الهداية
على مذهب الإمام أبي عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني كِتَابُ الاعْتِكَافِ
والاعْتِكَافُ (3) مُسْتَحَبٌّ، ولاَ يَجِبُ إِلاَّ بالنَّذْرِ (4)، ولاَ
يَصِحُّ في حَقِّ الرِّجَالِ إِلاَّ في مَسْجِدٍ تُقَامُ فِيْهِ
الجَمَاعَةُ (5)، ويَصِحُّ مِنَ النِّسَاءِ في سَائِرِ المَسَاجِدِ غَيْرِ
مَسْجِدِ بُيُوتِهِنَّ (6)، فَإِنْ نَذَرَ أَنْ يَعْتَكِفَ في المَسْجِدِ
الحَرَامِ، أو مَسْجِدِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، أو المَسْجِدِ
الأَقْصَى؛ لَزِمَهُ ذَلِكَ. وإِنْ عَيَّنَ غَيْرَهَا مِنَ المَسَاجِدِ
لَمْ يَلْزَمْهُ الاعْتِكَافُ فِيْهَا. فَإِنْ نَذَرَ أَنْ يَعْتَكِفَ في
المَسْجِدِ الأَقْصَى جَازَ لَهُ أَنْ يَعْتَكِفَ في المَسْجِدِ الحَرَامِ
ومَسْجِدِ الرَّسُولِ - صلى الله عليه وسلم - ومَنْ نَذَرَ الاعْتِكَافَ في
المَسْجِدِ الحَرَامِ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَعْتَكِفَ فِيْهِمَا؛ لأنَّهُ
أَفْضَلُ مِنْهُمَا (7).
ويَفْتَقِرُ الاعْتِكَافُ إلى النِّيَّةِ والأَفْضَلُ أَنْ يَكُوْنَ في
الجَامِعِ إِذَا كَانَ اعْتِكَافُهُ يَتَخَلَّلُهُ
__________
(1) في المخطوطة: ((بما)).
(2) الْحَدِيْث أخرجه إسحاق (1361) و (1362)، وأحمد 6/ 171 و 182 و 183 و
208، وابن ماجه (3850)، والترمذي (3513)، والنسائي في الكبرى (10708) و
(10709) و (10710) و (10711) و (10712) و (10713)، وفي عمل اليوم والليلة
(872) و (873) و (874) و (875) و (876) و (877)، والطبراني في الدعاء (915)
و (916)، وابن السني في عمل اليوم والليلة (767)، والحاكم 1/ 530، والقضاعي
في مسند الشهاب (1474) و (1475) و (1476) و (1477) و (1478)، والبيهقي في
الدعوات الكبير (203)، والأسماء والصفات (92)، وفي الشعب (3700) و (3701)،
وفضائل الأوقات (113) و (114) من طريق عائشة مرفوعاً.
وأخرجه ابن أبي شيبة (29178) و (29180)، والنسائي في الكبرى (10714)، وفي
عمل اليوم والليلة (878)، والبيهقي في الشعب (3702) عن عائشة موقوفاً.
(3) الاعتكاف في اللغة: لزوم الشيء والإقبال عليه.
وفي الشرع: لزوم المسجد للطاعة، قَالَ تَعَالَى: {وأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي
الْمَسَاجِدِ} البقرة: 187.
انظر: لسان العرب 9/ 255، وتاج العروس 24/ 180 (عكف).
(4) انظر: المغني والشرح الكبير 3/ 118، وشرح الزركشي 2/ 165.
(5) كل مسجد تقام فيه الصلاة يجوز فيه الاعتكاف، كَذَا نقل عنه أصحابه
منهم: أبو داود في مسائله: 96، وابن هانئ في مسائله 1/ 38.
(6) (والمرأة) لها الاعتكاف في كل مسجد إلا مسجد بيتها ... وهذا المذهب
وعليه جماهير الأصحاب. الإنصاف: 3/ 364.
(7) انظر: الهادي: 57، والمغني 3/ 157، والشرح الكبير 3/ 128.
(1/166)
جُمُعَةٌ، ويَصِحُّ بِغَيْرِ صَوْمٍ،
وَعَنْهُ: لا يَصِحُّ إِلاَّ بِصَوْمٍ (1)، فَعلَى هَذَا لاَ يَصِحُّ
لَيْلَةً مُنْفَرِدَةً ولاَ يَصِحُّ بَعْضُ يَوْمٍ (2)، وإِذَا نَذَرَ
اعْتِكَافَ يَوْمَيْنِ لَزِمَهُ اعْتِكَافُ اللَّيْلَةِ الَّتِي مِنْهُمَا،
وكَذَلِكَ إِنْ نَذَرَ اعْتِكَافَ لَيْلَتَيْنِ لَزِمَهُ اليَوْمُ الَّذِي
بَيْنَهُمَا، وإِذَا نَذَرَ اعْتِكَافَ شَهْرٍ بِعَيْنِهِ لَزِمَهُ أَنْ
يَدْخُلَ مَعْكِفَهُ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ مِنْ لَيْلَةِ الشَّهْرِ
ويَخْرُجَ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ مِنْ آخِرِهِ (3). فَإِنْ نَذَرَهُ
مُطْلَقاً لَزِمَهُ اعْتِكَافُ شَهْرٍ مُتَتَابِعٍ أَيْضاً (4)، فَإِنْ
نَذَرَ اعْتِكَافَ ثَلاَثِيْنَ يَوْماً لَمْ يَلْزَمْهُ التَّتَابُعُ (5)
قِيَاساً عَلَى قَوْلِ أَحْمَدَ / 84 ظ / - رضي الله عنه -: إِذَا نَذَرَ
صَوْمَ ثَلاَثِيْنَ يَوْماً جَازَ لَهُ أَنْ يُفَرِّقَهُا، وإِنْ نَذَرَ
صَوْمَ شَهْرٍ لَزِمَهُ التَّتَابُعُ، وَقَالَ شَيْخُنَا: يَلْزَمُهُ
التَّتَابُعُ في الاعْتِكَافِ ولاَ يَلْزَمُهُ التَّتَابُعُ في الصَّوْمِ.
وإِذَا نَذَرَ اعْتِكَافَ مُدَّةً مُتَتَابِعَةً فَخَرَجَ لِمَا لاَ بُدَّ
لَهُ مِنْهُ مِنَ الأَكْلِ والشُّرْبِ، وَقَضَاءِ حَاجَةِ الإِنْسَانِ (6)،
والحَيْضِ والنِّفَاسِ (7)، والاغْتِسَالِ مِنَ الجَنَابَةِ، وأَدَاءِ
شَهَادَةٍ تَعَيَّنَتْ عَلَيْهِ، ومَرَضٍ شَدِيْدٍ، وخَوْفٍ عَلَى نَفْسِهِ
مِنْ فِتْنَةٍ (8) وقَعَتْ، وجِهَادٍ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ، وصَلاَةٍ
الجُمُعَةِ (9)، وسُلْطَانٍ أَحْضَرَهُ، وعِدَّةِ الوَفَاةِ (10)؛ لَمْ
يَبْطُلِ اعْتِكَافُهُ وإن خَرَجَ لما لَهُ مِنْهُ بدٌ من عبادةٍ وزيارةٍ
وصلاة جنازة بطل اعتكافه إِلاَّ أَنْ يَكُوْنَ قَدْ شَرَطَ ذَلِكَ في
بَلَدِهِ، وإِنْ خَرَجَ إِلَى مَنَارَةٍ خَارِجِ المَسْجِدِ للأَذَانِ
__________
(1) نقل علي بن سعيد وحنبل وأبو طالب أنه مستحب وليس واجباً وإِليه مال
القاضي أبو يعلى الفراء، ونقل الأثرم إذا اعتكف وجب عليه الصوم. الروايتين
والوجهين 49/ أ.
(2) انظر: المغني والشرح الكبير 3/ 122، وشرح الزركشي 2/ 63، والإنصاف 1/
232.
(3) وهذا هُوَ المشهور من الروايتين، والرواية الثانية عن أحمد أن يدخل
معتكفه قبل طلوع الفجر أول يوم من أوله. انظر: المغني 3/ 154، والشرح
الكبير 3/ 129، وشرح الزركشي 2/ 72.
(4) وهو اختيار القاضي أبي يعلى بناءً عَلَى الروايتين في نذر الصوم. انظر:
الروايتين والوجهين 211/ ب، والمغني 3/ 155، والمحرر 1/ 232، والشرح الكبير
3/ 130.
(5) وهو المذهب المقدم فيه إلا أن القاضي أبا يعلى ذهب إلى وجوب التتابع.
انظر: المغني 3/ 156، والشرح الكبير 3/ 130، والهادي: 57، والإنصاف 3/ 347.
(6) انظر: مختصر الخرقي: 52، والمغني 3/ 132، والكافي 1/ 374، والفروع 3/
113.
(7) قَالَ الخرقي: والمعتكفة إذا حاضت خرجت من المسجد وضربت خباء في
الرحبة. انظر: مختصر
الخرقي: 1/ 53، والمغني 3/ 153، وشرح الزركشي 2/ 71.
(8) المغني 3/ 146، وشرح الزركشي 2/ 68.
(9) قَالَ أبو داود: قلت لأحمد يركع - أعني: المعتكف - بَعْدَ الجمعة في
المسجد؟ قَالَ: نعم، بقدر ما كَانَ يركع، قُلْتُ: يتعجل إلى الجمعة؟ قَالَ:
أرجو. مسائل الإمام أَحْمَد (رِوَايَة أبي داود: 96، وانظر: المغني 3/ 132.
(10) قَالَ ابن قدامة: وظاهر كلام الخِرَقِيّ أنها كالذي خرج لفتنة وأنها
تبنى وتقضى وتكفّر، وَقَالَ الْقَاضِي: لا كفارة عَلَيْهَا؛ لأن خروجها
واجب. انظر: المغني 3/ 152.
(1/167)
بَطَلَ اعْتِكَافُهُ، وَقِيْلَ: لا
يَبْطُلُ؛ لأَنَّ مَنَارَةَ المَسْجِدِ كَالمُتَّصِلَةِ بِهِ (1)، فَإِنْ
خَرَجَ لِمَا لاَ بُدَّ مِنْهُ فَسَأَلَ عَنِ المَرِيْضِ في طَرِيْقِهِ
وَلَمْ يُعَرِّجْ جَازَ لَهُ، وكَذَلِكَ إِنْ دَخَلَ مَسْجِداً في
طَرِيْقِهِ فَأَتَمَّ اعْتِكَافَهُ فِيْهِ، وإِذَا خَرَجَ لِمَا لَهُ
مِنْهُ بُدٌّ في الاعْتِكَافِ المُتَتَابِعِ بَطَلَ مَا مَضَى مِنِ
اعْتِكَافِهِ واسْتَأْنَفَ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الخِرَقِيِّ (2)،
ويَتَخَرَّجُ أَنْ يَقْضِيَ مَا خَرَجَ فِيْهِ ويُكَفِّرَ كَفَّارَةَ
يَمِيْنٍ (3)، وأَصْلُ الوَجْهَيْنِ إِذَا نَذَرَ صَوْمَ شَهْرٍ بِعَيْنِهِ
فَأَفْطَرَ لِغَيْرِ عُذْرٍ هَلْ يَسْتَأْنِفُ أو يَقْضِي ما تَرَكَ
ويُكَفِّرُ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ، نَصَّ عَلَيْهِمَا (4)، وإِذَا نَذَرَ
أَنْ يَعْتَكِفَ يَوْمَ يَقْدُمُ فُلاَنٌ فَقَدِمَ لَيْلاً لَمْ يَلْزَمْهُ
شَيءٌ، فَإِنْ قَدِمَ فِي بَعْضِ النَّهَارِ لَزِمَهُ اعْتِكَافُ البَاقِي
وَلَمْ يَلْزَمْهُ قَضَاءُ مَا قَدْ مَضَى مِنَ اليَومِ (5)، وَإِذَا
وَطِئَ المُعْتَكِفُ فِي الفَرْجِ بَطلَ اعْتِكَافُهُ وإنْ كَانَ نَاسِياً
(6) ويَلْزَمُهُ كَفَّارَةٌ إِذَا كَانَ نَذْراً، واخْتَلَفَ أصْحَابُنَا
فِي الكَفَّارَةِ وَقَالَ شَيْخُنَا فِي " الخِلافِ ": تَلْزَمُهُ
كَفَّارَةُ الظِّهَارِ (7)، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلامِ أَحْمَدَ - رَحِمَهُ
اللهُ - فِي رِوَايَةِ حَنْبَلٍ (8)، وَقَالَ أبو بَكْرٍ فِي "
التَّنْبِيْهِ ": يَلْزَمُهُ كَفَّارَةٌ ويَمِيْنٌ (9)، وعَنْ أَحْمَدَ
رِوَايَةٌ أُخْرَى: أنَّهُ لاَ يَلْزَمُهُ كَفَّارَةٌ بالوَطْءِ (10)، وإنْ
وَطِئَ دُوْنَ الفَرْجِ فأنْزَلَ بَطُلَ اعْتِكَافُهُ وإنْ لَمْ يُنْزِلْ
لَمْ يَبْطُلْ (11). ولا يَعْتَكِفُ العَبْدُ بِغَيْرِ إذْنِ سَيِّدِهِ،
ولا المَرْأَةُ بِغَيْرِ إذِنِ زَوْجِهَا، فإنْ أذِنَا ثُمَّ أرَادَا
تَحْلِيْلَهُمَا (12)
__________
(1) نقل ابن قدامة في المغني 3/ 142، هَذَا القول احتمال عن ابن الخطاب،
وأنت ترى أن أبا الخطاب ناقلٌ لهذا القول لذا صدره بلفظ: " قِيْلَ ".
(2) قَالَ صاحب الإنصاف: وَهُوَ قياس قَوْل الخِرَقِيّ. الإنصاف 3/ 380.
وانظر: المغني 3/ 146.
(3) انظر: المغني 3/ 145.
(4) انظر: الرِّوَايَتَيْنِ والوجهين 210/أ.
(5) انظر: المغني 3/ 158، والفروع 3/ 118.
(6) قَالَ ابن قدامة: ((إن ما حرم في الاعتكاف استوى عمده وسهوه في
إفساده)). المغني 3/ 143.
(7) نقل قَوْل أبي يعلى كُلّ من: الزركشي والمرداوي. انظر: المغني 3/ 144
وشرح الزركشي 2/ 67، والإنصاف 3/ 381.
(8) نقل حنبل رِوَايَتَيْنِ، إحداهما: إِذَا وطئ نهاراً وجب عَلَيْهِ
كفارة.
ونقل عَنْهُ في موضع آخر: بطل اعتكافه وعليه أياماً مكان ما أفسده ويستقبل
ذَلِكَ ولا كفارة عَلَيْهِ.
انظر: الروايتين والوجهين 49/أ.
(9) انظر: شرح الزركشي 2/ 67، والإنصاف 3/ 381.
(10) سبق تخريج هَذِهِ الرِّوَايَة وقدمها ابن قدامة وزعم في المغني أنَّهُ
ظاهر المذهب وفي الكافي أنَّهُ المذهب.
انظر: الرِّوَايَتَيْنِ والوجهين 49/أ، والمغني 3/ 143، والكافي 1/ 373،
وشرح الزركشي 2/ 66.
(11) قَالَ ابن قدامة: ((ولنا أنها مباشرة لا تفسد صوماً ولا حجاً فَلَمْ
تفسد الاعتكاف كالمباشر لغير شهوة، وفارق الَّتِي أنزل بِهَا لأنها تفسد
الصوم ولا كفارة عَلَيْهِ إلا عَلَى رِوَايَة حنبل)). المغني 3/ 145.
(12) أي منعهما. انظر: المغني 3/ 153، الشرح الكبير 3/ 122.
(1/168)
فَلَهُمَا ذَلِكَ إنْ كَانَ تَطَوُّعاً وإنْ كَانَ نَذْراً / 85 و / لَمْ
يَكُنْ لَهُمَا تَحْلِيلَهُمَا (1)، ويَجُوزُ لِلْمُكَاتِبِ أن يَعْتَكِفَ
ويَحُجَّ بِغَيْرِ إذْنِ مَوْلاهُ نَصَّ عَلَيْهِ، ومَنْ نِصْفَهُ حُرٌّ،
إنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ السَّيِّدِ مُهَايَأَةٌ (2)، جَازَ أنْ
يَعْتَكِفَ في يَوْمِهِ وإنْ لَمْ يَكُنْ مُهَايَأَةٌ فَلِلسَّيِّدِ
مَنْعُهُ. ويُسْتَحَبُّ لِلْمُعْتَكِفِ أنْ يَتَشَاغَلَ بِفِعْلِ القُرَبِ،
ويَتَجَنَّبَ ما لا يَعْنِيهِ مِنَ الأقْوَالِ والأفْعَالِ وذَكَرَ
أصْحَابُنَا أنَّهُ لا يُسْتَحَبُّ لَهُ إقْرَاءُ القُرْآنِ وتَدْرِيسُ
العِلْمِ ومُنَاظَرَةُ الفُقَهَاءِ (3)، وعندِي أنَّهُ يُسْتَحَبُّ لَهُ
ذَلِكَ إِذَا قَصَدَ بِهِ طَاعَةَ اللهِ تَعَالَى لا الْمُبَاهَاةِ. |