شرح الزركشي على مختصر الخرقي

 [باب الإمامة]
قال: ويصلي بهم أقرؤهم، فإن استووا فأفقههم، فإن استووا فأسنهم [فإن استووا فأشرفهم، فإن استووا فأقدمهم هجرة] .
ش: المعروف المشهور عندنا أن القارئ إذا عرف ما يعتبر للصلاة مقدم على الفقيه.
699 - لما روى أبو مسعود البدري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله، فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة، فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة، فإن كانوا في الهجرة سواء فأقدمهم سنا، ولا يؤمن [الرجل] الرجل في سلطانه، ولا يقعد في بيته على تكرمته إلا بإذنه» .
700 - وعن أبي سعيد الخدري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا كانوا ثلاثة فليؤمهم أحدهم، وأحقهم بالإمامة أقرؤهم» رواهما مسلم وغيره.

(2/80)


701 - وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ليؤذن لكم خياركم، وليؤمكم أقرؤكم» رواه أبو داود.
702 - وعن عمرو بن سلمة، عن أبيه، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم، وليؤمكم أكثركم قرآنا» [مختصر] رواه البخاري [وغيره] ، وحكى ابن الزاغوني عن بعض الأصحاب أنه رأى تقديم الفقيه على القارئ. وعلى المذهب لو كان القارئ جاهلا بما يحتاج إليه [في الصلاة] بأن لا يميز بين مفروضها ومسنونها، ونحو ذلك، ففيه وجهان: (أحدهما) : - وهو ظاهر كلام أحمد، والخرقي، والأكثرين - يقدم على الفقيه [أيضا] نظرا لظواهر النصوص، ولأن القراءة ركن في الصلاة، بخلاف الفقه، فكان اعتبارها أولى. [والثاني] : - وهو اختيار ابن عقيل، وبه قطع أبو البركات في محرره، وحسنه في شرحه - أن الفقيه إذا أقام الفاتحة - والحال هذه - مقدم لامتيازه بما لا يستغنى عنه

(2/81)


في الصلاة إذ الجاهل قد يترك الفرض لظنه سنيته.
ثم لا نزاع أنه يقدم بعد الأقرأ الأفقه، لحديث أبي مسعود [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -] ، واختلف في من يقدم بعد الفقيه، فقال الخرقي، وتبعه أبو الخطاب: يقدم بعده الأسن، ثم الأشرف، ثم الأقدم [هجرة] ، لأن الأسن مظنة الخشوع، وهو مقصود في الصلاة قطعا، قال سبحانه: {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون: 2] فقدم به على الشرف والهجرة، إذ لا تعلق لهما بمعنى في الصلاة، وقدم الشرف على الهجرة إلحاقا للإمامة الصغرى بالعظمى، إذ للشرف تأثير في التقديم في العظمى بخلاف الهجرة، وقال ابن حامد: يقدم الأشرف، ثم الأقدم هجرة، ثم الأسن، لما تقدم من اعتبار الشرف في الإمامة العظمى، بخلاف الهجرة.
703 - يعضده ما روى الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في مسنده، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «قدموا قريشا ولا تقدموا عليها» وقدم الأقدم

(2/82)


هجرة على الأسن لحديث أبي مسعود المتقدم، وظاهر كلام أحمد في رواية ابنه عبد الله أنه يقدم الأقدم هجرة، ثم الأسن، ثم الأشرف، وهو اختيار الشيخين، لحديث أبي مسعود، فإنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قدم فيه بعد القراءة والفقه الأقدم هجرة، ثم الأسن، فعلم تأخير الأشرف وغيره عنهما، وقال أبو محمد في المقنع: يقدم الأسن، ثم الأشرف، ثم الأقدم هجرة، وهو وجه حكاه في التلخيص، ووجهه يعرف مما تقدم، فإن استووا في جميع ما تقدم قدم أتقاهم وأورعهم.
704 - لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اجعلوا أئمتكم خياركم، فإنهم وفدكم فيما بينكم وبين ربكم» رواه الدارقطني، ولأبي محمد احتمال

(2/83)


بتقديم هذا على الأشرف، لقوله سبحانه: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13] فإن استووا قدم أعمرهم للمسجد، وما رضي به الجيران أو أكثرهم، لأن رضاهم [به] مظنة امتيازه بمرجح، فإن استووا فالقرعة كالأذان، ولا يرجح بحسن الوجه، ولا بنظافة الثوب.
(تنبيهان) : «أحدهما» [هذا] التقديم تقديم أولوية لا إيجاب، فلو تقدم الأفقه على الأقرأ جاز، قاله أبو محمد، وقال: لا أعلم فيه خلافا، إذ الأمر فيه أمر إرشاد. (الثاني) : الأقرأ الأكثر قرآنا، كما في حديث عمرو بن سلمة، أو الأجود، وإن كان غير أحفظ منه، قال الشيخان، والأقدم هجرة أن يهاجر مسلمان من دار الحرب ويسبق أحدهما بالهجرة، أو يكونا من أولاد المهاجرين، فيقدم من سبق أبوه، وفي معنى ذلك الأقدم إسلاما، لسبقه إلى الطاعة، وفي حديث أبي مسعود في رواية

(2/84)


لمسلم «فأقدمهم سلما» يعني إسلاما، ومعنى الأشرف أن يكون قرشيا، قاله أبو البركات، وقال أبو محمد: أشرفهم أعلاهم نسبا، وأفضلهم في نفسه، وأعلاهم قدرا (والتكرمة) الفراش، كذلك فسره بعض الرواة في رواية أبي داود، والله أعلم.

[الصلاة خلف المبتدع]
قال: ومن صلى خلف من يعلن ببدعة أو يسكر أعاد.
ش: لا إشكال في فسق المعلن بالبدعة ومن يسكر، وإذا في صحة إمامتهما روايتان:
(إحداهما) : تصح إمامته، قال أحمد في رواية حرب: يصلي خلف كل بر وفاجر. وسئل: هل يصلي خلف من يغتاب الناس؟ فقال: لو كان كل من عصى الله لا يصلي خلفه، من يؤم الناس؟
705 - وذلك لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الأمراء الذين يؤخرون الصلاة عن وقتها «صلوا الصلاة لوقتها، واجعلوا صلاتكم معهم تطوعا» .

(2/85)


706 - وعن مكحول، عن أبي هريرة، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الصلاة واجبة عليكم خلف كل مسلم، برا كان أو فاجرا، وإن عمل الكبائر» .
707 - وعن عقبة بن عامر، قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «من أم الناس فأصاب الوقت فله ولهم، ومن انتقص من ذلك شيئا فعليه ولا عليهم» رواهما أبو داود.

(2/86)


708 - وعن عبيد الله بن عدي أنه دخل على عثمان وهو محصور، فقال: إنك إمام العامة، ونزل بك ما ترى، ويصلي لنا إمام فتنة، ونتحرج من الصلاة معه، فقال: الصلاة أحسن ما يعمل لناس، فإذا أحسن الناس فأحسن معهم، وإذا أساؤوا فاجتنب إساءتهم. رواه البخاري، ولأن العدالة لو كانت شرطا لاعتبر العلم بها كالإمامة العظمى، ولا يعتبر.
(والثانية) : - وهي المشهورة، واختيار ابن أبي موسى، والقاضي، والشيرازي، وجماعة - لا يصح.

(2/87)


709 - لما روى جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -[أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] قال: «لا يؤمن فاجر مؤمنا، إلا أن يقهره بسلطانه، أو يخاف سوطه وسيفه» رواه ابن ماجه.
710 - وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، قال: اجعلوا أئمتكم خياركم، فإنهم وفدكم فيما بينكم وبين ربكم عز وجل. رواه الدارقطني، ولأنها إحدى الإمامتين، فنافاها الفسق كالكبرى، ولأن الفاسق لا يؤمن أن يترك شرطا أو ركنا، وحديث الأمراء قال القاضي: تأوله أحمد على حضور الجمعة في رواية المروذي، ومكحول لم يلق أبا هريرة، فالحديث منقطع، وقد سئل [عنه] أحمد في رواية يعقوب بن بختان، فقال: ما سمعنا بهذا. ثم يحمل إن صح على الجمعة أو على

(2/88)


غيرها عند البقية لحديث جابر، جمعا بين الأدلة، وعلى هذا لا تصح إمامته وإن لم يعلم بحاله، نص عليه في رواية صالح والأثرم [حتى] إذا صلى خلف من لا يعرف، ثم تبين أنه صاحب بدعة يعيد، وقال ابن عقيل: لا يعيد من [لم] يعلم بحاله، كما قلنا في من نسي فصلى بهم محدثا، وأومأ أحمد في مواضع أنه إن كان متظاهرا بالفسق والبدعة أعاد المقتدي به لتفريطه، وإن كان جاهلا مستورا لا يعيد، وهذا اختيار الشيخين.
وكلام الخرقي يشمل الفرض والنفل، وكذا إطلاق جماعة من الأصحاب. وزعم أبو البركات في شرحه أن الخلاف إنما هو في الفرض، [فقال في حديث الأمراء: إنما يدل على إمامته في النفل، ونحن نقول بذلك، وإنما الروايتان في الفرض] (ويشمل) أيضا الجمعة وغيرهما، وهو صحيح فتعاد على المذهب ظهرا، إلا أنها لا تترك خلف الفاسق على الروايتين، بخلاف غيرها، لئلا يؤدي ذلك إلى فتنة.
711 - وفي ابن ماجه [عن جابر، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] «إن الله افترض عليكم الجمعة، فمن تركها في حياتي، أو بعد موتي، وله إمام عادل أو جائر، فلا جمع الله شمله، ولا بارك له في عمره» نعم: لو أقيمت في موضعين، والإمام في أحدهما

(2/89)


عدل، وفي الآخر فاسق لزم فعلها وراء العدل. (ويشمل) أيضا الفاسق إذا ائتم بفاسق أنه يعيد، وهو ظاهر إطلاق غيره، وقد أورد هذا على القاضي في التعليق، فأجاب: لا نعرف الرواية فيه، قال: ولا يمنع أن نقول لا يصح، بخلاف الأمي، لأن الأمي لا يمكنه رفع ما هو عليه من النقص، بخلاف الفاسق، لإمكانه زوال فسقه بالتوبة.
وخرج من كلام الخرقي إذا كان المباشر [له] عدلا، والمولي له فاسقا، فإن صلاته تصح على [الصحيح من] الروايتين.
(تنبيه) : الإعلان الإظهار، ضد الإسرار، هذا تفسير أبي محمد، [فعلى] هذا يختص البطلان - على قول الخرقي - بمن يظهر بدعته ويدعو إليها، ويناظر عليها، وقد نص أحمد في الرافضي الذي يتكلم ببدعته أن الصلاة خلفه تعاد، بخلاف من سكت، وإذا يكون قول الخرقي موافقا لاختيار الشيخين في أن البطلان مختص بظاهر الفسق دون خفيه.
وعلى هذا قول الخرقي: أو يسكر. يجوز أن يكون بالباء الموحدة، عطفا على: ببدعة. ويجوز أن يكون بالياء

(2/90)


المثناة، ويكون من باب قولهم: الخطيب يشرب ويطرب. أي: هذا دأبه وسجيته، وظاهر كلام أبي محمد أنه بالمثناة، وقال: إنما نص الخرقي عليه من بين الفساق لنص أحمد عليه. قلت: وقد نص أحمد على غيره من الفساق. كما نص عليه، ويحتمل أن الخرقي إنما قال ذلك ليخرج من شرب من النبيذ ما لا يسكره، معتقدا لحله، فإن الصلاة خلفه تصح. انتهى، وقال القاضي: المعلن بالبدعة من يعتقدها بدليل، وضده من يعتقدها تقليدا، وقال: إن المقلد لا يكفر ولا يفسق، وعلى هذا فالخرقي إنما خص المعلن بالبدعة، لأنه الذي يفسق أو يكفر، وإذا يتعين قراءة: أو يسكر بالياء المثناة.
واعلم أن المظهر للبدعة، المناظر عليها، (تارة) تكفره، كالقائل بخلق القرآن، أو بأن علم الله مخلوق، أو بأنه لا يرى في الآخرة، أو بأن الإيمان مجرد الاعتقاد من غير قول ولا عمل، أو يسب الصحابة تدينا، ونحو ذلك، نص أحمد على ذلك، حتى لو وقف رجل إلى جنبه خلف الصف، ولم يعلم حتى فرغ أعاد الصلاة، وهل تفعل الجمعة خلف هؤلاء؟ فيه روايتان، (وتارة) تفسقه، كمن يفضل عليا على غيره من

(2/91)


الصحابة، أو يقف عن تكفير من كفر ببدعة ونحو ذلك، والمقلد لهذا القسم لا يفسق، والأول فيه قولان، واستقصاء ذلك موضعه الكتب الأصولية، والله أعلم.

[إمامة العبد والأعمى]
قال: وإمامة العبد والأعمى جائزة.
ش: لدخولهما في عموم «يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله» ونحو ذلك.
712 - وفي البخاري أن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - كان يؤمها عبدها ذكوان من المصحف.
713 - وعن أنس، قال: «استخلف رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ابن أم مكتوم، يؤم الناس وهو أعمى» . رواه أحمد، وأبو داود، وكان ابن عباس يؤم وهو أعمى، (نعم) الحر أولى من العبد، لأنه أكمل منه، والبصير أولى من الأعمى، اختاره أبو الخطاب، وأبو البركات، لأنه أقرب لاجتناب النجاسة، وإصابة القبلة، وسوى القاضي بينهما، لأنه يقابل ذلك أمنه من النظر

(2/92)


إلى محرم، وما يلهيه، فيكون أتقى وأخشع، والله أعلم.

[إمامة الأمي]
قال: وإن أم أمي أميا وقارئا أعاد القارئ وحده.
ش: الأمي في عرف الفقهاء [هو] من لا يحسن فرض الفاتحة إن قيل بركنيتها، وإن [قيل] : الفرض آية. فالأمي [من] لا يحسن آية، والمعروف من مذهبنا أن إمامته تصح بمثله، لأنه أهل لتحمل ما يلزم مأمومه لو انفرد، فصار كالقارئ مع القارئ، وعن بعض الأصحاب: لا تصح إمامته بمثله، لعدم أهليته لتحمل القراءة، ولا تصح بقارئ بلا نزاع، لعموم «ليؤمكم أقرؤكم» رواه أبو داود.
714 - وروى النجاد بإسناده، عن الزهري، قال: مضت السنة أن لا يؤم الناس من ليس معه من القرآن شيء.
وقد دل كلام الخرقي من طريق الإشارة على ما قلناه من أن الأمي يؤم بمثله، ولا يؤم قارئا، ومن طريق الدلالة على أن الأمي إذا أم قارئا وأميا أن الفساد يختص القارئ، وعند أبي حنيفة [- رَحِمَهُ اللَّهُ -] يعمهما، وهذا الذي ألجأ الخرقي

(2/93)


إلى ذكر هذه الصورة، وبهذا يعرف أنه ليس مراده أن الأمي تصح صلاته مطلقا، إذ ذلك مشروط بأن يكون عن يمين الإمام، أو يكون معه أمي آخر، أما لو كان هو والقارئ فقط خلف الإمام فإن صلاتهما تفسد، لأن الأمي - وإن انعقد إحرامه فذا - لكن فسدت صلاته بدوام فذوذيته، وهل تبطل صلاة الإمام والحال هذه؟ فيه احتمالان، أشهرهما البطلان، وفي المذهب وجه آخر حكاه ابن الزاغوني أن الفاسد يختص بالقارئ، ولا تبطل صلاة الأمي، قال ابن الزاغوني: واختلف القائلون به في تعليله، فقال بعضهم: إن القارئ تكون صلاته نافلة، فما خرج من الصلاة فلم يصر الأمي بذلك فذا. وقال بعضهم: صلاة القارئ باطلة على الإطلاق، لكن اعتبار معرفة هذا على الناس أمر يشق، ولا يمكن الوقوف عليه، فعفي عنه للمشقة، اهـ. ويحتمل أن الخرقي اختار هذا الوجه، فيكون كلامه على إطلاقه، والله أعلم.

[إمامة المشرك والمرأة والخنثى المشكل]
قال: وإن صلى خلف مشرك، أو امرأة، أو خنثى مشكل أعاد الصلاة.
ش: أما المشرك فلا يجوز أن يؤتم به، ومن ائتم به أعاد الصلاة، وإن لم يعلم حاله [غالبا] لأن صلاته لا تصح لنفسه، فلا تصح لغيره، ولعموم قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يؤمن فاجر مؤمنا» والكفر لا يخفى غالبا، فالجاهل به مفرط، هذا

(2/94)


هو المعروف في النقل، وفي المذهب، وحكى ابن الزاغوني [رواية] بصحة صلاته، بناء على صحة إسلامه بها، وبنى على صحة صلاته صحة إمامته، على احتمال، وهو بعيد. (وأما المرأة) فلا يجوز أن تؤم رجلا، ولا خنثى مشكلا، لما روى جابر، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: «لا تؤمن امرأة رجلا» رواه ابن ماجه، والخنثى يحتمل أن يكون رجلا، ويصح أن يؤم المرأة، كما نص عليه الخرقي بعد.
وكلامه يشمل الفرض والنفل، ولا نزاع في الفرض، أما في النفل فظاهر كلام الخرقي أيضا المنع، وهو رواية حكاها ابن أبي موسى [وهو اختيار أبي الخطاب] وأبي محمد، عملا بإطلاق الحديث، ومنصوص أحمد - في رواية المروذي، وهو اختيار عامة الأصحاب - أنها يجوز أن تؤمهم في صلاة التراويح، وتكون وراءهم.
715 - لما «روي أن أم ورقة سألت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقالت: إني أصلي ويصلي بصلاتي أهل داري وموالي، وفيهم رجال ونساء، يصلون بقراءتي، ليس معهم قرآن. فقال: «قدمي الرجال أمامك وقومي مع النساء، ويصلون بصلاتك» رواه المروذي بإسناده، ورواه أبو داود، ولفظه: وكانت قرأت القرآن، واستأذنت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن تتخذ في دارها مؤذنا [فأذن لها]

(2/95)


وأمرها أن تؤم أهل دارها. مختصر. (وشرط هذه المسألة) أن تكون قارئة وهم أميون، أو يحسنون الفاتحة أو شيئا يسيرا معها. وقال القاضي في الخلاف: إنما تجوز إمامتها في القراءة خاصة، دون بقية الصلاة. معتمدا على ما رواه أبو طالب عنه، قال: تؤم المرأة الرجل، والمرأة تقرأ، فإذا قرأت ركع وركعت، يكون هذا في التطوع ولا يكون في الفرض. قال القاضي: فقدم ركوعه على ركوعها، فعلم أنه الإمام فيه، وذلك لأن هذا مقصود الرخصة [انتهى] . وهل حكمي غير التراويح من النفل حكمها، قياسا عليها، وهو ظاهر رواية أبي طالب، أو يختص ذلك بالتراويح، وهو ظاهر رواية المروذي، واختيار القاضي في المجرد، للحاجة إلى استماع القرآن في الصلاة؟ فيه قولان.

(2/96)


وأما الخنثى المشكل فلا يصح أن يؤم رجلا، لاحتمال كونه امرأة، ولا خنثى مشكلا لاحتمال كون المؤتم رجلا والخنثى امرأة، والفرض لا يسقط بالشك، وحكى ابن الزاغوني احتمالا بصحة إمامته بمثله للتساوي. انتهى، ويجوز أن يؤمهما فيما يجوز للمرأة أن تؤم فيه الرجل على ما تقدم، ويجوز أن يؤم النساء، لأن للرجل أن يؤمهن، وكذلك للمرأة أن تؤمهن، وهو لا يخلو من إحداهما، ويقفن خلفه، حذارا من أن يكون رجلا واقفا إلى جنب امرأة، وقال القاضي: رأيت لأبي حفص البرمكي أن الخنثى لا تصح صلاته في جماعة، لأنه إن قام مع الرجال احتمل أن يكون امرأة، وإن قام مع النساء، [أو] وحده، أو ائتم بامرأة، احتمل أن يكون رجلا، وإن أم الرجال احتمل أن يكون امرأة [وإن أم النساء فقام وسطهن احتمل أنه رجل، وإن قام بين أيديهن احتمل أن يكون امرأة] قلت: وهذا ظاهر إطلاق الخرقي، ولعله يبني على أن المرأة إذا خالفت موقفها فوقفت بين يدي النسوة أن صلاتها تبطل، وهو احتمال، أو وجه

(2/97)


حكاه ابن عبدوس فيما أظن، والمشهور خلافه، والله أعلم.

[إمامة المرأة للنساء]
قال: وإن صلت امرأة بالنساء قامت معهن في الصف وسطا.
716 - ش: كذا فعلت أم سلمة، وعائشة [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -] .
717 - وعن أسماء بنت يزيد، قالت: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «ليس على النساء أذان ولا إقامة، وتصلي معهن في الصف، ولا تقدمهن» رواه النجاد.
وقد دل كلام الشيخ [- رَحِمَهُ اللَّهُ -] على أن للمرأة أن تصلي بالنساء جماعة، ولا نزاع في ذلك، لكن هل يستحب لهن ذلك؟ فيه روايتان.

(2/98)


718 - أشهرهما نعم، لأن عائشة وأم سلمة فعلتا ذلك، رواه الدارقطني، ولما تقدم من حديث أم ورقة، ولذلك حكاه إمامنا عن الثلاثة [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -] ، (والثانية) لا.
719 - لأن عليا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قال: المرأة لا تؤم، ولا تؤذن، ولا تنكح، ولا تشهد النكاح. رواه النجاد [والله أعلم] .

[الأحق بالإمامة]
قال: وصاحب البيت أحق بالإمامة، إلا أن يكون بعضهم ذا سلطان.
ش: صاحب البيت أحق بالإمامة من غيره، وإن فضله الغير بقراءة أو فقه أو غير ذلك، بشرط أو تصح إمامته بهم.
720 - لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يؤمن الرجل في بيته، ولا [في] سلطانه] » رواه أحمد ومسلم.

(2/99)


721 - «وعن مالك بن الحويرث «من زار قوما فلا يؤمهم، وليؤمهم رجل منهم» رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي وحسنه، فإن كان الغير ذا سلطان فإنه يقدم على صاحب البيت، في اختيار الخرقي، وأبي محمد، لعموم «ولا يؤمن الرجل في سلطانه» واختار ابن حامد أن صاحب البيت يقدم عليه، لعموم «من زار قوما فلا يؤمهم» ويقدم صاحب البيت تارة بملك العين، وتارة بملك المنفعة، فإن اجتمع المؤجر والمستأجر فالمستأجر أولى، لأنه المتصرف المنتفع، ولو اجتمع المعير والمستعير فالمعير أولى، [قلت] : ويتخرج العكس إن قلنا: العارية هبة منفعة.
(تنبيه) : وحكم إمام المسجد حكم إمام البيت فيما تقدم، [والله أعلم] .

[موقف المأموم من الإمام]
قال: ويأتم بالإمام من في أعلى المسجد وغير المسجد إذا اتصلت الصفوف.
ش: يجوز أن يأتم بالإمام من [في] أعلى المسجد، كمن على سطحه، ونحو ذلك، من غير كراهة.
722 - لأن أبا هريرة [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -] كان يصلي في ظهر المسجد

(2/100)


بصلاة الإمام. حكاه أحمد وابن المنذر. وعن أنس نحوه، رواه سعيد.
723 - ويروى أيضا عن ابن عباس [وابن عمر]- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، ولأن المتابعة حاصلة، أشبهت العلو اليسير، (وعن أحمد) اختصاص الجواز بالضرورة، قال في رواية صالح - في الرجل صلى فوق البيت بصلاة الإمام - إن كان في موضع ضيق يوم الجمعة كما فعل أنس، والأول المذهب.
ويجوز أن يأتم بالإمام من في غير المسجد، بشرط أن تتصل الصفوف، على ظاهر كلام الخرقي، وتبعه أبو محمد.
724 - لظاهر أمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالدنو من الإمام. خولف ذلك فيما

(2/101)


إذا كانا في المسجد، أو اتصلت الصفوف للإجماع، فيبقى فيما سواهما على العموم، وظاهر [كلام] غير الخرقي من الأصحاب أنه لا يشترط اتصال الصفوف إلا أن يكون بينهما طريق، لأن المتابعة حاصلة، أشبه ما لو كانا في المسجد، أما إن كان بينهما طريق فيشترط لصحة الاقتداء اتصال الصفوف على المذهب.
725 - لما يروى عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، أنه قال: من صلى وبينه وبين الإمام نهر، أو جدار، أو طريق فلا يصلي مع الإمام.
726 - وعن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه رأى قوما في الرحبة، فقال: من هؤلاء؟ فقالوا: ضعفة الناس. فقال: لا صلاة إلا في المسجد.
727 -[وعن أبي هريرة: لا جمعة لمن صلى في رحبة المسجد» .
728 - وعن أبي بكرة أنه رأى قوما يصلون في رحبة المسجد، فقال: لا جمعة لهم. رواهن أبو بكر من أصحابنا. وحكاه ابن المنذر عن أبي هريرة، وهذه الآثار وإن كانت عامة، لكن خرج منه صورة الاتصال بالإجماع، ولقوة الحاجة إليه.

(2/102)


729 - وما يروى عن أنس [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -] أنه كان يصلي في غرفة له يوم الجمعة، بصلاة الإمام، فحمله أحمد - في رواية أبي طالب - على أن الصفوف اتصلت.
وعن أحمد: يصح الاقتداء، وإن [كان] ثم طريق لم تتصل فيه الصفوف، محتجا بأن أنسا فعل ذلك، وهو اختيار أبي محمد، لإمكان المتابعة، (وعنه) : يصح مع الضرورة، محتجا أيضا بفعل أنس، وهو اختيار أبي حفص، (وعنه) : يصح في النفل تسهيلا فيه، دون الفرض.
ومعنى اتصال الصفوف تقاربها المسنون، أو ما زاد عليه يسيرا، فإن فحش، بأن [كان] بينهما ما يصلي فيه صف آخر فلا اتصال، كذا قال أبو البركات، وقيده صاحب التلخيص بثلاثة أذرع [ونحوها] . انتهى، وهذا فيما إذا تواصلت الصفوف للحاجة، لأن البلوى تعم بذلك في الجمع والأعياد ونحوهما، أما لغير حاجة - بأن وقف قوم في طريق وراء المسجد، وبين أيديهم من المسجد أو غيره ما يمكنهم فيه الاقتداء - فإن صلاتهم لا تصح، على المشهور [في الصلاة] في قارعة الطريق، وحكم من وراءهم حكم من اقتدى بالإمام وبينهما طريق خال، وإن قلنا بالصحة ثم، صحت صلاتهم هنا، إن امتلأ بهم الطريق، أو وقفوا فيما قرب منهم إلى المسجد، أما إن تركوا منه بينهم وبين المسجد ما يسع صفا

(2/103)


فأكثر، فهم كمن صلى وبينه وبين الإمام طريق، وكل موضع حكم فيه بصحة الصلاة في الطريق، وملأته الصفوف، فإن صلاة من وراءهم تصح، وإن بعدوا عنهم على المذهب، إن وجدت المشاهدة المعتبرة، وعلى قول الخرقي لا تصح إلا باتصالهم به الاتصال المعتاد، ولو وقف في بيت عن يمين الإمام، فاتصال الصفوف بتواصل المناكب، ولو كان في علو والإمام في سفل، فالاتصال موازاة رأس أحدهما [ركبة] الآخر، قال ذلك صاحب التلخيص. وحكم النهر الذي تجري فيه السفن حكم الطريق فيما تقدم، إن اقترنت سفينة الإمام والمأموم صح الاقتداء، وإلا فلا يصح، لأن الماء طريق، وكذلك حكم ما يمنع الاستطراق من نار، أو سبع، قاله الشيرازي، وقال صاحب التلخيص: لا يمنع الشباك على الأظهر.

(تنبيهات) : (أحدها) : قد علم مما شرحناه أن قول الخرقي: إذا اتصلت الصفوف. إنما يرجع لما إذا كان المقتدي في غير المسجد على ما فيه، أما إن كان المؤتم في المسجد والإمام فيه، فإنه لا يشترط اتصال الصفوف، بلا خلاف في المذهب، قاله الآمدي، وحكاه أبو البركات إجماعا، لأنه

(2/104)


في حكم البقعة الواحدة. (الثاني) : إطلاق الخرقي بصحة الاقتداء في المسجد و [في] غير المسجد بشرطه ظاهره: ولو وجد ما يمنع مشاهدة من وراء الإمام، وهو إحدى الروايات عن أحمد، لأن الاقتداء حاصل، أشبه ما لو شاهده، وعلى هذه الرواية لا بد من سماع التكبير لتحصل المتابعة بلا نزاع [واختارها القاضي] (والثانية) لا يصح مطلقا.
730 - لما روي عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، أنها قالت لنساء كن يصلين في حجرتها: لا تصلين بصلاة الإمام، فإنكن دونه في الحجاب. رواه ابن حامد، فعللت منع الاقتداء بالحجاب، (والرواية الثالثة) [اختارها القاضي] تصح في المسجد، لأنه في حكم البقعة الواحدة، لأنه مبني كله للجماعة، ولا تصح في غيره، لما تقدم، (والرواية الرابعة) يصح ذلك في التطوع، دون الفريضة، حكاها ابن حامد.
731 - وقال علي بن سعيد: سألت أحمد عن حديث عائشة: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصلي في الحجرة، والناس يأتمون به من وراء الحجرة» . قال: كأنه على صلاة الليل أو تطوع، وهذا الحديث رواه أبو داود عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، قالت: «صلى

(2/105)


رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حجرته، والناس يأتمون به من وراء الحجرة» ، ورواه البخاري مطولا، ذكر ذلك في صلاة الليل، وبه استدل أيضا للرواية الأولى، إذ الأصل مساواة الفرض والنفل. وقد نص أحمد على أن المنبر إذا قطع الصف يوم الجمعة لا يضر، فمن الأصحاب من قال: هذا على رواية عدم اعتبار المشاهدة، ومنهم من خص الجمعة ونحوها، فقال: يجوز [فيها] ذلك على الروايتين، نظرا للحاجة، ومنهم من ألحق بذلك كل بناء لمصلحة المسجد، والمشاهدة المعتبرة أن يشاهد الإمام أو من وراءه، فإن حصلت المشاهدة في بعض أحوال الصلاة فقال أبو محمد: الظاهر الصحة.
(الثالث) : الطريق ما العادة استطراقه، فلو كان الإمام والمأموم في صحراء، ليس فيها قارعة [طريق] ، وبعدوا عنه، أو تباعدت صفوفهم جاز ذلك مع سماع التكبير، ووجود المشاهدة إن اعتبرت، [والله أعلم] .
قال: ولا يكون الإمام أعلى من المأموم.
732 - ش: لما روى الدارقطني، عن أبي مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قال:

(2/106)


«نهى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يقوم الإمام فوق شيء، والناس خلفه» ، يعني أسفل منه.
733 - وروي «أن عمار بن ياسر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أم الناس بالمدائن وهو على دكان، والناس أسفل منه، فتقدم حذيفة إليه فأخذه بيده، فاتبعه عمار، حتى أنزله حذيفة، فلما فرغ عمار من صلاته قال له حذيفة: ألم تسمع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «إذا أم الرجل القوم فلا يقوم في مكان أرفع من مقامهم» أو نحو ذلك؟ قال عمار: لذلك اتبعتك حين أخذت على يدي» .
734 - وعن حذيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، أنه أم الناس بالمدائن [على دكان] ، فأخذ أبو مسعود بقميصه فجذبه، فلما فرغ من صلاته قال: ألم تعلم أنهم كانوا ينهون عن ذلك؟ قال: بلى، قد ذكرت حين مددتني، رواهما أبو داود.
وظاهر كلام الخرقي أنه لا يكون أعلى وإن أراد تعليمهم،

(2/107)


وصرح به أبو الخطاب والشيخان، وقال ابن الزاغوني: إن أراد تعليمهم لم يكره.
735 - لما روى سهل بن سعد الساعدي، «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جلس على المنبر في أول يوم وضع، فكبر وهو عليه [ثم ركع] ثم نزل القهقري فسجد، وسجد الناس معه، ثم عاد حتى فرغ، فلما انصرف قال: «يا أيها الناس، إنما فعلت هذا لتأتموا بي، ولتعلموا صلاتي» متفق عليه، وحكى أبو محمد، عن أحمد رواية بعدم الكراهة مطلقا، أخذا لها من قول علي بن المديني: سألني أحمد عن حديث سهل بن سعد، وقال: إنما أردت أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان أعلى من الناس، فلا بأس أن يكون الإمام أعلى من الناس بهذا الحديث. انتهى، وأجاب الأولون عن حديث سهل بأن الظاهر أنه كان في الدرجة السفلى، لئلا يكثر عمله في صعوده ونزوله، وذلك علو يسير، يعفى عنه وعما يكون نحوه بلا نزاع.
وظاهر كلام الخرقي أن المنع من ذلك على سبيل التحريم، وهو ظاهر النهي، ومقتضى قول ابن حامد، وابن أبي موسى فإنهما أبطلا الصلاة بذلك، وصرح أبو الخطاب

(2/108)


وغيره بالكراهة، وهو مقتضى قول شيخه، فإنه قال بعدم البطلان، وصححه أبو البركات، مستمسكا بأن عمارا صلى وأقره على ذلك حذيفة، وكذلك حذيفة وأقره أبو مسعود، وبأن النهي عن ذلك لإفضائه إلى رفع البصر، بدليل عدم كراهة اليسير، ورفع البصر لا يبطل فما كره لأجله أولى.
(تنبيه) : يشترك الإمام والمأموم في النهي إن انفرد الإمام بالعلو، فإن كان معه أحد صحت صلاته وصلاة من معه، واختص من أسفل منه بالنهي، على ما جزم به أبو البركات، وحكى أبو محمد احتمالا بأن النهي يتناول الإمام أيضا، فتبطل صلاة الجميع إن قيل بالبطلان، والله أعلم.

[صلاة المنفرد خلف الصف]
قال: ومن صلى خلف الصف وحده، أو قام بجنب الإمام عن يساره أعاد الصلاة.
ش: أما [كون] من صلى خلف الإمام وحده يعيد الصلاة.

(2/109)


736 - فلما «روى وابصة بن معبد، أن رجلا صلى خلف الصف وحده، فأمره رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يعيد الصلاة» ، رواه أحمد، وأبو داود، وابن ماجه، والترمذي. وقال ابن المنذر: ثبت أحمد وإسحاق هذا الحديث.
737 - «وعن علي بن شيبان، أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رأى رجلا يصلي خلف الصف [وحده] فوقف حيث انصرف الرجل، فقال له: «استقبل صلاتك، فلا صلاة لفذ خلف الصف» رواه ابن ماجه وأحمد، وقال: هذا حديث حسن. (ولا فرق) بين

(2/110)


الفرض والنفل على ظاهر كلام الخرقي، وهو المشهور، لعموم النص، وقال القاضي في تعليقه: يحتمل أن تصح صلاة الفذ في النفل، لأن أحمد نص [على] أنه يجوز أن يقف مع الصبي في النفل دون الفرض، وليس من أهل الموقف، ورد بأن إمامته لما صحت في النفل فكذلك موقفه (ولا فرق) أيضا بين صلاة الجنازة وغيرها، واستثنى ابن عقيل صلاة الجنازة إذا كانوا خمسة، نظرا لتحصيل ثلاثة صفوف، ومراد الخرقي بهذه المسألة إذا صلى جميع الصلاة خلف الصف [أما لو أحرم خلف الصف] ثم دخل في الصف، فتأتي المسألة إن شاء الله تعالى.
وأما كون من صلى بجنب الإمام عن يساره يعيد الصلاة.
738 - فلما روى جابر بن عبد الله، قال: «قام النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي المغرب، فجئت فقمت عن يساره، فنهاني فجعلني عن يمينه، ثم جاء صاحب لي فصففنا خلفه» . رواه أحمد وغيره، والنهي دليل الفساد.

(2/111)


739 - وثبت «أن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - لما قام عن يسار النبي [- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي] أخذ برأسه فجعله عن يمينه» . وهو بيان لمجمل {أَقِيمُوا الصَّلَاةَ} [الأنعام: 72] ونحوه فيحمل على الوجوب، لا سيما وقد لزم منه مشيا وعملا لغير حاجة، ومثل هذا [لا] يرتكب لمخالفة فضيلة. (وعن بعض) الأصحاب صحة الصلاة، استدلالا بقصة ابن عباس، فإن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يبطل تحريمته، وأجيب بأنه لم يكن ركع، ومثل ذلك يعفى عنه، كما في إحرام الفذ، ولأبي محمد احتمال بأنه تجوز الصلاة عن يساره إذا كان وراءه صف، اعتمادا على « [أن] النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقف في مرضه عن يسار أبي بكر، وكان أبو بكر [وهو] الإمام» ، وأجيب بالمنع، بل كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هو الإمام.
ومراد الخرقي إذا لم يكن عن يمين الإمام أحد، أما إن كان عن يمينه أحد فتصح الصلاة على يساره بلا نزاع.
740 - لما «روى عن علقمة والأسود أنهما استأذنا على ابن مسعود، قال الأسود: وقد كنا أطلنا القعود على بابه، فخرجت الجارية

(2/112)


فاستأذنت لهما، ثم قام فصلى بيني وبينه، ثم قال: هكذا رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فعل» . رواه أبو داود وغيره، والله أعلم.

قال: وإذا صلى إمام الحي جالسا صلى من وراءه جلوسا، فإن ابتدأ بهم الصلاة قائما ثم اعتل فجلس أتموا خلفه قياما.
ش: أما إذا ابتدأ إمام الحي [الصلاة] جالسا - يعني لمرض به - فإن من وراءه يصلون جلوسا.
741 - لما روت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: «صلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في بيته وهو شاك، فصلى جالسا، وصلى وراءه قوم قياما، فأشار إليهم أن اجلسوا، فلما انصرف قال: «إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا ركع فاركعوا، وإذا رفع فارفعوا، وإذا صلى جالسا فصلوا جلوسا» متفق عليه.
742 - وروى نحو ذلك جابر، وأنس، وأبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وأحاديثهم في الصحيح. وصورة المسألة أن يكون الإمام إمام الحي كما ذكر الخرقي، وأن يكون المرض مرجو الزوال،

(2/113)


لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان [هو] إمام الحي، وكان مرضه مرجو الزوال، أما لو لم يكن كذلك فإنه لا تصح إمامته عندنا بالقادر على القيام على المذهب، كما لو كان [عاجزا] عن الركوع والسجود فإنه لا تصح إمامته بقادر عليه، (وعن أحمد) أن إمامته تصح، وإن لم يكن إمام حي، أو كان آيسا من زوال مرضه، لكن والحال هذه يصلون وراءه قياما.
وظاهر كلام الخرقي أن جلوس المأمومين - والحال ما تقدم - على سبيل الوجوب، فلو صلوا قياما لم تصح صلاتهم، وهو إحدى الروايتين عن أحمد، قال ابن الزاغوني: واختارها أكثر المشايخ، لأمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالجلوس، فإذا قام فقد خالف الأمر، بل وارتكب النهي.
743 - فإن في مسلم وغيره [عن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -] قال: «اشتكى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فصلينا وراءه وهو قاعد، وأبو بكر يسمع الناس تكبيره، فالتفت إلينا فرآنا قياما، فأشار إلينا فقعدنا، فصلينا بصلاته قعودا، فلما سلم قال: «إن كدتم آنفا تفعلون فعل فارس والروم، يقومون على ملوكهم وهو قعود، فلا تفعلوا، ائتموا بأئمتكم، إن صلى قائما فصلوا قياما، وإن صلى قاعدا فصلوا قعودا» .
(والرواية الثانية) : أن الجلوس على سبيل الرخصة، فلو أتوا

(2/114)


بالعزيمة، وصلوا قياما صحت صلاتهم، اختارها عمر بن بدر المغازلي، وهو الذي أورده أبو الخطاب مذهبا، وصححه أبو البركات، وجزم به القاضي في التعليق فيما أظن، لأن النبي [- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] لم يأمر من صلى خلفه وهو قائم بالاستئناف.
744 - ففي البخاري، عن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صرع من فرسه، فجحش شقه أو كتفه، فأتاه أصحابه يعودونه، فصلى بهم جالسا وهم قيام، فلما سلم قال: «إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإن صلى قائما فصلوا قياما، وإن صلى قاعدا فصلوا قعودا» ولأن سقوط القيام عن إمامهم رخصة [له] فليكن عنهم مثله، وحكى أبو محمد احتمالا بالصحة مع الجهل [دون العلم] .
وأما إذا ابتدأ [بهم] الصلاة قائما ثم اعتل فإنهم يصلون وراءه قياما.
745 - لما في الصحيحين عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، قالت: «لما ثقل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «مروا أبا بكر أن يصلي بالناس» فلما

(2/115)


دخل في الصلاة وجد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في نفسه خفة، فقام يهادى بين رجلين، فلما سمع أبو بكر حسه ذهب يتأخر، فأومأ إليه، فجاء فجلس عن يسار أبي بكر، فكان أبو بكر يصلي قائما، ورسول الله [- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] يصلي جالسا، يقتدي أبو بكر بصلاة رسول الله [- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] ، والناس بصلاة أبي بكر. فلما ابتدؤا الصلاة قياما وراء إمام قائم أتموا قياما» ، بخلاف ما تقدم، فإن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ابتدأ بهم الصلاة جالسا، فلذلك أمرهم بالجلوس، فالنصان وردا على حالين مختلفين، فيستعملان على ما وردا عليه.
ونظير ذلك لو افتتح مسافر الصلاة خلف مسافر، فإنه يقصر، ولو افتتحها خلف مقيم ثم استخلف المقيم مسافرا لم يدخل معه، فدخل في الصلاة بنية القصر، فإنه لا يجوز للمأموم القصر وإن جاز لإمامه، حيث افتتحها خلف مقيم، وهذا أولى من دعوى النسخ، لأنه خلاف الأصل، ويعضد ذلك ويعينه أن الصحابة فعلت ما قلناه من صلاتهم جلوسا خلف إمام جالس حيث ابتدأ بهم [الصلاة] كذلك.
746 - قال أحمد وإسحاق: فعل ذلك أربعة من الصحابة. والأربعة أبو هريرة، وجابر، وأسيد بن حضير، وقيس بن قهد،

(2/116)


وفعلهم ذلك يدل على ثبوت الحكم، لا سيما وفيهم [اثنان] من رواة الحديث.
(فائدة) قال أبو البركات: لا تختلف الرواية عن أحمد أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما خرج من مرض موته بعد دخول أبي بكر في الصلاة أنه صار إماما لأبي بكر، وأبو بكر بقي على إمامته لجماعة المسلمين، [والله أعلم.

قال: ومن أدرك الإمام راكعا فركع دون الصف، ثم مشى حتى دخل في الصف، وهو لا يعلم بقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأبي بكرة «زادك الله حرصا ولا تعد» قيل له: لا تعد. وقد أجزأته صلاته [فإن عاد بعد النهي لم تجزئه صلاته] .

(2/117)


ش: إذا أدرك الإمام راكعا، فخشي إن دخل مع الإمام في الصف أن تفوته الركعة، فركع دونه، أو لم يجد فرجة في الصف فأحرم دونه ونحو ذلك، ثم دخل في الصف قبل رفع الإمام من الركوع، أو وقف معه آخر، فإن صلاته تصح على المنصوص المشهور، المجزوم به.
747 - لما يروى «عن ابن عباس [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -] ، قال: أتيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من آخر الليل فصليت خلفه، فأخذ بيدي فجرني حتى جعلني حذاءه» . رواه أحمد. ولحديث أبي بكرة فإنه أحرم خلف رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فذاد، ولم يأمره بالإعادة.
748 -[وكان ابن مسعود إذا أعجل] يدب إلى الصف راكعا، وزيد ابن ثابت مثله، أخرجه مالك في الموطأ، وعن ابن الزبير أنه قال: ذلك من السنة. ولإدراكه في الصف ما تدرك به

(2/118)


الركعة، وحصوله فذا في القيام لا أثر له، بدليل إحرام الإمام وحده، أو المأموم الواحد خلفه، ومن عادة الجماعة التلاحق.
وظاهر كلام الخرقي أنه متى أخذ في الركوع فذا وهو عالم بالنهي أن صلاته لا تصح، لظاهر حديث أبي بكرة الآتي إن شاء الله تعالى، وحكى ذلك أبو البركات في محرره رواية، وهو ظاهر نقل أبي حفص ولم يذكر أبو البركات في شرحه بذلك نصا، وإنما حكى الظاهر من كلام الخرقي، وأما أبو محمد فصرف كلام الخرقي عن ظاهره، وحمله على ما بعد الركوع، ليوافق المنصوص، وجمهور الأصحاب.
وإن لم يدخل مع الإمام في الصف حتى رفع من الركوع ففيه ثلاث روايات (إحداها) يصح مطلقا، لأنه [زمن] يسير، فعفي عن الفذوذية فيه [كما قبل الركوع] .
749 - وروى سعيد في سننه، عن زيد بن ثابت، أنه كان يركع قبل أن يدخل في الصف [ثم] يمشي راكعا ويعتد بها، وصل إلى الصف أو لم يصل. (والثانية) : إن علم بالنهي عن ذلك لم يصح.

(2/119)


750 - لما «روى أبو بكرة أنه دخل المسجد ورسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - راكع، قال: فركعت دون الصف ومشيت إلى الصف، فلما قضى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: «أيكم الذي ركع دون الصف، ثم مشى إلى الصف؟» قلت: أنا. قال: «زادك الله حرصا ولا تعد» رواه أحمد، والبخاري، والنسائي، وأبو داود، وهذا لفظه، وهذا نهي فيقتضي الفساد، لكن ترك في الجهل لمكان العذر، ولذلك لم يأمره النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالإعادة. (والرواية الثالثة) لا يصح مطلقا، نص عليه أحمد، مفرقا بينه وبين ما إذا أدرك الركوع في الصف، واختارها أبو البركات، لأنه [لم يدرك] في [الصف] ما يدرك به الركعة، أشبه ما لو أدركه في السجود، وحديث أبي بكرة واقعة عين، والظاهر منها أنه أدرك الركوع مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الصف، وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -[له]

(2/120)


«لا تعد] نهي تنزيه عن العجلة، كذا حمله أبو حفص، وأبو البركات.
751 - ويدل على ذلك ما روي عن ابن مسعود وزيد من فعل ذلك، وقول ابن الزبير: إنه من السنة.
752 - وروى البخاري في كتاب القراءة خلف الإمام «عن أبي بكرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى صلاة الصبح فسمع نفسا شديدا من خلفه أو بهرا. فلما قضى الصلاة قال لأبي بكرة: «أنت صاحب النفس؟» قال: نعم، خشيت أن تفوتني ركعة معك، فأسرعت المشي. فقال [له] : «زادك الله حرصا ولا تعد، صل ما أدركت، واقض ما سبقت» قلت: وعلى هذا فالرواية «ولا تعد» بسكون العين، وضم الدال، من العدو، وعلى الأولى الرواية «ولا تعد» بضم

(2/121)


العين وسكون الدال، من العود، ورأيت في بعض كتب الحنفية - أظنه النسفي - أن فيه رواية ثالثة «ولا تعد» بضم التاء وكسر العين وسكون الدال، من الإعادة، أي لا تعد الصلاة انتهى.
وإن لم يدخل مع الإمام في الصف حتى سجد لم تصح تلك الركعة بلا نزاع، لكن [هل] يختص البطلان بها حتى أنه لو دخل في الصف بعد الركوع أو انضاف إليه آخر فإنه يصح له ما بقي من صلاته، ويقضي [تلك] الركعة، أو لا تصح الصلاة رأسا؟ فيه روايتان منصوصتان، حكاهما أبو حفص، واختار هو أنه يعيد ما صلى خلف الصف فقط، لأنه صلى [بعض] الصلاة منفردا فلم تبطل جميعها، كالتكبيرة، والركوع من غير سجود، والمشهور بطلان جميع الصلاة، لأن القياس البطلان مطلقا، كالمتقدم في الصف

(2/122)


وإنما عفي عن التحريمة ونحوها لقصة أبي بكرة.
وقد تبين لك بهذا أن صور المسألة أربع (إحداها) إذا أحرم فذا ثم زالت فذوذيته قبل الركوع، فإن الصلاة تصح بلا نزاع. (الثانية) : زالت بعد الركوع، فكذلك على المعروف، خلافا لظاهر قول الخرقي.
(والثالثة) : زالت بعد الرفع، ففيها الخلاف المشهور. (والرابعة) : زالت بعد السجود، لم تصح تلك الركعة، وفي البقية الخلاف السابق.
هذا كله إذا [كان] قد فعل ذلك لغرض كما تقدم، أما إن فعله لغير غرض، كما إذا أدرك الإمام في أول الصلاة، ووجد فرجة ونحو ذلك، وركع فذا، فإن تحريمته لا تنعقد على المختار من الوجهين لأبي الخطاب والشيخين، لأنه بمثابة من أحرم قدام الإمام [ثم صافه] ، وإنما ترك هذا حال الفرض نظرا للنص.
(والثاني) : تنعقد، لأنه حصل فذا في زمن يسير، فأشبه ما لو فعله لغرض، وقيل: تنعقد صلاته وتصح إن زالت فذوذيته قبل الركوع [وإلا فلا] .
753 - لما يروى عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا أتى أحدكم الصلاة فلا يركع دون الصف حتى يأخذ مكانه من الصف» ذكره الطحاوي، وابن عبد البر، وذكره إمامنا عن أبي هريرة موقوفا، والله أعلم.

(2/123)


[حكم السترة في الصلاة]
قال: وسترة الإمام سترة لمن خلفه.
ش: قال الترمذي: قال العلماء: سترة الإمام سترة لمن خلفه، ومعنى ذلك أن المأمومين لا يستحب لهم اتخاذ سترة مع سترة الإمام، ومتى مر بينهم وبين الإمام ما يقطع الصلاة لم تبطل صلاتهم، ولو مر بين يدي الإمام بطلت صلاة الكل.
754 - وذلك لأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: [كان] يصلي إلى العنزة، والبعير وغيرهما مما جاء في الأخبار، ولم يأمر من يصلي خلفه باتخاذ سترة، ولما أرادت البهمة أن تمر بين يديه دارأها حتى مرت من خلفه، أمام أصحابه.

(2/124)


755 - وكذلك [مر] ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بين يدي بعض الصف بالأتان، فلم يعب عليه. وفي كلام الخرقي [- رَحِمَهُ اللَّهُ -] إشارة إلى مطلوبية السترة، ولا إشكال في ذلك.
756 - لما روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا صلى أحدكم، فليجعل تلقاء وجهه شيئا، فإن لم يجد فلينصب عصا، فإن لم يجد فليخط خطا، ثم لا يضره ما مر أمامه» رواه أبو داود، وأحمد وصححه هو وابن المديني.

(2/125)


757 - وعن سبرة الجهني قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا صلى أحدكم فليستتر لصلاته ولو بسهم» رواه أحمد.
758 - وفي الصحيحين عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يعرض راحلته، ويصلي إليها» . وقدر السترة مثل مؤخرة الرحل.
759 - قالت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «إن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سئل في غزوة تبوك عن سترة المصلي، فقال: «كمؤخرة الرحل» رواه مسلم. فإن لم يجد فعصا أو خطا كما في الحديث، وصفة الخط مثل الهلال نص عليه، والعصا ينصبها، فإن لم يمكنه ألقاها عرضا لا طولا، نص عليه، والله أعلم.

قال: ومن مر بين يدي المصلي فليردده.
760 - ش: لما روى ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا كان أحدكم يصلي فلا يدع أحدا يمر بين يديه، [فإن أبى فليقاتله، فإن معه القرين» رواه أحمد ومسلم.
761 - ولمسلم أيضا وغيره عن أبي سعيد، أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا كان أحدكم يصلي فلا يدع أحدا يمر بين يديه] ، وليدرأه ما استطاع، فإن أبى فليقاتله، فإنما هو شيطان» » ويرد

(2/126)


المار وإن لم يكن آدميا، و «من» يتناول ما لا يعقل بالتغليب.
762 - وذلك لما روى عبد الله بن عمرو بن العاص - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى إلى جدار، فجاءت بهيمة تمر بين يديه، فما زال يداريها حتى ألصق بطنه بالجدار، ومرت من ورائه» ، أو كما قال مسدد؛ [مختصر] رواه أبو داود.
وظاهر كلام الخرقي أنه يرد من مر بين يديه وإن لم يكن سترة، وهو كذلك، لما تقدم من حديث ابن عمر، وأبي سعيد، وقوله: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذا صلى أحدكم إلى شيء يستره فأراد أحد أن يمر من بين يديه فليدفعه» بعض أفراد ما تقدم فلا يقتضي التخصيص.
وقد أشعر كلام الخرقي بأنه ليس لأحد أن يمر بين يدي

(2/127)


المصلي، ولا إشكال في ذلك مع نصب سترة، فليس لأحد أن يمر دونها، ويعصي بذلك.
763 - لما روى أبو جهيم قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لو يعلم المار بين يدي المصلي ماذا عليه، لكان أن يقف أربعين خيرا له من أن يمر بين يديه» قال أبو النضر: لا أدري قال: أربعين يوما، أو شهرا، أو سنة. وفي مسند البزار «أربعين خريفا» .
764 -[قال الترمذي] : وقد روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لأن يقف أحدكم مائة عام خير له [من] من أن يمر بين يدي أخيه وهو يصلي» وهذا اللفظ لأحمد، وابن ماجه من حديث أبي هريرة [والذي قاله أبو البركات أنه يعصي إدا مر دون السترة وجه] [ومع عدم السترة] هو أهون، فيكره، كذا قال أبو البركات ولا يختص ذلك بمحل السجود، بل

(2/128)


وبما قرب منه، وفي قدر القريب وجهان (أحدهما) تحديده بما لو مشى إليه لدفع مار، أو فتح باب، ونحو ذلك لم تبطل صلاته، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر بدفع المار مطلقا، خرج منه بالإجماع بعيد، تبطل الصلاة بالمشي إليه، فيبقى ما عداه على الظاهر، وهو اختيار أبي محمد.
(والثاني) : أنه محدود بثلاثة أذرع، وهو الأقوى عند أبي البركات، نظرا إلى أن ذلك منتهى المسنون في وضع السترة والله أعلم.

[ما يقطع الصلاة]
قال: ولا يقطع الصلاة إلا الكلب الأسود البهيم [والله أعلم] .
ش: هذا [إحدى] الروايتين عن أحمد، وأشهرها على ما قال أبو محمد.
765 - لما «روى عبد الله بن الصامت قال: سمعت أبا ذر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يقول: [سمعت] رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «إذا صلى الرجل وليس بين يديه كآخرة الرحل، قطع صلاته الكلب الأسود، والحمار، والمرأة» فقلت لأبي ذر: ما بال الكلب الأسود، من الأحمر، من الأبيض؟ فقال: يابن أخي سألتني عما سألت عنه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: «الكلب الأسود شيطان» رواه الجماعة إلا البخاري.

(2/129)


766 - وعن أبي هريرة [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -] أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -[قال] : «يقطع الصلاة المرأة، والكلب، والحمار، ويقي من ذلك مثل مؤخرة الرحل» رواه مسلم.
767 - وعن عبد الله بن مغفل مثله، رواه أحمد، وابن ماجه، وهذا نص في القطع بالثلاث ترك [العمل به] في المرأة والحمار.
768 - لأن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - لما قيل لها ذلك قالت: بئس ما عدلتمونا بالكلاب والحمر، ولقد رأيتني معه مضطجعة على سرير، فيجيء رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيتوسط السرير فيصلي.
وفي لفظ: «كان يصلي صلاته من الليل وأنا معترضة بينه وبين القبلة اعتراض الجنازة» .
769 - «وعن ابن عباس [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -] قال: أقبلت راكبا على حمار أتان، ورسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي بالناس بمنى إلى غير جدار، فمررت بين يدي بعض الصف، [فنزلت] وأرسلت الأتان ترتع، فدخلت في الصف فلم ينكر ذلك علي أحد» . متفق عليهما. وهذان يعارضان ما روي [من] القطع

(2/130)


بالمرأة والحمار، فيجب التوقف فيهما. أما القطع بالكلب فلا معارض له، فيجب العمل به.
770 - وما روى الفضل بن عباس قال: «زار النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عباسا في بادية لنا، ولنا كليبة وحمارة، فصلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -[العصر] وهما بين يديه، فلم يؤخرا ولم يزجرا» . رواه أحمد، والنسائي. ليس فيه بيان الكليبة ما هي، فيحمل على أنها لم تكن سوداء، جمعا بين الأحاديث.
والرواية الثانية - وهي اختيار أبي البركات - يقطع الكلب، والمرأة، والحمار لما تقدم أولا، إذ كون المرأة والحمار يقطعان لا بد فيه من إضمار، والمرور فيه مضمر بيقين، فلا إيراد علينا، إذ الأصل عدم الإضمار، وإذا ثبت أن المرور فيه مضمر، فعائشة [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -] لم تمر بين يدي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنما كانت لابثة، فالحديث لم يتناولها.
771 - يؤيد هذا أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر بدفع المار، ولو كان حيوانا، وجوز جعل البعير، وظهر الرجل سترة، وأقر [عائشة

(2/131)


- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -] على اضطجاعها أمامه، فبان بهذا أن المرور مفارق للبث، وحديث ابن عباس فيه أنه مر بين يدي بعض الصف، ولم يذكر أنه مر بين يدي الإمام.
772 - وما روي عن أبي سعيد قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يقطع الصلاة شيء، وادرؤوا ما استطعتم، فإنما هو شيطان» رواه أبو داود، وفي إسناده مجالد بن سعيد وهو ضعيف، ثم لو ثبت فهو عام فيخص بما تقدم.
وقول الخرقي: الأسود البهيم. ليس في الحديث ذكر البهيم، لكن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - علل القطع بكونه شيطانا.

(2/132)


773 - وقد قال [النبي]- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لولا أن الكلاب أمة من الأمم لأمرت بقتلها، فاقتلوا منها [كل] أسود بهيم، فإنه شيطان» فبين - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن الشيطان منها هو الأسود البهيم، فعلم أنه المراد في نص القطع، والبهيم هو الذي لا يخالط سواده شيء من البياض، في إحدى الروايتين، حتى لو كان بين عينيه بياض فليس ببهيم، كذا قال ثعلب. (والرواية الأخرى) - وهي الصحيحة عند أبي البركات - أنه بهيم وإن كان بين عينيه بياض.
774 - لما «روى جابر [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -] قال: أمرنا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بقتل الكلاب، ثم نهى عن قتلها، وقال: «عليكم بالأسود البهيم، ذي الطفيتين، فإنه شيطان» مختصر رواه مسلم والطفية

(2/133)


خوص المقل، شبه الخطين الأبيضين منه بالخوصتين. ولو كان البياض في غير هذا الموضع فليس ببهيم رواية واحدة، اعتمادا على قول أهل اللغة، من غير تعارض.
وكلام الخرقي يشمل الفرض والنفل، وهو المشهور والمعمول به، وعنه [ما يدل على] أن النفل لا يبطل بذلك، اعتمادا على حديث عائشة [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -] [فإنه ورد فيه، وحملا لأحاديث القطع على الفرض، ومن قال بالأول أخذ بالعموم] وقال: حديث عائشة لا يعارض ذلك لما تقدم، وقول: [الخرقي] لا بد فيه أيضا من إضمار المرور كما تقدم في الحديث، وقد يحمل على إطلاقه، وقد اختلف عن أحمد فيما يقطع الصلاة مروره، هل يقطع إذا كان واقفا؟ (فعنه) : يقطع، لعموم الحديث، نظرا إلى أن المضمر له عموم، ولأن عائشة [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -] فهمت التسوية بينهما، وإلا لم تعارض ذلك باضطجاعها بين يديه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وعلى هذا فقضية عائشة كانت خاصة بالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أو واردة على الإباحة الأصلية، وحديث أبي ذر ونحوه ناقل. (وعنه) لا يقطع. تفرقة بين اللبث والمرور، كما فرق بينهما بالدفع كما

(2/134)


تقدم، وقد تبين لك أن لأحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في الجمع بين الأحاديث ثلاث طرق فتارة جمع بالفرق بين الفرض والنفل، وتارة بالفرق بين اللابث والجالس، [وتارة بدعوى التخصيص بالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والله سبحانه وتعالى أعلم] .