شرح الزركشي على مختصر الخرقي

[باب استقبال القبلة في الصلاة]
باب استقبال القبلة ش: استقبال القبلة شرط لصحة الصلاة في الجملة، لقول الله سبحانه: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ} [البقرة: 144] أي: نحوه.
435 - وعن أنس [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -] قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من صلى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا، فذلك المسلم، له ذمة الله، وذمة رسوله، فلا تخفروا الله في ذمته» . رواه البخاري، والله أعلم.

[استقبال القبلة في صلاة الخوف]
قال: وإذا اشتد الخوف وهو مطلوب ابتدأ الصلاة إلى القبلة، وصلى إلى غيرها راجلا أو راكبا، يومئ إيماء على قدر الطاقة، [ويجعل سجوده أخفض من ركوعه] .

(1/525)


ش: استقبال القبلة شرط لصحة الصلاة كما تقدم، إلا في موضعين:
(أحدهما) : حال المسايفة، وهو حال اشتداد الخوف، وما في معناه؛ كالخوف من سبع، أو سيل، أو هرب مباح من عدو، ونحو ذلك، فله أن يصلي على قدر طاقته؛ راجلا، أو راكبا، إلى القبلة إن أمكن، وإلى غيرها إن عجز، بركوع وسجود مع القدرة، وبالإيماء مع عدمها، على قدر الطاقة، ليأتي بما استطاع، وإن عجز عن الإيماء سقط، وإن احتاج إلى الكر والفر والضرب والطعن؛ فعل، ولا يؤخر الصلاة عن وقتها، لقول الله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا} [البقرة: 239] .
436 - «وعن نافع عن ابن عمر، أنه كان إذا سئل عن صلاة الخوف وصفها، ثم قال: فإن كان خوف [هو] أشد من ذلك صلوا رجالا، قياما على أقدامهم، مستقبلي القبلة وغير مستقبلها» .
قال نافع: ولا أرى ابن عمر ذكر ذلك إلا عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. رواه البخاري، وعن أحمد رواية أخرى بالتخيير بين الفعل والتأخير إلى الأمن وإن خرج الوقت.
437 - لما في الصحيحين عن ابن عمر، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «لا يصلين أحدكم العصر إلا في بني قريظة» . فصلى قوم في الطريق، وقالوا: لم يرد بنا تفويت الصلاة، وأخر قوم الصلاة، حتى وصلوا إلى بني قريظة وقد فاتتهم الصلاة، فلم

(1/526)


يعب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - واحدة من الطائفتين، وجه ذلك أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أقرهم على التأخير، لمصلحة الجهاد» . وأظن عن أحمد رواية أخرى بالتأخير.
استدلالا بتأخير النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم الخندق، والمذهب الأول، وما تقدم قيل: منسوخ بقوله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} [البقرة: 238] ونحوه، (وعلى الأول) ظاهر كلام الخرقي أنه يلزمه افتتاح الصلاة إلى القبلة إن أمكنه ذلك، وهو إحدى الروايتين.
439 - لما روى أنس بن مالك [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -] ، قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا أراد أن يصلي على راحلته تطوعا، استقبل القبلة، فكبر للصلاة، ثم خلى عن راحلته، فيصلي حيث [ما] توجهت به» . رواه أحمد، وأبو داود.
(والثانية) : لا يلزمه، اختارها أبو بكر، لأنه جزء من أجزاء الصلاة، أشبه بقية أجزائها، والله أعلم.

(1/527)


قال: وسواء كان مطلوبا أو طالبا يخشى فوات العدو، وعن أبي عبد الله [- رَحِمَهُ اللَّهُ -] رواية أخرى، أنه إذا كان طالبا فلا يجزئه أن يصلي إلا صلاة أمن.
ش: حكم الطالب لعدو يخشى فواته حكم المطلوب في إحدى الروايتين، لأن فوات الكافر ربما أدى إلى ضرر عظيم، فأشبه المطلوب.
440 - «وعن عبد الله بن أنيس قال: بعثني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى خالد بن سفيان الهذلي، وكان نحو عرفة أو عرفات، قال: «اذهب فاقتله» فرأيته وحضرت الصلاة، فقلت: إني لأخاف أن يكون بيني وبينه ما يؤخر الصلاة، فانطلقت أمشي وأنا أصلي أومئ إيماء، فلما دنوت منه قال [لي] : من أنت؟ قلت: رجل من العرب، بلغني أنك تجمع لهذا الرجل، فجئتك لذلك، [فقال] : إني لعلى ذلك. فمشيت معه ساعة، حتى إذا أمكنني علوته بسيفي حتى برد» .
والظاهر أنه أخبر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أو علم جواز ذلك.
والرواية (الثانية) - واختارها القاضي -: لا يجوز له أن

(1/528)


يصلي إلا صلاة أمن، لأن الله تعالى شرط لهذه الصلاة الخوف، وهذا ليس بخائف. والله أعلم.

[صلاة التطوع في السفر على الراحلة]
قال: وله أن يتطوع في السفر على الراحلة، على ما وصفنا من صلاة الخوف.
ش: هذه الحال الثانية [التي] لا يشترط لها الاستقبال، وهي التطوع في السفر [في الجملة] بالإجماع.
441 - وسنده ما روى ابن عمر [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -] «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يسبح على [ظهر] راحلته، حيث كان وجهه، يومئ برأسه» ، وكان ابن عمر يفعله. وفي رواية: وكان يوتر على بعيره. ولمسلم: غير أنه لا يصلي عليها المكتوبة. متفق عليه، وقال تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115] .
442 - قال ابن عمر: نزلت في التطوع في السفر. رواه مسلم وغيره.
إذا تقرر هذا فكلام الخرقي يشمل قصير السفر وطويله، وهو صحيح، لعموم ما تقدم.
وظاهر كلامه اختصاص الحكم بالمسافر، وهو المذهب من الروايتين، لما تقدم من الآية الكريمة. و (قد) قال ابن عمر: إنها في السفر.

(1/529)


443 - وعن أنس [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -] «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا سافر فأراد أن يتطوع استقبل بناقته القبلة فكبر، ثم صلى حيث كان وجهة ركابه» . رواه أحمد، وأبو داود، فقيد ذلك بالسفر.
(والرواية الثانية) : يجوز ذلك للمقيم السائر في مصره، لأنها رخصة تجوز في قصر السفر، فشرعت في المصر، كالتيمم، وأكل الميتة.
وظاهر كلام الخرقي [أيضا] أن الحكم يختص بمن هو على الراحلة، فلا يجوز ذلك للماشي، وهذا إحدى الروايتين عن أحمد، ونصبها أبو محمد للخلاف، لأنه لم ينقل عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه فعل ذلك إلا في حال الركوب، وليس الماشي في معناه، لاحتياجه إلى عمل كثير، ويعضده عموم {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 144] .
(والرواية الثانية) : يجوز ذلك للماشي كالراكب، وبها قطع أبو الخطاب في الهداية، ونصبها أبو البركات، لعموم {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ} [البقرة: 115] الآية، ولأنه مسافر سائر، أشبه الراكب، وعلى هذا يستقبل القبلة في الافتتاح، وفي الركوع، وفي السجود، ويسجد بالأرض لتيسر ذلك عليه، ويفعل ما عدا ذلك إلى جهة مسيره، اختاره القاضي، واختار أبو البركات

(1/530)


والآمدي: جواز الإيماء بالكوع والسجود إلى جهة سيره، دفعا لمشقة التوجه، يكررها في كل ركعة.
وحكم الصلاة في السفر حكم صلاة الخوف، في أنه إن شق عليه استقبال القبلة كمن جمله مقطور، أو من يعسر عليه الاستدارة بنفسه، أو الركوع والسجود، سقط ذلك عنه، وأومأ كما تقدم.
444 - «قال جابر: بعثني النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حاجة، فجئت وهو يصلي على راحلته نحو الشرق، السجود أخفض من الركوع» . رواه أبو داود.
وإن تيسر عليه الاستقبال لزمه في ظاهر كلام الخرقي، وبه قطع أبو الخطاب، وقال أبو البركات: إنه ظاهر المذهب، لما سبق من حديث أنس [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -] ، وخرج أبو محمد رواية بعدم اللزوم، من المسألة السابقة، واختاره أبو بكر، لما تقدم من أنه جزء من أجزائها، أشبه بقيتها، ثم يتم إلى جهة سيره، لأنها قبلته، وكذلك إن تيسر عليه الركوع والسجود على ظهر المركوب لزمه ذلك، كما إذا

(1/531)


تمكن من الاستقبال في جميع الصلاة، كالراكب في المحفة الواسعة ونحو ذلك، قال الآمدي: ويحتمل أن لا يلزم شيء في ذلك [لأن] الرخصة تعم، والله أعلم.

قال: ولا يصلي في غير هاتين الحالتين فرضا ولا نافلة إلا متوجها إلى الكعبة، فإن كان يعاينها فبالصواب، وإن كان غائبا عنها فبالاجتهاد بالصواب إلى جهتها.
ش: قد تقدم أن استقبال القبلة شرط لصحة الصلاة إلا في الحالين السابقين، ثم إن كان يعاينها ففرضه إصابة عينها، لقدرته على ذلك، فيحاذيها بجميع بدنه، بحيث لا يخرج شيء منه عنها، وحكم من كان بمسجد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حكم من كان بمكة، لأن قبلته [متيقنة] الصحة، وإن كان غائبا عن الكعبة [أو عن مسجد الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ففرضه الاجتهاد إلى جهة الكعبة] على المشهور من الروايتين، واختاره الخرقي، والشيخان وغيرهما.

(1/532)


445 - لما روى أبو هريرة [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -] قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ما بين المشرق والمغرب قبلة» رواه ابن ماجه، والترمذي، وقال: حديث حسن صحيح.
446 - وصح عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «لا تستقبلوا القبلة بغائط ولا بول، ولا تستدبروها، ولكن شرقوا أو غربوا» وهذا يدل على أن ما بينهما قبلة.
(والرواية الثانية) : يجب الاجتهاد إلى عين الكعبة. اختاره أبو الخطاب في الهداية.
447 - لما روي عن ابن عباس «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دخل البيت ثم خرج، فركع ركعتين في قبل الكعبة، وقال: «هذه القبلة» متفق [عليه] .
فعلى هذه الرواية من تيامن أو تياسر عن سو اجتهاده بطلت صلاته.
وعلى الثانية: لا يضر ذلك ما لم يخرج عنها.
ويستثنى من قوله: وإن كان غائبا [عنها] إذا كان بالقرب

(1/533)


منها، كمن بمكة أو قريب منها، والحائل بينهما [حادث] ، كالدور ونحوها، فإن فرضه [تيقن] إصابة عينها إما بنفسه، كمن نشأ بمكة، أو بخبر عالم بذلك كغيره، والله أعلم.

[الاختلاف في تحديد القبلة]
قال: وإذا اختلف اجتهاد رجلين لم يتبع أحدهما صاحبه.
ش: لأن كلا منهما يعتقد خطأ الآخر، أشبها العالمين المجتهدين في الحادثة إذا اختلفا، ولذلك لا يجوز لمن يجتهد منهما اتباع من اجتهد، نعم: إن ضاق الوقت ففيه وجهان. والله أعلم.

[تقليد الأعمى والعامي في استقبال القبلة]
قال: ويتبع الأعمى [والعامي] أوثقهما في نفسه.
ش: هذا المذهب المشهور، لأن الأوثق أقرب وأظهر إصابة في نظره، ولا مشقة عليه في اتباعه، وقد كلف الإنسان في ذلك بغلبة ظنه، وخرج [بعض] الأصحاب [رواية] بتقليد أيهما شاء، بناء على تخيير العامي بين أحد المجتهدين، وفرق أبو البركات بأن لزوم تقليد الأعلم يفضي إلى كلفة ومشقة، بخلاف ما تقدم، ومتى أمكن [الأعمى] الاجتهاد - كأن يعرف مهب الرياح، أو بالشمس ونحو ذلك - فإنه يجتهد ولا يقلد. وحكم البصير [وهو] جاهل بأدلة القبلة -

(1/534)


وإن شرحت له - حكم أعمى البصر. أما إن أمكن الجاهل التعلم والوقت متسع، فإنه يلزمه ذلك، ولا يجوز له التقليد ما لم يضق الوقت، والله أعلم.

[الحكم لو صلى إلى جهة ثم تبين خطؤها]
قال: وإذا صلى بالاجتهاد إلى جهة، ثم [علم] أنه قد أخطأ القبلة، لم يكن عليه إعادة.
ش: لأنه تعذر عليه الوصول إلى جهة الكعبة، أشبه حال المسايفة.
448 - وأهل قباء، [فإنهم] لما بلغهم النسخ في صلاة الصبح استداروا إلى الكعبة، وبنوا على فعلهم، لانتفاء علمهم بالنسخ.
449 - وقد روى «عامر بن ربيعة عن أبيه قال: كنا مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في سفر في ليلة مظلمة، فلم ندر أين القبلة، فصلى كل رجل حياله، فلما أصبحنا ذكرنا ذلك لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فنزلت: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115] » رواه ابن ماجه، والترمذي وحسنه، والله أعلم.

(1/535)


قال: وإذا صلى البصير في حضر فأخطأ، أو الأعمى بلا دليل أعادا.
ش: أما إذا صلى البصير ولو بدليل فأخطأ، فإن كان بمكة، أو بمدينة الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أعاد، لتركه النص المقطوع به، وكذلك إن كان بغيرهما، على المشهور من الروايتين لتفريطه، إذ يمكنه علم ذلك؛ إما بخبر مخبر [عن يقين] ، أو بمحاريب المسلمين، فهو كتارك النص للاجتهاد.
(والرواية الثانية) : لا يجوز له العمل بمحاريب المسلمين ونحو ذلك، بل يلزمه الاجتهاد، حكاها ابن الزاغوني في الوجيز.
وأما الأعمى إذا صلى بلا دليل فإن كان مع القدرة على [الدليل] فواضح، وإن أصاب، لأنه ترك فرضه وهو التقليد، وإن عجز عن الدليل فقيل: يعيد لندرة تعذر الدليل، وقيل: لا؛ لأنه لم يترك فرضا مقدورا عليه، [أشبه الغازي، وقيل: إن أخطأ أعاد لما تقدم، وإن أصاب فلا. إذ المقصود الإصابة وقد حصلت، والله أعلم] .

(1/536)


قال: ولا يتبع دلالة مشرك بحال.
ش: أي وإن كان عالما في دينه، لأنه غير مأمون في ديننا.
450 - ولهذا قال عمر [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -] : لا تأمنوهم بعد أن خونهم الله. وكذلك الفاسق المسلم، ويقبل خبر الأنثى، ومستور الحال، وفي الصبي المميز وجهان [والله أعلم] .