الهداية
على مذهب الإمام أبي عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني كتاب المرتدِّ (1) والزنديقِ (2) والساحرِ
تَصِحُّ ردَّةُ البَالِغِ العَاقلِ المُختارِ، ولا تَصحُّ ردَّةُ الصَّبِي
غَيرِ المُميزِ وَالمَعتُوهِ والمُكرهِ، فأمَّا الصَبيُ المُميزِ فَهلْ
نَردُّهُ أم لا؟ عَلَى رِوايَتَينِ (3)، وأمَّا السَّكرانُ فَتصِحُّ
رِدَّتُه في أظهَرِ الرِوايتَينِ. أجَازَهَا عَامَّةُ شيوخِنا، ولا تَصحُّ
رِدَّتُهُ في الأخرَى (4)، وَيجبُ استِتَابَةُ المُرتَدِّ، وتَأجِيلِهِ
بَعدَ الاستِتَابَةِ بِثَلاثَةِ أيَّامٍ في إحدى الرِوايَتينِ (5)، وفي
الأخرَى لا يَجبُ
__________
(1) المرتد: لغة الراجع. شرعا: الراجع عن دين الإسلام إلى الكفر.
انظر: المغني 10/ 74، وشرح الزركشي 4/ 5.
(2) الزنديق: هو من يبطن الكفر ويظهر الإسلام، وهي نسبة إلى الزند (كتاب
المجوس).
انظر: شرح الزركشي 4/ 13، والمعجم الوسيط: 403، ومعجم متن اللغة 3/ 65.
(3) انظر: شرح الزركشي 4/ 15، والإنصاف 10/ 329، والفروع6/ 126، ودليل
الطالب: 318.
(4) لأن ذلك يتعلق بالاعتقاد والقصد، والسكران لا يصح عقده ولا قصده، فأشبه
المعتوه؛ ولانه زائل العقل فلم تصح ردته كالنائم ولانه غير مكلف فلم تصح
ردته كالمجنون، والدليل على أنه غير مكلف أن العقل شرط في التكليف وهو
معدوم في حقه ولهذا لم تصح استتابته. المغني 10/ 108 - 109.
(5) نقلها عنه عبد الله، وحنبل، وإسحاق بن منصور، وأبو طالب.
انظر: مسائل عبد الله بن الإمام أحمد3/ 129 (1791)، أحكام أهل الملل: 416 -
417 (1201 - 1203)
(1/545)
ذَلِكَ وتُستَحبُّ (1)، فإذا تَكرَّرتْ
مِنهُ الرِّدةُ فَهلْ يُقبلُ إسلامُهُ أم لا؟ على روايَتينِ (2)، وَهلْ
تُقبلُ تَوبةُ الزِّنديقِ وَهُوَ الذي يُظهِرُ الإسلامَ ويُبطِنُ الكُفرَ
أم لا؟ عَلى رِوايَتينِ (3).
والذِي يعلمُ السِّحرَ الذي يَدَّعي بِهِ الجنُّ فَيطيعُهُ وإنه يعزمُ
عَلَيها بطلسماتٍ وأشياءَ يَقولَها وَتَدخينٍ يُدخنُهُ فَتحضرُ، وَتَفعلُ
مَا يَأمُرُها، وأنَّهُ يَركَبُ المِكنَسةَ فتسيرُ بِهِ في الهَواءِ،
وأنَّه يُخاطِبُ الكَواكِبَ فَتُجيبُهُ، وما أشبهَ ذَلِكَ، فإنَّه يكفرُ
بِذَلكَ. وَهلْ تُقبلُ تَوبتُهُ أمْ لا؟ عَلَى رِوايَتينِ: - أحدُهما: لا
تُقبلُ تَوبتُهُ (4)، والثَّانيةُ: تُقبلُ تَوبَتُهُ (5)، ولا فَرقَ في ذلك
بينَ الرجلِ والمرأةِ منَ المسلمينَ، فأمَّا ساحرُ أهلِ الكتابِ فقالَ
أَصحابُنَا لا يقبلُ نصَّ عليهِ، ويخرجُ منْ عُمومِ قَولِهِ في روايةِ
يعقوبَ بنِ بختانَ الزِّنديقُ والسَّاحِرُ: كيفَ تقبلُ تَوبَتُهُما يقتَلا،
فأما مَن يَسحرُ بالأدويةِ والتَّدخينِ وَسقَى شيء يضرُّ بهِ الإنسان فلا
يكفرُ بذلكَ، ولا تقبلُ إلا أن يقبل بهِ فيكونُ بمنزلةِ من يسقى السمَّ، إن
كانَ الغالِبُ مِنْهُ أنهُ تقبل قبلَ بهِ، وإلا فعلَيهِ الدِّيَّةُ،
وَيُعَزَّرُ بما يردعه عن فعلِ ذلكَ، ومَن
__________
(1) المغني 10/ 76، والإنصاف 10/ 328 - 329.
(2) الأولى: ما دام يتوب يستتاب، نقلها عن الأمام أحمد: إسحاق بن منصور
الثانية: نقل عبد الملك بن عبد الحميد أنه سأل أبا عبد الله: ما تقول في من
خرج من الإسلام إلى الكفر ثم قال: قد تبت تقبل توبته؟ قال لي: نعم. قلت:
فأن عاد آنفا، قال: قد تبت تقبل توبته؟ قال: نعم، قلت: فإذا فعل ذلك أبدا
يؤخذ ويقول: قد تبت. قال: ما يعجبني هذا إلا آمن أن يكون هذا يتلعب
بالإسلام يقتل. أحكام أهل الملل: 421 - 422 (1216، 1217).
(3) الأولى: يقتل ولا يستتاب. نقلها عن الأمام أحمد حنبل، وأبو الحارث،
والميموني وأبن منصور.
وجهها أن الزنديق من عادته أن يظهر الإسلام ويبطن الكفر ويدعو إليه في السر
ويسعى في الأرض فساداً فأذا كان هذا معلوما من حاله لم يقبل قوله: أنه تاب.
والثانية: أنها تقبل. نقلها عنه عبد الله، وأبو طالب، وإسحاق بن إبراهيم بن
هاني. ووجهها أن المنافقين كانوا على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
يظهرون الإسلام ويسرون الكفر، ومع هذا فأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم
يقتلهم كذلك الزنديق.
انظر: مسائل عبد الله 3/ 1289 (1790)، ومسائل ابن هاني 2/ 93 (1579)،
وأحكام أهل الملل: 459 - 461 (1333 - 1339)، والروايتين والوجهين 172/ ب
-173/أ.
(4) نقل عن الإمام أحمد يعقوب بن بختان: الزنديق والساحر كيف تقبل توبتهما
وهي اختيار أبي بكر والشريف وابن البنا. انظر: الروايتين والوجهين 172/ب.
وشرح الزركشي 4/ 8.
(5) نقل حنبل عن الأمام أحمد أنه كالمرتد يستتاب وهي ظاهر كلام الخرقي.
انظر: الروايتين والوجهين 172/ ب، وشرح الزركشي 4/ 8.
وانظر: مسائل عبد الله 3/ 1279 (1777)، ومسائل ابن هاني 2/ 93 (1578)،
أحكام أهل الملل: 464 - 468 (1349 - 1363)، وشرح الزركشي 4/ 807.
(1/546)
/398 ظ/ لَمْ يَعْتَقِدْ وجوبَ العباداتِ
الخمسِ وتحريمَ الخَمرِ والرِّبا واللواطِ والزِّنا، وما أشبهَ ذلكَ، ممَّا
أجمعَ على وجوبِهِ فهوَ كافِرٌ، وَمَنْ تَرَكَ فِعلَ الصلاةِ مع اعتقادِهِ
وجوبَهَا مِنْ غَيرِ عذرٍ كفرَ في إحدَى الرِّوايتينِ وكذلك الزكاةُ
والحجُّ ومنْ سبَّ اللهَ ورسولَهُ وجبَ قتلُهُ ولم تقبلْ توبَتُهُ في إحدى
الروايتينِ، وتقبلُ توبتُهُ في الأخرى، والمرتدُّ وغيرُهُ مِنَ الكفَّارِ
إذا أتى بالشَّهادتينِ فقط أسلَمَ، وإنْ شَهِدَ أنَّ محمداً رسولُ اللهِ
فقط حَكَمنَا بإسلامِهِ في إحدى الروايتينِ، وفي الأخرى إن كانَ مِمَّن
يُقِرُّ بالتَّوحيدِ كاليهودِ حُكِمَ بإسلامِهِ، وإن كانَ مِمَّن لا يقِرُّ
بالتَّوحيدِ كَمَنْ يعبدُ الأصنامَ والشَّمسَ والنَّصارى لم يُحْكم
بإسلامِهِ، فان ارتَدَّ إلى دينٍ يرونَ أن محمداً - صلى الله عليه وسلم -،
بُعثَ إلى العَربِ خاصَّةً لم يَصرْ مسلماً بالإقرارِ بالشَّهادتينِ حتى
يَقولَ أَرسَلَهُ إلى العالمينَ، أو يقولَ: أنا بريءٌ مِن كلِّ دينٍ يخالفُ
دينَ الإسلامِ، فان أَقامَ على الرِّدَةِ قَتَلَهُ الإمامُ، فإنْ قَتَلَهُ
إنسانٌ بغَيرِ إذنِهِ عُزِّرَ، فان قامَتِ البَينَةُ أنهُ أَسلَمَ بعدَ
الرِّدَةِ وجَبَ على قاتلِهِ القَوَدَ، قالَه أَبو بَكرٍ، ويحتمِلُ أَن لا
يلزمَهُ إلا الدِّيَّةُ، ولا يزولُ ملكُ المرتَدِّ عن مالِهِ بنفسِ
الرِدَّةِ: بل يكونُ مُوفقاً، وإنْ تَصَرَّفَ وَقَعَ تَصَرفُهُُ موفَقَاً،
فإنْ عادَ الى الإسلامِ نَفَذَ تَصرفُهُ، وإنْ قتل على كرهٍ لم يَنْفُذْ
تصرفُه، ويَقضي ديونَهُ، وتنفقُ على من يلزمُهُ نَفقتهُ ويؤدي أروشَ
جناياتِهِ، وينفق على زَوجتِهِ إذا قلنا لا تَبينُ حتى تقضيَ عِدَّتَهَا
ويحفظ الحاكمُ بقيةَ أموالِهِ، [فإذا رجع إلى الإسلام] (1) رُدَّتْ عليهِ،
وقالَ أبو بَكرٍ يزولُ مُلكُه عن المالِ بنفسِ الرِّدَةِ، ولا ينفذُ شيءٌ
من تَصرفَاتهِ ولا يلزمهُ نفقةٌ ولا حَدٌّ، فان رجعَ إلى الإسلام رُدَّ
ماله إليه تمليكاً مستأنفاً، وإذا قُتِلَ المرتد أو ماتَ صَارَ مالُهُ
فيئاً في بَيتِ المالِ في إحدَى الرواياتِ، وفي الأخرى يَكونُ مالُهُ
لورثَتِهِ مِنَ المسلمينَ، وفي الثالِثَةِ: مَالُهُ لورَثَتِهِ مِنَ
الكفَّارِ الذينَ اختارَ دينَهم، وما يَنقُله في حَالِ رِدَّتهِ من مالٍ أو
نَفسٍ فهو مضمونٌ علَيهِ، سَواءٌ كانَ وحدَهُ أو ارتَدَّ جَماعَةٌ أو
امتَنعوا /399 و/ بالحربِ، ويَحتملُ في الجماعةِ المرتدةِ أنْ لا يضمنَ
مالَها في حالِ الحربِ، وما يتركُهُ من العباداتِ في حَالِ رِدَّتِهِ فهل
يلزمُهُ قضاؤُهُ في حالِ إسلامِهِ؟ على روايتينِ، وإذا أقامَ وأرِثُهُ
بينَةً أنه صَلَّى بعدَ الردةِ حكمنَا بإسلامِهِ، وكانَ مالُهُ لوارثِهِ.
بينوا أصَلَّى في دارِ الحربِ أو دارِ الإسلامِ، ولا يصحُّ نكاحُ المرتدِّ،
وما ولدَ له مِنَ الأولادِ في حَالِ ردَّتِهِ محكومٌ بكفرِهِم، ويجوزُ
استرقاقُهم، وما ولدَ في حالِ الإسلامِ فهو مُسلمٌ لا يجوز استرقاقُهُ، ولا
يجوز استرقاقُ المرتدةِ إذا ألحقَتْ بدارِ الحربِ. كما لا يجوز استرقاقُ
المرتدِّ، ويجبُ قتلُهَا كالرَّجُلِ، ونقلَ فضلٌ بزيادةٍ في
__________
(1) في المخطوط: (فإذا لي السلام).
(1/547)
المرتَدِّ إذا تزوجَ في دارِ الحربِ وولِدَ له ما يَصنعُ بولَدِهِ؟ فقالَ:
- يُردونَ إلى الإسلامِ ويكونونَ عبيداً للمسلمينَ: فظاهِرُ هذا أنَّ
نكاحَهُ صحيحٌ، وأنَّهُ لا يجوزُ إقرارُهُ له بالجزيةِ، ولا يقبلُ منهم إلا
بالإسلامِ، إذا أسَروا يَرقونَ أو السَّيف، وإذا نقضَ الذميُّ العهدَ
ولَحِقَ بدارِ الحربِ لَمْ ينقضِ العهدَ في ذريتِهِ ومالِهِ، ولم يَجزْ
استرقَاقُهُم، سواءٌ كانوا في دَارِ الإسلامِ أو أخذَهُم مَعَهُ إلى دارِ
الحربِ. ويجوزُ استرقاقُ الأبِ إذا وقعَ في الأسرِ، واسترقاقُ أولادِهِ
الذينَ حَدثوا بعدَ نَقضِهِ، والردةُ لا تُبطِلُ إحصانَ الرجمِ ولا إحصانَ
القذفِ. فَلوأنَّهُ قذفَهُ إنسانٌ بعد إسلامِهِ لزمه الحَدُّ، فإنْ قَطَعَ
إنسانٌ يدَ مسلمٍ خطأً فارتَدَّ وماتَ فعلى عاقِلَةِ القاطعِ نصفُ ديتِهِ
لورثةِ المقطوعِ فإنْ أسلَمَ وماتَ فعلى عاقِلَةِ القاطعِ كمالُ ديتِهِ،
وإذا انتقلَ الذميُّ إلى التمجُّسِ أو التو ثنِ لم يقبلْ منهُ إلا الإسلام،
وإلا قتِلَ. فان انتقلَ الذميُّ إلى دينِهِ فعلى وَجهينِ: أحدُهُما يقرُّ
على ذلك، والثَّاني: لا يَقِرُّ علَيهِ. |