شرح
الزركشي على مختصر الخرقي [باب فرض
الطهارة]
ش: الفرض والشرط يشتركان في توقف الماهية عليهما، ويفترقان في أن الشرط
يكون خارج الماهية، والفرض داخلها، وأيضا فالشرط يجب استصحابه في الماهية،
من أولها إلى آخرها، والفرض ينقضي ويأتي غيره، واعتبر ذلك بالطهارة، وغسل
الوجه، ونحو ذلك، والخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - نظر إلى المعنى الأول، فسمى
الماء الطاهر، وإزالة الحدث، والنية فروضا، وهي بالمعنى الثاني شرائط.
ومراد الخرقي (- رَحِمَهُ اللَّهُ -) هنا بالطهارة طهارة الحدث، لا طهارة
الخبث والله أعلم.
قال: وفرض الطهارة ماء طاهر
ش: أراد بالماء الطاهر الطاهر غير المضاف، الذي صدر به كتاب الطهارة، وترك
التنبيه على ذلك للاستغناء بما تقدم، ولعله دل عليه بقرينة التنكير، وأراد
به التنويع، وقد تقدم أن الطهارة لا تكون إلا بالماء الطاهر، والله أعلم.
(1/179)
[الاستنجاء بالماء]
قال: وإزالة الحدث
ش: أي الاستنجاء بالماء، أو الأحجار على
ما نبين في موضعه - إن شاء الله تعالى - إن وجد منه ما يقتضي ذلك، وقد
اختلفت الرواية عن أحمد في ذلك، فروي عنه - وهو اختيار الخرقي والجمهور -
أن من شرط صحة الوضوء إزالة ذلك.
73 - لأن في حديث المذي: «يغسل فرجه ثم يتوضأ» و (ثم) للترتيب.
74 - ولأن المنقول عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وعن
أصحابه الاستنجاء قبل الوضوء وروي عنه - وهو اختيار أبي محمد - لا يشترط
ذلك، لأنها نجاسة، فصح الوضوء قبلها، كالنجاسة على سائر البدن، أو على
المخرج غير خارجة منه، فإن ذلك محل وفاق، والقاضي في موضع جعل ذلك كالنجاسة
على المخرج منه، فعلى هذه الرواية يستفيد مس المصحف، واللبث في المسجد إن
كان
(1/180)
جنبا، ولبس الخف، والصلاة إذا عجز عن
الاستنجاء، أما مع القدرة فيستنجي بحائل، أو ينجيه غيره، بشرطه، أو هو بلا
حائل إن قيل: مس الفرج لا ينقض، ثم يصلي.
وحكم التيمم حكم الوضوء، فيصح على هذه الرواية، والحال هذه، اختاره ابن
حامد، واختار القاضي، وأبو البركات، وابن حمدان البطلان - بخلاف الوضوء -
في التيمم، لأنه مبيح، ولا استباحة قبل الاستنجاء.
وحكم النجاسة على غير المخرج في التيمم، حكمها على المخرج، وعند ابن عقيل -
والأشبه عند أبي محمد، وصححه ابن حمدان - الفرق، كما لو كانت على الثوب،
والله أعلم.
[النية في الطهارة]
قال: والنية للطهارة
ش: أي لطهارة الأحداث، ولا خلاف عندنا في ذلك، لقوله سبحانه وتعالى: {وَمَا
أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة:
5] والإخلاص محض النية.
75 - وثبت أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إنما
الأعمال بالنيات» وأكد ذلك
(1/181)
بقوله: «وإنما لكل امرئ ما نوى» وقوله: «لا
عمل إلا بنية» اهـ. والنية في اللغة القصد يقال: نواك الله بخير. أي قصدك
به، وفي الشرع: قصد رفع الحدث، أو الطهارة، لما لا يباح إلا بالطهارة، كمس
المصحف، والطواف، ونحو ذلك، فأما قصد ما تسن له الطهارة، كقراءة القرآن،
والأذان - فقيل: يحصل به رفع الحدث، اختاره أبو حفص، والشيخان وقيل: لا،
اختاره ابن حامد والشيرازي، وأبو الخطاب ومحل النية القلب، فالعبرة به دون
اللسان، نعم: الأولى عند كثير من المتأخرين الجمع بين القصد والتلفظ والله
أعلم.
[غسل الوجه فى الوضوء]
قال: وغسل الوجه
ش: هذا بالإجماع، وبنص كتاب الله سبحانه وتعالى، قال الله تعالى:
{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ
فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا
بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [المائدة: 6] .
(1/182)
قال: وهو من منابت شعر الرأس، إلى ما انحدر
من اللحيين والذقن، وإلى أصول الأذنين، ويتعاهد المفصل، وهو ما بين اللحية
والأذن
ش: حد الوجه طولا من منابت شعر الرأس غالبا - فلا عبرة بالأقرع، الذي ينبت
شعره في بعض جبهته، ولا بالأجلح، الذي انحسر شعره عن مقدم رأسه - إلى ما
انحدر من اللحيين والذقن، وعرضا ما بين أصول الأذنين، لأن جميع ذلك تحصل به
المواجهة، فدخل تحت الآية الكريمة، وقد دل كلام المصنف على [أن] الأذنين
ليسا من الوجه، وسنصرح بذلك إن شاء الله، ودل أيضا على أن البياض الذي بين
العذار والأذن من الوجه، وقد أكد ذلك بقوله: ويتعاهد المفصل. ونص أحمد -
رَحِمَهُ اللَّهُ - على ذلك، لأنه من الوجه في حق الصبي، فكذلك في حق غيره.
تنبيهان:
(أحدهما) : يدخل في الوجه (العذار) وهو الشعر الذي على العظم الناتئ
المسامت صماخ الأذن، وما انحط عنه، إلى وتد الأذن (والعارض) وهو النازل عن
حد العذار على اللحيين، قال الأصمعي ما جاوز وتد الأذن عارض. (والذقن) وهو
مجمع
(1/183)
اللحيين، والحاجبان، وأهداب العينين،
والشارب، والعنفقة، وفي (الصدغ) - وهو الشعر الذي بعد انتهاء العذار، يحاذي
رأس الأذن، وينزل عن رأسها قليلا - (والتحذيف) - وهو الشعر الخارج إلى طرفي
اللحيين، في جانبي الوجه، بين النزعة ومنتهى العارض - ثلاثة أوجه: يدخلان،
لا يدخلان، واختاره أبو محمد في الكافي وأبو البركات، زاعما أنه ظاهر كلام
أحمد، (الثالث) : يدخل التحذيف دون الصدغ، واختاره ابن حامد، وأبو محمد في
المغني، ولا يدخل فيه (النزعتان) ، وهما ما انحسر عنه الشعر من الرأس،
متصاعدا من جانبي الرأس، عند أبي محمد، ويدخلان عند ابن عقيل، والشيرازي،
وحكم ما دخل في الوجه من هذه الشعور وجوب غسلها إن كانت خفيفة، تظهر معها
البشرة، مع ما ظهر من البشرة، ووجوب غسل الظاهر منها إن كانت كثيفة، لا تصف
البشرة كلحية الرجل سواء، نص عليه أحمد، وقيل في لحية المرأة، وما عدا لحية
الرجل: يجب غسل باطنه مطلقا، لندرة كثافة ذلك، فعلى المذهب: إن خف بعض،
وكثف بعض فلكل حكمه.
(الثاني) : قد يقال: ظاهر كلام الخرقي أنه لا يجب غسل المسترسل من اللحية،
وهو إحدى الروايتين، فلا يجب غسل
(1/184)
ما خرج منها عن محاذاة محل الفرض، كالنازل
من الرأس عنه، (والرواية الثانية) - وهي المذهب عند الأصحاب بلا ريب - يجب
غسل المسترسل مطلقا.
76 - لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ثم يغسل وجهه كما
أمره الله، إلا خرت خطايا وجهه من أطراف لحيته، مع الماء» ولأن اللحية
تشارك الوجه في معنى التوجه والمواجهة، وخرج ما نزل من الرأس عنه، لعدم
مشاركته للرأس في الترأس، ونقل بكر بن محمد، عن أبيه، أنه سأل أحمد أيما
أعجب إليك غسل اللحية، أو التخليل؟ فقال: غسلها ليس من السنة، وإن لم يخلل
أجزأه، فأخذ من ذلك الخلال أنها لا تغسل مطلقا، فقال: الذي ثبت عن أبي عبد
الله، أنه لا يغسلها، وليست من الوجه البتة، وامتنع من ذلك القاضي في
تعليقه، والشيخان وغيرهم، فقالوا: معنى قوله: ليس من السنة أي غسل باطنها،
[والله أعلم] .
[الفم والأنف من الوجه فى الوضوء]
قال: والفم والأنف من الوجه
ش: يعني فيجب غسلهما مع غسل الوجه، ويعبر عن ذلك
(1/185)
بالمضمضة والاستنشاق، والمذهب المشهور
الوجوب في الطهارتين الصغرى والكبرى، لأن الله سبحانه [وتعالى] أمر بغسل
الوجه، وأطلق.
77 - وفسره النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بفعله وتعليمه،
فمضمض واستنشق، ولم ينقل عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه
أخل بذلك، مع اقتصاره على المجزئ، وهو الوضوء مرة مرة، وقوله: «هذا الوضوء
الذي لا يقبل الله الصلاة إلا به» وفعله إذا خرج بيانا كان حكمه حكم ذلك
المبين، وأيضا حديث لقيط بن صبرة المتقدم، وهو يدل من جهة اللازم، وفي
رواية لأبي داود فيه: «إذا توضأت فمضمض» .
78 - وللدارقطني عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «أمر رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالمضمضة والاستنشاق» . وقد
روي مسندا ومرسلا ولأنها في حكم الظاهر، ألا ترى أن وضع الطعام، واللبن،
والخمر فيهما لا يوجب فطرا، ولا ينشر حرمة، ولا يوجب حدا، وحصول النجاسة
فيهما يوجب غسلهما، وينقض الوضوء بشرطه. (وعنه) الواجب الاستنشاق فقط
فيهما.
79 - لأن في الصحيح: «إذا توضأ أحدكم فليجعل في أنفه ماء ثم
(1/186)
لينتثر» » وفي لفظ: «من توضأ فليستنشق»
وإذا أمر بذلك في الوضوء ففي الغسل أولى. (وعنه) يجبان في الكبرى، لأنه يجب
وصول الماء فيها إلى باطن الشعور، ونحو ذلك، ولا يجبان في الصغرى، لأن
المأمور به فيها غسل الوجه، والوجه ما تحصل به المواجهة، وليسا كذلك،
فأشبها باطن اللحية الكثة (وعنه) يجب الاستنشاق وحده في الوضوء فقط، جمودا
على قوله: «من توضأ فليستنشق» (وحيث) قيل بالوجوب، فتركهما أو أحدهما ولو
سهوا، لم يصح وضوءه، قاله الجمهور، وقال ابن الزاغوني: إن قيل: إن وجوبهما
بالسنة صح مع السهو، وحكى عن أحمد في ذلك روايتين، إحداهما بالكتاب،
والثانية بالسنة.
وظاهر كلام الخرقي أنه لا يجب تقديمهما على سائر الوجه، لأنهما منه، وأنه
يجب الترتيب والموالاة بينهما وبين سائر الأعضاء، كما يجب في الخد ونحوه
وهو إحدى الروايتين، قال أبو البركات: - وهي أقيسهما، كبقية أجزائه،
والرواية الثانية - واختارها أبو البركات -: لا يجب فلو تركهما ثم صلى أتى
بهما، وأعاد الصلاة دون الوضوء، نص عليه أحمد، ومبناه (على) أن وجوبهما
بالسنة، والترتيب إنما وجب بدلالة
(1/187)
القرآن معتضدا بالسنة، ولم يوجد ذلك فيهما،
بل قد وجد في السنة ما يقتضي عدم الوجوب.
80 - فعن المقدام بن معد يكرب قال: «أتي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بوضوء فتوضأ، فغسل كفيه ثلاثا، وغسل وجهه ثلاثا، ثم
غسل ذراعيه ثلاثا ثلاثا، ثم تمضمض واستنشق ثلاثا، ثم مسح برأسه وأذنيه
ظاهرهما وباطنهما» . رواه أبو داود، وأحمد وزاد: «وغسل رجليه ثلاثا» والله
أعلم.
(تنبيه) :: المضمضة دوران الماء بالفم، والاستنشاق إدخال الماء في الأنف،
قال أبو محمد: ولا تجب الإدارة في جميع الفهم ولا الإيصال إلى جميع باطن
الأنف، وهو مشعر بوجوب الإدارة والوصول في الجملة، وصرح بذلك الشيرازي،
وقال ابن أبي الفتح: المضمضة في اللغة تحريك الماء في الفم، وفي الشرع وضع
الماء في فيه، وإن لم يحركه. وليس بشيء، والله أعلم.
[غسل اليدين إلى المرفقين في الوضوء]
قال: وغسل اليدين إلى المرفقين]
ش: هذا بالإجماع، والآية الكريمة، وكلامه شامل لما إذا نبتت
(1/188)
له يد أو أصبع زائدة في محل الفرض، فإنه
يجب غسلها معه، وهو كذلك فلو كان النابت في العضد، أو المنكب ولم تتميز
الأصلية، غسلا معا، وإن تميزت لم يجب غسل ما لم يحاذ محل الفرض، وفيما
حاذاه وجهان، الوجوب اختيار القاضي، والشيرازي، وعدمه اختيار ابن حامد وابن
عقيل، والشيخين، والله أعلم.
قال: ويدخل المرفقين في الغسل.
81 - ش: لما روى جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «كان رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا توضأ أمر الماء على مرفقيه» .
رواه الدارقطني وفعله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خرج بيانا
للآية الكريمة، إذ (إلى) في الآية الكريمة يجوز أن تكون الغائية، كما هو
الغالب فيها، ويجوز أن تكون بمعنى (مع) كما في قَوْله تَعَالَى: {وَلَا
تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ} [النساء: 2] فبين - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنها للمعنى الثاني، أو يقال: اليد تطلق
حقيقة إلى المنكب و (إلى) أخرجت ما عدا المرفق اهـ. ومن لا مرفق له يغسل
إلى قدر المرفق، في غالب الناس.
(1/189)
(تنبيه) : المرفق بكسر الميم وفتح الفاء
والعكس لغة، والله أعلم.
[مسح الرأس في الوضوء]
قال: ومسح الرأس
ش: وجوب مسح الرأس في الجملة ثابت بالنص والإجماع، والخلاف في القدر الواجب
من ذلك، وعن إمامنا - رَحِمَهُ اللَّهُ - في ذلك ثلاث روايات، إحداهن - وهي
ظاهر كلام الخرقي، والمختار لعامة الأصحاب -: وجوب استيعاب جميع الرأس
بالمسح، لأنه سبحانه أمر بمسح الرأس، وبمسح الوجه في التيمم، ثم في التيمم
يجب الاستيعاب، فكذلك في مسح الرأس، ولأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - مسح جميع رأسه، وفعله وقع بيانا لكتاب ربه سبحانه.
82 - وما جاء عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من أنه مسح مقدم
رأسه، فمحمول على أن ذلك مع العمامة، كما جاء مفسرا في الصحيح، في حديث
المغيرة بن شعبة، وموقع الباء - والله أعلم - إلصاق الفعل بالمفعول، إذ
المسح إلصاق ماسح بممسوح، فكأنه قيل: ألصقوا المسح برءوسكم أي المسح
بالماء، وهذا بخلاف ما لو قيل: امسحوا رءوسكم. فإنه لا يدل على أنه ثم شيء
(1/190)
ملصق، كما يقال: مسحت رأس اليتيم. وما قيل:
إن الباء للتبعيض. فغير مسلم، دفعا للاشتراك، ولإنكار الأئمة قال أبو بكر
عبد العزيز: سألت ابن دريد وابن عرفة عن الباء تبعض؟ فقالا: لا نعرف في
اللغة أنها تبعض. وقال ابن برهان: من زعم أن الباء تفيد التبعيض فقد جاء
أهل اللغة بما لا يعرفونه.
وأما قوله سبحانه وتعالى: {يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ} [الإنسان: 6]
فمن باب التضمين، والله أعلم، فكأنه قيل: يروى بها عباد الله.
وكذلك قول الشاعر:
شربن بماء البحر
والثانية: الواجب مسح البعض، وقد فهم دليل ذلك مما تقدم، من أن الباء تبعض،
ومما روي من أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مسح البعض.
(وعنه) بل في حق المرأة فقط، واختاره الخلال، وأبو
(1/191)
محمد، دفعا للحرج والمشقة عنها، بوجوب مسح
الكل.
والرواية الرابعة: الواجب الأكثر، إذ إيجاب الكل قد يفضي إلى الحرج والمشقة
غالبا، وأنه منفي شرعا.
فعلى الأولى: يجب مسح الأذنين معه على رواية، واختارها الأكثرون، لأنهما من
الرأس كما سيأتي إن شاء الله تعالى، ولا يجب في أخرى، وهي أشهر نقلا:
واختارها الخلال، وأبو محمد، وقال الشيرازي: لو مسح وتخلل مواضع يسيرة، عفي
عنها للمشقة، وظاهر كلام الأكثرين بخلافه.
وعلى الثانية والثالثة: البعض مقدر بالناصية، قاله القاضي، وعامة من بعده،
لكن لا تتعين على المعروف ولابن عقيل احتمال بتعينها، وصرح ابن أبي موسى
بعدم تحديد الرواية فقال: وعنه يجب مسح البعض من غير تحديد.
واتفق الجمهور على أنه لا يجزئ مسح الأذنين عن ذلك البعض، وكذلك مسح ما نزل
عن الرأس من الشعر، ولو كان معقوصا على الرأس، وللقاضي في شرحه الصغير وجه
بإجزاء مسح الأذنين عن البعض.
وعلى الرابعة حد الكثير الثلثان، واليسير الثلث، فما دون، قاله القاضي في
تعليقه، وأبو الخطاب في خلافه الصغير، وأطلق ذلك جماعة.
وقول الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ومسح الرأس. يدخل فيه ولو مسح بأصبع أو
بأصبعين وهو الصحيح من الروايتين، ويدخل أيضا ما لو مسح بخرقة أو خشبة، وهو
أصح القولين عند أبي البركات، ويدخل أيضا ما إذا وقف تحت مطر ونحوه، قاصدا
(1/192)
للطهارة، وأمر يده، لوجود المسح، أما إن لم
يمرها، ولم يجر الماء، فإنه لا يجزئه على أشهر القولين، وإن جرى الماء خرج
على روايتي غسله كما سيأتي، ولو لم يقصد الطهارة فأصابه ماء فمسح قاصدا لها
فإنه يجزئه، على إحدى الروايتين، وهو ظاهر كلام الخرقي، ومختار أبي
البركات، (والثانية) - وبها قطع صاحب التلخيص، وابن عقيل زاعما بأنها تحقيق
المذهب - لا يجزئه.
ويخرج من كلامه ما لو وضع يده على رأسه ولم يمرها، فإنه لا يجزئه، لعدم
المسح، وبه قطع أبو البركات وغيره، ولأبي محمد فيه احتمال بالإجزاء، وما لو
غسل رأسه بدل مسحه، وهو الصحيح من الروايتين، عند أبي البركات، وابن عقيل،
نعم: إن أمر يده أجزأه، على المعروف المشهور، وقيد ابن حمدان إجزاء الغسل
عن المسح بما إذا نواه به، والله أعلم.
تنبيهات (أحدها) : حد الرأس من المقدم، بحيث لا يسمى وجها، وقد تقدم حد
الوجه، وبه يعرف حد الرأس، ومن المؤخر بحيث لا يسمى قفا، والناصية مقدم
الرأس، قاله القاضي وغيره.
(الثاني) : الواجب مسح ظاهر الشعر، فلو مسح البشرة لم يجزئه، كما لو غسل
باطن اللحية دون أعلاها، نعم لو حلق البعض، فنزل عليه شعر ما لم يحلق أجزأه
المسح عليه.
(الثالث) : صفة المسح أن يضع أحد طرفي سبابتيه على طرف الأخرى ويضعهما على
مقدم رأسه، ويضع الإبهامين
(1/193)
على الصدغين، ثم يمرهما إلى قفاه، ثم
يردهما إلى مقدمه، نص عليه أحمد، وهو المشهور، والمختار.
83 - لحديث عبد الله بن زيد وغيره، وفيه خلاف كثير، أعرضنا عنه اختصارا،
والله أعلم.
[غسل الرجلين في الوضوء]
قال: وغسل الرجلين.
84 - ش: للآية الكريمة، فإن جماعة منهم علي، وابن مسعود، وابن عباس -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - قرءوا: {وَأَرْجُلَكُمْ} [المائدة: 6] بالنصب،
عطفا على المغسول، وهو قوله: {وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ} [المائدة: 6]
وقراءة الخفض قيل: عطف على المغسول، والخفض للمجاورة، كما قالوا: جحر ضب
خرب. فخرب. خفض بمجاورة
(1/194)
الضب، مع أنه صفة للمرفوع، وهو الحجر.
وقيل: منه قوله سبحانه وتعالى: {فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ}
[الشعراء: 156] (فعظيم) خفض بمجاورة اليوم وهو صفة للعذاب، ورد بأن الإعراب
بالمجاورة شاذ، فلا ينبغي حمل الكتاب العزيز عليه.
وقيل: بل المعطوف على الممسوح، ثم قيل: المراد مسح الخفين. وعلى قراءة
النصب غسل الرجلين، تكثيرا لمعنى الآية الكريمة، وقيل: بل أطلق المسح وأريد
خفيف الغسل، فمعنى القراءتين واحد، وهو أولى، إذ الأصل توافق القراءتين،
ويشهد لذلك ما قاله أبو علي الفارسي، فإنه قال: العرب تسمي خفيف الغسل
مسحا، يقولون: تمسحت للصلاة، أي توضأت لها، ونحوه قال أبو زيد وغيره، وخصت
الأرجل بذلك - والله أعلم - دون بقية الأعضاء لأنها تقصد بصب الماء كثيرا،
فهي مظنة الإسراف المنهي عنه، فلذلك عطف على الممسوح، تنبيها على الاقتصاد
في صب الماء، وقيل: (إلى الكعبين) ليزول وهم من يظنها ممسوحة، إذ المسح لم
يحدد في كتاب الله عز وجل، بخلاف الغسل. ويؤيد أن المراد من الآية الغسل
بيان من له البيان، وهو رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
(1/195)
85 - فإن الواصفين لوضوئه - كعثمان، وعلي،
وعبد الله بن زيد، وغيرهم - أخبروا أنه غسل رجليه.
86 - وفي الصحيحين عن عبد الله بن عمر [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -] قال:
«تخلف عنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في سفر،
فأدركنا وقد أرهقنا العصر - ويروى: أرهقتنا العصر. فجعلنا نتوضأ، ونمسح على
أرجلنا، قال: فنادى بأعلى صوته: «ويل للأعقاب من النار» مرتين، أو ثلاثا» .
87 - وفي مسلم «عن عمرو بن عبسة قال: قلت يا نبي الله حدثني عن الوضوء.
قال: «ما منكم من رجل يقرب وضوءه فيمضمض ويستنشق فينتثر إلا خرت خطايا
وجهه، وفيه وخياشيمه، ثم إذا غسل وجهه كما أمره الله، إلا خرت خطايا وجهه
من أطراف لحيته مع الماء، ثم يغسل يديه إلى المرفقين إلا خرت خطايا يديه من
أنامله مع الماء، ثم يمسح رأسه إلا خرت خطايا رأسه من أطراف شعره مع الماء،
ثم يغسل قدميه إلى الكعبين إلا خرت خطايا رجليه من أنامله مع الماء، فإن هو
قام فصلى: فحمد الله، وأثنى عليه، ومجده بالذي هو له أهل، وفرغ قلبه لله،
إلا انصرف من خطيئته كيوم ولدته أمه» وفي رواية أحمد - رحمه
(1/196)
الله - وابن خزيمة في صحيحه، كما أمر الله
تعالى بعد غسل الرجلين.
88 - على أن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: أجمع أصحاب رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على غسل القدمين.
(تنبيه) : «أرهقنا العصر» أخرناها عن وقتها، حتى كدنا نغشها، ونلحقها
بالصلاة التي بعدها، «وأرهقتنا العصر» أي قاربتنا العصر. والله أعلم.
قال: إلى الكعبين
ش: أي حد الغسل إلى الكعبين، وهذا يوهم أنه لا يجب إدخالهما في الغسل، وليس
كذلك، بل حكمهما حكم اليدين، وقد قيل: إن الرجل من أصل الفخذ إلى القدم،
وكأن الخرقي إنما ترك التنبيه على ذلك، اكتفاء بما تقدم له في اليد، والله
أعلم.
قال: وهما العظمان الناتئان.
89 - ش: أي الكعبين هما العظمان الناتئان، إذ في الحديث أن الصحابة كان
أحدهم يلصق كعبه بكعب من إلى جنبه في الصلاة، والله أعلم.
(1/197)
قال: ويأتي بالطهارة عضوا بعد عضو، كما أمر
الله تعالى
ش: أي يبدأ بغسل الوجه، ثم اليدين، ثم يمسح الرأس، ثم يغسل الرجلين، وهذا
هو المذهب بلا ريب، للآية الكريمة، فإنه سبحانه وتعالى أدخل ممسوحا بين
مغسولين، وقطع النظير عن نظيره، أما على قراءة النصب فواضح، وكذلك على
قراءة الخفض، لأن مع تأخير الرجلين أدخلا في حيز المسح، وأريد به الغسل،
ولا يقطع النظير عن نظيره، ويفصل بين الأمثال في الكلام العربي، إلا
لفائدة، والفائدة هنا - والله أعلم - الترتيب.
90 - على أنه قد روى النسائي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - لما دنا من الصفا قال: «ابدءوا بما بدأ الله به» » بصيغة
الأمر، وظاهر الأمر البداءة بكل ما بدأ الله به، وأيضا فإن فعله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خرج بيانا للآية
(1/198)
الكريمة، ولم ينقل عنه - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه توضأ إلا مرتبا، ولو جاز عدم الترتيب لفعله ولو
مرة، تبيينا للجواز، وقد توضأ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مرة
مرة، على عادة وضوئه، وقال: «هذا الوضوء الذي لا يقبل الله الصلاة إلا به»
وهذا كله على المذهب، من أن الواو ليست للترتيب، كما هو المذهب، أما إن
قلنا إنها له - على رواية - فواضح، فعلى هذا لو بدأ بشيء من الأعضاء
الأربعة قبل غسل وجهه لم يحسب له، نعم: إن توضأ منكسا أربع مرات، صح وضوءه
إن قرب الزمن، لأنه حصل له من كل مرة غسل عضو اهـ.
(وعن أحمد) - رَحِمَهُ اللَّهُ - رواية تقدمت باغتفار الترتيب بين المضمضة
والاستنشاق، وبين بقية أعضاء الوضوء، فأخذ منها أبو الخطاب - في انتصاره،
وابن عقيل في فصوله - رواية بعدم وجوب الترتيب رأسا، وتبعهما بعض
المتأخرين، منهم أبو البركات في محرره، وغيره، وأبي ذلك عامة الأصحاب،
متقدمهم ومتأخرهم، ومنهم أبو محمد، وأبو البركات في شرحه.
واعلم أن الواجب عندنا الترتيب، لا عدم التنكيس، فلو
(1/199)
وضأه أربعة في حالة واحدة لم يجزئه، ولو
انغمس في ماء جار، ينوي رفع الحدث، فمرت عليه أربع جريات، أجزأه إن مسح
رأسه، أو قيل بإجزاء الغسل عن المسح ولو لم يمر عليه إلا جرية واحدة لم
يجزئه، ولو كان انغماسه في ماء كثير راكد فمنصوصه - وبه قطع ابن عقيل، وأبو
محمد - أنه إن أخرج وجهه، ثم يديه، ثم مسح برأسه، ثم خرج من الماء أجزأه،
مراعاة للترتيب، إذ الحدث إنما يرتفع بارتفاع الماء، عن العضو، وقيل -
وقواه أبو البركات -: إن مكث فيه قدرا يتسع للترتيب، وقلنا: يجزئ غسل الرأس
عن مسحه، أو مسحه ثم مكث برجليه قدرا يسع غسلهما أجزأه.
(تنبيه) : لم ينص الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - على الموالاة فقيل: ظاهر
كلامه أنها لا تجب. وإلا لم يهملها، وهو رواية حنبل عن أحمد.
91 - اقتداء بابن عمر، فإنه روي عنه أنه توضأ في المسجد، أو في السوق،
فأعوز الماء، فأكمله في البيت.
وقيل: بل ظاهره الوجوب، لقوله في مسح الخفين: فإن خلع قبل ذلك، أعاد
الوضوء. ولو لم تجب لكفاه غسل القدمين، إذ قوة كلامه أن الخلع بعد مدة،
وهذا رواية الجماعة عن أحمد، وعليها الأصحاب، لظاهر الآية الكريمة إذ قوله
(1/200)
سبحانه: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ
فَاغْسِلُوا} [المائدة: 6] إلى آخرها يقتضي الفورية على قاعدتنا، ثم (إذ
قمتم إلى الصلاة) شرط و (فاغسلوا) جوابه، [وإذا وجد الشرط، وهو القيام وجب
أن لا يتأخر عنه جوابه] وهو غسل الأعضاء الأربعة.
92 - وعن خالد بن معدان، عن بعض أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - «أنه رأى رجلا يصلي، وفي ظهر قدمه لمعة، فأمره النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالوضوء والصلاة» . رواه أبو داود، وأحمد
وجود إسناده، ولم يستفصله النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هل
فرط أم لا؟ ثم إن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم ينقل عنه
أنه توضأ إلا مرتبا متواليا، وفعله - كما تقدم - خرج بيانا للآية الكريمة.
وفي المذهب قول ثالث، اختاره أبو العباس، وزعم أنه الأشبه بأصول الشريعة.
وأصول أحمد، اعتمادا على قوله سبحانه وتعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا
اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16] .
(1/201)
93 - وقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم» والتارك لعذر قد فعل
ما استطاع، ونظرا إلى أن التتابع في صوم شهري الكفارة واجب بالنص والإجماع
ثم لو تركه لعذر لم ينقطع، وكذلك الموالاة في قراءة الفاتحة، ثم لو تركها
(ولو) كثيرا - لاستماع قراءة [الإمام] ونحو ذلك أتمها، وكذلك الموالاة في
الطواف والسعي، لا تبطل بفعل المكتوبة، وصلاة الجنازة، وطرد ذلك هنا أنه لو
أنقذ غريقا، أو أمر بمعروف، ونحو ذلك في أثناء الوضوء، لم يضره وإن طال،
وكذلك الصلاة تجب الموالاة فيها، بحيث لا يفرق بين أبعاضها بما ينافيها، ثم
لو فرق لضرورة لم يضره.
94 - كما ثبت في الصحيح من حديث ابن عمر في صلاة الخوف: أن الطائفة الأولى
تذهب بعد صلاة ركعة، وجاه العدو، ثم ترجع إلى صلاتها بعد أن تصلي الطائفة
الثانية الركعة الثانية، وتذهب جهة العدو، وكذلك من سبقه الحدث، يتوضأ
ويبني، على أحد القولين، ما لم يبطل صلاته بكلام عمد ونحوه.
95 - ثم ما وقع للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حديث ذي
اليدين، من الكلام، والقيام والمشي، إلى غير ذلك، ومثله يبطل الصلاة لولا
العذر.
(1/202)
وأجاب عن حديث خالد بن معدان بأن أمره
بالإعادة كان لتفريطه، وهو عدم معاهدته الوضوء، ثم طرد ذلك في الترتيب،
وقال: لو قيل بسقوطه للعذر، كما إذا ترك غسل وجهه فقط لمرض ونحوه، ثم زال
قبل انتقاض وضوئه فغسله لتوجه اهـ.
فعلى الأولى: لا أثر للتفريق، لكن يحتاج إلى استئناف نية، قاله ابن عقيل،
وأبو البركات، معللين بأن النية الحكمية تبطل بالفصل الطويل، كما تبطل به
قبل الشروع.
وعلى الثانية: المؤثر تفريق يفحش عادة، في رواية حكاها ابن عقيل، إذ ما لا
حد له في الشرع، المرجع فيه إلى ذلك، كالحرز، والقبض، والمشهور عند
الأصحاب: المؤثر أن يؤخر غسل عضو حتى ينشف الذي قبله. زاد أبو البركات: أو
أخر عضوا عن أوله إلى أن ينشف أوله اهـ في الزمن المعتدل شتاء وصيفا، وهواء
أو قدر ذلك، ولعل هذا أضبط للعرف المتقدم، فيتحد القولان، وحكى ابن عقيل
وجها أن المؤثر بنشاف عضو (ما) فلو نشف وجهه قبل غسل رجليه بطل وضوءه،
(ويستثنى) مما تقدم ما إذا كان الجفاف لسنة، من تخليل أو إسباغ، أو إزالة
شك، ونحو ذلك، فإنه لا يؤثر،
(1/203)
فلو كان لعبث، أو إسراف، أو زيادة على
الثلاث أثر، وكذلك إن كان لإزالة وسخ لغير طهارة، وإن كان لوسوسة، أو إزالة
نجاسة: فوجهان، وإن كان لعوز الماء، أو للاشتغال بتحصيله أثر، وعنه متى كان
في علاج الوضوء فلا بأس والله أعلم.
[عدد مرات الوضوء]
قال: والوضوء مرة مرة يجزئ، والثلاث أفضل
ش: المرة هي التي عمت المحل بالغسل، ولا إشكال في الاجتزاء بها.
96 - لما صح أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - توضأ مرة مرة،
وتوضأ مرتين مرتين، وتوضأ ثلاثا ثلاثا.
97 - وعن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال «توضأ رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مرة مرة، ثم قال: «هذا وضوء من لا
تقبل له صلاة إلا به» ، ثم
(1/204)
توضأ مرتين مرتين، ثم قال: «هذا وضوء من
يضاعف له الأجر مرتين» ثم توضأ ثلاثا ثلاثا، ثم قال: «هذا وضوئي ووضوء
الأنبياء قبلي» رواه البيهقي في السنن، وفي رواية: «هذا وضوء لا يقبل الله
الصلاة إلا به» .
98 - ولابن ماجه نحوه عن أبي بن كعب.
والثلاث أفضل بلا ريب، لأنه الذي واظب عليه النبي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه.
واقتصار المصنف على الثلاث يقتضي أنه لا يستحب الزيادة على ذلك ولا إشكال
فيه، وقد صرح بعضهم بالكراهة.
99 - لأن في حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، أن النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «توضأ ثلاثا ثلاثا، ثم قال: «هكذا الوضوء،
فمن زاد على هذا أو نقص فقد أساء وظلم، أو ظلم وأساء» رواه أبو داود، وهذا
لفظه، ورواه أحمد , والنسائي، وصححه ابن خزيمة، وفي
(1/205)
رواية لأحمد، والنسائي مختصرا: «فمن زاد
على هذا فقد أساء وتعدى، وظلم» وليس في رواية أحد منهم «أو نقص» غير أبي
داود، وقد تكلم فيه مسلم وغيره، وأوله البيهقي على نقصان العضو، قال
الذهبي: وكذلك ينبغي أن تفسر الزيادة والله أعلم.
[صلاة الفريضة بوضوء النافلة]
قال: وإذا توضأ لنافلة، صلى بها فريضة
ش: هذا يلتفت إلى ما تقدم من أن النية في الاصطلاح الشرعي هي قصد رفع
الحدث، أو استباحة ما لا يباح إلا بالطهارة، والنافلة لا تباح إلا
بالطهارة، والله أعلم.
[قراءة القرآن للجنب والحائض والنفساء]
قال: ولا يقرأ القرآن جنب ولا حائض ولا نفساء.
100 - ش: لما روي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قال: «كان رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقضي حاجته، ثم يخرج فيقرأ القرآن
ويأكل معنا اللحم، ولا
(1/206)
يحجبه. وربما قال: ولا يحجزه شيء من القرآن
ليس الجنابة» . رواه الخمسة، وصححه الترمذي.
101 - وعن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، عن النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يقرأ الجنب ولا الحائض شيئا من
القرآن» رواه أبو داود وحكم
(1/207)
النفساء حكم الحائض إذ دم النفاس هو دم
الحيض «حقيقة» .
102 - مع أنه قد روي عن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تقرأ الحائض ولا النفساء من القرآن
شيئا» رواه الدارقطني.
وقول الخرقي: القرآن. الألف واللام للجنس، فيتناول القليل والكثير، وهو
إحدى الروايات، واختارها أبو البركات، لظواهر النصوص المتقدمة، (وعنه) :
يجوز لهم قراءة بعض آية، كما لو لم يقصد بذلك القرآن، (وعنه) : تجوز قراءة
الآية ونحوها حكاها الخطابي وأشار إليها في التلخيص فقال: وقيل: يتخرج من
تصحيح خطبة الجنب جواز قراءة الآية مع اشتراطها، ويستثنى من ذلك قول:
(بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) تبركا، وعلى الغسل والوضوء،
والذبيحة، ونحو ذلك، و (الحمد لله رب العالمين) عند تجدد نعمة ونحوه، بشرط
عدم قصد القراءة، نص عليه، وهذا يخرج من كلام الخرقي - رحمه
(1/208)
الله - لانتفاء القراءة والحال هذه،
والخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - ذكر الجنب والحائض، والنفساء، وبعض المتأخرين
كأبي الخطاب، ومن تبعه يقول: ومن لزمه الغسل. فيدخل في كلامهم الكافر إذا
أسلم، على المذهب من: لزوم الغسل له. والله أعلم.
[لا يمس المصحف إلا طاهر]
قال: ولا يمس المصحف إلا طاهر (والله
أعلم) .
103 - ش: لما روى مالك عن عبد الله بن أبي بكر - وهو ابن محمد بن عمرو بن
حزم - أن في الكتاب الذي كتبه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
لعمرو بن حزم: «أن لا يمس القرآن إلا طاهر» وكذلك رواه أحمد، وأبو داود
مرسلا، ورواه النسائي، والدارقطني، من رواية الزهري، عن أبي بكر بن محمد،
عن أبيه، عن جده، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
(1/209)
104 - وعن ابن عمر أنه قال: لا يمس المصحف
إلا على طهارة. احتج به أحمد [واستدل] بقوله تعالى: {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا
الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة: 79] على أن المراد بالكتاب المصحف بعينه وأن
{لَا يَمَسُّهُ} [الواقعة: 79] خبر بمعنى النهي، أو أنه نهي علي بابه، وحرك
بالضم لالتقاء الساكنين، ورد بأن المشهور عن السلف، وأهل التفسير أن الكتاب
اللوح المحفوظ، وأن {الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة: 79] الملائكة، ويؤيده
الآية الأخرى: {كَلا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ - فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ - فِي
صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ - مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ - بِأَيْدِي سَفَرَةٍ -
كِرَامٍ بَرَرَةٍ} [عبس: 11 - 16] وأيضا الإخبار بأنه: {فِي كِتَابٍ
مَكْنُونٍ} [الواقعة: 78] أي مصون، لا تناله أيدي الضالين، وهذه صفة اللوح
المحفوظ وأيضا: {الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة: 79] من طهرهم غيرهم، ولو أريد
طهارة بني آدم لقيل: المتطهرون. كما قال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ
التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة: 222] ويمكن توجيه
الاستدلال بالآية على وجه آخر، وهو أن يقال: القرآن الذي في اللوح المحفوظ
هو الذي في المصحف، وإذا كان من حكم الذي في السماء أن {لَا يَمَسُّهُ
إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة: 79] فكذلك الذي في الأرض، لأنه هو هو.
(1/210)
وقول الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يمس.
يشمل مسه بيده، وسائر جسده، ويقتضي أن له حمله بعلاقته، أو بحائل له، منفصل
عنه، ولا يتبعه في البيع كعلاقة، أو بحائل تابع للحامل، كحمله في كمه، أو
ثوبه، أو تصفحه بعود، ونحو ذلك، وهو المشهور من المذهب، قطع به أبو الخطاب،
وابن عبدوس، وصاحب التلخيص، واختاره القاضي وأبو محمد، اعتمادا على مفهوم
الحديث (وعنه) : المنع من تصفحه بكمه، وخرجه القاضي والمجد إلى بقية
الحوائل، وأبى ذلك طائفة منهم أبو محمد في المغني مشيرا إلى الفرق، بأن كمه
وثيابه متصلة به، أشبهت أعضاءه.
ويقتضي أيضا أن له الكتابة من غير مس، وبه جزم أبو محمد، وقيل: بل هو
كالتقليب بالعود، وقيل: لا يجوز وإن جاز التقليب. ولأبي البركات احتمال
بالجواز للمحدث دون الجنب، ومحل الخلاف إذا لم يحمله، على مقتضى ما في
التلخيص، والرعاية.
وقوله: مصحف. المصحف معروف، مثلث الميم، وهو شامل لما يسمى مصحفا من
الكتاب، والجلد، والحاشية، والورق الأبيض المتصل به، ويخرج منه: كتب الفقه
والتفسير والإعراب، ورسالة فيها قرآن، ونحو ذلك، وهو المذهب، نظرا لمفهوم
الحديث.
(1/211)
105 - وفي الصحيحين «أنه - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كتب إلى هرقل: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ
الرَّحِيمِ» ، من محمد عبد الله ورسوله، إلى هرقل عظيم الروم، وفيه و
{يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا
وَبَيْنَكُمْ} [آل عمران: 64] الآية إلى {مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 64] »
وحكى القاضي وغيره رواية بالمنع، ويخرج منه المنسوخ، وهو المشهور من
الوجهين، وكذلك مس الأحاديث المأثورة عن الرب سبحانه وتعالى.
ويستثنى من مفهوم كلامه: إذا كتب بعض القرآن مفردا عن تفسير وغيره، فإنه لا
يجوز مسه، وإن لم يسم مصحفا، نعم في مس الصبيان ألواحهم - قيل: والمصحف،
ومس الدراهم المكتوب عليها القرآن، وثوب طرز به - قولان، ظاهر كلامه
الجواز.
وقوله: إلا طاهر. يعني من الحدثين الأكبر والأصغر، أما طهارة الخبث فلا
يشترط انتفاؤها، نعم العضو المتنجس يمنع من المس (به) على المذهب، وقد يدخل
في كلامه طهارة التيمم، وقد يخرج، وبالجملة يجوز المس بها، وإن لم يكن (به)
حاجة إلى ذلك، على المقدم.
ويخرج من كلامه الذمي، لانتفاء الطهارة منه، بل وعدم تصورها، وهو كذلك، نعم
له نسخه بدون حمل ومس، على ما قاله القاضي في تعليقه وغيره، وقال أبو بكر
(إنه) لا يختلف قوله في ذلك، وقد ذكر أحمد أن نصارى الحيرة كانوا يكتبون
المصاحف، لقلة من كان يكتبها، قيل له:
(1/212)
يعجبك هذا؟ قال: لا يعجبني. فأخذ من ذلك ابن حمدان - والله أعلم - رواية
بالمنع، وقال القاضي في تعليقه: يمكن (حملها) على أنهم حملوا المصاحف في
حال كتابتها.
ويخرج من كلامه أيضا إذا طهر بعض عضو، فإنه لا يجوز المس به، لأن الماس غير
طاهر على المذهب، والله أعلم. |