيه سفه ودناءة وذهاب مروءة فإن لم يتكرر هذا منه لم ترد شهادته لأنه من الصغائر ومن سأل من غير أن تحل له المسألة فأكثر ردت شهادته لأنه فعل محرماً وأكل سحتاً وأتى دناءة، وقد روى قبيصة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن المسألة لا تحل إلا لأحد ثلاثة رجل أصابته جائحة فاجتاحت ماله فحلت له المسألة حتى يصيب قواماً
من عيش - أو قال - سداداً من عيش، ورجل تحمل حمالة فحلت له المسألة حتى يصيبها ثم يمسك) فأما السائل ممن تباح له المسألة فلا ترد شهادته بذلك إلا أن يكون أكثر عمره سائلاً فينبغي أن ترد شهادته لأن ذلك دناءة وسقوط مرؤة، فإن أخذ من الصدقة من يجوز له الأخذ من غير

(12/57)


مسألة لم ترد شهادته لأنه فعل جائز لا دناءة فيه وإن أخذ منها ما لا يجوز له وتكرر ذلك منه ردت شهادته لانمه مصر على الحرام.
(فصل) قال الشيخ رحمه الله (ومتى زالت الموانع منهم فبلغ الصبي وعقل المجنون وأسلم الكافر وتاب الفاسق قبلت شهادتهم بمجرد ذلك) لان المقتضي لقبول الشهادة موجود وإنما ردت لوجود المانع فإذا زال المانع عمل المقتضي عمله كما لو لم يوجد المانع وتقبل توبة الفاسق لقول الله سبحانه وتعالى (وهو الذي يقبل التوبة عن عباده) وقوله سبحانه (ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما) وقال النبي صلى الله عليه وسلم (التائب من الذنب كمن لا ذنب له) وقال عمر رضي الله عنه: بقية عمر المرء لا قيمة له يدرك فيه ما ما فات ويحيى فيه ما امات ويبدل الله سيأته حسنات والتوبة على ضربين باطنة وحكمية فالباطنة يما بينه وبين الله تعالى فإن كانت المعصية لا توجب حقاً عليه في الحكم كقبلة الأجنبية والخلوة بها وشرب المسكر والكذب فالتوبة منها الندم والعزم على أن لا يعود فقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (التوبة النصوح تجمع أربعة أشياء الندم بالقلب والاستغفار باللسان وإضمار أن لا يعود) وبمجانبة خلطاء السوء وإن كانت توجب حقاً عليه لله تعالى أو لآدمي كمنع الزكاة والغصب فالتوبة منها بما ذكرنا وترك المظلمة حسب إمكانه بأن يؤدي الزكاة ويرد المغصوب أو بدله وإن عجز عن ذلك نوى رده متى قدر

(12/58)


عليه فإن كان عليه فيها حق في البدن وكان حقاً لآدمي كالقصاص وحد القذف فالمشترط في التوبة التمكين من نفسه ببذلها للمستحق وإن كان حقاً لله تعالى كحد الزنا وشرب الخمر فتوبته بالدم والعزم على ترك العود ولا يشترط الاقرار به فإن كان ذلك لا يشتهر عنه فالأولى له ستر نفسه والتوبة فيما
بينه وبين الله تعالى لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال (من أتى شيئاً من هذه القاذورات فليستتر بستر الله فإن من أبدى لنا صفحته أقمنا عليه الحد) فإن الغامدية حين أقرت بالزنا لم ينكر عليها النبي صلى الله عليه وسلم ذلك وإن كانت معصينه مشهورة فذكر القاضي أن الأولى به الإقرار ليقام عليه الحد لأنه إذا كان مشهوراً فلا فائدة في ترك إفامة الحد عليه.
قال شيخنا والصحيح أن ترك الإقرار أولى لأن النبي صلى الله عليه وسلم عرض للمقر عنده بالرجوع عن الإقرار فعرض لما عز وللمقر عنده بالسرقة بالرجوع مع اشتهاره عنه باقراره وكره الاقرار حتى قيل أنه لما قطع السارق كأنما أسف وجهه رماداً ولم يرد الامر وبالاقرار ولا الحث عليه في كتاب ولا سنة ولا يصح له قياس إنما ورد الشرع بالستر والاستتار والتعريض للمقر بالرجوع عن الإقرار وقال لهزال وهو الذي امر ما عزابا بالاقرار (ياهزال لو سترت بثوبك لكان خيراً لك) وقال أصحاب الشافعي توبة هذا إقراره ليقام عليه الحد وليس بصحيح لما ذكرنا ولأن التوبة توجد حقيقتها بدون الإقرار وهي تجب ما قبلها كما ورد في الأخبار مع ما دلت عليه الآيات في مغفرة الذنوب بالاستغفار وترك الأسرار وأما البدعة فالتوبة منها بالاعتراف بها واعتقاد ضد ما كان يعتقد منها

(12/59)


(مسألة) (ولا يعتبر إصلاح العمل وعنه يعتبر في التائب إصلاح العمل سنة) ظاهر كلام أحمد والخرقي أنه لا يعتبر في ثبوت أحكام التوبة من قبول الشهادة وصحة الولاية في النكاح إصلاح العمل وهو أحد القولين لشافعي وفي القول الآخر يعتبر إصلاح العمل إلا أن يكون ذنبه شهادة بالزنا فلم يكمل عدد اشهود فإنه يكفي مجرد لتوبة من غير إعتبار إصلاح وما عداه فلا تكفي التوبة حتى تمضي عليه سنة تظهر فيها توبته ويبين فيها صلاحه وهذا رواية عن أحمد حكاها أبو الخطاب لأن الله تعالى قال (إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا) وهذا نص فإنه نهى عن قبول شهادتهم ثم استثنى التائب المصلح ولأن عمر رضي الله عنه لما ضرب صبيغاً أمر بهجرانه حتى بلغته توبته فأمر أن لا يكلم إلا بعد سنة ولنا قوله عليه السلام (التوبة تجب ما قبلها) وقوله (التائب من الذنب كمن لا ذنب له) ولأن المغفرة تحصل بمجرد التوبة فكذلك الأحكام ولأن التوبة من الشرك بالإسلام ولا يحتاج إلى اعتبار ما بعده
وهو أعظم الدنوب فما دونه أولى وأما الآية فيحتمل أن يكون الإصلاح من التوبة وعطفه عليها لاختلاف اللفظين ودليل ذلك قول عمر لأبي بكرة تب أقبل شهادتك ولم يعتبر أمر آخر ولأن من كان غاصباً فرد ما في يديه أو مانعا للذكاة فأداها وتاب إلى الله عزوجل قد حصل منه الإصلاح وعلم نزوله عن معصيته نادماً عليه فإنه لو لم ترد التوبة لما أدى ما في يديه ولأن تقديره بسنة تحكم لم يرد به الشرع والتقدير إنما يثبت بالتوقيف وما رود من عمر في حق صبيغ إنما كان لأنه تائب من بدعة وكانت توتبه بسبب الضرب والهجران فيحتمل أنه أظهر التوبة تستراً بخلاف مسئلتنا وقد ذكر القاضي أن التائب من البدعة يعتبر له سنة لحديث صبيغ رواه أحمد في الورع قال ومن علامة

(12/60)


توبته أن يجتنب من كان يواليه من أهل البدع ويوالي من كان يعاديه من أهل النسة والصحيح أن التوبة من البدعة كغيرها إلا أن تكون التوبة تفعل بسبب الإكراه كتوبة صبيغ فيعتبر له مدة يظهر أن توبته عن إخلاص لا عن إكراه وللحاكم أن يقول للمتظاهر بالمعصية تب اقبل شهادتك وقال مالك لا أعرف هذا قال الشافعي وكيف لا يعرفه وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالتوبة وقاله عمر لأبي بكرة؟ (مسألة) (ولا تقبل شهادة القاذف حتى يتوب) وجملة ذلك أن القاذف إذا كان زوجا فحقق قذفه ببينة أو لعان أو كان أجنبيا فحققه بالبينة أو بإقرار المقذوف لم يتعلق بقذفه فسق ولا حد ولا رد شهادة وإن لم يحقق قذفه بشئ من ذلك تعلق به وجوب الحد عليه والحكم بفسقه ورد شهادته لقوله تعالى (والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبداً وأولئك هم الفاسقون) فإن تاب لم يسقط عنه الحد وزل الفسق بلا خلاف وتقبل شهادته عندنا روى ذلك عن عمر وابي لدرداء وابن عباس وبه قال عطاء وطاوس ومجاهد والشعبي والزهري وعبد الله بن عتبة وجعفر به أبي ثابت وأبي الزناد ومالك والشافعي والبتي واسحاق وأبو عبيد وابن المنذر وذكره ابن عبد البر عن يحيى بن سعيد وربيعة وقال شريح والحسن والنخعي وسعيد بن جبير والثوري وأصحاب الرأي لا تقبل شهادته إذا جلد وإن تاب، وعند أبي حنيفة لا ترد شهادته قبل الجلد وإن لم يتب والخلاف معه في فصلين:

(12/61)


(أحدهما) أنه عندنا تسقط شهادته بالقذف إذا لم يحققه وعند أبي حنيفة ومالك لا تسقط إلا بالجلد (والثاني) أنه إن تاب قبلت شهادته وإن جلد وعند أبي حنيفة لا تقبل وتعلق لقول الله تعالى (ولا تقبلوا لهم شهادة أبداً) وبما روى ابن ماجة بإسناده عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تجوز شهادة خائن ولا محدود في الإسلام واحتج في الفصل الآخر بأن القذف قبل حصول الجلد يجوز أن تقوم به البينة فلا يجب به التفسيق ولنا في الفصل الثاني إجماع الصحابة رضي الله عنهم فإنه روى عن عمر رضي الله عنه أنه كان يقول لأبي بكرة حين شهد على لمغيرة بن شعبة تب أقبل شهادتك ولم ينكر ذلك منكر فكان إجماعاً قال سعيد بن المسيب شهد على المغيرة بن شعبة ثلاثة رجال أبو بكرة وشبل بن معبد ونافع بن الحارث ونكل زياد فجلد عمر الثلاثة وقال لهم عمر توبوا تقبل شهادتكم فتاب رجلان وقبل عمر شهادتهما وأبي أبو بكرة فلم يقبل شهادته وكان قد عاد مثل النصل من العبادة ولأنه تاب من ذنبه فقبلت شهادته كالتائب من الزنا يحققه أن الزنا أعظم من القذف به وكذلك قتل النفس التي حرم الله وسائر الذنوب إذا تاب فاعلها قبلت شهادته فهذا أولى.
وأما الآية فهي حجة لنا لأنه استثنى التائبين بقوله تعالى (إلا الذين تابوا) والاستثناء من النفي إثبات فيكون تقديره إلا الذين تابوا فقبلوا شهادتهم وليسوا بفاسقين فإن قالوا إنما يعود الاستثناء إلى الجملة التي تليه بدليل أنه لا يعود إلى الجلد قلنا بل يعود إليه أيضاً لأن هذه الجمل معطوف بعضها على بعض بالواو وهي للجمع تجعل الجمل كلها كالجملة الواحدة

(12/62)


فيعود الاستثناء إلى جميعها إلا ما منع.
ولهذا لما قال النبي صلى الله عليه وسلم (لا يؤمن الرجل الرجل في بيته ولا يجلس على تكرمته إلا بإذنه) عاد الاستثناء إلى الجملتين جميعاً ولأن الاستثناء يغاير ما قبله فعاد الجمل المعطوف بعضها على بعض بالواو كالشرط فإنه لو قال امرأته طالق وعبده حر إن لم يقم عاد الشرط إليهما كذا الاستثناء بل عود الاستثناء إلى الشهادة أولى لأن رد الشهادة هو المأمور به فيكون الحكم والتفسيق خرج مخرج الخبر والتعليل لرد الشهادة فعود الاستثناء إلى الحكم المقصود إلى
من رده إلى التعليل وحديثهم ضعيف يرويه الحجاج بن أرطاة وهو ضعيف قال ابن عبد البر لم يرفعه في روايته حجة، وقد روي من غير طريقه ولم يذكر فيه هذه الزيادة فدل ذلك على أنها من غلطة ويدل على خطئه قبول شهادة كل محدود في غير المقذوف بعد ثبوته ثم لو قدر صحته فالمراد به من لم يتب بدليل كل محدود تاب سوى هذا.
وأما الفصل الأول فدليلنا فيه الآية فإنه رتب على رمي المحصنات ثلاثة أشياء إيجاب الجلد ورد الشهادة والفسق فيجب أن يثبت رد الشهادة بوجود الرمي الذي لم يمكنه تحقيقه كالجلد ولأن الرمي هو المعصية والذنب الذي يستحق به العقوبة وتثبت به المعصية الموجبة رد الشهادة، والحد كفارة تطهير فلا يجوز تعليق رد الشهادة به، وإنما الجلد ورد الشهادة حكمان للقذف فيثبتان جميعاً به وتخلف استيفاء أحدهما لا يمنع ثبوت الآخر، وقولهم إنما يتحقق بالجلد لا يصح لأن الجلد حكم القذف الذي تعذر تحقيقه فلا يستوفى قبل تحقق القذف، وكيف يجوز أن يستوفى حد قبل تحقق سببه ويصير متحققاً بعده هذا باطل

(12/63)


(فصل) والقاذف في الشتم ترد شهادته وروايته حتى يتوب والشاهد بالزنا إذا لم تكمل بالبينة تقبل روايته دون شهادته وحكي عن الشافعي أن شهادته لا ترد ولنا أن عمر لم يقبل شهادة أبي بكرة وقال له تب أقبل شهادتك وروايته مقبولة ولا نعلم خلافاً في قبول رواية أبي بكرة مع رد عمر شهادته (مسألة) (وتوبته أن يكذب نفسه وقيل إن علم صدق نفسه فتوبته أن يقول قد ندمت على ما قلت ولا أعود إلى مثله وأنا تائب إلى الله تعالى منه) ظاهر كلام أحمد والخرقي أن توبة القاذف اكذابه نفسه فيقول كذبت فيما قلت وهذا منصوص الشافعي واختيار الاصطخري من أصحابه قال ابن عبد البر وممن قال هذا سعيد بن المسيب وطاوس وعطاء والشعبي وإسحاق وأبو ثور وأبو عبيدة لما روي عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في قول الله تعالى (إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم)
قال ثوبته إكذاب نفسه ولأن عرض المقذوف يلوث بقذفه فإكذابه نفسه يزيل ذلك التلويث فتكون التوية، وذكر القاضي أن القذف إن كان سباً فالتوبة منه إكذاب نفسه وإن كان شهادة فالتوبة منه أن يقول القذف حرام باطل ولن أعود إلى ما قلت وهذا قول بعض أصحاب الشافعي قال وهو المذهب لأنه قد يكون صادقاً فلا يؤمر بالكذب والخبر محمول على الاقرار بالبطلان لانه نوع إكذاب.
قال شيخنا والأولى أنه متى علم من نفسه الصدق فيما قذف به فتوبته الاستغفار والاقرار ببطلان ما قاله وتحريمه فإنه لا يعود إلى مثله وإن لم يعلم صدق نفسه فتوبته إكذاب نفسه

(12/64)


سواء كان القذف بشهادة أو سب لأنه قد يكون كاذباً في الشهادة صادقاً في السب، ووجه الأول أن الله تعالى سمى القاذف كاذباً على الاطلاق بقوله سبحانه (فإذا لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون) فتكذيب الصادق نفسه يرجع إلى أنه كاذب في حكم الله تعالى، وإن كان في نفس الأمر صادقاً (فصل) ولا يشترط في الشهادة الحرية بل تجوز شهادة العبد في كل شي إلا في الحدود والقصاص على إحدى الروايتين وتجوز شهادة الأمة فيما تجوز فيه شهادة النساء الكلام في هذه المسألة في ثلاثة فصول (أحدها) في قبول شهادة العبد فيما عدا الحدود والقصاص والمذهب أنها مقبولة.
روي ذلك عن علي وأنس رضي الله عنهما قال أنس ما علمت أن أحداً رد شهادة العبد وبه قال عروة وشريح وإياس وابن سيرين والبتي وابو ثور وداود وابن المنذر، وقال مجاهد والحسن وعطاء ومالك والاوزاعي والثوري وابو حنيفة والشافعي وابو عبيد لا تقبل شهادته لأنه غير ذي مروءة ولأنها مبنية على الكمال لا تتبعض فلم يدخل فيها العبد كالميراث، وقال الشافعي والنخعي والحكم تقبل في الشئ اليسير ولنا عموم آيات الشهادة وهو داخل فيها فإنه من رجالنا وهو عدل تقبل روايته وفتياه وأخباره الدينية، وروى عقبة بن الحارث قال: تزوجت أم يحيى بنت أبي أهاب فجاءت أمة سوداء فقالت قد أرضعتكما فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال (وكيف وقد زعمت ذلك) متفق عليه

(12/65)


وفي رواية أبي داود فقلت يارسول الله إنها لكاذبة فقال (وما يدريك وقد قالت ما قالت؟ دعها عنك) ولأنه عدل غير متهم فتقبل شهادته كالحر وقولهم ليس له مروءة ممنوع بل هو كالحر ينقسم إلى من له مروءة، ومن لا مروءة له، وقد يكون منهم العلماء والأمراء والصالحون والأتقياء سئل إياس ابن معاوية عن شهادة العبد فقال أنا أرد شهادة عبد العزيز بن صهيب، وكان منهم زياد بن أبي عياش من العلماء والزهاد وكان عمر بن عبد العزيز يرفع قدره ويكرمه ومنهم عكرمة مولى ابن عباس من العلماء الثقات وكثير من الموالي كانوا عبيداً وأبناء عبيد لم يحدث فيهم بالاعتاق إلا الحرية وهي لا تغير طبعاً ولا تحدث علماً ولا ديناً ولا مروءة ولا يقبل منهم إلا من كان ذا مروءة ولا يصح قياس الشهادة على الميراث فإن الميراث خلافة للموروث في ماله وحقوقه والعبد لا يمكنه الخلافة لأن ما يصير إليه يملكه سيده فلا يمكن أن يخلف فيه ولأن الميراث يقتضي التمليك والعبد لا يملك ومبنى الشهادة على العدالة التي هي مظنة الصدق وحصول الثقة من القول والعبد أهل لذلك فوجب أن تقبل شهادته (الفصل الثاني) أن شهادته لا تقبل في الحدود وفي القصاص احتمالان (أحدهما) تقبل شهادته فيه لأنه حق آدمي، ولا يصح الرجوع عن الإقرار به أشبه الأموال (والثاني) لا تقبل لأنه عقوبة بدنية تدرأ بالشبهات فأشبه الحد وقد ذكرنا في هذا الكتاب في الحد والقصاص روايتين وكذلك ذكره الشريف وابو الخطاب فإنهما ذكرا في العقوبات كلها روايتين (إحداهما) تقبل لما ذكرنا ولأنه رجل عدل فتقبل شهادته فيها كالحر والثانية لا تقبل وهي

(12/66)


ظاهر المذهب لأن الاختلاف في قبول شهادته في الأموال نقص وشبهة فلم تقبل شهادته فيما يندرئ بالشبهات ولأنه ناقص الحال فلم تقبل شهادته في الحد والقصاص كالمرأة (الفصل الثالث) إن شهادة الأمة تقبل فيما تقبل فيه شهادة النساء قياساً عليهن فإن النساء لا تقبل شهادتهن في الحدود والقصاص وإنما تقبل في المال أو شبهه والأمة كالحرة فيما عداهما وقد دل عليه حديث عقبة بن الحارث، وحكم المكاتب والمدبر وأم الولد والمعتق بعضه حكم القن فيما ذكرنا لأن الرق فيهم وقد روي
عن عمر رضي الله عنه أنه لا تجوز شهادة المكاتب وبه قال عطاء والشعبي والنخعي ولنا ما ذكرناه في العبد ولأنه إذا ثبت الحكم في القن ففي هؤلاء أولى (فصل) وتجوز شهادة الأصم في المرئيات وعلى المسموعات قبل صممه أما شهادته على المرئيات فهو فيها كالذي يسمع فتقبل شهادته فيها وتجوز شهادته في المسموعات التي كانت قبل صممه كما تجوز شهادة الأعمى على الأفعال التي رآها قبل العمى إذا عرف المشهود عليه باسمه ونسبه (مسألة) (وتجوز شهادة الأعمى في المسموعات إذا تيقن الصوت وبالاستفاضة) روي هذا عن علي وابن عباس وبه قال ابن سيرين وعطاء والشعبي والزهري ومالك وابن أبي ليلى وإسحاق وابن المنذر، وقال أبو حنيفة والشافعي لا تقبل شهادته، وروي ذلك عن النخعي وابي هاشم واحتلف فيه عن الحسن واياس وابن أبي ليلى وأجاز الشافعي شهادته بالاستفاضة والترجمة إذا أقر عند أذنه ويد الأعمى على رأسه ثم ضبطه حتى حضر عند الحاكم فشهد عليه ولم يجزها في غير ذلك لأن من لا تجوز شهادته على الأفعال لا تجوز على الأقوال كالصبي ولأن الأصوات تشتبه فلا يحصل اليقين فلم يجز أن يشهد بها كالخط

(12/67)


ولنا قول الله تعالى (واستشهدوا شهيدين من رجالكم) ولأنه رجل عدل مقبول الرواية فقبلت شهادته كالبصير وفارق الصبي فإنه ليس برجل ولا عدل ولا مقبول الرواية ولأن السمع أحد الحواس التي يحصل بها اليقين وقد يكون المشهود عليه ممن ألفه الأعمى وكثرت صحبته له وعرف صوته يقيناً فلا يشك فيه فوجب أن تقبل شهادته فيما تيقنه كالبصير ولهذا أجاز الشافعي وأصحابه شهادته بالاستفاضة ولا تثبت عندهم حتى يسمعها من عدلين ولا بد أن يعرفهما حتى يعرف عدالتهما فإذا صح أن يعرف الشاهدين صح أن يعرف المقر ولا خلاف في قبول روايته وجواز استماعه من زوجته إذا عرف صوتها وصحة قبول النكاح، وجواز اشتباه الأصوات كجواز اشتباه الصفة وفارق الأفعال فإن مدركها الرؤية وهي غير ممكنة من الأعمى والأقوال مدركها السمع هو يشارك البصير فيه وربما زاد عليه ويفارق الخط فإنه لو تيقن من كتب الخط أو رآه يكتبه لم يجز أن يشهد بما كتب فيه
إذا ثبت هذا فإنه لا يجوز أن يشهد إلا إذا تيقن الصوت وعلم المشهود عليه يقيناً فإن جوز أن يكون صوت غيره لم يجز أن يشهد به كما لو اشتبه على البصير المشهود عليه فلم يعرفه (مسألة) (وتجوز في المرئيات التي تحملها قبل العمى إذا عرف الفاعل باسمه ونسبه وما يتميز به) وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة لا تجوز شهادته أصلاً لأنه لا يجوز أن يكون حاكماً ولنا ما تقدم في المسألة قبلها ولأن العمى فقد حاسة لا يخل بالتكليف فلم يمنع قبول الشهادة

(12/68)


كالصمم وفارق الحكم فإنه يعتبر له من شروط الكمال ما لا يعتبر للشهادة ولذلك يعتبر له المسع والاجتهاد وغيرهما.
(مسألة) (فإن لم يعرف المشهود عليه باسمه ونسبه ولم يعرفه إلا بعينه قبلت شهادته أيضاً لما ذكرنا في المسألة الأولى) وهذا قول القاضي ويصفه للحاكم بما يتميز به قال شيخنا ويحتمل أن لا تقبل لأن هذا مما لا ينضبط غالباً (مسألة) (وإن شهد عند الحاكم ثم عمي قبلت شهادته وجاز الحكم بها) وبهذا قال الشافعي وأبو يوسف ومحمد وقال أبو حنيفة لا يجوز الحكم لأنه معنى يمنع قبول الشهادة مع صحة النطق فمنع الحكم بها كالفسق ولنا أنه معنى طرأ بعد أداء لا يورث تهمة في حال الشهادة فلم يمنع قبولها كالموت وفارق الفسق فإنه يورث تهمة حال الشهادة (مسألة) (وشهادة ولد الزنا جائزة في الزنا وغيره) هذا قول أكثر أهل العلم منهم عضاء والحسن والشعبي والزهري والشافعي واسحاق وأبو عبيد وأبو حنيفة وأصحابه وقال مالك والليث لا تجوز شهادته في الزنا وحده لأنه متهم فإن العادة فيمن فعل قبيحاً أنه يحب أن يكون له نظراء وحكي عن عثمان أنه قال ودت الزانية أن النساء كلهن زنين ولنا عموم الآيات فإنه عدل مقبول الشهادة في غير الزنا فيقبل في الزنا كغيره ولأن من قبلت شهادته في القتل قبلت في الزنا كولد الرشدة قال ابن المنذر وما احتجوا به غلط من وجوه (أحدها)

(12/69)


أن ولد الزنا لم يفعل قبيحاً يحب أن يكون له نظراء فيه (والثاني) لا أعلم ما ذكر عن عثمان ثابتاً عنه وأشبه ذلك أن لا يكون ثابتاً وغير جائز أن يثبت عن عثمان كلام بالظن عن ضمير امرأة لم يسمعها تذكره (الثالت أن الزاني لو تاب لقبلت شهادته وهو الذي فعل الفعل القبيح فإذا قبلت شهادته مع ما ذكروه فغيره أولى فإنه لا يجوز أن يلزم ولده من وزره أكثر مما لزمه ولا يتعدى الحكم إلى غيره من غير أن يثبت فيه مع أن ولده لا يلزمه شئ من ضرره لقول الله تعالى (ولا تزر وازرة وزر أخرى) وولد الزنا لم يفعل شيئاً يستوجب به حكماً (مسألة) (وتقبل شهادة الإنسان على فعل نفسه كالمرضعة بالرضاع والقاسم على القسمة والحاكم على حكمه بعد العزل) تجوز شهادة المرضعة على الرضاع لما ذكرنا من حديث عقبة بن الحارث وكذلك شهادة القاسم على القسمة لأنه يشهد لغيره فصح على فعل نفسه كما لو شهد على فعل غيره وكذلك تقبل شهادة الحاكم على حكمه بعد العزل لذلك وفي ذلك كله اختلاف لما ذكرنا فيما مضى (مسألة) (وتقبل شهادة البدوي على القروي والقروي على البدوي إذا اجتمعت الشروط) وهو ظاهر كلام الخرقي وهو قول ابن سيرين وابي حنيفة والشافعي وابي ثور وأجازه أبو الخطاب وعن أحمد في شهادة البدوي على القروي أخشى أن لا تقبل فيحتمل وجهين (أحدهما) لا تقبل وهو قول جماعة من أصحابنا ومذهب أبي عبيد وقال مالك كقول أصحابنا فيما عدا الجراح وكقول الباقين احتياطاً للدماء واحتج أصحابنا بما روى أبو داود في سننه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن

(12/70)


النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (لا تجوز شهادة بدوي على صحاب قرية) ولأنه متهم حيث عدل إذا أشهد قروياً وأشهد بدوياً قال أبو عبيد ولا أرى شهادتهم ردت إلا لما فيهم من الجفاء بحقوق الله والجفاء في الدين (والثاني) تقبل لأن من قبلت شهادته على أهل البلد وقبلت شهادته على البدو قبلت شهادته على أهل القرى ويحمل الحديث على من لم تعرف عدالته من أهل البدو ونخصه بهذا لأن الغالب أن
لا يكون له من يسأله الحاكم فيتعرف عدالته (باب موانع الشهادة) ويمنع قبول الشهادة ستة أشياء (أحدها) قرابة الولادة فلا تقبل شهادة والد لولده وان سفل ولا ولد لوالده وإن علا.
ظاهر المذهب أن شهادة الوالد لولده لا تقبل ولا لولد ولده وإن سفل وسواء في ذلك ولد البنين وولد البنات ولا تقبل شهادة الولد لوالده ولا والدته ولا جده ولا جدته من قبل أبيه وأمه وإن علوا وسواء في ذلك الآباء والأمهات وآباؤهما وأمهاتهما وبه قال شريح والحسن والشعبي والنخعي ومالك والشافعي واسحاق وأبو عبيد وأصحاب الرأي وروى عن أحمد رواية ثانية تقبل شهادة الابن لابنه ولا تقبل شهادة الأب لابنه لأن مال الابن في حكم مال الأب له أن يتملكه له إذا شاء فشهادته له شهادة لنفسه أو يجربها لنفسه نفعاً قال النبي صلى الله عليه وسلم (أنت ومالك لأبيك) وقال (إن أطيب

(12/71)


ما أكل الرجل من كسبه وإن أولادكم من أطيب كسبكم فكلوا من أموالهم) ولا يوجد هذا في شهادة الابن لأبيه وعنه رواية ثالثة تقبل شهادة كل واحد منهما لصاحبه فيما لا تهمة فيه كالنكاح والطلاق والقصاص والمال إذا كان مستغنى عنه لأن كل واحد منهما لا ينتفع بما يثبت للآخر من ذلك فلا تهمة في حقه وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن شهادة كل واحد منهما للآخر مقبولة وروي ذلك عن شريح وبه قال عمر بن عبد العزيز وابو ثور والمزني وداود وإسحاق وابن المنذر لعموم الآيات ولأنه عدل تقبل شهادته في غير هذا الموضع فتقبل شهادته فيه كالأجنبي ولنا ما روى الزهري عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة ولا ذي غمر على أخيه ولا ظنين في قرابة ولا ولاء) والظنين المتهم والأب متهم لولده لأن ماله كما له بما ذكرنا ولأن بينهما بعضية فكأنه يشهد لنفسه ولهذا قال عليه الصلاة والسلام (فاطمة بضعة مني يريبني ما رابها) ولأنه متهم في الشهادة على عدوه والخبر أخص من الآيات فتختص به (مسألة) (وتقبل شهادة بعضهم على بعض في أصح الروايتين)
أما شهادة أحدهما على صاحبه فتقبل، نص عليه أحمد وهذا قول عامة أهل العلم، قال شيخنا ولم أجد عن أحمد في الجامع فيه اختلافاً وذلك لقوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين) فأمر بالشهادة عليهم ولو لم تقبل لما أمر بها ولأنها

(12/72)


إنما ردت شهادته له للتهمة في إيصال النفع ولا تهمة في شهادته عليه فوجب أن تقبل كشهادة الأجنبي بل أولى فإن شهادته لنفسه لما ردت للتهمة في إيصال النفع إلى نفسه كان إقراره عليها مقبولاً وفيه رواية أخرى أن شهادة أحدهما لا تقبل على صاحبه حكاها القاضي في المجرد لأن شهادته غير مقبولة فلا تقبل عليه كالفاسق وقال بعض الشافعية لا تقبل شهادة الابن على أبيه في قصاص ولا حد قذف لأنه لا يقتل بقتله ولا يحد بقذفه فلا يلزمه ذلك والمذهب الأول لما ذكرنا ولأنه يتهم له ولا يتهم عليه فشهادته عليه أبلغ في الصدق كشهادته على نفسه (فصل) فإن شهد إثنان بطلاق ضرة أمها أو قذف زوجها لها قبلت شهادتهما لأن حق أمهما لا يزداد به وسواء كان المشهود عليه أباهما أو أجنبياً وتوفر الميراث لا يمنع قبول الشهادة بدليل قبول شهادة الوارث لموروثه (فصل) وتجوز شهادة الرجل لابنه من الرضاعة وأبيه وسائر أقاربه منها لأنه لا نسب بينهما يوجب الإنفاق والصلة وعتق أحدهما على صاحبه وتبسطه في ماله بخلاف قرابة النسب (مسألة) ولا تقبل شهادة أحد الزوجين لصاحبه في إحدى الروايتين) هذا الذي ذكره الخرقي وبه قال الشعبي والنخعي ومالك واسحاق وأبو حنيفة والرواية الأخرى يجوز هذا وقول شريح والحسن والشافعي وأبي ثور لأنه عقد على منفعة فلا يمنع قبول الشهادة كالاجارة

(12/73)


وقال الثوري وابن أبي ليلى تقبل شهادة الرجل لامرأته لأنه لا تهمة في حقه ولا تقبل شهادتهما له لأن يساره وزيادة حقها من النفقة يحصل بشهادتها له بالمال فهي متهمة لذلك ولنا أن كل واحد من الزوجين يرث الآخر من غير حجب ويتبسط في ماله عادة فلم تقبل
شهادته له كالابن مع أبيه ولأن يسار الرجل يزيد نفقة امرأته ويسار المرأة يزيد في قيمة بضعها المملوك لزوجها فكان كل واحد منهما يضاف إلى الآخر قال الله تعالى (وقرن في بيوتكن) وقال (لا تدخلوا بيوت النبي) فأضاف البيوت إليهن تارة وإلى النبي صلى الله عليه وسلم أخرى وقال تعالى (لا تخرجوهن من بيوتهن) وقال عمر للذي قال له أن غلامي سرق مرآة امرأتي: لا قطع عليه عبدكم سرق مالكم ويفارق عقد الإجارة من هذه الوجوه كلها (مسألة) (ولا تقبل شهادة السيد لعبده ولا العبد لسيده) أما شهادة السيد لعبده فغير مقبولة لأن مال العبد لسيده فشهادته له شهادة لنفسه ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم (من باع عبداً وله مال فماله للبائع إلا أن يشترطه المبتاع) ولا نعلم في هذا خلافاً ولا تقبل شهادته له أيضاً بنكاح ولا لأمته بطلاق لأن في طلاق أمته تخليصاً له وإباحة بضعها في نكاح العبد نفع له ونفع مال الإنسان نفع له ولا تقبل شهادة العبد لسيده لأنه يتبسط في ماله وينتفع به ويتصرف فيه وتجب نفقته منه ولا يقطع بسرقته فلا تقبل شهادته له كالابن مع أبيه (مسألة) (وتقبل شهادة الأخ لأخيه وسائر الأقارب والصديق لصديقه والمولى لعتيقه)

(12/74)


قال إبن المنذر أجمع أهل العلم على أن شهادة الأخ لأخيه جائزة وروي ذلك عن ابن الزبير وبه قال شريح وعمر بن عبد العزيز والشعبي والنخعي والثوري ومالك والشافعي وأبو عبيد وإسحاق وأبو ثور وأصحاب الرأي وحكى ابن المنذر عن الثوري أنه لا تقبل شهادة كل ذي رحم محرم وعن مالك أنه لا تقبل شهادته لأخيه إذا كان منقطعاً إليه في صلته وبره لأنه متهم في حقه وقال ابن المنذر قال مالك لا تجوز شهادة الأخ لأخيه في النسب وتجوز في الحقوق ولنا عموم الآيات ولأنه عدل غير متهم فتقبل شهادته له كالأجنبي ولا يصح القياس على الوالد والولد لأن بينهما بعضية وقرابة بخلاف الأخ (فصل) وشهادة العم وابنه والخال وابنه وسائر الأقارب أولى بالجواز فإن شهادة الأخ إذا أجيزت مع قربه كان تنبيها على قبول شهادة من هو أبعد منه بطريق الأولى وتقبل شهادة أحد الصديقين
للآخر في قول عامة العلماء إلا مالكاً قال لا تقبل شهادة الصديق الملاطف لأنه يجر إلى نفسه نفعاً بها فهو متهم فلم تقبل شهادته كشهادة العدو على عدوه ولنا عموم أدلة الشهادة وما قاله يبطل بشهادة الغريم للمدين قبل الحجر وإن كان ربما قضاه دينه منه فجر إلى نفسه نفعاً أعظم مما يرجى ههنا من الصديقين وأما العداوة فسببها محصور وفي الشهادة عليه شفاء غيظه منه فخالف الصداقة وتجوز شهادة المولى المعتق لعتيقه لأنه لا تهمة فيه أشبه الأجنبي ولأنه بمنزلة الأخ وشهادة الأخ لأخيه مقبولة كما ذكرنا

(12/75)


(فصل) الثاني أن يجر إلى نفسه نفعاً بشهادته كشهادة السيد لمكاتبه والوارث لموروثه والعبد المأذون له في التجارة وكذلك لا تقبل شهادة الوارث لموروثه بالجرح قبل الاندمال لأنه قد يسري الجرح إلى نفسه فتجب الدية لهم ولا تقبل شهادة الشفيع ببيع الشقص الذي له فيه الشفعة لأنه يجر إلى نفسه نفعاً ولا تقبل شهادة الغرماء بدين المفلس أو بعين ولا شهادتهم للميت بدين أو مال فإنه لو ثبت للمفلس أو للميت دين أو مال تعلقت حقوقهم به ويفارق ما لو شهد الغرماء لحي لا حجر عليه بمال فإن شهادتهم تقبل لأن حقهم لا يتعلق بماله وإنما يتعلق بذمته فإن قيل إذا كان معسراً سقطت عنه المطالبة فإذا شهدا له بمال ملك مطالبته فجروا إلى أنفسهم نفعاً قلنا لم تثبت المطالبة بشهادتهم إنما ثبتت بيساره وإقراره لدعوى الحق الذي شهدوا به قال القاضي ولا تقبل شهادة الأجير لمن استأجره نص عليه أحمد فإن قيل فلم قبلتم شهادة الوارث لموروثه مع أنه إذا مات ورثه فقد جر إلى نفسه نفعاً بشهادته قلنا لاحق له في ماله حين الشهادة وإنما يحتمل أن يتجدد له حق وهذا لا يمنع قبول الشهادة كما لو شهد لإمرأة يحتمل أن يتزوجها أو لغريم بمال له يحتمل ان يوفيه أو يفلس فيتعلق حقه به وإنما المانع ما يحصل به نفع حال الشهادة فإن قيل فقد منعتم قبول شهادته لموروثه بالجرح قبل الاندمال لجواز أن يتجدد له حق وإن لم يكن له حق في الحال فإن قلتم قد انعقد سبب حقه قلنا يبطل بالشاهد لموووثه المريض فإن شهادته تقبل مع انعقاد سبب استحقاقه بدليل أن عطيته له لا تنفذ وعطيته لغيره نقف على الخروج من الثلث

(12/76)


قلنا إنما منعنا الشهادة لموروثه بالجرح لأنه ربما أفضى إلى الموت به فتجب الدية للوارث الشاهد به ابتداء فيكون شاهداً لنفسه موجباً له بها حقاً ابتداء بخلاف الشاهد للمريض والمجروح بمال فإنه إنما يجب للمشهود له ثم يجوز أن ينتقل ويجوز أن لا ينتقل فلم يمنع الشهادة له كالشهادة لغريمه فإن قيل فقد أجزتم شهادة الغريم لغريمه بالجرح قبل الاندمال كما أجزتم شهادته له بماله لنا إنما أجزناها لأن الدية لا تجب للشاهد ابتداء إنما تجب للقتيل أو لورثته ثم يستوفي الغريم منها فأشبهت الشهادة بالمال.
(مسألة) (ولا تقبل شهادة الموصى له للميت والوكيل لموكله بما هو وكيل فيه والشريك لشريكه والغرماء للمفلس بالمال وأحد الشفيعين بعفو الآخر عن شفعته وكذلك المضارب بمال المضاربة) لأنه متهم ولأن الشفعة إذا بطلت للمشهود عليه توفرت على الشاهد فيكون شاهداً لنفسه وممن رد شهادة الشريك لشريكه شريح والنخعي والثوري والشافعي وأصحاب الرأي ولا نعلم فيه خلافاً فأما إن شهد الشريك لشريكه في غير ما هو شريك فيه أو الوكيل لموكله في غير ما هو وكيل فيه أو العدو لعدوه أو الوارث لموروثه بمال أو بالجرح بعد الاندمال أو شهد أحد الشفيعين بعد أن أسقط شفعته على الأخر بإسقاط شفعته أو أحد الوصيين بعد سقوط وصيته على الآخر بما يسقط وصيته أو كان أحد الوصيتين لا يزاحم بها الأخرى ونحو ذلك مما لا تهمة فيه قبلت لان المقتضي لقبول الشهادة متحقق والمانع منتف فوجب قبولها عملاً بالمقتضي (فصل) ولا تقبل شهادة الوصي للموصى عليهم إن كانوا في حجره وهذا قول أكثر أهل العلم منهم الشعبي والثوري ومالك والشافعي والاوزاعي وابو حنيفة وأجاز شريح وابو ثور شهادته لهم إذا كان الخصم غيره لأنه أجنبي متهم فقبلت شهادته لهم كما بعد زوال الوصية

(12/77)


ولنا أنه شهد بشئ هو خصم فيه فإنه الذي يطالب بحقوقهم ويخاصم فيها ويتصرف فيها فلم تقبل شهادته به كما لو شهد بمال نفسه ولأنه يأكل من أموالهم عند الحاجة فيكون متهماً بالشهادة به وقولهم في حجره احتراز، أما لو شهد لهم بعد زوال ولايته عنهم فإنها تقبل والحكم في أمين الحاكم يشهد للأيتام الذين هم تحت ولايته كالحكم في الوصي سواء قياساً عليه فأما شهادته عليهم فمقبولة لا نعلم فيه
خلافاً فإنه لا يتهم عليهم ولا يجر بشهادته عليهم نفعاً ولا يدفع بها عنهم ضرراً فهو كالأجنبي (فصل) الثالث أن يدفع عن نفسه ضرراً كشهادة العاقلة بجرح شهود قتل الخطأ والغرماء بجرح شهود الدين على المفلس والسيد بجرح من شهد على مكاتبه أو عبده بدين والوصي بجرح الشاهد على الأيتام والشريك بجرح الشاهد على شريكه وسائر من لا تقبل شهادته لإنسان إذا شهد بجرح الشاهد عليه.
إنما لم تقبل شهادة العاقلة بجرح شهود قتل الخطأ لما فيه من دفع الدية عن أنفسهم فإن كان الشاهد ان بالجرح فقيرين احتمل قبول شهادتهما لأنهما لا يحملان شيئاً من الدية واحتمل أن لا تقبل لجواز أن يوسرا قبل الحول فيحملان وكذلك الخلاف في البعيد الذي لا يحمل لبعده لجواز أن يموت من هو أقرب منه قبل الحول فيحمل ولا تقبل شهادة الضامن للمضمون عنه بقضاء الحق أو الإبراء منه ولا شهادة أحد الشفيعين على الآخر بإسقاط شفعته ولا شهادة بعض غرماء المفلس على بعض بإسقاط دينه أو استيفائه أو بعض من أوصى له بمال على أخر بما يبطل وصيته إذا كانت

(12/78)


وصيته تحصل بها مزاحمته إما لضيق الثلث عنهما أو لكون الوصيتين بمعين فهذا وأشباهه لا تقبل الشهادة فيه لأن الشاهد به متهم لما يحصل بشهادته من دفع الضرر عن نفسه ونفعها فيكون شاهداً لنفسه، وقد قال الزهري مضت السنة في الاسلام أن لا تجوز شهادة خصم ولا ظنين والظنين المتهم، وروى طلحة بن عبد الله بن عوف قال قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن لا شهادة لخصم ولا ظنين) (فصل) الرابع العداوة كشهادة المقذوف على قاذفه والمقطوع عليه الطريق على قاطعه والزوج بالزنا على امرأته.
وجملة ذلك أن شهادة العدو لا تقبل على عدوه في قول أكثر أهل العلم منهم ربيعة والثوري واسحاق ومالك والشافعي والمراد بالعداوة ههنا العداوة الدنيوية مثل شهادة المقذوف على القاذف والمقطوع عليه الطريق على القاطع والمقتول وليه على القاتل والمجروح على الجارح والزوج يشهد بالزنا على امرأته فلا تقبل شهادته لأنه يقر على نفسه بعداوته لها بإفسادها فراشه، وأما العداوة في الدين
كالمسلم يشهد على الكافر أو المحق من أهل السنة يشهد على المبتدع فلا ترد شهادته لأن العداوة في الدين والدين يمنعه من ارتكاب محظور في دينه، وقال أبو حنيفة لا تمنع العداوة الشهادة لأنها لا تخل بالعدالة فلا تمنع الشهادة كالصداقة لا تمنع الشهادة له

(12/79)


ولنا ما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة ولا زان ولا زانية ولا ذي غمر على أخيه) رواه أبو داود والغمر الحقد ولأن العداوة تورث التهمة فتمنع الشهادة كالقرابة القريبة وتخالف الصداقة فإن شهادة الصديق لصديقه بالزور نفع غيره بمضرة نفسه وبيع آخرته بدنيا غيره وشهادة العدو على عدوه يقصد بها نفع نفسه بالتشفي من عدوه فافترقا، فإن قيل فلم قبلتم شهادة المسلمين على الكفار مع العداوة؟ قلنا العدواوة ههنا دينية والدين لا يقتضي شهادة الزور ولا أن يترك دينه بموجب دينه (فصل) فإن شهد على رجل بحق فقذفه المشهود عليه لم ترد شهادته بذلك لانا لو أبطلنا شهادته بهذا لتمكن كل مشهود عليه بإبطال شهادة الشهاد بقذفه ويفارق ما لو طرأ الفسق بعد أداء الشهادة وقبل الحكم فإن رد الشهادة فيه لا يفضي إلى ذلك بل إلى عكسه لأن طريان الفسق يورث تهمة في حال أداء الشهادة لأن العادة أسراره فظهوره بعد أداء الشهادة يدل على أنه كان يسره حال أدائها وههنا حصلت العداوة بأمر لا تهمة على الشاهد فيه، فأما المحاكمة في الأموال فليست عداوة تمنع الشهادة في غير ما حكم فيه (فصل) قال رحمه الله (الشرط الخامس أن يشهد الفاسق بشهادة فترد ثم يتوب فيعيدها فإنها لا تقبل للتهمة) وبهذا قال الشافعي وأصحاب الرأي وقال أبو ثور والمزني وداود تقبل قال

(12/80)


ابن المنذر والنظر يدل على هذا لأنها شهادة تقبل في غير هذه الشهادة فقبلت فيها قياساً على غيرها وكما لو شهد وهو كافر فردت شهادته ثم شهد بها بعد إسلامه ولنا أنه متهم في أدائها لأنه يعير بردها وتلحقه غضاضة لكونها ردت بسبب نقص يتغير به
وصلاح حاله بعد ذلك من فعله يزول به العار فتلحقه التهمة في أنه قصد إظهار العدالة وإعادة الشهادة لتقبل فيزول ما حصل بردها ولأن الفسق يخفى فيحتاج في معرفته إلى بحث واجتهاد فعند ذلك نقول شهادته مردودة بالاجتهاد فلا تقبل بالاجتهاد لأن ذلك يؤدي إلى نقض الاجتهاد بالاجتهاد وفارق ما لو إذا رد شهادة كافر لكفره أو صبي لصغره أو عبد لرقه ثم أسلم الكافر وبلغ الصبي وعتق العبد وأعادوا تلك الشهادة فإنها لا ترد لأنها لم ترد أولاً بالاجتهاد وإنما ردت باليقين ولأن البلوغ والحرية ليسا من فعل الشاهد فيتهم أنه فعلهما لتقبل شهادته والكافر لا يرى كفره عاراً ولا يترك دينه من أجل شهادة ردت (مسألة) ولو لم يشهد بها عند الحاكم حتى صار عدلاً قبلت) وذلك لأن التحمل لا تعتبر فيه العدالة ولا البلوغ ولا الإسلام لأنه لا تهمة في ذلك وإنما يعتبر ذلك للأداء فإذا رأى الفاسق شيئاً أو سمعه ثم عدل وشهد به قبلت شهادته بغير خلاف نعلمه وهكذا

(12/81)


الصبي والكافر في زمن النبي صلى الله عليه وسلم يروون عنه بعد أن كبروا كالحسن والحسين وابن عباس وابن الزبير وابن جعفر والنعمان بن بشير، والرواية في معنى الشهادة تشترط لها العدالة وغيرها من الشروط المعتبرة للشهادة (مسألة) (ولو شهد وهو كافر أو صبي أو عبد فردت شهادتهم ثم أعادوها بعد زوال الكفر والصبا والرق قبلت) ولما ذكرنا في الفصل الذي قبلها وقد روي عن النخعي والزهري وقتادة وأبي الزناد ومالك أنها ترد أيضاً في حق من أسلم وبلغ وعن أحمد رواية كذلك لأنها شهادة مردودة فلم تقبل كشهادة من كان فاسقاً وقد ذكرنا ما يقتضي فرقاً بينهما فيفترقان، وروي عن أحمد في العبد إذا ردت شهادته لرقه ثم عتق وأعاد تلك الشهادة روايتان وقد ذكرنا الأولى أن شهادته تقبل لأن العتق من غير فعله وهو أمر يظهر بخلاف الفسق (مسألة) (وإن شهد لمكاتبه أو لموروثه بجرح قبل برئه فردت ثم أعادها بعد عتق المكاتب وبرء الجرح ففي ردهما وجهان)
(أحدهما) تقبل لأن زوال المانع ليس من فعلهم فأشبه زوال الصبا والبلوغ ولأن ردها بسبب لا عار فيه فلا يتهم في قصد نفي العار بإعادتها بخلاف الفسق (والثاني) لا تقبل لأن ردها باجتهاده فلا ينقضها باجتهاده والأول أصح فإن الأصل قبول

(12/82)


شهادة العدل لم يمنع منه مانع ولا يصح القياس على الشهادة المردودة بالفسق لما ذكرنا بينهما من الفرق ويخرج على هذا كل شهادة مردودة إما للتهمة أو لعدم الأهلية إذا أعادوها بعد زوال التهمة ووجود الأهلية هل تقبل؟ على وجهين (مسألة) (وإن شهد الشريك بعفو شريكه عن الشفعة ثم عفا الشاهد عن شفعته وأعاد تلك الشهادة لم تقبل ذكره القاضي) لأنه متهم فأشبه لفاسق والأولى أنها تخرج على الوجهين لأنها إنما ردت لكونها يجر بها إلى نفسه نفعاً وقد زال بعفوه والله أعلم.
(باب أقسام المشهود به) والمشهود به ينقسم خمسة أقسام: (أحدها) الزنا وما يوجب حده فلا يقبل فيه إلا أربعة رجال أحرار.
أجمع المسلمون على أنه لا يقبل في الزنا أقل من أربعة شهود وقد نص الله تعالى عليه بقوله (سبحانه لولا جاءوا عليه بأربعة شهداء فإذا لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون) وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (أربعة وإلا حد في ظهرك) في أخبار سوى هذا وأجمعوا على أنه يشترط كونهم عدولا ظاهراً

(12/83)


وباطناً مسلمين سواء كان المشهود عليه مسلماً أو ذمياً وجمهور العلماء على أنه يشترط أن يكونوا رجالاً أحراراً فلا تقبل فيه شهادة النساء ولا العبيد وبه يقول مالك والشافعي وأصحاب الرأي وشذ أبو ثور فقال تقبل شهادة العبيد وحكاه أبو الخطاب والشريف رواية في المذهب، وحكي عن حماد وعطاء أنهما قالا تجوز شهادة ثلاثة رجال وامرأتين لأنه نقص واحد من عدد الرجال فقام مقامه امرأتان كالأموال ولنا ظاهر الآية وأن العبد مختلف في شهادته فكان ذلك شبهة في الحد لأنه يندرئ بالشبهات
ولا يصح قياس هذا على الاموال لخفة حكمها وشدة الحاجة إلى إتيانها لكثرة وقوعها والاحتياط في حفظها ولهذا زيد في عدد شهود الزنا على شهود المال (مسألة) (وهل يثبت الإقرار بالزنا بشاهدين أو لا يثبت إلا بأربعة؟ على روايتين) وللشافعي قولان (أحدهما) يثبت بشاهدين قياس على سائر الاقاربر (والثاني) لا يثبت إلا بأربعة لأنه موجب لحد الزنا فأشبه فعله (فصل) (الثاني القصاص وسائر الحدود فلا يقبل فيه إلا رجلان حران) إلا ما روي عن عطاء وحماد أنهما قالا يقبل فيه رجل وامرأتان قياساً على الشهادة في الأموال ولنا أن هذا مما يحتاط لدرئه واسقا له ولهذا يندرئ بالشبهات ولا تدعو الحاجة إلى إثباته وفي شهادة النساء شسبهة بدليل قوله تعالى (أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى) وأن شهادتهن

(12/84)


لا تقبل وإن كثرت ما لم يكن معهن رجل فوجب أن لا تقبل شهادتهن فيه ولا ويصح قياس هذا على المال لما ذكرنا من الفرق وبهذا الذي ذكرناه قال سعيد بن المسيب والشعبي والنخعي وحماد والزهري وربيعة ومالك والشافعي وأبو عبيد وأبو ثور وأصحاب الرأي واتفق هؤلاء كلهم على أنه يثبت بشهادة رجلين ما خلا الزنا إلا الحسن فإنه قال الشهادة على القتل كالشهادة على الزنا لا يقبل فيها إلا أربعه، وروي ذلك عن أبي عبد الله لأنها شهادة يثبت بها القتل فلم تثبت إلا بأربعة كالشهادة على زنا المحصن.
ولنا أنه أحد نوعي القصاص فيقبل فيه اثنان كقطع الطرف وفارق الزنا فإنه مختص بهذا وليست العلة كونه قتلاً بدليل وجوب الأربعة في زنا البكر ولا قتل فيه ولأنه انفرد بإيجابه الحد على لرامي به والشهود إذا لم تكمل شهادتهم فلم يجز أن يلحق به ما ليس مثله (فصل) ولا تقبل الشهادة على القتل إلا مع زوال الشبهة في لفظ الشاهد نحو أن يقول ضربه فقتله وقد ذكرنا ذلك فإن كانت الشهادة بالجرح فقالا ضربه فأوضحه أو فاتضح منه أو فوجدناه موضحاً من الضربة قبلت شهادتهما فإن قالا ضربه فاتضح رأسه أو فوجدناه موضحاً أو فأسال دمه أو وجدنا
في رأسه موضحة لم يثبت الإيضاح لجواز أن يتضح عقيب ضربه بسبب آخر ولا بد من تعبير الموضحة في إيجاب القصاص لأنه إن كان في رأسه موضحتان فيحتاجان إلى بيان ما شهدا به منهما وإن كانت

(12/85)


واحدة فيحتمل أن يكون قد أوسعها غير المشهود عليه فيجب أن يعينها الشاهدان فيقولان هذه فإن قالا أوضحه في موضع كذا من رأسه موضحةً قدر مساحتها كذا وكذا قبلت شهادتهما وإن قالا لا نعلم قدرها أو مرضعها لم يحكم بالقصاص لأنه يتعذر مع الجهالة وتجب دية الموضحة لأنها لا تختلف باختلافها وإن قالا ضرب رأسه فأسال دمه في بازلة وإن قالا فسال دمه لم يثبت شئ لجواز أن يسيل دمه بسبب آخر وإن قالا نشهد أنه ضربه فقطع يده ولم يكن أقطع اليدين قبلت شهادتهما ويثبت القصاص لعدم الاشتباه وإن كان أقطع اليدين ولم يعينا المقطوعة لم يجب قصاص لأنهما لم يعينا اليد التي يجب فيها القصاص منهما وتجب دية اليد لأنها تختلف باختلاف الأيدي (فصل) فإن شهد أحدهما أنه أقر بقتله عمداً والأخر أنه أقر بقتله ولم يقل عمداً ولا خطأ ثبت القتل لأن البينة قد كملت عليه ولم تثبت صفته فنسأل المشهود عليه عن صفته فإن أنكر أصل القتل لم يقبل إنكاره لقيام البينة به وإن أقر بقتل العمد ثبت بإقراره وإن أقر بالخطأ فأنكر الولي فالقول قول القاتل وهل يستحلف على ذلك؟ يخرج فيه وجهان فإن صدقه الولي على الخطأ ثبت عليه وإن أقر بقتل العمد وكذبه الولي وقال بل كان خطأ لم يجب القود لأن الولي لا يدعيه وتجب دية الخطأ ولا تحملها العاقلة في هذه المواضع كلها ولا شيئاً منها وتكون في ماله لأنها لم تثبت ببينة وفي بعضها القاتل مقر بانها في ماله دون مال عاقلته وإن شهد أحدهما أنه قتله عمداً وشهد الآخر أنه قتله خطأ ثبت القتل

(12/86)


دون صفته ويطالب ببيان صفته على ما ذكرنا لأن الفعل قد يعتقده أحدهما خطأ والآخر عمداً ويكون الحكم كما لو شهد أحدهما أنه أقر بقتله خطأ.
أن المشهود عليه يسأل على ما ذكرنا في أول الفصل فإن شهد أحدهما أنه قتله غدوة والآخر أنه قتله عشية أو شهد أحدهما أنه قتله بسيف وقال الآخر بعصا لم تتم الشهادة ذكره القاضي لأن كل واحد منهما يخالف صاحبه ويكذبه، وهو مذهب الشافعي
وقال أبو بكر يثبت القتل لاتفاقهما عليه واختلافهما في الصفة فيثبت القتل كما لو شهد أحدهما بقتل العمد والآخر بقتل الخطأ والأول أصح لأن القتل غدوة غير السيف عشية ولا يتصور أن يقتل غدوة ثم يقتل عشاء ولا أن يقتل بسيف ثم يقتل بعصا بخلاف الخطأ والعمد فإن الفعل واحد والخلاف في نيته وقصده وقد يخفى ذلك على أحدهما دون الآخر فإن شهد أحدهما أنه قتله وشهد الآخر أنه أقر بقتله ثبت القتل نص عليه أحمد واختاره أبو بكر واختار القاضي أنه لا يثبت وهو مذهب الشافعي لأن أحدهما شهد بغير ما شهد به الآخر فلم تتفق شهادتهما على فعل واحد ولنا أن الذي أقر به هو القتل الذي شهد به الشاهد فلا تنافي بينهما فيثبت بشهادتهما كما لو شهد أحدهما بالقتل عمداً وشهد الآخر بالقتل خطأ أو كما لو شهد أحدهما أن له عليه ألفاً وشهد الآخر أنه أقر له بألف.
(فصل) إذا قتل رجل عمداً قتلاً يوجب القصاص فشهد أحد الورثة على واحد منهم أنه عفى

(12/87)


عن القصاص سقط القود سواء كان الشاهد عدلاً أو فاسقاً لأن شهادته تضمنت سقوط حقه من القصاص وقوله مقبول في ذلك فإن أحد الوليين إذا عفا عن حقه سقط القصاص كله ويشبه هذا ما لو كان عبد بين شريكين فشهد أحدهما أن شريكه أعنق نصيبه وهو موسر عتق نصيب الشاهد.
وإن انكره الآخر فإن كان الشاهد شهد بالعفو عن القصاص والمال لم يسقط المال لأن الشاهد اعترف أن نصيبه سقط بغير اختياره فأما نصيب المشهود عليه فإن كان الشاهد ممن لا تقبل شهادته فالقول قول المشهود عليه مع يمينه إذا حلف ثبتت حصته من الدية وإن كان مقبول القول حلف الجاني معه وسقط حق المشهود عليه ويحلف الجاني أنه عفا عن الدية ولا يحتاج إلى ذكر العفو عن القصاص لأنه قد سقط بشهادة الشاهد فلا يحتاج إلى ذكره في اليمين لأنه إنما حلف على ما يدعى عليه ولا يدعى عليه غير الدية (فصل) إذا جرح رجل فشهد له رجلان من ورثته غير الوالدين والمولودين وكانت الجراج مندملة قبلت شهادتهما لانها.
يجران إلى أنفسهما نفعاً وإن كانت غير مندملة لم يحكم بشهادتهما
وقد ذكرناه وإن شهد وارث المريض له بمال ففي قبول شهاداتهم وجهان (أظهرهما) قبولها كما لو شهدا له وهو صحيح (والثاني) لا تقبل لأنه متى ثبت المال للمريض تعلق حق ورثته به ولهذا لا ينفذ تبرعه فيه فيما

(12/88)


زاد على الثلث وإن شهد لمجروح بالجرح من لا يرثه لكونه محجوباً كالاخوين يشهد ان لأخيهما وله ابن سمعت شهادتهما فإن مات ابنه نظرت فإن كان الحاكم حكم بشهادتهما لم ينقض حكمه لأن ما يطرأ بعد الحكم بالشهادة لا يؤثر فيها كالفسق، وإن كان ذلك قبل الحكم بالشهادة لم يحكم بها لأنهما صارا مستحقين فلا يحكم بشهادتهما كما لو فسق الشاهدان قبل الحكم بشهادتهما، وإن شهد على رجل بالجرح الموجب للدية على العاقلة فشهد بعض عاقلة المشهود عليه بجرح الشهود لم تقبل شهادته وإن كان فقيراً لأنه قد يكون ذا مال وقت العقل فيكون دافعاً عن نفسه ويحتمل أن تقبل لأنهما لا يحملان شيئاً من الدية وإن كان الجرح مما لا تحمله العاقلة كجراحة العمد سمعت شهادتهما لأنهما لا يدفعان عن أنفسهما ضرراً، وإن كان الشاهدان شهدا على إقراره بالجرح قبلت لأن العاقلة لا تحمل الاعتراف وإن كانت شهادتهما بجرح عقله دون ثلث الدية خطأ وكانت شهادتهما بالجرح قبل الاندمال لم تقبل لأنها ربما صارت نفساً فتحملها وإن كان بعده قبلت لأنها لا تحمل ما دون ذلك (فصل) وإذا شهد رجلان على رجلين أنهما قتلا رجلاً ثم شهد المشهود عليهما على الأولين أنهما اللذان قتلاه فصدق الولي الأولين وكذب الآخرين وجب القتل عليهما لأن الولي يكذبهما وهما يدفعان بشهادتهما عن أنفسهما ضرراً وإن صدق الجميع بطلت شهادتهم أيضاً لأنه بتصديق

(12/89)


الأولين مكذب للآخرين وتصديقه الآخرين تكذيب للأولين وهما متهمان لما ذكرناه فإن قيل فكيف تتصور هذه المسألة والشهاة إنما تكون بعد الدعوى فكيف يتصور فرض تصديقهم وتكذيبهم؟ قلنا يتصور أن يشهدا قبل الدعوى إذا لم يعلم الولي من قتله ولهذا روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (خير الشهداء الذي يأتي بشهادته قبل أن يسألها) وهذا معنى ذلك
(فصل) الثالث ما ليس بمال ولا يقصد به المال ويطلع عليه الرجال في غالب الأحوال غير الحدود والقصاص كالنكاح والطلاق والرجعة والنسب والعتق والولاء والوكالة في غير المال والوصية إليه وما أشبه ذلك فلا يقبل فيه إلا رجلان وعنه في الرجعة والنكاح والعتق أنه يقبل فيه شهادة رجل وامرأتين وعنه في العتق أنه يقبل فيه شاهد ويمين المدعي وقال القاضي النكاح وحقوقه من الطلاق والخلع والرجعة لا يثبت إلا بشاهدين رواية واحدة والوكالة والوصية والكتابة ونحوها تخرج على روايتين) وجملة ذلك أن ما ليس بعقوبة ولا يقصد به المال كالنكاح والرجعة والطلاق والعتاق والإيلاء والظهار والنسب والتوكيل والوصية إليه والولاء والكتابة وأشباه هذا فقال القاضي المعول عليه في المذهب أن هذا لا يثبت إلا بشاهدين ذكرين ولا تقبل فيه شهادة النساء بحال وقد نص أحمد في رواية الجماعة على أنه لا تجوز شهادة النساء في النكاح والطلاق وقد نقل عن أحمد في الوكالة إن كانت بمطالبة دين يعني يقبل فيها شهادة رجل وامرأتين فأما غير ذلك فلا ووجه ذلك أن الوكالة

(12/90)


في اقتضاء الدين يقصد منها المال فيقبل فيها شهادة رجل وامرأتين كالحوالة قال القاضي فيخرج من هذا أن النكاح وحقوقه من الرجعة وشبهها لا تقبل فيها شهادة النساء رواية واحدة وما عداه يخرج على روايتين وقال أبو الخطاب في النكاح والعتاق أيضاً روايتان (أحدهما) لا يقبل فيه إلا شهادة رجلين وهو قول النخعي والزهري ومالك وأهل المدينة والشافعي وبه قال سعيد بن المسيب والحسن وربيعة في الطلاق (والثانية) تقبل فيه شهادة رجل وامرأتين روي ذلك عن جابر بن زيد وأياس بن معاوية والشعبي والثوري واسحاق وأصحاب الرأي وروي ذلك في النكاح عن عطاء واحتجوا بأنه لا يسقط بالشبهة فيثبت يرجل وامرأتين كالمال ولنا أنه ليس بمال ولا يقصد به المال ويطلع عليه الرجال فلم يكن للنساء في شهادته مدخل كالحدود والقصاص وما ذكروه لا يصح فإن الشبهة لا مدخل لها في النكاح وإن تصور بان تكون المرأة مرتابة بالحمل لم يصح النكاح
(فصل) وقد نقل عن أحمد في الإعسار ما يدل على أنه لا يثبت إلا بثلاثة لحديث قبيصة بن مخارق وفيه (حتى يشهد ثلاثة من ذوي الحجى من قومه لقد أصابت فلاناً فاقة) قال أحمد هكذا جاء الحديث

(12/91)


فظاهر هذا أنه أخذ به وروي عنه لا يقبل أنه وصى حتى يشهد له رجلان أو رجل عدل فظاهر هذا أنه أثبت الوصية بشهادة النساء على الانفراد إذا لم يحضره الرجال قال القاضي المذهب في هذا كله لا يثبت إلا بشاهدين وحديث قبيصة في حل المسألة لا في الإعسار (فصل) ولا يثبت شئ مما ذكرنا بشاهد ويمين المدعي لأنه إذا لم يثبت بشهادة رجل وامرأتين فلأن لا يثبت بشاهد واحد ويمين أولى قال أحمد ومالك في الشاهد واليمين إنما يكون ذلك في الأموال خاصة لا يقع في حد ولا نكاح ولا طلاق ولا عتاقة ولا سرقة ولا قتل وعن أحمد في العتق أنه يثبت بشاهد ويمين العبد ذكره الخرقي فقال إذا ادعى العبد أن سيده أعتقه وأتى بشاهد حلف مع شاهده وصار حراً ونص عليه أحمد وقال في الشريكين في عبد إدعى كل واحد منهما أن شريكه أعتق حقه منه وكانا معسرين عدلين فللعبد أن يحلف مع كل واحد منهما ويصير حراً أو يحلف مع أحدهما ويصير نصفه حراً فيخرج مثل هذا في الكتاب والولاء والوصية والوديعة والوكالة فيكون في الجميع روايتان ما خلا العقوبات البدنية والنكاح وحقوقه فإنه لا يثبت بشاهد ويمين قولاً واحداً قال القاضي: المعمول عليه في جميع ما ذكرناه أنه لا يثبت إلا بشاهدين وهو قول الشافعي وقد روى الدارقطني بإسناده عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (استشرت جبريل في القضاء باليمين مع الشاهد فأشار علي في الأموال لا تعدو ذلك) وقال عمرو بن دينار عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم نه قضى بالشاهد واليمين، قال نعم في الأموال، وتفسير الراوي أولى من تفسير غيره ورواه الإمام أحمد بإسناده وغيره

(12/92)


(فصل) الرابع المال وما يقصد به المال كالبيع والرهن والقرض والوصية له وجناية الخطأ يقبل فيه شهادة رجل وامرأتين وشاهد ويمين المدعي وهل يقبل في جناية العمد الموجبة للمال دون القصاص كالهاشمة والمنقلة شهادة رجل وامرأتين؟ على روايتين)
وجملة ذلك أن المال كالقرض والرهون والديون كلها وما يقصد به المال كالبيع والوقف والإجارة والهبة والصلح والمساقاة والمصاربة والشركة والوصية له والجناية الموجبة للمال كالخطأ وعمد الخطأ والعمد الموجب للمال دون القصاص كالجائفة وما دون الموضحة من الشجاج يثبت بشهادة رجل وامرأتين، وقال أبو بكر لا تثبت الجناية في البدن بشهادة رجل وامرأتين لأنها جناية فأشبهت ما يوجب القصاص والأول أصح لأن موجبها المال فأشبهت البيع وفارق ما يوجب القصاص، لأن القصاص لا تقبل فيه شهادة النساء كذلك ما يوجبه والمال يثبت بشهادة النساء فكذلك ما يوجبه ولا خلاف في أن المال يثبت بشهادة النساء مع الرجال، وقد نص الله تعالى على ذلك في كتابه العزيز بقوله سبحانه (واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان) وأجمع أهل العلم على القول به.
(فصل) وأكثر أهل العلم يرون ثبوت المال لمدعيه بشاهد ويمين، روي ذلك عن أبي بكر وعثمان وعلي رضي الله عنهم، وبه قال الفقهاء السبعة وعمر بن عبد العزيز وشريح والحسن وإياس

(12/93)


وعبد الله بن عتبة وأبو سلمة بن عبد الرحمن ويحيى بن يعمر وربيعة ومالك وابن أبي ليلى وأبو الزناد والشافعي وقال الشعبي والنخعي وأصحاب الرأي والاوزاعي لا يقضى بشاهد ويمين وقال محمد بن الحسن من قضى بالشاهد واليمين نقضت حكمه لأن الله تعالى قال (واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان) فمن زاد في ذلك فقد زاد في النص والزيادة في النص نسخ، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال (البينة على المدعي واليمين على من أنكر) فحصر اليمين في جانب المدعى عليه كما حصر البينة في جانب المدعى.
ولنا ما روى سهيل عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم باليمين مع الشاهد الواحد، رواه سعيد بن منصور في سننه والأئمة من أهل السنن والمسانيد، قال الترمذي هذا حديث غريب وفي الباب عن علي وابن عباس وجابر وقال النسائي إسناد ابن عباس في اليمين مع الشاهد إسناد جيد ولأن اليمين تشرع فيمن ظهر صدقه وقوي جانبه ولذلك شرعت في حق
صاحب اليد لقوة جنبته بها وفي حق المنكر لقوة جنبته فإن الأصل براءة ذمته والمدعي ههنا قد ظهر صدقه فوجب أن تشرع) اليمين في حقه ولا حجة لهم في الآية لأنها دلت على مشروعية الشاهد والمرأتين ولا نزاع في هذا وقولهم أن الزيادة في النص نسخ غير صحيح لأن النسخ الرفع والإزالة والزيادة في الشئ تقرير له لا رفع والحكم بالشاهد واليمين لا يمنع الحكم بالشاهدين ولا يرفعه

(12/94)


ولأن الزيادة لو كانت متصلة بالمزيد عليه لم ترفعه ولم تكن نسخاً فكذلك إذا انفصلت عنه ولأن الآية واردة في التحمل دون الأداء ولهذا قال (أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى) والنزاع في الأداء وحديثهم ضعيف وليس هو للحصر بدليل أن اليمين تشرع في حق المودع إذا ادعى رد الوديعة وتلفها في حق الأمناء لظهور جانبهم وفي حق الاعن وفي القسامة وتشرع في حق البائع والمشتري إذا اختلفا في الثمن والسلعة قائمة وقول محمد في نقض قضاء من قضى بالشاهد واليمين يتضمن القول بنقض قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم والخلفاء الذين قضوا به وقد قال الله تعالى (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما) والقضاء بما قضى به رسول الله صلى الله عليه وسلم محمد بن عبد الله أولى من قضاء محمد بن الحسن المخالف له.
(فصل) قال القاضي يجوز أن يحلف على ما لا تجوز الشهادة عليه مثل أن يجد بخطه ديناً له على إنسان وهو يعرف أنه لا يكتب إلا حقاً ولم يذكره أو يجد رزمانج أبيه بخطه ديناً له على إنسان ويعرف من أبيه الأمانة وأنه لا يكتب إلا حقاً فله أن يحلف عليه ولا يجوز أن يشهد به ولو أخبره بحق أبيه ثقة فسكن إليه جاز أن يحلف عليه ولم يجز أن يشهد به، وبهذا قال الشافعي والفرق بين اليمين والشهادة من وجهين.
(أحدهما) أن الشهادة لغيره فيحتمل أن من له الشهادة قد زور على خطه ولا يحتمل هذا فيما حلف عليه لأن الحق إنما هو للحالف فلا يزور أحد عليه.

(12/95)


(الثاني) أن ما يكتبه الإنسان من حقوقه يكثر فينسى بعضه بخلاف الشهادة والأولى التورع
عن ذلك إن شاء الله تعالى.
(فصل) وكل موضع قبل فيه الشاهد واليمين فلا فرق بين كون المدعي مسلماً أو كافراً عدلاً أو فاسقاً رجلاً أو امرأة، نص عليه أحمد لأن من شرعت في حقه اليمين لا يختلف حكمه باختلاف هذه الأوصاف كالمنكر إذا لم تكن بينة.
(فصل) قال أحمد مضت السنة أن يقضى باليمين مع الشاهد الواحد فإن أبى أن يحلف استحلف المطلوب، وهذا قول مالك والشافعي وروى عن أحمد: فإن أبى المطلوب أن يحلف ثبت الحق عليه.
(فصل) ولا تقبل شهادة امرأتين ويمين المدعي وبه قال الشافعي، وقال مالك يقبل ذلك في الأموال لأنهما في الأموال أقيمتا مقام الرجل فيحلف معهما كما يحلف مع الرجل ويحتمل لنا مثل ذلك.
ولنا أن البينة على المال إذا خلت من رجل لم تقبل كما لو شهد أربعة نسوة وما ذكروه يبطل بهذه الصورة فإنهما لو أقيمتا مقام رجل من كل وجه لكفى أربع نسوة مقام رجلين ولقبل في غير الأموال شهادة رجل وامرأتين، لأن شهادة المرأتين ضعيفة تقوت بالرجل واليمين ضعيفة فيضم ضعيف إلى ضعيف فلا يقبل.

(12/96)


(فصل) ولا يشترط أن يقول في يمينه وإن شاهدي صادق في شهادته وقيل يشترط وهل تقبل شهادة رجل وامرأتين وشاهد ويمين في دعوى قتل الكافر لاستحقاق سلبه ودعوى الأسير إسلاماً سابقاً لمنع رقه؟ على روايتين من المحرر (الخامس) مالا يطلع عليه الرجال كعيوب النساء تحت الثياب والرضاع والاستهلال والبكارة والثيوبة والحيض ونحوه فيقبل فيها شهادة امرأة واحدة وعنه لا يقبل فيها أقل من امرأتين وإن شهد به لرجل كان أولى بثبوته ولا نعلم بين أهل العلم خلافاً في قبول شهادة النساء المنفردات في الجملة، قال القاضي والذي تقبل فيه شهادتهن منفردات خمسة أشياء الولادة والاستهلال والرضاع والعيوب تحت الثياب كالرتق والقرن والبكارة والثيابة والبرص وانقضاء العدة وعن أبي حنيفة لا تقبل شهادتهن منفردات على الرضاع لأنه يجوز أن يطلع عليه محارم المرأة من الرجال فلم يثبت بالنساء منفردات كالنكاح.
ولنا ما روى عقبة بن الحارث قال تزوجت أم يحيى بنت أبي أهاب فأتت أمة سوداء فقالت قد أرضعتكما فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فأعرض عني ثم أتيته فقلت يارسول الله إنها كاذبة فقال (وكيف وقد زعمت ذلك؟) ولأنها شهادة على عورة للنساء فيها مدخل فقبل فيها شهادة النساء كالولادة ويخالف عقد النكاح فإنه ليس بعورة وحكي عن أبي حنيفة أيضاً أن شهادة النساء المنفردات لا تقبل في الاستهلال لأنها تكون بعد الولادة وخالفه صاحباه وأكثر أهل العلم لانها تكون حال الولادة

(12/97)


فيتعذر حضور الرجال فأشبهت الولادة نفسها وقد روي عن علي أنه أجاز شهادة القابلة وحدها في الاستهلال رواه الإمام أحمد وسعيد بن منصور من حديث جابر الجعفي وأجازه شريح والحسن والحارث العكلي وحماد فإذا ثبت هذا فكل موضع قلنا تقبل فيه شهادة النساء المنفردات فإنه يقبل فيه شهادة المرأة الواحدة، وقال طاوس تجوز شهادة المرأة في الرضاع وإن كانت سوداء، وعن أحمد رواية أخرى لا يقبل فيه إلا امرأتان وهو قول الحكم وابن أبي ليلى وابن شبرمة وإليه ذهب مالك والثوري لأن كل جنس يثبت به الحق يكفي فيه اثنان كالرجال ولأن الرجال أكمل منهن ولا يقبل منهن إلا إثنان وقال عثمان يكفي ثلاث لأن كل موضع قبل فيه النساء كان العدد ثلاثة كما لو كان معهن رجل وقال أبو حنيفة تقبل شهادة المرأة الواحدة في ولادة الزوجات دون ولادة المطلقة، وقال عطاء الشعبي وقتادة لا يقبل فيها إلا أربع لأنها شهادة من شرطها الحرية فلم تقبل فيها الواحدة كسائر الشهادات، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال (شهادة امرأتين بشهادة رجل) ولنا حديث عقبة بن الحارث الذي ذكرناه وروى حذيفة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (يجزي في الرضاع شهادة امرأة واحدة) ولأنه معنى يثبت بقول النساء المنفردات فلا يشترط فيه العدد كالرواية وأخبار الديانات، وما ذكره الشافعي من اشتراط الحرية غير مسلم، وقول النبي صلى الله عليه وسلم (شهادة امرأتين بشهادة رجل) في الموضع الذي تشهد فيه مع الرجل فإن شهد الرجل بذلك قبل وحده وهو قول

(12/98)


أبي الخطاب لأنه أكمل من المرأة فإذا اكتفي بها وحدها فلأن يكتفى به أولى ولأن ما قبل فيه قول
المرأة الواحدة قبل فيه قول الرجل كالرواية (فصل) قال رحمه الله (وإذا شهد بقتل العمد رجل وامرأتان لم يثبت قصاص ولا دية، وإن شهدوا بالسرقة ثبت المال دون القطع) لأن السرقة توجب القطع والمال فإذا قصرت عن أحدهما أثبتت الآخر.
والقتل يوجب القصاص والمال بدل منه فإذا لم يثبت الأصل لم يجب بدله، وإن قلنا موجبه أحد شيئين لم يتعين أحدهما إلا بالاختيار فلو أوجبنا الدية وحدها أوجبنا معيناً، وقال ابن أبي موسى لا يجب المال فيما إذا شهدوا بالسرقة ولأنها شهادة لا توجب الحد وهو أحد موجبها فإذا بطلت في أحدهما بطلت في الآخر (مسألة) (وإذا ادعى رجل الخلع قبل فيه رجل وامرأتان أو شاهد ويمين المدعي) لأنه يدعي المال الذي خالعت به وإن ادعته المرأة لم يقبل فيه إلا رجلان لأنها لا تقصد منه إلا الفسخ وخلاصها من الزوج ولا يثبت ذلك بهذه البينة فأما إن اختلفا في عوض الخلع خاصة ثبت برجل وامرأتين وكذلك إن اختلفا في الصداق لأنه مال (فصل) وإن ادعى رجل أنه ضرب أخاه بسهم عمداً فقتله ونفذ إلى أخيه الآخر فقتله خطأ وأقام بذلك شاهداً وامرأتين أو شاهداً وحلف معه ثبت قتل الثاني لأنه خطأ موجبه المال ولم يثبت

(12/99)


قتل الأول لأنه عمد موجبه القصاص فهما كالجنايتين المفترقتين وعلى قول أبي بكر لا يثبت منهما شئ لأن الجناية عنده لا تثبت إلا بشاهدين سواء كان موجبها المال أو غيره، ولو ادعى رجل على آخر أنه سرق منه وغصبه مالاً فحلف بالطلاق والعتاق ما سرق منه ولا غصبه، وأقام المدعي شاهداً أو امرأتين شهدا بالسرقة والغصب، أو شاهداً وحلف معه استحق المسروق والغصوب لأنه أتى ببينة يثبت ذلك بمثلها ولم يثبت طلاق ولا عتق لأن هذه البينة جحد في المال دون الطلاق والعتاق وظاهر مذهب الشافعي (مسألة) (وإذا شهد رجل وامرأتان لرجل بجارية أنها أم ولده ولدها منه قضي له بالجارية أم الولد وهل تثبت حرية الولد ونسبه من مدعيه؟ على روايتين)
أما الجارية فنحكم له بها لأن أم الولد مملوكة له ولهذا يملك وطأها وإجارتها وإعارتها وتزويجها ويثبت لها حكم الاستيلاد بإقراره لان إقراره ينفذ في ملكه ولذلك يثبت بالشاهد والمرأتين والشاهد واليمين.
ولا نحكم له بالولد لأنه يدعي نسبه والنسب لا يثبت بذلك ويدعي حريته أيضاً فعلى هذا نقول الولد في يد المنكر مملوكاً له وهذا أحد قولي الشافعي، وقال في الآخر يأخذها وولدها ويكون ابنه لأن من يثبت له العين ثبتت له نماؤها والولد نماؤها وذكر فيها أبو الخطاب عن أحمد روايتين كقول الشافعي

(12/100)


ولنا أنه لم يدع الولد ملكا وإنما يدعي حريته ونسبه، وهذان لا يثبتان بهذه البينة فيبقيان على ما كانا عليه (فصل) فإن ادعى أنها كانت ملكه فأعتقها لم يثبت ذلك بشاهد وامرأتين لأن البينة شهدت بملك قديم فلم يثبت والحرية لا تثبت إلا برجل وامرأتين ويحتمل أن تثبت كالتي قبلها (باب الشهادة على الشهادة والرجوع عن الشهادة) (تقبل الشهادة على الشهادة فيما يقبل فيه كتاب القاضي وترد فيما يرد فيه) الكلام في هذه المسألة في فصول ثلاثة (أحدها) جوازها (والثاني) في موضعها (والثالث) في شرطها.
أما الأول فإن الشهادة على الشهادة جائزة بإجماع العلماء وبه يقول مالك والشافعي وأصحاب الرأي.
قال أبو عبيد اجتمعت العلماء من أهل الحجاز والعراق على إمضاء الشهادة على الشهادة في الأموال، ولأن الحاجة داعية إليها فإنها لو لم تقبل لبطلت الشهادة على الموقوف وما يتأخر إثباته عند الحاكم ثم يموت شهوده، وفي ذلك ضرر على الناس ومشقة شديدة فوجب أن تقبل كشهادة الأصل

(12/101)


(الفصل الثاني) أنها تقبل في المال وما يقصد به المال كما ذكر أبو عبيد ولا تقبل في حد وهذا قول الشعبي والنخعي وأبي حنيفة وقال مالك والشافعي في قول وابو ثور تقبل في الحدود وفي كل حق لأن ذلك يثبت بشهادة الأصل فيثبت بالشهادة على الشهادة كالمال
ولنا أن الحدود مبنية على الستر والدرء بالشبهات والإسقاط بالرجوع عن الإقرار والشهادة على الشهادة فيها شبهة فإنها يتطرق إليها احتمال الغلط والسهو والكذب في شهود الفرع مع احتمال ذلك في شهود الأصل وهذا احتمال زائد لا يوجد في شهود الأصل وهو معتبر بدليل أنها لا تقبل مع القدرة على شهود الأصل فوجب أن لا تقبل فيما يندرئ بالشبهات ولأنها إنما تقبل للحاجة ولا حاجة إليها في الحد لأن ستر صاحبه أولى من الشهادة عليه ولأنه لا نص فيها ولا يصح قياسها على شهادة الأصل لما ذكرنا فيبطل إثباتها، وظاهر كلام أحمد أنها لا تقبل في القصاص أيضاً ولا حد القذف لأنه قال إنما يجوز في الحقوق.
أما الدماء والحد فلا وهذا قول أبي حنيفة وقال مالك والشافعي يقبل وهو ظاهر كلام الخرقي لقوله في كل شئ إلا في الحدود ولأنه حق آدمي لا يسقط بالرجوع عن الإقرار به ولا يستحب ستره فأشبه الأموال وذكر أصحابنا هذا رواية في الطلاق وليس هذا برواية فإن الطلاق لا يشبه القصاص والمذهب أنها لا تقبل فيه لأنه عقوبة فيه تدرأ بالشبهات وتبنى على الإسقاط فأشبهت الحدود فأما ما عدا الحدود والقصاص والأموال كالنكاح والطلاق وسائر ما لا يثبت إلا

(12/102)


بشاهدين فنص أحمد على قبولها في الطلاق والحقوق فدل على قبولها في جميع هذه الحقوق وهذا قول الخرقي، وقال ابن حامد لا تقبل في النكاح ونحوه قول أبي بكر فعلى قولهما لا تقبل إلا في المال وما يقصد به المال وهو قول أبي عبيد لأنه حق لا يثبت إلا بشاهدين فأشبه حد القذف ووجه الأول أنه حق لا يدرأ بالشبهات فيثبت بالشهادة على الشهادة كالمال وبهذا فارق الحدود (الفصل الثالث) في شروطها وهي ثلاثة (أحدها) أن تتعذر شهادة شهود الأصل بموت أو مرض أو غيبة إلى مسافة القصر وعنه لا تقبل إلا أن يموت شاهد الأصل هذا أحد الشروط وهو تعذر شهادة الأصل لموت أو غيبة أو مرض أو حبس أو خوف من سلطان أو غيره، وبهذا قال مالك وأبو حنيفة والشافعي وحكي عن أبي يوسف ومحمد جوازها مع القدرة على شهادة الأصل قياساً على الرواية وأخبار الديانات وروي عن الشعبي أنها لا تقبل إلا أن يموت شاهد الأصل لأنهما إذا كانا حيين رجي حضورهما فكانا كالحاضرين وعن أحمد مثل ذلك إلا أن القاضي تأوله
على الموت وما في معناه من الغيبة البعيدة ونحوها ويمكن تأويل قول الشعبي على هذا فيزول هذا الخلاف ولنا على اشتراط تعذر شاهد الأصل أنه إذا أمكن الحاكم أن يسمع شهادة شاهدي الأصل يستغني عن البحث عن عدالة شاهدي الفرع وكان أحوط للشهادة فإن سماعه منهما معلوم وصدق شاهدي الفرع عليهما مظنون والعمل باليمين مع إمكانه أولى من اتباع الظن ولأن شهادة الأصل

(12/103)


تثبت نفس الحق وهذا إنما تثبت الشهادة عليه ولأن في شهادة الفرع ضعفاً لأنه يتطرق إليها احتمالان احتمال غلط شاهدي الفرع فيكون ذلك وهنا فيها ولذلك لم ينتهض لإثبات الحدود والقصاص فينبغي أن لا يثبت إلا عند عدم شهادة الأصل كسائر الأبدال ولا يصح قياسها على أخبار الديانات لأنه خفف فيها وكذلك لا يعتير فيها العدد ولا الذكورية ولا الحرية ولا اللفظ والحاجة داعية إليها في حق عموم الناس بخلاف مسئلتنا.
ولنا على قبولها عند تعذرها بغير الموت أنه قد تعذرت شهادة الأصل فتقبل شهادة الفرع كما لو مات شاهد الأصل ويخالف الحاضرين فإن سماع شهادتهما ممكن فلم يجز غير ذلك.
إذا ثبت هذا فذكر القاضي أن الغيبة المشروطة لسماع شهاد الفرع أن يكون شاهد الأصل بموضع لا يمكن أن يشهد ثم يرجع من يومه وهذا قاله أبو يوسف وأبو حامد من أصحاب الشافعي لأن الشاهد تشق عليه المطالبة بمثل هذا السفر.
وقد قال تعالى (ولا يضار كاتب ولا شهيد) وإذا لم يكلف الحضور تعذر سماع شهادته فاحتيج إلى سماع شهادة الفرع وقال أبو الخطاب تعتبر مسافة القصر.
وهو قول أبي حنيفة وأبي الطيب الطبري مع اختلافهم في مسافة القصر كل على أصله لأن ما دون ذلك في حكم الحاضر في الترخص وغيره بخلاف مسافة القصر ويعتبر دوام هذا الشرط إلى الحكم وسنذكره إن شاء الله تعالى

(12/104)


(مسألة) (ولا يجوز لشاهد الفرع أن يشهد حتى يسترعيه شاهد الأصل فيقول أشهد على شهادتي أني أشهد أن فلان بن فلان وقد عرفته بعينه واسمه ونسبه أقر عندي أو أشهدني على نفسه
طوعاً بكذا أو شهدت عليه أو أقر عندي بكذا، وإن سمعه يقول أشهد على فلان بكذا لم يجز أن يشهد إلا أن يسمعه يشهد عند الحاكم أو يشهد بحق يعزيه إلى سبب من بيع أو إجارة أو قرض فهل يشهد؟ به على وجهين) يشترط لجواز شهادة الفرع أن يسترعيه على ما ذكرنا فإن سمع شاهداً يسترعي آخر شهادة يشهد عليها جاز لهذا السامع أن يشهد بها لحصول الاسترعاء ويحتمل أن لا يجوز له أن يشهد إلا أن يسترعيه بعينه وهو قول أبي حنيفة قال أحمد لا تكون شهادة إلا أن يكون يشهدك فأما إن سمعه يتحدث فإنما ذلك حديث وبما ذكرناه قال الشافعي وأصحاب الرأي وأبو عبيد فأما إن سمع شاهداً يشهد عند الحاكم بحق أو سمعه يشهد بحق يعزيه إلى سبب نحو أن يقول أشهد أن لفلان على فلان ألفاً من ثمن سبيع فهل يشهد به؟ فيه روايتان ذكرهما أبو الخطاب، وذكر القاضي أن له الشهادة وهو مذهب الشافعي لأنه بالشهادة عند الحاكم ونسبة الحق إلى سببه يزول الاحتمال ويرتفع الاشكال فتجوز له الشهادة على شهادته كما

(12/105)


لو استرعاه والرواية الأخرى لا يجوز له أن يشهد على شهادته وهو قول أبي حنيفة وأبي عبيد لأن الشهادة فيها معنى النيابة فلا ينوب عنه إلا بإذنه ومن نصر الأول قال هذا ينقل شهادته ولا ينوب عنه لأنه لا يشهد مثل شهادته إنما شهد على شهادته، فأما إن قال أشهد أني أشهد على فلان بكذا فالأشبه أنه يجوز أن يشهد على شهادته وهو قول أبي يوسف لأن معنى ذلك أشهد على شهادتي أني أشهد لأنه إذا قال اشهد فقد أمره بالشهادة ولم يسترعه وما عدا هذه المواضع لا يجوز أن يشهد فيها على الشهادة فإذا سمعه يقول أشهد أن لفلان على فلان ألف درهم لم يجز أن يشهد على شهادته لأنه لم يسترعه الشهادة فيحتمل أن يكون وعده بها وقد يوصف الوعد بالوجوب مجازاً فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال (العدة دين) ويحتمل أن يريد بالشهادة العلم فلم يجز لسامعه الشهادة به، فإن قيل فلو سمع رجلاً يقول لفلان على فلان ألف درهم جاز أن يشهد بذلك فكذا هذا قلنا الفرق بينهما من وجهين: (أحدهما) أن الشهادة تحتمل العلم ولا يحتمل الإقرار ذلك (الثاني) أن الاقرار اوسع في لزومه من الشهادة بدليل صحته في المجهول وأنه لا يراعى فيه العدد بخلاف الشهادة ولأن الإقرار قول
الإنسان على نفسه وهو غير متهم عليها فيكون أقوى منها ولهذا لا تسمع الشهادة في حق المقر ولا يحكم بها ولو قال شاهد الأصل أنا أشهد أن لفلان على فلان ألفاً فاشهد به أنت عليه لم يجز أن يشهد على

(12/106)


شهادته لأنه ما استرعاه شهادته فيشهد عليها ولا هو شاهد بالحق لأنه ما سمع الاعتراف به ممن هو عليه ولا شاهد سببه.
(فصل) فأما كيفية الأداء إذا كان قد استرعاه الشهادة فإنه يقول أشهد أن فلان بن فلان وقد عرفته بعينه واسمه ونسبه وعدالته أشهدني أنه يشهد أن لفلان بن فلان كذا أو أن فلاناً أقر عندي بكذا وإن لم يعرف عدالته لم يذكرها وإن سمعه يشهد غيره قال أشهد أن فلان بن فلان أشهد على شهادته أن لفلان بن فلان على فلان بن فلان كذا وكذا، وإن كان سمعه يشهد عند الحاكم قال أشهد أن فلان بن فلان شهد على فلان بن فلان عند الحاكم بكذا، وإن كان نسب الحق إلى سببه قال أشهد أن فلان بن فلان قال أشهد أن لفلان بن فلان على فلان بن فلان كذا وكذا من جهة كذا وكذا وإذا أراد الحاكم أن يكتب ذلك كتبه على ما ذكرناه (فصل) ويشترط أن يعينا شاهدي الأصل على ما ذكرنا ويسمياهما.
وقال ابن جرير إذا قالا ذكرين حرين عدلين جازوان لم يسميا لأن الغرض معرفة الصفات دون العين وليس بصحيح لجواز أن يكونا عدلين عندهما وهما مجروحان عند غيرهما ولأن المشهود عليه ربما أمكنه جرح الشهود فإذا لم يعرف أعيانهما تعذر عليه ذلك.

(12/107)


(مسألة) (وتثبت شهادة شاهدي الأصل بشهادة شاهدين يشهدان عليهما سواء شهدوا على كل واحد منهما أو شهد على كل واحد منهما شاهد من شهود الفرع وقال أبو عبد الله بن بطة لا يثبت حتى يشهد أربعة على كل شاهد أصل شاهدا فرع) .
وجملة ذلك أنه يجوز أن يشهد على كل واحد من شاهدي الأصل شاهد فرع فيشهد شاهدا فرع على شاهدي أصل، قال القاضي لا يختلف كلام أحمد في هذا.
وهو قول شريح والشعبي والحسن وابن
شبرمة وابن أبي ليلى والثوري واسحاق والبتي والعنبري وقال اسحاق لم يزل أهل العلم على هذا حتى جاء هؤلاء.
قال أحمد وشاهد على شاهد يجوز لم يزل الناس على ذا شريح فمن دونه إلا أن أبا حنيفة أنكره، وذهب أبو عبد الله بن بطة إلى أنه لا يقبل على كل شاهد أصل إلا شاهدا فرع وهذا قول أبي حنيفة ومالك والشافعي لأن شاهدي الفرع يثبتان شهادة شاهدي الأصل فلا تثبت شهادة كل واحد منهما بأقل من شاهدين كما لا يثبت إقرار مقرين بشهادة اثنين يشهد على كل واحد منها واحد ولنا أن هذا يثبت بشاهدين وقد شهد اثنان بما يثبته فيثبت كما لو شهدا بنفس الحق ولأن شاهدي الفرع بدل من شاهدي الأصل فيكفي في عددها ما يكفي في شهادة الأصل ولأن هذا إجماع

(12/108)


على ما ذكره احمد وإسحاق ولأن شاهدي الفرع لا ينقلان عن شاهدي الأصل حقاً عليهما فوجب أن يقبل فيه قول واحد كاخبار الديانات فإنهما لا ينقلان الشهادة وليسقت حقاً عليهما ولهذا لو أنكراهما لم يعد الحاكم عليهما ولم يبطلها منهما وهذا الجواب عما ذكروه.
إذا ثبت هذا فمن اعتبر لكل شاهد أصل شاهدي فرع أجاز أن يشهد شاهدان على كل واحد من شاهدي الأصل وبه قال مالك وأصحاب الرأي قال الشافعي رأيت كثيراً من الحكام والمفتين يجيزه وخرجه على قولين (أحدهما) جوازه (والآخر) لا يجوز حتى يكون شهود الفرع أربعة على كل شاهد أصل شاهدا فرع، واختاره المزني لأن من يثبت به أحد طرفي الشهادة لا يثبت به الطرف لآخر كما لو شهد أصلاً ثم يشهد مع آخر على شهادة شاهد الأصل الآخر ولنا انهما شهدا على قولين فوجب أن يقبل كما لو شهدا بإقرار اثنين أو بإقرارين بحقين وإنما لم يجز أن يشهد شاهد الأصل فرعاً لأنه يؤدي إلى أن يكون بدلاً أصلاً بشهادة بحق وذلك لا يجوز ولأنهم يثبتون بشهادتهم شهادة الأصل وليست شهادة أحدهما ظرفاً لشهادة الآخر فعلى قول الشافعي إن يثبت الحق بشهادة رجل وامرأتين وجب أن يكون شهود الفرع ستة وإن كان ثبت بأربع نسوة وجب أن يكون شهود الفرع ثمانية وإن كان المشهود به زنا خرج فيه خمسة أقوال (أحدها) لا مدخل لشهادة

(12/109)


الفرع في إثباته (والثاني) يجوز ويجب أن يكون شهود الفرع ستة عشر فيشهد على كل واحد من شهود الأصل أربعة (الثالث) يكفي ثمانية (والرابع) يكون أربعة يشهدون على كل واحد (والخامس) يكفي شاهدان يشهدان على كل واحد من شهود الأصل وهذا إثبات لحد الزنا بشاهدين وهو بعيد (فصل) فإن شهد بالحق شاهد أصل وشاهدا فرع يشهدان على شهادة أصل آخر جاز وإن شهد شاهد أصل وشاهد فرع خرج فيه ما ذكرنا من الخلاف من قبل (فصل) وإن شهد شاهد أصل ثم شهد هو وآخر فرعاً على شاهد أصل آخر لم تفد شهادته الفرعية شيئاً وكان حكم ذلك حكم ما لو شهد على شهادته شاهد واحد (مسألة) (ولا مدخل للنساء في شهادة الفرع) عن احمدان الذكورية شرط فلا يقبل في شهود الفرع نساء بحال سواء كان الحق مما يقبل فيه شهادة النساء اولا.
وهذا قول الشافعي ومالك والثوري لأنهم يثبتون بشهادتهم شهود الأصل دون الحق وليس ذلك بمال ولا المقصود منه المال ويطلع عليه الرجل فأشبه القصاص والحد (والثانية) لهن مدخل فيما كان المشهود به يثبت بشهادتهن في الأصل قال حرب قيل لأحمد فشهادة امرأتين على شهادة امرأتين تجوز؟ قال نعم يعني إذا كان معهما رجل، وذكر الأوزاعي قال: سمعت نمير بن أوس يجيز شهادة المرأة على شهادة المرأة.
ووجهه أن المقصود بشهادتهن إثبات الحق الذي شهد به شهود الأصل فيدخل

(12/110)


النساء فيه فيجوز أن يشهد رجلان على رجل وامرأتين، وذكر أبو الخطاب رواية أخرى أن النساء ليس لهن مدخل في الشهادة على الشهادة لأن فيها ضعفاً لما ذكرنا من قبل فلا مدخل لهن فيها لأنها تزداد بشهادتهن ضعفاً فاعتبرت تقويتها باعتبار الذكورية فيها فعلى هذه الرواية لا يكن أصولا ولا فروعا ولنا أن شهود الفرع أن كانوا يثبتون شهادة الأصول فهي تثبت بشهادتهم وإن كانوا يثبتون نفس الحق فهو يثبت بشهادتهم ولأن النساء يشهدن بالمال أو ما يقصد به المال فيثبت بشهادتهن كما لو أدينها عند الحاكم وما ذكر للرواية الأخرى لا أصل له (مسألة) (قال القاضي لا تجوز شهادة رجلين على شهادة رجل وامرأتين) نص عليه أحمد
وقال أبو الخطاب هذه الرواية سهو من ناقلها (مسألة) (ولا يحوز للحاكم أن يحكم بشهادة شاهدي الفرع حتى تثبت عنده عدالتهما وعدالة شاهدي الأصل) وذلك لأن الحكم ينبني على الشهادتين جميعاً فاعتبرت الشروط في كل واحد منهما ولا نعلم في هذا خلافاً فإن عدل شهود الأصل شهود الفرع فشهدا بعدالتهما وعلى شهادتهما جاز بغير خلاف نعلمه وإن لم يشهدا بعدالتهما جاز، ويتولى الحاكم ذلك فإذا علم عدالتهما حكم وإن لم يعرفهما وهذا مذهب الشافعي

(12/111)


وقال الثوري وأبو يوسف إن لم يعدل شاهد الفرع شاهدي الأصل لم يسمع الحاكم شهادتهما لأن ترك تعديله يرتاب به الحاكم ولا يصح ذلك لأنه يجوز أن لا يعرفا ذلك فيرجع فيه إلى بحث الحاكم ويجوز أن يعرفا عدالتهما ويتركانها اكتفاء بما يثبت عند الحاكم من عدالتهما (مسألة) (وإن شهدوا عنده فلم يحكم حتى حضر شهود الأصل وقف الحكم على سماع شهادتهم) لأنه قدر على الأصل قبل العمل بالبدل فأشبه المتيمم إذا قدر على الماء فلا تصح صلاته حتى يتوضأ (مسألة) (وإن حدث منهم ما يمنع قبول شهادتهم لم يجز الحكم) لابد من اشتراط اسم العدالة في الجميع إلى استمرار الحكم لما ذكرنا في شاهد الأصل قبل هذا فعلى هذا إن رجعوا قبل الحكم لم يحكم بها لأن الحكم ينبني عليها فأشبه ما لو فسق شهود الفرع أو رجعوا (مسألة) (فإن حكم بشهادتهما ثم رجع شهود الفرع لزمهم الضمان) لأن الإتلاف كان بشهادتهم فلزمهم الضمان كما لو أتلفوا بأيديهم (مسألة) (فإن رجع شهود الأصل لم يضمنوا) لأن الإتلاف كان بشهادة غيرهم فلا يلزمهم ضمان كالمتسبب مع المباشر ولأنهم لم يلجئوا الحاكم إلى الحكم ويحتمل أن يضمنوا لأن الحكم يضاف إليهم بدليل أنه تعتبر عدالتهم فلزمهم الضمان كما لو حكم بشهادتهم ثم رجعوا ولأنهم سبب في الحكم فيضمنون كالمزكين

(12/112)


(فصل) فإن مات شهود الأصل أو الفرع لم يمنع الحكم وكذلك لو مات شهود الأصل قبل أداء الفروع الشهادة لم يمنع من أدائها والحكم بها لأن موتهم من شرط سماع شهادة الفروع والحكم فلا يجوز جعله مانعاً وكذلك إن جنوا لأن جنونهم بمنزلة موتهم (فصل) قال الشيخ رحمه الله (ومتى رجع شهود المال بعد الحكم لزمهم الضمان ولم ينقض الحكم سواء كان المال قائماً أو تالفاً) وسواء كان قبل القبض أو بعده أما الرجوع به على المحكوم له فلا نعلم بين أهل العلم خلافاً أنه لا يرجع به عليه ولا ينقض الحكم في قول أهل الفتيا من علماء الأمصار وحكي عن سعيد ابن المسيب والاوزاعي أنهما قالا ينقض الحكم وإن استوفى الحق ثبت بشهادتهما فإذا رجعا زال ما يثبت به الحكم كما لو تبين أنهما كانا كافرين ولنا أن حق المشهود له وجب له فلا يسقط بقولهما كما لو ادعياه لأنفسهما يحقق هذا أن حق الإنسان لا يزول إلا ببينة أو إقرار ورجوعهما ليس بشهادة ولهذا لا يفتقر إلى لفظ الشهادة ولا هو إقرار من صاحب الحق وفارق ما إذا تبين أنهما كانا كافرين لأننا تبينا أنه لم يوجد شرط الحكم وهو شهادة العدول وفي مسئلتنا لم يتبين ذلك بجواز أن يكونا عدلى صادقين في شهادتهما وإنما كذبا في رجوعهما ويفارق العقوبات حيث لا تستوفى لأنها تدرأ بالشبهات.
وأما الرجوع على الشاهدين

(12/113)


به فهو قول أكثر أهل العلم منهم مالك وأصحاب الرأي وقول الشافعي القديم وقال في الجديد لا يرجع عليهما بشئ إلا أن يشهدا بعتق عبد فيضمنا قيمته لأنه لم يوجد منهما إتلاف للمال ولا يد عادية عليه فلم يضمنا كما لو ردت شهادتهما ولنا أنهما إنما أخرج ماله من يده بغير حق وحالا بينه وبينه فلزمهما الضمان كما لو شهدا بعتقه ولأنهما أزالا يد السيد عن عبده بشهادتهما المرجوع عنها فأشبه ما لو شهدا بحريته ولأنهما تسببا إلى إتلاف حقه بشهادتهما بالزور عليه فلزمهما الضمان كشاهدي القصاص يحقق هذا أنه إذا لزمهما القصاص الذي يدرأ بالشبهات فوجوب المال أولى وقوله أنهما ما أتلفا المال يبطل بما إذا شهدا بعتقه فإن الرق في الحقيقة لا يزول بشهادة الزور وإنما حالا بين سيده وبينه وفي موضع إتلاف
المال فهما تسببا إلى تلفه فلزمهما ضمان ما تلف بسببهما كشاهدي القصاص وشهود الزنا وحافر البئر وناصب السكين.
(مسألة) (وإن رجع شهود العتق غرموا القيمة) كالحكم في الشهادة بالمال على ما ذكرنا من الخلاف لأنهما من جملة المال.
وإن شهدا بالحرية ثم رجعا عن الشهادة لزمهما غرامة قيمتهما لسيدهما بغير خلاف بينهم فيه، فإن المخالف في التي قبلها هو الشافعي وقد وافق ههنا وهو حجة عليه فيما خالف فيه ويغرما القيمة لأن العبيد من المتقومات.

(12/114)


(مسألة) (وإن رجع شهود الطلاق قبل الدخول غرموا نصف المسمى وإن كان بعده لم يغرموا شيئاً) إذا شهدا بطلاق امرأة تبين به فحكم الحاكم بالفرقة ثم رجعا عن الشهادة وكان قبل الدخول فالواجب عليهما نصف المسمى.
وبهذا قال أبو حنيفة وقال الشافعي في أحد قوليه يجب مهر المثل لأنهما تلفا عليه البضع فلزمها عوضه وهو مهر المثل وفي القول الآخر يلمزمهما نصف مهر المثل لأنه إنما يملك نصف البضع بدليل أنه إنما يجب عليه نصف المهر.
ولنا أن خروج البضع من ملك الزوج غير متقوم بدليل ما لو أخرجه من ملكه بردتها وإسلامها أو قتلها نفسها فإنها لا تضمن شيئاً ولو فسخت نكاحها قبل الدخول برضاع من ينفسخ به نكاحها لم يغرم شيئاً وإنما يجب نصف المسمى لأنهما ألزماه للزوج بشهادتهما وقرراه عليه كما يرجع به على فسخ نكاحه برضاع أو غيره وقوله إنه ملك نصف البضع غير صحيح فإن البضع لا يجوز تمليك نصفه ولأن العقد ورد على جميعة والصداق واجب جميعه ولهذا تملكه المرأة إذا قبضته ونماؤه لها وتملك طلبه إذا لم تقبضه وإنما يسقط نصفه بالطلاق وأما أن يكون الحكم بالفرقة بعد الدخول فليس عليهما ضمان وبه قال أبو حنيفة وعن أحمد رواية أخرى عليهما ضمان المسمى في الصداق لأنهما فوتا عليه

(12/115)


نكاحاً وجب عليه به عوض فكان عليهما ضمان ما وجب به كما قبل الدخول، وقال الشافعي يلزمهما له مهر المثل لأنهما أتلفا البضع وقد سبق الكلام سعه في هذا ولا يصح القياس على ما قبل الدخول لأنهما قررا عليه نصف المسمى وكان بعرض السقوط وههنا قد تقرر المهر كله بالدخول فلم يقررا عليه شيئاً ولم يخرجا من ملكه متقوما فأشبه ما لو أخرجاه من ملكه بقتلها أو أخرجته هي بردتها.
(مسألة) (وإن رجع شهود القصاص أو الحد قبل الاستيفاء لم يستوف وإن كان بعده وقالوا أخطأنا فعليهم دية ما تلف ويقسط الغرم على عددهم فإن رجع أحدهم غرم بقسطه) .
وجملة ذلك أن الشهود إذا رجعوا عن شهادتهم بعد أدائها لم تخل من ثلاثة أحوال (أحدها) أن يرجعوا قبل الحكم بها فلا يجوز الحكم بها في قول عامة أهل العلم وحكي عن أبي ثور أنه شذ عن أهل العلم فقال يحكم بها، لأن الشهادة قد أديت فلا تبطل برجوع من شهد بها كما لو رجعا بعد الحكم وهذا فاسد، لأن الشهادة شرط الحكم فإذا زالت قبله لم يجز كما لو فسقا ولأن رجوعهما يظهر به كذبهما فلم يجز به الحكم كما لو شهد بقتل رجل ثم علمت حياته ولأنه زال ظنه في أن ما شهد به حق فلم يجز به الحكم كما لو تغير اجتهاده وفارق ما بعد الحكم فإنه تم بشرطه ولأن الشك لا يزيل ما حكم به كما لو تغير اجتهاده (الحال الثاني) أن يرجعا بعد الحكم وقبل الاستيفاء فإن كان المحكوم به عقوبة كالحد والقصاص ولم يجز استيفاؤه، لأن

(12/116)


الحدود تدرأ بالشبهات ورجوعهما من أعظم الشبهات ولأن المحكوم به عقوبة لم يبق ظن استحقاقها ولا سبيل إلى خبرها فلم يجز استيفاؤها كما لو رجعا قبل الحكم وإن كان المحكوم به مالاً استوفي ولم ينقض الحكم وقد ذكرناه وفارق المال القصاص والحد فإنه يمكن جبره بإلزام الشاهد عوضه والحد والقصاص لا يجير بإيجاب مثله على الشاهدين لأن ذلك ليس بجبر ولا يحصل لمن وجب له منه عوض وإنما شرع لزجر والتشفي والانتقام لا للجبر، فإن قيل فلم قلتم إنه إذا حكم بالقصاص ثم فسق الشاهد استوفي في أحد الوجهين قلنا الرجوع أعظم في الشبهة من طريان الفسق لأنهما يقران أن شهادتهما زور وأنهما كانا فاسقين حين شهدا وحين حكم الحاكم بشهادتهما وهذا الذي طرأ فسقه لا يتحقق كون شهادته كذباً ولا أنه كان فاسقاً حين أدى الشهادة ولا حين الحكم بها ولهذا لو فسق بعد
الاستيفاء لم يلزمه شئ والراجعان تلزمهما غرامة ما شهدا به فافترقا، (الحال الثالث) أن يرجعا بعد الاستيفاء فإنه لا يبطل الحكم ولا يلزم المشهود له شئ سواء كان المشهود به مالاً أو عقوبة لأن الحكم قد تم باستيفاء المحكوم به ووصول الحق إلى مستحقه ويرجع به على الشاهدين فإن كان المشهود إتلافا في مثله القصاص كالقتل والجرح وقالا عمدنا الشهادة عليه بالزور ليقتل أو يقطع فعليهما القصاص وبه قال ابن أبي ليلى والاوزاعي والشافعي وأبو عبيد وقال أصحاب الرأي لاقود عليهما لأنهما لم يباشرا الاتلاف فأشبها حافر البئر إذا تلف به شئ.

(12/117)


ولنا أن علياً رضي الله عنه شهد عنده رجلان على رجل بالسرقة فقطعه ثم عادا فقالا أخطأنا ليس هذا السارق فقال علي لو أعلم أنكما تعمدتما لقطعتكما ولا مخالف له في الصحابة ولأنهما تسببا إلى قتله وقطعه بما يفضي إليه غالباً فلزمهما القصاص كالمكره وفارق الحفر فإنه لا يفضي إلى القتل غالباً وقد ذكرنا هذه المسألة في الجنايات فإن قالا عمدنا الشهادة عليه ولم نعلم أنه يقتل بهذا وكانا ممن يجوز أن يجهلا ذلك وجبت الدية في أموالهما مغلظة لأنه شبه عمد ولم تحمله العاقلة لأنه ثبت باعترافهما وإن قال أحدهما عمدت قتله وقال الآخر أخطأت فعلى العامد نصف الدية مغلظة وعلى الآخر نصفها مخففة ولا قصاص في الصحيح من المذهب وإن قال كل واحد منهما إنما اعترف بعمد شارك فيه مخطئاً وهو لا يوجب القصاص والإنسان إنما يؤاخذ بإقراره لا بإقرار غيره فعلى هذا تجب عليهما دية مغلظة وإن قال أحدهما عمدنا جميعاً وقال الآخر عمدت وأخطأ صاحبي فعلى الأول القصاص وفي الثاني وجهان كالتي قبلها، وإن قالا أخطأنا فعليهما الدية مخففة في أموالهما لأن العاقلة لا تحمل الاعتراف وإن قال أحدهما عمدنا معاً وقال الآخر أخطأنا معاً فعلى الأول القصاص وعلى الثاني نصف الدية مخففة لأن كل واحد منهما يؤاخذ بإقراره، وإن قال كل واحد منهما عمدت ولا أدري ما فعل صاحبي فعليهما القصاص لإقرار كل واحد منهما بالعمد ويحتمل أن لا يجب عليهما القصاص، لأن إقرار كل واحد منهما لو انفرد

(12/118)


لم يجب عليه قصاص وإنما يؤاخذ الإنسان بإقراره لا بإقرار صاحبه وإن قال أحدهما عمدت ولا أدري
ما قصد صاحبي سئل صاحبه فإن قال مثل قوله فهي كالتي قبلها، وإن قال عمدنا معاً فعليه القصاص وفي الأول وجهان وإن قال أخطأت أو أخطأنا فلا قصاص على كل واحد منهما وإن جهل حال الآخر بجنون أو موت أو لم يقدر عليه فلا قصاص على المقر وعليه نصيبه من الدية المغلظة.
(فصل) وإن رجع أحد الشاهدين وحده فالحكم فيه كالحكم في رجوعهما في أن الحاكم لا يحكم بشهادتهما إذا كان رجوعه قبل الحكم ولا تستوفى العقوبة إذا رجع قبل استيفائها لأن الشرط يختل برجوعه كاختلاله برجوعهما وإن كان رجوعه بعد الاستيفاء لزم حكم إقراره وحده فإن اقربما يوجب القصاص وجب عليه وان اقربما يوجب دية مغلظة وجب عليه قسطه منها وإن أقر بالخطأ وجب عليه قسطه من الدية المخفقة وإن كان الشهود أكثر من اثنين في الحقوق المالية أو القصاص ونحوه فيما يثبت بشاهدين أو أكثر من أربعة فرجع لزائد منهم قبل الحكم أو الاستيفاء لم يمنع ذلك الحكم ولا الاستيفا لأن ما بقي من البينة كاف في إثبات الحكم واستيفائه وإن رجع بعد الاستيفاء فعليه القصاص إن أقر بما يوجبه أو قسطه من الدية أو من المفوت بشهادتهم إن كان غير ذلك وفي ذلك اختلاف ذكرنا بعضه

(12/119)


(فصل) وكل موضع وجب الضمان على الشهود بالرجوع فإنه يوزع بينهم على عددهم قلوا أو كثروا قال أحمد في روايه بن منصور إذا شهد بشهادة ثم رجع وقد أتلف مالاً فإنه ضامن بقدر ما كانوا في الشهادة فإن كانوا ائنين فعليه النصف وإن كانوا ثلاثة فعليه الثلث وعلى هذا لو كانوا عشرة فعليه العشر فإن رجع أحدهم وحده غرم بقسطه على ما ذكرنا وفيه اختلاف يذكر إنشاء الله تعالى فإذا شهد أربعة بالقتل فقتل المشهود عليه ثم رجع واحد فعليه الربع إن قال أخطأنا وإن رجع اثنان فعليهما النصف (مسألة) (فإذا شهد ستة بالزنا على محصن فرجم بشهادتهم ثم رجع واحد فعليه القصاص أو سدس الدية وإن رجع اثنان فعليهما القصاص أو ثلث الدية) وبهذا قال أبو عبيد وقال أبو حنيفة إن رجع واحد أو اثنان فلا شئ عليهما لأن بينة
الزنا قائمة فدمه غير محقون وإن رجع ثلاثة فعليهم ربع الدية وان رجع أربعة فعليهم نصف الدية وإن رجع خمسة فعليهم ثلاثة أرباعها وإن رجع الستة فعلى كل واحد منهم سدسها ومنصوص الشافعي فيما إذا رجع اثنان كمذهب أبي حنيفة واختلف أصحابه فيما إذا شهد بالقصاص ثلاثة فرجع أحدهم فقال أبو إسحاق لا قصاص عليه لأن بينة القصاص قائمة وهل يجب عليه ثلث الدية؟

(12/120)


على وجهين قال ابن الحداد عليه القصاص وفرق بينه وبين الراجع من شهود الزنا إذا كان زائداً بأن دم المشهود عليه بالزنا غير محقون وهذا دمه محقون وإنما أبيح دمه لولي القصاص وحده واختلفوا فيما إذا شهد بالمال ثلاثة فرجع أحدهم على وجهين (أحدهما) يضمن الثلث (والثاني) لا شئ عليه ولنا أن الإتلاف حصل بشهادتهم فالراجع يقر بالمشاركة فيه عمداً عدواناً كمن هو مثله في ذلك فلزمه القصاص كما لو أقر بمشاركتهم في مباشرة قتله ولأنه أحد من قتل المشهود عليه بشهادته فأشبه الثاني من شهود القصاص والرابع من شهود الزنا ولأنه أحد من حصل الإتلاف بشهادته فلزمه من الضمان بقسطه كما لو رجع الجميع، وقولهم أن دمه غير محقون غير صحيح فإن الكلام فيما إذا قتل ولم يبق له دم يوصف بحقن ولا عدمه وقيام الشهادة لا يمنع وجوب القصاص كما لو شهدت لرجل باستحقاق القصاص فاستوفاه ثم أقرانه قتله ظلماً وأن الشهود شهود زور والتفريق بين القصاص

(12/121)


والرجم يكون دم القاتل غير محقون لا يصح لأنه غير محقون بالنسبة إلى من قتله ولأن كل واحد مؤاخذ بإقراره ولا يعتبر قول شريكه ول هذا لو أقر أحد الشريكين بعمدها وقال الآخر أخطأنا وجب القصاص على المقر بالعمد (مسألة) (وإن شهد أربعة بالزنا وإثنان بالإحصان ثم رجع الجميع لزمتهم الدية أسداساً في أحد الوجهين وفي الأخرى على شهود الزنا النصف وعلى شهود الإحصان النصف فإن شهد أربعة بالزنا وشهد اثنان منهم بالإحصان صحت الشهادة فإن رجم ثم رجعوا عن الشهادة فعلى من شهد بالإحصان ثلثا الدية على الوجه الأول وعلى الوجه الثاني يلزمهم ثلاثة أرباعها)
وجملة ذلك أنه إذا شهد أربعة بالزنا وإثنان بالإحصان فرجم ثم رجعوا عن الشهادة فالضمان على جميعهم وقال أبو حنيفة لا ضمان على شهود الإحصان لأنهم شهدوا بالشرط دون السبب الموجب للقتل وإنما يثبت ذلك بشهادة الزنا ولأصحاب الشافعي وجهان كالمذهبين ولنا أن قتله حصل بمجموع الشهادة فتجب الغرامة على الجميع كما لو شهدوا جميعاً على الزنا وفي كيفية الضمان وجهان

(12/122)


(أحدهما) يوزع عليهم على عدد رؤوسهم كشهود الزنا لأن القتل حصل من جميعهم (والثاني) على شهود الزنا النصف وعلى شهود الإحصان النصف لأنهما حزبان فلكل حزب نصف فإن شهد أربعة بالزنا واثنان منهم بالإحصان ثم رجعوا فعلى الأول على شاهدي الإحصان الثلثان وعلى الآخر الثلث لأن على شاهدي الإحصان الثلث لشهادتهما به والثلث بشهادتهما بالزنا وعلى الآخرين الثلث لشهادتهما بالزنا وحده وعلى الوجه الثاني على شهود الإحصان ثلاثة أرباع الدية لأن عليهما النصف لشهادتهما بالإحصان ونصف الباقي لشهادتهما بالزنا ويحتمل أن لا يجب على شاهدي الإحصان إلا النصف لأن كل واحد منهما جنى جنايتين وجنى كل واحد من الآخرين جناية واحدة فكانت الدية بينهم على عدد رؤوسهم لا على عدد جنايتهم كما لو قتل اثنان واحداً جرحه أحدهما جرحاً والآخر اثنين (فصل) وإذا حكم الحاكم في المال برجل وامرأتين ثم رجعوا عن الشهادة يوزع الضمان عليهم على الرجل نصفه وعلى كل امرأة ربعه وإن رجع أحدهم وحده فعليه من الضمان حصته وإن كان الشهود رجلاً وعشر نسوة فرجعوا على شهادتهم فعلى الرجل السدس وعلى كل امرأة نصف السدس وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي لأن كل امرأتين كرجل فالعشر كخمسة رجال ويحتمل أن يجب عليهن النصف وعلى الرجل النصف وبهذا قال أبو يوسف ومحمد لأن الرجل نصف البينة بدليل أنه

(12/123)


نصف البينة بدليل أنه لو رجع وحده قبل الحكم كان كرجوعهن كلهن فيكون الرجل حزباً والنساء حزباً فإن رجع بعض النسوة وحده والرجل فعلى الراجع مثل ما عليه إذا رجع الجميع وعند أبي حنيفة
وأصحابه متى رجع من النسوة معاً زاد على اثنين فليس على الراجعات شئ وقد مضى الكلام معهم في هذا (فصل) وإذا شهد أربعة بأربعمائة فحكم الحاكم بها ثم رجع واحد عن مائة وآخر عن مائتين والثالث عن ثلاثمائة والرابع عن أربعمائة فعلى كل واحد منهما ما رجع عنه بسقطه فعلى الأول خمسة وعشرون وعلى الثاني خمسون وعلى الثالث خمسة وسبعون وعلى الرابع مائة لأن كل واحد منهم يقر بأنه فوت على المشهود عليه وبع ما رجع عنه ويقتضي مذهب أبي حنيفة أن لا يلزم الراجع عن الثلاثمائة والأربعمائة أكثر من خمسين خمسين لأن المائتين اللتين رجع عنهما قد بقي بهما شاهدان (مسألة) (وإذا حكم الحاكم بشاهد ويمين ثم رجع الشاهد غرم المال كله ويتخرج أن يغرم النصف) المنصوص عن أحمد رحمه الله أنه يضمن المال كله في رواية جماعة ويتخرج أن يضمن النصف وبه قال مالك والشافعي لأنه أحد حجتي الدعوى فكان عليه النصف كما لو كانا شاهدين

(12/124)


ولنا أن الشاهد حجة الدعوى فكان الضمان عليه كالشاهدين يحققه أن اليمين قول الخصم وقول الخصم لمس بحجة على خصمه وإنما هو شرط الحكم فجرى مجرى مطالبته للحاكم بالحكم وبهذا ينفصل عما ذكروه، وإن سلمنا أنها حجة لكن إنما جعلها حجة شهادة الشاهد ولهذا لم يجز تقديمها على شهادته بخلاف شهادة الشاهد الآخر قال أبو الخطاب ويتخرج أن لا يلزمه إلا النصف إذا قلنا برد اليمين على المدعي (فصل) وإذا شهد شاهدان أنه أعتق هذا العبد عن ضمان مائة درهم وقيمة العبد مائتان فحكم الحاكم بشهادتهما ثم رجعا رجع السيد على الشاهدين بمائة لأنها تمام القيمة وكذلك إن شهدا على رجل أنه طلق امرأته قبل الدخول على مائة ونصف المسمى مائتان غرما للزوج مائة لأنهما فوتاها بشهادتهما المرجوع عنها، وإن شهد رجلان على رجل بنكاح امرأة بصداق ذكراه وشهد آخران بدخوله بها ثم رجعوا بعد الحكم عليه بصداقها فعلى شهود النكاح الضمان لأنهم ألزموه المسمى ويحتمل أن يكون
عليهم النصف وعلى الآخرين النصف لأنهما قرراه وشاهدا النكاح أوجباه فيقسم بين الأربعة أرباعاً، وإن شهد مع هذا شاهدان بالطلاق لم يلزمهما شئ لأنهما لم يفوتا عليه شيئاً يدعيه ولا أوجبا عليه ما لم يكن واجباً.

(12/125)


(مسألة) (وإن بان بعد الحكم أن الشاهدين كانا كافرين أو فاسقين نقض الحكم ويرجع بالمال أو ببدله على المحكوم له، وإن كان المحكوم به إتلافاً فالضمان على المزكين فإن لم يكن ثم تزكية فعلى الحاكم، وعنه لا ينقض إذا كانا فاسقين) وجملة ذلك أن الحاكم إذا حكم بشهادة شاهدين ثم بانا فاسقين أو كافرين فإن الإمام ينقض حكمه ويرد المال إن كان قائماً أو عوضه إن كان تالفاً، فإن تعذر ذلك لإعساره أو غيره فعلى الحاكم ثم يرجع على المشهود له وعن أحمد رواية أخرى لا ينقض حكمه إذا كانا فاسقين ويغرم الشهود المال وكذلك إذا شهد عنده عدلان أن الحاكم قبله حكم بشهادة فاسقين ففيه روايتان، واختلف أصحاب الشافعي فيه أيضاً ولا خلاف بين الجميع أنه ينقض حكمه إذا كانا كافرين وينقض حكم غيره إذا ثبت عنده أنه حكم بشهادة كافرين فنقيس على ذلك إذا حكم بشهادة فاسقين فإن شهادة الفاسقين مجمع على ردها وقد نص الله تعالى التبين فيها فقال سبحانه (يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا) وأمر

(12/126)


وأمر بإشهاد العدول فقال سبحانه (وأشهدوا ذوي عدل منكر) وقال سبحانه (ممن ترضون من الشهداء) فيجب نقض الحكم لفوات العدالة كما يجب نقضه لفوات الإسلام ولأن الفسق معنى لو ثبت عند الحاكم قبل الحكم منعه فإذا شهد شاهدان أنه كان موجوداً حال الحكم وجب نقض الحكم كالكفر والرق في العقوبات.
إذا ثبت هذا فإن أبا حنيفة قال لا يسمع الحاكم الشهادة بفسق الشاهدين قبل الحكم ولا بعده ومتى جرح المشهود عليه البينة لم تسمع بينته بالفسق لكن يسأل عن الشاهدين ولا يسمع على الفسق شهادة لأن الفسق لا يتعلق به حق أحد فلا تسمع فيه الدعوى والبينة.
ولنا أنه معنى يتعلق به الحكم فسمعت فيه الدعوى والبينة كالتزكية، وقوله لا يتعلق به حق
أحد ممنوع فإن المشهود عليه يتعلق حقه بفسقه في منع الحكم عليه قبل الحكم ونقضه بعد وتبرئته من أخذ ماله أو عقوبته بغير حق فوجب أن تسمع فيه الدعوى والبينة كما لو ادعى رق الشاهد ولم

(12/127)


يدعه لنفسه ولأنه إذا لم تسمع البينة بالفسق أدى إلى ظلم المشهود عليه فإذا لم يسمع عليه شهادتهم وحكم عليه بشهادة الفاسقين كان ظالماً له فأما إن قامت البينة أنه حكم بشهادة والدين أو ولدين أو عدوين فإن كان الحاكم الذي حكم بشهادتهما ممن يرى الحكم به لم ينقض حكمه لأنه حكم باجتهاده فيما يسوغ فيه الاجتهاد ولم يخالف نصاً ولا إجماعاً، فان كل ممن لا يرى الحكم بشهادتهم نفضه لأن الحاكم يعتقد بطلانه.
(فصل) فإن كان المحكوم به إتلافاً كالقطع في السرقة والقتل ثم بان أنهما كافران أو فاسقان أو عبدان أو أحدهما فلا ضمان على الشاهدين لأنهما مقيمان على أنهما صادقان فيما شهدا به وإنما الشرع منع قبول شهادتهما بخلاف الراجعين عن الشهادة فإنهما اعترفا بكذبهما فإن لم يكن ثم مزكون فالضمان على الحاكم أو الإمام الذي تولى ذلك لأنه حكم بشهادة من لا يجوز له الحكم بشهادته ولا قصاص عليه لانه مخطئ وتجب الدية وفي محلها روايتان (إحداهما) في بيت المال (والثانية) على العاقلة وقد ذكرنا ذلك فيما مضى وللشافعي قولان كالروايتين، فإن قلنا الدية على العاقلة لم تحمل إلا الثلث فما زاد ولا تحمل الكفارة لأنها لا تحمل ذلك في محل الوفاق كذى ههنا وتكون الكفارة في مال القاتل، وإن قلنا في بيت المال فينبغي أن يكون فيه القليل والكثير لأنه يكثر فيه خطؤه فجعل الضمان عليه يجحف به وإن قل ولأن جعله في بيت المال لعلة أنه نائب عنهم وخطأ النائب على مستنيبه وسواء تولى الحاكم الاستيفاء بنفسه أو أمر من يتولاه، قال أصحابنا وإن كان الولي استوفاه فهو كما لو استوفاه الحاكم لأن الحاكم سلطه على ذلك ومكنه منه والولى يدعي أنه حقه فإن قيل فإذا

(12/128)


كان الولي استوفى حقه فينبغي أن يكون الضمان عليه كما لو حكم له بمال فقبضه ثم بان فسق الشهود كان الضمان على المستوفي دون الحاكم كذا ههنا قلنا ثم حصل في يد المستوفي مال المحكوم عليه بغير حق
فوجب عليه رده أو ضمانه إن تلف وههنا لم يحصل في يده شي وإنما أتلف شيئاً بخطأ الإمام وتسليطه عليه فافترقا.
(فصل) فإن كان ثم مزكون مثل أن يشهد بالزنا أربعة فيزكيهم اثنان فرجم المشهود عليه ثم بان الشهود فسقة أو عبيد أو بعضهم فلا ضمان على الشهود لأنهم يزعمون أنهم محقون ولم يعلم كذبهم يقيناً والضمان على المزكين، وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي، وقال القاضي الضمان على الحاكم لأنه حكم بقتله من غير تحقيق شرطه ولا ضمان على المزكين لان شهادتهما شرط وليست الموجبة، وقال أبو الخطاب في رءوس المسائل الضمان على الشهود بالزنا ولنا أن المزكين شهدوا بالزور شهادة أفضت إلى قتله فلزمهم الضمان كشهود الزنا إذا رجعوا ولا ضمان على الحاكم لأنه أمكن إحالة الحكم على الشهود فأشبه ما إذا رجعوا عن الشهادة وقولهم إن شهادتهم شرط لا يصح لأن من أصلنا أن شهود الإحصان يلزمهم الضمان وإن لم يشهدوا بالسبب

(12/129)


وقد نص عليه أحمد وقول أبي الخطاب لا يصح لأن شهود الزنا لم يرجعوا ولا علم كذبهم بخلاف المزكين فإنه تبين كذبهم وأنهم شهدوا بالزور فأما إن تبين فسق المزكين فالضمان على الحاكم لأن التفريط منه حيث قبل شهادة فاسق من غير تزكية ولا بحث فلزمه الضمان كما لو قبل شهادة شهود الزنا من غير تزكية ثم تبين كذبهم (فصل) ولو جلد إمام انسانا تشهادة شهود ثم بان أنهم فسقة أو كفرة أو عبيد فعلى الإمام ضمان ما حصل بسبب الضرب) وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة لا ضمان عليه ولنا أنها جناية صدرت عن خطأ الإمام فكانت مضمونة عليه كما لو قطعه أو فتله (مسألة) (وإذا شهدوا عند الحاكم بحق ثم ماتوا حكم بشهادتهم إذا ثبتت عدالتهم) لأنهم أدوا الشهادة، أشبه ما لو كانوا أحياء وكذلك إن جنوا لأن جنونهم بمنزلة موتهم (مسألة) (وإذا علم الحاكم بشاهد الزور عزره وطاف به في المواضع التي يشتهر فيها فيقال
أنا وجدنا هذا شاهد زور فاجتنبوه) شهادة الزور من أكبر الكبائر وقد نهى تعالى عنه في كتابه مع نهيه عن الاوتان فقال سبحانه (فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور) وروى أبو بكرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟) قالوا بلى يارسول الله قال (الإشراك بالله وعقوق الوالدين)

(12/130)


وكان متكئاً فجلس فقال (ألا وقول الزور وشهادة الزور) فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت متفق عليه وروى أبو حنيفة عن محارب بن دثار عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (شاهد الزور لا تزول قدماه حتى تجب له النار) فمتى ثبت عند الحاكم أن رجلاً شهد بزور عمداً عزره وشهره في قول أكثر أهل العلم، وروى ذلك عن عمر رضي الله عنه وهو قول شريح والقاسم بن محمد وسالم بن عبد الله والاوزاعي وابن أبي ليلى ومالك والشافعي وقال أبو حنيفة لا يعزر ولا يشهر ولأنه قول منكر وزور فلا يعزر به كالظهار، وروى عنه الطحاوي أنه يشهر وأنكره المتأخرون ولنا أنه قول محرم يضر به الناس فأوجب العقوبة على قائله كالسب والقذف ويخالف الظهار من وجهين (أحدهما) أنه يختص بضرره (والثاني) أنه أوجب كفارة شاقة هي يشد من التعزير ولأنه قول عمر رضي الله عنه ولا نعلم له في الصحابة مخالفاً.
إذا ثبت ذلك فإن عقوبته غير مقدرة وإنما ذلك مفوض إلى رأي الحاكم إن رأى ذلك بالجلد فعل وإن رأه بحبس أو كشف رأسه وتوبيخه فعل ولا يزيد في جلده على عشر جلدات وقال الشافعي لا يزيد على تسع وثلاثين وقال ابن أبي ليلى يجلد خمساً وسبعين سوطا.
وهذا أحد قولي أبي يوسف وقال الأوزاعي في شاهدي الطلاق يجلدان مائة ويغرمان الصداق.
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم (لا يجلد أحد فوق عشر جلدات إلا في حد من من حدود الله) متفق عليه

(12/131)


وقال القاسم وسالم يخفق سبع خفقات فأما شهرته بين الناس فإنه يوقف في سوقه إن كان من أهل السوق أو في قبيلته إن كان من أهل القبائل أو في مسجده إن كان من أهل المساجد ويقول الموكل به
إن الحاكم يقرأ عليكم السلام ويقول هذا شاهد زور فاعرفوه، وهذا مذهب الشافعي وأتي الوليد بن عبد الملك بشاهد زور فأمر بقطع لسانه وعنده القاسم وسالم فقالا سبحان الله بحسبه أن يخفق سبع خفقات ويقام بعد العصر فيقال هذا أبو قبيس وجدناه شاهد زور ففعل ذلك به، ولا يسخم وجهه ولا يركب ولا يكلف أن ينادي على نفسه، وروى عن عمر رضي الله عنه أنه يجلد أربعين جلده ويسخم وجهه ويطال حبسه رواه الإمام أحمد وقال سوار يلبب ويدار به على حلق المسجد فيقول من رأني فلا يشهد بزور وروي عن عبد الملك بن يعلى قاضي البصرة أنه أمر بحلق بعض رؤوسهم وتسخيم وجوههم ويطاف بهم في السوق والذي شهدوا له معهم.
ولنا أن هذا مثلة وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن المثلة وما روي عن عمر فقد روي عنه خلافه وأنه حبسه يوماً وخلى سبيله وفي الجملة ليس في هذا تقدير شرعي فما فعل الحاكم مما رآه لم يخرج عن مخالفة نص أو معنى نص فله ذلك ولا يفعل به شئ من هذا حتى يتحقق أنه شاهد زور وتعمد ذلك أو يشهد على رجل بفعل في الشام ويعلم أن المشهود عليه في ذلك الوقت في العراق أو يشهد بقتل رجل وهو حي وأن هذه البهيمة في يد هذا منذ ثلاثة أعوام وسنها أقل من ذلك أو يشهد على رجل

(12/132)


أنه فعل شيئاً وقد مات قبل ذلك وأشباه هذا مما يعلم به كذبه ويعلم تعمده لذلك فأما تعارض البينتين أو ظهور فسقه أو غلطه في شهادته فلا يؤدب لأن الفسق لا يمنع الصدق والتعارض لا يمنع أنه كذب إحدى البينتين بعينها والغلط قد يعرض للصادق العدل ولا يتعمده فيعفى عنه قال الله تعالى (وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم) (فصل) ومتى علم أن الشاهدين شهدا بالزور تبين أن الحكم كان باطلاً ولم نقضه لأنا تبينا كذبهما وإن كان المحكوم به مالاً رد إلى صاحبه وإن كان إتلافاً فعلى الشاهدين ضمانه لأنهما سبب إتلافه إلى أن يثبت ذلك بإقرارهما على أنفسهما من غير موافقة المحكوم له فيكون ذلك رجوعاً منهما عن شهادتهما وقد مضى حكم ذلك.
(فصل) وإن تاب شاهد الزور ومضى على ذلك مدة تظهر فيها توبته وتبين صدقه فيها
وعدالته قبلت شهادته، وبه قال أبو حنيفة والشافعي وقال مالك لا تقبل شهادته أبداً لأن ذلك لا يؤمن منه.

(12/133)


ولنا أنه تائب من ذنبه فقبت توبته كسائر التائبين وقوله لا يؤمن منه ذلك.
قلنا مجرد الاحتمال لا يمنع قبول الشهادة بدليل سائر التائبين فإنه لا يؤمن معاودة ذنوبهم وشهادتهم مقبولة (مسألة) (ولا تقبل الشهادة إلا بلفظ الشهادة فإن قال أعلم أو أحق لم يحكم به) وجملة ذلك أن لفظ الشهادة معتبر في أدائها فيقول أشهد أنه أقر بكذا ونحوه ولو قال أعلم أو أحق أو أتيقن أو أعرف لم يعتد به لأن الشهادة مصدر شهد يشهد شهادة فلا بد من الإتيان بفعلها المشتق منها ولأن فيها معنى لا يحصل في غيرها من اللفظات بدليل أنها تستعمل في اللعان ولا يحصل ذلك من غيرها وهذا مذهب الشافعي ولا أعلم في ذلك خلافا.
(فصل) وإذا عين العدل شهادته بحضرة الحاكم فزاد فيها أو نقص قبلت منه ما لم يحكم بشهادته ذكره الخرقي مثل أن يشهد بمائة ثم يقول بل هي مائة وخمسون أو بل هي تسعون فإنه يقبل منه رجوعه ويحكم بما شهد به أخيراً وبهذا قال أبو حنيفة والثوري واسحاق وقال الزهري لا تقبل شهادته الأولى ولا الأخيرة لأن كل واحدة منهما ترد ولأن الأولى مرجوع عنها (والثانية) غير موثوق بها لأنها من مقر بغلطه وخطئه في شهادته فلا يؤمن أن تكون في الغلط كالأولى وقال مالك يؤخذ بأقل قوليه لأنه أدى الشهادة وهو غير متهم فلا يقبل رجوعه عنها كما لو اتصل بها الحكم

(12/134)


ولنا أن شهادته الآخرة شهادة من عدل غير متهم لم يرجع عنها فوجب الحكم بها كما لو لم يتقدمها ما يخالفها ولا تعارضها الأولى لأنها قد بطلت برجوعه عنها ولا يجوز الحكم بها لأنها شرط الحكم فوجب استمرارها إلى انقضائه ويفارق رجوعه بعد الحكم لأن الحكم قد تم باستمرار شرطه فلا ينقض بعد تمامه.
(باب اليمين في الدعاوى)
وهي مشروعة في حق المنكر في كل حق لآدمي وجملة ذلك أن الحقوق على ضربين (أحدهما) ما هو حق لآدمي (والثاني) ما هو حق لله تعالى وحق الآدمي ينقسم قسمين: (أحدهما) ما هو مال أو المقصود منه المال كالبيع والقرض والصلح والغصب والجناية الموجبة للمال فيستحلف فيه لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم (لو يعطى الناس بدعواهم لادعى قوم دماء رجال وأموالهم ولكن اليمين على المدعي عليه) متفق عليه ولحديث الحضرمي والكندي

(12/135)


(القسم الثاني) ما ليس بمال ولا المقصود منه المال وهو كل ما لا يثبت إلا بشاهدين كالقصاص وحد القذف والنكاح والطلاق والرجعة والعتق والنسب والاستيلاء والولاء والرق ففيه روايتان: (إحداهما) لا يستحلف المدعى عليه ولا تعرض عليه اليمين قال أحمد ولم أسمع من مضى جوز الأيمان إلا في الأموال والعروض خاصة، وهذا قول مالك ونحوه قول أبي حنيفة فإنه قال لا يستحلف في النكاح وما يتعلق به من دعوى الرجعة والفيئة في الإيلاء ولا في الرق وما يتعلق به من الاستيلاء والولاء والنسب لأن هذه الأشياء لا يدخلها البدل وإنما تعرض اليمين فيما يدخلها البدل فإن المدعى عليه مخير بين أن يحلف أو يسلم ولأن هذه الأشياء لا تثبت إلا بشاهدين ذكرين فلا تعرض فيها اليمين كالحدود.
(والرواية الثانية) يستحلف في الطلاق والقصاص والقذف وقال الخرقي إذا قال ارتجعتك فقالت انقضت عدتي قبل رجعتك فالقول قولها مع يمينها وإذا اختلفا في مضي الأربعة الأشهر في الإيلاء فالقول قوله مع يمينه فيخرج في هذا أنه يستحلف في كل حق لآدمي وهذا قول الشافعي وأبي يوسف ومحمد

(12/136)


لقول النبي صلى الله عليه وسلم (لو يعطى الناس بدعواهم لادعى قول دماء رجال وأموالهم) ولأن اليمين على المدعى عليه وهذا عام في كل مدعى وهو ظاهر في دعوى الدماء لذكرها في الدعوى مع عموم الأحاديث ولأنها دعوى صحيحة في حق آدمي فجاز أن يحلف عليه كدعوى المال وهذا أولى إن
شاء الله تعالى.
وقال أبو بكر عبد العزيز تشرع اليمين في كل حق لآدمي إلا في النكاح والطلاق لأن هذا مما لا يحل بذله فلم يستحلف كحقوق الله سبحانه وإنما كان كذلك لأن الإبضاع مما يحتاط لها فلا تستباح بالنكول لأن النكول ليس بحجة قوية لانه سكوت مجرد يحتمل أن يكون للخوف من اليمين ويحتمل أن يكون للجهل بحقيقة الحال، ويحتمل أن يكون لعلمه بصدق المدعي ومع هذه الاحتمالات لا نيبغي أن يقضي به فيما يحتاط له، وقال أبو الخطاب تشرع اليمين في كل حق لآدمي إلا في تسعة أشياء النكاح والرجعة والطلاق والرق والاستيلاء والنسب والقذف والقصاص لأن البدل لا يدخل هذه الأشياء ثم يستحلف فيها كحقوق الله سبحانه، وقال القاضي في الطلاق والقصاص والقذف روايتان (إحداهما) لا يستحلف فيها لذلك (والثانية) يستحلف فيها لأنها دعوى صحيحة يستحلف فيها كدعوى المال.
وأما الستة الباقية فلا يستحلف فيها رواية واحدة لما سبق وقال الخرقي لا يستحلف

(12/137)


في القصاص ولا المرأة إذا أنكرت النكاح وتحلف إذا ادعت انقضاء عدتها لما سبق وإذا أقام العبد شاهداً بعتقه حلف مع شاهده وعتق وهي إحدى الروايتين عن أحمد وقد ذكرنا ذلك (مسألة) (ولا يستحلف في حقوق الله سبحانه) وهي نوعان (أحدهما) الحدود فلا تشرع فيها يمين لا نعلم في هذا خلافاً لأنه لو أقر ثم رجع عن إقراره قبل منه وخلي من غير يمين فلأن لا يستحلف مع عدم الإقرار أولى ولأنه يستحب ستره والتعريض للمقر به بالرجوع عن إقراره وللشهود ترك الشهادة والستر عليه قال النبي صلى الله عليه وسلم لهزال في قصة ماعز (ياهزال لو سترته بثوبك لكان خيراً لك) فلا تشرع فيه يمين بحال (النوع الثاني) الحقوق المالية كدعوى الساعي الزكاة على رب المال وإن الحول قد تم وكمل النصاب فقال أحمد القول قول رب المال بغير يمين ولا يستحلف الناس على صدقاتهم وقول الشافعي وابو يوسف يستحلف لأنها دعوى مسموعة يتعلق بها حق آدمي أشبه حق الآدمي، ووجه الأول أنه حق لله تعالى أشبه الحد ولأن ذلك عبادة فلا يستحلف عليها كالصلاة ولو ادعى عليه أن عليه كفارة يمين أو ظهار أو نذر أو صدقة أو غيرها فالقول قوله في نفي ذلك من غير يمين ولا تسمع
الدعوى في هذا ولا في حد لله تعالى ولأنه لا حق للمدعي فيه ولا ولاية له عليه فلا تسمع منه دعواه

(12/138)


كما لو ادعى حقاً لغيره من غير إذنه ولا ولاية له عليه فإن تضمنت دعواه حقاً له مثل أن يدعي سرقة ماله لتضمين السارق أو يأخذ منه ما سرق أو يدعي عليه الزنا بجاريته ليأخذ مهرها منه سمعت دعواه ويستحلف المدعى عليه لحق الآدمي دون حق الله تعالى (مسألة) (ويجوز الحكم في المال وما يقصد به المال بشاهد ويمين المدعي) روى ذلك عن الخلفاء الأربعة رضي الله عنهم، وقد سبق ذكر ذلك ولا تقبل فيه شهادة امرأتين ويمين لأن شهادة النساء ناقصة وإنما أجيزت بانضمام الذكر إليهن فلا يقبلن منفردات وإن كثرن ويحتمل أن يقبل لأن المرأتين في المال مقام رجل فيحلف معهما كما يحلف مع الرجل وهو مذهب مالك ويبطل ذلك بشهادة أربع نسوة فإنه لا يقبل إجماعاً (مسألة) (وهل يثبت العتق بشاهد ويمين؟ على روايتين) (إحداهما) يثبت وهو اختيار الخرقي وأبي بكر لأنه إزالة ملك فيقبل فيه شاهد ويمين كالبيع أو إتلاف مال فيقبل فيه شاهد ويمين كالإتلاف بالفعل (والرواية الثانية) لا تثبت الحرية إلا بشاهدين عدلين ذكرين لأنه ليس بمال ولا المقصود منه المال ويطلع عليه الرجال في غالب الأحوال فاشبه الحدود والقصاص.

(12/139)


(مسألة) (ولا يقبل في النكاح والرجعة وسائر ما لا يستحلف فيه كالطلاق والوصية شاهد ويمين) لقول الله تعالى في الرجعة (وأشهدوا ذوي عدل منكم) وقسنا عليه سائر ما ذكرنا لأنه ليس بمال ولا يقصد به المال أشبه العقوبات وفيه رواية أخرى يقبل فيه رجل وامرأتان أو يمين لأنه ليس بعقوبة ولا يسقط بالشبهة أشبه المال وقال القاضي النكاح لا يثبت إلا بشاهدين والثاني يخرج فيه روايتان ذكرنا وجههما (مسألة) (ومن حلف على فعل نفسه أو دعوى عليه في الإثبات حلف على البت)
معنى البت القطع أي يحلف بالله ما له على شئ والايمان كلها على البت والقطع إلا على نفي فعل الغير فإنها على نفي العلم وبه قال أبو حنيفة ومالك والشافعي وقال الشعبي والنخعي كلها على العلم وذكره ابن أبي موسى رواية عن أحمد وذكر حديث البستاني عن القاسم بن عبد الرحمن عن النبي صلى الله عليه وسلم (لا تضطروا الناس في أيمانهم أن يحلفوا على ما لا يعلمون) ولأنه لا يحلف على ما لا علم له به وقال ابن أبي ليلى كلها علي البت كما يحلف على فعل نفسه ولنا حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم استحلف رجلاً فقال (قل والله الذي لا إله إلا هو ماله عليك حق) وروى الأشعث بن قيس أن رجلا من كندة ورجلاً من نضر موت اختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في أرض من اليمين فقال الحضرمي يارسول الله إن أرضي اغتصبنيها أبو هذا وهي في يده

(12/140)


قال (هل لك بينة؟) قال لا ولكن أحلفه: والله ما يعلم أنها أرضي اغتصبنيها أبوه فتهبأ الكندي لليمين رواه أبو داود ولم ينكر ذلك النبي صلى الله عليه وسلم وما ذكروه لا يصح لأنه يمكنه الإحاطة بفعل نفسه ولا يمكنه ذلك في فعل غيره فافترقا في اليمين كما لو افترقت الشهادة فأنها تكون بالقطع فيما يمكن القطع فيه من العقود وعلى الظن فيما لا يمكن فيه القطع من الأملاك والأسباب وعلى نفي العلم فيما لا تمكن الإحاطة بانتفائه كالشهادة على أنه لا وارث له إلا فلان وفلان وحديث القاسم بن عبد الرحمن محمول على اليمين على نفي فعل الغير إذا ثبت هذا فإنه يحلف فيما عليه على البت نفياً كان أو اثباتاً، وأما ما يتعلق بفعل غيره فان كان اثباتاً مثل أن يدعي أنه اقرض أو باع ويقيم شاهداً بذلك فانه يحلف مع شاهده على البت والقطع، وان كان على نفي مثل أن يدعي عليه دين أو غصب أو جناية فإنه يحلف على نفي العلم لا غير، وإن حلف عليه على البت كفاه وكان التقدير فيه العلم كما في الشاهد إذا شهد بعدد الورثة وقال ليس له وارث غيرهم سمع ذلك وكان التقدير فيه علمه ولو ادعى أن عبده استدان أو جنى فأنكر ذلك فيمينه على نفي العلم لأنها يمين على فعل الغير فاشبهت يمين الوارث على نفي فعل الموروث (فصل) ذكر ابن أبي موسى أنه اختلف قوله فيمن باع سلعة فظهر المشتري على عيب بها فانكره
البائع هل اليمين على البتات أو على علمه؟ على روايتين ولو ابق عبد المشتري فادعى على البائع أنه ابق عنده فأنكر هل يلزمه أن يحلف أنه لم يأبق قط أو على نفي علمه؟ على روايتين إلا أن يكون ولده

(12/141)


فيلزمه ان يجلف أنه لم يأبق قط، ووجه كون اليمين على نفي علمه أنها على نفي فعل الغير فأشبه ما لو ادعى عليه أن عبده جنى، ووحه الأخرى أنه ادعى عليه أنه باعه معيباً يستحق رده عليه فلزمته اليمين علي البت كما لو كان إثباتاً (مسألة) (ومن توجهت عليه يمين الجماعة فقال أحلف يميناً واحدة فرضوا جاز وإن أبوا حلف لكل واحد يميناً) إذا كان الحق لجماعة فرضوا بيمين واحدة صح وسقطت دعواهم باليمين لأنها حقهم ولأنه لما جاز ثبوت الحق ببينة واحدة لجماعة جاز سقوطه بيمين واحدة قال القاضي: ويحتمل أن لا يصح حتى يحلف لكل واحد يميناً وهو أحد الوجهين لأصحاب الشافعي لأن اليمين حجة في حق الواحد فإذا رضي بها اثنان صارت الحجة في حق كل واحد منهما ناقصة لا يعمل برضى الخصم كما لو رضي أن يحكم عليه بشاهد واحد والصحيح الأول لأن الحق لهما فإذا رضيا به جاز ولا يلزم من رضاهما بيمين واحدة أن يكون لكل واحد بعض اليمين كما أن الحقوق إذا قامت بها بينة واحدة لا تكون لكل حق بعض البينة فأما أن حلفه الحاكم لجميعهم يميناً واحدة فخطأه أهل عصره (1) (فصل) قال (الشيخ رحمه الله واليمين المشروعة هي اليمين بالله تعالى اسمه في قول عامة
__________
(1) كذا بالاصل

(12/142)


أهل العلم إلا أن مالكا أحب بالله الذي لا إله إلا هو وإن استحلف حاكم بالله أجزأ) قال ابن المنذر وهذا أحب إلي لأن ابن عباس روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استحلف رجلاً فقال (قل والله الذي لا إله الا هو ماله عندك شئ) رواه أبو داود وفي حديث عمر حين حلف لأبي قال والله الذي لا إله إلا هو إن النخل لتخلي وما لأبي فيها شئ وقال الشافعي إن كان المدعى قصاصاً أو عتاقاً أو حداً أو مالاً يبلغ نصابا غلظت اليمين فحلف بالله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة الرحمن الرحيم
الذي يعلم من السر ما يعلم من العلانية وقال في القسامة عالم خائنة الأعين وما تخفي الصدور وهذا اختيار أبي الخطاب وذكر القاضي أن هذا في أيمان القسامة خاصة وليس بشرط ولنا قول الله تعالى (فيقسمان بالله إن ارتبتم لا نشتري به ثمنا ولو كان ذا قربى) وقال تعالى (فيقسمان بالله لشهادتنا احق من شهادتهما) وقال تعالى في اللعان (فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله) وقال سبحانه (وأقسموا بالله جهد أيمانهم) قال بعض المفسرين من أقسم بالله فقد أقسم بالله جهد اليمين واستحلف النبي صلى الله عليه وسلم ركانة بن عبد يزيد في الطلاق فقال (آالله ما أردت إلا واحدة؟) وقال عثمان لابن عمر تحلف بالله لقد بعته وما به داء تعلمه ولأن فيه كفاية فوجب أن يكتفي باسمه في اليمين كالمواضع التي سلموها فأما حديث ابن عباس وابن عمر فإنه يدل على جواز الاستحلاف لذلك وما ذكرناه يدل على

(12/143)


الاكتفاء ببسم الله وحده وما ذكره الباقون تحكم لا نص فيه ولا قياس يقتضيه إذا ثبت هذا فإن اليمين في حق المسلم والكافر جميعاً بالله تعالى لا يحلف أحد بغيره لقول الله تعالى (فيقسمان بالله) ولقول النبي صلى الله عليه وسلم من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت (مسألة) (وإن رأى الحاكم تغليظها بلفظ أو زمن أو مكان جاز) ففي اللفظ يقول والله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب وشهادة الرحمن الرحيم الطالب الغالب الضار النافع الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور واليهودي والله الذي أنزل التوراة على موسى وفلق له البحر وانجاه من فرعون وملائه والنصراني يقول والله الذي أنزل الإنجيل على عيسى وجعله يحى الموتى ويبرئ الاكمه والايرص والمجوسي يقول والله الذي خلقني وصورني ورزقني، والزمان يحلفه بعد العصر وبين الأذانين والمكان يحلفه بمكة بين الركن والمقام وفي الصخرة ببيت المقدس وفي سائر البلدان عند المنبر ويحلف أهل الذمة في المواضع التي يعظمونها وهذا الذي ذكره شيخنا اختيار أبي الخطاب قال وقد أومأ إليه أحمد في رواية الميموني وذكر التغليظ في حق المجوسي قال قل والله الذي خلقني ورزقني وإن كان وثنياً حلفه بالله وحده وكذلك إن كان لا يعبد الله لأنه لا يجوز الحلف بغير الله تعالى لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم (من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت) ولأن

(12/144)


هذا إن لم يكن يعد هذه يميناً فإنما يزداد بها إثماً وعقوبة وربما عجلت عقوبته فيتعظ بذلك ويعتبر به غيره وهذا كله ليس بشرط في اليمين وإنما للحاكم فعله إذا رأى، وظاهر كلام الخرقي إن اليمين لا تغلظ إلا في حق أهل الذمة ولا تغلظ في حق المسلم وبه قال أبو بكر وذلك لما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني (لليهود نشدتكم بالله الذي أنزل التوراة على موسى ما تجدون في التوراة على من زنى؟) رواه أبو داود وكذلك قال الخرقي تغلظ في المكان فيحلف في المواضع التي يعظمونهما ويتوقى الكذب فيها ولم يذكر التغليظ بالزمان، وممن قال يستحلف أهل الكتاب بالله وحده مسروق وأبو عبيدة بن عبد الله وعطاء وشريح والحسن وابراهيم وكعب بن سور ومالك والثوري وأبو عبيد وممن قال لا يشرع التغليظ بالزمان والمكان في حق مسلم أبو حنيفة وصاحباه وقال مالك والشافعي تغلظ ثم اختلفا فقال مالك يحلف في المدينة على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحلف قائماً ولا

(12/145)


يحلف قائماً إلا على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ويستحلفون في غير المدينة في مساجد الجماعات ولا يحلف عند المنبر إلا على ما يقطع فيه السارق فصاعداً وهو ثلاثة دراهم وقال الشافعي يستحلف المسلم بين الركن والمقام بمكة وفي المدينة عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي سائر البلدان في الجوامع عند المنبر وعند الصخرة ببيت المقدس وتغلظ في الزمان في الاستحلاف بعد العصر على نحو ما ذكرناه في صدر المسألة ولا تغلظ في المال إلا في نصاب فصاعداً وتغلظ في الطلاق والعتاق والحد والقصاص وقال ابن حزم تغلظ بالقليل والكثير واحتجوا بقول النبي صلى الله عليه وسلم (من حلف على منبري هذا بيمين آثمة فليتبوأ مقعده من النار) فثبت أنه يتعلق بذلك تأكيد اليمين، وروى مالك قال اختصم زيد بن ثابت وابن مطيع في دار كانت بينهما إلى مروان بن الحكم فقال زيد أحلف له مكاني فقال مروان لا

(12/146)


والله الا عند منقطع الحقوق قال فجعل زيد يحلف أن حقه لحق ويأبى أن يحلف عند المنبر فجعل مروان يعجب.
ولنا قول الله تعالى (فآخران يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم الأوليان فيقسمان بالله لشهادتنا احق من شهادتهما) ولم يذكر مكاناً ولا زماناً ولا زيادة في اللفظ، واستحلف النبي صلى الله عليه وسلم ركانة في الطلاق فقال (آالله ما أردت إلا واحدة؟) قال آالله ما أردت إلا واحدة ولم يغلظ يمينه بزمن ولا مكان ولا زيادة لفظ، وحلف عمر لابي حين تحاكما إلى زيد في مكانه وكانا في بيت زيد وقال عثمان لابن عمر تحلف بالله لقد بعته وما به داء تعلمه وفيما ذكروه من التغليظ تقييد لهذه النصوص ومخالفة للإجماع فإن ما ذكر عن الخليفتين عمر وعثمان مع من حضرهما لم ينكر وهو في الشهرة فكان إجماعا وقوله تعالى (تحبسونهما من بعد الصلاة) إنما كان في حق أهل الكتاب والوصية في السفر وهي قضية خولف فيها القياس في مواضع، منها قبول شهادة أهل الكتاب على المسلمين، ومنها استحلاف الشاهدين، ومنها استحلاف خصومهما عند العثور على استحقاقهما الإثم وهم لا يعلمون بها أصلاً فكيف

(12/147)


يحتجون بها؟ ولما ذكر إيمان المسلمين أطلق اليمين ولم يقيدها والاحتجاج بهذا أولى من المصير إلى ما خولف فيه القياس وترك العمل به.
وأما حديثهم فليس فيه دليل على مشروعية اليمين عند المنبر إنما فيه دليل على تغليظ الإثم على الحالف.
وأما قضية مروان فمن العجب احتجاجهم بها وذهابهم إلى قول مروان في قضية خالفه زيد فيها وقول زيد فقيه الصحابة وقارئهم وأفرضهم أحق أن يحتج به من قول مروان الذي لو انفرد ما جاز الاحتجاج به فكيف يجوز مع مخالفة إجماع الصحابة وقول أئمتهم وفقهائهم ومخالفة فعلى النبي صلى الله عليه وسلم وإطلاق كتاب الله سبحانه وتعالى؟ فهذا مما لا يجوز إنما ذكر الخرقي التغليظ بالمكان واللفظ في حق الآدمي لاستحلاف النبي صلى الله عليه وسلم اليهود بقوله (نشدتكم بالله الذي أنزل التوراة على موسى) وروي عن كعب بن سور في النصراني قال: إذهبوا به إلى المذبح واجعلوا الإنجيل في حجره والتوراة على رأسه، وقال الشعبي في نصراني: اذهب إلى البيعة فاستحلفه بما يستحلف به مثله.
وقال ابن المنذر لا أعلم حجة توجب أن يستحلف في مكان بعينه ولا يميناً يستحلف بها غير التي يستحلف بها المسلمون، وفي الجملة لا خلاف بين المسلمين في أن التغليظ بالمكان والزمان والألفاظ غير

(12/148)


واجب إلا أن ابن الصباغ ذكر في وجوب التغليظ بالمكان قولين للشافعي وخالفه ابن القاص فقال لا خلاف بين أهل العلم أن القاضي حيث استحلف المدعى عليه في عمله وبلد قضائه جاز وانما التغليظ بالمكان اختيار منه فيكون التغليظ عند من رآه اختيارا واستحبابا.
(فصل) قال ابن المنذر ولم أجد أحداً يوجب اليمين بالمصحف وقال الشافعي رأيتهم يؤكدون بالمصحف ورأيت ابن مازن وهو قاض بصنعاء يغلظ اليمين بالمصحف قال أصحابه فيغلظ عليه بالحضار المصحف لأنه يشتمل على كلام الله وأسمائه وهذه زيادة على ما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم في اليمين وعلى ما فعله الخلفاء وقضاتهم من غير دليل ولا حجة يستند إليها ولا يترك فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وفعل أصحابه لفعل ان مازن ولا غيره (مسألة) (ولا تغلظ اليمين إلا فيما له خطر كالجنايات والعتاق والطلاق وما تجب فيه الزكاة من المال عند من يرى التغليظ)

(12/149)


وقيل ما يقطع فيه السارق روي ذلك عن مالك لأن التغليظ زيادة على اليمين التي ورد الشرع بوجوبها فلا تجب إلا بزيادة على مطلق الحق وترك التغليظ أولى على ما اختاره شيخنا ودل عليه إلا في موضع ورد الشرع به وصح كتحليف رسول الله صلى الله عليه وسلم اليهود بقوله (نشدتكم بالله الذي أنزل التوراة على موسى) ونحوه (مسألة) (وإن رأى الحاكم ترك التغليظ فتركه كان مصيباً) لموافقته مطلق النص وهو قوله عليه الصلاة والسلام (ولكن اليمين على المدعي عليه) (فصل) ومن توجهت عليه يمين وهو فيها صادق أو توجهت له أبيح له الحلف ولا شئ عليه من إثم ولا غيره لأن الله تعالى شرع اليمين ولا يشرع محرماً وقد أمر الله سبحانه نبيه عليه الصلاة والسلام أن يقسم على الحق في ثلاثة مواضع من كتابه منها قوله تعالى (زعم الذين كفروا أن لن

(12/150)


يبعثوا قل بلى وربي لتبعثن)) وحلف عمر لأبي على نخل ثم وهبه إياه وقال خفت إن لم أحلف أن يمتنع الناس من الحلف على حقوقهم فيصير سنة قال حنبل بلي أبو عبد الله بمثل هذا جاء إليه ابن عمه فقال لي قبلك حق من ميراث أبي وأطالبك بالقاضي وأحلفك فقيل لأبي عبد الله ما ترى؟ قال أحلف له، إذا لم يكن له في قبلي حق وأنا غير شاك في ذلك حلفت له وكيف لا أحلف وابن عمر قد حلف؟ وأنا من أنا؟ وعزم أبو عبد الله على اليمين فكفاه الله ذلك ورجع الغلام عن تلك المطالبة واختلف في الأولى فقال قوم الحلف أولى من افتداء يمينه لأن عمر حلف ولأن في الحلف فائدتين (إحداهما) حفظ ماله عن الضياع وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن إضاعته (والثانية) تخليص أخيه الظالم من مظلمته وأكل المال بغير حقه وهذا من نصحه ونصرته بكفه عن ظلمه وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم على رجل أن يحلف ويأخذ حقه وقال أصحابنا الأفضل افتداء يمينه فإن عثمان افتدى يميمنه وقال خفت إن يصادف قدراً فيقال حلف وعوقب، أو هذا شؤم يمينه.
وروى الخلال بإسناده أن حذيفة عرف جملاً سرق

(12/151)


له فخاصم إلى قاضي المسلمين فصارت اليمين على حذيفة فقال لك عشرة دراهم فأبى فقال لك عشرون فأبى فقال لك ثلاثون فأبى فقال لك أربعون فأبى فقال حذيفة أتراني أترك جملي؟ فحلف بالله أنه ما باع ولا وهب، ولان في اليمين عند الحاكم تبذلا ولا يأمن أن يصادف قدرا فينسب إلى الكذب وانه عوقب بحلفه كاذبا وفي ذهاب ماله أجر وليس هذا تضيبعا للمال فان أخاه المسلم ينتفع به في الدنيا ويغرمه له في الآخرة، وأما عمر فانه خاف لاستنان به وترك الناس الحلف على حقوقهم فيدل على أنه لولا ذلك لما حلف قال شيخنا وهذا أولى والله تعالى أعلم (فصل) والحلف الكذب ليقتطع به مال أخيه فيه اثم كبير وقيل أنه من الكبائر لأن الله تعالى وعده عليه العذاب الأليم فقال سبحانه (إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم) وروى ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من حلف على يمين صبر يقتطع بها مال امرئ مسلم هو فيها فاجر لقي الله وهو عليه غضبان) متفق عليه وقد روي في حديث أن يمين الغموس تدع الدبار بلاقع.

(12/152)


(فصل) ومن ادعى عليه دين وهو معسر به لم يحل له أن يحلف أنه لا حق له علي وبهذا قال المزني وقال أبو ثور له ذلك لأن الله تعالى قال (وإن كانوا ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة) ولأنه لا يستحق مطالبته في الحال ولا يجب عليه أداؤه إليه.
ولنا أن الدين في ذمته وهو حق له عليه ولو لم يكن عليه حق لم يجز إنظاره به (فصل) ويمين الحالف على حسب جوابه فإذا ادعى عليه أنه غصبه أو استودعه أو اقترض منه نظرنا في جواب المدعى عليه فإن قال ما غصبتك ولا استودعتني ولا أقرضتني كلف أن يحلف على ذلك، وإن قال مالك علي شئ أو لا تستحق علي شيئاً أو لا تستحق علي ما ادعيته ولا شيئاً منه كان جواباً صحيحاً ولا يكلف الجواب عن الغصب والوديعة والقرض لأنه يجوز أن يكون غصب منه ثم رده عليه فلو كلف جحد ذلك كان كاذباً، وإن أقر به ثم ادعى الرد لم يقبل منه فإذا طلبت منه اليمين حلف

(12/153)


على حسب ما أجاب ولو ادعى أنني ابتعتك الدار التي في يدك فأنكره وطلب يمينه فإن كان أجاب بأنك لا تستحقها حلف على ذلك

(12/154)


قال أحمد في رجل ادعى على رجل أنه أودعه فأنكره هل يحلف ما أودعتك؟ قال إذا حلف مالك عندي ولا في يدي شئ فهو يأتي على ذلك؟ وهذا يدل على أنه لا يلزمه أن يحلف على حسب الجواب

(12/155)


وأنه متى حلف مالك قبلي حق برئ بذلك ولأصحاب الشافعي وجهان كهذين (فصل) ولا تدخل اليمين النيابة ولا يحلف أحد عن غيره فلو كا ن المدعى عليه صغيراً أو مجنوناً

(12/156)


لم يحلف عنه حتى يبلغ الصبي أو يعقل المجنون ولم يحلف عنه وليه ولو ادعى الأب لإبنه الصغير حقاً أو ادعاه الوصي أو الأمين له وأنكر المدعى عليه فالقول قوله مع يمينه فإن نكل قضي عليه ومن لم ير

(12/157)


القضاء بالنكول ورأى رد اليمين على المدعي لم يحلف الولي عنهما ولكن تقف اليمين ويكتب الحاكم محضراً بنكول المدعى عليه، وإن ادعى على العبد دعوى وكانت مما يقبل قول العبد فيها على نفسه

(12/158)


كالقصاص والطلاق والقذف والخصومة معه دون سيده فإن قلنا أن اليمين تشرع في هذا حلف العبد دون سيده وإن نكل لم يحلف غيره.
وإن كان مما لا يقبل قول العبد فيه كاتلاف مال أو

(12/159)


جنياة توجب المال فالخصم السيد واليمين عليه ولا يحلف العبد فيها بحال، وإن نكل من توجهت عليه اليمين عنها وقال لي بينة أقيمها أو حساب أستثبته لأحلف على ما أتيقنه فذكر أبو الخطاب أنه لا يمهل وإن لم يحلف جعل ناكلاً.
وقيل لا يكون ذلك نكولاً ويمهل مدة قريبة كما لو ادعى قضاء أو ابراء (فصل) ولو ادعى على رجل ديناً أو حقاً فقال قد أبرأتني منه واستوفيته مني فالقول قول

(12/160)


المنكر الإبراء والاستيفاء مع يمينه ويكفيه أن يحلف بالله أن هذا الحق ويسميه تسمية يصير بها معلوما - برئت ذمتك منه ولا من شئ منه، أو ما برئت ذمتك من ذلك الحق ولا من شئ منه وإن ادعى استيفاءه أو البراءة بجهة معلومة كفاه الحلف على تلك الجهة وحدها

(12/161)


باب الدعاوى والبينات الدعوى إضافة الإنسان إلى نفسه شيئاً أو ملكاً أو استحقاقاً أو نحوه.
وهو في الشرع إضافته إلى نفسه استحقاق شئ في يد غيره أو في ذمته والمدعى عليه من يضاف إليه استحقاق شئ عليه.
وقال ابن عقيل الدعوى الطلب قال الله تعالى (ولهم ما يدعون) (مسألة) (والمدعي من إذا ترك سكت والمنكر من إذا سكت لم يترك) وقيل المدعي من يلتمس بقوله أخذ شئ من يد غيره وإثبات حق في ذمته والمدعى عليه من
ينكر ذلك وقد يكون كل واحد منهما مدعياً ومدعى عليه بأن يختلفا في العقد فيدعي كل واحد منهما أن اليمين غير الذي ذكره صاحبه.
والأصل في الدعوى قول النبي صلى الله عليه وسلم (لو أعطي الناس بدعواهم لادعى قول دماء قوم وأموالهم ولكن اليمين على المدعى عليه) رواه مسلم وفي حديث (البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه) (مسألة) (ولا تصح الدعوى والإنكار إلا من جائز التصرف) لأن من لا يصح تصرفه لا قول له في المال ولا يصح إقراره ولا تصرفه فلا تسمع دعواه ولا إنكاره كما لا يسمع إقراره

(12/162)


(مسألة) (وإن تداعيا عينا لم تخل من ثلاثة أقسام (أحدها) أن تكون في يد أحدهما فهي له مع يمينه أنه لا حق للآخر فيها إذا لم تكن بينة) لما روى ابن عباس رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لو أن الناس أعطوا بدعواهم لادعى ناس دماء رجال وأموالهم ولكن اليمين على المدعى عليه) متفق عليه.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم في قصة الحصرمي والكندي (شاهداك أو يمينه ليس لك إلا ذلك) ولأن الظاهر من اليد الملك (مسألة) (ولو تنازعا دابة أحدهما راكبها أو له عليها حمل والآخر أخذ بزمامها فهي للأول) لأن تصرفه أقوى ويده آكد وهو المستوفي لمنفعتها، فإن كان لأحدهما عليها حمل والآخر راكبها فهي للراكب لأنه أقوى تصرفاً فإن اختلفا في الحمل فادعاه الراكب وصاحب الدابة فهو للراكب لأن يده على الدابة والحمل معاً فأشبه ما لو اختلف الساكن وصاحب الدار في قماش فيها.
وإن تنازع الراكب وصاحب الدابة في السرج فهو لصاحب الدابة لأن السرج في العادة يكون لصاحب الفرس.
ولو تنازع اثنان في ثياب عبد لاحدهما فهي لصاحب العبد لأن يد العبد عليها وإن تنازع صاحب الثياب وآخر في العبد اللابس لها فهما سواء لأن نفع الثياب يعود إلى العبد لا إلى صاحب الثياب ومذهب الشافعي في هذا الفصل كالذي ذكرنا

(12/163)


(فصل) وإن تنازعا قميصاً أحدهما لابسه والآخر آخذ بكمه فهو للابسه لأن تصرفه أقوى وهو المستوفي لمنفعته، فإن كان كمه في يد أحدهما وباقيه مع الآخر أو تنازعا عمامة طرفها في يد أحدهما وباقيها في يد الآخر فهما سواء فيها لأن يد الممسك بالطرف عليها بدليل أنه لو كان باقيها على الأرض فنازعه فيها غيره كانت له وإذا كانت في أيديهما تساويا فيها (فصل) ولو كانت دار فيها أربعة أبيات في أحد أبياتها ساكن وفي الثلاثة الباقية ساكن أخر فاختلفا فيها فإن لكل واحد ما هو ساكن فيه لأن كل بيت منفصل عن صاحبه ولا يا شرك الخارج منه الساكن فيه في ثبوت اليد عليه وإن تنازعا الساحة التي يتطرق منها إلى البيوت فهي بينهما نصفان لاشتراكهما في ثبوت اليد عليها فأشبهت العمامة فيما ذكرنا (مسالة) (وإن تنازع صاحب الدار والخياط الابرة والمقص فهما للخياط) لأن تصرفه فيهما أكثر واظهر، والظاهر أن الإنسان إذا دعى خياط يخيط له فالعادة أنه يحمل معه إبرته ومقصه.
وإن اختلفا في القميص فهو لصاحب الدار إذ ليست العادة أن يحمل القميص معه يخيطه في دار غيره وإنما العادة أن يخيط قميص صاحب الدار فيها وإن اختلف صاحب الدار والنجار في القدوم والمنشار وآلة النجارة فهي النجار وإن اختلفا

(12/164)


في الخشبة المنشورة والأبواب والرفوف المنجورة فهي لصاحب الدار وإن اختلف النجاد ورب الدار في قوس الندف فهو للنجاد، وإن اختلفا في الفرش والقطن والصوف فهو لصاحب الدار (مسالة) (وإن تنازع هو والقراب القربة فهي للقراب) وإن اختلفا في الخابية والجرار فهي لصاحب الدار، ومذهب الشافعي في هذه المسائل على ما ذكرناه (مسألة) (وإن تنازعا عرصة فيها شجر أو بناء لأحدهما فهي له) لأنه استوفى لمنفعتها (مسألة) (وإن تنازعا حائطاً معقوداً ببناء أحدهما أو وحده أو متصلاً به اتصالاً لا يمكن إحداثه أو له عليه أزج فهو له وإن كان محلولاً من بنائهما أو معقوداً بهما فهو بينهما) وجملة ذلك أن الرجلين إذا تنازعا حائطاً بين ملكهما وتساويا في كونه معقودا ببنائهما معاً وهو
أن يكون متصلاً بهما إتصالاً لا يمكن إحداثه بعد بناء الحائط مثل اتصال البناء بالطين كهذه معطائر التي لا يمكن إحداث اتصال بعضها ببعض أو تساويا في كونه محلولاً من بنائهما أي غير متصل القنائهما الاتصال المذكور بل بينهما شق مستطيل كما يكون بين الحائطين اللذين الصق أحدهما بالأخر فهما سواء في الدعوى إن لم تكن لواحد منهما بينة تحالفا فيحلف كل واحد منهما على نصف الحائط أنه له وتكون بينهما نصفين لأن كل واحد منهما يده على نصف الحائط لكون الحائط في أيديهما.
وإن حلف كل واحد منهما على جميع الحائط أنه له وما هو لصاحبه جاز وبهذا قال أبو حنيفة وأبو ثور وابن

(12/165)


المنذر ولا أعلم فيه مخالفاً لأن المختلفين في العين إذا لم تكن لواحد منهما بينة فالقول قول من هي في يده مع يمينه، وإذا كانت في أيديهما كانت يد كل واحد منهما على نصفها فيكون القول قوله في نصفها مع يمينه، وإن كان لأحدهما بينة حكم له بها وإن كان لكل واحد منهما بينة تعارضتا وصارا كمن لا بينة لهما فإن لم تكن لهما بينة ونكلا عن اليمين كان الحائط في أيديهما على ما كان وإن حلف أحدهما ونكل الآخر قضي على الناكل فكان الكل للآخر، وإن كان متصلاً بببناء أحدهما دون الآخر فهو له مع يمينه وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي وقال أبو ثور لا يرجح بالعقد ولا ينظر إليه ولنا أن الظاهر أن هذا البناء بني كله بناء واحداً فإذا كان بعضه لرجل كان باقيه له والبناء الآخر الظاهر أنه بني وحده فإنه لو بني مع هذا كان متصلاً به فالظاهر أنه لغير صاحب هذا الحائط المختلف فيه فوجب أن يرجح بهذا كاليد فإن قيل فلم لا تجعلوه له بغير يمين لذلك؟ قلنا لأن ذلك ظاهر وليس بيقين إذا يحتمل أن أحدهما بنى الحائط لصاحبه تبرعا مع حائطه أو كان له فوهبه إياه أو بناه بأجرة فشرعت اليمين من أجل الاحتمال كما شرعت في حق صاحب اليد وسائر من وجبت عليه اليمين.
فأما إن كان معقوداً ببناء أحدهما عقد يمكن إحداثه كالبناء باللبن والآجر فإنه يمكن أن ينزع من الحائط المبني نصف لبنة أو آجرة ويجعل مكانها لبنة صحيحة أو آجرة صحيحة تعقد الحائطين فقال القاضي: لا يرجح بهذا لاحتمال أن يكون فعل هذا ليتملك الحائط المشترك، وظاهر كلام الخرقي أنه يرجح بهذا الاتصال
كما يرجح بالاتصال الذي لا يمكن إحداثه لأن الظاهر أن صاحب الحائط لا يدع غيره يتصرف فيه.

(12/166)


بنزع آجره وتغيير بنائه وفعل ما يدل على ملكه له فوجب أن يرجح كما يرجح باليد مع أنها تحتمل أن تكون يداً عادية حدثت بالغصب أو بالعارية أو الإجارة ولم يمنع ذلك الترجيح بها فإن كان لأحدهما عليه بناء كحائط مبني عليه أو عقد معتمد عليه أو قبة ونحو هذا فهو له، وبهذا قال الشافعي لأن وضع بنائه عليه بمنزلة اليد الثابتة لكونه منتفعاً به فجرى مجرى حمله على البهيمة وزرعه في الأرض ولأن الظاهر أن الإنسان لا يترك غيره يبني على حائط وكذلك إن كانت عليه سترة أو كان في أصل الحائط خشبة أو طرفها بجنب حائط منفرد به أحدهما أو له عليه أزج معقود فالحائط المختلف فيه له لأن الظاهر في الخشبة أنها لمن ينفرد بوضع بنائه عليها فيكون الظاهر أن ما عليها من البناء له (مسألة) ولا ترجح الدعوى بوضع خشب أحدهما عليه ولا بوجوه الآجر والتزويق والتجصيص ومعاقد القمط في الخمص) قال أصحابنا لا ترجح دعوى أحدهما بوضع خشبة على الحائط وهو قول الشافعي لأن هذا مما يسمح به الجار وقد ورد في الخبر النهي عن المنع منه وهو عندنا حق يجب التمكين منه فلا ترجح به الدعوى كإسناد متاعه إليه وتجصيصه وتزويقه ويحتمل أن ترجح به الدعوى وهو قول مالك لأنه

(12/167)


ينتفع به بوضع ماله عليه فأشبه الباني عليه والزارع في الأرض وورود الشرع بالنهي عن المنع منه لا يمنع كونه دليلاً على الاستحقاق بدليل أننا استدللنا بوضعه على كون الوضع مستحقاً على الدوام حتى متى زال جازت إعادته ولأن كونه مستحقاً تشترط له الحاجة إلى وضعه ففيما لا حاجة إليه له منعه من وضعه، وأما السماح به فإن أكثر الناس لا يسامحون به، ولهذا لما روى أبو هريرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم طأطئوا رؤوسهم كراهة لذلك فقال مالي أراكم عنها معرضين؟ والله لا رمين بها بين أكتافكم وأكثر الفقهاء لا يوجبون التمكين من هذا ويحملون الحديث على كراهة المنع لا على تحريمه ولأن الحائط يبنى لذلك فيرجح به كالأزج وقال أصحاب أبي حنيفة لا ترجح الدعوى بالجذع الواحد
لأن الحائط لا يبنى له وترجح بالجذعين لأن الحائط يبنى لهما ولنا أنه موضوع على الحائط فاستوى في ترجيح الدعوى قليله وكثيره كالبناء (فصل) ولا ترجح الدعوى بكون الدواخل إلى أحدهما والخوارج ووجوه الآجر والحجارة ولا كون الآجرة الصحيحة مما يلي أحدهما وقطع الآجر مما يلي ملك الآخر ولا بمعاقد القمط في الخص يعني عقد الخيوط التي يشد بها الخص، وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي وقال أبو يوسف ومحمد يحكم به لمن إليه وجه الحائط ومعاقد القمط لما روى نمران بن حارثة التميمي عن أبيه أن قوماً اختصموا

(12/168)


إلى النبي صلى الله عليه وسلم في خص فبعث حذيفة بن اليمان يحكم بينهم فحكم لمن تليه معاقد القمط ثم رجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال (أصبت وأحسنت) رواه ابن ماجة وروي نحوه عن علي ولأن العرف جار بأن من بنى حائطاً جعل وجه الحائط إليه ولنا عموم قوله عليه الصلاة والسلام (البينة على المدعي واليمين على من أنكر) ولأن وجه الحائط ومعاقد القمط إذا كانا شريكين فيه لا بد من أن يكون إلى أحدهما إذ لا يمكن كونه إليهما جميعاً فبطلت دلالته كالتزويق، ولأنه براد للزينة فهو كالتزويق، وحديثهم لا يثبته أهل النقل وإسناده مجهول قاله ابن المنذر قال الشالنجي ذكرت هذا الحديث لأحمد فلم يقنعه وذكرته لإسحاق بن راهويه فقال ليس هذا حديثاً ولم يصححه وحديث علي فيه مقال وما ذكروه من العرف ليس بصحيح فإن العادة جعل وجه الحائط إلى خارج ليراه الناس كما يلبس الرجل أحسن ثيابه أعلاها الظاهر للناس ليروه فيتزين به فلا دليل فيه (فصل) ولا ترجح الدعوى بالتزويق والتحسين ولا بكون أحدهما له الآجر وسترة غير مبنية عليه لأنه مما يتسامح به ويمكن إحداثه.

(12/169)


(مسالة) وإن تنازع صاحب العلو والسفل في السلم والدرجة فهي لصاحب العلو إلا أن يكون تحت الدرجة مسكن لصاحب السفل فيكون بينهما وإن تنازعا في السقف الذي بينهما فهو بينهما)
إذا تنازع صاحب العلو والسفل في الدرجة التي يصعد منها ولم يكن تحتها مرفق لصاحب السفل كسلم مستمر أو دكة فهي لصاحب العلو وحده لأن له اليد والتصرف وحده لكونها مصعد صاحب العلو لا غير والعرصة التي عليها الدرجة له أيضاً لانتفاعه بها وحده وإن كان تحتها بيت بنيت لأجله وليكون مدرجاً للعلو فهي بينهما لأن يدهما عليه ولأنها سقف للسفلاني وموطئ للفوقاني فهي كالسقف وإن كان تحتها طباق صغيرة لم تبن الدرجة لأجله وإنما جعل مرفقاً يجعل فيه حب الماء ونحوه فهي لصاحب العلو لأنها بنيت لأجله وحده، ويحتمل أن تكون بينهما لأن يدهما وانتفاعهما حاصل بها فهي كالسقف (فصل) فإن تنازعا السقف الذي بينهما تحالفا وكان بينهما وهذا مذهب الشافعي وقال أبو حنيفة هو لصاحب السفل لأن السقف على ملكه فكان القول قوله فيه كما لو تنازعا سرجاً على دابة أحدهما كان القول قول صاحبها وحكي عن مالك أنه لصاحب السفل وحكي عنه أنه لصاحب العلو لأنه يجلس عليه ويتصرف فيه ولا يمكنه السكنى إلا به ولنا أنه حاجز بين ملكيهما ينتفعان به غير متصل ببناء أحدهما اتصال البنيان فكان بينهما

(12/170)


كالحائط بين الملكين وقولهم هو على ملك صاحب السفل يبطل بحيطان العلو ولا يشبه السرج على الدابة لأنه لا ينتفع به غير صاحبها ولا يراد إلا لهذا فكان في يده وهذا السقف ينتفع به كل واحد منهما لأنه سماء صاحب السفل يظله وأرض صاحب العلو يقله فاستويا فيه، وإن تنازعا حوائط العلو فهي لصاحب العلو لما ذكرنا (مسالة) (وإن تنازع المؤجز والمستأجر في رف مقلوع أو مصراع له شكل منصوب في الدار فهو لصاحبها وإلا فهو بينهما) وجملة ذلك أن المكتري والمكري إذا اختلفا في شئ في الدار فإن كان مما ينقل ويحول كالأثاث والأواني والكتب فهو للمكتري لأن العادة أن الإنسان يكري داره فارغة من رحله وقماشه وإن كان في شئ مما يتبع في البيع كالأبواب المنصوبة والخوابي المدفونة والرفوف المسمرة والسلاليم
المستمرة والرحا المنصوبة وحجرها الفوقاني فهو للمكري لأنه من توابع الدار فأشبه الشجرة المغروسة فيها وإن كانت الرفوف موضوعة على أوتاد فقال أحمد إذا اختلفا في الرفوف فهي لصاحب الدار فظاهر هذا العموم في الزفوف كلها، وقال القاضي هي بينهما إذا تحالفا لأنها لا تتبع في البيع فأشبهت القماش فهذا ظاهر يشهد للمكتري وللمكري ظاهر يعارض هذا وهو أن المكري يترك الرفوف في الدار ولا ينقلها عنها فإذا تعارض الظاهر من الجانبين استويا وهذا مذهب الشافعي فعلى هذا إن

(12/171)


تحالفا كانت بينهما وإن حلف أحدهما ونكل الآخر فهي لمن حلف وذكر شيخنا في الكتاب المشروح أنه إن كان للرف شكل منصوب في الدار فهو لصاحب الدار مع يمينه وإن لم يكن له شكل فهو بينهما إذا تحالفا لأنه إذا كان له شكل منصوب في الدار فالمنصوب تابع للدار فهو لصاحبها والظاهر أن أحد الرفين لمن له الآخر وكذلك إذا اختلفا في مصراع باب مقلوع فالحكم فيه كما ذكرنا هكذا ذكره أبو الخطاب وذكره القاضي في موضع لأن أحدهما لا يستغني عن صاحبه فكان أحدهما لمن له الآخر كالحجر الفوقاني من الرحا والمفتاح مع السكرة (مسألة) وإن تنازعا داراً في أيديهما فادعاها أحدهما وادعى الآخر نصفها جعل بينهما نصفين واليمين على مدعي النصف نص عليه أحمد ولا يمين على الآخر لأن النصف المحكوم له به لا منازع له فيه ولا أعلم في هذا خلافاً إلا أنه حكي عن ابن شبرمة أن لمدعي الكل ثلاثة أرباعها لأن النصف له لا منازع له فيه والنصف الآخر يقسم بينهما على حسب دعواهما فيه ولنا أن مدعي النصف على ما يدعيه فكان القول قوله فيه مع يمينه كسائر الدعاوي فإن لكل واحد منهما بينة بما يدعيه فقد تعارضت بينتاهما في النصف فيكون النصف لمدعي الكل والنصف الآخر ينبني على الخلاف في أي البينتين تقدم، وظاهر المذهب تقديم بينة المدعي الكل وعلى قول

(12/172)


أبي حنيفة وصاحبيه إن كانت الدار في يد ثالث لا يدعيها فالنصف لصاحب الكل لا منازع له فيه
ويقرع بينهما في النصف الآخر فمن خرجت له القرعة حلف وكان له، وإن كان لكل واحد بينة تعارضتا وسقطتا وصارا كمن لا بينة لهما، وإن قلنا تستعمل البينتان أقرع بينهما وقدم من تقع له القرعة في أحد الوجهين والثاني يقسم بينهما النصف فيكون لمدعي الكل ثلاثة أرباعها (فصل) فإن كانت دار في يد ثلاثة ادعى أحدهم نصفها وادعى الآخر ثلثها وادعى الثالث سدسها فهذا اتفاق منهم على كيفيه ملكهم وليس ههنا اختلاف ولا تجاحد، وإن ادعى كل واحد منهم أن بقية الدار وديعة أو عارية كانت لكل واحد منهما بما ادعاه من الملك بينة قضي له بها لأن بينته تشهد بما ادعاه ولا معارض لها وإن لم تكن لواحد منهم بينة حلف كل واحد منهم وأقرفي يده ثلثها (فصل) فإن ادعى أحدهم جميعها والآخر نصفها والآخر ثلثها فإن لم يكن لواحد منهم بينة قسمت بينهم أثلاثاً وعلى كل واحد منهم اليمين على ما حكم له به لأن يد كل واحد منهم على ثلثها وإن كانت لأحدهم بينة نظرت فإن كانت لمدعي الجميع فهي له وإن كانت لمدعي النصف أخذه والباقي بين الآخرين نصفين لصاحب الكل السدس بغير يمين ويحلف على نصف السدس ويحلف الآخر على الربع الذي يأخذه جميعه وإن كانت البينة لمدعي الثلث أخذه والباقي بين الآخرين لمدعي الكل السدس بغير يمين ويحلف على السدس الآخر ويحلف الآخر على جميع ما يأخذه وإن كانت لكل

(12/173)


واحد بما يدعيه بينة فإن قلنا تقدم بينة صاحب اليد قسمت بينهم أثلاثاً لأن يد كل واحد منهم على الثلث وإن قلنا تقدم بينة الخارج فينبغي أن تسقط بينة صاحب الثلث لأنها داخلة ولمدعي النصف السدس لأن بينته خارجة فيه ولمدعي الكل خمسة أسداس لأن له السدس بغير بينة لكونه لا منازع له فيه لأن أحداً لا يدعيه وله الثلثان لكون بينته خارجة فيهما وقيل بل لمدعي الثلث السدس لأن بينته تدعي الكل وتدعي النصف تعارضتا فيه وتساقطتا وبقي لمن هو في يده ولا شئ لمدعي النصف لعدم ذلك فيه وسواء كان لمدعي الثلث بينة أو لم تكن، وإن كانت العين في يد غيرهم واعترف أنه لا يملكها ولا بينة لهم فالنصف لمدعي الكل لأنه ليس منهم من يدعيه ويقرع بينهم في النصف الباقي فإن خرجت القرعة لصاحب الكل أو صاحب النصف حلف وأخذه وإن خرجت لصاحب
الثلث حلف وأخذ الثلث ثم يقرع بين الآخرين في السدس فمن قرع صاحبه حلف وأخذه وإن أقام كل واحد منهم بينة بما ادعاه فالنصف لمدعي الكل لما ذكرنا والسدس الزائد يتنازعه مدعي الكل ومدعي النصف والثلث يدعيه الثلاثة وقد تعارضت البينات فيه فإن قلنا تسقط البينات قرعنا بين المتنازعين فيما تنازعوا فيه فمن قرع صاحبه حلف وأخذه ويكون الحكم فيه كما لو لم تكن لهم بينة وهذا قول أبي عبيد وقول الشافعي إذ كان بالعراق وعلى الرواية التي تقول إذا تعارضت البينتان قسمت العين بين المتداعيين فلمدعي الكل النصف ونصف السدس الزائد وثلث الثلث ولمدعي النصف نصف

(12/174)


السدس وثلث الثلث ولمدعي الثلث ثلثه وهو التسع فتخرج المسألة من ستة وثلاثين لمدعي الكل النصف ثمانية عشر ونصف السدس ثلاثة والتسع أربعة فذلك خمسة وعشرون سهماً ولصاحب النصف سبعة ولمدعي الثلث أربعة وهو التسع وهذا قياس قول قتادة والحارث العكلي وابن شبرمة وحماد وأبي حنيفة وهو قول الشافعي وقال أبو ثور يأخذ مدعي الكل النصف ويوقف الباقي حتى يتبين وروى هذا عن مالك وهو قول الشافعي وقال ابن أبي ليلى وقوم من أهل العراق تقسم العين بينهم على حسب عول الفرائض لصاحب الكل ستة ولصاحب النصف ثلاثة ولصاحب الثلث اثنان فصح من أحد عشر سهما.
وسئل سهل بن عبد الله بن أويس عن ثلاثة ادعوا كيساً وهو بأيديهم ولا بينة لهم وحلف كل واحد منهم على ما ادعاه ادعى أحدهم جميعه وادعى الآخر ثلثيه وادعى آخر نصفه فأجاب فيها بشعر: نظرت أبا يعقوب في الحسب التي طرت * فأقامت منهم كل قاعد فللمدعي الثلثين ثلث وللذي * استلاط جميع المال عند التحاشد من المال نصف غير ماسيغو به * وحصته من نصف ذا المال زائد وللمدعي نصفاً من المال ربعه * ويؤخذ نصف السدس من كل واحد وهذا قول من قسم المال بينهم على حسب العول فكأن المسألة عالت إلى ثلاثة عشر وذلك

(12/175)


أنه أخذ مخارج الكسور وهي ستة فجعلها لمدعي الكل وثلثاها أربعة لمدعي الثلثين ونصفها ثلاثة لمدعي النصف صارت ثلاثة عشر (فصل) فإن كانت الدار في أيدي أربعة فادعى أحدهم جميعها والثاني ثلثيها والثالث نصفها والرابع ثلثها ولا بينة لهم حلف كل واحد منهم وله ربعها لأنه في يده والقول قول صاحب اليد مع يمينه، وإن أقام كل واحد منهم بما ادعاه بينة قسمت بينهم أرباعا أيضاً لأننا إن قلنا تقدم بينة الداخل فكل واحد منهم داخل في ربعها فتقدم بينته فيه، وإن قلنا تقدم بينة الخارج فإن الرجلين إذا ادعيا عينا في يد غيرهما فأنكرهما وأقام كل واحد منهما بينة بدعواه تعارضتا وأقر الشئ في يد من هو في يده، وإن كانت الدار في يد خامس لا يدعيها ولا بينة لواحد منهم بما ادعاه فالثلث لمدعي الكل لأن أحداً لا ينازعه فيه ويقرع بينهم في الباقي، فإن خرجت القرعة لصاحب الكل أو مدعي الثلثين أخذه وإن وقعت لمدعي النصف أخذه وأقرع بين الباقين في الباقي فإن وقعت لصاحب الثلث أخذه وأقرع بين الثلاثة في الثلث الباقي وهذا قول أبي عبيد والشافعي إذ كان بالعراق إلا أنهم عبروا عنه بعبارة أخرى فقالوا لمدعي الكل الثلث ويقرع بينه وبين مدعي النصف في السدس الزائد عن الثلث ثم يقرع بين الأربعة في الثلث الباقي ويكون الاقرار في ثلاثة مواضع، على الرواية الأخرى الثلث لمدعي الكل ويقسم السدس الزائد عن النصف بينه وبين مدعي الثلثين ثم يقسم السدس الزائد عن الثلث بينهما وبين مدعي النصف أثلاثاً ثم يقسم الثلث الباقي بين الأربعة أرباعاً وتصح المسألة من

(12/176)


ستة وثلاثين سهماً لصاحب الكل ثلئها اثنا عشر ونصف السدس الزائد عن النصف ثلاثة وثلث السدس الزائد عن الثلث سهمان وربع الثلث الباقي ثلاثة فيحصل له عشرون سهماً وذلك خمسة أتساع الدار، ولمدعي الثلثين ثمانية أسهم تسعان وهي مثل ما لمدعي الكل بعد الثلث الذي انفرد به ولمدعي النصف خمسة أسهم تسع وربع تسع، ولمدعي الثلث ثلاثة نصف سدس وعلى قول من قسمها على العول من خمسة عشر لصاحب الكل ستة ولصاحب الثلثين أربعة ولصاحب الثلث سهمان ولصاحب النصف ثلاثة وعلى قول أبي ثور لصاحب الكل الثلث ويوقف الباقي
(مسألة) (وإن تنازع الزوجان أو ورثتهما في قماش البيت فما كان يصلح للرجال فهو للرجل وما كان يصلح للنساء فهو للمرأة وما كان يصلح لهما فهو بينهما) إذا اختلف الزوجان في قماش البيت أو في بعضه فقال كل واحد منهما جميعه لي أو قال كل واحد منهما هذه العين لي وكانت لأحدهما بينة ثبت له بلا خلاف، وإن لم تكن لواحد منهما بينة فالمنصوص عن أحمد أن ما يصلح للرجال من العمائم وقمصانهم وجبابهم والأقبية والطيالسة والسلاح وأشباه ذلك القول فيه قول الرجل مع يمينه وما يصلح للنساء كحليهن وقمصهن ومقانعهن ومغازلهن

(12/177)


فالقول قول المرأة مع يمينها وما يصلح لهما كالمفارش والأواني فهو بينهما وسواء كان في أيديهما من طريق الحكم أو من طريق المشاهدة وسواء اختلفوا في حال الزوجية أو بعد البينونة وسواء اختلفا أو اختلف ورثتهما أو أحدهما وورثة الآخر قال أحمد في رواية الجماعة منهم يعقوب بن بختان في الرجل يطلق زوجته أو يموت فتدعي المرأة المتاع: فما كان يصلح للرجال فهو للرجل وما كان من متاع النساء فهو للنساء وما استقام أن يكون للرجال وللنساء فهو بينهما، فإن كان المتاع على يدي غيرهما فمن أقام البينة دفع إليه وإن لم تكن لهما بينة أقرع بينهما فمن كانت له القرعة حلف وأعطي المتاع وقال في رواية مهنا وكذلك إن اختلفا وأحدهما مملوك وبهذا قال الثوري وابن أبي ليلى لأن أيديهما جميعاً على قماش البيت بدليل ما لو نازعهما فيه أجنبي كان القول قولهما وقد يرجح أحدهما على صاحبه يداً وتصرفاً فيجب تقديمه كما لو تنازعا دابة أحدهما راكبها والآخر آخذ بزمامهما أو قميصاً أحدهما لابسه والآخر آخذ بكمه أو جداراً متصلاً بجداريهما معقوداً ببناء أحدهما (مسألة) (وإن اختلف صانعان في قماش دكان لهما حكم بآلة كل صناعة لصاحبها في ظاهر كلام أحمد والخرقي) لما ذكرنا فيما إذا اختلف الزوجان في قماش البيت فألة العطار له وآلة النجارين للنجار فإن لم يكونا في دكان واحد ولكن اختلفا في عين لم يرجح أحدهما بصلاحية العين المختلف له فيها كما يذكر في مسألة الزوجين بعد وقال القاضي هذا إنما هو إذا كانت أيديهما عليه من طريق

(12/178)


الحكم أما ما كان في يد أحدهما من طريق المشاهدة فهو له مع يمينه، وإن كان في أيديهما قسم بينهما نصفين سواء كان يصلح لهما أو لأحدهما وهذا قول أبي حنيفة ومحمد بن الحسن إلا أنهما قالا ما يصلح لهما ويدهما عليه من طريق الحكم فالقول فيه قول الرجل مع يمينه، وإذا اختلف أحدهما وورثة الآخر فالقول قول الباقي، لان اليد المشاهدة أقوى من اليد الحكمية بدليل ما لو تنازع الخياط وصاحب الدار في الإبرة والمقص كانت للخياط وقال أبو يوسف القول قول المرأة فيما جرت العادة أنه قدر جهاز مثلها وقال مالك ما صلح لكل واحد منهما فهو له وما صلح لهما كان للرجل سواء كان في أيديهما من طريق المشاهدة أو من طريق الحكم لأن البيت للرجل ويده عليه أقوى لأن عليه السكنى وقال الشافعي وزفر والبتي ما كان في البيت فهو لهما نصفين فيحلف كما واحد منهما على نصفه ويأخذه وروي ذلك عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه لأنهما تساويا في ثبوت يدهما على المدعي وعدم البينة فلم يقدم أحدهما على صاحبه كالذي يصلح لهما أو كما لو كان في يدهما من حيث المشاهدة عند من سلم ذلك ولنا أن يديهما جميعاً على متاع البيت بدليل ما لو نازعهما فيه أجنبي كان القول قولهما وقد يرجح أحدهما على صاحبه يداً وتصرفاً فيجب أن يقدم كما لو تنازعا دابة أحدهما راكبها والآخر آخذ بزمامها أو جداراً متصلاً بداريهما معقوداً ببناء أحدهما أوله أزج ولنا على أبي حنيفة والقاضي أنهما تنازعا فيما في أيديهما أشبه إذا كان في اليد الحكمية، فأما ما كان

(12/179)


يصلح لهما فإنه في أيديهما ولا مزية لأحدهما على صاحبه أشبه إذا كان في أيديهما من جهة المشاهدة والدلالة على أنه ليس للباقي منهما أن وارث الميت قائم مقامه أشبه ما لو جعل أحدهما لنفسه وكيلاً (فصل) فأما إذا لم تكن لأحدهما يد حكمية بل تنازع رجل وامرأة في عين غير قماش بينهما فلا يرجح أحدهما بصلاحية ذلك له بل إن كانت في أيديهما فهي بينهما وإن كانت في يد أحدهما فهي له وإن كانت في يد غيرهما اقترعا عليها فمن خرجت له القرعة فهي له واليمين على من حكمنا له بها في كل المواضع لأنه ليس لهما يد حكمية فأشبها سائر المختلفين
(مسألة) (وكل من قلنا هو له فهو له مع يمينه إذا لم تكن بينة) لاحتمال ما ادعاه خصمه (مسألة) (وإن كان لأحدهما بينة حكم له بها) وجملة ذلك أن البينة إذا كانت للمدعي وحده وكانت العين في يد المدعي عليه حكم باليمين للمدعي بغير خلاف ولم يحلف وهو قول أهل الفتيا من أهل الأمصار منهم الزهري والثوري وابو حنيفة ومالك والشافعي وقال شريح وعون بن عبد الله والنخعي والشعبي وابن أبي ليلى يستحلف الرجل مع بينته قال شريح لو أثبت كذا وكذا شهداء عندي ما قضيت لك حتى تحلف ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم (البنية على المدعي واليمين على المدعى عليه) ولأن البينة أحد حجتي الدعوى

(12/180)


فيكتفى بها كاليمين إذا ثبت ذلك فقال أصحابنا لا فرق بين الحاضر والغائب والحي والميت والعاقل والمجنون والصغير والكبير وقال الشافعي إذا كان المشهود عليه لا يعبر عن نفسه أحلف المشهود له لأنه لا يعبر عن نفسه في دعوى القضا والإبراء فيقوم الحاكم مقامه في ذلك لنزول الشبهة قال شيخنا وهذا حسن فإن قيام البينة للمدعي بثبات حقه لا بنفي احتمال القضاء والإبراء بدليل أن المدعي عليه لو ادعاه سمعت دعواه وبينته فإذا كان حاضرا مكلفا فسكوته عن الدعوى دليل على انتفائه فيكتفى بالبينة فإن كان غائباً أو ممن لا قول له بقي احتمال ذلك من غير دليل يدل على انتفائه فتشرع اليمين لنفيه وإن لم تكن للمدعي بينة وكانت للمنكر بينة سمعت بينته ولم يحتج إلى الحلف معها لأنا إن قلنا بتقديمها مع التعارض وأنه لا يحلف معها فمع إفرادها أولى، وإن قلنا بتقديم بينة المدعي عليه فيجب أن يكتفى بها عن اليمين لانها أقوى من اليمين فإذا اكتفي باليمين فيما هو أقوى منها أولى ويحتمل أن تشرع أيضاً لأن البينة ههنا يحتمل أن يكون مستندها اليد والتصرف فلا تفيد إلا ما أفادته اليد والتصرف لا يغني عن اليمين فكذلك ما قام مقامه (مسألة) (وإن كان لكل واحد منهما بينة حكم بها للمدعي في ظاهر المذهب، وعنه إن

(12/181)


شهدت بينة المدعي عليه أنها له نتجت في ملكه أو قطيعة من الإمام قدمت بينته وإلا فهي للمدعي
ببينته وقال القاضي فيهما إذا لم يكن مع بينة الداخل ترجيح لم يحكم بها رواية واحدة وقال أبو الخطاب فيه رواية أخرى أنها مقدمة بكل حال) وجملة ذلك أن من ادعى عيناً في يده غير فأنكره وأقام كل واحدة منهما بينة حكم بها للمدعي ببينته وتسمى بينة الخارج وبينة المدعي عليه تسمى بينة الداخل وقد اختلفت الرواية عن أحمد رحمه الله فيما إذا تعارضتا فالمشهور عنه تقديم بينة المدعي ولا تسمع بينة المدعي عليه بحال وهذا اختيار الخرقي وهو قول إسحاق وعنه رواية ثانية إن شهدت بينة الداخل بسبب الملك فقالت نتجت في ملكه أو اشتراها أو نسجها أو كانت بينته أقدم تاريخاً قدمت وإلا قدمت بينة المدعي وهو قول أبي حنيفة وأبي ثور في النتاج والنساج فيما لا يتكرر نسجه، وأما ما يتكرر نسجه كالخز والصوف فلا تسمع بينته لأنها إذا شهدت بالسبب فقد افادت مالا تفيده اليد وقد روى جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم اختصم إليه رجلان في دابة أو بعير فقام كل واحد منهما البينة أنه أنتجها فقضى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم للذي هي في يده، وذكر أبو الخطاب رواية ثالثة أن بينة المدعي عليه تقدم بكل حال وهو قول شريح والشعبي والحكم والشافعي وأبي عبيد وقال هو قول أهل المدينة وأهل الشام وروي ذلك عن طاوس وأنكر القاضي كون هذا رواية عن أحمد وقال لا تقدم بينة الداخل إذا لم تفد إلا ما أفادته يده رواية واحدة واحتج من ذهب إلى تقديم بينة المدعي عليه بأن جنبته أقوى لأن الأصل معه ويمينه تقدم

(12/182)


على يمين المدعي فإذا تعارضت البيتان وجب إبقاء يده على ما فيها وتقديمه كما لو لم تكن بينة لواحد منهما وحديث جابر يدل على هذا فإنه إنما قدم بينته ليده ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم (البينة على المدعي واليمين على المدعي عليه) فجعل جنس البينة من جنبة المدعي فلا يبقى في جنبة المدعي عليه بينة ولأن بينة المدعي أكثر فائدة فوجب تقديمها كتقديم بينة الجرح والتعديل ودليل كثرة فائدتها أنها تثبت شيئاً لم يكن وبينة المنكر إنما تثبت ظاهراً تدل اليد عليه فلم تكن مفيدة ولأن الشهادة بالملك يجوز أن يكون مستندها رؤية اليد والتصرف فإن ذلك جائز عند كثير من أهل العلم فصارت البينة بمنزلة اليد المفردة فقدم عليه بينة المدعي كما تقدم اليد
كما ان شاهدي الفرع لما كانا مبنيين على شاهدي الأصل لم تكن لهما مزية عليهما (فصل) وأي البينتين قدمناها لم يحلف صاحبها وقال الشافعي في أحد قوليه يستحلف صاحب اليد لأن البينتين سقطتا بتعارضهما فصارتا كمن لا بينة لهما فيحلف الداخل كما لو لم تكن لواحد منهما بينة ولنا أن إحدى البينتين راجحة فيجب الحكم بها منفردة كما لو تعارض خبران خاص وعام أو أحدهما ارجح بوجه من الوجوه ولا نسلم أن البينة الراجحة تسقط وإنما ترجح ويعمل بها وتسقط المرجوحة (مسألة) (وإن أقام الداخل ببينة أنه اشتراها من الخارج وأقام الخارج بينة أنه اشتراها

(12/183)


من الداخل فقال القاضي تقدم بينة الداخل لأنه الخارج في المعنى وقيل تقدم بينة الخارج) لقول النبي صلى الله عليه وسلم (البينة على المدعي) (فصل) إذا ادعى الخارج أن العين ملكه وأنه أودعها الداخل أو أعاره إياها أو أجرها منه ولم تكن لواحد منهما بينة فالقول قول المنكر مع يمينه لا نعلم فيه خلافاً وإن كان لكل واحد منهما بينة قدمت بينة الخارج وهو قول الشافعي وقال القاضي بينة الداخل مقدمة لأنه هو الخارج في المعنى كالمسألة قبلها لأنه ثبت أن المدعي صاحب اليد فإن يد الداخل نائبة عنه ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم (البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه) فتكون البينة للمدعي كما لو لم يدع الإيداع.
يحققه أن دعواه الإيداع زيادة في حجته وشهادة البينة بها تقوية لها فلا يجوز أن تكون مبطلة لبينته، وإن ادعى الخارج أن الداخل غصبه اياها وقام بينتين قضي للخارج ويقتضي قول القاضي أنها للداخل والأولى ما ذكرناه (فصل) فان كان في يد رجل جلد شاة مسلوخة ورأسها وسواقطها وباقيها في يد آخر فادعاها كل واحد منهما جميعها ولا بينة لهما ولا لأحدهما فلكل واحد منهما ما في يده مع يمينه وإن أقاما بينتين وقلنا تقدم بينة الداخل فلكل واحد منهما ما في يده من غير يمين وإن كان في يد كل واحد منهما شاة فادعى كل واحد منهما أن الشاة التي في يد صاحبه له ولا بينة لهما حلف كل واحد منهما

(12/184)


لصاحبه وكانت الشاة التي في يده له وإن أقاما بينتين فلكل واحد منهما شاة التي في يد صاصبه ولا تعارض بينهما وإن كان كل واحد قال هذه الشاة التي في يدك لي من نتاج شاتي هذه فالتعارض في النتاج لا في الملك وإن ادعى واحد منهما أن الشاتين له دون صاحبه وأقاما بينتين تعارضتا وانبنى ذلك على القول في بينة الداخل والخارج فمن قدم بينة الخارج جعل لكل واحد منهما ما في يد الآخر ومن قدم بينة الداخل أو قدمها إذا شهدت بالنتاج جعل لكل واحد منهما ما في يده (فصل) إذا ادعى زيد شاة في يد عمرو وأقام بها بينة فحكم له بها حاكم ثم ادعاها عمرو على زيد وأقام بها بينة فإن قلنا بينة الخارج مقدمة لم تسمع بينة عمرو لأن بينة زيد مقدمة عليها وإن قلنا بينة الداخل مقدمة نظرنا في الحكم كيف وقع؟ فإن كان حكم بها لزيد لأن عمراً لا بينة له ردت إلى عمرو لأنه قد قامت له بينة واليد كانت له وإن كان حكم بها لزيد لأنه يرى تقديم بينة الخارج لم ينقض حكمه لأنه حكم بما يسوغ الاجتهاد فيه وإن كانت بينة عمرو قد شهدت له أيضاً وردها الحاكم لفسقها ثم عدلت لم ينقض الحكم أيضاً لأن الفاسق إذا شهد عند الحاكم بشهادة فردها لفسقه ثم أعادها بعد لم تقبل وإن لم يعلم الحكم كيف كان لم ينقض لأنه حكم حاكم الأصل جريانه على الصحة والعدل فلا ينقض بالاحتمال وإن جاء ثالث فادعاها وأقام بها بينة فبينته وبينة زيد متعارضتان ولا

(12/185)


يحتاج زيد إلى إقامة بينة لأنها قد شهدت مرة وهما سواء في الشهادة حال التنازع فلم يحتج إلى إعادتها كالبينة إذا شهدت ووقف الحكم على البحث عن حالها ثم بانت عدالتها فإنها تقبل ويحكم بها من غير إعادة شهادتهما كذا ههنا (فصل) وإذا كان في يد رجل شاة فادعاها رجل أنها له منذ سنة وأقام بذلك بينة وادعى الذي هي في يده أنها في يديه منذ سنتين وأقام بذلك بينة فهي للمدعي بغير خلاف لأن بينته تشهد له بالملك وبينة الداخل تشهد باليد خاصة فلا تعارض بينهما لإمكان الجمع بينهما بأن تكون اليد عن غير ملك فكانت بينة الملك أولى وإن شهدت بينته بأنها ملكه منذ سنتين فقد تعارض ترجيحان تقديم
التاريخ من بينة الداخل وكون الأخرى بينة الخارج ففيه روايتان (إحداهما) تقدم بينة الخارج وهو قول أبي يوسف ومحمد وأبي ثور ويقتضيه عموم كلام الخرقي لقوله عليه الصلاة والسلام (البينة على المدعي) ولأن بينة الداخل يجوز أن يكون مستندها اليد فلا تفيد أكثر مما تفيده اليد فاشبهت الصورة الأولى (والثانية) تقدم بينة الداخل وهو قول أبي حنيفة والشافعي لأنها تضمنت زيادة وإن كانت بالعكس فشهدت بينة الداخل أنه يملكها منذ سنة وشهدت بينة الخارج أنه يملكها منذ سنتين قدمت بينة الخارج إلا على الرواية التي تقدم فيها بينة الداخل فيخرج فيها وجهان بناء على الروايتين في التي قبلها وظاهر مذهب الشافعي تقديم بينة الداخل على كل حال وقال بعضهم فيها

(12/186)


قولان فإن ادعى الخارج أنها ملكه منذ سنة وادعى الداخل أنه اشتراها منه منذ سنتين وأقام كل واحد منهما بينة قدمت بينة الداخل ذكره القاضي وهو قول أبي ثور فإن اتفق تاريخ البينتين إلا أن بينة الداخل تشهد بنتاج أو شراء أو غنيمة أو إرث أو هبة من مالك أو قطيعة من الإمام أو سبب من أسباب الملك ففي أيهما يقدم روايتان ذكرناهما فإن ادعى أنه اشتراها من الآخر قضي له بها لأن بينة الابتياع شهدت بأمر حادث خفي على البينة الآخرى فقدمت عليها كما تقدم بينة الجرح على التعديل (فصل) قال رحمه الله (القسم الثاني أن تكون العين في يديهما فيتحالفان وتقسم بينهما) وجملة ذلك أنه إذا تنازع نفسان في عين في أيديهما فادعى كل واحد منهما أنها له دون صاحبه ولم تكن لهما بينة حلف كل واحد منهما لصاحبه وجعلت بينهما نصفين لا نعلم في هذا خلافاً لأن يد كل واحد منهما على نصفها والقول قول صاحب اليد مع يمينه وإن نكلا جميعاً عن اليمين فكذلك لأن كل واحد منهما يستحق ما في يد الآخر بنكوله، وإن نكل أحدهما وحلف الآخر قضي له بجميعها لأنه يستحق ما في يده بيمينه وما في يد الآخر بنكوله أو بيمينه التي ردت عليه بنكول صاحبه، وإن كان لأحدهما بينة دون الأخر حكم له بها بغير خلاف علمناه لأنه يرجح بالبينة (مسألة) (وإن تنازعا مسناة بين نهر أحدهما وأرض الآخر تحالفا وهي بينهما) لأنها حاجز بين ملكيهما فكانت يدهما عليه كما لو تنازعا حائطاً بين داريهما وفي كل موضع قلنا

(12/187)


هو بينهما نصفين إنما يحلف كل واحد منهما على النصف الذي يجعله له دون ما لا يحصل له (مسألة) (وإن تنازعا صبياً في يديهما فكذلك) لأن يديهما عليه واليد دليل الملك والطفل لا يعبر عن نفسه فهو كالبهيمة والمتاع إلا أن يعترف أن سبب يده غير الملك مثل أن يلتقطه فلا تقبل دعواه لرقه لأن اللقيط محكوم بحريته فأما غيره فقد وجد فيه دليل الملك من غير معارض فيحكم برقه فعلى هذا إذا بلغ فادعى الحرية لم تسمع دعواه لأنه محكوم برقه قبل دعواه فأما إن كان مميزاً فقال إني حر منعا منه إلا أن تقوم بينة برقه لأن الظاهر الحرية وهي الأصل في بني آدم والرق طارئ عليها فإن كان له بينة قدمت البينة لأنها تقدم على الأصل لأنها تشهد بزيادة ويحتمل أن يكون كالطفل فيكون بينهما لأنه غير مكلف أشبه الطفل والأول أولى لأن المميز يصح تصرفه بالوصية ويلزم بالصلاة أشبه البالغ ولأنه يعرب عن نفسه في دعوى الحرية أشبه البالغ فأما البالغ إذا ادعى رقه فأنكر لم يثبت رقه إلا ببينة وإن لم تكن له بينة فالقول قوله مع يمينه في الحرية لأنها الأصل وهذا مذهب الشافعي وأبي ثور وأصحاب الرأي فإن ادعى رقه اثنان فأقر لهما بالرق ثبت رقه فإن ادعاه كل واحد منهما لنفسه فاعترف لأحدهما فهو لمن اعترف له وبه قال الشافعي وقال أبو حنيفة يكون بينهما نصفين لأن يدهما عليه فأشبه الطفل والثوب ولنا أنه إنما ثبت رقه باعترافه فكان مملوكاً لمن اعترف له كما لو لم تكن يده عليه ويخالف الثوب

(12/188)


والطفل فإن الملك حصل فيهما باليد وقد تساويا فيها وههنا حصل بالاعتراف وقد اختص به أحدهما فكان مختصاً به فإن أقام كل واحد بينة أنه مملوكه تعارضتا وسقطتا ويقرع بينهما أو يقسم بينهما على ما مر من التفصيل فإن قلنا بسقوطهما ولم يعترف لهما بالرق فهو حر وإن اعترف لأحدهما فهو لمن اعترف له وإن أقر لهما معاً فهو بينهما لأن البينتين سقطتا فصارتا كالمعدومتين وإن قلنا بالقرعة أو بالقسمة فأنكرهما لم يلتفت إلى إنكاره فإن اعترف لأحدهما لم يلتفت إلى اعترافه لأن رقه ثابت بالبينة فلم يبق له يد على نفسه كما قلنا فيما إذا ادعى رجلان داراً في يد ثالث وأقام كل واحد بينة أنها ملكه واعترف
أنها ليست له ثم أقر أنها ليست له ثم أقر أنها لأحدهما لم يرجح بإقراره (مسألة) (وإن كان لأحدهما بينة حكم له بها لأنه ترجح بالبينة وإن كان لكل واحد منهما بينة قدم أسبقهما تاريخاً فإن وقتت إحداهما وأطلقت الأخرى فهما سواء ويحتمل تقديم المطلقة) أما إذا أقام كل واحد منهما بينة وتساوتا تعارضتا وقسمت العين بينهما نصفين وبهذا قال الشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي لما روى أبو موسى أن رجلين اختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعير فأقام كل واحد منهما شاهدين فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبعير بينهما نصفين رواه أبو داود ولأن كل واحد منهما داخل في نصف العين خارج في نصفها فتقدم بينة كل واحد منهما

(12/189)


فيما في يده عند من يقدم بينة الداخل وفيما في يد صاحبه عند من يقدم بينة الخارج فيستويان على كل واحد من القولين.
(مسألة) (وإن كانت إحداهما متقدمة التاريخ وحكم بها له مثل أن تشهد إحداهما أنها له منذ سنة وتشهد الأخرى أنها للآخر منذ سنتين فيقدم أسبقهما تاريخاً) قال القاضي هو قياس المذهب وهو قول أبي حنيفة وأحد قولي الشافعي لأن المتقدمة التاريخ أثبتت الملك له في وقت لم تعارضه فيه البينة الأخرى فيثبت الملك فيه ولهذا له المطالبة بالنماء في ذلك الزمان وتعارضت البينتان في الملك في الحال فسقطتا وبقي ملك السابق تحت استدامته وأن لا يثبت لغيره ملك إلا من جهته وظاهر كلام الخرقي التسوية بينهما وهو أحد قولي الشافعي ووجهه أن الشاهد بالملك الحادث أحق بالترجيح لجواز أن يعلم به دون الأول بدليل أنه لو ذكر أنه اشتراه من الآخر أو وهبه إياه لقدمت بينته اتفاقاً فإذا لم يرجح بها فلا أقل من التساوي وقولهم إنه يثبت الملك في الزمان الماضي من غير معارضة قلنا إنما يثبت تبعاً لثبوته في الحال ولو انفرد بأن يدعي الملك في الماضي لم تسمع دعواه ولا بينته (مسألة) (فإن وقتت إحداهما وأطلقت الأخرى فهما سواء) ذكره القاضي ويحتمل أن يحكم به لمن يوقت قاله أبو الخطاب وهو قول أبي يوسف ومحمد

(12/190)


ولنا أنه ليس في إحداهما ما يقتضي الترجيح من تقدم الملك ولا غيره فوجب استواؤهما كما لو أطلقا أو استوى تاريخهما (مسألة) (وإن شهدت إحداهما بالملك والأخرى بالملك والنتاج أو سبب من أسباب الملك فهل يرجح بذلك؟ على وجهين) (إحداهما) لا يرجح به وهو اختيار الخرقي لأنهما تساوتا فيما يرجع إلى المختلف فيه وهو ملك العين الآن فوجب تساويهما في الحكم (والثاني) تقدم بينة النتاج وما في معناه وهو مذهب أبي حنيفة لأنها تتضمن زيادة علم وهو معرفة السبب والأخرى خفي عليها ذلك فيحتمل أن تكون شهادتها مستندة إلى مجرد اليد والتصرف فتقدم الأولى عليها كتقديم بينة الجرح على التعديل، وهذا قول القاضي فيما إذا كانت العين في يد غيرهما.
(مسألة) ولا تقدم إحداهما بكثرة العدد ولا اشتهار العدالة ولا الرجلان على الرجل وامرأتين ويقدم الشاهدان على الشاهد واليمين في أحد الوجهين) لا ترجح إحدى البينتين بكثرة العدد واشتهار العدالة وهو قول أبي حنيفة والشافعي ويتخرج أن يرجح بذلك مأخوذاً من قول الخرقي ويقدم الأعمى أوثقهما في نفسه وهذا قول مالك لأن أحد الخبرين يرجح بذلك فكذلك الشهادة ولأنها خبر ولأن الشهادة إنما اعتبرت لغلبة الظن بالمشهود به

(12/191)


وإذا كثر العدد أو قويت العدالة كان الظن أقوى وقال الأوزاعي تقسم على عدد الشهود فإذا شهد لأحدهما شاهدان وللآخر أربعة قسمت العين بينهما أثلاثاً لأن الشهادة سبب الاستحقاق فتوزع الحق عليها ولنا أن الشهادة مقدرة بالشرع فلا تختلف بالزيادة كالدية بخلاف الخبر فإنه مجتهد في قبول خبر الواحد دون العدد فرجح بالزيادة والشهادة متفق فيها على خبر الاثنين فصار الحكم متعلقا بهما دون اعتبار الظن ألا ترى أنه لو شهد النساء منفردات لا تقبل شهادتهن وإن كثرن حتى صار الظن
بشهادتهن أغلب من شهادة الذكرين؟ وعلى هذا لا ترجح شهادة الرجلين على شهادة الرجل والمرأتين في المال لأن كل واحدة من البينتين حجة في المال فإذا اجتمعتا تعارضتا فأما إن كان لأحدهما شاهدان وللآخر شاهد فبذل يمينه معه ففيه وجهان: (أحدهما) يتعارضان لأن كل واحد منهما حجة بمفرده فأشبه الرجلين مع الرجل والمرأتين (والثاني) يقدم الشاهدان لأنهما حجة متفق عليها والشاهد واليمين مختلف فيهما ولأن اليمين قوله لنفسه والبينة الكاملة شهادة الأجنبيين فوجب تقديمها كتقديمها على يمين المنكر وهذا الوجه أصح إن شاء الله تعالى وللشافعي قولان كالوجهين (مسألة) وإن تساوتا تعارضتا وقسمت العين بينهما بغير يمين وعنه أنهما يتحالفان كمن لا بينة لهما وعنه أنه يقرع بينهما فمن قرع صاحبه حلف وأخذها)

(12/192)


وجملة ذلك أن البينتين إذا تساوتا تعارضتا وقسمت العين نصفين لما ذكرنا من حديث أبي موسى وما ذكرناه من المعنى.
وإختلفت الرواية هل يحلف كل واحد منهما على النصف المحكوم له به أو يكون له من غير يمين؟ روي أنه يحلف وهو الذي ذكره الخرقي لأن البينتين لما تعارضتا من غير ترجيح وجب إسقاطهما كالخبرين إذا تعارضا وتساويا وإذا سقطا صار المختلفان كمن لا بينة لهما ويحلف كل واحد منهما على النصف المحكوم له به وهذا أحد قولي الشافعي بناء على أن اليمين تجب على الداخل مع بينته ويحلف معها والرواية الأخرى: تقسم بينهما العين من غير يمين وهو قول مالك وأبي حنيفة والقول الثاني للشافعي وهو أصح إن شاء الله للخبر والمعنى الذي ذكرناه ولا يصح قياس هاتين البينتين على الخبرين المتساوييين لأن كل بينة راجحة في نصف العين على كل واحد من القولين وقد ذكرنا أن البينة يحكم بها من غير يمين وفيه رواية أخرى أنه يقرع بينهما فمن خرجت له القرعة حلف أنها له لا حق للآخر فيها وكانت العين له كما لو كانت في يد غيرهما ذكر هذه الرواية أبو الخطاب والأولى أصح إن شاء الله تعالى للخبر والمعنى.
(مسألة) (وإن ادعى أحدهما أنه اشتراها من زيد لم تسمع البينة على ذلك حتى تقول وهو ملكه وتشهد البينة به)

(12/193)


وجملة ذلك أنه متى كان في يد رجل عين فادعى آخر أنه اشتراها من زيد وهي ملكه وأقام بذلك بينة حكم له بها لأنه ابتاعها من مالكها وكذا إن شهدت أنه باعه إياها وسلمها إليه حكم له بها لأنه لم يسلمها إليه إلا وهي في يده وإن لم يذكر إلا التسليم لم يحكم بها لأنه يمكن أن يبيعه مالا يملكه فلا يزال صاحب اليد فإن ادعى أحدهما أنه اشتراها من زيد وهي ملكه وادعى الآخر أنه اشتراها من عمرو وهي ملكه وأقاما بذلك بينتين تعارضتا فإن كانت في يد أحدهما انبنى ذلك على الروايتين في تقديم بينة الخارج والداخل فإن كانت في أيديهما قسمت بينهما لأن بينة كل واحد منهما داخلة في أحد النصفين خارجة عن النصف الآخر وإن كانت في يد أحد البائعين فأنكرهما وادعاها لنفسه فإن قلنا تسقط البينتان حلف وكانت له وإن أقر بها لأحدهما صار الداخل إلا أن يقر بعد أن يحلف أنها له وإن قلنا يقدم أحدهما بالقرعة فهي لمن تخرج له القرعة مع يمينه وإن قلنا تقسم بينهما قسمت ورجع كل أحد منهما بنصف ثمنها فإن كان المبيع مما يدخل في ضمان المشتري بنفس العقد أو كان المشتري مقراً بقبضه فلا خيار لو حد منهما ولا الرجوع بشئ من الثمن لاعترافه بسقوط الضمان على البائع وإن كان من

(12/194)


المكيل والموزون ولم يقبض فلكل واحد منهما الخيار في الفسخ والإمضاء فإن اختار أحدهما الفسخ لم يتوفر المبيع على الآخر لأن البائع اثنان والله أعلم (مسألة) (وإن أقام أحدهما بينة أنها ملكه وأقام الآخر بينة أنه اشتراها أو أعتقه قدمت بينة الثاني) لأنها تشهد بأمر حادث على الملك خفي على بينة الملك ولا تعارض بينهما فيثبت الملك للأول والشراء منه للثاني.
(مسألة) (وإن أقام رجل بينة أن هذه الدار لأبي خلفها تركة وأقامت امرأته بينة أن أباه أصدقها إياها فهي للمرأة) لما ذكرنا
(فصل) قال رضي الله عنه (القسم الثالث تداعيا عينا في يد غيرهما فان يقرع بينهما، فمن خرجت له القرعة حلف أنها له وأخذها) وجملة ذلك أن الرجلين إذا تداعيا عيناً في يد غيرهما ولا بينة لهما فأنكرهما فالقول قوله مع يمينه بغير خلاف، وإن اعترف أنه لا يملكها وقال لا أعرف صاحبها أو قال هي لأحدكما لا أعرفه عيناً اقرع بينهما فمن قرع صاحبه حلف أنها له وسلمت إليه لما روى أبو هريرة أن رجلين تداعيا عينا لم تكن لواحد منهما بينة فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يستهما على اليمين أحبا أم كرها رواه أبو داود، ولأنهما تساويا في الدعوى ولا بينة لواحد منهما ولايد والقرعة تميز عند التساوي كما لو أعتق عبيدا الا مال له غيرهم في مرض موته

(12/195)


(مسألة) (فإن كان المدعى عبداً فأقر لأحدهما لم يرجح باقراره) لأنه محجور عليه أشبه الطفل فإن كانت لأحدهما بينة حكم له بها بغير خلاف نعلمه (مسألة) (وإن كانت لكل واحد منهما بينة ففيه روايتان ذكرهما أبو الخطاب) (إحداهما) تسقط البينتان ويقترع لتداعيان على اليمين كما لو لم تكن بينة هذا الذي ذكره القاضي وهو ظاهر كلام الخرقي لأنه ذكر القرعة ولم يفرق بين أن تكون معها بينة أو لم تكن روي هذا عن ابن عمر وابن الزبير وبه قال إسحاق وأبو عيبد وهو رواية عن مالك وقديم قولي الشافعي لما روى ابن المسيب أن رجلين اختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في امرأة وجاء كل واحد منهما بشهود عدول على عدة واحدة فأسهم النبي صلى الله عليه وسلم بينهما رواه الشافعي في مسنده ولأن البينتين حجتان تعارضتا من غير ترجيح لإحداهما على الأخرى فسقطتا كالخبرين (والرواية الثانية) تستعمل البينتان وفي كيفية استعمالهما روايتان (إحداهما) تقسم العين بينهما وهو قول الحارث العكلي وقتادة وابن شبرمة وحماد وأبي حنيفة وقول للشافعي لما ذكرنا من حديث أبي موسى ولأنهما تساويا في دعواه فتساويا في قسمته (والرواية الثانية) تقدم إحداهما وهو قول للشافعي وله قول رابع يوقف الأمر حتى يتبين وهو قول أبي ثور لأنه اشتبه الأمر فوجب التوقف
كالحاكم إذا لم يتضح الحكم له في قضية

(12/196)


ولنا خبر أبي موسى وخبر ابن المسيب ولأن تعارض الحجتين لا يوجب التوقف كالخبرين بل إذا تعذر الترجيح أسقطناهما ورجعنا إلى دليل غيرهما إذا ثبت هذا.
فأما إذا أسقطنا البينتين أقرعنا بينهما فمن خرجت له القرعة حلف وأخذها كما لو لم تكن لهما بينة، وإن قلنا يعمل بالبينتين ويقرع بينهما فمن خرجت له القرعة أخذها من غير يمين وهذا قول الشافعي لأن البينة تغني عن اليمين، وقال أبو الخطاب عليه اليمين مع بينته ترجيحاً لها وعلى هذا القول تكون هذه الرواية كالأولى وإنما يظهر اختلاف الحكم في شئ آخر سنذكره إن شاء الله تعالى (فصل) وإن أنكرهما من العين في يده وكانت لأحدهما بينة حكم له بها وإن أقام كل واحد منهما بينة فإن قلنا تستعمل البينتان أخذت العين من يده وقسمت بينهما على قول من يرى القسمة وتدفع إلى من تخرج له القرعة عند من يرى ذلك، وإن قلنا تسقط البينتان حلف صاحب اليد وأقرت في يده كما لو لم تكن لهما بينة (مسألة) (وإن أقر صاحب اليد لأحدهما لم يرجح بإقراره إذا قلنا لا تسقط البينتان) لأنه قد ثبت زوال ملكه فصار كالأجنبي وإن قلنا بسقوطهما فأقر بها لهما أو لأحدهما قبل إقراره، فأما إن أقر بها في الابتداء لأحدهما صار المقر له صاحب اليد لأن من هي في يده مقر بأن يده نائبة عن يده، وإن أقر لهما جميعاً فاليد لكل واحد منهما في الجزء الذي أقر له به لذلك

(12/197)


(مسألة) (وإن ادعاها صاحب اليد لنفسه وقلنا يسقوط البينتين حلف لكل واحد منهما وهي له وهو قول القاضي) لأنه صاحب اليد وهو منكر فلزمته اليمين لقول النبي صلى الله عليه وسلم (اليمين على من أنكر) وقال أبو بكر بل يقرع بين المدعبين فتكون لمن تخرج له القرعة وهذا ينبني على أن البينتين إذا تعارضتا لا يسقطان فرجحت إحدى البينتين بالقرعة كما لو أقر صاحب اليد أنها لاحدهما لا يسلمه بعينه (فصل) إذا تداعيا عيناً في يد غيرهما فقال هي لأحدكما لاعرفه عيناً أو قال لا أعرف صاحبها
أو هو أحدكما أو غيركما أو قال أودعنيها أحدكما أو رجل لا أعرفه عيناً فادعى كل واحد منهما أنك تعلم أني صاحبها أو أني أنا الذي أودعتكها وطلب يمينه لزمه أن يحلف له لأنه لو أقر له لزمه تسليمها إليه ومن لزمه الحق مع الإقرار لزمته اليمين مع الإنكار ويحلف على ما ادعاه من نفي العلم وإن صدقاه فلا يمين عليه، وإن صدقه أحدهما حلف الآخر وإن أقر بها لأحدهما أو لغيرهما صار المقر له صاحب اليد فإن قال غير المقر له احلف لي ان العين ليست ملكي أو أني لست الذي أودعكها لزمته اليمين على ما ادعاه من ذلك لما ذكرنا وإن نكل عن اليمين قضي عليه بقيمتها وإن اعترف لهما كان الحكم فيها كما لو كانت في أيديهما ابتداءا وعليه اليمين لكل واحد منهما في النصف المحكوم به لصاحبه وعلى كل واحد منهما اليمين لصاحبه في الصنف المحكوم له به.
(فصل) إذا كان في يد رجل دار فادعاها نفسان فقال أحدهما أجرتكها وقال الآخر هي داري

(12/198)


اعرتكها أو قال هي داري ورثتها من أبي أو قال هي داري ولم يذكر شيئاً آخر فأنكرهما صاحب اليد فالقول قوله مع يمينه، وإن كان لأحدهما بينة حكم له بها فإن أقام كل واحد منهما بينة بما ادعاه تعارضتا وكان الحكم على ما ذكرنا فيما مضى إلا على الرواية التي تقدم فيها البينة الشاهدة بالسبب فإن بينة من ادعى أنه ورثها مقدمة لشهادتها بالسبب، وإن أقام أحدهما بينة أنه غصبه إياها وأقام الآخر بينة أنه أقر له بها فهي للمغصوب منه ولا تعارض بينهما لأن الجمع بينهما ممكن بأن يكون غصبها من هذا وأقر بها لغيره وإقرار الغاصب باطل وهذا مذهب الشافعي فتدفع إلى المغصوب منه (فصل) نقل ابن منصور عن أحمد في رجل أخذ من رجلين ثوبين أحدهما بعشرة والآخر بعشرين ثم لم يدر أيهما ثوب هذا من هذا فادعى أحدهما ثوباً من هذين الثوبين وادعاه الآخر يقرع بينهما فأيهما أصابته الفرعة حلف وأخذ الثوب الجديد والآخر للآخر وإنما قال ذلك لأنهما تنازعا عيناً في يد غيرهما.
(فصل) إذا تداعيا عيناً فقال كل واحد منهما هذه العين لي استدنتها من زيد بمائة ونقدته إياها ولا بينة لواحد منهما فإن أنكرهما زيد فهي له مع يمينه وإن أقر بها لأحدهما سلمها إليه وحلف للآخر وإن أقر لكل
واحد منهما بنصفها سلمت إليهما وحلف لكل واحد منهما على نصفها وإن قال لا أعلم لمن هي أقرع بينهما فمن خرجت له القرعة حلف وأخذها وإن حلف البائع له ثم أقربها لأحدهما سلمت إليه وإن أقربها للآخر

(12/199)


لزمته غرامتها وإن أقام كل واحد منهما بينة بما ادعاه وكانتا مؤرختين بتاريخين مختلفين مثل أن يدعي أحدهما أنه اشتراها في المحرم وادعى الآخر أنه اشتراها في صفر وشهدت بينة كل واحد منهما للآخر بدعواه فهي للأول لتقدم بينته بأنه باعها منه أولاً وزال ملكه عنها فيكون بيع الثاني باطلاً لكونه باع ما لا يملكه ويطالب برد الثمن وإن اتفق تاريخهما أو كانتا مطلقتين أو أحدهما مطلقة والأخرى مؤرخة تعارضتا لتعذر الجمع فينظر في العين فإن كانت في يد أحدهما انبنى ذلك على بينة الداخل والخارج فمن قدم بينة الداخل جعلها لمن هي في يده ومن قدم بينة الخارج جعلها له وإن كانت في يد البائع وقلنا تسقط البينتان رجع إلى البائع فإن أنكرهما حلف لهما وكانت له وإن أقر لأحدهما سلمت إليه وحلف للآخر وإن أقر لهما فهي بينهما ويحلف لكل واحد منهما على نصفها كما لو لم يكن لهما بينة وإن قلنا لا تسقط البينتان لم يلتفت إلى إنكاره ولا اعترافه وهذا قول القاضي وأكثر أصحاب الشافعي لأنه قد ثبت زوال ملكه وإن يده لا حكم لها فلا حكم لقوله فمن قال يقرع بينهما أقرع بينهما فمن خرجت له القرعة فهي له مع يمينه وهذا قول القاضي لم يذكر غيره وقال أبو الخطاب يقسم بينهما وقد نص عليه أحمد في رواية الكوسج في رجل أقام بينة أنه اشترى سلعة بمائة وأقام الآخر بينة أنه اشتراها بمائتين فكل واحد منهما يستحق نصف السلعة بنصف الثمن ويكونان شريكين وحمل القاضي هذه الرواية على أن العين في أيديهما أو على أن البائع أقر لهما

(12/200)


جميعا واطلاق والرواية يدل على صحة قول أبي الخطاب فعلى هذا إن كان البيع مما لا يدخل في ضمان المشتري إلا بقبضه فلكل واحد منهما الخيار لأن الصفقة تبعضت عليه فإن اختار الامساك رجع كل واحد منهما بنصف الثمن وإن اختار الفسخ رجع كل واحد منهما بجميع الثمن وإن اختار أحدهما الفسخ توفرت السلعة كلها على الآخر إلا أن يكون الحاكم قد حكم بنصف السلعة ونصف الثمن فلا
يعود النصف الآخر إليه وهذا قول الشافعي في كل موضع (فصل) ولو كان في يد رجل دار فادعى عليه رجلان كل واحد منهما يزعم أنه غصبها منه وأقام بذلك بينة فالحكم فيه كالحكم فيما إذا إدعى كل واحد منهما: إني اشتريتها منه على ما مضى من التفصيل فيه (مسألة) (وإن كان في يد رجل عبد فادعى أنه اشتراه من زيد فادعى العبد أن زيداً أعتقه وأقام كل واحد بينة انبنى على بينة الداخل والخارج فإن كان العبد في يد زيد فالحكم فيه كالحكم فيما إذا ادعيا عينا في يد غيرهما) إذا ادعى رجل عبداً في يد آخر أنه اشتراه منه وادعى العبد أن سيده أعتقه ولا بينة لهما فأنكرهما حلف لهما والعبد له فإن أقر لأحدهما ثبت ما أقر به ويحلف للآخر وإن أقام أحدهما بينة بما ادعاه ثبت وإن أقام كل واحد منهما بينة بدعواه وكانتا مؤرختين بتاريخين

(12/201)


مختلفين قدمنا الأولى وبطلت الأخرى لأنه إن سبق العتق لم يصح البيع وإن سبق البيع لم يصح العتق لأنه اعتق عبد غيره فإن قيل يحتمل أنه عاد إلى ملكه فأعتقه قلنا قد ثبت الملك للمشتري فلا يبطله عتق البائع، وإن كانتا مؤرختين بتاريخ واحد أو مطلقتين أو إحداهما مطلقة تعارضتا لأنه لا ترجيح لإحداهما على الأخرى فان كان في يد المشتري انبنى ذلك على الخلاف في تقديم بينة الداخل والخارج فإن قدمنا بينة الداخل فهو للمشتري وإن قدمنا بينة الخارج قدم العتق لأنه خارج وإن كان في يد البائع وقلنا إن البينتين تسقطان بالتعارض صارا كمن لا بينة لهما فإن أنكرهما حلف لهما وإن أقر بالعتق ثبت ولم يحلف العبد لأنه لو أقر بأنه ما أعتقه لم يلزمه شئ فلا فائدة في إحلافه وإن قلنا ترجح إحدى البينتين بالقرعة قرعنا بينهما فمن خرجت قرعته قدمناه قال أبو بكر هذا قياس قول أبي عبد الله فعلى هذا يحلف من خرجت له القرعة في أحد الوجهين وإن قلنا يقسم قسمنا العبد فجعلنا نصفه مبيعاً ونصفه حراً ويسري العتق إلى جميعه إن كان البائع موسراً لأن البينة عليه أنه أعتقه مختاراً وقد ثبت العتق في نصفه بشهادتهما (مسألة) (وإن كان في يده عبد وادعى عليه رجلان كل واحد منهما أنه اشتراه بثمن سماه فصدقهما
لزمه الثمن لكل واحد منهما وإن أنكرهما حلف لهما وبرئ وإن صدق أحدهما لزمه ما ادعاه وحلف للآخر

(12/202)


وإن كان لأحدهما بينة فله الثمن ويحلف للآخر وإن كان لكل واحد منهما بينة وأمكن صدقهما لاختلاف تاريخهما أو اطلاقهما أو إطلاق إحداهما وتاريخ الأخرى ععمل بهما وإن اتفق تاريخهما تعارضتا والحكم على ما تقدم وإن كان في يد إنسان عين فادعى عليه رجلان كل واحد منهما أنك اشتريته مني بألف وأقام بذلك بينة واتفق تاريخهما مثل أن يقول اشتراها مني مع الزوال يوم كذا ليوم واحد فهما متعارضتان فإن قلنا يسقطان رجع إلى قول المدعي عليه فإن أنكرهما حلف لهما وبرئ وأن أقر لأحدهما فعليه له الثمن يحلف للآخر وإن أقر لهما فعليه لكل واحد منهما الثمن لأنه يحتمل أن يشتريها من أحدهم ثم يهبها للآخر ويشتريها منه وإن قال اشتريتها منكما صفقة واحدة بألف فقد أقر لكل واحد منهما بنصف الثمن وله أن يحلف على الباقي وإن قلنا يقرع بينهما وجب الثمن لمن تخرج له القرع ويحلف للآخر ويبرأ وإن قلنا يقسم قسم الثمن بينهما ويحلف لكل واحد منهما على الباقي فإن كان التاريخان مختلفين أو كانتا مطلقتين أو إحداهما مطلقة ثبت العقدان ولزمه الثمنان لأنه يمكن أن يشتريها من أحدهما ثم يملكها الآخر فيشتريها منه وإذا أمكن صدق البينتين والجمع بينهما وجب تصديقهما فإن قيل فلم قلتم إن البائع إذا كان واحداً والمشتري اثنان فأقام أحدهما بينة أنه اشتراه في المحرم وأقام الآخر بينة أنه اشتراه في صفر يكون الشراء الثاني باطلاً؟ قلنا إنه إذا ثبت الملك للأول لم يبطله بأن يبيعه للثاني ثانياً

(12/203)


وفي مسئلتنا ثبوت شرائه من كل واحد منها يبطل ملكه لأنه لا يجوز أن يشتري ثانياً ملك نفسه ويجوز أن يبيع البائع ما ليس له فافترقا فإن قيل فإذا كانت البينتان مطلقتين أو إحداهما مطلقة احتمل أن يكون تاريخهما واحداً فيتعارضان والاصل برائة ذمة المشهود عليه فلا تشغل بالشك قلنا متى أمكن صدق البينتين وجب تصديقهما ولم يكن ثم شك وإنما يبقى الوهم والوهم لا تبطل به البينة لأنها لو بطلت به لم يثبت بها حق أصلاً لأنه ما من بينة إلا ويحتمل أن تكون كاذبة أو غير عادلة أو متهمة أو معارضة ولم يلتفت إلى الوهم كذا ههنا
(مسألة) (وإن ادعى كل واحد منهما أنه باعني إياه بألف وأقام بنية قدم أسبقهما تاريخاً لما ذكرنا فإن لم تسبق أحدهما تعارضنا (مسألة) (وإن قال أحدهما غصبني إياه وقال الآخر ملكنيه أو أقر لي به فإن أقام كل واحد منهما بينة فهو للمغصوب منه ولا يغرم للآخر شيئاً) لأنه لا تعارض بينهما لجواز أن يكون غصبه من هذا ثم ملكه الآخر والله أعلم (مسألة) (وإذا ادعى رجل زوجية أمرأة فأقرت بذلك قبل إقرارها) لأنها أقرت على نفسها وهي غير متهمة لأنها لو ارادت ابتداء النكاح لم تمنع منه فإن ادعاها اثنان فأقرت لأحدهما لم يقبل إقرارها لأن الآخر يدعي ملك بضعها وهي معترفة أن ذلك قد ملك

(12/204)


عليها فصار إقرارها بحق غيرها ولأنها متهمة فإنها لو ارادت ابتداء تزويج احد المتداعيين لم يكن لها ذلك قبل الانفصال من دعوى الآخر فإن قيل فلو تداعيا عيناً في يد ثالث فأقر لأحدهما قبل قلنا لا يثبت الملك بإقراره في العين إنما يجعله كصاحب اليد فيحلف والنكاح ولا يستحق باليمين فلم ينفع الإقرار بها ههنا فإن كان أحد المتداعيين له بينة حكم له بها لأن البينة حجة في النكاح وغيره وإن أقاما بينتين تعارضتا وسقطا وحيل بينهما وبينها ولا يرجح أحد المتداعيين بإقرار المرأة لما ذكرنا ولا بكونها في بيته ويده لأن اليد لا تثبت على حرة ولا سبيل إلى القسمة ههنا ولا إلى القرعة لأنه لابد مع القرعة من اليمين ولا مدخل لها ههنا (باب في تعارض البينتين) إذا قال لعبده متى قتلت فأنت حر فادعى العبد أنه قتل وأنكر لورثة فالقول قولهم لأن الأصل عدم القتل فإن أقام بينة بدعواه عتق وإن أقام الورثة بينة بموته قدمت بينة العبد في أحد الوجهين لأنها تشهد بزيادة وهي القتل (والثاني) يتعارضان لأن إحداهما تشهد بضد ما شهدت به الأخرى فيبقى على الرق

(12/205)


(مسألة) (وإن قال إن مت في المحرم فسالم حر وإن مت في صفر فغانم حر وأقام كل واحد منهما بينة بدعواه بموجب عتقه قدمت بينة سالم في أحد الوجوه) لأن معها زيادة علم فإنها أثبتت ما يجوز أن يختفي على البينة الآخرى (والثاني) يتعارضان ويبقى العبد على الرق لأنهما سقطا فصارا كمن لا بينة لهما (والثالث) يقرع بينهما فيعتق من تقع له القرعة فأما إن لم تقم لواحد منهما بينة وأنكر الورثة فالقول قولهم لأنه يجوز أن يموت في غير هذين الشهرين وإن أقروا لأحدهم عتق بإقرارهم وكذلك إن أقام بينة (مسألة) (وإن قال إن مت من مرضي هذا فسالم حر وإن برئت فغانم حر فأقاما بينتين تعارضتا وبقيا على الرق ذكره أصحابنا والقياس أن يعتق أحدهما بالقرعة ويحتمل أن يعتق غانم وحده لأن بينته تشهد بزيادة) إذا قال إن مت من مرضي هذا فسالم حر وإن برئت فغانم حر فمات وادعى كل واحد منهما موجب عتقه اقرع بينهما فمن خرجت له القرعة عتق لأنه لا يخلو من أن يكون برأ أو لم يبرأ فيعتق أحدهما على كل حال ولم تعلم عينه فيخرج بالقرعة كما لو اعتق احدهما فاشكل علينا ويحتمل أن يقدم قول سالم لأن الأصل عدم البرء وإن أقام كل واحد منهما بينة بموجب عتقه فقال أصحابنا يتعارضان ويبقى العبدان على الرق وهذا مذهب الشافعي لأن كل واحدة منهما تكذب الأخرى وتثبت زيادة

(12/206)


تنفيها الأخرى وهذا قول لا يصح وهو ظاهر الفساد لأن التعارض أثر في أسقاط البينتين ولو لم يكونا أصلاً لعتق أحدهما فكذلك إذا سقطا وذلك لأنه لا يخلو من إحدى الحالتين اللتين علق على كل واحدة منهما عتق أحدهما فيلزم وجوده كما لو قال إن كان هذا الطائر غراباً فسالم حر وإن لم يكن غراباً فغانم حر ولم يعلم حاله ولكن يحتمل وجهين (احدهما) يقرع بينهما كما في مسألة الطائر ولأن البينتين إذا تعارضنا قدمت إحداهما بالقرعة في رواية (والثاني) تقدم بينة غانم لأنها شهدت بزيادة وهي البرء وإن اقر الورثة لأحدهم عتق بإقرارهم ولم يسقط حق الآخر مما ذكرنا إلا أن يشهد عدلان منهم بذلك مع انتفاء التهمة فيعتق وحده إذا لم تكن للآخر بينة
(مسألة) (وإن اتلف ثوباً فشهدت بينة أن قيمته عشرون وشهدت أخرى أن قيمته ثلاثون لزمته أقل القيمتين) وجملة ذلك أنه إذا شهد شاهد انه غصبه ثوباً قيمته درهمان وشهد آخر أن قيمته ثلاثة ثبت ما اتفقا عليه وهو درهمان فله أن يحلف مع الآخر على درهم لأنهما اتفقا على درهمين وانفرد أحدهما بدرهم فاشبه ما لو شهد أحدهما بالف والآخر بخمسمائة وإذا شهد شاهدان ان قيمته درهمان وشاهدان ان قيمته ثلاثة ثبت له درهمان وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة له ثلاثة لأنه قد شهد بها شاهدان

(12/207)


وهما حجة فيؤخذ بهما كما يؤخذ بالزيادة في الأخبار وكما لو شهد شاهدان بألف وشاهدان بألفين فإنه يجب له ألفان قال القاضي ويتوجه لنا مثل ذلك كما لو شهد له شاهدان بألف وشاهدان بخمسمائة ولنا أن من شهد أن قيمته درهمان ينفي أن قيمته ثلاثة فقد تعارضت البينتان في الدرهم ويخالف الزيادة في الاخبار فإن من يروي الناقص لا ينفي الزيادة وكذلك من شهد بألف لا ينفي أن عليه ألفاً آخر فإن قيل فلم قلتم أنه إذا شهد بواحدة من القيمتين شاهدان تعارضتا وإن شهد شاهد لم يتعارضا وكان له أن يحلف من الشاهد بالزيادة عليها؟ قلنا لأن الشاهدين حجة وبينة وإذا كملت من الجانبين تعارضت الحجتان لتعذر الجمع بينهما أما الشاهد الواحد فليس بحجة وحده وإنما يصير حجة مع اليمين فإذا حلت مع أحدهما كملت الحجة مع يمينه ولم يعارضها ما ليس بحجة كما لو شهد بأحدهما شاهدان وبالآخر شاهد واحد (مسألة) (ولو ماتت امرأة وابنها فقال زوجها ماتت فورثناها ثم مات ابني فورثته وقال أخوها بل مات ابنها فورثته ثم ماتت فورثناها حلف كل واحد منهما على إبطال دعوى صاحبه وكان ميراث الابن لأبيه وميراث المرأة لأخيها وزوجها نصفين وأن أقام كل واحد منهما بينة بدعواه تعارضتا وسقطتا أيضاً وقياس مسائل الخرقي أن يجعل للأخ سدس مال الابن والباقي للزوج) وجملة ذلك أنه إذا مات جماعة برث بعضهم بعضاً واختلف الأحياء من ورثتهم في السابق

(12/208)


بالموت في المسألة المذكورة فقال الزوج ماتت المرأة أولاً فصار ميراثها كله لي ولأبني ثم مات ابني فصار ميراثه لي وقال أخوها مات ابنها أولاً فورثت ثلث ماله ثم ماتت فكان ميراثها بيني وبينك نصفين حلف كل واحد منهما على إبطال دعوى صاحبه وجعلنا ميراث كل واحد منهما للأحياء من ورثته دون من مات معه لأن سبب استحقاق الحي من موروثه موجود وإنما يمتنع لبقاء موروث الآخر بعده وهذا الأمر مشكوك فيه فلا نزول عن اليقين بالشك فيكون ميراث الابن لأبيه لا مشارك له فيه وميراث المرأة بين أخيها وزوجها نصفين وهذا مذهب الشافعي فإن قيل فقد أعطيتم الزوج النصف وهو لا يدعي إلا الربع قلنا بل هو مدع لجميعه ربعه بميراثها منه وثلاثة أرباعه بميراثه من أبيه قال أبو بكر قد ثبتت البنوة بيقين فلا يقطع ميراث الأب فيه إلا ببينة تقوم للأخ وهذا تعليل لقول الخرقي في هذه المسألة وذكر قولاً آخر يحتمل أن الميراث بينهما نصفين قال شيخنا وهذا ما يدري ما أراد به إن أراد أن مال المرأة بينهما نصفين لم يصح لأنه يفضي إلى إعطاء الأخ ما لا يدعيه ولا يستحقه يقيناً لأنه لا يدعي من مال الابن أكثر من سدسه ولا يمكن أن يستحق أكثر منه وان أراد أن ثلث مال الابن يضم إلى مال المرأة فيقسمانه نصفين لم يصح لأن نصف ذلك إلى الزوج باتفاق منهما لا ينازعه الأخ فيه وإنما النزاع بينهما في نصفه ويحتمل أن يكون هذه مراده كما لو تنازع رجلان داراً في أيديهما فادعاها احدهما كلها وادعى الآخر نصفها فإنها تقسم بينهما نصفين وتكون اليمين على مدعي النصف إلا أن الفرق بين هذه المسألة وتلك أن الدار في أيديهما فكل واحد منهما في يد

(12/209)


نصفها فمدعي النصف يدعيه وهو في يده فقبل قوله فيه مع يمينه وفي مسئلتنا يعترفان أن هذا ميراث عن البنين فلا يد لأحدهما عليه لاعترافهما بأنه لم يكن لهما وإنما هو ميراث يدعيانه من غيرهما وان أراد أن سدس مال الابن يضم إلى نصف مال المرأة فيقسم بينهما نصفين فله وجه لأنهما تساويا في دعواه فيقسم بينهما كما لو تنازعا دابة في أيديهما وعلى كل واحد منهما اليمين فيما حكم له به والذي يقتضيه قول أصحابنا في الغرقى والهدمى أن يكون سدس الابن للأخ وباقي ميراثهما للزوج لأنا نقدر أن المرأة ماتت أولاً فيكون ميراثها لابنها وزوجها ثم مات الابن فورثه أبوه وهو الزوج فصار ميراثها كله لزوجها ثم
نقدر أن الابن مات أولاً فورثه أبواه لأمه الثلث ثم ماتت فصار الثلث بين أخيها وزوجها نصفين لكل واحد منهما السدس فلم يرث الأخ إلا سدس مال لابن كما ذكرنا قال شيخنا ولعل هذا القول يختص بمن جهل موتهما واتفق وراثهما على الجهل به والقولان المتقدمان قول الخرقي وقول أبي فيما إذا ادعى ورثة كل ميت ان مات أخيراً وأن الآخر مات قبله فإن كان لأحدهما بينة بما ادعاه حكم له بها وإن أقاما بينتين تعارضتا وهل يسقطان أو يقرع بينهما أو يقسمان ما اختلفا فيه؟ يخرج على الروايات الثلاث.
(فصل) قال الشيخ رحمه الله (إذا شهدت بينة على ميت أنه وصى بعتق سالم وهو ثلث ماله وشهدت بينة أخرى أنه وصى بعتق غانم وهو ثلث ماله اقرع بينهما فمن تقع له القرعة عتق دون

(12/210)


صاحبه إلا أن يجيز الورثة لأن الوصيتين ثبتا بشهادة العدول فهما سواء فيقرع بينهما سواء اتفق تاريخهما أو اختلف لأن الوصية يستوي فيها المتقدم والمتأخر فمن خرجت له القرعة عتق جميعه وقال أبو بكر وابن أبي موسى يعتق نصف كل واحد منهما بغير قرعة لأن القرعة إنما تجب إذا كان أحدهما عبداً والآخر حراً ولا كذلك ههنا فيجب أن يقسم بينهما ويدخل النقص على كل واحد منهما بقدر وصيته كما لو أوصى لاثنين بمال والأول قياس المذهب لأن الاعتاق بعد الموت كالإعتاق في مرض الموت وقد ثبت في الاعتاق في مرض الموت أنه يقرع بينهما لحديث عمران بن حصين كذلك بعد الموت ولأن المعنى المقتضي في أحدهما في الحياة موجود بعد الممات فيثبت فلما أن صرح فقال إذا مت فنصف كل واحد من سالم وغانم حر أو كان في لفظه ما يقتضيه أو دلت عليه قرينة ثبت ما اقتضاه وإن أجاز الورثة عتقهما عتقا لأن الحق لهم فأشبه ما لو أعتقوهما بعد موته (مسألة) وإن شهدت بينة سالم أنه رجع عن عتق غانم عتق سالم وحده سواء كانت بينته وارثة أو لم تكن) لأنهما لم يجران بشهادتهما إلى أنفسهما نفعاً ولا يدفعان عنها ضرراً فإن قيل فهما يثبتان لأنفسهما ولاء سالم قلنا وهما يسقطان ولاء غانم أيضاً على أن الولاء إنما هو اثبات سبب الميراث ومثل ذلك لا ترد الشهادة فيه كما يثبت النسب بالشهادة وإن كان الشاهد يجوز أن يرث المشهود له وتقبل شهادته
لأخيه بالمال وإن جاز أن يرثه

(12/211)


(مسألة) (وإن كانت قيمة غانم سدس المال وبينته أجنبية قبلت) لانها بينة غير متهمة فتقبل شهادتها كما لو كانت قيمته ثلث المال وإن كانت بينته وارثة عتق العبدان لأن البينة الوارثة متهمة في شهادتها لكونها ترد إلى الرق من كثرت قيمته وترد شهادتها في الرجوع كما لو كانت فاسقة ويعتق سالم كله بالبينة العادلة ويعتق غانم لان سالما لما عتق بشهادة الاجنبيين صار كالمغصوب فصار غانم ربع التركة فيعتق جميعه لنقصه عن ثلث الباقي لأن الباقي يصير كأنه التركة جميعها وإنما يعتق بإقرارهم لا بشهادتهم قال أبو بكر، ويحتمل أن يقرع بينهما فإن خرجت القرعة لسالم عتق وحده وإن خرجت لغانم عتق هو ونصف سالم كما لو لم تشهد بالرجوع فإن الشهادة بالرجوع لم تقبل فكان وجودها كعدمها فإنه في هذه الصورة يعتق فيها ثلث المال وتكمل في أحدهما فإذا وقعت القرعة لسالم عتق جميعه لأنه ثلث المال وإن وقعت لغانم عتق جميعه ونصف سالم لأن ذلك ثلث المال (مسألة) وإن شهدت بينة أنه أعتق سالماً في مرضه وشهدت أخرى أنه وصى بعتق غانم وكل واحد منهما ثلث المال عتق سالم وحده) لأنه لا ينفذ تصرفه في مرضه إلا في الثلث إذا لم تجز الورثة وعتق سالم منجز وعتق غانم وصية فيقدم عتق سالم على الوصية

(12/212)


(مسألة) وإن شهدت بينة غانم أنه أعتقه في مرضه أيضاً عتق أقدمهما تاريخاً فإن جهل السابق عتق أحدهما بالقرعة) وجملة ذلك أنه إذا ادعى سالم أنه أعتقه في مرض موته وادعى عبده غانم أنه أعتقه في مرض موته وأقام كل واحد منهما بينة بدعواه فلا تعارض بينهما لأن ما شهدت به كل بينة لا ينفي ما شهدت به الأخرى ولا يكذبها فيثبت إعتاقه لهما فإن كانت البينتين مؤرختين بتاريخين متخلفين عتق الأول منهما ورق الثاني إلا أن يجيز الورثة لأن المريض إذا تبرع تبرعاً يعجز ثلثه قدم الأول فالأول وإن
اتفق تاريخهما أو اطلقتا أو احداهما فهما سواء لأنه لا مزية لإحداهما على الأخرى فيستويان ويقرع بينهما فيعتق من تخرج له القرعة ويرق الآخر إلا أن يجيز الورثة لأنه لا يخلو إما أن يكون أعتقهما معاً فيقرع بينهما كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم في العبيد الستة الذين أعتقهم سيدهم عنه موته ولم يكن له مال سواهم أو يكون أعتق أحدهما قبل صاحبه وأشكل علينا فيخرج بالقرعة كما في مسألة الطائر وقيل يعتق من كل واحد نصفه.
وهو قول الشافعي لأنه أقرب إلى التعديل منهما فإن في القرعة قد يرق السابق المستحق للعتق ويعتق الثاني المستحق للرق وفي القسمة لا يخلو المستحق للعتق من حرية ولا المستحق للرق من رق ولذلك قسمنا المختلف فيه على إحدى الروايتين إذا تعارضت بينتان والأول المذهب لأنه لا يخلو من شبهة بإحدى

(12/213)


الصورتين اللتين ذكرناهما والقرعة ثابتة في كل واحد منهما وقولهم إن في القرعة احتمال ارفاق الحر قلنا وفي القسمة إرقاق نصف الحر يقيناً وتحرير نصف الرقيق يقيناً وهو أعظم ضرراً (مسألة) (فإن كانت بينة أحدهما وارثة ولم تكذب الأجنبية فكذلك وإن قالت ما أعتق سالماً إنما أعتق غانماً عتق غانم كله وحكم سالم كحكمه لو لم يطعن في بينته في أنه يعتق ان تقدم تاريخ عتقه أو خرجت له القرعة وإلا فلا، وإن كانت الوراثة فاسقة ولم تطعن في بينة سالم عتق سالم كله وينظر في بينة غانم فإن كان تاريخ عتقه سابقاً أو خرجت القرعة له عتق كله، وإن كان متأخراً أو خرجت القرعة لسالم لم يعتق منه شئ.
وقال القاضي: يعتق من غانم نصفه وإن كذبت بينة سالم عتق العبدان) وجملة ذلك أن المريض إذا خلف ابنين لا وارث له سواهما فشهدا أنه أعتق سالما في مرض موته وشهد أجنبيان أنه أعتق غانماً في مرض موته وكل واحد ثلث ماله ولم يطعن الاثنان في شهادتهما وكانت البينتين عادلتين فالحكم فيه كالحكم فيما إذا كانتا اجنبيتين سواء لأنه قد ثبت أن الميت اعتق العبدين، وإن طعن الاثنان في شهادة الأجنبيين وقالا ما اعتق غانماً انما اعتق سالماً لم يقبل قولهما في رد شهادة الأجنبية لأنها بينه عادلة مثبتة والأخرى نافية وقول المثبت يقدم على قول النافي ويكون حكم ما شهدت به إذا لم تطعن الوارثة في شهادتها أنه يعتق ان تقدم تاريخ عتقه أو خرجت له القرعة ويرق

(12/214)


إذا تأخر تاريخه أو خرجت القرعة لغيره.
وأما الذي شهد به الابنان فيعتق كله لإقرارهما بإعتاقه وحده واستحقاقه الحرية.
وهذا قول القاضي وقيل يعتق ثلثاه إن حكم بعتق سالم وهو ثلث الباقي لأن العبد الذي شهد به الأجنبيان كالمغصوب من التركة والذاهب من التركة بموت أو تلف فيعتق ثلث الباقي وهو ثلثا غانم والأول أصح لأن المعتبر خروجه من الثلث حال الموت وحال الميت في قول الابنين لم يعتق سالم إنما عتق بالشهادة بعد الموت فيكون ذلك بمنزلة موته بعد موت سيده فلا يمنع من عتق من خرج من الثلث قبل موته فإن كان الاثنان فاسقين ولم يردا شهادة لاجنبية ثبت العتق لسالم ولم يزاحمه من شهد له الاثنان لفسقهما فلا يقبل قولهما في اسقاط حق ثبت ببينة عادلة وقد أقر الابنان بعتق غانم فينظر فإن تقدم تاريخ عتقه أو اقرع بينهما فمن خرجت له القرعة عتق كله كما قلنا في التي قبلها وإن تأخر تاريخ عتقه أو خرجت القرعة لغيره لم يعتق منه شئ لأن الاثنين لو كانا عدلين لم يعتق منه شئ فإذا كانا فاسقين أولى وقال القاضي وبعض أصحاب الشافعي يعتق نصقه في الأحوال كلها لأنه استحق العتق بإقرار الورثة مع ثبوت عتق الأخر بالبينة العادلة فصار بالبينة كأنه أعتق العبدين فيعتق منه نصفه.
قال شيخنا: وهذا لا يصح فإنه لو أعتق العبدين لأعتقنا أحدهما بالقرعة ولأنه في حال تقديم تاريخ من شهدت له البينة لا يعتق منه شئ وكانت بينة عادلة فمع فسوقها أولى وإن كذبت الوارثة

(12/215)


الاجنبية فقالت ما أعتق سالماً إنما أعتق غانماً عتق العبدان وقيل يعتق من غانم ثلثاه والأول أولى.
(فصل) إذا شهد عدلان أجنبيان أنه وصى بعتق سالم وفهد عدلان وارثان أنه رجع عن الوصية بعتق سالم ووصى بعتق غانم وقيمتهما سواء أو كانت قيمة غانم أكثر قبلت شهادتهما وبطلت وصية عتق سالم وقد ذكرناه فإن كان الوارثان فاسقين لم تقبل شهادتهما في الرجوع ويلزمهما إقرارهما لغانم فيعتق سالم بالبينة العادلة ويعتق غانم بإقرار الورثة بالوصية باعتاقه وحده، وذكر القاضي وأصحاب
الشافعي أنه إنما يعتق ثلثاه لأنه لما أعتق سالم بشهادة الاجنبيين صار كالمغصوب فصار غانم نصف التركة فيعتق ثلثاه وهو ثلث التركة ولنا ان الوارثة لقر بأنه حين الموت ثلث التركة وأن عتق سالم إنما كان بشهادتهما بعد الموت فسار كالمغصوب بعد الموت ولو غصب بعد الموت لم يمنع عتق غانم كله فكذلك الشهادة بعتقه، وقد ذكر القاضي فيما إذا شهدت بينة عادلة بإعتاق سالم في مرضه ووارثة فاسقة باعتاق غانم في مرضه وانه لم يعتق سالماً أن غانماً يعتق كله وهذا مثله، فأما إن كانت قيمة غانم أقل من قيمة سالم فالوارثة متهمة لكونها ترد إلى الرق من كثرت قيمته فترد شهادتهما في الرجوع كما ترد شهادتهما بالرجوع عن الوصية بعتق سالم ويعتق غانم كله أو ثلث الباقي على ما ذكرنا من الاختلاف فيما إذا كانت فاسقة

(12/216)


فإن لم تشهد الوارثة بالرجوع عن عتق سالم لكن شهدت بالوصية بعتق غانم وهي بينة عادلة ثبتت الوصيتان سواء كانت قيمتهما سواء أو مختلفة إن خرجا من الثلث وإن لم يخرجا من الثلث أقرع بينهما فيعتق من خرجت له القرعة ويعتق تمام الثلث من الآخر سواء تقدمت إحدى الوصيتين عن الأخرى أو استوتا لأن المتقدم والمتأخر من الوصايا سواء (فصل) ولو شهدت بينة عادلة أنه وصى لزيد بثلث ماله وشهدت بينة أخرى أنه رجع عن الوصية لزيد ووصى لعمرو بثلث ماله وشهدت بينة ثالثة أنه رجع عن الوصية لعمرو ووصى لبكر بثلث ماله صحت الشهادة كلها وكانت الوصية لبكر سواء كانت البينات من الورثة أو لم تكن لأنه لا تهمة في حقهم وإن كانت شهادة البينة الثالثة أنه رجع عن إحدى الوصيتين لم تفد هذه الشهادة لأنه قد ثبت بالبينة الثانية أنه رجع عن الوصية لزيد وهي إحدى الوصيتين، فعلى هذا تثبت الوصية لعمرو، وإن كانت البينة شهدت بالوصية لعمرو ولم تشهد بالرجوع عن وصية زيد فشهدت الثالثة برجوعه عن إحدى الوصيتين لا بعينها فقال القاضي لا تصح الشهادة وهو مذهب الشافعي لأنهما لم يعينا المشهود عليه وتصير كما لو قالا نشهد أن لهذا على هذين ألفاً أو أن لأحد هذين على هذا ألفاً فيكون الثلث بين الجمع أثلاثاً، وقال أبو بكر قياس قول أبي عبد الله أنه يصح الرجوع عن إحدى الوصيتين
ويقرع بينهما فمن خرجت له القرعة بالرجوع عن وصيته بطلت وهذا قول ابن أبي موسى وإذا صح

(12/217)


الرجوع عن أحدهما بغير تعيين صحت الشهادة به لذلك، ووجه ذلك أن الوصية تصح بالمجهول وتصح الشهادة فيها بالمجهول فجازت في الرجوع من غير تعيين الرجوع عن وصيته (فصل) إذا شهد شاهدان أنه وصى لزيد بثلث ماله وشهد واحد أنه وصى لعمرو بثلث ماله انبنى هذا على الشاهد واليمين هل يعارض الشاهدين؟ فيه وجهان (أحدهما) يتعارضان فيحلف عمر مع شاهد ويقسم الثالث بينهما لأن الشاهد واليمين حجة في المال فأشبه الشاهدين (والثاني) لا يعارضهما لأن الشاهدين أقوى فعلى هذا ينفرد زيد بالثلث وتقف وصية عمرو على إجازة الورثة.
فأما إن شهد واحد أنه رجع عن وصية زيد ووصى لعمرو بثلثه فلا تعارض بينهما ويحلف عمرو مع

(12/218)


شاهده وتثبت الوصية له والفرق بين المسئلتين ان في الاول تقابلت البينتان فقدمنا إقرارهما، وفي الثانية لم يتقابلا وإنما يثبت بالرجوع وهو يثبت بالشاهد واليمين لأن المقصود به المال وهذا مذهب الشافعي (فصل) إذا اختلفا في دار في يد أحدهما فأقام المدعي بينة أن هذه الدار كانت أمس ملكه أو منذ شهر فهل تسمع هذه البينة ويقضي بها؟ على وجين (أحدهما) تسمع ويحكم بها لأنها تثبت الملك في الماضي وإذا ثبت استديم حتى يعلم زواله (والثاني) لا يحكم بها، قال القاضي وهو الصحيح لأن الدعوى لا تسمع ما لم يدع المدعي الملك في الحال فلا تسمع بينته على ما لم يدعه، لكن إن انضم إلى شهادتهما بيان سبب يد الثاني وتعريف تعديهما فقالا نشهد أنها كانت ملكه أمس فغصبها هذا منه أو سرقها أو ضلت منه فالتقطها هذا ونحو ذلك سمعت وقضي بها لأنها إذا لم تبين السبب فاليد دليل الملك ولا تنافي بين ما شهدت به البينة وبين دلالة اليد لجواز أن تكون ملكه أمس ثم تنتقل

(12/219)


إلى صاحب اليد، فإذا ثبت أن سبب اليد عدوان خرجت عن كونها دليلاً فوجب القضاء باستدامة الملك السابق، وإن أقر المدعي عليه أنها كانت ملكاً للمدعي أمس أو فيما مضى سمع إقراره وحكم به
في الصحيح لأنه حينئذ يحتاج إلى بيان سبب انتقالها إليه فيصير هو المدعي فيحتاج إلى البينة ويفارق البينة من وجهين (أحدهما) أنه أقوى من البينة لكونها شهادة من الإنسان على نفسه ويزول به النزاع بخلاف البينة ولهذا تسمع في المجهول ويقضي به بخلاف البينة (والثاني) أن البينة لا تسمع إلا على ما ادعاه والدعوى يجب أن تكون معلقة بالحال والإقرار يسمع ابتداءا، وإن شهدت البينة أنها كانت في يده أمس ففي سماعها الوجهان وإن أقر المدعي عليه بذلك، والصحيح أنه يسمع ويقضي به لما ذكرنا (فصل) قال الشيخ رحمه الله (إذا مات رجل وخلف ولدين مسلماً وكافراً فادعى كل واحد

(12/220)


منهما أنه مات على دينه فإن عرف أصل دينه فالقول قول من يدعيه وإن لم يعرف فالميراث للكافر لأن المسلم لا يقر ولده على الكفر في دار الإسلام) إذا مات رجل لا يعرف دينه وخلف تركة وابنين أحدهما مسلم والآخر كافر فادعى كل واحد منهما أنه مات على دينه وأن الميراث له دون أخيه فالميراث للكافر ذكره الخرقي لأن دعوى المسلم لا تخلو من أن يدعي كون الميت مسلماً أصلياً فيجب كون أولاده مسلمين ويكون أخوه الكافر مرتداً وهذا خلاف الظاهر فإن المرتد لا يقر على ردته في دار الإسلام أو يقول إن أباه كان كافراً فأسلم قبل موته فهو معترف بأن الأصل ما قاله أخوه مدع زواله وانتقاله والأصل بقاء ما كان على ما كان حتى يثبت زواله، وذكر ابن أبي موسى عن أحمد رواية أخرى أنهما في الدعوى سواء فالميراث

(12/221)


بينهما نصفين كما لو تنازع اثنان عيناً في يديهما ويحتمل أن يكون الميراث للمسلم منهما وهو قول أبي حنفة لأن الدار دار الإسلام يحكم بإسلام لقيطها ويثبت للميت فيها إذا لم يعرف أصل دينه حكم الإسلام في الصلاة عليه ودفنه وتكفينه من الوقف الموقوف على تكفين أموات المسلمين ولأنه يدفن في مقابر المسلمين ويغسل فيثبت فيه سائر أحكام المسلمين فكذلك في ميراثه ولأن الإسلام يعلو ولا يعلى ويجوز أن يكون أخوه الكافر مرتداً لم تثبت عند الحاكم ردته ولم ينته إلى الإمام خبره وظهور الإسلام بناء على هذا أظهر من ثبوت الكفر بناء على كفر أبيه ولهذا جعل الشرع أحكامه أحكام المسلمين فيما عدا
المتنازع فيه وقال القاضي قياس المذهب أننا ننظر فإن كانت التركة في أيديهما أقرع بينهما فمن قرع صاحبه حلف واستحق كما قلنا فيما إذا تداعيا عيناً ويقتضي كلامه أنها إذا كانت في يد أحدهما فهي له مع يمينه وهذا قول لا يصح لأن كل واحد منهما يقر بأن هذه التركة تركة هذا الميت وأنه إنما يستحقها بالميراث فلا حكم ليده، وقال أبو الخطاب يحتمل أن يقف الأمر حتى يعرف أصل دينه أو بصطلحا وهذا قول الشافعي وقد ذكرنا الدليل على ظهور كفره فأما ظهور حكم الإسلام في الصلاة عليه وغسله وغير ذلك فإن هذا لا ضرر فيه على أحد وأما قوله إن الإسلام يعلو ولا يعلى فإنما يعلو إذا ثبت والنزاع في ثبوته وهذا إذا لم يثبت أصل دينه فإن ثبت أصل دينه فالقول قول من ينفيه مع يمينه وهذا قول الشافعي وأبي ثور وابن المنذر وقال أبو حنيفة القول قول المسلم على كل حال لما ذكرنا في التي قبلها ولنا أن الأصل بقاء ما كان عليه فكان القول قول من يدعيه كسائر المواضع وأما إن لم يعترف

(12/222)


المسلم أنه أخوه وادعى كل واحد منهما أن الميت أبوه دون الآخر فهما سواء في الدعوى لتساوي أيديهما عليه ودعاويهما فإن المسلم والكافر في الدعوى سواء ويقسم المال بينهما نصفين كما لو كان في أيديهما دار فادعى كمل واحد منهما اتها له ولا بينة لهما ويحتمل أن يقدم قول المسلم لأن حكم الميت حكم المسلمين في غسله والصلاة عليه وسائر أحكامه، وقال القاضي يقرع بينهما كما إذا تداعيا عينا في يد غيرهما ولم يدعها لنفسه ويحتمل أن يقف الأمر حتى يعرف أصل دينه وهو قول الشافعي إلا أن يصطلحا (مسألة) (وإن أقام كل واحد بينة أنه مات على دينه تعارضتا وإن قال شاهدان نعرفه مسلماً وقال شاهدان نعرفه كافراً فالميراث للمسلم إذا لم تؤرخ الشهود معرفتهم) أما إذا أقاما بينتين كل واحد بينة أنه مات على دينه ولم يعرف أصل دينه تعارضتا وإن عرف أصل دينه نظرنا في لفظ الشهادة فإن شهدت كل واحدة منهما أنه كان آخر كلامه التلفظ بما شهدت به فهما

(12/223)


متعارضتان وإن شهدت إحداهما أنه مات على دين الإسلام وشهدت الأخرى أنه مات على دين الكفر
قدمت بينة من يدعي انتقاله عن دينه لأن المبقية له على أصل دينه ثبتت شهادتها على الأصل الذي تعرفه لأنهما إذا عرفا أصل دينه ولم يعرفا انتقاله عنه جاز لهما أن يشهدا أنه مات على دينه الذي عرفاه والبينة الأخرى معها علم لم تعلمه الأولى فقدمت عليها كما لو شهدا أن هذا العبد كان ملكاً لفلان إلى أن مات وشهد آخران أنه أعتقه أو باعه قبل موته قدمت بينة العتق والبيع فأما إن قال شاهدان نعرفه مسلماً وقال شاهدان نعرفه كافراً نظرنا في تاريخهما فإن اختلف تاريخيهما عمل بالآخرة منهما لأنه ثبت أنه انتقل عما شهدت به الأولى إلى ما شهدت به الأخرى وإن كانتا مطلقتين أو إحداهما مطلقة قدمت بينة المسلم لأن المسلم لا يقر على الكفر في دار الإسلام وقد يسلم الكافر فيقر وإن كانتا مؤرختين

(12/224)


بتاريخ واحد نظرنا في شهادتهما فإن كانت على اللفظ فهما متعارضتان وإن لم تكن على اللفظ ولم يعرف أصل دينه فهما متعارضتان وإن عرف أصل دينه قدمت الناقلة له عن أصل دينه وكل موضع تعارضت البينتان فقال الخرقي تسقط البينتان ويكونان كمن لا بينة لهما وقد ذكرنا روايتين أخريين (احداهما) يقرع بينهما فمن خرجت له القرعة حلف وأخذ (والثانية) يقسم بينهما ونحو هذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة تقدم بينة الإسلام على كل حال وقد مضى الكلام معه وقد قال الخرقي إذا قال شاهدان نعرفه كان مسلماً وقال شاهدان نعرفه كان كافراً فالميراث للمسلم إذا لم يؤرخ الشهود معرفتهم وهو محمول على

(12/225)


من لم يعلم أصل دينه أو على أن أصل دينه الكفر أما من كان مسلماً في الأصل فينبغي أن تقدم بينة الكفر لأن بينة الإسلام يجوز أن تستند إلى ما كان عليه في الأصل (فصل) وإن خلف ابناً مسلماً وأخاً كافراً فاختلفا في دينه حال موته فالحكم فيها كالتي قبلها وهكذا سائر الأقارب.
(مسألة) (وإن خلف أبوين كافرين وابنين مسلمين فاختلفوا في دينه فالقول قول الأبوين ويحتمل أن القول قول الابنين)

(12/226)


ظاهر المذهب أن القول قول الأبوين لأن كون الأبوين كافرين بمنزلة معرفة أصل دينه لأن الولد قبل بلوغه محكوم له بدين أبويه فيثبت أنه كان كافراً في صغره.
ويحتمل أن القول قول الابنين لأن كفر أبويه يدل على أصل دينه في صغره وإسلام ابنيه يدل على إسلامه في كبره فيعمل بهما جميعاً يحمل كل واحد منهما على مقتضاه فهو كما لو قال شاهدان نعرفه كافراً في صغره وقال شاهدان نعرفه مسلماً في كبره (فصل) وإن خلف ابناً كافراً وأخاً وامرأة مسلمين واختلفوا في دينه فالقول قول الابن على

(12/227)


قول الخرقي.
ووجهه ما سبق فيما إذا خلف ابنين مسلماً وكافراً وقال القاضي يقرع بينهما وقد سبق تعليله في مسألة الابنين.
وقال أبو بكر قياس المسألة أن تعطي المرأة الربع ويقسم الباقي بين الأخ) والابن نصفين لأنها تدعي زيادة عليه فيدخل في عموم قوله تعالى (ولهن الربع مما تركتم فلا يخرج إلا بدليل تخصيصها ولا يخرج بالشك ويقسم الباقي بين الأخوين لتساويهما في الدعوى وهو في أيديهما.
(فصل) ولو مات مسلم وخلف زوجة وورثة سواها وكانت الزوجة كافرة ثم أسلمت وادعت

(12/228)


أنها أسلمت قبل موته وأنكرها الورثة فالقول قولهم لأن الأصل عدم ذلك فإن لم يثبت أنها كافرة فادعى عليها الورثة أنها كانت كافرة وأنكرتهم فالقول قولها لأن الأصل عدم ما ادعوه وإن ادعوا أنه طلقها قبل موته فأنكرتهم فالقول قولها فإن اعترفت بالطلاق وانقضاء العدة وادعت أنه راجعها فالقول قولهم وإن اختلفوا في انقضاء عدتها فالقول قولهما في أنها لم تنقض لأن الأصل بقاؤها ولا نعلم في هذا كله خلافاً.
وبه قال الشافعي وأصحاب الرأي ولو خلف ولدين مسلمين اتفقا على أن أحدهما كان مسلماً حين

(12/229)


موت أبيه وادعى الآخر أنه أسلم في حياة أبيه وجحده أخوه فالميراث للمتفق عليه لأن الأصل بقاء
الكفر إلا أن يعلم زواله وعلى أخبه اليمين وتكون على نفي العلم لأنها على نفي فعل أخيه إلا أن يكون ثبت أنه أسلم قبل قسم التركة فيرث فإن من أسلم على ميراث قبل القسمة قسم له وإن كان أحدهما حراً والآخر رقيقاً ثم عتق واختلفا في حريته عند الموت فالقول قول من ينفيها وإن لم يثبت أنه كان رقيقاً ولا كافراً فادعي عليه أنه كذلك فأنكر فالقول قوله والميراث بينهما لأن الأصل الحرية والإسلام وعدم ما سواهما.

(12/230)


(فصل) إذا أسلم أحد الابنين في غرة شعبان والآخر في غرة رمضان واختلفا في موت أبيهما فقال الأول مات في شعبان فورثته وحدي وقال الآخر مات في رمضان فالميراث بينهما لأن الأصل بقاء حياته حتى يعلم زوالها وإن أقام واحد منهما بينة بدعواه ففيه وجهان (أحدهما) يتعارضان (والثاني) نقدم بينة موته في شعبان لأنها معها زيادة علم لأنه ثبت موته في شعبان ويجوز أن يخفى ذلك على البينة الأخرى (مسألة) ولو مات مسلم وخلف ولدين مسلماً وكافراً فأسلم الكافر وقال أسلمت قبل موت أبي وقال أخوه بل بعده فلا ميراث له لأن الأصل بقاء الكفر حتى يعلم زواله وعلى أخيه اليمين وتكون على نفي العلم لأنها على نفي فعل الغير وقد ذكرناه

(12/231)


(مسألة) وإن قال أسلمت في المحرم ومات أبي في صفر فلي الميراث وقال أخوه بل مات في ذي الحجة فله الميراث مع أخيه لأن الأصل بقاء الحياة فإن أقام كل واحد بينة بدعواه فهل يتعارضان أو تقدم بينة من ادعى تقديم موته؟ فيه وجهان ذكرناهما في الفصل قبل هاتين المسئلتين والله أعلم.
الله أكبر

(12/232)