شرح
الزركشي على مختصر الخرقي [كتاب الجنائز]
ش: الجنائز جمع جنازة، بفتح الجيم وكسرها، وقيل: بالفتح الميت، وبالكسر
الأعواد التي يحمل عليها، وقيل عكسه، وحكاه صاحب المطالع، مشتق من: جنز
يجنز إذا ستر، قاله ابن فارس.
[ما يفعل بالمحتضر قبل موته]
قال: وإذا تيقن الموت وجه إلى القبلة.
992 - ش: «روى عبيد بن عمير [عن أبيه] وكانت له صحبة أن رجلا قال: يا رسول
الله ما الكبائر؟ [قال: سبع] فذكر منها «استحلال البيت الحرام قبلتكم أحياء
وأمواتا» رواه أبو داود.
993 - وعن حذيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: وجهوني.
وظاهر كلام الخرقي أنه لا يستحب توجيهه قبل تيقن موته.
(2/276)
994 - وقد أنكر ذلك سعيد بن المسيب.
والمشهور في المذهب أن الأولى التوجيه.
995 - لأن فاطمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - فعلت ذلك ولأنه الذي عليه
الناس
(2/277)
سلفا وخلفا والأفضل فيه الاستلقاء على
ظهره، ورجلاه إلى القبلة، في رواية اختارها أبو الخطاب، لأنه أسهل في خروج
روحه.
وعنه - وهو المشهور وصححه أبو البركات - أن الأفضل أن يكون على جنبه
الأيمن، لأن فاطمة كذلك فعلت. وعنه يخير بينهما، وبه قطع أبو البركات في
محرره والله أعلم.
قال: وغمضت عيناه.
ش: إذا تيقن موته استحب تغميض عينيه، لئلا يقبح منظره.
996 - وعن شداد بن أوس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا حضرتم موتاكم فأغمضوا البصر،
فإن البصر يتبع الروح، وقولوا خيرا، فإنه يؤمن على ما قال أهل الميت» رواه
ابن ماجه وأحمد، قال أحمد: يقول إذا غمضه: بسم الله، وعلى وفاة رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
قال: وشد لحياه، لئلا يسترخي فكه.
(2/278)
997 - ش: عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -
أنه لما حضرته الوفاة قال لابنه عبد الله: إذا رأيت روحي بلغت لهاتي، فضع
كفك اليمنى على جبهتي، واليسرى تحت ذقني. ولأنه إذا ترك قد تدخل الهوام في
فيه.
قال: وجعل على بطنه مرآة أو غيرها، لئلا يعلو بطنه.
998 - ش: وعن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه مات مولى له فقال: ضعوا
على بطنه شيئا من حديد. انتهى، وإذا لم يكن حديد فطين مبلول والله أعلم.
[غسل الميت]
قال: وإذا أخذ في غسله ستر من سرته إلى ركبته.
ش: إذا [أريد] غسله وجب ستر عورته، وهو ما بين سرته وركبتيه على المذهب، أو
السوأتان فقط على رواية، حذارا من النظر إليها.
999 - وقد قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعلي: «لا تبرز فخذك،
ولا تنظر إلى فخذ حي ولا ميت» واستحب تجريده على ظاهر كلام الخرقي وهو إحدى
الروايتين عن أحمد، واختيار ابن أبي موسى، والشيرازي، وأبي الخطاب في
الهداية، وأبي محمد، لأنه
(2/279)
أمكن في غسله، وأبلغ في تطهيره، إذ يحتمل
أن يخرج منه شيء فينجس الثوب به، ثم قد ينجس الميت.
1000 - وعن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أنها كانت تقول: لما أرادوا
غسل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قالوا: والله ما ندري
أنجرد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من ثيابه كما نجرد
موتانا، أم نغسله وعليه ثيابه؟ فلما اختلفوا أوقع الله عليهم النوم، حتى ما
منهم رجل إلا وذقنه في صدره، ثم كلمهم مكلم من ناحية البيت لا يدرون من هو:
أن اغسلوا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وعليه ثيابه.
فقاموا إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فغسلوه وعليه
قميص، يصبون الماء فوق القميص، ويدلكونه بالقميص. رواه أحمد وأبو داود.
وهذا يدل على أن عادتهم في الموتى كان هو التجريد، ومعلوم أنه - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - علم ذلك، وغسله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - في ثوب من خصائصه، ثم المفسدة وهي احتمال تنجس الثوب منتفية في
حقه - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لأنه طيب حيا وميتا (والرواية
الثانية) الأفضل أن يغسل في ثوب، مستدلا بأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - غسل وعليه ثوب، وبه قطع القاضي في الجامع الصغير، وفي التعليق،
والشريف وأبو الخطاب في خلافيهما، وابن البنا، ونصره أبو البركات، لأنه هو
الذي اختاره الله لنبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فكان أولى.
(2/280)
قال: والاستحباب أن] لا يغسل تحت السماء.
ش: حذارا من أن يستقبل السماء بعورته.
1001 - «وعن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: غسلنا بعض بنات النبي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأمرنا أن نجعل بينها وبين السقف
ثوبا» .
قال: ولا يحضره إلا من يعين في أمره ما دام يغسل.
ش: أي والاستحباب أن لا يغسل بحضرة أحد إلا معاون في أمره، بأن يصب الماء،
أو يناول حاجة، ونحو ذلك، لأن الحاجة داعية إلى المعاون دون غيره، ولاحتمال
عيب كان به وهو يستره، أو يظهر منه ما يستنكر في الظاهر.
قال: ويلين مفاصله إن سهلت عليه وإلا تركها.
ش: ليسهل غسله وتكفينه ونحو ذلك، ويفعل ذلك عقب موته، قبل أن يبرد، هذا إن
سهل ذلك، أما إن عسر التليين فإنه يترك، لاحتمال كسر بعض أعضائه.
1002 - وقد روى عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «كسر
عظم الميت ككسر عظم الحي» .
(2/281)
قال: ويلف على يده خرقة فينقي ما به من
نجاسة.
ش: يلف على يده خرقة لئلا يمس عورته الممنوع من مسها، كما منع من النظر
إليها بطريق الأولى، ودليل الأصل حديث علي المتقدم.
1003 - وذكر المروذي عن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن علي بن أبي طالب حين
غسل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لف على يده خرقة، حين غسل
فرجه. وصفة ذلك أن يلف على يده خرقة، فيغسل بها أحد الفرجين، ثم ينحيها
ويأخذ أخرى للفرج الآخر، وفي المجرد أنه يكفي خرقة واحدة للفرجين، وحمل على
أنها غسلت وأعيدت، لأن الأصحاب قالوا: إن كان خرقة خرج عليها شيء لا
يعيدها.
(2/282)
قال: ويعصر بطنه عصرا رفيقا.
ش: يعصر بطنه ليخرج ما في بطنه من فضلة، مخافة أن يخرج بعد الغسل والتكفين.
قال: ويوضئه وضوءه للصلاة.
ش: قياسا على غسل الحي.
1004 - وفي الصحيح «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال
لأم عطية في غسل ابنته «ابدأن بميامنها، ومواضع الوضوء منها» .
قال: ولا يدخل الماء في فيه ولا أنفه فإن كان فيهما، أذى أزاله بخرقة.
ش: لما قال: إنه يوضئه [وضوءه] للصلاة اقتضى أن يمضمضه وينشقه، فاستثنى
ذلك، فقال: لا يدخل الماء في فيه ولا أنفه، وذلك لاحتمال دخوله بطنه، ثم
يخرج فيفسد وضوءه، وربما حصل منه انفجار، وبهذا علل أحمد، واستحب أحمد
وعامة الأصحاب أن يدخل أصبعيه مبلولتين بالماء بين شفتيه، فيمسح أسنانه،
وفي منخريه فينظفهما، لأمن ما تقدم، مع قوله: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - «إذا أمرتكم بأمر» وأوجب ذلك أبو الخطاب في خلافه للحديث،
والأولى أن يكون ذلك بخرقة نص عليه، صيانة لليد عن الأذى، وإكراما للميت.
(2/283)
قال: ويصب عليه الماء، فيبدأ بميامنه،
ويقلبه على جنبيه، ليعم الماء سائر جسده.
ش: يصب عليه الماء بعد الوضوء، فيبدأ برأسه، ثم بسائر جسده، ويبدأ بميامنه،
كما يفعل بالحي، ولقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
«ابدأن بميامنها» الحديث، ويقلبه على جنبيه ليعم بقية بدنه، المطلوب تعميمه
شرعا، وصفة ذلك أن يغسل رأسه ولحيته أولا، ثم يده اليمنى من منكبه إلى كفه،
وصفحة عنقه اليمنى، وشق صدره، وفخذه، وساقه يغسل الظاهر من ذلك وهو مستلق،
ثم يغسل الأيسر كذلك، ثم يرفعه من جانبه الأيمن ولا يكبه لوجهه، فيغسل
الظهر، وما هناك من وركه، وفخذه، وساقه، ثم يغسل شقه الأيسر كذلك، ذكره أبو
محمد تبعا للقاضي، وإذا يفرغ من غسله مرة في أربع دفعات، قال أبو البركات:
وظاهر كلام أحمد - في رواية حرب، وابن منصور، وأبي الخطاب -[أنه] يفعل ذلك
[في] دفعتين، فيحرفه أولا على جنبه الأيسر، فيغسل شقه الأيمن من جهتي ظهره
وصدره كما وصفنا. ثم يحرفه على جنبه الأيمن، ويغسل الأيسر كذلك، قال أبو
البركات: وهو أقرب إلى قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ابدأن
بميامنها» وأشبه بغسل الجنابة، وما ذكره القاضي أبلغ في النظافة، وكيفما
فعل أجزأه، والله أعلم.
قال: ويكون في كل المياه شيء من السدر، ويضرب [السدر] فيغسل برغوته رأسه
ولحيته.
(2/284)
1005 - ش: في الصحيحين «في حديث أم عطية،
في غسل ابنته، أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «اغسلنها
ثلاثا، أو خمسا، أو أكثر من ذلك إن رأيتن ذلك، بماء وسدر، واجعلن في الآخرة
كافورا» .
1006 - وفي «حديث ابن عباس في المحرم اغسلوه بماء وسدر» .
وظاهر كلام الخرقي أنه لا يشترط كون السدر يسيرا، ولا يجب الماء القراح بعد
ذلك، وهو ظاهر كلام الإمام أحمد في الأول، ونصه في الثاني، قال في رواية
صالح: يغسل بماء وسدر الثلاث غسلات. وقال [له] أبو داود: أفلا يصبون ماء
قراحا ينظفه؟ قال: إن صبوا فلا بأس. واحتج بحديث أم عطية، وشرط ابن حامد
كون السدر يسيرا، وقيل عنه: يكون درهما ونحوه، لئلا يخرجه عن الطهورية،
وقال القاضي، وأبو الخطاب، وطائفة ممن تبعهما: يغسل أولا بثفل السدر، ثم
عقب ذلك بالماء القراح، فيكون الجميع غسلة واحدة، والاعتداد بالآخر دون
الأول، سواء زال السدر أو بقي منه شيء، لأن أحمد شبه غسله بغسل الجنابة،
والجنب كذا يفعل، وحذارا من زوال طهورية الماء بكثير السدر، وعدم تأثيره
بقليله، وهذا من الأصحاب بناء على المذهب عندهم، من أن الماء تزول طهوريته
بتغيره بالطاهرات، وأبو محمد لما كان يميل إلى عدم زوال الطهورية والحال
هذه احتج لظاهر كلام أحمد
(2/285)
لكن قد يغلب على أجزائه، فيسلبه الطهورية
بلا خلاف، فلهذا حمل أبو البركات كلام الخرقي على قول القاضي وغيره.
ومنصوص أحمد والخرقي أن السدر يكون في الغسلات الثلاث، وعنه - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: يختص بالأولى، والثانية، لتكون الثالثة
للكافور، وجعله أبو الخطاب مختصا بالأولى، لئلا يبقى من جرمه شيء، والله
أعلم.
قال: ويستعمل في كل أموره الرفق به.
ش: من تقليبه وتليين مفاصله، وعصر بطنه، ونحو ذلك، لأن حرمته كحرمة الحي،
وحذارا من أن ينفصل بعض أعضائه، فيفضي إلى المثلة [به] وعنه: «كسر عظم
الميت ككسر عظم الحي» .
قال: والماء الحار، والأشنان، والخلال، يستعمل إن احتيج إليه.
ش: إذا احتيج إلى الماء الحار لبرد، أو لإزالة وسخ، أو إلى الأشنان للوسخ،
[أو إلى الخلال، لإزالة شيء من بين الأسنان] ونحو ذلك استعمل نظرا للحاجة،
وإلا فالأولى ترك
(2/286)
ذلك، لأن الماء الحار يرخي الميت، والأشنان
لم يرد، والخلال ربما حصل به تأذية الميت، ولهذا استحب أن يكون من شجرة
لينة، والله أعلم.
قال: ويغسل الثالثة بماء فيه كافور وسدر، ولا يكون فيه سدر صحيح.
ش: يجعل في الغسلة الثالثة مع السدر كافورا، لحديث أم عطية - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهَا - «واجعلن في الأخيرة كافورا» والحكمة فيه أنه يصلب الجسد
ويبرده، ويمنع الهوام برائحته، ولا يكون في الماء سدر صحيح، لعدم الفائدة
في ذلك، إذ الحكمة في السدر التنظيف، والتنظيف، إنما هو بالمطحون، قال
القاضي: ويجعل الكافور في الماء، لأنه لا يسلبه الطهورية، واختار أبو
البركات أنه يجعل مع سدر الأخيرة على ما تقدم، لحصول المقصود، وفرارا من أن
يتغير الماء، فيزول على وجه.
وقد اقتضى كلام الخرقي أنه يغسل ثلاثا وهذا هو المسنون بلا ريب، قال -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في ابنته «اغسلنها ثلاثا» الحديث.
(2/287)
قال: فإن خرج منه شيء غسله إلى خمس، فإن
زاد فإلى سبع.
ش: يعني إذا خرج منه شيء بعد تغسيله، وقبل تكفينه فإنه يغسل إلى خمس، ثم إن
خرج بعد غسل إلى سبع، نص عليه أحمد، وعليه جمهور الأصحاب، لإطلاق قوله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في ابنته «اغسلنها ثلاثا، أو خمسا، أو
أكثر من ذلك» وفي رواية «أو سبعا» وليكون آخر أمره الطهارة الكاملة،
واختيار أبي الخطاب في الهداية أنه لا يعاد غسله، بل يغسل موضع النجاسة
ويوضأ، كالجنب إذا أحدث بعد غسله، والخارج من غير السبيل كالخارج منه في
إعادة الغسل له، نص عليه في رواية الأثرم، وقال في رواية أبي داود: هو
أسهل. فيحتمل أن لا يعاد له الغسل مطلقا، ويحتمل أن لا يعاد إذا كان يسيرا،
كما لا ينقض الوضوء يسيره.
وقد اقتضى كلام الخرقي - والمسألة التي تأتي بعد - أنه لا يعاد غسله بعد
السبع، ونص عليه أحمد والأصحاب، لما في الإعادة من الحرج والمشقة، ولئلا
يفسد باسترخائه.
(2/288)
قال: فإن زاد حشاه بالقطن.
ش: أي إذا زاد الخارج بعد السبع فإنه لا يعاد غسله كما تقدم، وإنما يحشى
محل الخارج بالقطن ليمتنع الخارج، وكالمستحاضة، وقال أبو الخطاب في
الهداية، وصاحب النهاية فيها: يلجم المحل بالقطن، فإن لم يمنع حشاه به، إذ
الحشو فيه توسيع للمحل ومباشرة له، فلا يفعل إلا عند الحاجة إليه.
ولم يذكر الخرقي الوضوء حذارا من الحرج والمشقة، وقال جماعة من الأصحاب:
إنه يوضأ كالجنب إذا أحدث بعد الغسل، وهما روايتان منصوصتان.
قال: فإن لم يستمسك فبالطين الحر.
ش: إن لم يستمسك الخارج بالقطن حشاه بالطين الحر أي الخالص، لأنه له قوة
تمنع الخارج.
قال: وينشفه بثوب.
ش: لئلا يبتل الكفن فيسرع تلفه، وربما أسرع إلى إفساد الميت.
1007 - ويروى أن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما غسل
جفف» . رواه أحمد.
(2/289)
«تنبيه» الفرض في الغسل غسل مرة واحدة،
بالماء القراح، كغسل الجنابة، والنية على الصحيح، لأنه تطهير أشبه تطهير
الحي، وقيل: لا تشترط، لأن المقصود التنظيف، أشبه غسل النجاسة، ويظهر أو
يتعين إن قيل: غسله لتنجيسه بالموت. وفي التسمية وجهان، وقيل: روايتان، وهل
يشترط الفعل؟ فيه وجهان، فلو وضعه تحت ميزاب، ونوى غسله حتى غمره الماء
انبنى على الخلاف، أما الغريق فإن لم يشترط الفعل ولا النية لم يحتج إلى
غسل، وإن اشترطا احتيج إلى إخراجه وغسله، وإن اشترط أحدهما عمل على ذلك،
كغسل الجنابة، وشرط غاسله أن يكون ممن تصح طهارته، فلا يصح من كافر، لأنه
عبادة وليس من أهلها، وخرج الصحة بناء على عدم اشتراط النية، وعلى الأول هل
يصح إن حضر المسلم وأمر الكافر؟ فيه قولان، ولا من مجنون بل من مميز، وخرج
عدم الصحة كأذانه، لأنه فرض وليس من أهله، والله أعلم.
قال: وتجمر أكفانه.
ش: أي تبخر.
1008 - لما روى جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا جمرتم الميت فأجمروه ثلاثا»
رواه أحمد.
(2/290)
1009 - وعن أسماء بنت أبي بكر - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمَا -، أنها قالت لأهلها: أجمروا ثيابي إذا مت، ثم حنطوني،
ولا تذروا في كفني حنوطا، ولا تتبعوني بنار. رواه مالك في الموطأ.
[تكفين الميت]
قال: ويكفن من ثلاثة أثواب، يدرج فيها إدراجا.
1010 - ش: قالت عائشة رضي لله عنها: «كفن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في ثلاثة أثواب بيض سحولية، من كرسف، ليس فيها قميص
ولا عمامة» . متفق عليه، وقال أحمد: إنه أثبت الأحاديث وأصحها، لأنها أعلم
من غيرها. وفي رواية: أدرج فيها إدراجا.
«تنبيه» سحولية نسبة إلى سحول - بفتح السين - قرية باليمن، وقيل: السحولية
المقصورة، كأنها نسبت إلى السحول وهو القصار، لأنه يسحلها أي يغسلها.
قال: ويجعل الحنوط فيها بينها.
(2/291)
ش: يحنط كفن الميت، لأن الحنوط مشروع،
بدليل قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في المحرم «ولا تحنطوه»
والمستحب في التحنيط أن يذر بين اللفائف، حتى على اللفافة [التي تلي جسد
الميت، قال في المجرد: التي تفرش أولا لا يذر فوقها حنوط. وظاهر كلام
الخرقي أنه لا يجعل الحنوط فوق اللفافة] . ونص عليه أحمد والأصحاب، لما
تقدم عن أسماء.
1011 - وعن عمر، وابنه وأبي هريرة أنهم كرهوا ذلك.
1012 - وعن الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: لا تجعلوا على
أكفاني حنوطا.
«تنبيه» الحنوط ما تطيب به أكفان الميت خاصة.
قال: وإن كفن في قميص، ومئزر، ولفافة، جعل المئزر مما يلي جلده، ولم يزر.
ش: الأولى التكفين في ثلاثة أثواب ليس فيها قميص كما تقدم، ويجوز التكفين
في قميص ومئزر، ولفافة، بالإجماع.
1013 - وروي عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: الميت يقمص
(2/292)
ويؤزر، ويلف بالثوب الثالث، فإن لم يكن إلا
ثوب واحد كفن فيه. رواه مالك في الموطأ.
1014 - وثبت «أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أعطى قميصه لعبد
الله بن أبي ليكفن فيه» .
1015 - وعن ابن عباس «أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كفن في
قميص وحلة نجرانية، الحلة ثوبان» ، رواه أحمد وأبو داود، لكن الثابت في
تكفينه هو الأول، ويجعل المئزر مما يلي جلده كما يفعل بالحي، وهل يزر
القميص؟ فيه [روايتان] : إحداهما - وهي اختيار الخرقي -: لا يزر عليه
القميص، نظرا لحال الحي في نومه، بل وهو الأفضل له مطلقا إلا لحاجة.
1016 - لأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان قميصه مطلقا،
(والثانية) : يزر عليه نظرا لحال الحي في زينته. والله أعلم.
(2/293)
قال: ويجعل الذريرة في مفاصله، ويجعل الطيب
في مواضع السجود والمغابن، ويفعل به كما يفعل بالعروس.
ش: يجعل الطيب في مفاصل الميت ومغابنه، وما ينثني من الإنسان، كطي الركبتين
وتحت الإبطين، وأصول الفخذين.
1017 - لأن أحمد روى في مسائل صالح أن ابن عمر كان يتتبع مغابن الميت
ومرافقه بالمسك. وفي مواضع سجوده تكريما لها.
1018 - ويفعل به كما يفعل بالعروس، كذا يروى عن النبي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
1019 - ويروى أن أنسا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لما ما طلي بالمسك، من
قرنه إلى قدميه.
(2/294)
1020 - وعن ابن عمر أنه طلا ميتا
[بالذريرة] .
قال: ولا يجعل في عينيه كافورا.
ش: لأن الكافور يفسدهما.
قال: وإن أحب أهله أن يروه لم يمنعوا.
1021 - ش: «قالت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: رأيت رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقبل عثمان بن مظعون وهو ميت، حتى
رأيت الدموع تسيل» .
1022 - وقبل الصديق النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثم بكى،
وقال: بأبي أنت وأمي يا رسول الله لن يجمع الله عليك موتتين.
قال: وإن خرج منه شيء يسير وهو في أكفانه لم يعد إلى الغسل. وحمل.
ش: [إذا خرج من الميت شيء يسير بعد وضعه في أكفانه لم
(2/295)
يعد إلى الغسل] بلا خلاف نعلمه بين
أصحابنا، لما في ذلك من الحرج والمشقة، والتأخير المخالف للسنة، مع أن
الخارج لا يبطل الغسل، إنما ينقض الوضوء.
وفي الكثير روايتان، أشهرهما - وهي المختارة عند الأكثرين - أن حكمه حكم
اليسير لما تقدم، قال الخلال: روى جماعة أنه لا يعاد، وما رواه ابن منصور
يمكن أن يكون. قاله مرة (والثانية) : - وهي أنصهما، وظاهر كلام الخرقي -
أنه يعاد، بخلاف اليسير، لفحشه، ولأن مثله يؤمن في المرة الثانية، لتحفظهم،
واحترازهم بالتلجم، قال ابن الزاغواني: قال بعض الأصحاب: إنما يعاد إذا كان
قبل السبع، أما بعدها فلا، وهو حسن. وإذا قلنا: لا يعاد. ففي غسل الكفن
وجهان، الغسل لعدم المشقة في ذلك، وعدمه تبعا للميت.
[كفن المرأة]
قال: والمرأة تكفن في خمسة أثواب، قميص ومئزر، ولفافة، ومقنعة، وخامسة تشد
بها فخذاها.
ش: لأن الكمال في حق الحية كذلك.
(2/296)
1023 - وقد روي «عن ليلى [بنت قانف]
الثقفية قالت: كنت فيمن غسل أم كلثوم بنت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فكان أول ما أعطانا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الحقو ثم الدرع، ثم الخمار، ثم الملحفة، ثم أدرجت بعد
في الثوب الآخر. قالت: ورسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
عند الباب، معه كفنها يناولنا ثوبا [ثوبا] » . رواه أحمد وأبو داود.
ولأنها تزيد على الرجل في اللباس في الحياة، فكذلك بعد الموت، وتلبس المخيط
في الإحرام، فكذلك بعد الموت.
واعلم أن ظاهر الحديث أنها تكفن في «مئزر» [وهو الحقو] «وقميص» وهو الدرع
«وخمار» وهو المقنعة، «ولفافتين» وهذا اختيار القاضي، وأبي محمد وجمهور
الأصحاب، والخرقي جعل الخامسة تشد بها فخذاها، يعني تحت المئزر، وهو منصوص
أحمد، واختيار أبي بكر.
1024 - لحديث يروى في ذلك رواه حرب، لتنضم بذلك، وحكى ابن الزاغوني وجها
آخر أنها تستثفر بها، وهو أن تشد في
(2/297)
وسطها خرقة، ثم يؤخذ أخرى فيشد أحد طرفيها
مما يلي ظهرها، والآخر مما يلي السرة، ويكون لجاما على الفرجين، ليؤمن بذلك
خروج خارج، وقال: إنه الأشهر عند الأصحاب، وشذ ابن حمدان، في الصغرى فزاد
على الخمسة ما يشد فخذيها، واختيار أبي البركات أنه يشد فخذيها بالإزار تحت
الدرع، وتلف فوق الدرع والخمار باللفافتين.
ومفهوم كلام الخرقي أن الصغيرة تخالف المرأة، ونص أحمد على أن الصبي يكفن
في خرقة، والجارية التي لم تبلغ في لفافتين وقميص، ثم اختلف في حد البلوغ،
فقيل عنه: إنه البلوغ المعتاد، وقيل - وهو الأكثر عنه - إنه بلوغ تسع سنين،
وإذا تساوي المرأة. والله أعلم.
قال: ويضفر شعرها ثلاثة قرون، ويسدل من خلفها.
ش: لأن في حديث أم عطية في غسل ابنة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - قالت: وضفرنا شعرها ثلاثة قرون، فألقيناها خلفها.
[حمل الجنازة]
قال: والمشي بالجنازة الإسراع.
ش: المشي بالجنازة المسنون فيه الإسراع.
1025 - لما روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
(2/298)
«أسرعوا بالجنازة، فإن تك صالحة فخير
تقدمونها إليه، وإن تك سوى ذلك فشر تضعونه عن رقابكم» متفق عليه.
1026 - وقال أبو بكرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لقد رأيتنا مع رسول الله
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وإنا نكاد نرمل بالجنازة رملا. قال
القاضي: والمستحب لا يخرج عن المشي المعتاد. قال أبو البركات: يمشي أعلى
درجات المشي المعتاد، وقد منع أحمد من شدة السير، وأمر بالرفق، بل ونقل عنه
أنه يسار مع الجنازة كيف سارت.
1027 - «وعن أبي موسى - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: [مرت] برسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جنازة تمخض مخض الزق، فقال رسول الله
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «عليكم القصد» رواه أحمد.
قال: والمشي أمامها أفضل.
1028 - ش: لما روى الزهري، عن سالم، عن أبيه، قال: رأيت النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبا بكر، وعمر يمشون أمام الجنازة. رواه
الخمسة، واحتج به أحمد في رواية أبي طالب ومهنا، لكن
(2/299)
قال في رواية الأثرم، وإبراهيم بن الحارث:
ما أراه محفوظا، عدة أرسلوه، وما أراه إلا من كلام الزهري. قيل له: فتذهب
إلى المشي أمام الجنازة؟ فقال: نعم.
1029 - ابن المنكدر سمع ربيعة [يقول] : رأيت عمر يقدم الناس أمام الجنازة؟
. وكذا قال الترمذي: إن أهل الحديث يرون أن
(2/300)
المرسل أصح. وهذا لا يخرج الحديث عن الحجية
على قاعدة أحمد في المرسل، [وقد] قال ابن المنذر: [ثبت] أن النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبا بكر، وعمر كانوا يمشون أمام الجنازة
ولأن المصلين شفعاء للميت.
1030 - قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ما من ميت
يصلي عليه أمة من المسلمين، يبلغون مائة، كلهم يشفعون له، إلا شفعوا فيه»
رواه مسلم وغيره. والشفيع يتقدم المشفوع له.
ومفهوم كلام الخرقي أن الراكب يخالف الماشي، وهو صحيح، فإنه السنة له أن
يكون خلفها، قال الخطابي: لا أعلمهم اختلفوا في أن الراكب خلفها.
1031 - وقد روى المغيرة بن شعبة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - قال: «الراكب يمشي خلف الجنازة، والماشي كيف شاء منها، والطفل
يصلى عليه» رواه أحمد والنسائي والترمذي وصححه. وكذلك أحمد في
(2/301)
رواية أحمد بن أبي عبدة.
قال: والتربيع أن توضع على كتفه اليمنى إلى الرجل، ثم الكتف اليسرى إلى
الرجل.
ش: يحتمل أن يكون معطوفا على ما تقدم، أي والمشي أمامها أفضل، والتربيع
أفضل، ثم بين صفته فقال: أن توضع أي وصفته أن توضع، وهذا هو المقصود، وإن
كان ظاهر كلامه بيان صفة التربيع فقط، أما أفضلية التربيع.
1032 - فلما روي عن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: من اتبع
جنازة فليحمل من جوانب السرير كلها، فإنه من السنة، ثم إن شاء فليتطوع، وإن
شاء فليدع. رواه ابن ماجه. ولا بأس بالحمل بين العمودين، نص عليه أحمد في
رواية ابن منصور.
1033 - لأنه «يروى أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حمل
جنازة سعد بن معاذ بين العمودين» .
(2/302)
1034 - وأن سعد بن أبي وقاص حمل عبد الرحمن
بن عوف بين العمودين.
1035 - وأن عثمان حمل سرير أمه بين العمودين، فلم يفارقه حتى وضع، وسأل أبو
طالب أحمد عن الحمل بين العمودين فقال: لا. قال القاضي: معناه لا أختاره.
وحمل ابن الزاغوني النص على ظاهره فجعل في [الكراهة روايتين، و [قد] قال
[أحمد] : إن عمر كرهه.
وأما صفته فأن يأخذ بجوانب] السرير الأربع، كما ذكر الخرقي، فيضع قائمة
النعش اليسرى - وهي التي تلي يمين الميت - على الكتف اليمنى، ثم ينتقل إلى
المؤخرة، ثم يضع قائمة النعش اليمنى على الكتف اليسرى، ثم ينتقل إلى
المؤخرة، هذا اختيار الخرقي وغيره، وهو المشهور عن أحمد، كما في الغسل يبدأ
بشقه الأيمن إلى رجله، ثم بالأيسر كذلك، ونقل عنه حنبل: يبدأ بالرأس، ويختم
بالرأس.
1036 - معتمدا على أن ابن عمر فعله والله أعلم.
(2/303)
[أحق الناس
بالصلاة على الميت]
قال: وأحق الناس بالصلاة عليه من أوصى أن يصلي عليه.
ش: هذا إجماع أو كالإجماع.
1037 - فعن أبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه أوصى أن يصلي عليه عمر،
قال أحمد. قال: وعمر أوصى أن يصلي عليه صهيب، وأم سلمة أوصت أن يصلي عليها
سعيد بن زيد، وأبو بكرة أوصى أن يصلي عليه أبو برزة، وقال غير أحمد: وعائشة
أوصت أن يصلي عليها أبو هريرة، وابن مسعود أوصى أن يصلي عليه الزبير.
1038 - وأوصى أبو سريحة أن يصلي عليه زيد بن أرقم، فجاء عمرو بن حريث - وهو
أمير الكوفة - ليتقدم فيصلي عليه، فقال ابنه: أيها الأمير إن أبي أوصى أن
يصلي عليه زيد بن أرقم. فقدم زيدا. وهذه قضايا اشتهرت من غير إنكار ولا
مخالف، فكانت إجماعا.
(2/304)
وشرط الوصي أن يكون مستور الحال، فلا تصح
لفاسق، لأنه غير مؤتمن، ولأن ذلك نوع ولاية، والفاسق ليس أهلا للولاية.
قال: ثم الأمير.
ش: أحق الناس بالصلاة عليه] بعد الوصي غير الفاسق الأمير، لعموم قوله: -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لا يؤمن الرجل في سلطانه، ولا يجلس
على تكرمته إلا بإذنه» رواه مسلم وغيره، وخرج منه الوصي لما تقدم، فيبقى
فيما عداه على مقتضى العموم، ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - وخلفاءه من بعده كانوا يصلون على الموتى، ولم ينقل أنهم
استأذنوا العصبة.
1039 - وعن أبي حازم قال: شهدت حسينا حين مات الحسن، وهو يدفع في قفا سعيد
بن العاص، أمير المدينة، وهو يقول: لولا السنة ما قدمتك.
(2/305)
1040 - وقال الحسن البصري أدركت الناس
وأحقهم بالصلاة على جنائزهم، من رضوه لفرائضهم. ذكره البخاري في صحيحه.
قال: ثم الأب وإن علا، ثم الابن وإن سفل، ثم أقرب العصبة.
ش: يقدم بعد الأمير في الصلاة على الميت الأب، ثم الجد وإن علا على الابن،
لأنه شارك [الابن] في العصوبة، وزاد عليه بالحنو والشفقة، وبهما يحصل كمال
الدعاء، الذي هو مقصود صلاة الجنازة، فقدم كالنكاح، ثم الابن وإن سفل،
لتقدمه في النكاح والإرث جميعا على الأخ ومن بعده، ثم أقرب العصبة، على
ترتيب الميراث، هذا اختيار الخرقي، وأبي بكر، والقاضي في التعليق، وأبي
محمد وغيرهم، وقال صاحب التلخيص فيه، وأبو البركات: يقدم بعد الأمير أقرب
العصبة. فيحتمل أنهما أرادا أن الابن يقدم على الأب، لأنه أقرب العصبة
بدليل الميراث، ويحتمل أنهما أرادا ما أراد الأصحاب، وغايته أن الأقرب
يختلف باختلاف الأبواب، وهذا أولى، توفيقا
(2/306)
بين كلام الأصحاب، يؤيده أن أبا البركات في
شرحه لم يحك خلافا في تقديم الأب على الابن، إنما حكى رواية بتقديم الابن
على الجد، والأخ وابنه أيضا عليه، كما في النكاح. انتهى، وفي تقديم الأخ
للأبوين على الأخ للأب أو التسوية بينهما قولان، من الروايتين في النكاح.
وظاهر كلام الخرقي أن العصبة [يقدم] على الزوج، وهو إحدى الروايتين عن
أحمد، واختيار الخلال وأبي محمد.
1041 - لأن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال لقرابة امرأته: أنتم أحق
بها. ذكره أحمد في رواية حنبل، ومحمد بن جعفر، محتجا به، ولأن النكاح يزول
بالموت، والقرابة باقية، وعلى هذا إن لم يكن عصبة فالزوج أولى نص عليه،
(وعن أحمد) رواية أخرى - اختارها القاضي في التعليق، وأبو الخطاب في
الخلاف، وأبو البركات - يقدم الزوج على العصبة.
1042 - لأن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: الرجل أحق بغسل
امرأته، وبالصلاة عليها. إلا أن أحمد قال: هذا منكر.
1043 - واحتج أحمد بقضية رويت عن أبي بكرة، تدل على أن الزوج أحق. والله
أعلم.
(2/307)
[كيفية الصلاة
على الميت]
قال: والصلاة عليه يكبر الأولى، ثم يقرأ الحمد لله، ثم يكبر الثانية ويصلي
على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كما يصلي عليه في التشهد،
ويكبر الثالثة ويدعو لنفسه، ولوالديه، ويدعو للمسلمين، ويدعو للميت، وإن
أحب أن يقول: اللهم اغفر لحينا، وميتنا، وشاهدنا، وغائبنا، وصغيرنا،
وكبيرنا، وذكرنا، وأنثانا، إنك تعلم منقلبنا ومثوانا، إنك على كل شيء قدير،
اللهم من أحييته منا فأحيه على الإسلام، ومن توفيته منا فتوفه على الإيمان،
اللهم إنه عبدك، وابن أمتك، نزل بك، وأنت خير منزول به، ولا نعلم إلا خيرا،
اللهم إن كان محسنا فجازه بإحسانه، وإن كان مسيئا فتجاوز عنه، اللهم لا
تحرمنا أجره، ولا تفتنا بعده، واغفر لنا وله. ويكبر الرابعة.
ش: أما كونه يكبر أربع تكبيرات - كما تضمنه كلامه -:
1044 - فلما في الصحيحين من حديث أبي هريرة وجابر، «أن النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى على أصحمة النجاشي، فكبر عليه أربعا» .
1045 - وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، «أن النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى على قبر بعد ما دفن، فكبر أربعا» . وأما
كونه يقرأ الحمد في الأولى فلعموم قوله: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب» .
(2/308)
1046 - وعن ابن عباس أنه صلى على جنازة،
فقرأ بفاتحة الكتاب، وقال: لتعلموا أنه من السنة. رواه البخاري وأبو داود،
والترمذي وصححه، والنسائي ولفظه: قرأ بفاتحة الكتاب وسورة، وجهر، فلما فرغ
قال: سنة وحق.
1047 - وقال مجاهد: سألت ثمانية عشر رجلا من أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن القراءة على الجنازة، فكلهم قال: يقرأ. رواه
الأثرم، ونقل عنه [البرزاطي] : إذا صلى على القبر يقرأ، كما يقرأ [إذا صلى]
على الجنازة؟ قال: لا يقرأ على القبر شيئا من القرآن. قال القاضي: المذهب
الصحيح وجوبها على القبر، لأن الجماعة رووا عنه جواز الصلاة على القبر، من
غير منع القراءة. وظاهر كلام الخرقي أنه لا يستفتح، ولا يتعوذ، وهو إحدى
الروايات، لبناء هذه الصلاة على التخفيف، والثانية: يستفتح،
(2/309)
ويتعوذ كغيرها، والثالثة: يتعوذ ولا
يستفتح، وبها قطع أبو البركات في محرره، وصححها في شرحه، للأمر بالتعوذ،
والاستفتاح لم يرد فيها.
«تنبيه» يسر بالقراءة، نص عليه وقال: إنما جهر ابن عباس ليعلمهم. وأما كونه
يصلي على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الثانية:
1048 - فلما روي عن أبي أمامة بن سهل - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، أن رجلا
من أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أخبره أن السنة في
الصلاة على الجنازة أن يكبر الإمام، ثم يقرأ بفاتحة الكتاب بعد التكبيرة
الأولى، سرا في نفسه، ثم يصلي على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - ويخلص الدعاء للجنازة، والتكبيرات لا يقرأ في شيء منهن، ثم
يسلم سرا في نفسه. رواه الشافعي في مسنده.
1049 - وقال أبو هريرة: إذا وضعت - يعني الجنازة - كبرت، وحمدت الله، وصليت
على نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. مختصر، رواه مالك في
الموطأ، [وصفة الصلاة على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كما
في التشهد،
(2/310)
لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -] لما سألوه: كيف نصلي عليك؟ علمهم ذلك، قال أبو محمد: وإن أتى
بالصلاة على غير ذلك فلا بأس، لأن القصد مطلق الصلاة، وقال أحمد في رواية
عبد الله: يصلي على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وعلى
الملائكة المقربين. وقال القاضي: يدعو عقيب الصلاة على النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للمؤمنين والمؤمنات فيقول: اللهم صل على
ملائكتك المقربين، وأنبيائك والمرسلين، وأهل طاعتك أجمعين، من أهل السماوات
وأهل الأرضين، إنك على كل شيء قدير.
وأما كونه يدعو في الثالثة لنفسه، ولوالديه، وللمسلمين، وللميت.
1050 - فلما روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «كان النبي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا صلى على جنازة قال: «اللهم اغفر
لحينا وميتنا، وشاهدنا وغائبنا، وصغيرنا وكبيرنا، وذكرنا وأنثانا، اللهم من
أحييته منا فأحيه على الإسلام، ومن توفيته منا فتوفه على الإيمان» رواه
أحمد، وأبو داود، وابن ماجه وزاد «اللهم لا تحرمنا أجره، ولا تضلنا بعده» .
(2/311)
1051 - وعن عوف بن مالك - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ - قال: «سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وصلى
على جنازة يقول: «اللهم اغفر له، واعف عنه وعافه، وأكرم نزله، ووسع مدخله،
واغسله بماء وثلج وبرد، ونقه من الخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس،
وأبدله دارا خيرا من داره، وأهلا خيرا من أهله، وزوجا خيرا من زوجه، وقه
فتنة القبر وعذاب النار» قال عوف: فتمنيت لو كنت أنا الميت، لدعاء النبي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لذلك الميت. رواه مسلم والنسائي،
والترمذي وصححه.
(2/312)
1052 - وعن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا صليتم على الميت فأخلصوا
له الدعاء» رواه أبو داود، وابن ماجه. وقوله: لا نعلم إلا خيرا. إنما يقوله
لمن لا يعلم منه شرا، لئلا يكون كاذبا.
1053 - وقد ذكر القاضي حديثا عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- وقال فيه: «ولا نعلم إلا خيرا» فقال بعض الصحابة: يا رسول الله وإن لم
أعلم خيرا؟ قال: «لا تقل إلا ما تعلم» .
1054 - وروي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: « «ما من
مسلم يموت فيشهد له ثلاثة أبيات من جيرانه الأدنين، إلا قال الله تعالى: قد
قبلت شهادة عبادي على ما علموا، وغفرت له ما أعلم» رواه أحمد.
(2/313)
قال: ويرفع يديه مع كل تكبيرة.
1055 - ش: لأنه يروى عن ابن عمر، رواه الشافعي، وعن ابن عباس، رواه سعيد،
وعن عمر، وزيد بن ثابت، رواه الأثرم.
قال: ويقف قليلا.
ش: يقف بعد التكبيرة الرابعة قليلا من غير دعاء، على ظاهر كلام الخرقي، وهو
إحدى الروايتين، قال أحمد: لا أعلم فيه شيئا، والثانية: يدعو فيها
كالثالثة، اختارها أبو البركات في شرحه.
1056 - لما روي «عن عبد الله بن أبي أوفى أنه ماتت ابنة له فكبر عليها
أربعا، وقام بعد الرابعة قدر ما بين التكبيرتين يدعو، ثم قال: كان النبي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصنع في الجنازة هكذا» . رواه أحمد،
واحتج
(2/314)
به في رواية الأثرم، وقال: لا أعلم شيئا
يخالفه. وفي صفة ما يدعو به وجهان (أحدهما) أنه يقول: {رَبَّنَا آتِنَا فِي
الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}
[البقرة: 201] اختاره ابن أبي موسى، وأبو الخطاب، وحكاه ابن الزاغوني عن
الأكثرين.
1057 - لأنه [قد] صح عن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه كان لا يدعو
بدعاء إلا ختمه بهذا الدعاء. (والثاني) : يقول: اللهم لا تحرمنا أجره، ولا
تفتنا بعده. اختاره أبو بكر، والمنصوص عن أحمد أنه يخلص الدعاء في الرابعة
للميت، بل قد نص في رواية جماعة أنه يدعو في الثالثة للمسلمين والمسلمات،
وفي الرابعة للميت، ومن هنا قال الأصحاب: لا تتعين الثالثة للدعاء، بل لو
أخر الدعاء للميت إلى الرابعة جاز. والله أعلم.
قال: ويسلم تسليمة واحدة عن يمينه.
ش: المشهور المختار المنصوص أنه يسلم تسليمة واحدة.
1058 - لما «روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى على جنازة
(2/315)
فكبر أربعا، وسلم تسليمة واحدة» ، رواه
الدارقطني، إلا أن أحمد قال: هذا عندي موضوع. والعمدة لأحمد فعل الصحابة.
1059 - وقال أحمد: التسليم على الجنازة تسليمة واحدة عن يمينك عن ستة من
أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليس فيه اختلاف إلا عن
إبراهيم.
وفيه رواية أخرى أنه يسلم ثنتين كبقية الصلوات، وجعل القاضي الثنتين
للاستحباب، والواحدة للجواز، وصفة التسليم أن يكون عن يمينه على المذهب،
ولو سلم تلقاء وجهه جاز، نص عليه، وجعله بعض الأصحاب الأولى، وكماله:
السلام عليكم ورحمة الله [وإن لم يقل: ورحمة الله. أجزأه] على المنصوص وفيه
احتمال.
«تنبيه» الواجب مما ذكره الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - القيام في فرضها، فلا
تصح من القاعد، ولا على الراحلة إلا لعذر، والتكبيرات،
(2/316)
وقراءة الحمد، والصلاة على النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -[إن أوجبناها في التشهد] ، وأدنى دعاء للميت،
ويسقط بعض واجباتها عن المسبوق كما سيأتي، وتجب لها أيضا النية، ولا يشترط
معرفة عين الميت، ولا ذكوريته وأنوثيته، بل تكفي نية الصلاة على الميت
الحاضر، ومن شرطها تطهير الميت بالغسل، أو بالتيمم عند تعذره، مع بقية شروط
الصلاة. والله أعلم.
قال: ومن فاته شيء من التكبير قضاه متتابعا.
ش: من فاته شيء من التكبير حتى سلم الإمام، قضاه بعد سلام إمامه متتابعا،
على منصوص أحمد، واختيار الخرقي، وابن عقيل في التذكرة، وأورده أبو البركات
مذهبا، لأنه بصدد أن ترفع الجنازة، فتحصل صلاة بلا جنازة، وقال أبو الخطاب
في الهداية متابعة للقاضي، وتبعهما أبو محمد في المقنع -: يقضيه على صفته،
إلا أن ترفع الجنازة فيقضيه متواليا، لعموم قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: «وما فاتكم فاقضوا» والقضاء يحكي الأداء، قال أبو البركات:
ومحل الخلاف فيما إذا خشي رفع الجنازة، أما إن علم بعادة أو قرينة - أنها
تترك حتى يقضي فلا تردد أنه يقضي التكبيرات بذكرها، على مقتضى تعليل
أصحابنا، والمراد بالقضاء على الصفة أن يأتي بالتكبير والذكر المشروع في
محله، فإذا أدرك الإمام في الدعاء تابعه فيه، ثم قام فأتى بالحمد، ثم أتى
بالصلاة على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على المذهب في أن
ما أدركه مع
(2/317)
الإمام آخر صلاته، وما يقضيه أولها، وعلى
القول بالعكس إذا دخل المسبوق قرأ الفاتحة، ثم بني على ذلك، والله أعلم.
قال: فإن سلم مع الإمام ولم يقض فلا بأس.
ش: المنصوص عن أحمد - وهو اختيار الخرقي، والقاضي وأصحابه، والشيخين - أن
قضاء ما فات المأموم من التكبير على سبيل الاستحباب، فلو سلم مع الإمام ولم
يقض فلا بأس.
1060 - لما روي «عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: يا رسول الله
إني أصلي على الجنازة، ويخفى علي بعض التكبير. فقال - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ما سمعت فكبري، وما فاتك فلا قضاء عليك» .
1061 - واعتمد أحمد على ما رواه العمري، عن نافع، عن ابن عمر أنه قال: لا
يقضي. وفي المذهب رواية أخرى، اختارها أبو بكر، أن القضاء على سبيل الوجوب،
فلو سلم ولم يقض بطلت صلاته، قياسا على بقية الصلوات، إذ التكبيرات بمنزلة
الركعات، ولعموم قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ما أدركتم
فصلوا، وما فاتكم فاقضوا» .
(2/318)
[كيفية دفن
الميت]
قال: ويدخل القبر من عند رجليه، إن كان أسهل عليهم.
1062 - ش: لما روى أبو إسحاق قال: أوصى الحارث أن يصلي عليه عبد الله بن
يزيد، فصلى عليه، ثم أدخله القبر من عند رجلي القبر، وقال: هذا من السنة.
رواه أبو داود.
1063 - وعن أنس أنه كان في جنازة، فأمر بالميت فسل من عند رجلي القبر، رواه
أحمد.
1064 - وعنه قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «
«يدخل [الميت] من قبل رجليه ويسل سلا» رواه ابن شاهين.
(2/319)
وقوله: إن سهل عليهم. احترازا مما إذا شق
ذلك، فإنه يفعل ما هو الأسهل إذ المقصود الرفق بالميت. والله أعلم.
قال: والمرأة يخمر قبرها بثوب.
ش: التخمير التغطية، أي: يغطى قبرها بثوب.
1065 - لأن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - كان يغطي قبر المرأة.
1066 - وعن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه مر بقوم قد دفنوا ميتا،
وبسطوا على قبره الثوب، فجذبه وقال: إنما يصنع هذا بالنساء، ولأنها عورة،
فربما ظهر منها شيء.
وخرج من كلام الرجل، لما تقدم، وليخرج عن مشابهة النساء.
قال: ويدخلها محرمها.
ش: يدخل المرأة القبر محرمها، وهو من كان يحل له النظر إليها، والسفر بها،
وهذا مما لا خلاف فيه والحمد لله، ولأن امرأة عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
- لما توفيت قال لأهلها: أنتم أحق بها.
وظاهر كلام الخرقي [أن] المحرم يقدم على الزوج، وهو بناء على قاعدته في
تقديمه عليه في الصلاة، وإذا قلنا ثم: إن الزوج يقدم، قدم هنا. والله أعلم.
(2/320)
قال: فإن لم يكن فالنساء.
ش: إذا عدمت المحارم فإن النساء يدخلنها القبر، لأنهن أحق بغسلها، ولهن
النظر إليها، فكن أحق من غيرهن، وعلى هذا يقدم الأقرب منهن فالأقرب، وحملها
أبو البركات على ما إذا لم يكن في دفنهن محذور، من اتباع الجنازة، أو
التكشف بحضرة الرجال، لأن منصوص أحمد كذلك، قال حرب: قيل لأحمد: امرأة ماتت
في طريق مكة، فغسلها النساء، وليس معها إلا محرم واحد، يدفنها الرجال؟ قال:
إن دفنها النساء أعجب إلي، وإن اضطروا إلى ذلك دفنوها. وعن أحمد: النساء لا
يستطعن أن يدخلن القبر، ولا يدفن. قال أبو محمد: وهذا أصح وأحسن.
1067 - لأن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حين ماتت ابنته
أمر أبا طلحة فنزل في قبرها» .
1068 - «ورأى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نسوة في جنازة
فقال: «هل تحملن؟» قلن: لا. قال: «هل تدلين فيمن يدلي؟» قلن: لا. قال:
«فارجعن مأزورات غير مأجورات» رواه ابن ماجه. وهو استفهام إنكار،
(2/321)
فيدل على أنه غير مشروع لهن بحال، وعلى كلا
الروايتين لا يكره للرجال دفنها، وإن كان محرمها حاضرا، والله أعلم.
قال: فإن لم يكن فالمشايخ.
ش: إذا لم يكن محارم ولا نساء، فالمشايخ والخصيان، لأنهم أقل شهوة، وأبعد
من الفتنة، وكذلك يليهم أهل الستر والصلاح.
«تنبيه» أولى الناس بدفن الرجل أولاهم بالصلاة عليه من أقاربه.
قال: ولا يشق الكفن في القبر، وتحل العقد حلا.
ش: لا يجوز شق الكفن [في القبر] لأنه إتلاف مستغنى عنه، ولم يرد الشرع به.
1069 - بل ورد بتحسين الكفن، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
«إذا كفن أحدكم أخاه فليحسن كفنه» وتخريفه يذهب بحسنه، ويستحب حل العقد [إذ
عقده كان] للخوف من انتشاره، وقد أمن ذلك بدفنه.
قال: ولا يدخل القبر آجرا، ولا خشبا، ولا شيئا مسته النار.
ش: لا يدخل القبر شيئا مسته النار، تفاؤلا بأن لا تمسه النار.
1070 - وقد روي عن أبي بردة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «أوصى أبو موسى
حين
(2/322)
حضره الموت فقال: لا تتبعوني بجمر. فقالوا
له: أوسمعت فيه شيئا؟ قال: نعم من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -» . رواه ابن ماجه، ولا آجرا، لأنه مما مسته النار.
1071 - وعن النخعي: أنهم كانوا يكرهون الآجر، والبناء بالآجر. رواه الأثرم.
1072 - وعن زيد بن ثابت أنه منع منه، وهذان الأثران - والله أعلم -[هما]
اللذان حديا الخرقي على ذكر الآجر، وإلا فهو مما مسته النار. ولا يدخله
خشبا، لأنه معد لمس النار.
1073 - وعن عمرو بن العاص: لا تجعلوا في قبري خشبا ولا حجرا. رواه أحمد.
ويستحب أن ينصب على اللحد اللبن.
1074 - قال سعد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: الحدوا لي لحدا، وانصبوا عليه
اللبن
(2/323)
نصبا، كما صنع برسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. رواه أحمد، ومسلم، والنسائي، ويلحق باللبن القصب،
واختلف عن أحمد أيهما أفضل، قال الخلال: كان أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -
يميل إلى اللبن، ثم مال إلى القصب، وهذا اختيار أبي بكر، والأول اختيار أبي
البركات، والله أعلم.
[حكم من فاتته صلاة الجنازة]
قال: ومن فاتته الصلاة عليه صلى على القبر.
1075 - ش: في الصحيحين عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أن النبي
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى على قبر بعد ما دفن، فكبر عليه
أربعا» .
1076 - وفي الصحيح أيضا عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، «أن امرأة
سوداء كانت تقم المسجد أو شابا، ففقدها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فسأل عنها أو عنه، فقالوا: مات. فقال: «أفلا كنتم
آذنتموني؟» قال: فكأنهم صغروا أمرها أو أمره، فقال: «دلوني على قبره» فدلوه
فصلى عليه، ثم قال: «إن هذه القبور مملوءة ظلمة على أهلها، وإن الله ينورها
لهم بصلاتي عليها» .
1077 - وقال أحمد: يروى عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من
ستة أوجه، أنه صلى على قبر [بعد] ما دفن.
(2/324)
وقد دل كلام الخرقي على أن الميت وإن صلي
عليه، يجوز لمن لم يصل عليه أن يصلي عليه، وهو كذلك، لما تقدم، بل قد قال
ابن حامد - واختاره أبو البركات -: إن من صلى عليه أيضا [يجوز] أن يصلي
عليه تبعا لمن لم يصل عليه، كما في إعادة الجماعة تعاد مع الغير، ولا تستحب
ابتداء، والمنصوص - وعليه الأكثرون - أن من صلى عليه مرة لا يصلي عليه مرة
أخرى، كما أن من سلم مرة، لا يسلم ثانية، نعم الأفضل أنها إذا صلى عليها
ورفعت لا توضع لأحد، ويصلي من فاتته على القبر، طلبا للمبادرة إلى دفنه،
وإن وضعت وصلى عليها ولم يطل الزمان جاز، والله أعلم.
قال: وإن كبر الإمام خمسا كبر بتكبيره.
ش: نص كلام الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن الإمام إذا كبر خمسا تابعه
المأمون في الخامسة، وظاهر كلامه أنه لا يتابعه فيما زاد على ذلك، وهذا
إحدى الروايات عن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - بل أشهرها.
1078 - لما «روى عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: [كان] زيد بن أرقم يكبر على
جنائزنا أربعا، وأنه كبر على جنازة خمسا، فسألته فقال: كان رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يكبرها» ، رواه الجماعة إلا البخاري.
(2/325)
1079 - وعن حذيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
- «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى على جنازة فكبر
خمسا» . مختصر رواه أحمد. (والرواية الثانية) : يتابع [يعني] إلى سبع ولا
يزيد على ذلك، اختارها عامة الأصحاب، الخلال، وصاحبه أبو بكر وابن بطة
وصاحبه أبو حفص، والقاضي، وجمهور أصحابه، الشريف، وأبو الخطاب، وولده أبو
الحسين، وأبو البركات.
1080 - لما روي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه كبر على [سهل بن حنيف
يعني ستا رواه البخاري.
(2/326)
1081 - وعنه أيضا أنه كبر على] أبي قتادة
سبعا، وقال: إنه شهد بدرا. ذكره أحمد محتجا به.
1082 - وعن الحكم بن عتيبة أنه قال: كانوا يكبرون على أهل بدر خمسا، وستا،
وسبعا. رواه سعيد في سننه. واعتمد أحمد على عموم قوله: - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنما جعل الإمام ليؤتم به» .
1083 - وعلى قول ابن مسعود: كبروا ما كبر إمامكم. هذا اللفظ رواه
(2/327)
سعيد والأثرم وفيه: لا وقت، ولا عدد،
(والرواية الثالثة) : لا يتابع في الزيادة على أربع. اختارها ابن عقيل، لأن
هذا هو الأكثر من فعله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فالظاهر أنه
آخر الأمرين.
1084 - يؤيده ما روى الأثرم بسنده عن ابن عباس قال: «آخر جنازة صلى عليها
النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كبر أربعا» .
1085 - وعن جابر عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال:
«صلوا على الميت أربع تكبيرات بالليل والنهار سواء» رواه أحمد. وهذا أمر
فيتعين، إلا أن في السند ابن لهيعة وفيه ضعف.
وعلى جميع الروايات فالمختار أربع، نص عليه أحمد في رواية الأثرم لأنه
الغالب على فعله، ولهذا اتفق الشيخان على إخراجه، والزائد فعله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليبين الجواز، وقصة زيد بن أرقم
(2/328)
تدل على ذلك، ولا خلاف أنه لا يتابع في
الزائد على سبع، قال أحمد: هو أكثر ما جاء فيه، فلا يزاد عليه.
«تنبيه» كل تكبيرة قلنا: يتابع الإمام فيها. فله وللمنفرد فعلها، وهل يدعو
فيها؟ قولان، وكل تكبيرة قلنا: لا يتابع فيها [الإمام] . فليس له ولا
للمنفرد فعلها، ومن خالف فزادها عمدا بطلت صلاته على وجه، إذ التكبيرة هنا
بمنزلة الركعة، ولم تبطل على المنصوص، لأنه ذكر مشروع، أشبه تكرار الفاتحة،
وعلى هذا فالمأموم لا يسلم قبله، بل ينتظره حتى يسلم معه، نص عليه والله
أعلم.
[موقف الإمام في صلاة الجنازة]
قال: والإمام يقوم عند صدر الرجل، وعند وسط المرأة.
ش: نص أحمد على هذا في رواية عشرة من أصحابه، وعليه عامة أصحابه، حتى أن
أبا محمد في المغني قال: لا يختلف المذهب أنه يقف عند صدر الرجل أو عند
منكبيه.
1086 - لما «روي عن أبي غالب الخياط - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قال: شهدت
أنس بن مالك صلى على جنازة رجل، فقام عند رأسه، فلما رفعت أتي بجنازة امرأة
فصلى عليها، فقام وسطها، وفينا العلاء بن زياد العدوي، فلما رأى اختلاف
قيامه على الرجل والمرأة فقال: يا أبا حمزة هكذا كان رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقوم من الرجل حيث قمت، ومن المرأة حيث قمت؟
قال: نعم» . رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي وحسنه، وابن ماجه، وفي لفظ
(2/329)
رواه أحمد: قال أبو غالب: صليت خلف أنس على
جنازة، فقام حيال صدره. وذكر الحديث.
1087 - «- وفي الصحيحين عن سمرة بن جندب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن
النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - – صلى على امرأة ماتت في
نفاسها، فقام وسطها» . ونقل عنه حرب: رأيته قام عند صدر المرأة. إلا أن
الخلال قال: سهى فيما حكى عنه. والعمل على ما رواه الجماعة، وروي عنه أنه
يقف عند رأس الرجل، وهو الذي قاله أبو محمد في المقنع، والكافي، وهو
المشهور في حديث أنس، قال أبو البركات: والقولان متقاربان، فإن الواقف عند
أحدهما يمكن أن يكون عند الآخر لتقاربهما، فالظاهر أنه وقف بينهما، وقد قال
أحمد في رواية الأثرم وذكر الحديث: يقف من الرجل عند منكبيه، ونحو هذا قال
أبو محمد في المغني.
(2/330)
وظاهر كلام الخرقي [أنهما] إذا اجتمعا وقف
منهما كذلك، وهو إحدى الروايات عنه، واختيار أبي الخطاب في خلافه،
والشيرازي قياسا على حال الانفراد. (والثانية) : - وهي المنصوصة عنه، وبها
قطع القاضي في التعليق، وفي الجامع، والشريف أبو جعفر - يسوى بين رأسيهما،
ويقف حذاء صدريهما.
1088 - لما روي عن الشعبي أن أم كلثوم بنت علي وابنها زيد بن عمر توفيا
جميعا، فأخرجنا جنازتهما، فصلى عليهما أمير المؤمنين، فسوى بين رؤوسهما
وأرجلهما حين صلى عليهما.
رواه سعيد في سننه، وقيل: إن هذه الجنازة حضرها ثمانون صحابيا، وفعله ابن
عمر، وعليه اعتمد أحمد. (والثالثة) : التخيير، مع اختيار التسوية. والله
أعلم.
قال: ولا يصلى على القبر بعد شهر.
ش: هذا هو المشهور في المذهب، لأنه لا يعلم بقاء الميت أكثر من ذلك، والذي
ورد في الصحيح كان قرب
(2/331)
الدفن، وجعل أبو محمد ما قارب الشهر في حكم
الشهر، وكذلك قال القاضي، وحده باليوم واليومين.
1089 - لما «روى سعيد بن المسيب أن أم سعد ماتت والنبي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غائب، فلما قدم صلى عليها، وقد مضى لذلك شهر» ، رواه
الترمذي واحتج به أحمد.
1090 - وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أن النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى على قبر بعد شهر» ، رواه الدارقطني، وأول
أبو بكر هذا على الشهر، قال: لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَتَعْلَمُنَّ
نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ} [ص: 88] يريد حينا.
وقيل: يجوز ما لم يبل الميت. وعن ابن عقيل الجواز مطلقا، لقيام الدليل على
الجواز، وما وقع من الشهر فاتفاق.
1091 - ويؤيده أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى على
قتلى أحد بعد ثمان سنين، رواه البخاري وغيره.
وابتداء الشهر من الدفن على المشهور، لأنه إذا يصير مقبورا، وقال ابن عقيل:
من الموت. وهو ظاهر حديث أم سعد. والله أعلم.
(2/332)
قال: وإن تشاح الورثة في الكفن جعل بثلاثين
درهما، فإن كان موسرا. فبخمسين.
ش: - الكفن معتبر بحال الميت، فإن كان موسرا كان كفنه رفيعا حسنا، على حسب
ما يلبس في الحياة، وإن لم يكن موسرا [فعلى حسب حاله] قال أبو محمد: وقول
الخرقي ليس على سبيل التحديد، إذ لا نص في ذلك ولا إجماع، ولعل الجيد
والمتوسط كان يحصل في زمنه بما ذكره، والكفن يجب في رأس المال، مقدما على
الدين وغيره.
ولم يتعرض الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - هل الواجب ثوب واحد أو أكثر من ذلك؟
والمشهور أن الواجب [ثوب] ساتر لجميع الميت، رجلا كان أو امرأة، اختاره ابن
عقيل، وأبو محمد، وقيل - وعزي إلى القاضي -: يجب في حقهما ثلاثة، وجعل صاحب
التلخيص محل الوجهين في نفوذ وصية الميت بإسقاط الثوبين، قال: وعلى كليهما
لا يملك الغرماء ولا الورثة المضايقة فيهما، وقيل: تجب الثلاثة: إلا مع
الدين المستغرق، وهذا اختيار أبي البركات في الشرح، وقيل: بل ثلاثة في حق
الرجل، وخمسة في حق المرأة، ويتلخص
(2/333)
خمسة أوجه، واعلم أن أبا البركات جوز وصية
الميت بالثوب الواحد بالإجماع، والله أعلم.
[الصلاة على السقط]
قال: والسقط إذا ولد لأكثر من أربعة أشهر غسل وصلي عليه.
ش: لأنه ميت فيه روح، أشبه المولود، ودليل الوصف يأتي إن شاء الله تعالى.
1092 - وقد روى المغيرة بن شعبة أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - قال: «الراكب يمشي خلف الجنازة، والماشي كيف شاء منها، والسقط
يصلى عليه» رواه أحمد، والنسائي، والترمذي وصححه [وكذلك أحمد في رواية أحمد
بن أبي عبدة] .
وشرط الخرقي الموت بعد أربعة أشهر، وهو منصوص أحمد في رواية حرب وصالح،
وعليه الشيخان وغيرهما، لأن من لم يستكملها فليس بميت، [لعدم نفخ الروح
فيه، والغسل والصلاة إنما شرعا لميت] .
(2/334)
1093 - والدليل على ذلك قول ابن مسعود -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: حدثنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -[وهو] الصادق المصدوق «إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين
يوما، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله إليه ملكا
بأربع كلمات، يكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أو سعيد، ثم ينفخ فيه الروح»
متفق عليه، وعليه اعتمد أحمد، وظاهر كلام أحمد - في رواية صالح، في موضع
آخر - تعليق الحكم بكونه تبين فيه خلق الإنسان، من غير نظر إلى الأربعة
أشهر، وكذلك ذكره ابن أبي موسى، وأبو بكر في التنبيه، وأبو الخطاب في
الهداية، وابن حمدان، والله أعلم.
قال: وإن لم يتبين أذكر هو أم أثنى سمي اسما يصلح للذكر والأنثى.
ش: يستحب تسمية السقط باسم الذكر إن تبين أنه ذكر، وباسم الأنثى إن تبين
[أنه أنثى، وبما يصلح لهما - كقتادة، وطلحة، ونحوهما - إن لم يتبين] حاله.
1094 - لأنه يروى عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -[أنه]
قال: «سموا أسقاطكم فإنهم أفراطكم» رواه أبو بكر، وقيل: الحكمة في ذلك
ليدعوا بأسمائهم يوم القيامة.
(2/335)
[تغسيل أحد
الزوجين للآخر]
قال: وتغسل المرأة زوجها.
ش: هذا هو المشهور المنصوص، الذي قطع به جمهور الأصحاب، وقد حكاه الإمام
أحمد، وابن المنذر، وابن عبد البر إجماعا.
1095 - ويشهد له قول عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: لو استقبلت من أمري
ما استدبرت ما غسل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلا
نساؤه. رواه أحمد وأبو داود، وابن ماجه.
1096 - وأوصى الصديق أن تغسله زوجته أسماء فغسلته، وحكى أبو
(2/336)
الخطاب في الهادية - وتبعه صاحب التلخيص
فيه، وأبو محمد في المقنع - رواية بالمنع، إذ البينونة حصلت بالموت، فتزول
عصمة النكاح، المبيحة للنظر واللمس، وإذا لا يجوز لها غسله كالأجنبية، وقد
حكى أبو البركات أن الرواية أثبتها ابن حامد وغيره، آخذين لها من رواية
صالح الآتية وغيرها، ولم يثبتها هو رواية، [قال] : لأن منطوق أحمد لا يدل
على المنع، ومفهومه كما يحتمل التحريم يحتمل الكراهة، فيحمل عليه، موافقة
للإجماع.
وقول الخرقي: وتغسل المرأة زوجها. يدخل فيه وإن لم تكن في عدة حال غسله،
كما إذا وضعت عقب موته، وهو كذلك، ويدخل فيه [أيضا] المطلقة الرجعية، لأنها
امرأته، وخرج المنع، بناء على تحريمها، ويخرج من كلامه المبتوتة في مرض
موته، لا تغسله، لأنها ليست زوجته، وفيه احتمال، بناء على الإرث.
قال: وإن دعت الضرورة إلى أن يغسل الرجل زوجته فلا بأس.
ش: كذلك قال ابن أبي موسى، وهو ظاهر كلام أحمد في رواية صالح، وقد سئل: هل
يغسل الرجل زوجته، والمرأة زوجها؟ قال: كلاهما واحد، إذا لم يكن من يغسلها،
فأرجو
(2/337)
أن لا يكون به بأس. وذلك لما تقدم من أن
البينونة حصلت بالموت، وإنما جاز مع الضرورة، لأن الضرورات تبيح المحظورات،
ولأنه ورد فيه نوع رخصة [فحمل على الضرورة، جمعا بين الأدلة، والفرق بين
المرأة تغسل زوجها، والرجل لا يغسل زوجته إلا عند الضرورة، أن المرأة لها
نوع رخصة] في النظر للأجنبي، بخلاف الرجل، إذ محذور الشهوة فيها أخف من
الرجل، (وعنه) [يجوز مطلقا] وهو المشهور عند الأصحاب، حتى أن القاضي في
الجامع الصغير، والشريف، وأبا الخطاب، في خلافيهما، [والشيرازي] لم يذكروا
خلافا، قياسا له عليها.
1097 - «وعن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: رجع رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من جنازة بالبقيع، وأنا أجد صداعا في
رأسي، وأقول: وارأساه. فقال: «بل أنا وارأساه، ما ضرك لو مت قبلي فغسلتك،
وكفنتك، ثم صليت عليك ودفنتك» رواه أحمد، وابن ماجه.
1098 - وعن علي أنه غسل فاطمة، إلا أن أحمد قال: ليس له إسناد.
(2/338)
ومرة قال: روي من طريق ضعيف. واحتج به في
رواية حنبل.
1099 - وقال في قول ابن عباس: الرجل أحق بغسل امرأته: إنه منكر. وقيل عنه
رواية بالمنع مطلقا، وتلخص أن في المسألة ثلاث روايات، الجواز مطلقا وهو
المشهور، والمنع مطلقا والجواز عند الضرورة، واعلم أن أبا محمد قد نفى هذا
القول، وحمل كلام الخرقي على التنزيه، وحمله ابن حامد والقاضي على ظاهره،
وهو أوفق لنص أحمد. والله أعلم.
[تغسيل الشهيد والصلاة عليه]
قال: والشهيد إذا مات في موضعه لم يغسل، ولم يصل عليه، ودفن في ثيابه.
ش: أما كون الشهيد لا يغسل:
1100 - فلما روى جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «كان رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يجمع بين الرجلين من قتلى أحد في
الثواب الواحد، ثم يقول: «أيهم أكثر أخذا للقرآن» ؟ فإذا أشير إلى أحدهما
قدمه في اللحد، وأمر بدفنهم في دمائهم، ولم يغسلوا، ولم يصل عليهم» ، رواه
البخاري، والنسائي، والترمذي وصححه.
(2/339)
1101 - ولأحمد «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال في قتلى أحد «لا تغسلوهم، فإن كل جرح، أو كل دم،
يفوح مسكا يوم القيامة» ولم يصل عليهم» .
وقول الخرقي: لا يغسل. [يعني] للموت، فلو كان به ما يقتضي الغسل من جنابة
أو غير ذلك، فإنه يغسل.
1102 - لما روى ابن إسحاق في المغازي، عن عاصم بن عمر بن قتادة، عن محمود
بن لبيد، «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إن صاحبكم
لتغسله الملائكة» يعني حنظلة «فاسألوا أهله ما شأنه؟» فسئلت صاحبته [عنه]
فقالت: خرج وهو جنب، حين سمع الهائعة. فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لذلك غسلته الملائكة» » .
(2/340)
وأما كونه لا يصلى عليه - وهو المشهور من
الروايات، واختيار القاضي، وعامة أصحابه - فلما تقدم.
1103 - وعن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن شهداء أحد لم يغسلوا، ودفنوا
بدمائهم، ولم يصل عليهم، رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي. والرواية
الثانية: يصلى عليهم. اختارها الخلال، وعبد العزيز في التنبيه، وأبو
الخطاب.
1104 - لما روى عقبة بن عامر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، «أن النبي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خرج يوما فصلى على قتلى أحد، صلاته
على الميت، ثم انصرف إلى المنبر فقال: «إني فرطكم، وأنا شهيد عليكم، وإني
والله لأنظر
(2/341)
إلى حوضي الآن، وإني أعطيت مفاتيح خزائن
الأرض - أو مفاتيح الأرض - وإني والله لا أخاف عليكم أن تشركوا بعدي، ولكن
أخاف عليكم أن تنافسوا فيها» متفق عليه واللفظ للبخاري.
1105 - وله أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى على قتلى أحد،
بعد ثمان سنين، كالمودع للأحياء والأموات.
1106 - وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، «أن النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى على قتلى أحد» .
1107 - «وعنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه صلى على حمزة» ،
وقد ضعف حديث ابن عباس من قبل رواته، وأنكر أحمد قضية حمزة، في رواية مهنا،
وقال: ليس له إسناد. وأما حديث عقبة
(2/342)
فقيل: خاص بقتلى أحد، توديعا للأحياء
والأموات، وفيه شيء، فإن الذي ورد أنه لم يصل عليهم هم قتلى أحد، فإما أن
يكون آخر الأمرين من فعله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هو
الصلاة، أو فعل ذلك ليبين الجواز، وهذا هو (الرواية الثالثة) : أنه يخير في
الصلاة وتركها، لورود الأمرين بهما، لكن الفعل أفضل، وعنه: الترك أفضل.
وأما كونه يدفن في ثيابه التي استشهد فيها - أي يكفن فيها - فلما تقدم.
1108 - وعن عبد الله بن ثعلبة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «زملوهم بدمائهم، فإنه ليس أحد يكلم في سبيل الله
إلا أتى يوم القيامة جرحه يدمأ، لونه لون الدم، وريحه ريح المسك» رواه
النسائي، وأحمد ولفظه «زملوهم في ثيابهم» .
وظاهر كلام الخرقي أن هذا على سبيل الوجوب، وهو المنصوص، وعليه جمهور
الأصحاب، منهم القاضي في الخلاف، وشذ في المجرد، فجعل ذلك مستحبا، وتبعه
على ذلك أبو محمد.
(2/343)
1109 - محتجا «بأن صفية أرسلت إلى النبي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثوبين، ليكفن فيهما حمزة، فكفنه رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في أحدهما، وكفن في الآخر
رجلا» . قال يعقوب بن شيبة: هو صالح الإسناد. وأجاب القاضي في الخلاف بأنه
يحتمل أن ثيابه سلبت، أو أنهما ضما إلى ما كان عليه.
1110 - قلت: وقد روي في المسند ما يدل على ذلك.
(تنبيهان) (أحدهما) : المراد بالشهيد هنا الذي قتل بأيدي الكفار، في
معركتهم، أما المقتول ظلما - كقتيل اللصوص
(2/344)
ونحوه - فهل يلحق بالشهيد، فلا يغسل، ولا
يصلى عليه، وهو اختيار القاضي وعامة أصحابه، لأنه شهيد، أشبه شهيد المعركة،
أو لا يحلق به، فيغسل، ويصلى عليه، وهو اختيار الخلال، لأن عمر، وعليا،
والحسين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - قتلوا ظلما، وغسلوا، وصلي عليهم؟ فيه
روايتان. واختلف في العادل إذا قتله الباغي، فقيل: حكمه حكم قتيل اللصوص،
وهو اختيار أبي بكر، والقاضي، وقيل: بل حكم قتيل الكفار، وهو المنصوص،
واختيار الشيخين.
1111 - لأن عليا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لم يغسل من قتل معه، وعمار أوصى
أن لا يغسل. أما الشهيد غير القتيل، كالمبطون، والمطعون، والنفساء، ونحوهم،
فحكمهم حكم بقية الموتى بلا نزاع، «وفي الصحيحين أن النبي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى على امرأة ماتت في نفاسها، فقام وسطها» .
(الثاني) : عدم غسل الشهيد قيل: دفعا للحرج والمشقة، لكثرة الشهداء في
المعترك، وقيل: لأنه لما لم يصل عليه لم يغسل، وقيل - وهو الصحيح -: لئلا
يزول أثر العبادة المطلوب بقاؤها، كما دل عليه حديث عبد الله بن ثعلبة،
وعدم الصلاة عليه قيل: لأنهم أحياء عند ربهم، والصلاة إنما شرعت على
الأموات، وقيل: لغناهم عن الشفاعة.
(2/345)
1112 - فإن الشهيد شفيع في سبعين من أهله.
(وفرط القوم) المتقدم عليهم في السير، السابق إلى الماء، أي أني متقدم بين
أيديكم، فإذا قدمتم علي تروني وتجدوني لكم منتظرا (والمنافسة) المغالبة على
تحصيل الشيء، والانفراد به، «وزملوهم» لفوهم. والله أعلم.
قال: وإن كان عليه شيء من الجلود أو السلاح [نحي عنه.
ش: قد تقدم أن الشهيد يدفن في ثيابه، فلو كان عليه شيء من الجلود والسلاح]
فإنه يزال عنه.
1113 - لما روى عبد الله بن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: «أمر
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم أحد بالشهداء أن تنزع
عنهم الحديد، والجلود، وقال: «ادفنوهم بدمائهم وثيابهم» رواه أحمد، وأبو
داود، وابن ماجه.
(2/346)
قال: وإن حمل وبه رمق غسل وصلي عليه.
ش: هذا الذي احترز عنه الخرقي في قوله: الشهيد إذا مات في موضعه. فلو حمل
وبه رمق، أي حياة مستقرة، ثم مات، فإنه يغسل، ويصلى عليه.
1114 - «لأن سعد بن معاذ أصابه سهم يوم الخندق، فحمل إلى المسجد، ثم مات
بعد ذلك، فغسله رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وصلى
عليه» .
وظاهر كلام الخرقي [أنه] لا يشترط لغسله والصلاة عليه طول الفصل، بل [لو]
مات عقب الحمل، وقد كانت فيه حياة مستقرة، فإنه يغسل، ويصلى عليه، وهو الذي
أورده أبو البركات مذهبا. وقيل: يشترط طول الفصل، وهو مختار أبي محمد، فلو
لم يطل الفصل لم يغسل، والله أعلم.
[تغسيل المحرم وتكفينه]
قال: والمحرم يغسل بماء وسدر، ولا يقرب طيبا، ويكفن في ثوبيه، ولا يغطى
رأسه ولا رجلاه.
1115 - ش: في الصحيحين وغيرهما عن عبد الله بن عباس - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا -، قال: «بينما رجل واقف مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - إذ وقع عن راحلته فأوقصته، وفي لفظ - فوقصته، فذكر ذلك لرسول
الله -
(2/347)
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
فقال: «اغسلوه بماء وسدر، وكفنوه في ثوبين، ولا تحنطوه، ولا تخمروا رأسه،
فإن الله يبعثه يوم القيامة ملبيا» وفي رواية «في ثوبيه» وفي أخرى «لا
تغطوا وجهه، ولا تقربوه طيبا» » وفي رواية لأبي داود: أن النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «اغسلوا المحرم في ثوبيه اللذين أحرم
فيهما، واغسلوه بماء وسدر، وكفنوه في ثوبيه، ولا تمسوه طيبا، [ولا تخمروا
رأسه] فإنه يبعث يوم القيامة محرما» » وهذا يبين أن المراد ليس ذلك المحرم
بعينه، وأن حكم الإحرام باق بعد موته.
وقول الخرقي: لا تغطى رجلاه. هو رواية حنبل عن أحمد، [وقد] أنكره الخلال،
وقال: لا أعرف هذا في الأحاديث، ولا رواه أحمد عن أبي عبد الله غير حنبل.
قال: وهو عندي وهم من حنبل، والعمل على أن يغطى جميع المحرم، إلا رأسه، لأن
الإحرام لا يتعلق بالرجلين، ولهذا لا يمنع من تغطيتهما في حياته، فكذلك بعد
مماته. قلت: قد يقال: كلام الخرقي وأحمد خرج على المعتاد، إذ في الحديث أنه
يكفن في ثوبيه، أي الرداء، والإزار [والإزار] العادة أنه لا يغطى من سرته
إلى رجليه، فخرج كلامهما على ذلك.
وظاهر كلام الخرقي أنه يغطى وجهه. وهو المشهور من الروايتين بناء على
المشهور [من] أنه يجوز تغطيته في حال
(2/348)
الحياة، ونظرا إلى أن الأكثر والأشهر في
الروايات ذكر الرأس فقط، وهذا إذا كان المحرم رجلا، أما إن كان امرأة
فحكمها بعد الموت حكمها في الحياة، لا تمنع من لبس المخيط، وتغطي رأسها لا
وجهها، والله أعلم.
قال: وإن سقط من الميت شيء غسل وجعل معه في أكفانه.
ش: إذا سقط من الميت شيء أو كان ساقطا - كبعض أعضائه - فإنه يغسل، ويجعل في
أكفانه، لأن بعضه جزء من أجزائه، [فأعطي حكم كله، ولما فيه من جمع أجزاء
الميت] في موضع واحد، وأنه أولى، والله أعلم.
قال: وإن كان شاربه طويلا أخذ وجعل معه في أكفانه.
ش: أما أخذه فلأن ذلك يراد للتنظيف، ويسن في حياته، من غير ضرر فيه، فكذلك
بعد وفاته، وأما جعله معه فلما تقدم، وفي معنى أخذ الشارب قلم الظفر، لأنه
في معناه، وعنه يكره قلم الظفر، لأنه من الجملة، ولهذا ينجس بالموت، بخلاف
الشعر.
واقتصار الخرقي على ذكر أخذ الشارب يقتضي أنه لا يختن، ونص عليه أحمد،
وحذارا من إزالة بعض أعضائه، ولأن المقصود من الختان التطهير من النجاسة،
وقد زال ذلك، والجنة لا بول فيها ولا تغوط.
(2/349)
ويقتضي كلامه أيضا أن عانته لا تؤخذ، وهي
اختيار أبي محمد، حذارا من كشف العورة ومسها، وهتك حرمة الميت، ونص أحمد -
في رواية صالح - على أخذها.
1116 - محتجا بأن سعد بن أبي وقاص - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - غسل ميتا،
فدعى بموسى. ولأنه من الفطرة، أشبه قلم الظفر، وهذا مختار الجمهور، والقاضي
في التعليق، وأبي الخطاب وصاحب التلخيص، وغيرهم، ثم قال القاضي في شرح
المذهب: تزال بنورة، نظرا إلى الأسهل، وحذارا من المس، وقال أحمد: تأخذ
بموسى أو بمقراض، نظرا لقصة سعد، والنورة ربما أتلفت الجسد، وخير أبو
الخطاب في الهداية بينهما. والله أعلم.
[حكم التعزية]
قال: ويستحب تعزية أهل الميت.
1117 - ش: عن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، أن النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من عزى مصابا فله مثل أجره» .
1118 - وعن أبي برزة، أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
قال: «من عزى ثكلى كسي بردافي الجنة» رواهما الترمذي.
(2/350)
«تنبيه» «ثكلى» المرأة تفقد ولدها ومن يعز
عليها، والله أعلم.
[البكاء على الميت]
قال: والبكاء عليه] غير مكروه، إذا لم يكن معه ندب ولا نياحة.
ش: إذا تجرد البكاء عن الندب والنياحة لم يكره.
1119 - لما «روى أنس بن مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: شهدنا بنت
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ورسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جالس على القبر، فرأيت عينيه تدمعان، فقال:
«هل فيكم من أحد لم يقارف الليلة؟» فقال أبو طلحة: أنا. فقال: «انزل في
قبرها» رواه البخاري.
(2/351)
1120 - «وعن ابن عمر قال: اشتكى سعد بن
عبادة شكوى، فأتاه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يعوده، مع
عبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الله بن مسعود، فلما دخلوا
عليه، وجده في غشية، فقال: «قد قضى؟» فقالوا: لا يا رسول الله. فبكى رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلما رأى القوم بكاءه بكوا،
فقال: «ألا تسمعون، إن الله لا يعذب بدمع العين، ولا بحزن القلب، ولكن يعذب
بهذا - وأشار إلى لسانه - أو يرحم» .
1121 - «وعن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: أصيب أبي يوم أحد، فجعلت
أبكي، فجعلوا ينهوني ورسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا
ينهاني، فجعلت عمتي فاطمة تبكي، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: «تبكين أو لا تبكين، ما زالت الملائكة تظله بأجنحتها حتى
رفعتموه» متفق عليهما.
1122 - «وعن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، أن سعد بن معاذ لما مات،
حضره رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبو بكر وعمر،
قالت: فوالذي نفسي بيده إني لأعرف بكاء أبي بكر، من بكاء عمر، وأنا في
حجرتي» رواه أحمد.
أما إن كان مع البكاء ندب - وهو تعداد محاسن الميت،
(2/352)
نحو: واسيداه، وارجلاه، ونحو ذلك، أو نوح -
فإنه يحرم، لما اشتمل عليه من ذلك.
1123 - ففي الترمذي وغيره عن أبي موسى - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قال:
سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «ما من ميت
يموت فيقوم باكيهم فيقول: واجبلاه، واسيداه، إلا وكل الله به ملكين
يلهزانه، ويقولان: أهكذا كنت؟» .
1124 - «وعن أم عطية - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: أخذ علينا رسول الله
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مع البيعة أن لا ننوح» . مختصر،
متفق عليه.
1125 - وعن أبي سعيد الخدري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «لعن رسول الله
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - النائحة، والمستمعة» . رواه أبو
داود، وقال أحمد - في قَوْله تَعَالَى: {وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ}
[الممتحنة: 12] إنه النياحة، وقد ورد ذلك مرفوعا.
1126 - «فعن أسماء بنت يزيد قالت: قالت امرأة من النسوة: ما هذا المعروف
الذي لا ينبغي لنا أن نعصيك فيه؟ قال: «لا تنحن» مختصر، رواه الترمذي.
(2/353)
وقيل: إذا تجرد الندب والنياحة عن اللطم،
ونتف الشعر، وذكر الميت بما ليس فيه، ونحو ذلك، كره ولم يحرم، وهو ظاهر
كلام الخرقي، وقيل عن أحمد ما يحتمل الإباحة، واختاره الخلال وصاحبه.
1127 - لأنه روي عن واثلة بن الأسقع، وأبي وائل أنهما كانا يستمعان النوح
ويبكيان، رواه حرب، والمذهب الأول.
1128 - وعليه حمل أبو محمد ما في الصحيح عن النبي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه» وفي رواية
«ليعذب ببكاء الحي عليه» وفي رواية «بما نيح عليه» فحمله على بكاء معه ندب
أو نياحة، وقيل: بل ما ورد محمول على من أوصى
(2/354)
بذلك، وهو قول الخطابي، وابن حامد من
أصحابنا كقول طرفة:
إذا مت فانعيني بما أنا أهله ... وشقي علي الجيب يا ابنة معبد
وقيل: بل يحمل على من أوصى بذلك، وقيل: محمول على من عادتهم وسنتهم النوح،
ولم يوصهم بترك ذلك. اختاره أبو البركات [لتفريطه، أما مع الوصية باجتناب
ذلك فلا، وهذا قول صاحب التلخيص] وقد حمل ذلك على ظاهره راويا الحديث عمر
وابنه - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وأنكرت ذلك عائشة - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهَا -.
(2/355)
1129 - ففي الصحيحين عنها أنها قالت: يرحم
الله عمر وابنه، ما حدث رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
أن الميت يعذب ببكاء أهله عليه، ولكن قال: «إن الله يزيد الكافر عذابا
ببكاء أهله عليه» وقالت: حسبكم القرآن {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ
أُخْرَى} [الأنعام: 164] قال ابن أبي مليكة: فما قال ابن عمر شيئا.
1130 - وقالت أيضا: يغفر الله لأبي عبد الرحمن، أما إنه لم يكذب، ولكن نسي
أو أخطأ. وفي رواية وهم - إنما مر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - على يهودية [يبكي عليها] فقال: «إنه ليبكى عليها لتعذب في
قبرها» .
1131 - وعن ابن عباس نحو هذا، وقال: والله أضحك وأبكى. انتهى.
ولا بأس باليسير من الكلام في صفة الميت، إذا كان صدقا، ولم يخرجه مخرج
النوح، قال أحمد: إذا ذكرت المرأة مثل ما حكي عن فاطمة، في مثل الدعاء لا
يكون مثل النوح.
(2/356)
1132 - والذي «حكي عن فاطمة ما رواه أنس
قال: لما ثقل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جعل يتغشاه
الكرب، فقالت فاطمة: واكرب أبتاه، فقال: «ليس على أبيك كرب بعد اليوم» فلما
مات قالت: يا أبتاه، أجاب ربا دعاه، يا أبتاه جنة الفردوس مأواه، يا أبتاه
إلى جبريل ننعاه» . رواه البخاري.
«تنبيه» «يقارف» .
1133 - «في مسند أحمد أن رقية لما ماتت، قال النبي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يدخل القبر رجل قارف الليلة أهله» فلم يدخل
عثمان بن عفان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - القبر» ، «والوزر» الإثم والذنب
المثقل للظهر، والمراد: لا يحمل أحد من المذنبين ذنب أحد، «واللهز» الدفع
في الصدر بجميع الكف، والله أعلم.
[صنع طعام لأهل الميت]
قال: ولا بأس أن يصلح لأهل الميت طعام يبعث به إليهم، ولا يصلحون هم طعاما
للناس.
ش: أما إباحة ذلك لغير أهل الميت:
1134 - فلما روي «عن عبد الله بن جعفر قال: لما جاء نعي جعفر حين قتل، قال
النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «اصنعوا لآل جعفر طعاما، فقد
أتاهم
(2/357)
ما يشغلهم» رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي
وحسنه.
وأما عدم إباحته لهم فلما علل به - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -،
من أنهم في شغل بمصابهم.
1135 - وعن جرير بن عبد الله البجلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: كنا
نعد الاجتماع إلى أهل الميت، وصنعة الطعام بعد دفنه من النياحة. رواه أحمد.
وظاهر كلام الخرقي أنه يباح لغير أهل الميت صنيع الطعام، ولا يباح لأهل
الميت، وقال غيره: ويسن لغير أهل الميت، ويكره لأهله، والله أعلم.
[موت المرأة وفي بطنها جنين]
قال: والمرأة إذا ماتت وفي بطنها ولد يتحرك، فلا يشق بطنها، وتسطو القوابل
عليه فيخرجنه.
ش: المذهب المنصوص - والذي عليه الأصحاب - أن المرأة إذا ماتت وفي بطنها
ولد يتحرك، أن بطنها لا يشق، لأن في الشق هتك حرمة متيقنة لإبقاء حياة
موهومة، إذ الغالب
(2/358)
والظاهر أن الولد لا يعيش، واحتج أحمد - في
رواية أبي داود - بما روت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، أن رسول الله
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «كسر عظم الميت ككسر عظم الحي»
رواه أبو داود، وابن ماجه، ورواه ابن ماجه من رواية أم سلمة، وزاد «في
الإثم» وتوقف أحمد عن ذلك في رواية الأثرم، ولم يجزم بحجية [الحديث] بل
قال: قيل: كسر عظم الميت ككسر عظم الحي. وحكى أبو الخطاب في الهداية ومن
بعده احتمالا بالشق، إذا غلب على الظن أن الولد يعيش لأن حفظ حرمة الحي
أولى، وكما لو خرج بعضه حيا، وتعذر إخراج باقيه من غير شق، [فإنه يشق] .
فعلى الأول تسطو عليه القوابل، أي يدخلن أيديهن في فرجها. فيخرجنه إن غلب
على ظنهن حياته، بحركته مع قرب ولادتها، ونحو ذلك.
فإن لم تقدر عليه النساء، أو لم يوجدن فهل يسطو عليه الرجال؟ فيه روايتان
(إحداهما) : لا يسطون ويترك حتى يموت، اختاره القاضي،
(2/359)
وصاحب التلخيص، وأبو محمد، وغيرهم، ويحتمله
كلام الخرقي، لما فيه من هتك حرمتها مع الرجال، مع بعد احتمال الحياة
(والثانية) : - وهي المنصوصة عنه، واختيار أبي بكر، وأبي البركات - يسطون،
لأن ذلك يحتمل في حق الأحياء، فالأموات أولى، ولم يقيد أحمد الرجل بالمحرم،
وقيده ابن حمدان بذلك، وحيث تعذر إخراجه فإنها تترك حتى يتيقن موته، قال
أحمد: ينتظرنها ما دام حيا، والله أعلم.
[حضور صلاة الجنازة مع صلاة أخرى]
قال: وإذا حضرت الجنازة، وصلاة الفجر، بدئ بالجنازة.
ش: لأنا إذا قدمنا الجنازة فعلناها في غير وقت نهي، أو في وقت اختلف فيه،
أما إن أخرناها، فإننا نفعلها في وقت نهي بلا نزاع، فكانت البداءة بها
أولى، وكذلك إذا حضرت [الجنازة] وصلاة العصر، بدئ بالجنازة بطريق الأولى،
إذ وقت النهي إنما يدخل بفعل الصلاة على المذهب، بخلاف الفجر، فإن وقت
النهي فيها يدخل بطلوع الفجر على المذهب، والله أعلم.
قال: وإن حضرت وصلاة المغرب بدئ بالمغرب.
ش: إذا حضرت الجنازة وصلاة المغرب، بدئ بالمغرب، لتأكد المغرب، ولكراهة
تأخيرها، ولا محذور في تأخير الجنازة، إذ لا نهي بعد الغروب، وكذا إذا حضرت
وصلاة الظهر أو العشاء، بدئ بالعشاء والظهر، لتأكدهما. والله أعلم.
(2/360)
[صلاة الجنازة
على مرتكب الكبيرة]
قال: ولا يصلي الإمام على الغال، ولا على من قتل نفسه.
ش: الغال هو الذي يكتم الغنيمة أو بعضها، فلا يصلي الإمام عليه، ولا على من
قتل نفسه عمدا. على المنصوص، والمذهب بلا ريب.
1136 - لما روى جابر بن سمرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، «أن النبي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جاءوه برجل قد قتل نفسه بمشاقص، فلم
يصل عليه» . رواه مسلم وغيره.
1137 - وفي السنن عن زيد بن خالد الجهني - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال:
«توفي رجل من جهينة يوم خبير، فذكر ذلك لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: «صلوا على صاحبكم» فتغيرت وجوه القوم، فلما رأى
ما بهم قال: «إن صاحبكم غل في سبيل الله» ففتشنا متاعه، فوجدنا فيه خرزا من
خرز اليهود، ما يساوي درهمين» . رواه الخمسة إلا الترمذي واحتج به أحمد،
فامتنع - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من الصلاة عليه، وهو الإمام،
وأمر غيره بالصلاة عليه، وكذلك روي عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - –
(2/361)
فيمن قتل نفسه، قال أحمد وسئل: من قتل نفسه
يصلى عليه؟ - قال: - أما الإمام فلا يصلي عليه، وأما الناس فيصلون عليه،
«هكذا فعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالذي قتل نفسه، لم
يصل عليه، وأمرهم أن يصلوا عليه» ، وإذًا يلحق به غيره من الأئمة، إذ ما
ثبت في حقه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثبت في حق غيره، ما لم
يقم دليل يخصه، وجعل أبو البركات ترك صلاة الإمام استحبابا، من باب الردع
والزجر، وعدى ذلك إلى كل معصية ظاهرة، مات عنها صاحبها من غير توبة.
(تنبيه) الإمام هنا هو أمير المؤمنين خاصة، قاله الخلال وغيره، ونقل عنه
حرب أن الإمام هو الوالي، وأن إمام كل قرية واليهم، وخطأ الخلال حربا،
وقال: إن الذي عليه العمل من قوله هو الأول. قاله أبو البركات: وهذا تحكم،
والصحيح تصويبه، وجعل ذلك رواية.
قال: وإذا حضرت جنازة رجل وامرأة، وصبي، جعل الرجل مما يلي الإمام، والمرأة
خلفه، والصبي خلفهما.
ش: لا خلاف في المذهب أن الرجل الحر يلي الإمام، لشرفه بالذكورية، والحرية،
والتكليف، ثم بعده هل يقدم الصبي لشرفه بالحرية، وهو اختيار الخلال، أو
العبد البالغ، لشرفه بالتكليف، وهو اختيار القاضي في التعليق، وأبي محمد،
وظاهر كلام الخرقي؟ فيه روايتان منصوصتان، ثم [من] بعد الصبي المرأة، لشرفه
بالذكورية، فيقدم عليها،
(2/362)
نص عليه أحمد في رواية صالح، وأبي الحارث.
1138 - ويشهد له ما «روى عمار مولى بني هاشم، قال: شهدت جنازة صبي وامرأة،
فقدم الصبي مما يلي القوم، ووضعت المرأة وراءه، وفي القوم أبو سعيد الخدري،
وابن عباس، وأبو قتادة، وأبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، فقلنا
لهم: فقالوا: السنة» . وقال الخرقي: يؤخر الصبي عن المرأة، لشرف المرأة
بالتكليف، وهذا الذي نصبه القاضي في التعليق، ولم يذكر به نصا، والخنثى
يقدم على المرأة لاحتمال ذكوريته، والله أعلم.
قال: وإن دفنوا في قبر واحد جعل الرجل مما يلي القبلة، والمرأة خلفه،
والصبي خلفهما، ويجعل بين كل اثنين حاجز من تراب.
ش: لا إشكال أن جهة القبلة في الدفن هي الجهة الفاضلة، فيقدم الأفضل ثم
الذي يليه إليها، على ما تقدم في تقديمهم إلى الإمام، ويشهد لذلك ما سيأتي
إن شاء الله تعالى.
(2/363)
وقد تضمن كلام الخرقي أنه يجوز دفن الاثنين
والثلاثة في قبر واحد، وهو صحيح، نص عليه أحمد والأصحاب.
1139 - لما روى هشام بن عامر قال: «شكونا إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم أحد، فقلنا، يا رسول الله، الحفر علينا لكل إنسان
شديد. فقال: «احفروا، وأعمقوا، وأحسنوا، وادفنوا الاثنين والثلاثة في قبر
واحد» قالوا: فمن نقدم يا رسول الله؟ قال: «قدموا أكثرهم قرآنا» وكان أبي
ثالث ثلاثة في قبر واحد» . رواه النسائي، والترمذي بنحوه وصححه.
فإن اختلفت أنواعهم - كرجال ونساء - قدم إلى القبلة من [يقدم] إلى الإمام
عند الصلاة عليه، هذا كله مع الضرورة، لكثرة الموتى ونحو ذلك، أما مع [عدم]
الضرورة فالذي عليه عامة الأصحاب أنه لا يدفن في القبر إلا واحد، لأن
«النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يدفن كل واحد في قبر» ،
وعلى ذلك استمر فعل الصحابة، ومن بعدهم من السلف والخلف، ونقل عنه أبو طالب
إذا ماتت امرأة وقد ولدت ولدا ميتا، فدفن معها، جعل بينها وبينه حاجز من
تراب، أو يحفر له في ناحية منها، وإن لم يدفن معها فلا بأس، فظاهر هذا جواز
(2/364)
دفن الاثنين في قبر من غير ضرورة بلا
كراهة، وهو ظاهر إطلاق الخرقي، ويحتمل أن يختص كلام أحمد [بما] إذا كانا أو
أحدهما ممن لا حكم لعورته لصغره، كحالة النص.
وحيث دفن في القبر اثنان فأكثر جعل بين كل اثنين حاجز من تراب، ليجعل كأن
كل واحد منهما منفرد بقبر، والله أعلم.
قال وإذا ماتت نصرانية وهي حامل من مسلم، دفنت بين مقبرة المسلمين
والنصارى.
ش: لأنها إن دفنت في مقبرة المسلمين تأذوا بعذابها، وإن دفنت في مقبرة
النصارى تأذى الولد بعذابهم، فتدفن وحدها، وقد حكى هذا أحمد عن واثلة بن
الأسقع.
فإن قيل: فالولد على كل حال يتأذى بعذابها؟ (قيل) : هذا محل ضرورة، وهو أخف
من عذاب المجموع. انتهى، ويجعل ظهرها إلى القبلة، على جنبها الأيسر، لأن
الولد إذًا يكون إلى القبلة، على جنبه الأيمن، لأن وجهه إلى ظهرها. والله
أعلم.
(2/365)
قال: ويخلع النعال إذا دخل المقابر.
ش: يستحب خلع النعال في المقبرة، ويكره المشي فيها إذًا.
1140 - لما «روى بشير مولى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
-[قال: (بينما أنا أماشي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -]
مر بقبور المشركين، فقال: «لقد سبق هؤلاء خيرا كثيرا» ثلاثا، ثم مر بقبور
المسلمين فقال: «لقد أدرك هؤلاء خيرا كثيرا» ثم حانت من رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نظرة، فإذا رجل يمشي عليه نعلان، فقال له:
«يا صاحب السبتيتين ألقهما» فنظر الرجل فلما عرف رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خلعهما، فرمى بهما) » . رواه أبو داود،
والنسائي، واحتج به أحمد في رواية حنبل وغيره، وقال: هذا أمر من النبي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وصححه في رواية محمد بن الحكم، ونقل
عنه ما يدل على جواز ذلك من غير كراهة.
(2/366)
ومفهوم كلام الخرقي أنه لا يخلع ما عدا
النعال من الخفاف، والتمشكات، وغيرهما، ولذلك قال القاضي: لا تتعدى الكراهة
إلى التمشكات، ولا إلى غيرها، قصرا للنص على موضعه، وقيل بتعديه إلى
التمشكات، لأنه في معنى النعل، لا إلى الخف؛ لأن في الخلع مشقة، ولهذا كان
أحمد يلبس الخفاف في المقابر.
(تنبيه) السبتية نسبة إلى السبت، جلود مدبوغة بالقرض، يتخذ منها النعال،
والله أعلم.
[زيارة القبور]
قال: ولا بأس أن يزور الرجال المقابر.
ش: تستحب للرجال زيارة القبور، على المنصوص، والمشهور عند الأصحاب.
1141 - لما روى بريدة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «نهيتكم عن
زيارة القبور فزوروها، ونهيتكم عن لحوم
الأضاحي فوق ثلاث، فأمسكوا ما بدا لكم، ونهيتكم عن النبيذ إلا في سقاء،
فاشربوا في الأسقية كلها، ولا تشربوا مسكرا» رواه مسلم وغيره.
(2/367)
وقيل: يباح ولا يستحب، وهو ظاهر كلام
الخرقي؛ لأن في رواية أحمد والنسائي عن بريدة «ونهيتكم عن زيارة القبور فمن
أراد أن يزور فليزر، ولا تقولوا هجرا» وهو الغالب في الأمر بعد الحظر، لا
سيما وقد قرنه بما هو مباح، وهو ادخار لحوم الأضاحي، والانتباذ في كل سقاء.
قال: ويكره للنساء. والله أعلم.
ش: هذا إحدى الروايتين عن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال: لا تخرج المرأة
إلى المقابر، ولا [إلى] غيرها.
1142 - وذلك لما روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن النبي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعن زوارات القبور» رواه أحمد، وابن
ماجه، والترمذي وصححه.
1143 - وروي أيضا من حديث حسان، وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -
(2/368)
وهذا النهي خاص بالنساء، وذلك النهي والأمر
يحتمل أنهما خاصان بالرجال، ويحتمل أنهما لهما، ويحتمل أن هذا الحديث بعد
الإذن في الزيارة، وإذا دار الأمر بين الحظر والإباحة، فأقل الأحوال
الكراهة، بل لو قيل بالحظر لم يكن بعيدا، لا سيما والمرأة قليلة الصبر،
فالظاهر تهييج حزنها، برؤية قبور أحبتها، فقد يقع منها ما لا ينبغي.
1144 - وقد روي عن عبد الله بن عمرو قال: «بينما نحن نسير مع رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذ بصر بامرأة لا نظن أنه عرفها، فلما
توسط الطريق وقف، حتى انتهت إليه، فإذا هي فاطمة بنت رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال لها: «ما أخرجك من بيتك يا فاطمة؟»
فقالت: أتيت أهل هذا البيت فرحمت إليهم، وعزيتهم بميتهم. قال: «لعلك بلغت
معهم الكدى؟» قالت: معاذ الله أن أكون بلغتها، وقد سمعتك تذكر في ذلك ما
تذكر. فقال: «لو بلغتها معهم، ما رأيت الجنة، حتى يراها جد أبيك» رواه
أحمد، والنسائي، وهذا لفظه، وقد صحح وضعف. وحسن.
(2/369)
والرواية الثانية: يباح لها ذلك، قال أحمد:
أرجو أن لا يكون به بأس، وذلك لعموم حديث بريدة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
1145 - وعن عبد الله بن أبي مليكة «أن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -
أقبلت ذات يوم من المقابر، فقلت لها: يا أم المؤمنين، من أين أقبلت؟ قالت:
من قبر أخي عبد الرحمن. فقلت لها: أليس كان نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن زيارة القبور؟ قالت: نعم، كان نهى عن زيارة
القبور، ثم أمر بزيارتها» . رواه الأثرم في سننه، واحتج به أحمد في رواية
إبراهيم بن الحارث، ففهمت دخولهن في العموم.
واعلم أن الخلاف السابق حكاه أبو الخطاب في الهداية، والشيخان وغيرهم في
الكراهة، وحكاه صاحب التلخيص في التحريم، ولعله أوفق لنص أحمد، وجمع ابن
حمدان الطريقتين، فحكى ثلاث روايات، الإباحة، والكراهة، والتحريم.
وعلى جميع الروايات متى علمت من نفسها أنها متى زارت بدا منها ما لا يجوز،
لم تجز لها الزيارة قولا واحدا.
(2/370)
[آداب زيارة
القبور]
«تنبيهان» (أحدهما) يقول الزائر لها، والمار عليها:
1146 - ما روت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: «كان رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كلما كان ليلتها من رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخرج من آخر ليلتها إلى البقيع،
فيقول: «السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وأتاكم ما توعدون، غدا مؤجلون، وإنا
إن شاء الله بكم لاحقون، اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد» .
1147 - وعن بريدة قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- يعلمهم إذا خرجوا إلى المقابر وكان قائلهم يقول: «السلام على أهل الديار
- وفي لفظ - السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء
الله بكم للاحقون، أسأل الله لنا ولكم العافية» رواهما مسلم. ويخير في
السلام بين التنكير والتعريف، للأحياء والأموات؛ لأن السنة وردت بذلك، وقال
ابن عقيل: في الأحياء التنكير، وفي الأموات التعريف. ورد بالسنة، وبأن أحمد
نص في رواية أبي طالب في السلام على الأحياء معرفا، ونص في السلام على
الأموات على التعريف والتنكير.
(الثاني) : «الهجر» بالفتح الهذيان، وهو النطق بما لا يفهم، «والكدى» جمع
كدية وهي الأرض الصلبة، لأن مقابرهم كانت في مواضع صلبة، والله أعلم.
(2/371)
|