شرح الزركشي على مختصر الخرقي

 [باب صلاة الجمعة]
ش: الجمعة مثلثة الميم حكاه ابن سيده، والأصل الضم، واشتقاقها قيل: من اجتماع الناس للصلاة. قاله ابن دريد، وقيل: بل لاجتماع الخليقة فيه وكمالها.
818 - ويروى عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنها سميت بذلك لاجتماع آدم فيه مع حواء في الأرض.
819 - وروى الدارقطني بإسناده عن سلمان الفارسي، أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إنما سميت الجمعة لأن آدم جمع فيها خلقه» .
820 - ولأحمد في مسنده معناه من رواية أبي هريرة. وقيل: إن

(2/161)


أول من سماه يوم الجمعة كعب بن لؤي، واسمه القديم يوم العروبة، قيل: سمي بذلك لأن العرب كانت تعظمه، قال الله تعالى: {عُرُبًا أَتْرَابًا} [الواقعة: 37] .
والأصل في فرضية الجمعة قول الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9] الآية.
821 - (وعن) أبي الجعد الضمري - وكانت له صحبة - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من ترك ثلاث جمع تهاونا بها طبع الله على قلبه» رواه الخمسة.
822 - وفي الموطأ عن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال مالك: لا أدري أعن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أم لا - نحوه.

(2/162)


823 - (وعن) الحكم بن ميناء أن عبد الله بن عمر، وأبا هريرة حدثاه أنهما سمعا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول على منبره: «لينتهين أقوام عن ودعهم الجمعات، أو ليختمن الله على قلوبهم، ثم ليكونن من الغافلين» .
824 - (وعن) صفوان بن سليم أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لقوم يتخلفون عن الجمعة «لقد هممت أن آمر رجلا يصلي بالناس، ثم أحرق على رجال يتخلفون عن الجمعة بيوتهم» رواهما مسلم، والنصوص في الباب كثيرة، سيأتي منها إن شاء الله تعالى جملة [والله أعلم] .

(2/163)


[وقت صلاة الجمعة]
قال: وإذا زالت الشمس يوم الجمعة صعد الإمام على المنبر.
ش: لما كان المقصود بالذات هو بيان صفة الصلاة بدأ به الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - تعالى فقال: وإذا زالت الشمس، والمراد بهذا على طريق الأولوية، أما الجواز فسيأتي له أنه في السادسة أو الخامسة، وإنما كان الأولى فعلها إذا زالت الشمس.
825 - لما «روى سلمة بن الأكوع - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قال: كنا نجمع مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا زالت الشمس، ثم نرجع نتتبع الفيء. متفق عليه، وفي رواية: نصلي مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثم ننصرف وليس للحيطان ظل يستظل به» .
826 - وعن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصلي الجمعة حين تميل الشمس» ، رواه البخاري، وأبو داود، والترمذي، ولأن فيه خروجا من الخلاف، فإن الإجماع على أن ما بعد الزوال وقت للجمعة.
وفي كلام الخرقي إشعار بأنها تفعل عقب الزوال صيفا وشتاء، وذلك لما تقدم.

(2/164)


827 - وقد «قال سهل بن سعد: كنا نصلي مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثم تكون القائلة، وفي رواية: ما كنا نقيل ولا نتغدى إلا بعد الجمعة» . متفق عليه، ولأن الجمعة يجتمع لها الناس، فلو انتظر لها الإبراد شق عليهم.
وقول الخرقي: صعد الإمام على المنبر. فيه استحباب المنبر، ولا نزاع في ذلك.
828 - وقد ثبت أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اتخذ منبرا، وخطب عليه ولذلك توارثته الأمة بعده، ولأن ذلك أبلغ في الإعلام، وهو حكمة مشروعية المنبر.
829 - قال أبي بن كعب: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخطب إلى جذع إذ كان المسجد عريشا، وكان يخطب إلى ذلك الجذع، فقال رجل من أصحابه: يا رسول الله هل لك أن نجعل لك شيئا تقوم عليه يوم الجمعة، حتى يراك الناس، وتسمعهم خطبتك؟ قال: «نعم» فصنع له ثلاث درجات، فلما صنع المنبر وضع في موضعه الذي وضعه فيه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلما

(2/165)


أراد أن يأتي المنبر مر عليه، فلما جاوزه خار الجذع حتى تصدع وانشق، فرجع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فمسحه بيده حتى سكن، ثم رجع إلى المنبر» . رواه أحمد.

قال: فإذا استقبل الناس سلم عليهم.
830 - ش: لما روي عن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا صعد المنبر سلم» . رواه ابن ماجه.
831 - وعن أبي بكر، وعمر، وابن مسعود، وابن الزبير كذلك، رواه عنهم الأثرم، وكذلك روى النجاد عن عثمان، ولا نزاع فيما نعلمه أن يسلم عليهم إذا خرج عليهم كغيره.
وقول الخرقي: إذا استقبل [الناس] فيه إشارة إلى استحباب استقبال الخطيب: الناس، وهو كالإجماع قاله ابن المنذر، وينحرف الناس إليه.

(2/166)


832 - «قال ابن مسعود: كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا استوى على المنبر استقبلناه بوجوهنا» . رواه الترمذي، ومنصوص أحمد أن الاستقبال وقت الخطبة، وقال أبو بكر في التنبيه: يستقبل إذا خرج. [والله أعلم] .

قال: وردوا عليه [السلام] .
ش: الرد عليه واجب كما في غيره، ويجزئ رد البعض.
833 - قال زيد بن أسلم: إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «يسلم الراكب على الماشي، وإذا سلم أحد من القوم أجزأ عنهم» رواه مالك في الموطأ.
قال: وجلس.
ش: لما سيأتي إن شاء الله تعالى من حديث السائب.
قال: وأخذ المؤذنون في الأذان.
834 - ش: لما روى السائب بن يزيد قال: «كان النداء يوم الجمعة أوله إذا جلس الإمام على المنبر، على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبي بكر، وعمر، فلما كان في خلافة عثمان وكثروا أمر عثمان

(2/167)


يوم الجمعة بالأذان الثالث، فأذن به على الزوراء، فثبت الأمر على ذلك» . رواه البخاري، وأبو داود، والنسائي.

[البيع وقت أذان الجمعة]
قال: وهذا الأذان الذي يمنع البيع، ويلزم السعي، إلا لمن منزله في بعد فعليه أن يسعى في الوقت الذي يكون فيه مدركا للجمعة.
ش: الأذان للجمعة في الجملة يمنع البيع، ويلزم السعي، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9] الآية.
والمؤثر في ذلك هو الأذان الذي بين يدي الإمام على المنبر، لأنه هو الذي كان على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فالآية وردت عليه، فيتعلق الحكم به. (وعن أحمد) رواية أخرى أن المنع من البيع ولزوم السعي يتعلق بالأذان الأول، الذي أحدثه عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، لعموم الآية.
835 - مع الأمر باتباع سنة خلفائه الراشدين من بعده، رضي الله

(2/168)


عنهم. (وعنه) رواية ثالثة أن المنع يتعلق بالزوال، لأنه أمر منضبط، لا يختلف، بخلاف الأذان، ولدخول وقت الوجوب، قال أبو البركات: وقياس هذا وجوب السعي إذا للتمكن، والأول المذهب.
ووجوب السعي بالأذان في حق من منزله قريب، يدرك بذلك، أما من منزله بعيد فعليه أن يسعى في الوقت الذي يكون به مدركا للجمعة، لأن ما لا يتم الواجب إلا به واجب، والجمعة واجبة، ولا تتم إلا بالسعي إليها قبل النداء، فيجب السعي إذ ذاك، وهذا في السعي الواجب، أما المسنون فمن طلوع الفجر عندنا.
836 - لقوله: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - « «من اغتسل يوم الجمعة ثم راح فكأنما قرب بدنة، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة، فكأنما قرب كبشا أقرن، ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة، ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة، فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر» متفق عليه، ولمالك في الموطأ «ثم راح

(2/169)


في الساعة الأولى» » وذكر الساعات بالألف واللام ينصرف إلى المعهودات.
837 - ولقوله: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - « «من غسل واغتسل يوم الجمعة، وبكر وابتكر، ومشى ولم يركب، ودنى من الإمام، واستمع ولم يلغ، كان له بكل خطوة عمل سنة، أجر صيامها وقيامها» رواه الخمسة. وما قيل: من أن الرواح لا يكون إلا بعد الزوال مؤول بأن المراد بالرواح القصد إليها، كما يقال للخارج للحج حاج، والله أعلم.
وقول الخرقي: وهذا الأذان الذي يمنع البيع [أي] في حق من تلزمه الجمعة، لأنه هو المأمور بالسعي، فلا يحرم على امرأة، وعبد، ونحوهما، نعم يكره ذلك [منهما] في الأسواق ونحوها، حذارا من الاستخفاف بحرمة الأذان، ولما فيه من تغرير من لا علم عنده بذلك، وحكى ابن أبي موسى

(2/170)


رواية في بيع من لا تلزمه الجمعة من المقيمين أنه لا يصح، والأول المذهب.
وقوله: يمنع البيع. أي يمنعه بالكلية، فلا يصح، نظرا لقاعدة النهي في اقتضائه الفساد، وقيل: يصح مع التحريم. وقد شمل كلام الخرقي جميع أنواع البيع، من الصرف، والسلم، والتولية، والإقالة إن قيل: إنها بيع، ونحو ذلك، وكذلك الإجارة، قاله ابن عقيل، وشمل بيع القليل والكثير، وهو كذلك، حتى شرب الماء ونحوه، [وقوله لشخص: أعتق عبدك عني. قاله ابن عقيل] .
واستثني من كلام الخرقي إذا اضطر إلى البيع في ذلك الوقت، لجوع، أو عطش شديد، يخاف منه الهلاك، أو التضرر في نفسه تضررا يباح [في] مثله استعمال الأبدال، فإنه يجوز له الشراء، ويجوز للمالك البيع. وكذلك يستثنى شراء كفن، وحنوط لميت يخشى عليه الفساد، وكذلك شراء أبيه ليعتق [عليه] وشراء ما يستعين به على حضور الجمعة، كشراء أعمى عبدا يأخذ بيده، ونحو ذلك، على احتمال فيهما ذكره ابن عقيل.
[ومقتضى كلامه أنه لو جاء وقت النداء ولم يناد - لعذر

(2/171)


للإمام، أو لفتنة، ونحو ذلك - لم يمنع البيع، وهو كذلك، وأن النداء لغيرها من الصلوات لا يمنع. وهو أحد احتمالي ابن عقيل، وظاهر كلام الأصحاب. والثاني: يمنع النداء لغيرها، كما يمنع لها، وينبغي أن يكون المراد بهذا النداء الإقامة] .
وخرج منه غير البيع، من النكاح ونحوه، وهو أصح [الوجهين أو] الروايتين، وقيل: الصحيح العكس. وكذلك خرج فسخ العقد، وإمضاؤه، وهو كذلك، إذ ليس ببيع [قال ابن عقيل، وقد يتخرج فيه ما يخرج في الرجعة في حق المحرم، وأن فيها روايتين، وأشار بأن الخيار [قد] يفضي إلى المنع من الجمعة، كما أن الرجعة قد تفضي إلى النكاح، ثم أشار أيضا إلى أنا إذا جعلنا الرجعة كالعقد، فأولى أن نجعل الارتجاع كالبيع، لأن الرجعية ملكه، بخلاف المبيع، ثم قال: والصحيح الأول] .
(تنبيه) : لو وجد أحد شقي العقد قبل النداء، والآخر بعده، أو كان أحد العاقدين لا جمعة عليه، لم يصح العقد، لأن بعض المنهي ككله، قاله صاحب التلخيص، وابن عقيل، وبالغ فقال: لو نودي بالصلاة بعد ما شرع في

(2/172)


القبول لم يتمه، وأورد أبو محمد المذهب أنه يحرم في حق من تلزمه الجمعة، [ويكره في حق غيره، ولو كان للبلد جامعان يصح إقامة الجمعة] فيهما، فسبق النداء في أحدهما، فهل يحرم البيع مطلقا، أو لا يحرم إلا إذا كان الجامع الذي نودي فيه من جنب داره، أما لو كان من الجانب الذي داره ليس فيه فلا يحرم؟ فيه احتمالان، ذكرهما ابن عقيل، والله سبحانه أعلم.

[الخطبة من شروط صحة الجمعة]
قال: فإذا فرغوا من الأذان خطبهم قائما.
ش: لا إشكال في مشروعية الخطبة، إذ ذاك مما استفاضت به السنة الصحيحة، ومذهبنا ومذهب الجمهور أن الخطبة شرط لصحة الجمعة، لأن الله أمر بالسعي إلى ذلك بقوله: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9] والمراد به - على ما قال المفسرون - الخطبة، وظاهر الأمر الوجوب، والسعي الواجب لا يكون إلا إلى واجب، ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - داوم على ذلك، مع قوله: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «صلوا كما رأيتموني أصلي» .
838 - ولأن الخطبتين بدل عن الركعتين، كذا روي عن عمر، وابنه، وعائشة، وغيرهم - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -.

(2/173)


وقول الخرقي: قائما. ظاهره الوجوب، وهو إحدى الروايتين عن أحمد.
839 - لما روى جابر بن سمرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخطب قائما، ثم يجلس، ثم يقوم فيخطب قائما، فمن قال: إنه كان يخطب جالسا. فقد كذب، فلقد والله صليت معه أكثر من ألفي صلاة» . رواه مسلم وغيره.
840 - ودخل كعب بن عجرة، وعبد الرحمن بن أم الحكم يخطب قاعدا، فقال: انظروا إلى هذا الخبيث يخطب قاعدا، قال الله تعالى: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا} [الجمعة: 11] رواه مسلم والنسائي، وبهذا استدل أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -. (والرواية الثانية) - وهي المشهورة عند الأصحاب - يجوز أن يخطب جالسا، والقيام سنة، لظاهر الآية الكريمة، فإن الذكر قد أطلق ولم يقيد، والمقصود حاصل بدونه، وفعله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يحمل على الفضيلة، والله أعلم.

(2/174)


قال: فحمد الله [عز وجل] وأثنى عليه، وصلى على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -[وقرأ شيئا من القرآن ووعظ] .
841 - ش: أما الحمد والثناء على الله تعالى، فلما روي عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «كل كلام لا يبدأ فيه بالحمد لله فهو أجذم» رواه أبو داود.
842 - وعن جابر بن عبد الله قال: «كانت خطبة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم الجمعة يحمد الله، ويثني عليه بما هو أهله» . وذكر الحديث رواه مسلم، (وأما الصلاة على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) فلأن الخطبة اشترط فيها ذكر الله تعالى، فيشترط فيها ذكر رسوله كالأذان.
843 - «وعن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وذكر إسراء النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وذكر فيه قول الله تعالى: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} [الشرح: 4] قال: «فلا أذكر إلا ذكرت معي، وجعلت أمتك لا تجوز لهم خطبة حتى يشهدوا أنك عبدي ورسولي» رواه الخلال في كتاب العلم، وكتاب السنة.

(2/175)


844 - (وأما قراءة شيء من القرآن) فلما روى جابر بن سمرة قال: «كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخطب قائما، ويجلس بين الخطبتين، ويقرأ آيات، ويذكر الناس» . رواه أحمد ومسلم.

قال: ثم جلس.
ش: [لا إشكال] في سنية هذا الجلوس بين الخطبتين، اقتداء بفعل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كما تقدم في حديث جابر بن سمرة.
845 - وعن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخطب خطبتين وهو قائم، يفصل بينهما بجلوس» ، ولا يجب على المذهب المشهور، لحصول المقصود بدونه.
846 - وعن المغيرة بن شعبة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه لم يجلس بين الخطبتين. ذكره أحمد، وابن المنذر.

(2/176)


847 - وروى النجاد عن أبي إسحاق قال: رأيت عليا يخطب على المنبر، فلم يجلس حتى فرغ، والظاهر أنه قد حضرهما جماعة من الصحابة، ولم ينقل إنكار، وذهب أبو بكر النجاد من أصحابنا إلى وجوبه، لمداومته على ذلك، والله أعلم.

قال: وقام فأتى أيضا بالحمد لله، والثناء عليه، والصلاة على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقرأ ووعظ.
ش: قوله: قام. يعني يخطب خطبة ثانية، ولا إشكال أن المذهب وجوب الثانية كالأولى، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يخطب خطبتين، وفعله وقع بيانا لمجمل الذكر المأمور به في الآية الكريمة، ولأن الخطبتين بدل الركعتين، فليكونا واجبتين كهما. (وقيل) : عن أحمد ما يدل على أن الواجب خطبة واحدة، ولا عمل عليه. (ثم) الثانية تشتمل على ما اشتملت عليه الأولى من الحمد، والصلاة، والقراءة، لما تقدم، وزاد الخرقي في الثانية الموعظة، لحديث جابر بن سمرة: ويذكر الناس. ولأنه المقصود من الخطبة، والمهتم به.

(2/177)


واعلم أن هذه الأربع من الحمد، والصلاة، والقراءة، والموعظة، أركان للخطبتين، لا تصح واحدة من الخطبتين إلا بهن، [إلا أن القراءة لا تجب إلا في خطبة واحدة، ومن الأصحاب من يشترط الإتيان بلفظ الحمد] ، وقد تقدمت الإشارة إلى دليل ذلك، ولأبي محمد احتمال بأنه لا يجب إلا الحمد والموعظة. وظاهر كلام الخرقي أن الموعظة لا تجيء إلا في الثانية، وفي المذهب قويل: أن القراءة لا تجب إلا في خطبة، ومن الأصحاب من يعين الأولى.
848 - لما روي عن الشعبي أنه قال: «كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا صعد المنبر يوم الجمعة استقبل الناس، وقال: «السلام عليكم» ويحمد الله ويثني عليه ويقرأ سورة ثم يجلس» ، ثم يقول: فيخطب، وكان أبو بكر وعمر يفعلانه. رواه الأثرم. وظاهره أن القراءة في الأولى، والموعظة في الثانية، والأول المذهب (ولا يشترط) الإتيان بلفظ الوصية، بل إذا قال: أطيعوا الله. ونحو ذلك أجزأه، ولهذا قال الخرقي: ووعظ. (ويتشرط) الإتيان بلفظ الصلاة على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عند العامة، وعند أبي البركات، يكتفي بنحو: وأن محمدا عبده ورسوله. فالواجب عنده ذكر الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا لفظ الصلاة، اعتمادا

(2/178)


على ظاهر حديث أبي هريرة في {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} [الشرح: 4] .
والواجب في القراءة قراءة آية على المشهور، وعنه يكتفى بقراءة بعض آية، وهو ظاهر كلام الخرقي، ونظر أبو البركات إلى المعنى، فاكتفى ببعض آية يحصل المقصود، نحو {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} [الحشر: 18] ولم يكتف بآية لا تحصله، نحو {وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا} [العاديات: 1] و {ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ} [المدثر: 22] ولا يعبر عن القراءة بغيرها كـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2] في الصلاة، نعم من لا يحسنها، ولم يوجد غيره، فهل يبدلها بفضل ذكر، كما في الصلاة، وكما يأتي ببقية الأركان بلغته، أو تسقط عنه القراءة رأسا، لحصول معناها من بقية الأركان؟ فيه احتمالان. ويبدأ بالحمد، ثم بذكر الرسول ثم بالموعظة، ثم بالقراءة، فإن نكس فوجهان (ويشترط) للخطبتين أيضا تقديمهما على الصلاة، اقتداء بفعل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وحضور العدد المعتبر للجمعة، لسماع أركانهما، لأنهما بدل الركعتين، فإن فات السماع لنوم، أو ضجة، أو غفلة لم يؤثر، وإن فات لبعدهم عنه، أو لخفض صوته أثر، وكان كما لو خطب وحده، وإن فات لصمم بهم وهم بقربه، ووراءه من لا

(2/179)


يسمعه للبعد، ولا صمم به فوجهان، ويشترط لهما أيضا الوقت، لأنهما كبعض الصلاة، ويشترط أيضا الموالاة في الخطبة، وبين الخطبتين، وبينهما وبين الصلاة، على الأصح، بأن لا يفرق بينهما تفريقا فاحشا.
وهل يشترط النطق للخطبة؟ فيه قولان، أصحهما نعم، فلو كانوا كلهم خرسا صلوا ظهرا، والثاني: لا. فيخطب أحدهم بالإشارة. (وهل) يشترط أن يتولاهما من يتولى الصلاة؟ فيه ثلاث روايات: أصحها عند أبي البركات عدم الاشتراط، وأشهرها عند صاحب التلخيص الاشتراط، والثالثة يجوز للعذر كالحدث والحصر والعزل دون غيره فحيث جاز فهل يشترط أن يكون المستخلف ممن شهد الخطبة؟ فيه روايتان أصحهما لا؛ هذا إن كان العدد تاما بدون المستخلف الذي لم يشهد الخطبة، أما إن لم يتم إلا به فإن التجميع لا يجوز لهم بحال.
وهل يشترط لهما الطهارة؟ أما الطهارة الصغرى فلا تشترط، على ما جزم به الأكثرون، القاضي، والشريف، وأبو الخطاب في خلافيهما، والشيرازي، وأبو البركات وغيرهم، وحكى أبو محمد رواية بالاشتراط، وأخذها من قول أبي الخطاب في الهداية: ومن سننهما الطهارة، وأن يتولاهما من يتولى الصلاة، وعنه أن ذلك من شرائطهما، فرجع بالإشارة إلى المسألتين وأما أبو البركات فرجع

(2/180)


بالإشارة إلى الثانية، وجعل الأولى محل وفاق، وهذا أولى، توفيقا بين كلام الأصحاب، إذ لم نر أحدا حكى الخلاف في ذلك إلا صاحب التلخيص، فإن كلامه ظاهر في حكاية قول بالاشتراط. (وأما الطهارة الكبرى) فمنصوص أحمد أيضا في رواية صالح صحة الخطبة مع فقدها، قال: إذا خطب بهم جنبا، ثم اغتسل وصلى بهم، أرجو أن تجزئه. وتبع إطلاق المنصوص الشريف، وأبو الخطاب في خلافيهما، وقيده القاضي في جامعه، وفي تعليقه، وصاحب التلخيص فيه: بأن يكون المنبر خارج المسجد، لأن لبثه فيه معصية تنافي العبادة، وقال صاحب التلخيص، وأبو محمد: لا تصح خطبته مطلقا، بناء على الصحيح في اعتبار الآية للخطبة، ومنع الجنب منها، وقال الشريف: إنه [قياس] قول الخرقي، وكأنه أخذ ذلك من عدم اعتداده بأذان الجنب، وأبو البركات خرج المنع من الصلاة في الدار المغصوبة، حيث حرمت القراءة، أما لو اغتسل ثم قرأ الآية، أو نسي الجنابة، فإن الخطبة تصح، لعدم تحريم القراءة، ولا أثر عنده للبث، لأنه قد يتوضأ فيباح له، وقد ينسى جنابته، وحيث حرم عليه لا أثر له في شيء من واجبات العبادة، فهو كما لو أذن جنبا في المسجد. والله أعلم.

(2/181)


قال: وإن أراد أن يدعو لإنسان دعا.
ش: أي للسلطان ونحوه، لأن صلاحه صلاح المسلمين، ولأن الدعاء للمعين يجوز في الصلاة على الصحيح، فكيف بالخطبة، ولا يستحب ذلك، لما فيه من مخالفة السبب، نعم دعاؤه للمسلمين مستحب.
849 - لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دعا في خطبة الجمعة مستسقيا. ويستحب رفع اليد في الدعاء عند ابن عقيل، لعموم مطلوبية رفع الأيدي في الدعاء، وهو بدعة عند أبي البركات.
850 - لما «روى عمارة بن رؤيبة، أنه رأى بشر بن مروان على المنبر رافعا يديه، فقال: قبح الله تينك اليدين، لقد رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما كان يزيد على أن يقول بيده هكذا، وأشار بأصبعه المسبحة» ، رواه مسلم، وأبو داود، والترمذي، والنسائي.

قال: [ثم تقام الصلاة] وينزل.
ش: كذلك توارثه الخلف، عن السلف، عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والمراد بثم هنا الترتيب، وأن الصلاة تتأخر عن الخطبة، وليس المراد التراخي، بل الموالاة شرط كما تقدم، وهل ينزل عند قول المؤذن: قد قامت

(2/182)


الصلاة. أو يبادر بحيث يصل إلى المحراب عند قولها؟ فيه احتمالان، حكاهما في التلخيص.

[عدد ركعات الجمعة والقراءة فيها]
قال: فيصلي بهم الجمعة ركعتين.
ش: هذا إجماع معلوم بالضرورة، وقد قال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: صلاة الجمعة ركعتان، تمام غير قصر.

قال: يقرأ في كل ركعة منهما بالحمد، وسورة.
ش: لا نزاع في ذلك، وقد استفاضت السنة بذلك عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والمستحب أن تكون السورة في الأولى الجمعة، وفي الثانية المنافقين، على المشهور من الروايتين.
851 - لما روى ابن عباس «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقرأ في الفجر [يوم الجمعة] {الم - تَنْزِيلُ} [السجدة: 1 - 2] في الأولى، وفي الثانية {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ} [الإنسان: 1] وفي صلاة الجمعة بسورة الجمعة والمنافقين» . رواه مسلم، وأبو داود، والنسائي.
852 - وعن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقرأ بهما. مختصر، رواه مسلم أيضا وغيره. (والرواية

(2/183)


الثانية) : يقرأ في الثانية بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى: 1] اختارها أبو بكر في التنبيه.
853 - لما روى عبد الرزاق، عن ابن جريج، قال: أخبرت «عن ابن مسعود قال: كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في صلاة الجمعة يقرأ بسورة الجمعة، و {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى: 1] وفي صلاة الصبح يوم الجمعة {الم - تَنْزِيلُ} [السجدة: 1 - 2] و {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ} [الملك: 1] .»
854 - وقد جاء في الصحيح «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قرأ في الأولى بالجمعة، وفي الثانية بالغاشية» .
855 - «وأنه قرأ في الأولى بسبح، وفي الثانية بالغاشية» .
856 - وجاء في سنن سعيد «أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قرأ مع سورة الجمعة {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} [الطلاق: 1] » والله أعلم.

قال: ويجهر بالقراءة.

(2/184)


ش: هذا أمر متوارث من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وإلى زماننا هذا، والله أعلم.

[ما تدرك به الجمعة]
قال: ومن أدرك معه منها ركعة يسجد فيها أضاف إليها أخرى، وكانت له جمعة.
857 - ش: لعموم قوله: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «من أدرك من الصلاة ركعة فقد أدرك الصلاة» .
858 - ويؤيده ما روى النسائي عن ابن عمر قال: قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من أدرك ركعة من الجمعة أو غيرها فقد تمت صلاته» .
859 - وعن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -[قال] : «من أدرك من صلاة الجمعة ركعة فقد أدرك» رواه النسائي أيضا.

(2/185)


قال: ومن أدرك معه أقل من ذلك بنى على ظهر، إذا كان قد دخل بنية الظهر.
ش: إذا أدرك مع الإمام أقل من ركعة بسجدتيها فله صورتان (إحداهما) أن يدرك معه ما لا يعتد له به، كما إذا أدركهم في التشهد، أو بعد الركوع في الثانية، والمذهب المعروف هنا أن الجمعة لا تحصل له.
860 - لما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: « «من أدرك من الجمعة ركعة أضاف إليها أخرى، ومن أدركهم جلوسا صلى الظهر أربعا» ، رواه الدارقطني وغيره من طرق فيها مقال، إلا أن أحمد، قال: لولا الحديث الذي يروى في الجمعة، لكان ينبغي أن يصلي ركعتين إذا أدركهم جلوسا. وظاهر هذا أنه يعتمد عليه.

(2/186)


861 - ولأن هذا قول الصحابة، حكاه أبو بكر عنهم في التنبيه إجماعا، وقال مهنا: قلت لأحمد: إذا أدركت التشهد مع الإمام يوم الجمعة كم أصلي؟ قال: أربعا، كذلك قال ابن مسعود، وكذلك فعل أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وحكى بعضهم رواية عن أحمد أن الجمعة تدرك ولو بتكبيرة، كبقية الصلوات.
862 - ولعموم «ما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا» ومنع بعض الأصحاب من صحة الصلاة مع الإمام والحال هذه رأسا، لأن الجمعة فاتته، والظهر لا تصح خلف من يؤدي الجمعة لاختلاف النيتين، والمذهب الأول، وعليه إذا لم تصح له جمعة فتصح له ظهرا، ولكن بشرط أن ينويه بإحرامه،

(2/187)


على قول الخرقي، فلو نوى جمعة لم تصح، وهو ظاهر كلام أحمد، لأنه قال: يصلي الظهر أربعا، واختيار أبي البركات، وذلك لظاهر قوله: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «ومن أدركهم جلوسا صلى الظهر أربعا» ولأنه إن نوى جمعة فما هي فرضه، فقد ترك فرضه، ونوى غيره، فأشبه من عليه الظهر فنوى العصر، وقال أبو إسحاق ابن شاقلا - وزعم القاضي في التعليق في موضع أنه المذهب - ينوي جمعة، ويبني على ظهر لئلا تخالف نيته نية إمامه، وقيل: إن مبنى الوجهين أن الجمعة هل هي ظهر مقصورة، أم صلاة على حيالها؟ فيه وجهان ذكرهما ابن شاقلا، وعلى الوجهين شرط صحة الظهر إحرامه بعد الزوال، فإن كانت قبله كانت نفلا، ولم يجزئه جمعة لفواتها، ولا ظهرا لفوات شرطها وهو الوقت.
والصورة الثانية أن يدرك معه ما يعتد به، كمن أدرك الركوع في الثانية، وزحم عن السجود، أو أدرك القيام، وزحم عن الركوع والسجود، أو سبقه الحدث ففاته ذلك

(2/188)


بالوضوء - وقلنا: يبني - حتى سلم الإمام. ففيه روايات (إحداها) يتمها جمعة، (اختارها) الخلال، لأنه أدرك ما يعتد به، أشبه مدرك الجمعة (والثانية) : لا يدرك الجمعة. وهي اختيار الخرقي، وأبي بكر، وابن أبي موسى، [والقاضي، وظاهر قول ابن أبي موسى] وأبي الخطاب، لما تقدم في الصورة الأولى من النص والإجماع. (والرواية الثالثة) : إن أدرك الركوع، وزحم عن السجود، أو نسيه أتمها جمعة، وإن فاته الركوع والسجود لم يصل جمعة، لأنه فاته معظم الركعة.
وحيث قيل: لا يصلي جمعة. فهل يصلي ظهرا، أو يستأنف؟ يبنى على الخلاف، واختيار [الخرقي] وأبي البركات عدم البناء، لأن شرط البناء الدخول بنية الظهر، وقد فات ذلك، وعلى قول بأنه لا يدرك الجمعة لو أدرك السجدتين في التشهد قبل سلام الإمام فقد تمت ركعته، وأدرك بها الجمعة على رواية صححها أبو البركات، وعلى أخرى لا، ومبناهما أن الإدراك الفعلي هل هو كالحكمي؟ والله أعلم.

(2/189)


قال: ومتى دخل وقت العصر وقد صلوا ركعة أتموا بركعة أخرى، وأجزأتهم جمعة.
ش: آخر وقت الجمعة آخر وقت الظهر بالاتفاق فإذا خرج وقت الظهر وقد أحرموا بالجمعة أتموها جمعة، وأجزأتهم عند جمهور الأصحاب، أبي بكر، وابن أبي موسى، وابن حامد، والقاضي وأصحابه، حتى إن أبا البركات حكاه عن ما عدا الخرقي، لأنها صلاة مؤقتة، فلا يمنع خروج وقتها إتمامها، كبقية الصلوات.
وظاهر كلام الخرقي أنهم إن أدركوا ركعة أتموها جمعة، وإن أدركوا أقل من ذلك فلا، وبه قطع أبو محمد في المقنع، لمفهوم قوله: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «من أدرك ركعة من الجمعة فقد أدرك» «ومن أدرك ركعة من الجمعة أو غيرها فقد تمت جمعته» وعلى هذا إذا لم يصلوا ركعة فهل يتمون ظهرا، أو يستأنفون ظهرا؟ على وجهين سبقا.
وليس عن أحمد في المسألة نص إلا فيما قبل السلام، فإنه قال في رواية صالح وعبد الله: إذا صلى الإمام الجمعة فلما تشهد قبل أن يسلم دخل وقت العصر، فإنه تجزئه صلاته.

(2/190)


فأخذ أبو محمد من هذا أن ظاهر كلام أحمد أن الوقت يشترط لجميع الصلاة لا السلام وأن الوقت إن خرج قبل ذلك صلوا أو استأنفوا، ولم يعرج أحد من الأصحاب فيما علمت على ذلك، ودعوى أبي محمد أن هذا ظاهر النص يتنازع فيه، فإن ظاهره أنه وقع جواب سؤال كما هو دأب أحمد، وإذا فلا مفهوم له اتفاقا، وإن لم يكن جواب سؤال فقد يسلم الظاهر بناء على المفهوم، وقد ينازع فيه، والله أعلم.

[حكم من دخل والإمام يخطب]
قال: ومن دخل والإمام يخطب لم يجلس حتى يركع ركعتين يوجز فيهما.
863 - ش: في الصحيحين عن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «جاء رجل والنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخطب الناس يوم الجمعة، فقال: «صليت يا فلان» ؟ قال: لا. قال: «قم فاركع ركعتين» وفي رواية أبي داود قال له: «يا سليك قم فاركع ركعتين وتجوز فيهما» ثم قال: «إذا جاء أحدكم والإمام يخطب فليركع ركعتين، وليتجوز فيهما» » ويقتصر من عليه فائتة عليها، وكذلك من لم يصل سنة الجمعة، إن قيل لها سنة، لأن الصلاة تحصل بكل صلاة يصليها، ولو كانت الجمعة في غير مسجد كدار وصحراء لم يصل شيئا، على ظاهر كلام الأصحاب، لأن الركعتين تحية المسجد، وقد عدم سببهما.

(2/191)


وقد أشعر كلام الخرقي بمنع الصلاة في حال الخطبة، وهو كذلك، ينقطع النفل المبتدأ بجلوس الإمام على المنبر.
864 - لما روى نبيشة أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إن المسلم إذا اغتسل يوم الجمعة، ثم أقبل إلى المسجد، لا يؤذي أحدا، فإن لم يجد الإمام قد خرج [صلى ما بدا له، وإن وجد الإمام قد خرج] جلس فاستمع وأنصت حتى يقضي الإمام جمعته وكلامه، إن لم يغفر له في جمعته تلك ذنوبه كلها أن تكون كفارة للجمعة التي تليها» رواه أحمد.
865 - وعن عمر: خروج الإمام يقطع الصلاة، وكلامه يقطع الكلام. ويستوي في المنع من النفل من يسمع الخطبة ومن لا يسمعها على الصحيح لما تقدم.

(2/192)


866 - وعن ثعلبة بن أبي مالك القرظي أنهم كانوا في زمن عمر يصلون يوم الجمعة حتى يخرج عمر، فإذا خرج عمر وجلس على المنبر، وأذن المؤذنون، جلسنا نتحدث، حتى إذا سكت المؤذن، وقام عمر سكتوا، فلم يتكلم أحد. رواه مالك في الموطأ. وقال ابن عقيل: يتطوع الذي لا يسمع بما شاء، معللا بأن المنع كان لأجل السماع وقد انتفى. والله أعلم.

[العدد الذي تصح به الجمعة]
قال: وإذا لم يكن في القرية أربعون رجلا عقلاء لم تجب عليهم الجمعة، وإن صلوا أعادوها ظهرا.
ش: يشترط لصحة الجمعة وانعقادها حضور أربعين رجلا، حرا [مكلفا] ، مستوطنا، مقيما، في المشهور من الروايات، قال ابن الزاغوني: اختاره عامة المشايخ.
867 - لما روى عبد الرحمن بن كعب بن مالك - وكان قائد أبيه بعد ما ذهب بصره - عن أبيه كعب أنه كان إذا سمع النداء يوم الجمعة ترحم لأسعد بن زرارة، قال: فقلت له: إذا سمعت النداء ترحمت لأسعد بن زرارة؟ قال: لأنه أول من جمع بنا، في هزم النبيت من حرة بني بياضة، في بقيع يقال له بقيع الخضمات. قلت: كم كنتم يومئذ؟ قال: أربعون رجلا رواه أبو داود.

(2/193)


868 - وقال أحمد في رواية الأثرم: «بعث النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مصعب بن عمير إلى أهل المدينة، فلما كان يوم الجمعة جمع بهم وكانوا أربعين» وكانت أول جمعة جمعت، ويقال: إن هذه

(2/194)


الجمعة هي المنسوبة إلى أسعد بن زرارة، وهذا صريح في انعقاد الجمعة بأربعين، فاقتصرنا عليه، إذ التجميع تغيير فرض، فلا يصار إليه إلا بنص أو اتفاق، ولم يثبت ذلك.
869 - وقد روي عن جابر قال: «مضت السنة أن في كل [أربعين] فما فوق [ذلك] جمعة، وأضحى، وفطرا» . رواه الدارقطني لكنه ضعيف (والرواية الثانية) لا تنعقد إلا بخمسين.
870 - لما روي عن أبي أمامة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «على الخمسين جمعة، وليس فيما دون ذلك» رواه الدارقطني.
(والرواية الثالثة) : تنعقد بثلاثة. لإطلاق {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9] {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا} [الجمعة: 10] وهذا جمع، وأقله ثلاثة. (والرواية الرابعة) تنعقد بسبعة، حكاها ابن حامد، وعلى جميع الروايات هل يشترط كون الإمام زائدا على العدد المعتبر؟ فيه روايتان، أصحهما: لا.

(2/195)


إذا تقرر هذا فمتى كان في القرية دون العدد المعتبر فإن الجمعة لا تجب عليهم، لفقد الشرط، ومتى صلوا جمعة أعادوا ظهرا، لأنه الواجب عليهم، لا ما فعلوه.
وقد أشعر كلام الخرقي بجواز إقامة الجمعة في القرى، وأنه لا يشترط لها المصر، وهو كذلك لما تقدم من حديث أسعد بن زرارة، ولأجل هذا الحديث جوز أصحابنا إقامتها فيما قارب البنيان من الصحراء، [والله أعلم] .

[تعدد الجمعة في البلد الواحد]
قال: وإذا كان البلد كبيرا يحتاج إلى جوامع، فصلاة الجمعة في جميعها جائزة.
ش: لا خلاف في المذهب أنه لا يجوز إقامة جمعتين في بلد من غير حاجة، لأنه خلاف فعل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه من بعده، واختلف هل يجوز مع الحاجة، كما إذا كان البلد كبيرا، يشق على أهله التجميع في مكان واحد، أو لا يسعهم جامع واحد، أو يخشى من الإقامة بمكان واحد فتنة ونحو ذلك، فعنه: لا يجوز لما تقدم، قال الأثرم: قلت لأبي عبد الله: هل علمت أن أحدا جمع جمعتين في مصر واحد؟ قال: لا أعلم أحدا فعله. (وعنه) - وهو المشهور، واختيار الأصحاب - يجوز قياسا على العيد، بجامع مشروعية الاجتماع لهما، والخطبة.
871 - ودليل الأصل ما حكاه الإمام أحمد عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، أنه كان يأمر رجلا يصلي بضعفة الناس في المسجد صلاة العيد، ويخرج هو إلى الجبانة ولأن منع ذلك يفضي إلى

(2/196)


منع خلق كثير من التجميع، وهو خلاف مقصود الشارع.
872 - ولأن صلاة الجمعة في الخوف جائزة على الصفة التي صلاها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بذات الرقاع، إذا كمل العدد في كل طائفة، والطائفة الثانية قد استفتحت الصلاة بعدما صلاها غيرهم، وجواز ذلك كان لحاجة عارضة، فمع الحاجة الدائمة أولى، [والله أعلم] .

[صلاة الجمعة للمسافر]
قال: ولا تجب الجمعة على مسافر، ولا امرأة، ولا عبد، وإن حضروها أجزأتهم، وعن أبي عبد الله - رَحِمَهُ اللَّهُ - في العبد روايتان، إحداهما أن الجمعة واجبة عليه، والأخرى ليست بواجبة عليه.
ش: اعلم أن لوجوب الجمعة شروطا، ثم من تجب عليه تارة [تجب عليه] بنفسه وتارة تجب عليه بغيره، فمن تجب عليه بنفسه يشترط له شروط. (أحدها) أن يكون ممن يكلف بالمكتوبة، وهو المسلم، العاقل، البالغ، فلا تجب على كافر، ولا مجنون، ولا صبي، وفي كلام الخرقي ما يدل على ذلك حيث قال: وإذا لم يكن في القرية أربعون رجلا عقلاء لم تجب عليهم الجمعة. ذلك لأنها صلاة مكتوبة، أشبهت بقية

(2/197)


المكتوبات. وهل تلزم الجمعة ابن عشر إن قلنا: تجب عليه المكتوبة؟ فيه وجهان، أصحهما: لا.
873 - لأن في النسائي عن حفصة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «رواح الجمعة واجب على كل محتلم» » (الشرط الثاني) الذكورية فلا تجب على امرأة، وقد صرح به الخرقي هنا.
874 - لما روى طارق بن شهاب أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الجمعة حق واجب على كل مسلم في جماعة، إلا أربعة، عبد مملوك، أو امرأة أو صبي أو مريض» رواه أبو داود، وقال: طارق رأى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولم يسمع منه. وقال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن لا جمعة على النساء، ولا تجب على خنثى مشكل، لأن ذكوريته لم تتحقق.
الشرط الثالث: الحرية فلا تجب على عبد، في أشهر الروايات وأصحها عند الأصحاب.
875 - لما تقدم من حديث طارق، وروي نحوه من حديث جابر، رواه الدارقطني (والرواية الثانية) تجب عليه، لدخوله في

(2/198)


الآية الكريمة، لأنه من الذين آمنوا، (والرواية الثالثة) إن أذن له سيده وجبت عليه، وإلا فلا تجب عليه، لأن المنع ملحوظ فيه كونه لحق السيد، لاشتغاله بالخدمة، فإذا أذن له زال المانع، والمكاتب والمدبر كالقن، وكذلك المعتق بعضه، لتعلق حق المالك بباقيه، وقيل: تلزمه الجمعة في يوم نوبته إن كان ثم مهايأة، تغليبا لجانب العبادة، ويحتمل هذا كلام الخرقي، لأنه إنما نفى الوجوب عن العبد.
(الشرط الرابع) : الإقامة، فلا تجب على مسافر، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وافى عرفة يوم جمعة، فجمع بين الظهر والعصر، ولم يجمع، ومعه الخلق الكثير، ولم يزل هو وخلفاؤه يسافرون للنسك والجهاد، ولم يصلوا في أسفارهم جمعة، وكما لا يلزم المسافر جمعة بنفسه، فكذلك بغيره، نص عليه.
876 - لما روي عن جابر أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فعليه الجمعة يوم الجمعة، إلا مريض أو مسافر، أو امرأة، أو صبي، أو مملوك» رواه الدارقطني.
(الشرط الخامس) : الاستيطان. فلا جمعة على أهل قرية يسكنونها شتاء، ويظعنون عنها صيفا، وكذلك بالعكس، وكذلك المقيم إقامة تمنع القصر، لتجارة، أو علم، لا جمعة عليه إن لم يكن أهل البلد ممن تلزمهم الجمعة، لعدم

(2/199)


الاستيطان، وكذلك المسافر إلى بلد دون مسافة القصر، وأهله ليسوا من أهل الجمعة.
877 - لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان بعرفة يوم الجمعة ومعه خلق كثير من أهل مكة، ولم يأمرهم بجمعة، وهذا الشرط أهمله الخرقي. (الشرط السادس) الوطن وهي القرية المبنية مما جرت العادة به، من حجر، أو قصب، أو خشب، فلا جمعة على أهل الحلل والخيام، لأن المدينة كان حولها حلل [وخيام] وأبيات من العرب، ولم ينقل أنهم أقاموا جمعة، ولا أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمرهم بذلك.
(الشرط السابع) إذا بلغوا أربعين، وقد تقدم هذا الشرط والكلام عليه (فالتكليف) شرط للوجوب [والصحة، إلا البلوغ فإنه شرط للوجوب] والانعقاد، [ (والذكورية) شرط للوجوب والانعقاد] وكذلك الحرية والإقامة، فالمسافر والعبد والمرأة لا تجب عليهم الجمعة، ولا تنعقد بهم، ولا تصح إمامتهم فيها، وتصح منهم إجماعا، لأن السقوط عنهم رخصة، وأما الاستيطان، والوطن والعدد فشروط أيضا للانعقاد والوجوب [على المكلف] بنفسه.
وقد تجب عليه بغيره، وهو ما إذا سمع النداء كأهل الحلل، والخيام، والقرية التي فيها دون العدد المعتبر، أو التي

(2/200)


يرتحل عنها أهلها بعض السنة، فهؤلاء إذا كانوا من البلد الذي يجمع فيه بحيث يسمعون النداء لزمهم السعي إلى الجمعة، نص عليه أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - ولا تنعقد بهم الجمعة، وهل تصح إمامتهم؟ فيه احتمالان، فالصحة للزوم الجمعة له، وعدمها لعدم انعقادها به، وحكم فاقد الاستيطان - كالمقيم في مصر لعلم، أو شغل ونحو ذلك - كذلك على أصح الوجهين، وقيل: لا تجب [عليه] أصلا، لأنه عن وطنه على مسافة تمنع النداء، أشبه المسافر، وإنما اعتبرنا سماع النداء لعموم قَوْله تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا} [الجمعة: 9] الآية.
878 - مع ما روى عبد الله بن عمرو عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «الجمعة على من سمع النداء» رواه أبو داود والدارقطني، وفي لفظ للدارقطني «إنما الجمعة على من سمع النداء» » وإذا عدم سماع النداء انتفى وجوب الجمعة بنفسه وبغيره، لكنهم إذا حضروها صحت منهم، أما إن أقاموها بأنفسهم فلا تصح

(2/201)


منهم، وقد تقدم ذلك للخرقي في دون الأربعين، والمعتبر في حق من تلزمه بسماع النداء أن يكون بمكان يسمع منه النداء غالبا إذا كان المؤذن صيتا، والرياح ساكنة، والأصوات هادئة والموانع زائلة، إذ اعتبار حقيقة السماع لا تمكن، لاختلافه باختلاف حال المنادي، والسامع، ومكانهما، ثم إن أحمد في رواية الأثرم اعتبر سماع النداء وأطلق، وفي رواية صالح، وإسحاق بن إبراهيم قيده بالفرسخ، فاختلف أصحابه فمنهم من لم يقدر النداء بحد على ظاهر رواية الأثرم، وجعل التحديد بالفرسخ رواية أخرى، فتكون [المسألة] على روايتين، ومنهم من حده بالفرسخ قال: لأنه الذي ينتهي إليه النداء غالبا، وهو ظاهر كلام الإمام [أحمد] في رواية صالح، قال: تجب الجمعة على من يبلغه الصوت، والصوت يبلغ الفرسخ، فعلى هذا تكون المسألة رواية واحدة، وأبو الخطاب جعل كل واحدة من سماع النداء ومسافة الفرسخ فما دونهما موجبا، فقال: يسمع النداء أو بينه وبين موضع تقام فيه الجمعة فرسخ، فجعل أيضا المسألة رواية واحدة، إعمالا لنصيه جميعا.
واعلم أن الجمعة إذا وجبت قد تسقط بأعذار، كالمرض

(2/202)


الشديد، والمطر الذي يبل الثياب وغير ذلك مما يبلغ نحو عشرة أشياء، وليس هذا محل بيانها، فيسقط الوجوب إذا، ومتى حضرت والحال هذه وجبت، وانعقدت بمن حضر، وصحت إمامته فيها، والله أعلم.

قال: ومن صلى الظهر يوم الجمعة ممن عليه حضور الجمعة قبل صلاة الإمام، أعادها بعد صلاته ظهرا.
ش: لأنه صلى الظهر قبل وجوبها عليه، أشبه من صلاها قبل الزوال، ودليل الوصف أن فرض الوقت عندنا هو الجمعة، وإنما الظهر بدل عنه عند التعذر، بدليل الأمر بالسعي في الآية الكريمة.
879 - وقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إن الله افترض عليكم الجمعة» .
وقوله: «الجمعة حق واجب على كل مسلم» ولأنه بفعل الجمعة يكون طائعا مثابا، فدل على أنها الأصل، وبتركها إلى الظهر من غير عذر يكون عاصيا بالإجماع.
وقول الخرقي: قبل صلاة الإمام. أي قبل فراغ الإمام من صلاته، كذا صرح به غيره. وقوله: أعادها بعد صلاته ظهرا. هذا إذا تعذر عليه التجميع، أما إن أمكنه فيلزمه، لأن ذلك فرضه.

(2/203)


وقد أفهم كلام الخرقي شيئين. (أحدهما) أن من صلى الظهر ممن عليه حضور الجمعة بعد صلاة الإمام أن صلاته تصح، ولا إشكال في ذلك، لتعذر التجميع، وهذا بشرطه وهو أن يدخل وقت الظهر.
(الثاني) : أن من لا حضور عليه كالمسافر، والعبد والمرأة، ومن له عذر، ونحوهم من لا حضور عليه، إذا صلى الظهر قبل صلاة الإمام أن صلاتهم تصح، ولا تلزمهم الإعادة، وهذا هو المذهب المنصوص، المختار للأصحاب، لأنه لا يلزمه الجمعة، أشبه الخارج من المصر، حيث لا يسمع النداء، ودليل الوصف قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الجمعة حق واجب على كل مسلم إلا أربعة» الحديث، وذهب أبو بكر [إلى] أن صلاتهم لا تصح قبل الإمام بحال، كمن تجب عليه الجمعة، لاحتمال زوال العذر، وحكى ذلك ابن عقيل، وابن الزاغوني رواية، وينتقض التعليل [بالمرأة] وعلله ابن عقيل بخشية اعتقاد افتياتهم على الإمام، أو كونهم لا يرون صلاة الجمعة، وهو أيضا منتف غالبا في حق المرأة، ثم إن مثل ذلك لا يعطي المنع الجازم، والله أعلم.

[آداب صلاة الجمعة]
قال: ويستحب لمن أتى الجمعة أن يغتسل.
ش: لا إشكال في مطلوبية غسل الجمعة واستحبابه.

(2/204)


880 - لما روى أبو سعيد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «غسل الجمعة واجب على كل محتلم، والسواك، وأن يمس من الطيب ما يقدر عليه» .
881 - وعن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «حق على كل مسلم أن يغتسل في كل سبعة أيام، يغسل رأسه وجسده» متفق عليهما.
882 - وعن حفصة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «على كل محتلم رواح الجمعة، وعلى من راح إلى الجمعة الغسل» رواه أبو داود وهل يجب؟ فيه روايتان (إحداهما) يجب. اختارها أبو بكر، لهذه الأحاديث، لكن لا يشترط لصحة الصلاة اتفاقا.
(والثانية) : لا يجب. وهي اختيار الخرقي، وجمهور الأصحاب.
883 - لما روى سمرة بن جندب عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت، ومن اغتسل فالغسل أفضل» رواه الخمسة إلا ابن ماجه.
884 - وعن ابن عمر أن عمر بينا هو قائم في الخطبة يوم الجمعة، إذ دخل رجل من المهاجرين الأولين، فناداه عمر: أية ساعة

(2/205)


هذه؟ فقال: إني شغلت، فلم أنقلب إلى أهلي حتى سمعت التأذين، فلم أزد على أن توضأت. قال: والوضوء أيضا، وقد علمت أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يأمر بالغسل. متفق عليه.
885 - وهذا الرجل هو عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، كذا في مسلم وهذا كالإجماع من الصحابة على أن الغسل غير واجب، لأن عثمان تركه، ولم يعدله، وقد أقره عمر وغيره من الصحابة على ذلك، وإنكار عمر على ترك السنة، كما أنكر عليه عدم التبكير، وقوله: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «غسل الجمعة واجب» محمول على تأكيد الاستحباب، كما يقال: حقك علي واجب. جمعا بين الأدلة، ويرشحه اقترانه بالسواك والطيب، وهما غير واجبين إجماعا.
وقول الخرقي: يستحب لمن أتى الجمعة أن يغتسل. يخرج منه من لم يأتها ممن لا تجب عليه كالمسافر، والعبد، وغيرهما، فإنه لا يستحب له الاغتسال، ونص عليه أحمد، لحديث حفصة.
886 - وفي الصحيح «إذا أتى أحدكم الجمعة فليغتسل» » .
ويدخل في كلامه من أتى الجمعة [وإن] لم تجب عليه، كالمسافر ونحوه، فإن الغسل مستحب [له] لما تقدم، إلا المرأة على ظاهر كلام أحمد.

(2/206)


887 - لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «وليخرجن تفلات» .
ومقتضى كلام الخرقي أن الغسل لأجل الجمعة، فيختص الغسل بما قبلها، ولا نزاع عندنا في ذلك، وأول الوقت من طلوع الفجر يومئذ، والمستحب عند الرواح، والله أعلم.

قال: ويلبس ثوبين نظيفين.
888 - ش: لما روى عبد الله بن سلام أنه سمع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول على المنبر في يوم الجمعة «ما على أحدكم لو اشترى ثوبين ليوم الجمعة، سوى ثوبي مهنته» رواه أبو داود وابن ماجه.
889 - وعن جعفر بن محمد، عن أبيه «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يعتم ويلبس برده الأحمر في العيدين، والجمعة» ، رواه أحمد في مسائل ابنه صالح.

(2/207)


قال: ويتطيب.
ش: لما تقدم من حديث أبي سعيد وغيره، والله أعلم.

[صلاة الجمعة قبل الزوال]
قال: وإن صلوا الجمعة قبل الزوال في الساعة السادسة أجزأتهم.
ش: المذهب المعروف [والمشهور] المنصوص أنه يجوز فعل الجمعة قبل الزوال.
890 - لما روى جابر بن عبد الله «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصلي الجمعة ثم نذهب إلى جمالنا فنزيحها حين تزول الشمس، يعني النواضح» .
891 - «وعن سهل بن سعد الساعدي قال: ما كنا نقيل ولا نتغدى إلا بعد الجمعة في عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. رواهما أحمد

(2/208)


ومسلم» قال ابن قتيبة: لا يسمى قائلة ولا غداء إلا ما كان قبل الزوال. لإجماع الصحابة.
892 - فروى عبد الله بن سيدان السلمي قال: شهدت الجمعة مع أبي بكر فكانت صلاته وخطبته قبل نصف النهار وشهدتها مع عمر بن الخطاب فكانت صلاته وخطبته إلى أن أقول: انتصف النهار، ثم شهدتها مع عثمان بن عفان فكانت صلاته وخطبته إلى أن أقول: زال النهار. فما رأيت أحدا عاب ذلك ولا أنكره. رواه الدارقطني وأحمد محتجا به.
893 - وعن ابن مسعود أنه كان يصلي الجمعة ضحى ويقول: إنما عجلت بكم خشية الحر عليكم. رواه أحمد.

(2/209)


894 - وعن معاوية نحوه، رواه سعيد، وقال أحمد: روي عن ابن مسعود، وجابر، وسعد، ومعاوية أنهم صلوا قبل الزوال، وإذا صلى هؤلاء مع من يحضرهم من الصحابة ولم ينكر فهو إجماع، وما روي من الفعل بعد الزوال لا ينافي هذا، لأن سائر المسلمين لا يمنعون ذلك بعد الزوال. (وعن أحمد) - رواية أخرى حكاها أبو الحسين عن والده: لا يجوز قبل الزوال.
895 - لما «روى سلمة بن الأكوع قال: كنا نصلي مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الجمعة إذا زالت الشمس، ثم نرجع فنتتبع الفيء» . متفق عليه.
896 - «وعن أنس: كنا نصلي مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الجمعة حين تميل الشمس» . رواه البخاري وغيره، ولأنها ظهر مقصورة، فكان وقتها كالمقصورة في السفر. والأول المذهب،

(2/210)


والأحاديث قد تقدم الجواب عنها، وكونها ظهرا مقصورة لنا فيه منع، وإن سلم لا يمنع افتراقهما هنا كما افترقا في كثير من الشروط.
وعلى هذا فهل يختص فعلها بما يقارب الزوال، أو يجوز فعلها في وقت صلاة العيد؟ فيه قولان، (والأول) : اختيار الخرقي وأبي محمد، لأن الثابت من فعل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الصلاة قبل الزوال قريبا [منه] ، فاقتصرنا عليه، واختلفت نسخ الخرقي، ففي بعضها: الخامسة، وكذا حكاه عنه أبو إسحاق بن شاقلا، وأبو الخطاب، وفي أكثرها «السادسة» وهو الذي صححه القاضي، وأبو البركات، لأنه المتيقن، وغيره مشكوك فيه.
(والثاني) : منصوص أحمد، واختيار عامة الأصحاب، لأن ابن مسعود، ومعاوية صلياها ضحى كما تقدم.
897 - وفعلها ابن الزبير في وقت العيد، وصوبه ابن عباس وأبو هريرة، ولأنها صلاة عيد، فجازت قبل الزوال كبقية الأعياد.

(2/211)


898 - ويدل على الوصف قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «قد اجتمع في يومكم هذا عيدان» الحديث انتهى، وهل من قبل الزوال وقت لوجوبها؟ فيه روايتان إحداهما: نعم، والثانية: لا، وإنما وقت الوجوب الزوال، وهذا اختيار الأصحاب لعموم {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الإسراء: 78] والتقديم [ثم] ثبت رخصة بالسنة والآثار، والله أعلم.

قال: وتجب الجمعة على من بينه وبين الجامع فرسخ والله أعلم.
ش: قد تقدمت هذه المسألة والخلاف في تحديد الوجوب هل هو بالفرسخ، أو بسماع النداء، وأن هؤلاء هم الذين تجب الجمعة عليهم بغيرهم، لا بأنفسهم، ونزيد هنا أن ظاهر كلام الخرقي أن الفرسخ أو سماع النداء يعتبر من الجامع، لأن السعي الذي تختلف المشقة باختلافه إليه ينتهي، وظاهر كلام أحمد - وهو الذي صححه أبو البركات - أنه معتبر من طرف البلد.
899 - لما يروى عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «هل عسى أحدكم أن يتخذ الغنم على رأس ميل، أو ميلين، أو ثلاثة من المدينة، فتأتي

(2/212)


الجمعة فلا يجمع، فيطبع الله على قلبه، فيكون من الغافلين» رواه أبو بكر النجاد، وفي ابن ماجه نحوه ولأن طرف البلد قد يكون عن الجامع أكثر من فرسخ، أو بحيث لا يسمع النداء، فيفضي اعتبارهما إلى سقوط الجمعة عن من قرب من المصر، وهو ممتنع، والله أعلم.