شرح
الزركشي على مختصر الخرقي [باب صلاة
المسافر]
ش: فعل الرباعية في السفر ركعتين في الجملة أمر مجمع عليه، لا نزاع فيه،
حتى إن من العلماء من يوجبه، ومستند الإجماع قول الله تعالى: {وَإِذَا
ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا
مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا}
[النساء: 101] الآية، وما تواتر من الأخبار أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقصر حاجا، ومعتمرا، وغازيا، وكذلك أصحابه من
بعده.
775 - وقد «قال عبد الله بن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: صحبت رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فكان لا يزيد في السفر على
ركعتين» ، وأبو بكر، وعمر، وعثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - كذلك، متفق
عليه. (فإن قيل) : فظاهر الآية الكريمة التقييد بالخوف من الكفار؟ (قيل) :
قد قال أبو العباس - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إن القصر قصران، قصر مطلق، وقصر
مقيد، فالمطلق ما اجتمع فيه قصر الأفعال، وقصر العدد، كصلاة الخوف، حيث كان
(2/135)
مسافرا، فإنه يجتمع فيه القصران، قصر
العدد، وقصر العمل، فإنه يرتكب فيها أمور لا تجوز في صلاة الأمن، والآية
وردت على هذا، وما عدا هذا فهو قصر مقيد، كالمسافر فقط، يقصر العدد،
والخائف فقط، يقصر العمل، وهذا توجيه حسن في الآية الكريمة.
776 - لكن يرد عليه ما روي «عن يعلى بن أمية قال: قلت لعمر بن الخطاب -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا
مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا}
[النساء: 101] فقد أمن الناس؟ فقال: عجبت مما عجبت منه، فسألت رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن ذلك، فقال: «صدقة تصدق الله بها
عليكم، فاقبلوا صدقته» رواه الجماعة إلا البخاري. فظاهر ما فهمه عمر ويعلى
تقييد قصر العدد بالخوف، والنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
أقرهما على ذلك، وبين لهما أن جواز القصر من غير شرط الخوف صدقة من الله
عليهم، والله أعلم.
(2/136)
[المسافة التي
يقصر فيها المسافر]
قال: وإذا كانت مسافة سفره ستة عشر فرسخا، ثمانية وأربعين ميلا بالهاشمي،
فله القصر إذا جاوز بيوت قريته، إذا كان سفره واجبا، أو مباحا.
ش: إنما يجوز القصر بشروط.
(أحدها) أن يقصد سفرا تبلغ مدته ستة عشر فرسخا، بلا خلاف نعلمه عن إمامنا،
وهو اختيار عامة أصحابنا.
777 - لما روى ابن خزيمة في مختصر المختصر عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا -، أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «يا أهل
مكة لا تقصروا في أدنى من أربعة برد، من مكة إلى عسفان» » .
778 - ونقله أحمد عن ابن عباس، وابن عمر قولا وفعلا، وعليه
(2/137)
اعتمد، وقال أبو محمد: الحجة مع من أباح
القصر لكل مسافر، إلا أن ينعقد الإجماع على خلافه، نظرا لظاهر الآية
الكريمة.
779 - ولقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: « «إن الله وضع
عن المسافر الصوم، وشطر الصلاة» رواه أحمد.
780 - «وسئل أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن قصر الصلاة، فقال: كان النبي
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا خرج ثلاثة أميال، أو ثلاثة
فراسخ - شعبة الشاك - صلى ركعتين» . رواه مسلم. وأقوال الصحابة قد اختلفت
في ذلك.
781 - فعن ابن مسعود ما يدل على أنه لا يقصر إلا إذا قصد مسيرة ثلاثة أيام.
(2/138)
782 - وعن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -
أنه خرج من قصره بالكوفة، حتى أتى النخيلة، فصلى بها الظهر والعصر ركعتين،
ثم رجع من يومه، وقال: أردت أن أعلمكم سنتكم. رواه سعيد.
783 - وقال ابن المنذر: ثبت أن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - كان
يقصر الصلاة إذا خرج إلى أرض اشتراها من بني لجينة، وهي ثلاثون ميلا.
784 - قال: وكان الأوزاعي يقول: كان أنس بن مالك يقصر الصلاة فيما بينه
وبين خمسة فراسخ.
785 - وقال الخطابي: روي عن ابن عمر أنه قال: إني لأسافر الساعة من النهار
فأقصر وإذا اختلفت الصحابة وجب الرجوع إلى ظاهر الكتاب والسنة اهـ والفرسخ
ثلاثة أميال، والميل اثنا عشر ألف قدم، وتعتبر المسافة في سفر البحر
بالفراسخ المعتبرة
(2/139)
في سفر البر، والمعتبر بنية المسافة
المقدرة، لا تحقيقها، فلو نواها ثم بدا له في أثنائها مضى ما صلاه، وفي
العود هو كالمستأنف للسفر.
وقول الخرقي: وإذا كانت مسافة سفره ستة عشر فرسخا. ظاهره أنه لا بد من تحقق
ذلك، فلو سافر لبلد وشك هل مسافته المسافة المعتبرة لم يقصر، [لعدم الجزم
بالنية، ولو خرج لطلب آبق ونحوه، على أنه متى وجده رجع لم يقصر] على مقتضى
قول الخرقي، ونص عليه أحمد، لعدم نيته مسافة القصر، وقال ابن عقيل: إذا بلغ
مسافة القصر قصر، وكذلك لو سمع به في بلد بعيد، ونوى أنه إن وجده دونه رجع،
لعدم الجزم بالنية، ولو قصد البلد البعيد، ثم نوى في أثناء السفر أنه متى
ما وجده رجع، قصر في قياس المذهب، قاله أبو البركات، لانعقاد سبب الرخصة،
وقد يتخرج الإتمام، بناء على ما إذا انتقل من سفر مباح إلى محرم. ودخل في
كلام الخرقي من لا تلزمه الصلاة ممن له قصد صحيح، كالكافر، والحائض، والصبي
المميز، إذا قصد المسافة المعتبرة، ثم وجبت عليه الصلاة في أثناء السفر،
فإنه يقصر وإن لم يبق من السفر المسافة المعتبرة. (الشرط
(2/140)
الثاني) أن يجاوز بيوت قريته، لقول الله
تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ} [النساء: 101] الآية، ومن لم
يفارق البيوت لم يضرب في الأرض، وحكم خيام قومه حكم بيوت قريته.
ومقتضى قول الخرقي أنه يقصر إذا فارق البيوت، وإن كان بين المقابر
والبساتين، وهو كذلك.
وقوله: بيوت قريته. يحتمل أن مراده المعدة للسكنى، فعلى هذا لو خرب بعض
البلد، وحيطانه قائمة، جاز له القصر فيه، وهو أحد الوجهين، كما لو صار
فضاء، ويحتمل أن مراده مطلقا، فلا يقصر، وهو اختيار القاضي، اعتبارا بما
كان. (الشرط الثالث) : أن يكون سفره واجبا، كالحج، والجهاد، ونحوهما، أو
مباحا، كالتجارة، وزيارة صديق، ونحو ذلك، لعموم {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي
الْأَرْضِ} [النساء: 101] ولما تقدم من قوله: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - «إن الله وضع عن المسافر الصوم، وشطر الصلاة» .
786 - «وعن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: صلاة المسافر ركعتان، تمام
من غير قصر، على لسان محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» . رواه
أحمد، والنسائي.
787 - وعن النخعي قال: «أتى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- رجل فقال: إني أريد البحرين في تجارة، فكيف تأمرني في الصلاة؟ فقال: «صل
ركعتين» رواه سعيد، (والظاهر) أن مراد الخرقي بالمباح
(2/141)
الجائز، فيدخل فيه سفر النزهة والفرجة،
لعموم ما تقدم، وعن أحمد رواية [أخرى] لا يقصر في هذا، لأنه مجرد لهو، لا
مصلحة فيه. (وخرج) من كلامه سفر المعصية، كالآبق، وقاطع الطريق، والتاجر في
الخمر، ونحو ذلك، فإنهم لا يقصرون، إذ الرخص شرعت تخفيفا وإعانة على
المقصد، فشرعها في سفر المعصية إعانة عليه وأنه لا يجوز، قال سبحانه
وتعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا
عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2] ولأنه إذا لم يبح له أكل
الميتة والحال هذه، مع كونه مضطرا، فلأن لا تخفف [عنه] بعض العبادة أولى،
ودليل الأصل قول الله تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ
فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 173] .
788 - قال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - (غير باغ) على المسلمين،
مخيفا لسبيلهم، (ولا عاد) بالسيف عليهم شاقا لهم.
وقول الخرقي: إذا كان سفره واجبا [أو مباحا] . يحتمل ابتداءه، فلو قصد سفرا
مباحا، ثم صار محرما قصر، وهو أحد الوجهين، كمن وجدت منه معصية في سفره،
ويحتمل أن مراده جميع سفره، فلا يقصر والحال ما تقدم، وهو مختار أبي
البركات، وقال القاضي في تعليقه: إنه ظاهر كلام أحمد. إذ المعصية تناسب قطع
التخفيف، ولهذا لو نقل
(2/142)
سفر المعصية إلى مباح، وبقي من المدة مسافة
القصر قصر، [والله أعلم] .
قال: ومن لم ينو القصر في وقت دخوله إلى الصلاة لم يقصر.
ش: هذا المجزوم به عند ابن أبي موسى، والمذهب عند القاضي، والشيخين
وغيرهما، لأن القصر كما سيأتي رخصة، فإذا لم ينوها لم يأخذ بها، فيتعين
الإتمام لأنه الأصل، وصار كالمنفرد، لا يحتاج أن ينوي الانفراد لأنه الأصل،
والإمامة والائتمام لما تضمنتا تغييرا عن الأصل افتقرتا إلى النية، وقال
أبو بكر: لا يحتاج القصر إلى نية، فيقصر وإن نوى الإتمام. قال أبو البركات:
ووجه ذلك على أصلنا أنها رخصة، خير فيها قبل الدخول في العبادة، فكذلك بعده
كالصوم (قلت) : وقد ينبني على ذلك هل الأصل في صلاة المسافر الأربع، وجوز
له أن يترك ركعتين منها تخفيفا عليه، فإذا لم ينو القصر لزمه الأصل، ووقعت
الأربع
(2/143)
فرضا، أو أن الأصل في حقه ركعتان، وجوز له
أن يزيد ركعتين تطوعا، فإذا لم ينو القصر فله فعل الأصل، وهو الركعتان؟ فيه
روايتان، المشهور منهما الأول، والثاني أظنه اختيار أبي بكر، وينبني على
ذلك إذا ائتم به مقيم، هل يصح بلا خلاف، أو هو كالمفترض خلف المتنفل،
[والله أعلم] .
[الصلاة التي تقصر]
قال: والصبح والمغرب لا يقصران.
ش: إذ قصر الصبح يجحف بها، وقصر المغرب «يزيل وتريتها، مع أن هذا إجماع
[والله أعلم] .
قال: وللمسافر أن يتم ويقصر، [كما له أن يصوم ويفطر] .
ش: لا خلاف عندنا فيما أعلمه أن للمسافر أن يتم ويقصر، لظاهر قول الله
تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ
أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ} [النساء: 101] ورفع الجناح [ظاهره] يقتضي
الإسقاط والتخفيف، دون الإيجاب.
(2/144)
789 - وقوله سبحانه: {فَلَا جُنَاحَ
عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [البقرة: 158] ورد على سبب، وهو تحرجهم
الطواف بهما.
790 - «وعن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: خرجت مع النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في عمرة رمضان، فأفطر وصمت، وقصر وأتممت،
فقلت: بأبي وأمي أفطرت وصمت، وقصرت وأتممت. قال: «أحسنت يا عائشة» .
» 791 - (وعنها) أيضا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «أن النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقصر في السفر ويتم ويفطر ويصوم» .
رواهما الدارقطني، وحسن إسناد الأول وصحح الثاني. (وأيضا) ما تقدم من قوله:
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - –
(2/145)
«إن الله وضع عن المسافر شطر الصلاة»
وقوله: «تلك صدقة تصدق الله بها عليكم» وهذا ظاهر في أن القصر رخصة لا
عزيمة.
792 - (وقد ثبت) أن عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أتم بمنى، بمحضر من
الصحابة وغيرهم، وفي رواية لأبي داود أنه أتم لأن الأعراب كثروا عامئذ،
فصلى بالناس أربعا، ليعلمهم أن الصلاة أربع، وثبت أن ابن مسعود وابن عمر
صليا خلفه أربعا، وفي أبي داود أنه قيل لابن مسعود: عبت على عثمان ثم صليت
أربعا؟ قال: الخلاف شر. وهذا يدل على جواز ذلك وإنكارهما على عثمان كان على
ترك الفضيلة، لأنهم كانوا ينكرون في
(2/146)
السنن، قال أبو البركات: ومن تأول إتمام
عثمان على أنه أجمع الإقامة في الحج فقد أخطأ، لأن عثمان مهاجري، لا يحل له
أن يقيم بمكة، والمعروف عنه أنه كان لا يطوف للإفاضة والوداع إلا وراحلته
قد رحلت. انتهى.
793 - وقد روى ابن عبد البر عن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: كنا
أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نسافر، فيتم بعضنا،
ويقصر بعضنا، ويصوم بعضنا، ويفطر بعضنا، ولا يعيب أحد على أحد. (وقول) عمر
- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: صلاة السفر ركعتان، تمام غير قصر. أي في الأجر
والثواب.
794 - (وقول) عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أول ما فرضت الصلاة
ركعتان، فأقرت صلاة السفر، وزيد في صلاة الحضر.
(2/147)
أي: أقرت في حكم الاجتزاء بها، لا في منع
الزيادة، بدليل ظاهر القرآن، وما تقدم عنها وعن غيرها من الإتمام.
وأما الأصل الذي قاس عليه الخرقي فلا نزاع فيه أيضا، لما تقدم.
795 - ولما في الصحيح «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال
لحمزة بن عمرو الأسلمي: «إن شئت فصم، وإن شئت فأفطر» » .
796 - وقول أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في الصحيح: «فلم يعب الصائم على
المفطر، ولا المفطر على الصائم» [والله أعلم] .
[القصر والفطر في السفر]
قال: والقصر والفطر أعجب إلى أبي عبد الله - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
ش: لما تقدم من قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صدقة
تصدق الله بها عليكم، فاقبلوا صدقته» وهذا أمر.
797 - وعن [ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، أن] النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إن الله يحب أن تؤخذ رخصه، كما يكره أن
تؤتى معصيته» رواه أحمد.
(2/148)
798 - وقد قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: «ليس من البر الصوم في السفر» .
799 - وقال: «ذهب المفطرون اليوم بالأجر كله» ولأن هذا هو الغالب على النبي
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه، ولهذا أنكره أكابر الصحابة
على عثمان لما أتم مع أنه إنما أتم والله أعلم لمعنى كما تقدم.
800 - قال ابن مسعود لما قيل له عن إتمام عثمان: صليت مع رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بمنى ركعتين، ومع أبي بكر ركعتين، ومع
عمر ركعتين، ثم تفرقت بكم الطرق، فيا ليت حظي من أربع [ركعات] ركعتان
متقبلتان. متفق عليه [والله أعلم] .
قال: وإذا دخل وقت الظهر على مسافر وهو يريد أن يرتحل صلى الظهر وارتحل،
فإذا دخل وقت العصر صلاها، وكذلك المغرب وعشاء الآخرة، وإن كان سائرا فأحب
أن يؤخر الأولى فيصليها في وقت الثانية فجائز.
(2/149)
ش: قوله: دخل وقت الظهر على مسافر. أي
مسافر له القصر، واعلم أن الصلوات التي تجمع هي الأربع التي مثل بها
الخرقي، الظهر، والعصر، والمغرب، والعشاء.
ثم الجمع على ضربين [جمع] تقديم، وهو أن يقدم الثانية إلى وقت الأولى، كأن
يقدم العصر إلى وقت الظهر، والعشاء إلى وقت المغرب، وكل منهما على ضربين،
تارة يكون نازلا، وتارة يكون سائرا، فالصور أربعة والمشهور المعمول به في
المذهب جواز جميعها، وظاهر قول الخرقي اختصاص الجواز بصورة منها، وهو جمع
التأخير إذا كان سائرا، وهو إحدى الروايتين عن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
801 - لما روى أنس بن مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «كان رسول الله
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس أخر
الظهر إلى وقت العصر، ثم نزل فجمع بينهما، فإن زاغت الشمس قبل أن يرتحل صلى
الظهر ثم ركب، وفي رواية: كان إذا عجل عليه السير يؤخر الظهر إلى وقت
العصر، فيجمع بينهما، ويؤخر المغرب حتى يجمع بينها وبين العشاء» .
802 - (وعن) ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: «كان رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يجمع بين صلاتي الظهر والعصر إذا كان
على ظهر سير، ويجمع بين المغرب والعشاء» .
(2/150)
803 - ( «وعن) ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا -: رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا
أعجله السير في السفر يؤخر المغرب حتى يجمع بينها وبين العشاء. قال سالم:
وكان عبد الله يفعله إذا أعجله السير» . متفق عليهن. وظاهرها اختصاص الجمع
بجمع التأخير، وبحالة السير.
804 - ووجه المذهب - أنه يجوز في التقديم، وفي حال النزول - ما روى معاذ -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
كان في غزوة تبوك إذا ارتحل قبل زيغ الشمس أخر الظهر حتى يجمعها إلى العصر،
يصليهما جميعا، وإذا ارتحل بعد زيغ الشمس صلى الظهر والعصر جميعا ثم سار،
وكان إذا ارتحل قبل المغرب أخر المغرب حتى يصليها مع العشاء، وإذا ارتحل
بعد المغرب عجل العشاء فصلاها مع المغرب» . رواه أبو داود، والترمذي وقال:
حسن غريب.
805 - وروى أبو الزبير المكي، «عن أبي الطفيل، أن معاذا أخبره أنهم خرجوا
مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في غزوة تبوك، فكان
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يجمع بين الظهر والعصر،
وبين المغرب والعشاء، فأخر الصلاة يوما، ثم خرج فصلى الظهر والعصر جميعا،
ثم دخل
(2/151)
ثم خرج فصلى المغرب والعشاء جميعا.» رواه
أحمد وأبو داود، وصححه ابن عبد البر. وقد اشتمل هذا الحديث على جواز [جمع]
التقديم، وعلى جوازه في المنزل.
806 - «وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: ألا أحدثكم عن صلاة
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في السفر؟ قالوا: بلى.
قال: كان إذا زاغت الشمس في منزله جمع بين الظهر والعصر [قبل أن يركب، وإذا
لم تزغ سار حتى إذا حانت العصر نزل فجمع بين الظهر والعصر] ، وإذا حانت له
المغرب في منزله جمع بينها وبين العشاء، وإذا لم تحن في منزله ركب حتى إذا
حانت العشاء نزل فجمع بينهما» . رواه أحمد فهذا يبين أن الرسول - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فعل الأمرين، وإن كان فعله للأول أكثر وأغلب،
ولهذا كان منصوص أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - والذي عليه أصحابه أن جمع
التأخير أفضل.
واعلم أن للجمع في وقت الأولى شروطا، (أحدها) تقديم
(2/152)
الأولى لتكون الثانية تابعة لها، لأنها لم
يدخل وقتها.
(الثاني) : نية الجمع على الصحيح، ليتميز التقديم المشروع على غيره، ثم هل
يكتفى بالنية عند الفراغ، أو لا بد من وجودها عند الإحرام؟ فيه وجهان،
أصحهما الثاني.
(الثالث) : أن يوالي بينهما اتباعا لمورد النص، فإن فرق تفريقا كثيرا بطل
الجمع، ومرده العرف، لأن الشرع لم يحده، وقد قرب تحديده بالإقامة والوضوء،
لأنهما من مصالح الصلاة، فإن صلى سنة الصلاة بينهما ففي بطلان جمعه
روايتان، أصحهما البطلان، ومحل الخلاف إذا لم يطل الصلاة، فإن أطالها بطل
الجمع رواية واحدة، وكذلك لو أطال الوضوء، كأن كان الماء على بعد منه.
(ويخرج) لجمع السفر شرط رابع وهو بقاء السفر إلى أن يفرغ من الثانية.
أما الجمع في وقت الثانية فيشترط له شرطان. (أحدهما) نية الجمع في وقت
الأولى، ما لم يضق الوقت عن فعلها، لأنه إذا لم ينوها عصى، لأنه لم يأت
بالعزيمة في وقتها ولم يلتزم الرخصة، لأن قبولها بالعزم، فيكون إذًا مؤخرا،
ووقت النية ما لم يضق الوقت عن فعل الأولى، لزوال فائدة الجمع، إذ فائدته
التخفيف بالمقاربة بينهما، وهو حاصل هنا، لأنه
(2/153)
إذا فعل الأولى دخل وقت الثانية في الحال.
(الشرط الثاني) الترتيب، وشرطه الذكر، كترتيب الفوائت، لأن الصلاتين قد
استقرتا في ذمته واجبتين، فيسقط ترتيبهما بالنسيان كالفائتتين، بخلاف الجمع
بينهما في وقت الأولى، فإن الترتيب لا يسقط بالنسيان، وهل يسقط الترتيب هنا
بضيق الوقت، بأن لا يبقى من وقت الثانية ما لا يتسع إلا لواحدة؟ أسقطه
القاضي في المجرد، ولم يسقطه في تعليقه، وهو مختار أبي البركات، وهل يشترط
للجمع في وقت الثانية الموالاة؟ على وجهين أصحهما: لا يشترط.
وقد أشعر كلام الخرقي بأن الجمع جائز، وليس بمندوب إليه، بخلاف القصر
والفطر على ما تقدم، وهو المنصوص والمختار للأصحاب، خروجا من الخلاف، ولأن
النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يداوم عليه.
807 - ولهذا خفي على بعض الأكابر كابن مسعود، وعنه: الجمع أولى. نظرا
للسهولة والتخفيف، والله أعلم.
[حكم من نسي صلاة في الحضر فذكرها في السفر]
قال: وإذا نسي صلاة حضر، فذكرها في السفر، أو
(2/154)
صلاة سفر، فذكرها في الحضر، صلى في
الحالتين صلاة حضر.
ش: أما إذا نسي صلاة حضر، فذكرها في سفر فصلاتها صلاة حضر بالإجماع، حكاه،
أحمد، وابن المنذر، واعتبارا بما استقر في ذمته، وأما إذا نسي صلاة سفر،
فذكرها في الحضر، صلاها صلاة حضر، قال أحمد: احتياطا. وذلك لأنه اجتمع ما
يقتضي القصر والإتمام، فغلب جانب الإتمام، كما لو أقام المسافر، ولأن القصر
رخصة فبزوال سببها يعود إلى الأصل كالمريض.
وقد يفهم من كلام الخرقي بأنه إذا نسي صلاة سفر، فذكرها في السفر أيضا أنه
يقصر، وهو كذلك، لشمول النصوص للمؤداة والفائتة، نعم لو ذكرها في سفر آخر
فوجهان، أصحهما يقصر أيضا، والله أعلم.
قال: وإذا دخل مع مقيم وهو مسافر أتم.
ش: لعموم قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنما جعل الإمام
ليؤتم به، فلا تختلفوا عليه» الحديث.
808 - وعن ابن عمر وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: إذا دخل
المسافر في صلاة المقيم صلى بصلاته. حكاه أحمد، وابن المنذر، ولا يعرف لهما
مخالف.
(2/155)
809 - وعن نافع، أن ابن عمر - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ - كان يصلي وراء الإمام أربعا، فإذا صلى بنفسه صلى ركعتين.
رواه مالك في الموطأ، وللصحيحين معناه.
وكلام الخرقي يشمل الإدراك القليل، حتى لو أدركه في التشهد أتم، وهذا إحدى
الروايتين وأصحهما لما تقدم (والثانية) : أنه إذا لم يدرك معه ركعة قصر،
جعلا له كالمنفرد، حيث لم يدرك ما يعتد به، كما في الجمعة، فعلى هذا لو
أدرك المسافر تشهد الجمعة قصر، وعلى المذهب يتم، نص عليه أحمد [والله أعلم]
.
[صلاة المسافر والمقيم خلف المسافر]
قال: وإذا صلى مسافر ومقيم خلف مسافر، أتم المقيم إذا سلم إمامه.
ش: هذا إجماع من أهل العلم.
810 - «وعن عمران بن حصين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: غزوت مع رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وشهدت معه الفتح، فأقام بمكة
ثماني عشرة ليلة،
(2/156)
لا يصلي إلا ركعتين، ويقول: «يا أهل البلد
صلوا ركعتين فإنا سفر» رواه أبو داود.
قال: وإذا نوى المسافر الإقامة في بلد أكثر من إحدى وعشرين صلاة أتم.
ش: هذه إحدى الروايات، واختيار الخرقي، وأبي بكر، وأبي محمد.
811 - لما احتج به أحمد من حديث جابر، وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ
- أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «قدم مكة صبيحة رابعة من
ذي الحجة، فأقام بها الرابع، والخامس، والسادس، والسابع، وصلى الصبح في
اليوم الثامن، ثم خرج إلى منى، وكان يقصر في هذه الأيام، وقد أجمع على
إقامتها» .
812 - ( «وعن) أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: خرجنا مع رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من المدينة إلى مكة، فصلى ركعتين ركعتين حتى
رجعنا إلى المدينة، قال: وأقمنا بها عشرا» . متفق عليه، قال أحمد: إنما وجه
حديث أنس عندي أنه حسب مقام النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
بمكة ومنى، وإلا فلا وجه له غير هذا، وإذا حسبت هذه المدة
(2/157)
كانت إحدى وعشرين صلاة، فمن أقام مثل هذه
الإقامة قصر، وإن زاد أتم، لأن القياس الإتمام في الحضر مطلقا، لأنه الأصل،
وقد زال بسبب الرخصة. (والرواية الثانية) إن نوى إقامة أكثر من عشرين صلاة
أتم، وإلا قصر، اختارها القاضي في تعليقه، لأن الذي تحقق أنه نواه - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هو إقامة أربعة أيام، لأنه كان حاجا، والحاج
لا يخرج من مكة قبل يوم التروية، فثبت أنه نوى إقامة الرابع، والخامس،
والسادس، والسابع، وأما أول الثامن فيحتمل أنه لم ينوه ابتداء، فلا يعتبر
مع الشك. (والرواية الثالثة) : إن نوى إقامة أربعة أيام أتم، وإلا قصر.
813 - لقوله: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «يقيم المهاجر بعد
قضاء نسكه ثلاثا» وقد كان حرم على المهاجر المقام بمكة، فلما رخص له في هذه
المدة علم أنها ليست في حكم الإقامة.
814 - وما «روى ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: أقام النبي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تسع عشرة يقصر الصلاة، فنحن إذا
سافرنا فأقمنا تسع عشرة قصرنا، وإن زدنا أتممنا» . رواه البخاري وغيره.
محمول
(2/158)
على أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - لم ينو المقام، قال أحمد: أقام النبي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثماني عشرة زمن الفتح، لأنه أراد حنينا، ولم يكن ثم
إجماع على المقام، [قال: وأقام بتبوك عشرين يوما يقصر، ولم يكن ثم إجماع
على المقام] .
وظاهر كلام الخرقي أنه لا فرق بين أن ينوي الإقامة ببلد مسلمين أو كفار،
وهو كذلك.
(تنبيه) : يحتسب عندنا بيوم الدخول والخروج، والله أعلم.
قال: وإن قال: اليوم أخرج، أو غدا أخرج. قصر وإن أقام شهرا [والله أعلم] .
ش: لما تقدم في حديث عمران «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- أقام في الفتح ثماني عشرة ليلة لا يصلي إلا ركعتين» .
815 - وعن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أقام النبي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بتبوك عشرين يوما يقصر الصلاة» . رواه أحمد، وأبو
داود.
816 - وعن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: يقصر الذي يقول: أخرج اليوم،
أخرج غدا. شهرا.
817 - وعن سعد بن أبي وقاص - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه أقام في بعض قرى
(2/159)
الشام أربعين يوما يقصر الصلاة. رواهما
سعيد. ولا فرق إذا لم ينو الإقامة، أو نواها مدة لا تمنع القصر بين أن يكون
البلد منتهى قصده أو لم يكن، على ظاهر كلام الخرقي، وهو المنصوص، واختيار
الأكثرين، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قصر في حجه مدة
إقامته بمكة، وكانت منتهى قصده، وكذلك خلفاؤه بعده - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمْ -، وقال بعض أصحابنا: إذا كان منتهى قصده لم يقصر حتى يخرج منه،
لانتهاء سفره. وهذا كله إذا كان البلد غير وطنه أما وطنه فيمنع القصر بمجرد
دخوله إليه، وكذلك إذا كانت له فيه زوجة، أو تزوج فيه، ونقل عنه ابن
المنذر: أو مر ببلد ماشية كانت له فيه، وعنه رواية أخرى يتم إلا أن يكون
مارا، والله سبحانه وتعالى أعلم.
(2/160)
|