شرح الزركشي على مختصر الخرقي

 [كتاب الزكاة]
ش: الزكاة في اللغة النماء، والزيادة، والتطهير، قال الواحدي: الأظهر أنها مشتقة من: زكى الزرع يزكو زكاء بالمد إذا زاد. قال: والزكاة أيضا الصلاح يقال: رجل زكي - أي زائد الخير - من قوم أزكياء: وزكى القاضي الشهود. إذا بين زيادتهم في الخير، فسمي المال المخرج زكاة؛ لأنه يزيد في المخرج منه، ويقيه الآفات. وفي عرف الشرع اسم لإخراج شيء مخصوص، من مال مخصوص، على وجه مخصوص.
وهي مما علم وجوبها من دين الله بالضرورة، وقد قال عز من قائل {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43] .
1148 - وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لمعاذ بن جبل حين بعثه إلى اليمن «أخبرهم أن الله قد فرض عليهم صدقة، تؤخذ من أغنيائهم، فترد على فقرائهم» مختصر متفق عليه.

(2/372)


[في آي وأخبار سوى هذين] ، وأجمع الصحابة على وجوبها، وعلى قتال مانعيها، والله أعلم.

[زكاة الإبل]
قال: وليس فيما دون خمس من الإبل سائمة صدقة.
ش: اعلم أن الذي تجب فيه الزكاة في الجملة أربعة أنواع (بهيمة الأنعام) ، وهي الإبل والبقر، والغنم (والخارج) من الأرض، (والأثمان) ، (وعروض التجارة) ، وأكثر هذه، وأعمها عند العرب، بهيمة الأنعام، وأنفس بهيمة الأنعام عندهم الإبل، فلذلك بدأ بها الخرقي، وقد انعقد الإجماع على وجوب الزكاة في الإبل في الجملة، وأن أقل نصاب الإبل خمس، فما دون الخمس لا شيء فيها، وقد جاءت السنة مصرحة بذلك.
1149 - ففي الصحيحين أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ليس فيما دون خمس ذود صدقة» مع ما يأتي إن شاء الله تعالى، والذود: ما بين الثلاث إلى العشر من الإبل، وقيل: ما بين الثنتين إلى التسع، وهي مؤنثة لا واحد لها من لفظها، والله أعلم.

قال: فإذا ملك خمسا من الإبل، فأسامها أكثر السنة ففيها شاة، وفي العشر شاتان، وفي خمس عشرة ثلاث شياه، وفي العشرين أربع شياه.
ش: هذا أيضا مجمع عليه بحمد الله تعالى.

(2/373)


1150 - والأصل في الباب ما «روى أنس بن مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، [أن أبا بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -] لما استخلف كتب له، حين وجهه إلى البحرين هذا الكتاب، وكان نقش الخاتم ثلاثة أسطر «محمد» سطر، «ورسول» سطر، «والله» سطر، بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، هذه فريضة الصدقة، التي فرضها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والتي أمر الله بها رسوله، فمن سئلها من المسلمين على وجهها فليعطها، ومن سئل فوقها فلا يعط، في أربع وعشرين من الإبل فما دونها من الغنم، في كل خمس شاة، فإذا بلغت خمسا وعشرين، إلى خمس وثلاثين ففيها بنت مخاض، فإن لم يكن بنت مخاض فابن لبون، فإذا بلغت ستا وثلاثين إلى خمس وأربعين ففيها بنت لبون أنثى، فإذا بلغت ستا وأربعين إلى ستين ففيها حقة طروقة الفحل، فإذا بلغت واحدة وستين إلى خمس وسبعين ففيها جذعة، فإذا بلغت ستا وسبعين إلى تسعين ففيها بنتا لبون، فإذا بلغت إحدى وتسعين إلى عشرين ومائة ففيها حقتان، طروقتا الفحل، فإذا زادت على عشرين ومائة، ففي كل أربعين بنت لبون، وفي كل خمسين حقة، ومن لم يكن عنده إلا أربع من الإبل فليست فيها صدقة إلا أن يشاء ربها، فإذا بلغت خمسا من الإبل ففيها شاة، وصدقة الغنم في سائمتها إذا كانت أربعين، إلى عشرين ومائة شاة شاة، فإذا زادت على عشرين ومائة إلى مائتين ففيها شاتان، فإذا زادت على مائتين إلى ثلاث مائة ففيها ثلاث شياه، فإذا زادت على ثلاثمائة ففي كل مائة شاة، فإذا كانت سائمة الرجل ناقصة من أربعين شاة شاة واحدة، فليس فيها صدقة إلا أن يشاء ربها، ولا يجمع بين متفرق ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة، وما كان من خليطين فإنهما يتراجعان

(2/374)


بينهما بالسوية، ولا يخرج في الصدقة هرمة، ولا ذات عوار، ولا تيس إلا أن يشاء المصدق، وفي الرقة ربع العشر، فإن لم تكن إلا تسعين ومائة، فليس فيها صدقة إلا أن يشاء ربها، ومن بلغت عنده من الإبل صدقة الجذعة، وليس عنده جذعة، وعنده حقة، فإنها تقبل منه الحقة، ويجعل معها شاتين إن استيسرتا له، أو عشرين درهما، ومن بلغت عنده صدقة الحقة، وليست عنده الحقة، وعنده الجذعة، فإنها تقبل منه الجذعة، ويعطيه المصدق عشرين درهما أو شاتين، ومن بلغت عنده صدقة الحقة، وليست عنده إلا ابنة لبون، فإنها تقبل منه بنت لبون ويعطي شاتين، أو عشرين درهما، ومن بلغت صدقته بنت لبون، وعنده حقة، فإنها تقبل منه الحقة، ويعطيه المصدق عشرين درهما أو شاتين، ومن بلغت صدقته بنت لبون، وليست عنده، وعنده بنت مخاض، فإنها تقبل منه بنت مخاض، ويعطي معها عشرين درهما أو شاتين، ومن بلغت صدقته بنت مخاض، وليست عنده، وعنده بنت لبون فإنها تقبل منه، ويعطيه المصدق عشرين [درهما] أو شاتين فإن لم يكن عنده بنت مخاض على وجهها وعنده ابن البون فإنه يقبل منه وليس معه شيء، وفي رواية «ابن لبون ذكر» رواه البخاري. قال الحميدي: في عشرة مواضع من كتابه، بإسناد واحد مقطعا، والنسائي، وأبو داود، وأحمد، وقال في رواية ابن مشيش - وسئل أي الأحاديث أثبت عندك في الصدقات؟ فقال -: ما أصح حديث ثمامة بن أنس يرويه حماد بن سلمة وقال في رواية الميموني: لا أعلم في الصدقة أحسن

(2/375)


منه. انتهى، وهو أصل عظيم يعتمد، وقد قال فيه: «إن في أربع وعشرين من الإبل فما دونها من الغنم، في كل خمس شاة» .
«تنبيه» وهذا الشاة. .
وقول الخرقي: فأسامها. نص في أن من شرط وجوب الزكاة في الإبل أن تكون سائمة، فلا تجب الزكاة في المعلوفة، وهو صحيح، لا إشكال فيه، لأن في الحديث السابق «وصدقة الغنم في سائمتها» أي يجب في سائمتها، أو الواجب في سائمتها، فجعل - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الوجوب مختصا بالسائمة، والإبل في معنى الغنم.
1151 - مع أن في السنن عن بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جده، أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «في كل سائمة إبل في كل أربعين بنت لبون» ولأن المعلوفة مال غير معد للنماء، أشبه ثياب البذلة،

(2/377)


والمشترط السوم في أكثر السنة، إقامة للأكثر مقام الكل، إذ اعتباره في جميع الحول يمنع الوجوب إلا نادرا.
ويستثنى من كلام الخرقي العوامل، فإن الزكاة لا تجب فيهن وإن كن سائمة، نص عليه أحمد في رواية جماعة، وقال: أهل المدينة يرون فيها الصدقة، وليس عندهم في هذا أصل.
1152 - وقد روى الحارث الأعور عن علي، قال زهير - وهو ابن

(2/378)


معاوية -: أحسبه عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فذكر حديثا وفيه «وليس على العوامل شيء» رواه أبو داود، لكن الحارث فيه كلام.

(2/379)


1153 - وقد روي أيضا من حديث ابن عباس، وعمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، رواهما الدارقطني.
والمعنى في ذلك أن القصد منها الانتفاع بظهرها، لا الدر والنسل، أشبهت البغال والحمير.
وقوله: فأسامها. ظاهره أنه وجد منه فعل السوم، فيكون من مذهبه اشتراط نية السوم، وهو أحد الوجهين، والوجه الآخر: لا يشترط، فلو سامت بنفسها، أو أسامها غاصب، وقلنا بوجوب الزكاة في المغصوب، وجبت الزكاة.
«تنبيه» السائمة عبارة عمن رعت المباح، والله أعلم.

قال: فإذا صارت خمسا وعشرين ففيها بنت مخاض، إلى خمس وثلاثين، فإن لم تكن ابنة مخاض فابن لبون ذكر، فإذا بلغت ستا وثلاثين، ففيها ابنة لبون، إلى خمس وأربعين، فإذا بلغت ستا وأربعين ففيها حقة طروقة الفحل، إلى ستين، [فإذا

(2/380)


بلغت إحدى وستين ففيها جذعة، إلى خمس وسبعين، فإذا بلغت ستا وسبعين ففيها بنتا لبون، إلى تسعين، فإذا بلغت إحدى وتسعين] ففيها حقتان، طروقتا الفحل، إلى عشرين ومائة.
ش: هذا كله مجمع عليه بحمد الله، وما تقدم من كتاب أبي بكر نص فيه.
وقول الخرقي: فإن لم يكن فيها بنت مخاض - يعني في إبله - فابن لبون. يعني إن وجده في إبله، فشرط إجزاء ابن اللبون عدم بنت المخاض في إبله، ووجود ابن اللبون، أما إن عدمه فإنه يلزمه شراء بنت مخاض، وهذا ظاهر ما تقدم «فإن لم تكن عنده بنت مخاض على وجهها، وعنده ابن لبون فإنه يقبل منه» ولأن العدول عن بنت المخاض كان للرفق به، ومع الشراء قد زال الرفق، فيرجع إلى الأصل، وحكم وجودها معيبة في إبله حكم ما لو عدمها، إذ الممنوع منه شرعا كالمعدوم حسا، ولهذا قال في الحديث «على وجهها» أي على الوجه الشرعي، أما إن وجدها أعلى من الواجب عليه، فإنه لا يجزئه إخراج ابن اللبون، بل يخير بين إخراجها، وبين شراء بنت مخاض، على صفة الواجب، كما هو ظاهر الخبر وكلام الخرقي.

(2/381)


«تنبيه» : بنت المخاض من الإبل وابن المخاض ما استكمل سنة، ثم هو كذلك إلى آخر الثانية، سمي بذلك لأن أمه من المخاض أي الحوامل، والمخاض اسم الحوامل، لا واحد له من لفظه، وليس [كون] أمها من المخاض شرطا فيها، وإنما ذكر ذلك اعتبارا بغالب حالها، وكذلك بنت اللبون، إذ الغالب أن من بلغت سنة تكون أمها حاملا، ومن بلغت سنتين تكون أمها ذات لبن.
«وبنت اللبون» وابن اللبون ما استكمل الثانية، ثم هو كذلك إلى تمام الثالثة سمي بذلك لأن أمه ذات لبن.
«والحقة» والحق ما استكمل الثالثة، ثم هو كذلك إلى آخر الرابعة، سمي بذلك لاستحقاقه أن يحمل، أو يركبه الفحل، ولهذا قال: «طروقة الفحل» أي يطرقها ويركبها «والجذعة» والجذع ما استكمل الرابعة، ثم هو كذلك إلى آخر الخامسة، سمي بذلك لأنه يجذع إذا سقط سنه.
وقول الخرقي: فابن لبون ذكر. تبع فيه لفظ الحديث، وإلا فابن لبون هو ذكر، وهو تأكيد، كقوله تعالى: {تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} [البقرة: 196] .
1154 - وقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ورجب مضر، الذي بين جمادى وشعبان»

(2/382)


وهو كثير، وتنبيه لرب المال والمصدق، ليطيب رب المال نفسا بالزيادة المأخوذة منه، إذا علم أنه كان قد أسقط عنه ما كان بإزائه من فضل الأنوثة، وليعلم المصدق أن هذا مقبول من رب المال. والله أعلم.

قال: فإذا زادت على عشرين ومائة ففي كل أربعين بنت لبون، وفي كل خمسين حقة.
ش: ظاهر هذا أنها إذا زادت واحدة على العشرين ومائة ففيها ثلاث بنات لبون، وهو المشهور من الروايتين، والمختار للأصحاب، لظاهر كتاب أبي بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «فإذا زادت على عشرين ومائة ففي كل أربعين بنت لبون» وبالواحدة قد حصلت الزيادة.
1155 - وفي كتاب الصدقات الذي كتبه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وكان عند آل عمر وفيه «فإذا زادت واحدة - أي على التسعين - ففيها حقتان، إلى عشرين ومائة، فإذا كانت الإبل أكثر من ذلك ففي كل خمسين حقة، وفي كل أربعين ابنة لبون» رواه أبو داود، والترمذي وحسنه، ورواه أبو داود عن سالم [مرسلا] ،

(2/383)


وفيه «فإذا كانت إحدى وعشرين ومائة ففيها ثلاث بنات لبون» .
(والرواية الثانية) : لا يتغير الفرض إلى مائة وثلاثين، فيجب حقة وبنتا لبون. نقلها عنه القاضي البرثي، واحتج له بحديث ثمامة بن أنس.

(2/384)


1156 - وبحديث عمرو بن حزم، وقال: هو عن كتاب وهو صحيح، وفي هذا النقل عنه نظر، لأن حديث أنس المشهور ليس فيه ذلك، بل أحمد قد احتج به في رواية النيسابوري على الرواية الأولى، وأما حديث عمرو بن حزم فلعل فيه ذلك، لكن لم أرهم نقلوا ذلك، وقد يستدل لهذه الرواية

(2/385)


بأن في بعض ألفاظ حديث ابن عمر رواه أحمد «فإذا كثرت

(2/386)


الإبل ففي كل خمسين حقة، وفي كل أربعين ابنة لبون» والواحدة لا تكثر بها الإبل.
1157 - وفي سنن ابن بطة عن الزهري قال: هذه نسخة كتاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - التي كتب في الصدقة، وهي عند آل عمر وقال فيه: «فإذا كانت إحدى وتسعين ففيها حقتان، طروقتا الفحل، حتى تبلغ عشرين ومائة، فإذا كانت ثلاثين ومائة، ففيها حقة وبنتا لبون» ويجاب بأن هاتين الروايتين فيهما إجمال وما تقدم يفسرهما.
وعلى كلتا الروايتين متى بلغت الفريضة مائة وثلاثين ففيها حقة وبنتا لبون، وفي مائة وأربعين حقتان وبنت لبون، وفي مائة وخمسين ثلاث حقاق، وفي مائة وستين أربع بنات لبون، وفي مائة وسبعين حقة وثلاث بنات لبون، وفي مائة وثمانين حقتان وبنتا لبون، وفي مائة وتسعين ثلاث حقاق وبنت لبون، وفي مائتين أربع حقاق، أو خمس بنات لبون، لأن المائتين أربع خمسينات، وخمس أربعينات هذا ظاهر كلام الخرقي، واختيار أبي بكر، وابن حامد، وأبي محمد، والقاضي، قال في الروايتين: [إنه] الأشبه. وقال الآمدي: إنه ظاهر المذهب. ويحتمله كلام أحمد في

(2/387)


رواية صالح وابن منصور وذلك لظاهر حديث أبي بكر، إذ فيه «في كل أربعين ابنة لبون، وفي كل خمسين حقة» وعن الزهري قال: نسخة كتاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الذي كتبه في الصدقة، أقرأنيه سالم بن عبد الله بن عمر. وفيه «فإذا كانت مائتين ففيها أربع حقاق، أو خمس بنات لبون، أي السنين وجدت أخذت» .
ونقل علي بن سعيد عن أحمد: يأخذ من المائتين أربع حقاق. فمن الأصحاب من فسر ذلك بأن فيها أربع حقاق بصفة التخيير، ويكون القصد أن تسعين ومائة [فيها] ثلاث حقاق وبنت لبون، فإذا بلغت مائتين ففيها أربع حقاق، ومنهم من أقره على ظاهره، وقال: تتعين الحقاق، إلا أن لا يكون فيها إلا بنات لبون فتجزئ بنات اللبون وهذا قول ابن عقيل.
وظاهر كلام أحمد تتعين الحقاق مطلقا، نظرا لحظ الفقراء، إذ هي أنفع لهم، لكثرة درها ونسلها.
هذا كله إذا لم يكن المال ليتيم، فإن كان ليتيم أو مجنون تعين على الولي إخراج الأدون المجزئ من الفرضين اعتمادا

(2/388)


على أن ذلك هو الأحظ، وإنما يتصرف في ماله بذلك، والله أعلم.

قال: ومن وجبت عليه حقة وليست عنده، وعنده ابنة لبون أخذت منه ومعها شاتان أو عشرون درهما، ومن وجبت عليه ابنة لبون، وليست عنده، وعنده حقة، أخذت منه وأعطي الجبر من شاتين أو عشرين درهما والله أعلم.
ش: قد تقدم هذا مصرحا به في حديث أبي بكر [الصديق]- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وكذلك إذا وجبت عليه ابنة مخاض، فعدمها ووجد ابنة لبون، [فإنه] يدفعها ويأخذ شاتين أو عشرين درهما، [وكذلك إن وجب عليه حقة وليست عنده، وعنده جذعة، فإنها تؤخذ منه ومعها شاتان أو عشرون درهما] ، وكل هذا في حديث أبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وليس له أن ينزل عن بنت مخاض أصلا، إذا هي أدنى أسنان الإبل المجزئة في الزكاة، وللمالك أن يصعد إلى [الثنية] بلا جبران؛ لأنها أعلى.
وظاهر كلام الخرقي أنه لا يجبر بشاة وعشرة دراهم، وهو أحد الوجهين

(2/389)


حذارا من تخيير ثالث، والثاني يجوز؛ لأن الشارع جعل العشرة في مقابلة الشاة.
وقد يقال: إن ظاهر كلامه أيضًا أنه إذا عدم السن التي تلي الواجب أنه ليس له أن ينتقل إلى ما هو أدنى منها، أو إلى ما هو أعلى منها، وذلك كما لو وجبت عليه ابنة لبون، فعدمها وعدم الحقة، فليس له أن ينتقل إلى الجذعة، ويأخذ أربع شياه، أو أربعين درهما، [أو وجبت عليه حقة فعدمها، وعدم بنت اللبون، لم يخرج بنت مخاض، ويدفع أربع شياه، أو أربعين درهما] ، إذ النص لم يرد به، والزكاة فيها شائبة التعبد، وهذا اختيار أبي الخطاب، وابن عقيل، وقال صاحب النهاية فيها: إنه ظاهر المذهب.
وأومأ أحمد إلى جواز ذلك، وهو اختيار القاضي، وأورده الشيخان مذهبا، لأن الشارع جوز الانتقال إلى الذي يليه مع الجبران، [وجوز العدول عن ذلك أيضا إذا عدم مع الجبران] ، إذا كان هو الفرض، فهاهنا لو كان موجودا أجزأ، فإذا عدمه جاز العدول عنه إلى ما يليه كما لو كان هو الفرض، والله أعلم.

(2/390)


[باب زكاة البقر]
1158 - ش: الأصل في وجوب زكاة البقر ما في الصحيح عن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «ما من صاحب إبل، ولا بقر، ولا غنم، لا يؤدي حقها إلا أقعد لها يوم القيامة بقاع قرقر، تطؤه ذات الظلف بظلفها، وتنطحه ذات القرن بقرنها، ليس فيها جماء ولا مكسورة القرن» قلنا: يا رسول الله وما حقها؟ قال: «إطراق فحلها، وإعارة دلوها، ومنحتها، وحلبها على الماء، وحمل عليها في سبيل الله» مختصر، رواه مسلم، والنسائي، وإذا ثبت هذا الوعيد العظيم في هذا الحق، فالزكاة أولى، ونسخ الأصل لا يلزم منه نسخ الفحوى على الأشهر.
1159 - وعن مسروق «عن معاذ بن جبل - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: بعثه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى اليمن فأمره أن يأخذ من كل ثلاثين بقرة تبيعا أو تبيعة، ومن كل أربعين مسنة، ومن كل حالم دينارا، أو عدله معافر» . رواه أحمد وهذا لفظه، وأبو داود، والترمذي وحسنه، والنسائي، والحاكم، وقال: صحيح على شرط الشيخين. وإنما لم يذكر زكاة البقر في حديث أبي بكر الصديق، وفي

(2/391)


الكتاب الذي كان عند آل عمر لقلة البقر في الحجاز، إذ يندر ملك نصاب منه، بل لا يوجد، فلما بعث النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - –

(2/392)


معاذا إلى اليمن، ذكر له حكم البقر، لوجودها عندهم، مع أن وجوب الزكاة في البقر قد حكي إجماعا.
«تنبيه» «القاع» [المكان] المستوي من الأرض الواسع، وجمعه قيعة وقيعان، كجيرة وجيران، و «قرقر» بفتح القافين الأملس، قاله أبو السعادات، «والظلف» للبقر، والغنم، والظباء، «والقدم» للآدمي «والحافر» للفرس، والبغل، والحمار «وتنطحه» بفتح الطاء وكسرها وهو أفصح «والجماء» الشاة التي لا قرن لها، «وإطراق الفحل» إعارته للضراب: طرق الفحل الناقة. إذا ضربها «والمنحة» العطية، والمنيحة الشاة أو الناقة تعار لينتفع بلبنها ثم ترد، «وحلبها على الماء» بفتح اللام، لا بسكونها على الأشهر، وهذا كان - والله أعلم - قبل وجوب الزكاة، أو في موضع تتعين فيه المواساة، «والحالم» البالغ، «وعدل الشيء» بفتح العين - مثله في القيمة، وهو المراد هنا، وبكسرها مثله في الصورة «والمعافري» منسوب إلى ثياب باليمن، ينسب إلى معافر، حي من همدان، لا ينصرف كدراهم والله أعلم.

(2/393)


قال: وليس فيما دون ثلاثين من البقر سائمة صدقة.
ش: أقل نصاب البقر ثلاثون، لحديث معاذ، «فإنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أوجب في الثلاثين» ، والأصل عدم الوجوب فيما دون ذلك، فليس فيما دون ثلاثين شيء.

قال: فإذا ملك ثلاثين من البقر فأسامها أكثر السنة ففيها تبيع أو تبيعة، إلى تسع وثلاثين، فإذا بلغت أربعين ففيها مسنة، إلى تسع وخمسين، فإذا بلغت ستين ففيها تبيعان، إلى تسع وستين، فإذا بلغت سبعين ففيها تبيع ومسنة، فإذا زادت ففي كل ثلاثين تبيع، وفي كل أربعين مسنة.
ش: [الأصل في هذا كله خبر معاذ، فإنه جعل في كل ثلاثين تبيعا، وفي كل أربعين مسنة] ، واعتبار السوم فيها قياسا على الإبل والغنم، وإذا بلغت مائة وعشرين اتفق الفرضان، فإن شاء أخرج ثلاث مسنات أو أربع تبائع، وقد تقدم منصوص أحمد على ذلك. والله أعلم.

قال: والجواميس كغيرها من البقر والله أعلم.
ش: الجواميس أحد نوعي البقر فحكمها حكمها. والله أعلم.

(2/394)


[باب صدقة الغنم]
ش: الأصل في وجوبها الإجماع، وسنده ما تقدم من حديث أبي بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وغيره، والله أعلم.

قال: وليس فيما دون أربعين من الغنم سائمة صدقة.
ش: أقل نصاب الغنم أربعون، فليس فيما دونها صدقة، لحديث أبي بكر: «فإذا كانت سائمة الرجل ناقصة من أربعين شاة شاة واحدة، فلا شيء فيها، إلا أن يشاء ربها» والله أعلم.

قال: فإذا ملك أربعين من الغنم فأسامها أكثر السنة ففيها شاة، إلى عشرين ومائة، فإذا زادت واحدة ففيها شاتان، إلى مائتين، فإذا زادت واحدة ففيها ثلاث شياه، إلى ثلاثمائة.
ش: الأصل في هذه الجملة ما تقدم من حديث أبي بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وهو نص في ذلك، والله أعلم.

قال: فإذا زادت ففي كل مائة شاة شاة.
ش: ظاهر هذا أنه بعد الثلاثمائة يستأنف الفريضة، فيجب في كل مائة شاة شاة، فعلى هذا لا يجب شيء إلى أربع مائة، فيجب أربع شياه، وهذا إحدى الروايتين عن أحمد، واختيار القاضي وجمهور الأصحاب، لما تقدم من حديث أبي بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وفي الكتاب الذي كان عند آل عمر نحو ذلك.

(2/395)


(والرواية الثانية) : في ثلاثمائة وواحدة أربع شياه، ثم لا شيء في زيادتها حتى تبلغ خمسمائة، فتكون خمس شياه، اختارها أبو بكر، كذا حكى الرواية أبو محمد، وأبو العباس، وغيرهما، وقال القاضي في الروايتين بعد أن حكى الرواية الأولى: ونقل حرب: لا شيء في زيادتها حتى تبلغ ثلاثمائة، فإذا زادت عليها شاة ففيها أربع شياه، وعلى هذا كلما زادت على مائة شاة ففيها شاة، قال: وهو اختيار أبي بكر. وظاهر هذا أن في أربع مائة وواحدة خمس شياه، وفي خمس مائة وواحدة ست شياه، وعلى هذا، وحكى ابن حمدان هذا رواية ثالثة. والله أعلم.

قال: ولا يؤخذ في الصدقة تيس، ولا هرمة، ولا ذات عوار، ولا الربى، ولا الماخض، ولا الأكولة.

(2/396)


ش: قد جمع الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في هذا بين (ما لا يؤخذ) لدناءته وهو التيس، والهرمة وذات العوار، وذلك لما تقدم من حديث أبي بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، إذ فيه «لا يخرج في الصدقة هرمة، ولا ذات عوار، ولا تيس، إلا أن يشاء المصدق» وقال سبحانه: {وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} [البقرة: 267] (وما لا يؤخذ) لشرفه وهو الربى، والماخض والأكولة، وذلك لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حديث معاذ المتفق عليه «وإياك وكرائم أموالهم» .
1160 - وفي حديث لأبي داود فيه طول، عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -[أنه] قال: «ولكن من وسط أموالكم، فإن الله لم يسألكم خيره ولم يأمركم بشره» .
1161 - وعن سفيان بن عبد الله أن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بعثه مصدقا، فكان يعد على الناس بالسخل، فقالوا: أتعد علينا بالسخل ولا تأخذ منه؟ فلما قدم على عمر بن الخطاب ذكر ذلك له فقال: نعم تعد عليهم بالسخلة يحملها الراعي، ولا تأخذها ولا تأخذ الأكولة، ولا الربى، ولا الماخض، ولا فحل

(2/397)


الغنم، وتأخذ الجذعة والثنية، وذلك عدل بين غذاء المال وخياره، رواه مالك في الموطأ.
«تنبيهان» (أحدهما) ما لا يؤخذ لدناءته لا يدفع في الزكاة مطلقا، وما لا يؤخذ لشرفه إن رضي رب المال بإخراجه جاز، لأن الحق له، وإلا فلا.
(الثاني) : (الهرمة) الكبيرة الطاعنة في السن، (والعوار) بفتح العين على الأفصح العيب، ويجوز الضم، (والمصدق) بتخفيف الصاد، وتشديد الدال - عامل الصدقة، وهو الساعي أيضا، وكان أبو عبيد يرويه «المصدق» بفتح الدال، يريد صاحب الماشية، وخالفه عامة الرواة، فقالوا: بكسرها.
يريدون العامل فعلى قول أبي عبيد المراد بالتيس فحل الغنم، فهو من كرائم الأموال، فلا يؤخذ إلا أن يشاء رب المال، فالاستثناء راجع إليه فقط. وعلى قول الجمهور التيس هو الكبير، فلا يؤخذ لدناءته، وهذا هو المشهور عند أصحابنا

(2/398)


فيما أظن، وعلى هذا يخير الساعي. قيل: إما لأن الجميع على صفته، فله أخذ ذلك، لأن الجميع على صفة النقص، وفيه نظر؛ لأن الساعي يجب عليه إذًا الأخذ من غير تخيير. وقيل: لأنه اجتمع فيه صفتان، صفة الإطراق، وهي صفة شرف، وصفة الكبر وهي صفة دنيئة، فخير الساعي، لأنه إنما يختار الأصلح، فمهما ترجح عنده فعله، وهذا أجود من الذي قبله. والاستثناء أيضا راجع إلى التيس فقط، وجوز كثير من العلماء رجوع الاستثناء إلى الثلاثة، ويخير الساعي، فإن رأى الخير للفقراء أخذ، وإلا فلا. «والكرائم» جمع كريمة وهي النفيسة. «والأكولة» المعدة للأكل، أو التي تأكل كثيرا فتكون سمينة، «والربى» قال أحمد: التي وضعت وهي تربي ولدها، وقيل: هي التي في البيت لأجل اللبن. «وغذاء المال» جمع غذي وهو الحمل أو الجدي. أي لا يأخذ الساعي خيار المال ولا رديئه، وإنما يأخذ عدلا بين الكبير والصغير، [والله أعلم] .

قال: وتعد عليهم السخلة، ولا تؤخذ منهم.
ش: يعني أن النصاب إذا نتج في أثناء الحول فإن حوله حول الأمهات، وإذًا يعد الساعي السخال [فيأخذ عن الجميع] ، لكن لا يأخذ من السخال، وكذا قال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
وظاهر كلام الخرقي أن هذا إنما هو في نصاب فيه صغار

(2/399)


وكبار، أما لو كان النصاب كله صغارا كما لو أبدل الكبار بصغار في أثناء الحول، أو ماتت الأمهات وقد كانت نتجت نصابا فحال الحول عليها وهي صغار، فإن المنصوص والمختار عند القاضي وأصحابه، والشيخين جواز أخذ الصغيرة.
1162 - لقول الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لو منعوني عناقا كانوا يؤدونها إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لقاتلتهم عليه. وبالإجماع لا تؤخذ العناق في الكبار، فيتعين حمله على كون النصاب كله عناقا، ولأن الزكاة مواساة، والمواساة، إنما تكون مما أنعم الله عليه. وقال أبو بكر في الخلاف: لا يؤخذ [من] المراض مريضة، ولا يؤخذ إلا ما يجوز في الأضاحي، [معتمدا على قول أحمد في رواية أحمد بن سعيد: لا يأخذ إلا ما يجوز في الأضاحي] قال القاضي: ويجيء على قوله لا يؤخذ من الصغار صغيرة. فعلى قوله تجب كبيرة صحيحة على قدر المال.

(2/400)


«تنبيه» : (السخلة) من ولد المعز بفتح السين على الأشهر، ويجوز كسرها. (والعناق) الجذعة من المعز التي قاربت الحمل، وقيل: [هي] ما لم يتم سنة من الإناث خاصة، وقيل: ليس المراد في الحديث حقيقة العناق، إنما المراد بالتنكير التقليل، أي: لو منعوني شيئا ما من الزكاة بدليل أن في الرواية الأخرى: لو منعوني عقالا. والعقال على أحد الأقوال الحبل الذي يعقل به البعير، وهو غير واجب في الزكاة على قول، [والله أعلم] .

قال: ويؤخذ من المعز الثني، ومن الضأن الجذع.
ش: يعني إذا كان النصاب كله كبارا، أو فيه كبار وصغار، والأصل في هذا ما تقدم من قول عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
1163 - «وعن سعر بن ديسم قال: جاءنا رجلان على بعير، فقالا: إنا رسولا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إليك، لتؤدي صدقة غنمك. فقلت: ما علي فيها؟ قالا: شاة. فأعمد إلى شاة قد عرفت مكانها، ممتلئة مخضا وشحما، فأخرجتها إليهما، فقالا: هذه شاة الشافع. وقد نهانا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن نأخذ شافعا، فقلت:

(2/401)


فأي شيء تأخذان؟ قالا: عناقا جذعة أو ثنية» . مختصر، رواه أبو داود، والنسائي.

«تنبيه» : «الجزع» من الضأن ما له ستة أشهر، «والثني» من المعز ما له سنة، قاله أصحابنا، وقال ابن الأثير: الجذع من المعز ما له سنة، والثني منه ما له سنتان، ولنا وجه آخر أن الجذع من الضأن ما له ثمانية أشهر. انتهى. «والمخض»

(2/402)


اللبن، أي ممتلئة لبنا وشحما. (والشافع) قال ابن الأثير: التي معها ولدها. وفي رواية لأبي داود: التي في بطنها ولدها. وشاة الشافع من إضافة الموصوف إلى الصفة، كصلاة الأولى، والله أعلم.

قال: فإن كانت عشرين ضأنا، وعشرين معزا أخذ من أحدهما ما يكون قيمته نصف شاة ضأن، ونصف [شاة] معز.
ش: قوله أخذ. أي الساعي، وذلك لأنه يأخذ الوسط، وهذا هو الوسط، وقال أبو بكر: لا تعتبر القيمة كما لو كانا نوعا واحدا، فإنه لا تعتبر القيمة، كذلك هنا، فعلى هذا يخرج وسطا من أيهما شاء، وعلى الأول [ينظر] فإذا كانت الشاة الوسط من الضأن تساوي عشرين درهما، والشاة الوسط من المعز تساوي عشرة دراهم، أخرج من أحدهما ما قيمته خمسة عشر درهما، وكذلك الحكم في البقر والإبل.
وقد تضمن كلام الخرقي أنه يضم نوعا الغنم بعضه إلى بعض في إكمال النصاب، وقد حكاه ابن المنذر إجماعا، وتضمن أيضا أنه

(2/403)


يخرج من أيهما شاء، وأنه لا يخرج من كل [واحد، ولكل] ما لحقه، والله أعلم.

[زكاة الخليطين]
قال: وإن اختلط جماعة في خمس من الإبل أو ثلاثين من البقر، أو أربعين من الغنم، وكان مرعاهم، ومسرحهم، ومبيتهم، ومحلبهم، وفحلهم واحدا أخذت منهم الصدقة، وتراجعوا فيما بينهم بالحصص.
ش: الخلطة تؤثر في بهيمة الأنعام، وهي الإبل، والبقر، والغنم، فتجعل المالين كالمال الواحد في الزكاة، وفي أخذ الساعي الفرض من مال أي الخليطين شاء، والأصل في ذلك ما تقدم في حديث أبي بكر [الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -] «لا يجمع بين متفرق، ولا يفرق بين مجتمع، خشية الصدقة، وما كان من خليطين فإنهما يتراجعان بينهما بالسوية» .
وعن سالم عن أبيه عبد الله بن عمر، قال: كتب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: [كتاب الصدقة] فلم يخرجه إلى عماله حتى قبض، فقرنه بسيفه، فعمل به أبو بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حتى قبض، ثم عمل به عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حتى قبض، فذكره وفيه «ولا يفرق بين مجتمع، ولا يجمع ين متفرق، مخافة الصدقة، وما كان من خليطين فإنهما يتراجعان بالسوية» رواه أبو داود وابن ماجه، والترمذي وحسنه، وقال البخاري: أرجو أن يكون محفوظا.

(2/404)


(وفيه دليلان) أحدهما: - قوله «ولا يجمع بين متفرق» أي لا يجمع الرجلان النصابين من الغنم، ليجب عليهما في الثمانين شاة واحدة، ولا يجمع الساعي مالي الرجلين ليوجب عليهما الزكاة، كما إذا كان لكل واحد عشرون من الغنم، وقوله: «ولا يفرق بين مجتمع» أي لا يفرق الرجلان ماليهما، لتقل عليهما الزكاة، كما إذا كان لكل واحد [منهما مثلا] مائة [و] شاة، وخلطه فإنه يجب عليهما ثلاث شياه، فإذا فرقاه وجب على كل واحد [منهما] شاة، أو لا يفرق الساعي الثمانين مثلا ليوجب على كل واحد شاة. ومقتضى هذا كله أن للخلطة تأثيرا.
(الدليل الثاني) : - قوله: «وما كان من خليطين فإنهما يتراجعان [فيما] بينهما بالسوية» والتراجع إنما هو في خلطة الأوصاف.
إذا تقرر هذا، فقول الخرقي: وإن اختلط جماعة. أراد بالجماعة الاثنين فصاعدا، من الجمع وهو الضم.

(2/405)


وشرط الخليطين أن يكونا من أهل الزكاة، [فلو كان أحدهما من غير أهل الزكاة] فوجوده كعدمه.
وقوله: [في] خمس من الإبل، أو ثلاثين من البقر، أو أربعين من الغنم إشارة إلى أن الخلطة [إنما تؤثر في نصاب، وهو واضح، وتنبيه على مذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - ومن وافقه، من أن الخلطة إنما] تؤثر إذا كان لكل واحد نصابا، وعندنا لا يشترط، بل كما يؤثر إذا كان لكل واحد نصابا، يؤثر فيما دونه.
وقوله: وكان مرعاهم، ومسرحهم، ومبيتهم، ومحلبهم، وفحلهم واحدا. تنصيص على شروط الخلطة، وأنها إنما تصير المالين بمنزلة المال الواحد بهذه الشروط.
1164 - والأصل في هذه الشروط ما روي عن سعد بن أبي وقاص - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -[يقول] : «لا يجمع بين متفرق، ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة، والخليطان ما اجتمعا في الحوض، والفحل، والراعي» . رواه الدراقطني.

(2/406)


وبقية الشروط في معنى هذه الثلاثة، ولأن هذه الشروط تؤثر في الرفق بالخلطاء، فوجب اعتبارها، كالراعي، والفحل، (والمرعي) معروف: الشيء الذي يرعى ويلزم من اتحاده اتحاد موضعه، (والمسرح) فسره أبو محمد بالموضع الذي ترعى فيه الماشية، ويلزم من اتحاده اتحاد المرعى، فلذلك قال أبو محمد وسبقه إلى ذلك ابن حامد: إنهما شيء واحد، وفسره صاحب التلخيص بموضع جمعها عند خروجها للمرعى وهذا أولى، دفعا للتكرار. «والمبيت» موضع مبيتها، «والمحلب» - بفتح الميم -[الموضع] الذي تحلب فيه، قال صاحب التلخيص: مع تمييز [لبن] كل واحد منهما، فإن الشركة فيه ربا، «والفحل» معروف، ومعنى اتحاده أن لا يكون فحولة أحد المالين لا تطرق الآخر.
وهذه الشروط لا نزاع في المذهب في اشتراطها فيما أعلمه، وعليها اقتصر أبو البركات، وزاد أبو الخطاب، وصاحب التلخيص، وأبو محمد، وغيرهم: اتحاد المشرب، يعني أن يكون موضع مشربها واحدا وزاد أبو الخطاب، وأبو محمد

(2/407)


وغيرهما: اتحاد الراعي، «وهو منصوص أحمد والحديث. قال أبو محمد: ويحتمل أن يفسر المرعى] في كلام الخرقي بذلك، ليوافق للنص، ويندفع [به] التكرار.
ثم بعد هذا هل يشترط فيه الخلطة؟ فيه وجهان مشهوران.
وقوله: أخذت منهم الصدقة، وتراجعوا فيما بينهم بالحصص. يقتضي بعمومه أن للساعي أن يأخذ من مال [أي] الخليطين شاء، مع الحاجة [وعدمها] وهو صحيح، نص عليه أحمد والأصحاب، وإطلاق الحديث يقتضيه، فعلى هذا لو اختلط من له ثلاثون تبيعا، مع شخص له أربعون مسنة، فأخذ الساعي مسنة من الثلاثين وتبيعا من الأربعين، فإن له ذلك، ويرجع صاحب الثلاثين على صاحب الأربعين [بقيمة أربعة أسباع مسنة، وصاحب الأربعين على صاحب الثلاثين] بقيمة ثلاثة أسباع مسنة.
وقوله: أخذت منهم الصدقة، وتراجعوا فيما بينهم بالحصص. يعني [في] الصدقة المأخوذة، وقد تقدم مثاله، فلو أخذ الساعي شيئا ظلما لم يرجع المأخوذ منه على خليطه بحصته، إذ من ظلم لا يظلم غيره، نعم لو أخذ غير الفرض بتأويل - كما لو أخذ القيمة، أو أخذ

(2/408)


الصحاح، أو الكبار عن المراض أو الصغار - فإنه يرجع على خليطه بحصته، لأن الساعي فعل ما له فعله، إذ مستنده الاجتهاد، أو تقليد من يسوغ تقليده، وإذًا يصير المأخوذ هو الواجب.
واعلم أن الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - نبه بالتأثير في خلطة الأوصاف - وهو أن يكون مال كل واحد [منهما] متميزا بصفة، فخلطاه واشتركا فيما تقدم - على التأثير في خلطة الأعيان، وهو أن يكون أعيان أموالهما مختلطة، كأن ورثا نصاب، أو اشترياه ونحو ذلك بطريق الأولى، نعم الشروط المذكورة مختصة بشركة الأوصاف، والله أعلم.

قال: فإن اختلطوا في غير هذا أخذ من كل واحد [منهم] على انفراده، إذا كان ما يخصه [تجب] فيه الزكاة.
ش: يعني [أن] الخلطة لا تؤثر في غير بهيمة الأنعام وإذا لم تؤثر فإن الساعي يأخذ من كل واحد منهم على انفراده، بشرط أن يكون ما يخص كل واحد منهم نصابا، وهذا هو المشهور، والمختار للأصحاب من الروايتين، لقوله: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لا يجمع بين متفرق، ولا يفرق بين مجتمع، مخافة الصدقة» وأرباب الأموال مرادون منه بلا نزاع، وإنما يفرقون أو يجمعون حذارا [من الصدقة] في الماشية، إذ غيرها لا وقص فيه. ثم ما روي من قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعد «والخليطان ما اجتمعا في الحوض، والفحل،

(2/409)


والراعي» ظاهره حصر الخليطين فيمن هذه صفتهم، وأيضا فالخلطة في الماشية تارة يحصل الرفق فيها لأرباب الأموال، كرجلين لكل واحد منهما أربعون فخلطاها، وتارة للفقراء [كرجلين لكل واحد منهما عشرون، أما غير الماشية فتأثير الخلطة نفع للفقراء] دائما، وضرر على أرباب الأموال، والضرر منفي شرعا، ولهذا قلنا: لا تخرج الصحيحة عن المراض.
(والرواية الثانية) تؤثر الخلطة. قال أبو الخطاب في خلافه الصغير: وهو أقيس.
1165 - لمفهوم قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ليس فيما دون خمس أواق صدقة، وليس فيما دون خمسة أوسق صدقة» مفهومه أنه إذا بلغهما [أن] فيه صدقة، ولم يفرق بين أن يكون المال لواحد أو لاثنين. وقد يستدل له بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يجمع بين متفرق» بناء على أن الخطاب للساعي أيضا، فلا يجمع مائة ومائة ليأخذ زكاتهما، وعلى هذه تؤثر [الخلطة] في شركة الأعيان. وهل تؤثر في شركة الأوصاف؟ فيه وجهان، حكاهما ابن عبدوس وغيره (أحدهما) : لا، اختاره أبو محمد، وابن حمدان (والثاني) : نعم، وهو ظاهر كلام الأكثرين، لإطلاقهم الرواية، وعليه:

(2/410)


يشترط في الدراهم ونحوها اتحاد الخازن والمخزن، وفي الزروع والشجر اتحاد المشرب والفلاح، والله أعلم.

[شروط وجوب الزكاة]
قال: والزكاة لا تجب إلا على الأحرار المسلمين.
ش: من شرط وجوب] الزكاة الحرية، فلا تجب الزكاة على عبد، على المذهب المعروف المقطوع به، لأنه لا يملك، وإن قلنا يملك فملكه غير تام، أشبه المكاتب، ودليل الأصل يأتي إن شاء الله تعالى. (وعنه) تجب عليه، لدخوله في عموم الخطاب، (وعنه) : بإذن السيد، ونظير هذا الخلاف في وجوب الجمعة عليه، وهو ثم أشهر.
ومن شرط الوجوب الإسلام أيضا، بلا نزاع أي وجوب الأداء، إذ الزكاة قربة وطاعة، والكافر ليس من أهلها، ولافتقارها إلى نية، وهي ممتنعة من الكافر، أما الوجوب في الذمة بمعنى العقاب في الآخرة فنعم، بناء على أن الكافر مخاطب بالفروع ويسقط عنه ذلك بإسلامه.

(2/411)


1166 - لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الإسلام يجب ما قبله» (وعنه) لا تسقط عن المرتد، لالتزامه ذلك بإسلامه] نعم إن زال ملكه بردته سقطت لذلك، والله أعلم.

قال: والصبي والمجنون يخرج عنهما وليهما.
ش: قد تضمن هذا أن الزكاة تجب في ماليهما، وعموم المسألة السابقة يقتضيه.
1167 - والأصل في ذلك ما روى عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خطب الناس فقال: «من ولي يتيما له مال فليتجر فيه، ولا يتركه حتى تأكله الصدقة» رواه الترمذي مرفوعا وموقوفا على عمر، ورواه الدراقطني عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من طرق لكنها ضعيفة، قال أحمد في رواية مهنا وسئل عن هذا

(2/412)


الحديث فقال: ليس بصحيح، يرويه المثنى بن الصباح، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال له: فرواه غير المثنى؟ قال: نعم. ابن جريج يقول: قال عمرو بن شعيب. مرسلا كذا، ولم يسمعه من عمرو بن شعيب. انتهى.
وهذا لا يقدح على قاعدة أحمد، إذ المرسل عنده حجة.

(2/413)


واعتمد أحمد على أقوال الصحابة، فقال في رواية الأثرم: خمسة من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يزكون مال اليتيم.
1168 - وفي الموطأ: بلغه أن عمر بن الخطاب قال: اتجروا في مال اليتيم لا تأكله الصدقة.
1169 - وفيه أيضا عن القاسم بن محمد قال: كانت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - تليني أنا وأخا لي يتيمين في حجرها، فكانت تخرج من أموالنا الزكاة.
1170 - وروى الأثرم نحو ذلك عن علي، وابن عمر، وجابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، ولا يعرف لهم مخالف من الصحابة.

(2/414)


1171 - إلا رواية عن ابن عباس، وهي معارضة بروايته الأخرى، ولأن الزكاة من حقوق المال، فوجبت على الصبي والمجنون، كنفقة قريبهما وزوجتيهما، وبهذا فارقت الصلاة والحج، لتعلقهما بالبدن، ونية الصبي تضعف عنها.
1172 - «ورفع القلم عن ثلاثة» لا يرد، إذ المخاطب بالإخراج الولي، وتعلق الوجوب [إن قيل] بالعين فلا كلام، وإن قيل بالذمة فكثبوت الصلاة في ذمة النائم. إذا ثبت هذا فالمخاطب هو الولي، لأنه المخاطب بالحقوق [المتعلقة] بهما، بدليل أنه ينفق على قريبهما وزوجتيهما، ويؤدي ما لزمهما من إتلاف ونحو ذلك، والله أعلم.

(2/415)


قال: والسيد يزكي عما في يد عبده، لأنه مالكه.
ش: قد تضمن كلام الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن العبد لا يملك، وأن ما في يد العبد ملك للسيد، فإذا كان ملكا له وجبت عليه الزكاة، لدخوله في العمومات المقتضية لذلك، أما إن قلنا [أن] العبد يملك فإن الزكاة لا تجب على السيد، لانتفاء الملك، ولا على العبد لضعف الملك، وقد تقدم ذلك، [والله أعلم] .

قال: ولا زكاة على مكاتب.
ش: [هذا المذهب بلا ريب] .
1173 - لما روي عن أبي الزبير، عن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ليس في مال المكاتب زكاة حتى يعتق» رواه الدارقطني، ورواه أبو بكر موقوفا على جابر.
1174 - وعن ابن عمر: المكاتب عبد ما بقي عليه درهم، وليس في ماله زكاة. (وعنه) يزكي بإذن سيده.

(2/416)


وقد دخل في كلام الخرقي. وجوب العشر عليه، وصرح [به] الأصحاب، لأنه عندنا زكاة، فيدخل فيما تقدم.

قال: فإن عجز استقبل سيده بما في يده من المال حولا وزكاه إن كان نصابا] .
ش: إذا عجز المكاتب فقد استقر ملك سيده على ما في يده، فيستقبل به حولا [كالذي] ورثه، أو اتهبه، ونحو ذلك والله أعلم.

قال: وإن أدى وبقي في يده منصب للزكاة استقبل به حولا.
ش: إذا أدى المكاتب فقد عتق، فإن فضل في يده نصاب فإن الحول ينعقد عليه حينئذ، لاستقرار ملكه عليه، والله أعلم.

(2/417)


قال: ولا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول.
1175 - ش: روي عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول» رواه ابن ماجه.
1176 - وعن الحارث عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا كانت لك مائتا درهم، وحال عليها الحول، ففيها خمسة دراهم، وليس عليك في الذهب شيء حتى يكون لك عشرون دينارا، فإذا كانت لك عشرون دينارا وحال عليها الحول ففيها نصف دينار، فما زاد فبحساب ذلك» قال الحارث: فلا أدري أعلي يقول ذلك أو رفعه إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ «وليس في مال زكاة حتى يحول عليه الحول» رواه أبو داود.

(2/418)


1177 - وعن القاسم أن أبا بكر [الصديق]- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لم يكن [يأخذ] من مال زكاة حتى يحول عليه الحول. مختصر رواه مالك في الموطأ.
واعلم أن كلام الخرقي عام في جميع الأموال، وكذلك الحديث، ويستثنى من ذلك الخارج من الأرض، وما في معناه من حب، وثمر، ومعدن، وركاز، وعسل، أما في الحب والثمر فلقوله تعالى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141] وإيجاب

(2/419)


الحق يوم الحصاد ينافي اشتراط الحول، ولأن نماءه يتناهى بجعله في الجرين، فوجب أن تستقر الزكاة إذًا، إذ الحكمة في اشتراط الحول [تكامل النماء، وهذا قد تكامل نماؤه، ولهذا قلنا: لا يشترط الحول] للمعدن، والركاز، والعسل؛ لأن بوجودها حصل النماء. وقد نص الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - من ذلك على المعدن، والبقية كلامه فيه محتمل.
ويستثنى أيضا نتاج السائمة، وربح التجارة، فإن حولهما حول أصلهما إن كان نصابا، وإلا فمن كمال النصاب، وقد نبه الخرقي على النتاج بقوله: وتعد عليهم السخلة. وقد تقدم ذلك، والدليل عليه، ولأن الماشية تختلف وقت ولادتها فإفراد كل واحدة بحول يؤدي إلى حرج ومشقة [وهما منتفيان شرعا، وربح التجارة في معنى النتاج، لعدم ضبط حولها] ، وقد نص عليه الخرقي فيما بعد، وشرط النتاج السوم في بقية السنة، فإن كان بشرب اللبن فوجهان.
وقد دخل في كلام الخرقي المستفاد بإرث أو عقد، في اشتراط الحول له، [من غير ضم إلى ما معه] وهو صحيح، لعموم ما تقدم.

(2/420)


1178 - وفي الترمذي عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من استفاد مالا فلا زكاة عليه حتى يحول عليه الحول» زاد في رواية «عند ربه» .
قال الترمذي: وقد روي موقوفا على ابن عمر. وقال أحمد - في رواية أبي طالب: - الحديث «ليس على مال [استفيد] زكاة حتى يحول [عليه الحول] » فإن قيل: «اللام للعهد» ، أي حول المال الذي كان معه. قيل: [بل] للعهد العام الذي هو اثنا عشر شهرا.
«تنبيه» : قد يقال: [ظاهر] كلام الخرقي أن مضي الحول على جميع النصاب شرط [فلو نقص] الحول نقصا يسيرا أثر، وهذا ظاهر كلام القاضي، لكنه ذكر ذلك فيما إذا وجد النقص في أثناء الحول، وقال أبو بكر: ثبت أن نقص الحول ساعة أو ساعتين معفو عنه، وكذلك قال أبو البركات: لا يؤثر نقصه دون اليوم. قال أبو محمد: ويحتمل أن أبا بكر أراد النقص في طرف الحول، والقاضي قال ذلك في أثنائه، فيرتفع الخلاف، والله أعلم.

[تعجيل الزكاة]
قال: ويجوز تقدمة الزكاة.
ش: يجوز تقدمة الزكاة في الجملة.

(2/421)


1179 - لما روى حجية عن علي «أن العباس سأل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في تعجيل صدقته قبل أن تحل، فرخص له في ذلك» ، رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي. وفي رواية أخرى للترمذي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لعمر: «إنا قد أخذنا زكاة العباس عام الأول للعام» لكن حجية قال أبو حاتم: شيخ لا يحتج بحديثه شبيه بالمجهول.
وقال البيهقي: اختلف في هذا الحديث، والمرسل فيه أصح، واختلف عن أحمد فيه، فضعفه في رواية الأثرم، وإبراهيم بن الحارث، ونقل عنه أيضا إبراهيم بن الحارث، أنه احتج به، وهو يدل على أن الضعف الذي فيه لم يزل الاحتجاج به.

(2/422)


1180 - وعن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «بعث رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عمر بن الخطاب على الصدقة، فمنع ابن جميل، وخالد بن الوليد، والعباس عم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ما ينقم ابن جميل إلا أن كان فقيرا فأغناه الله، وأما خالد بن الوليد فإنكم تظلمون خالدا، وقد احتبس أدراعه وأعتده في سبيل الله، وأما العباس عم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فهي علي ومثلها» ثم قال: «يا عمر، أما شعرت أن [عم] الرجل صنو أبيه؟» رواه الشيخان وغيرهما. والحجة في قوله: «فهي علي ومثلها معها» وهذا لفظ مسلم وأبي داود، ومعناه أنه قد تسلف منه صدقة سنتين، فصارت دينا عليه، وقيل: قبض منه صدقة عامين،

(2/423)


العام الذي شكا فيه العامل، وتعجيل صدقة عام ثان، وقيل: بل ضمن أداءها - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عنه سنتين، وعلى هذا لا حجة فيه. ولفظ البخاري والنسائي في هذا الحديث: «هي عليه صدقة له ومثلها معها» قال البيهقي: يبعد أن يكون محفوظا، لأن العباس هاشمي، تحرم عليه الصدقة. وقال غيره: إلا أن يكون [قبل] تحريم الصدقة عليهم، ورأى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إسقاط الزكاة عنه عامين. وقال أبو عبيد: أرى والله أعلم أنه أخر عنه الصدقة عامين لحاجة عرضت للعباس. إذا تقرر هذا فشرط تقدمة الزكاة عن الحول تمام النصاب، ليوجد سبب الزكاة فتصير في سلك تقديم الحكم بعد وجود سببه، وقبل وجود شرطه،

(2/424)


كالكفارة تقدم بعد اليمين، وقبل الحنث، وكفارة القتل، تقدم بعد الجرح وقبل الزهوق، وفدية الأذى تقدم بعد الأذى وقبل الحلق، ونحو ذلك. ويشترط أيضا وجود الحرية والإسلام. والفرق على ما قاله القاضي وغيره أن الحرية والإسلام لا يختصان بالزكاة، بل هما شرطان للحج وغيره، أما الحول فيختص بها، ويرد على هذا الفرق السوم في الماشية، فإن وجوده شرط للإخراج، وهو مختص بالزكاة. وقد يقال: [في الفرق] بين الحول وهذه الشروط: أن الأصل بقاء الحياة، والظاهر مضي الحول، فأقمنا الظاهر مقام الحقيقة أما في هذه الشروط فإن الأصل عدمها، فبقينا على الأصل، ومن جهة النص أن الشارع إنما رخص في هذا الشرط، ولم يرد الترخيص في غيره.
ثم اعلم أنه يجوز تقدمة زكاة عام واحد، بلا خلاف عندنا، وفي تعجيلها لأكثر من ذلك روايتان، كذا في كتب أبي محمد، تبعا لأبي الخطاب في الهداية، وقيدهما أبو البركات، وابن الزاغوني [بعامين] ونص أحمد ورد على ذلك، والله أعلم.

(2/425)


«تنبيه» : نقم ينقم، ونقم ينقم، «وأعتده» جمع «عتد» بفتح العين والتاء القوس الصلب، وقيل: المعد للركوب، وقيل: السريع الوثب ورواه جماعة «وأعبده» بالباء الموحدة جمع قلة للعبد، وروى «عقاره» بالقاف والعقار الأرض، والضياع والنخل، ومتاع البيت، وروي «أعتاده» والعتاد ما أعد من سلاح وآلة ومركوب للجهاد «والصنو» المثل أي مثل أبيه، وأن أصله وأصل أبيه واحد، وأصل الصنو [أن] تطلع النخلتان والثلاث من عرق واحد، والله أعلم.

قال: ومن قدم زكاة ماله، فأعطاها لمستحقيها فمات المعطى قبل الحول أو بلغ الحول وهو غني منها أو من غيرها، أجزأت [عنه] .
ش: المعتبر عندنا حال الإخراج، فإذا دفع الزكاة المعجلة إلى مستحقها فمات قبل الحول أو ارتد، أو وصل الحول وهو غني، أجزأت عنه، ولو دفعها إلى غني أو عبد، فصار عند الحول فقيرا أو حرا لم تجزئه، كما اقتضاه مفهوم

(2/426)


[كلام] الخرقي، وصرح به غيره، لأن الله سبحانه جعل الصدقة للأصناف المذكورة، فمن دفعها إليهم فقد خرج عن العهدة لظاهر الآية، ومن دفعها إلى غيرهم لم يخرج عن العهدة، إذ المدفوع لم يخرج عن كونه صدقة، ولأن ما جاز تقديمه على وقت وجوبه فالمراعى فيه حال التعجيل، دون حال الوجوب، أصله الرقبة في الكفارة، إذا أعتقها قبل الموت، أو قبل الحنث، ثم عمي العبد، أو حدث به ما يمنع الإجزاء، فإنه لا يؤثر، كذلك [ها] هنا، [والله أعلم] .

[اشتراط النية في الزكاة]
قال: ولا يجزئ إخراج الزكاة إلا بنية، إلا أن يأخذها الإمام منه قهرا.
ش: الزكاة عبادة، فلا بد لها من النية كالصلاة، قال الله سبحانه وتعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة: 5] وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى» . وقال: «لا عمل إلا بنية» ولا نزاع عندنا في هذا إذا كان المخرج هو المالك، أو النائب عنه، كولي الصبي والمجنون، أما إن أخذها الإمام من غير نية رب المال فإنها

(2/427)


تجزئه في الظاهر بلا نزاع، بمعنى أنه لا يؤمر بأدائها ثانيا. وهل تجزئه في الباطن؟ فيه ثلاثة أوجه:
(أحدها) : تجزئه مطلقا، وهو قول القاضي أظنه في المجرد، لأن للإمام ولاية عامة، ولذلك يأخذها من الممتنع، فأشبه ولي الصبي والمجنون، ولأن أخذه يجري مجرى القسم بين الشركاء.
(والثاني) : لا تجزئه مطلقا، وهو اختيار أبي الخطاب، وابن عقيل، وأبي العباس في فتاويه إذ الزكاة عبادة، فلا تجزئ بغير نية من وجبت عليه كالصلاة.
(والثالث) : يجتزئ بنية الإمام إن أخذها قهرا، لأن له [إذًا] ولاية على الممتنع، فقامت نيته مقام نيته، كولي الصبي والمجنون، ولا يجتزئ بنيته إن أخذها طوعا، لعدم ولايته، وهذا اختيار الخرقي، والله أعلم.

[من لا يجوز إعطاؤه من الزكاة]
قال: ولا يعطي الصدقة المفروضة للوالدين وإن علوا، ولا للولد وإن سفل.
ش: لا يعطي من الصدقة المفروضة للوالدين وإن علت درجتهم، وكانوا من ذوي الأرحام، كأبي أبي أمه، ولا للولد وإن سفل، وكان من ذوي الأرحام، كبنت بنت بنت بنته، نص عليه أحمد والأصحاب، لأن ملك أحدهما في حكم ملك الآخر، بدليل أنه لا يقطع أحدهما بسرقة مال الآخر، ولا تقبل شهادة أحدهما لصاحبه، وإذا كان في حكم ملكه فكأنه

(2/428)


لم يزل ملكه عنه، ومن شرط الزكاة زوال الملك، ولأن الإجماع قد انعقد على أنه لا يجوز دفع الزكاة إلى والديه في الحال التي تجب عليه نفقتهما فنقول: قرابة أثرت [في] منع الزكاة، فوجب أن تؤثر مطلقا، دليله قرابة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تؤثر في المنع وإن كان الخمس معدوما.
ومفهوم كلامه أن يجوز دفع صدقة التطوع إليهم، وسيأتي ذلك إن شاء الله تعالى، ومفهومه أن يجوز دفع الصدقة المفروضة إلى سائر الأقارب، ولا يخلو القريب [من غير عمودي النسب] إما أن تجب نفقته على الدافع أو لا، فإن لم تجب نفقته [عليه] جاز الدفع إليه بلا نزاع، وإن وجبت نفقته ففيه روايتان مشهورتان: (إحداهما) - وهي اختيار الخرقي، ذكره في باب قسم الفيء والغنيمة، والقاضي في التعليق، وصاحب التلخيص - المنع، قال القاضي: وهي أشهرهما. قلت: وأنصهما. نظرا إلى أن من تلزمه نفقته غني بوجوب النفقة له، فأشبه الغني، ولأن نفع الزكاة والحال هذه يعود إلى الدافع، لأنه يسقط عنه [النفقة] لغنى المدفوع إليه بها، فأشبه ما لو دفعها لعبده.
1181 - وقد روى الأثرم في سننه عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: إذا كان ذو قرابة لا تعولهم فأعطهم من زكاة مالك، وإن كنت

(2/429)


تعولهم فلا تعطهم، ولا تجعلها لمن تعول. (والثانية) - وقال أبو محمد في المغني: إنها الظاهرة عنه - الجواز:
1182 - لعموم قوله: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الصدقة على المسكين صدقة، وهي لذي الرحم ثنتان، صدقة وصلة» . رواه أحمد والترمذي، وابن ماجه، والصدقة والرحم عامان.
1183 - وعن أبي أيوب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أفضل الصدقة على ذي الرحم الكاشح» رواه أحمد.
«تنبيه» : اعلم أن عامة الأصحاب على حكاية الروايتين، وقال القاضي في التعليق في النفقات: وهاهنا يمكن حملها على

(2/430)


اختلاف حالين، فالموضع الذي منع إذا كانت النفقة واجبة، والموضع الذي أجاز إذا لم تجب [كما] إذا لم يفضل عنه ما ينفق عليهم، والله أعلم.

قال: ولا للزوج ولا للزوجة.
ش: عطف على الوالدين، أما الزوجة فبالإجماع، قاله ابن المنذر، ولأن نفقتها واجبة عليه، وبها تستغني عن الزكاة، وأما الزوج ففيه روايتان منصوصتان:
(إحداهما) - وهي اختيار القاضي في التعليق - الجواز، لدخوله تحت قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ} [التوبة: 60] الآية.
1184 - «وعن زينب امرأة عبد الله بن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قالت: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تصدقن يا معشر النساء ولو من حليكن» قالت: فرجعت إلى عبد الله فقلت: إنك رجل خفيف ذات اليد، وإن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمرنا بالصدقة، فأته فاسأله، فإن كان ذلك يجزئ عني، وإلا صرفتها إلى غيركم. قالت: فقال عبد الله: بل ائتيه أنت. قالت: فانطلقت فإذا امرأة [من الأنصار] بباب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حاجتها حاجتي، قالت:

(2/431)


وكان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد ألقيت عليه المهابة، قالت: فخرج علينا بلال، فقلنا له: ائت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأخبره أن امرأتين بالباب يسألانك أتجزئ الصدقة عنهما على أزواجهما، وعلى أيتام في حجورهما، ولا تخبر من نحن. قالت: فدخل [بلال] فسأله، فقال له: «من هما» ؟ قال: امرأة من الأنصار، وزينب. قال: «أي الزيانب؟» قال: امرأة عبد الله. فقال: «لهما أجران، أجر القرابة وأجر الصدقة» متفق عليه، وللبخاري: أتجزئ عني أن أنفق على زوجي، وأيتام لي في حجري، انتهى. لا يقال: السياق يقتضي التطوع، لأنا نقول الاعتبار باللفظ لا بالسبب.
(والثانية) : - وهي اختيار الخرقي، وأبي بكر - المنع، قياسا لأحد الزوجين على الآخر، ولأن النفع يعود لها، لأنها تتمكن إذًا من أخذ نفقة الموسرين منه أو من أصل النفقة مع العجز

(2/432)


الكلي. وحديث زينب تأوله أحمد في رواية ابن مشيش على غير الزكاة، والله أعلم.

قال: ولا الكافر.
ش: عطف أيضا على ما تقدم، وهذا إجماع حكاه ابن المنذر.
1185 - وفي الصحيحين في حديث معاذ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال له: «أخبرهم أن [الله قد فرض] عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم» والصدقة إنما تؤخذ من أغنياء المسلمين، والذمي ليس من فقرائهم، والله أعلم.

قال: ولا المملوك.
ش: لأن العبد يجب على سيده نفقته، فهو غني بغناه، وقد قال أبو محمد: لا أعلم فيه خلافا.

قال: إلا أن يكونوا من العاملين [عليها] ، فيعطون بحق ما عملوا.

(2/433)


ش: هذا الاستثناء راجع إلى الوالدين، والمولودين، والزوجة، والزوج، والكافر والمملوك، وبه يتم الكلام على ما تقدم، وإنما جاز لمن تقدم أن يأخذ من الزكاة إذا كان عاملا لأن الذي يأخذه أجرة عمله، لا زكاة، فلذلك يقدر ما يأخذه بقدر عمله، قال أحمد: يأخذ على قدر عمالته.
واعلم أن كلام الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - تضمن أمورا: (أحدها) : أن قوله: الصدقة المفروضة. يدخل فيه الزكاة، والكفارة، والنذر، وقد يخرج منه النذر بالنظر إلى أصله. وقد نص الخرقي على الكفارة في بابها، مصرحا بأن حكمها حكم الزكاة. ونص أبو الخطاب في الهداية أيضا على ذلك. وخرج بقوله: المفروضة. التطوع، فإنه يجوز لمن تقدم الأخذ منه، ولا ريب في ذلك، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} [الإنسان: 8] والأسير يومئذ هو الكافر.
1186 - «وعن أسماء بنت أبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قالت: قدمت علي أمي [وهي مشركة] فقلت: يا رسول الله إن أمي قدمت علي وهي راغبة، أفأصلها؟ قال: «نعم صلي أمك» .
(الثاني) : أن ظاهر كلامه أن العامل يجوز أن يكون كافرا أو عبدا، أو أبا، وهو مبني على ما تقدم من [أن] الذي يأخذه العامل يأخذه أجرة لا زكاة، لكن اختلف عن أحمد هل من شرطه الإسلام؟ على روايتين: (إحداهما) : لا، وهي اختيار

(2/434)


الخرقي، والقاضي في الجامع الصغير، وفي التعليق الكبير، وابن البنا وجماعة، لإطلاق قَوْله تَعَالَى: {وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا} [التوبة: 60] . ولما تقدم من أن الذي يأخذه العامل يأخذه أجرة لا زكاة، وتجوز إجارة الكافر. (والثانية) : نعم، اختاره القاضي فيما حكاه عنه أبو الخطاب، وكأنه في المجرد، نظرا إلى أن من شرط العامل الأمانة بالاتفاق والكافر ليس بأمين. وأجاب القاضي في التعليق بأنا نشترط أمانته، كما نشترط عدالته في الوصية في السفر. (الأمر الثالث) أن الخرقي إنما جوز دفع الزكاة [لمن تقدم] إذا كانوا عمالا فقط، لأنه إنما استثنى العامل [لا غير] وقال: [أبو الخطاب] وصاحب التلخيص، وأبو البركات: يجوز دفع الزكاة لمن تقدم إذا كانوا عمالا، أو غزاة، أو مؤلفة، أو غارمين لإصلاح ذات البين، وهو مقتضى كلام القاضي في التعليق، لأنهم إنما يأخذون لمصلحتنا، لا لحاجتهم.
1187 - وفي سنن أبي داود، والموطأ عن عطاء بن يسار، أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تحل الصدقة لغني إلا [لخمسة] ، لغاز في سبيل

(2/435)


الله، أو لعامل عليها، أو لغارم، أو لرجل اشتراها بماله، أو لرجل كان له جار مسكين فتصدق على المسكين فأهدى المسكين للغني» . ولأبي سعيد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - معناه، قاله أبو داود، ورواه أحمد، والحاكم، وقال: على شرطهما وحكى أبو محمد في المغني عن الأصحاب أنهم جوزوا الدفع إلى الغارم لمصلحة نفسه، وإن كان من ذوي القربى، وحكى هو احتمالا بالمنع، والله أعلم.

قال: ولا لبني هاشم ولا لمواليهم.
ش: أي ولا يدفع من الصدقة المفروضة لبني هاشم، ولا لمواليهم.
1188 -[أما بنو هاشم] فلما «روى المطلب بن ربيعة بن الحارث بن [عبد] المطلب، أنه و [الفضل] بن العباس انطلقا إلى رسول الله

(2/436)


- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ثم تكلم أحدنا فقال: يا رسول الله، جئناك لتؤمرنا على هذه الصدقات، فنصيب ما يصيب الناس من المنفعة، ونؤدي إليك ما يؤدي الناس. فقال: «إن الصدقة لا تحل لمحمد، ولا لآل محمد، إنما هي أوساخ الناس» مختصر، رواه أحمد ومسلم، وأبو داود، والنسائي.
1189 - وعن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «أخذ الحسن تمرة من تمر الصدقة، فجعلها في فيه، فقال رسول الله: «كخ كخ [ارم بها] أما علمت أنا لا نأكل الصدقة؟» وفي رواية: «أنا لا تحل لنا الصدقة» متفق عليه.
1190 - وأما مواليهم فلما «روى أبو رافع - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: بعث رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجلا على الصدقة من بني مخزوم، قال أبو رافع: فقال [له] : اصحبني فإنك تصيب منها معي، قلت: حتى أسأل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فانطلق إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: «مولى

(2/437)


القوم من أنفسهم، وإنا لا تحل لنا الصدقة» رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي، والنسائي.
ومقتضى كلام الخرقي أنه يجوز دفع صدقة التطوع إليهم، وهو المشهور والمختار من الروايتين.
1191 - نظرا إلى أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «المعروف كله صدقة» متفق عليه، ولا خلاف في إباحة المعروف إلى الهاشمي.
1192 - وعن جعفر بن محمد عن أبيه أنه كان يشرب من سقايات بين مكة والمدينة، فقلت له: أتشرب من الصدقة؟ فقال: إنما

(2/438)


حرمت علينا الصدقة المفروضة. «والرواية الثانية» لا يجوز، لعموم ما تقدم، ورد بأن التعريف للعهد لا للعموم.
(فعلى الأولى) : يجوز لهم الأخذ من الوصايا والنذور، قال أبو محمد: لأنهما تطوع وفي الكفارة قولان.
ومقتضى كلامه أيضا [أنه لا يجوز أن يأخذوا لعمالتهم، وظاهر كلامه] في قسم الفيء والغنيمة - بل نصه - إباحة ذلك، وهي مسألة: هل من شرط العامل كونه من [غير] ذوي القربى؟ وفيها قولان، المشهور منهما، والمختار لجمهور الأصحاب عدم الاشتراط، نظرا إلى إطلاق قَوْله تَعَالَى: {وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا} [التوبة: 60] وبأن ما يأخذه أجرة لا زكاة، وحديث أبي رافع محمول على التنزيه. (والقول الثاني) : وهو اختيار أبي محمد يشترط، لما تقدم من حديث أبي رافع.
ويجوز أن يعطوا [أيضا لكونهم] غزاة، أو غارمين لإصلاح ذات البين. قال القاضي: في قياس المذهب، لأنهم يأخذون لمصلحتنا، لا لحاجتهم [وفقرهم] وكذلك قال صاحب التلخيص، وأبو البركات، وزاد: أو مؤلفة.

(2/439)


ومقتضى كلامه أيضا أن لبني المطلب الأخذ من الصدقة المفروضة، لأنه خص المنع ببني هاشم، وهذا إحدى الروايتين عن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، لدخولهم تحت قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ} [التوبة: 60] خرج [منه] يقينا - بنو هاشم، فما عداه يبقى على مقتضى الأصل، ولأن بني المطلب في درجة بني أمية، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يلتقي في النسب مع بني أمية وبني المطلب.
1193 - ولهذا قال عثمان وجبير بن مطعم - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: وإنما بنو المطلب [ونحن في القرابة سواء.؟ وبنو أمية لا

(2/440)


تحرم عليهم الصدقة، فكذلك بنو المطلب] . (والرواية الثانية) : يمنعون كبني هاشم، اختارها القاضي في التعليق، نظرا إلى أنهم يأخذون من الخمس، فمنعوا كبني هاشم.
1194 - يؤيده ما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال للعباس: «أليس في خمس الخمس ما يغنيكم عن أخذ أوساخ الناس» ؟ فعلل المنع من الأخذ بالخمس، وبنو المطلب يأخذون من الخمس فعلى هذا ما حكم مواليهم؟ قال القاضي: لا نعرف فيه رواية، ولا يمتنع أن نقول فيهم ما نقول في موالي بني هاشم.
«تنبيه» : «كخ كخ» زجر للصبيان، وردع عما يلابسونه من الأفعال [قال في اللباب: كخ كخ. ليس بعربي] والله تعالى أعلم.

قال: ولا لغني.
ش: لا تحل صدقة الفرض لغني في الجملة، لأن الله سبحانه

(2/441)


وتعالى حصرها في الفقراء بقوله: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ} [التوبة: 60] الآية.
1195 - وعن عبد الله بن عمرو بن العاص - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -[قال] : «لا تحل الصدقة لغني، [ولا لذي مرة سوي» رواه أبو داود، والترمذي وفي رواية لأبي داود: «ولا لذي مرة قوي» . وللنسائي عن أبي هريرة نحوه.
1196 - «وأخبر - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه لا حظ فيها لغني] ، ولا لقوي مكتسب» ويستثنى من ذلك العامل، والمؤلف [والغازي] ، والغارم لإصلاح ذات البين، فإن الغنى لا يمنع من الدفع إليهم، لما

(2/442)


تقدم من أن الدفع لمصلحتنا، لا لحاجتهم، ويجوز للغني أن يأخذ من صدقة التطوع لما تقدم.
«تنبيه» : «المرة» القوة والشدة، و «السوي» المستوي الخلق، التام الأعضاء، والله أعلم.

قال: وهو الذي يملك خمسين درهما، أو قيمتها من الذهب.
ش: اختلفت الرواية عن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في حد الغنى، فنقل عنه منها أن يكون له كفاية على الدوام، إما من تجارة، أو من صناعة، أو أجرة عقار، أو غير ذلك، فالحكم على هذه الرواية منوط بالحاجة وعدمها، فمن كان محتاجا حلت له الزكاة وإن ملك نصبا، ومن لم يكن محتاجا لم تحل له وإن لم يملك شيئا، وهذه الرواية اختيار أبي الخطاب، وابن شهاب العكبري.
1197 - لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لقبيصة بن مخارق: «يا قبيصة لا تحل المسألة إلا لأحد ثلاثة» وذكر الحديث إلى أن قال: «ورجل أصابته فاقة، حتى يقول ثلاثة من ذوي الحجى من قومه: لقد أصابت فلانا فاقة. فحلت له المسألة حتى يصيب قواما من عيش، أو سدادا من عيش» رواه مسلم وغيره. فأباح - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - –

(2/443)


المسألة حتى يصيب القوام أو السداد، فمن ملك خمسين درهما ولم يصب القوام ولا السداد حل له بمقتضى النص الأخذ، ولأن في العرف أن من كان محتاجا فهو فقير، فيدخل في عموم النص.
ونقل عنه جماعة أن من ملك خمسين درهما أو قيمتها من الذهب وإن كان حليا فهو غني وإن لم تحصل له الكفاية، وإن ملك عقارا قيمته عشرة آلاف درهم أو يحصل له من غلته مثل ذلك، أو أقل، أو أكثر، ولا يقوم بكفايته يأخذ من الزكاة، وهذا هو المذهب عند الأصحاب، حتى إن عامة متقدميهم لم يحكوا خلافا.
1198 - وذلك لما روي عن عبد الله بن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من سأل وله ما يغنيه جاءت يوم القيامة خدوشا أو كدوشا في وجهه» قالوا: يا رسول الله وما غناه؟ قال: «خمسون درهما أو حسابها من الذهب» رواه الخمسة، وحسنه الترمذي، وأحمد في رواية الأثرم، فقال: حسن بين وإليه نذهب. انتهى.

(2/444)


1199 - وقال في رواية عبد الله: روي عن سعد، وابن مسعود، وعلي. يعني اعتبار الخمسين، وهذا نص في أن من ملك خمسين درهما أو حسابها من الذهب أنه غني، وما عداه يبقى فيه على قصة قبيصة، وعلى قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لا حظ فيها لغني ولا لقوي مكتسب» .

(2/445)


«تنبيه» : «الحجى» العقل، والله أعلم.

[مصارف الزكاة]
قال: ولا تعطى إلا في الثمانية الأصناف التي سمى الله عز وجل.
ش: لأن الله سبحانه وتعالى حصرها في الثمانية بقوله: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ} [التوبة: 60] الآية.
1200 - «وعن زياد بن الحارث الصدائي قال: أتيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فبايعته. فذكر حديثا طويلا، فأتاه رجل فقال: أعطني من الصدقة. فقال [له] رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن الله تعالى لم يرض بحكم نبي ولا غيره في الصدقات، حتى حكم فيها، فجزأها ثمانية أجزاء، فإن كنت منهم أعطيتك» رواه أبو داود.
وقد تضمن كلام الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه لا يعطى منها لبناء قنطرة ولا سقاية، ونحو ذلك، وهو صحيح لما تقدم.

(2/446)


وتضمن أيضا أن حكم المؤلفة باق، وهذا أشهر الروايتين عن أحمد، واختيار الأصحاب، لأن الله تعالى ذكرهم، وكذلك المبين لكتابه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وأعطاهم، فالأصل بقاؤهم، إلا أن يدل دليل على النسخ ولا دليل عليه، واحتماله غير كاف.
(وعن أحمد) - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن حكمهم انقطع للاستغناء عنهم.
1201 - وعن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إنا لا نعطي على الإسلام شيئا، (فمن شاء فليؤمن، ومن شاء فليكفر) .
«تنبيه» : مقتضى كلام الشيخين جريان الخلاف على الإطلاق، ومقتضى كلام [صاحب] التلخيص تبعا لأبي الخطاب في الهداية أن الخلاف مختص بالكافر منهم، أما المسلم فالحكم باق في حقه بلا نزاع، وكلام القاضي في التعليق يحتمل ذلك، والله أعلم.

قال: إلا أن يتولى الرجل إخراجها بنفسه، فيسقط العامل.

(2/447)


ش: لما دل كلامه السابق على أنه يجوز دفعها في الثمانية، استثنى من ذلك [ما] إذا تولى الرجل إخراجها بنفسه، فإن العامل يسقط للاستغناء عنه إذًا، إذ هو إنما يأخذ أجر عمله ولا عمل، والله أعلم.

قال: وإن أعطاها كلها في صنف واحد أجزأه إذا لم يخرجه إلى الغنى.
ش: المشهور والمختار عند جمهور الأصحاب من الروايتين أنه يجوز لرجل دفع زكاته إلى صنف واحد من الأصناف بشرطه، بناء على أن اللام في الآية الكريمة للاختصاص، ولبيان جهة المصرف، ويدل على ذلك قوله سبحانه وتعالى: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 271] [فاقتصر سبحانه على الفقراء بعد ذكر الصدقات وهو عام] وقال تعالى: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ} [المعارج: 24] {لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [المعارج: 25] فجعل الحق - والظاهر أنه الزكاة - لصنفين فقط.
1202 - وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لمعاذ: «أخبرهم أن الله قد فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم، فترد في فقرائهم» فلم يذكر - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلا صنفا واحدا.

(2/448)


1203 - ويروى «أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لسلمة بن صخر: «اذهب إلى صاحب صدقة بني زريق فقل له فليدفعها إليك» .
1204 - «وعن قبيصة بن مخارق الهلالي قال: تحملت حمالة فأتيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أسأله فيها، فقال: «أقم حتى تأتينا الصدقة فنأمر لك بها» مختصر، رواه مسلم وغيره.
(وعن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -) رواية أخرى: يجب أن يستوعب الأصناف إلا أن يخرجها بنفسه فيسقط العامل، اختارها أبو بكر في تعاليق أبي حفص، بناء على أن اللام في الآية الكريمة للملك، ولحديث زياد بن الحارث الصدائي فإنه قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «جَزَّأَها ثمانية أجزاء» وحمل على بيان وجه المصرف.

(2/449)


وقول الخرقي: ما لم يخرجه إلى الغنى. بيان لشرط الدفع، وهو أنه إذا دفع إلى صنف أو أكثر إنما يدفع ما تحصل به الكفاية والاستغناء، وتزول به الحاجة، إلا أن قول الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إذا لم يخرجه إلى الغنى. ظاهره أن شرط الإعطاء أن لا يوصله إلى الغنى، [بل لا بد أن ينقص عنه، ونص أحمد والأصحاب يقتضي أنه يوصله إلى الغنى] لكن لا يزيد عليه، وإذًا فلنتعرض إلى ما يدفع إلى كل واحد من الأصناف، على سبيل الاختصار.
فيدفع إلى الفقير والمسكين أدنى ما يغنيهما، فإن كان المدفوع إليهم غير الذهب والفضة دفع إليهما [تمام] كفايتهما لسنة، قاله القاضي، وأبو البركات، وغيرهما، نظرا إلى أن ظاهر كلام أحمد اعتبار كفاية العمر [وكفاية العمر] تحصل بذلك، إذ في كل سنة يدفع إليهما، [فتحصل لهما] الكفاية الأبدية، فإن كان المدفوع إليه ذا حرفة، واحتاج إلى ما يعمل به من عدة ونحو ذلك، دفع إليه ما يحصل ذلك، وكذلك الحكم إن كان المدفوع إليهما ذهبا أو فضة، وقلنا: المعتبر في الغنى الكفاية، من غير نظر إلى قدر من المال. وإن قلنا: الغنى يحصل بخمسين درهما، أو قيمتها من الذهب. لم يدفع إليهما أكثر من ذلك، نص عليه أحمد في رواية الأثرم، وإبراهيم بن الحارث، ومحمد بن الحكم، وينبغي

(2/450)


أنه إذا كان معهما قدر من ذلك أنه يكمل لهما تمام الخمسين، أو قيمتها من الذهب.
ويدفع إلى العامل أجرة مثله، ويدفع إلى المؤلف ما يحصل به التأليف، قاله أبو محمد، وقال صاحب التلخيص فيه: يدفع إليه ما يراه الإمام، وهو قريب من الأول، ويدفع في الرقاب بأن يعطى المكاتب ما عليه إن لم يجد وفاءه، أو يفتدي أسيرا، ونحو ذلك، على ما سيأتي [بيانه] إن شاء الله تعالى، ويدفع إلى الغارم قدر دينه. وإلى الغازي ما يحتاج إليه لغزوه. وإلى الفقير ما يحج به في رواية، ويدفع إلى ابن السبيل ما يوصله بلده، ولا يزاد أحد منهم على ذلك، والله أعلم.

[نقل الزكاة]
قال: ولا تخرج الصدقة من بلدها إلى بلد تقصر في مثله الصلاة.
ش: المذهب أنه لا يجوز نقل الزكاة من بلدها إلى بلد تقصر في مثله الصلاة، مع القدرة على دفعها في بلدها، هذا المعروف في النقل، وظاهر كلام أحمد [والخرقي] وإن كان القاضي في روايتيه، وجامعه الصغير، وتعليقه الكبير، ترجم المسألة بلفظ الكراهة، واحتج أحمد بحديث معاذ المتفق عليه، أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال له: «أخبرهم أن الله قد فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد في فقرائهم» .

(2/451)


لا يقال: المراد فقراء المسلمين. لأنا نقول: الضمير راجع إلى أهل اليمن، إذ هم المبعوث إليهم، أي صدقة تؤخذ من أغنياء مسلمي اليمن، فترد في فقراء مسلمي اليمن، (فإن قيل) : اليمن بلاد كثيرة، فعموم الحديث يقتضي الدفع إلى جميع فقرائها؟ (قيل) : لكنه ظاهر في منع الدفع في إقليم آخر، وإذًا فيتعارض ظاهران، والحمل على جانب العموم أولى، لتطرق التخصيص إليه غالبا، ثم قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «فترد في فقرائهم» في معنى الأمر، فلو حمل على جميع [بلاد] اليمن لحمل على المكروه، وحمل الأمر على المكروه ممتنع.
1205 - واحتج أحمد أيضا بما روى الأثرم في سننه، عن طاوس [قال: في كتاب] معاذ بن جبل: «من انتقل من مخلاف إلى مخلاف فإن صدقته وعشره في مخلاف عشيرته» انتهى.
1206 - وعن عمران بن حصين، أنه استعمل على الصدقة، فلما رجع قيل له: أين المال؟ قال: وللمال أرسلتني؟ أخذناه من حيث

(2/452)


كنا نأخذه على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ووضعناه حيث كنا نضعه.
1207 - ولما بعث معاذ الصدقة إلى عمر من اليمن، أنكر ذلك عمر، وقال: لم أبعثك جابيا، ولا آخذ جزية، ولكن بعثتك لتأخذ من أغنياء الناس، فترد في فقرائهم. فقال معاذ: ما بعثت إليك بشيء وأنا أجد من يأخذه مني. رواه أبو عبيد في الأموال ولأن في النقل ضياع فقراء تلك البلد، وهو عكس مشروعية الزكاة.
(وعن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -) رواية [أخرى] : يجوز النقل مطلقا، لظاهر قوله سبحانه: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ} [التوبة: 60] الآية، ولم يفرق سبحانه بين فقراء وفقراء، «ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لقبيصة: «أقم حتى تأتينا الصدقة، فنأمر لك بها» فدل على أن الصدقة كانت تنقل.
(وأجيب) عن الآية بأن المراد منها بيان المصرف، وعن الحديث بأنه محمول على الفاضل من الصدقات.

(2/453)


1208 - وبهذا أجاب أحمد عما روي من نقل الصدقات إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وإلى أبي بكر، وعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -.
(وعنه) رواية ثالثة - نص عليها في رواية جماعة - أنه يجوز نقلها إلى الثغور خاصة، وقال في هذا غير شيء، وذلك لأن المرابط قد لا يمكنه الخروج [من] الثغر، فالحاجة داعية إلى البعث إليه، لا سيما وما هم عليه فإنه من أعظم أمور الدين، بل هو أصلها.
فعلى الأولى إن خالف ونقل فهل يجزئه؟ فيه روايتان، حكاهما أبو الخطاب وأتباعه، وعن القاضي أنه قال: لم أجد عنه نصا في المسألة. واختار هو وشيخه المنع لأنه دفعها إلى غير من أمر بدفعها إليه، أشبه ما لو دفعها إلى غير الأصناف. واختار أبو الخطاب الجواز؛ لأن الأدلة في المسألة متقاربة، وقد وصلت إلى الفقراء، فدخلت في عموم الآية، ولعل قصة عمر المتقدمة تشهد لذلك.

(2/454)


وقول الخرقي: ولا تخرج الصدقة. اللام في الصدقة للعهد المتقدم، وهو الزكاة، ويشمل زكاة المال والبدن، أما صدقة التطوع فيجوز نقلها بلا كراهة، وأما الكفارات، والنذور، والوصايا، فيجوز نقلها، قاله في التلخيص، [قال] : وخرج القاضي وجها في الكفارات بالمنع، فيخرج في النذور والوصية مثله. (قلت) : ومراد صاحب التلخيص بالوصية؛ الوصية المطلقة، كالوصية للفقراء [مثلا] أما الوصية لفقراء بلد فإنه يتعين صرفها في فقرائه، نص عليه أحمد في رواية إسحاق بن إبراهيم. وقوله: من بلدها. أي [من] البلد الذي وجبت فيه، أو الذي المال فيه، فلو كان ماله غائبا عنه زكاه في بلده، نص عليه في رواية بكر بن محمد، فقال: أحب إلي أن تؤدي حيث يكون المال، فإن كان بعضه حيث

(2/455)


هو، وبعضه في بلد آخر، يؤدي زكاة كل مال حيث هو. وظاهر كلامه أنه ولو في نصاب من السائمة، وفيه وجه آخر أنه في السائمة - والحال هذه - يجزئ الإخراج في بعضها، حذارا من التشقيص، ولو كان ماله تجارة يسافر به، فقال أحمد في رواية يوسف بن موسى: يزكيه في الموضع الذي مقامه فيه أكثر. (وعنه) أنه سهل في إعطاء البعض في بلد، والبعض في البلد الآخر. وعن القاضي: يخرج زكاته حيث حال [عليه] حوله. أما زكاة البدن فيزكي حيث البدن.
وقوله: إلى بلد تقصر في مثله الصلاة. [مفهومه أنها تنقل إلى بلد لا تقصر في مثله الصلاة] ، ونص عليه أحمد والأصحاب، لأن ما قارب البلد في حكمه.
وكلام الخرقي [وغيره] شامل للساعي، ولرب المال، وهو ظاهر كلام أحمد، وشامل لما إذا كان في البلد البعيد أقارب محاويج أو لم يكن، وصرح به غيره، ويستثنى مما تقدم ما إذا

(2/456)


استغنى فقراء بلده، فإنه يفرقها في أقرب البلاد إليه وكذلك إن كان ماله ببادية فرق زكاته في أقرب البلاد إليه.
«تنبيه» : «المخلاف» والله أعلم.

قال: وإذا باع ماشية قبل الحول بمثلها زكاها إذا تم حوله من وقت ملكه الأول.
ش: إذا باع ماشية - وهي الإبل، والبقر، والغنم - في أثناء الحول بمثلها، بأن باع إبلا بإبل، أو بقرا ببقر، أو غنما بغنم، فإن حوله لا ينقطع، فيزكيه إذا تم الحول، نظرا إلى أنه لم يزل في ملكه نصاب من الجنس، أشبه ما لو نتج النصاب نصابا، ثم ماتت الأمات فإن الحول لا ينقطع، كذلك هاهنا، وخرج أبو الخطاب قولا بالانقطاع، ولم يلتفت لذلك أبو محمد في المغني، والله أعلم.

(2/457)


قال: وكذلك إن باع مائتي درهم بعشرين دينارا، أو عشرين دينارا بمائتي درهم، فلا تبطل الزكاة بانتقالها.
ش: لما كان قياس ما تقدم أنه لو باع نصابا بجنسه أن الحول لا ينقطع، وأنه لو باعه بغير جنسه [أن الحول ينقطع، أراد أن ينبه على أن الدراهم والذهب يخالفان ذلك، فلو باع نصابا من الفضة بنصاب] من الذهب [أو نصابا من الذهب] بنصاب من الدراهم، لم ينقطع الحول، لأنهما في حكم الجنس الواحد، إذ هما قيم المتلفات، وأروش الجنايات، والنفع بأحدهما كالنفع بالآخر. وفي معنى ما ذكره الخرقي إذا باع عرضا للتجارة [بأحدهما] أو اشتراهما به، فإن الحول لا ينقطع، إذ الزكاة في قيمتها، وهي أحدهما.
واعلم أن الذي ذكره الخرقي - من أن الحول لا ينقطع ببيع أحد النقدين بالآخر - يحتمل أنه بناء منه على ما سيأتي له إن شاء الله تعالى من ضم أحد النقدين للآخر، وهي طريقة أبي محمد، وطائفة من الأصحاب، وصححها أبو العباس.

(2/458)


وطريقة القاضي وجماعة منهم أبو البركات أن الحول لا ينقطع [مطلقا] وإن لم نقل بالضم، والله أعلم.

قال: ومن كانت عنده ماشية، فباعها قبل حلول] الحول بدراهم، فرارا من الزكاة، لم تبطل الزكاة عنه.
ش: إذا باع ماشية قبل الحول بدراهم، فلا يخلو إما أن يفعل ذلك فرارا من الزكاة أو لا، فإن فعله فرارا من الزكاة، لم تسقط [الزكاة] عنه، لأن سبب الوجوب - وهو انعقاد الحول، مع ملك النصاب - قد وجد، فلا تسقط [عنه] بفعل محرم، وهذه قاعدة لنا: أن الحيل كلها - لإسقاط واجب، أو لارتكاب محرم - باطلة. ويأتي إن شاء الله تعالى الكلام عليها في غير هذا الموضع. وقد عاقب الله سبحانه من فر من الصدقة وقصد منع المسكين، قال الله تعالى: {إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ} [القلم: 17] إلى قوله: {فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ} [القلم: 23] {أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ} [القلم: 24] الآية.
وإن لم يفعل ذلك فرارا من الزكاة فقد انقطع الحول، ولا زكاة عليه، لأن الحول لم يحل على مال، ولا على ما [هو] في معناه.

(2/459)


واعلم أن الذي ذكره الخرقي على سبيل المثال، والضابط على سبيل التقريب والاختصار أنه إن باع نصابا بجنسه لم ينقطع الحول، وبغير جنسه فارا فكذلك، وغير فار ينقطع، إلا في بيع العرض بأحد النقدين، وبيع أحد النقدين بالآخر على ما تقدم.
«تنبيه» : ظاهر كلام الخرقي أنه يشترط أن يكون البيع فرارا في آخر الحول، وهو الغالب على كلام كثير من المتقدمين، واختيار طائفة من المتأخرين، كابن عقيل، وأبي البركات، وغيرهما، وكان القاضي قديما، وأبو الخطاب، وطائفة من الأصحاب، ومنهم أبو محمد، يخصصون ذلك بما إذا [كان البيع] فعله في آخر الحول، كالنصف الثاني من الحول، أما لو كان في أوله، أو وسطه، فإن الحول ينقطع، والله أعلم.

[هلاك المال الزكوي]
قال: والزكاة تجب في الذمة بحلول الحول] ، وإن تلف المال، فرط أو لم يفرط.
ش: هذا الكلام دل على أحكام: (أحدها) أن الزكاة تجب في الذمة، وهو إحدى الروايتين عن أحمد واختيار صاحب

(2/460)


التلخيص، وأبي الخطاب في الانتصار، وغالى فزعم أن المسألة رواية واحدة، ورد مأخذ شيخه في التعليق بالعين، لأنها زكاة واجبة فكان محلها الذمة كزكاة الفطر، ولأنها لو وجبت في المال لامتنع ربه من التصرف فيه بالبيع والهبة كالمرهون، ولامتنع من الأداء من غيره، ولملك الفقراء جزءا منه مشاعا، بحيث يختصون بنمائه، واللوازم باطلة، وإذا بطلت بطل الملزوم.
والرواية الثانية - وهي المشهورة، حتى إن القاضي في التعليق وفي الجامع لم يذكر غيرها، واختارها أبو الخطاب في خلافه الصغير، والشيرازي وصححها أبو البركات في الشرح.
1209 - لظاهر قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «في أربعين شاة شاة، وفيما سقت السماء العشر، فإذا كان لك مائتا درهم، وحال عليها الحول، ففيها خمسة دراهم، فإذا كانت لك عشرون دينارا، وحال عليها الحول، ففيها نصف دينار» فأثبت الزكاة في المال.

(2/461)


وفائدة الخلاف - على ما قاله القاضي في التعليق، وأبو الخطاب، والشيخان، وغير واحد - لو مضى حولان على نصاب لم يؤد زكاته (فإن قلنا) : الزكاة تتعلق بالعين. لم يجب إلا زكاة واحدة، لأن النصاب قد تعلق للفقراء به حق، فنقص الملك في ذلك القدر، ومن شرط وجوب الزكاة استقرار الملك في جميع النصاب وتمامه، وهذا الملك غير تام في جميعه. (وإن قلنا) : الزكاة تتعلق بالذمة. وجبت زكاته لأن النصاب لم يتعلق به شيء، فالملك في جميعه تام، اللهم إلا إذا قلنا: إن دين الله يمنع كدين الآدمي. فإنه لا تجب إلا زكاة واحدة، قاله القاضي وغيره، ومنع ذلك صاحب التلخيص، متابعة لابن عقيل، وقال هنا: لا يمنع، لأن الشيء لا يمنع مساويه. ثم منع أصل البناء وقال: إنه مناقض لما فسروا به الوجوب في العين، [إذ قد فسروه بأنه كتعلق الجناية بالمجني لا كتعلق المرتهن بالرهن، ولا كتعلق الشريك بالعين] المشتركة، ولهذا صح البيع قبل الأداء، نص عليه، وتبقى الزكاة على البائع، لاختياره الإخراج من غيره، نعم للبائع فسخ البيع في قدر الزكاة، مع إعسار البائع، ثم لو كان كتعلق الجناية بالعبد المجني، لسقط [بتلف] المال، كما تسقط الجناية بتلف العبد المجني [عليه] قال: وإذًا تتكرر الزكاة

(2/462)


بتكرار الأحوال على كلتا الروايتين، وتكون فائدة الوجوب في العين انتهاؤه إذا استأصلت المال، بخلاف الوجوب في الذمة، وتقديم الزكاة على الرهن - قلت: وما تقدم من التعليل لا يرد عليه شيء إن شاء الله تعالى، وقول القاضي وغيره: إنه كتعليق الجناية بالعبد المجني. هو معنى ما قلناه، إذ لا شك أن تعلق الجناية بالمجني ينقص الملك فيه [ويزلزله] مع أن الملك باق، لا يمتنع بيعه، ولا هبته، ونحو ذلك.
وقوله: إنه يلزم سقوط الزكاة بتلف المال، كما تسقط الجناية بموت المجني. قلنا: الغرض من التشبيه بالعبد الجاني نقصان الملك مع بقائه لا التشبيه به في جميع أحكامه، والزكاة وإن تعلقت بالعين، فهي مع ذلك لها تعلق بالذمة قطعا، فإذا وجبت لا تسقط، كما لا تسقط الصلاة إذا دخل الوقت، وإن لم يتمكن المكلف من الأداء، ثم قوله: إن فائدة الوجوب في العين انتهاؤه إذا استأصلت المال، وهو معنى ما قالوه، فالذي فر منه وقع فيه.
واعلم أن محل الخلاف والتردد فيما عدا شياه الإبل، أما في شياه الإبل فإنها تجب في الذمة بلا تردد، ولأن الواجب من غير الجنس، وشذ السامري فقال بالتعليق بالعين على روايتها، قال: لأن التعليق حكمي.

(2/463)


(الحكم الثاني) : مما دل عليه كلام الخرقي أن الزكاة لا تسقط بتلف المال وإن لم يفرط في الإخراج، وهذا المذهب المعروف المشهور، إذ الزكاة حق آدمي، أو مشتملة عليه، فلا تسقط بعد وجوبها كدين الآدمي، أو زكاة واجبة، فلا تسقط بتلف المال، كزكاة الفطر (وحكى) الشيخان رواية بالسقوط قبل إمكان الأداء، وذكرها في المغني نصا من رواية الميموني، واختارها، لأن الزكاة في يده أمانة كالوديعة، والذي في التعليق من رواية الميموني وجوب الزكاة فرط أو لم يفرط. (وحكي) من رواية النيسابوري ما يدل على أنه في الماشية تسقط الزكاة، وفي الدراهم لا تسقط، قال أبو حفص: وهو خلاف ما روى الجماعة، ولعل مدرك هذه الرواية أن السعاة كانوا يعتبرون ما وجدوا [لا غير] ولهذا لم يمنع الدين في الأموال الظاهرة، وقد منع القاضي أنها أمانة، وفرق بأن [في] الأمانة لا يلزمه مؤنة التسليم، وهنا يلزمه.

(2/464)


ويستثنى المعشرات، فإنها إذا تلفت بآفة سماوية بعد الوجوب تسقط، إذ استقراره منوط بالوضع في الجرين.

(الحكم الثالث) : أن الزكاة تجب بحلول الحول، ولا يشترط في الوجوب إمكان الأداء وهو صحيح، لمفهوم قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول» ولأنه لو اشترط إمكان الأداء لم ينعقد الحول الثاني حتى يتمكن من الأداء، وليس كذلك، والله أعلم.

قال: ومن رهن ماشية فحال عليها الحول أدى منها إذا لم [يكن] له مال يؤدي عنها، والباقي رهن.
ش: قد دل كلام الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - على أحكام (أحدها) : أن الزكاة تجب في العين المرهونة، وهو واضح، لأن الملك فيها تام.
(الثاني) : أنه إذا كان معه ما يؤدي منه الزكاة غير الرهن لزمه الإخراج، إذ الزكاة بمنزلة مؤونة الرهن، [ومؤونة الرهن] على الراهن، ولا يجوز له الإخراج من الرهن، لتعلق حق المرتهن به.
(الثالث) : إذا لم يكن له ما يؤدي منه الزكاة غير الرهن، فإنه

(2/465)


يخرج منه، بناء على ما تقدم من أن تعلق الزكاة بالنصاب، كتعلق الجناية بالعبد المجني، وحق الجناية مقدم على حق المرتهن، فكذلك حق الزكاة، وهذا واضح على القول بتعلق الزكاة بالنصاب، أما على القول بتعلقها بالذمة ففيه نظر، لأن حق الراهن يتعلق بالرهن والذمة، وحق الفقراء - والحال هذه - لا يتعلق إلا بالذمة، وما له تعلق بالعين، آكد مما لا تعلق له بها.
[وقد يقال: إن المرتهن دخل على ذلك، لأنه دخل على حكم الشرع، ومن حكم الشرع وجوب الزكاة] .
واعلم أن عموم كلام الخرقي هنا يقتضي أن الدين لا يمنع الزكاة في الأموال الظاهرة لأن كلامه يشمل ما [إذا] كان الفاضل عن الدين نصابا، وما إذا نقص عن النصاب، وسيأتي ذلك إن شاء الله سبحانه وتعالى.

[باب زكاة الزروع والثمار]
ش: الأصل في وجوب الزكاة في ذلك في الجملة قَوْله تَعَالَى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141] .
1210 - فعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أنه قال [في] حقه: الزكاة المفروضة. وقَوْله تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ} [البقرة: 267]

(2/466)


وقد استفاضت السنة بذلك كما سيأتي إن شاء الله تعالى، وأجمع المسلمون عليه في البر، والشعير، والتمر، والزبيب، والله أعلم.

قال: وكل ما أخرج الله عز وجل من الأرض مما ييبس ويبقى، مما يكال ويدخر، ويبلغ خمسة أوسق فصاعدا، ففيه العشر، إن كان سقيه من السماء والسيوح، وإن كان يسقى بالدوالي والنواضح وما فيه الكلف فنصف العشر.
ش: يشترط [في] وجوب الزكاة في الخارج من الأرض شروط: (أحدها) : أن يكون مما ييبس، فلا تجب في الخضراوات كالقثاء، والخيار، ونحو ذلك.
1211 - لما «روي أن معاذا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كتب إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الخضراوات، [فكتب] : «ليس فيها شيء» رواه الترمذي وضعفه.

(2/467)


1212 - وعن عطاء بن السائب قال: «أراد عبد الله بن المغيرة أن يأخذ من أرض موسى بن طلحة من الخضراوات صدقة، فقال له موسى [بن طلحة] : ليس لك ذلك إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقول: «ليس في ذلك صدقة» رواه الأثرم في سننه، وهو قوي في المراسيل، لاحتجاج من أرسله به.
(الشرط الثاني) : أن

(2/468)


يكون مما يبقى، أي يدخر عادة، فلا تجب في التين ونحوه، لعدم ادخاره، لأن غير المدخر لم تكمل ماليته، لعدم التمكن من الانتفاع به في المآل، أشبه الخضر.
1213 - وقد روى الأثرم بإسناده أن عامل عمر كتب إليه في كروم فيها من الفرسك ما هو أكثر من الكرم أضعافا مضاعفة، فكتب إليه عمر: ليس عليها عشر، هي من العضاه.
(الشرط الثالث) : أن يكون مما يكال، فلا تجب في الجوز، والأجاص، والتين، ونحوها، لانتفاء كيلها.

(2/469)


1214 - لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قدر ذلك بالكيل فقال: «ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة» متفق عليه. وفي لفظ لمسلم وأحمد: «ليس فيما دون خمسة أوساق من تمر ولا حب صدقة» والتقدير بالكيل يدل على إناطة الحكم به.
(الشرط الرابع) : أن يبلغ ذلك خمسة أوسق لما تقدم، ثم لا بد مع ذلك أن يكون أنبتته أرض مملوكة له.
وقد شمل كلام الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - ما كان من القوت كالحنطة، والشعير، والقطنيات كالباقلا، والعدس، والماش، ونحو ذلك، ومن البزور كبزر القثاء، والخيار [ونحوهما] ومن الأبازير، كالكزبرة، والكمون، ونحوهما [ومن الحبوب كحب البقول، وحب الفجل، وسائر الحبوب بالشروط السابقة] وخالف في ذلك ابن حامد، فلم يوجب

(2/470)


الزكاة في الأبازير وحب البقول [انتهى] . وكذلك جميع الثمار كالتمر، واللوز، والفستق ونحوها.
وشمل أيضا ما أنبته الآدميون كما تقدم، وما نبت بنفسه كبزر قطونا [ونحوه] وهو اختيار القاضي، وصاحب التلخيص، وغيرهما، بشرط أن يكون قد نبت في أرضه كما تقدم. وشرط ابن حامد أن يكون مما أنبته الآدمي، فلو نبت بنفسه فلا زكاة، وهو اختيار أبي محمد.
وشمل أيضا ما كان حبا أو ثمرا كما تقدم، وما ليس كذلك كالأشنان، والصعتر ونحوهما، وهو اختيار العامة. وشرط أبو محمد أن يكون حبا أو ثمرا، تمسكا بما تقدم من قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «ليس فيما دون خمسة أوساق من تمر ولا حب صدقة» .
ويتلخص الخلاف في ثلاثة شروط:
(أحدها) : هل من شرطه أن لا يكون أبازير؟

(2/471)


(الثاني) : هل من شرطه أن يكون مما أنبته الآدمي؟
(الثالث) : هل من شرطه أن يكون حبا أو ثمرا؟
إذا تقرر هذا فالواجب فيما سقي بغير كلفة - كالسيوح، والسماء، ونحو ذلك - العشر، وفيما سقي بكلفة - كالدوالي، والنواضح - نصف العشر.
1215 - لما روى جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «فيما سقت الأنهار والغيم العشر، وفيما سقي بالسانية نصف العشر» رواه مسلم وغيره.
1216 - وعن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «فيما سقت السماء والعيون، أو كان عثريا العشر وما سقي بالنضح نصف العشر» رواه البخاري وغيره.

(2/472)


1217 - «وقال معاذ: بعثني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى اليمن، فأمرني أن آخذ مما سقت السماء العشر، وما سقي بالدوالي نصف العشر» . رواه النسائي.
ثم اعلم أنه قد خرج من كلام الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - الزيتون، لأنه لا ييبس، ولا يدخر على حاله، وهو إحدى الروايتين عن أحمد، واختيار أبي بكر، والقاضي في التعليق، لفوات الشروط السابقة. (والرواية الثانية) : تجب فيه الزكاة. اختارها الشيرازي، وابن عقيل في التذكرة، نظرا إلى أنه مكيل ولهذا اعتبر نصابه بالأوسق نص عليه، ولأن ما يخرج منه يدخر، ولأن الله تعالى قال: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141] بعد ذكر الزيتون.
1218 - والمراد بالحق الزكاة، كذا روي عن ابن عباس وغيره، والصحيح أن هذه الآية مكية، نزلت قبل فرض الزكاة.

(2/473)


وخرج من كلامه القطن أيضا والزعفران، لعدم كيلهما، وهو إحدى الروايتين، واختيار أبي بكر والقاضي في التعليق، وأبي محمد، لفوات الشرط. (والرواية الثانية) : يجب فيها الزكاة. وهو اختيار الشيرازي، وابن عقيل، قياسا على الأشنان ونحوه. وفي العصفر، والورس وجهان، بناء على الروايتين، ونصاب هذه - حيث أوجبنا الزكاة فيهما - أما الزيتون فبالكيل، نص عليه، وأما القطن، والزعفران، وما لحق بهما، فاختلف كلام القاضي، فقال في المجرد: يعتبر نصاب ذلك بالوزن، فلا بد وأن يبلغ الواحد منها ألفا وستمائة رطل. وتبعه على ذلك أبو محمد. وقال في التعليق: لم يقع لي عن أحمد مقدار النصاب. قال: ويتوجه أن يقدر بما تكون قيمته خمسة أوسق، من أدنى نبات يزكى، وتبعه على ذلك أبو البركات، وجعل القاضي في التعليق العصفر تبعا للقرطم، فإن بلغ القرطم خمسة أوسق وجبت الزكاة، وإلا فلا.

(2/474)


«تنبيه» : «الفرسك» هو الخوخ، و «العضاه» . و «الأوسق» والأوساق جمع وسق بفتح الواو وكسرها. و «السواني» جمع سانية، وهي الناقلة التي يستقى عليها.
1219 - ومنه حديث البعير الذي يشكي إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال أهله: كنا نسنو عليه. أي نسقي.
و «العثري» . . . و «الدوالي» جمع دالية، وهي الدولاب تديره البقر، والناعورة يديرها الماء و «النواضح» جمع ناضح وناضحة، وهما البعير والناقة، ويستقى عليها و «السيوح» جمع سيح، قال الجوهري: هو الماء الجاري على وجه الأرض، والمراد الأنهار ونحوها، والله أعلم.

قال: والوسق ستون صاعا.
ش: «الوسق» بفتح الواو وكسرها، والأشهر في اللغة [أنه] كما قال الخرقي، وأطبق علماء الشريعة على ذلك.

(2/475)


1220 - وفي المسند، وسنن ابن ماجه، عن أبي سعيد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: الوسق ستون صاعا. والله أعلم.

قال: والصاع خمسة أرطال وثلث بالعراقي.
ش: قد تقدم قدر الرطل العراقي، وتقدم صاع الماء هل هو خمسة أرطال أو ثمانية؟ أما ما عداه فلا نزاع عندنا فيما نعلمه أنه خمسة أرطال وثلث.
1221 - لما روى الدارقطني عن إسحاق بن سليمان الرازي، قال: قلت لمالك بن أنس: أبا عبد الله كم قدر صاع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ قال: خمسة أرطال وثلث بالعراقي أنا حزرته. فقلت: أبا عبد الله خالفت شيخ القوم، قال: من هو؟ قلت: أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - يقول: ثمانية أرطال. فغضب غضبا شديدا، ثم قال لجلسائه: يا فلان هات صاع جدك، ويا فلان هات صاع جدك، ويا فلان هات صاع جدك. قال إسحاق: فاجتمعت آصع، فقال: ما تحفظون في هذا؟ فقال هذا: حدثني أبي

(2/476)


عن أبيه، أنه كان يؤدي بهذا الصاع إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وقال هذا: حدثني أبي، عن أخيه، أنه كان يؤدي بهذا الصاع إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فقال الآخر: حدثني أبي، عن أمه، أنها أدت بهذا الصاع إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فقال مالك: أنا حزرت هذه، فوجدتها خمسة أرطال وثلثا.
1222 - وروي أن أبا يوسف سأل مالك بن أنس بحضرة الرشيد عن مقدار صاع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فاستمهله إلى الغد، ثم جاء من الغد، ومعه أولاد المهاجرين والأنصار، ومع كل واحد منهم صاعه الذي ورثه عن مورثه، الذي كان يؤدي به الزكاة إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
«تنبيهات» : «أحدها» : ظاهر كلام الخرقي هنا أن النصاب هنا تحديد، فلو نقص يسيرا فلا زكاة فيه، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة» وهو قول القاضي، قال: إلا أن يكون نقصا يدخل [في] المكاييل، كالأوقية ونحوها فلا

(2/477)


تؤثر، وهذا إحدى الروايتين، (والثانية) : أنه تقريب، وعليها قال في التلخيص: لا تسقط إلا بمقدار لو وزع على الخمسة أوسق لظهر النقصان.
(الثاني) : النصاب معتبر بالكيل، [وإنما ذكر الوزن ليضبط ويحفظ، ولذلك تعلقت الزكاة بالمكيل] دون الموزون، والمكيل يختلف [فيه] وزنه، ونص أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - على أن الصاع خمسة أرطال وثلث من الحنطة. قال في التلخيص: لا تعويل على الوزن إلا في البر، ثم مكيل ذلك من جميع الحبوب. انتهى. (وعنه) أنه قدر ذلك بالعدس.
(الثالث) : تعتبر الخمسة الأوسق بعد التصفية في الحبوب بلا نزاع، وبعد الجفاف في الثمار على المذهب، عند أبي محمد، وصاحب التلخيص، وابن عقيل في التذكرة، وصححه القاضي [في التعليق] ، وأبو الخطاب في الهداية. وقال في الروايتين: إنها الأشبه في المذهب.
1223 - لأن في حديث أبي سعيد المتقدم «ليس فيما دون خمسة أوساق من تمر ولا حب صدقة» رواه مسلم وأحمد، والنسائي، لكن في رواية أخرى لمسلم «ثمر» بالثاء ذات

(2/478)


النقط الثلاث.
1224 - وفي الدارقطني في «حديث عتاب: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمره أن يخرص العنب زبيبا، كما تخرص التمر» . (وعن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -) رواية أخرى: أنه يعتبر نصاب ثمرة النخل والكرم رطبا وعنبا، ويؤخذ منه مثل عشر الرطب، أو نصف عشره، تمرا أو زبيبا، وهذا نص عنه، واختيار الخلال، وصاحبه أبي بكر في الخلاف ونصبها الشريف، وأبو الخطاب، وشيخهم في خلافاتهم، مع أن شيخهم صحح الأولى وذلك لظاهر قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة» مفهومه [أنه] إذا بلغها وجبت، ولم يعتبر الجفاف.
1225 - وعن عتاب بن أسيد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «أمر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يخرص العنب كما يخرص النخل، فتؤخذ زكاته زبيبا، كما تؤخذ صدقة النخل تمرا» . رواه أبو داود، والترمذي. فأمر

(2/479)


بخرص العنب ولم يشترط الجفاف، (وحمل أبو محمد) هذه الرواية على أنه [أراد أن] يؤخذ عشر ما يجيء منه من التمر إذا بلغ رطبا خمسة أوسق. قال: لأن إيجاب قدر عشر الرطب من التمر، إيجاب لأكثر من العشر، وذلك يخالف النص والإجماع. (وهذا) التأويل لا يصح، فإن أحمد قال في رواية الأثرم: قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - يخرص ما يؤول إليه، وإنما هو على ظاهر الحديث، قيل له: فإن خرص عليه مائة وسق رطبا، يعطي عشرة أوسق تمرا؟ فقال: نعم هو على ظاهر الحديث، وهذا نص صريح في مخالفة التأويل، وقوله: إنه يخالف النص والإجماع مردود إذ لا نص صريح، وأحمد قد خالف، فأين الإجماع، والله أعلم.

قال: والأرض أرضان، صلح وعنوة، فما كان من صلح ففيه الصدقة.

(2/480)


ش: يعني إذا صالحنا الكفار على أرض كانت بأيديهم، فيقع ذلك تارة على أن الأرض لنا، ونقرها معهم بالخراج، وتارة على أن الأرض لهم، ولنا الخراج عنها، فالخراج والحال هذه في حكم الجزية، متى أسلموا سقط عنهم، وإن انتقلت إلى مسلم فلا خراج عليه، وإن زرعها المسلم فعليه الزكاة بشرطها، بالإجماع، قاله ابن المنذر.
والغرض من ذكر هذه [المسألة] أن أرض الصلح، ليس فيها إلا العشر، بخلاف أرض العنوة، على ما سيأتي إن شاء الله، والله أعلم.

قال: وما كان عنوة أدى عنها الخراج، وزكى ما بقي إذا بلغ خمسة أوسق، وكان لمسلم.
ش: العنوة هي ما أجلي عنها أهلها بالسيف، وهي أرض كثيرة فتحها عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، ووقفها على المسلمين، وضرب عليها خراجا معلوما، يؤخذ ممن هي في يده في كل عام، فهذه إذا زرعت اجتمع الخراج والعشر بشرطه، وهذا الغرض من ذكر هذه المسألة، أن العشر والخراج يجتمعان، لعموم قَوْله تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ} [البقرة: 267]

(2/481)


وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فيما سقت السماء العشر» ولأن الخراج بمنزلة الأجرة، فجاز اجتماعه مع العشر، كالأرض المؤجرة، ولأنهما حقان يجبان عن عين، فلم ينف أحدهما الآخر، دليله قيمة الصيد والجزاء، وأجرة الدكان وزكاة التجارة.
1226 - وما يروى عن أبي حنيفة عن حماد، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله بن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يجتمع العشر والخراج على مسلم في أرضه» فيرويه عن أبي حنيفة يحيى بن عنبسة وهو هالك. قال ابن حبان: ليس هذا الحديث من كلام رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ويحيى بن عنبسة دجال يضع الحديث، وهو كذب على أبي حنيفة ومن بعده، إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وقال ابن عدي: لم يصل هذا الحديث غير يحيى، وهو مكشوف الأمر، ورواياته عن الثقات الموضوعات.

(2/482)


وقول الخرقي: وكان لمسلم؛ لأن الزكاة لا تجب إلا على مسلم، ونبه على هذا وإن كان فهم من قوله السابق: الأحرار المسلمين؛ لئلا يتوهم [متوهم] أن اختصاص هذه المسألة بالذكر لاختصاصها بحكم غير ما تقدم.
وقوله: أدى عنها [الخراج] وزكى ما بقي إن كان خمسة أوسق؛ لأن الزكاة لا تجب إلا في هذا القدر، وهو صريح في أن الخراج مقدم على الزكاة، فتمتنع الزكاة في قدره.
وأصل هذا أن الدين يمنع الزكاة في الأموال الباطنة، كالنقدين، والعروض، على المذهب بلا ريب. وهل يمنع في الأموال الظاهرة، كالزروع، والماشية؟ (فيه روايتان) ، أشهرهما - وهي اختيار أبي بكر، وابن أبي موسى، والقاضي، وأكثر الأصحاب، يمنع؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حديث معاذ:

(2/483)


«أخبرهم أن الله قد فرض عليهم صدقة، تؤخذ من أغنيائهم» والمدين ليس بغني.
1227 - يرشحه قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا صدقة إلا عن ظهر غنى» ولأن الزكاة مواساة، ولا مواساة مع الدين.
1228 - واعتمد أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - بأن عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - خطب الناس فقال: هذا شهر زكاتكم، فمن كان عليه دين فليؤد دينه، ثم ليزك ما بقي. فلم يأمر بإخراج الزكاة عن المؤدى في الدين، وهذا قاله بمحضر من الصحابة، ولم ينقل مخالفته، فيكون إجماعا (والثانية) : لا يمنع لعموم «في خمس من الإبل شاة، وفيما سقت السماء العشر» ؛ ولأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يبعث [السعاة] إلى أرباب الأموال الظاهرة، وكذلك خلفاؤه بعده، ولم ينقل [عنهم] أنهم سألوا أربابها: هل عليكم دين؟ ولأن أنفس

(2/484)


[الفقراء] تتشوف إليها، بخلاف الباطنة، وعلى هذه الرواية ما لزمه لمؤنة الزرع، من أجرة كحصاد، وكراء أرض، ونحو ذلك يمنع، نص عليه أحمد، وذكره ابن أبي موسى، وقال: رواية واحدة، وتبعه صاحب التلخيص، وحكى أبو البركات رواية أخرى: أن الدين لا يمنع في الظاهرة مطلقا. قال أبو العباس: ولم أجد بها نصا عن أحمد.
إذا تقرر هذا فقول الخرقي في الخراج: إنه يؤديه، ويزكي الباقي إن بلغ خمسة أوسق. يحتمل أن يتعدى هذا إلى كل دين، فيكون من مذهبه أن الدين يمنع مطلقا، كما هو المشهور، ويكون غرضه من المسألة السابقة فيما إذا رهن ماشية، أن الزكاة تؤدى من عين الرهن، إذا لم يكن له ما يؤدي [عنه] ، وهذا أوفق للمذهب ويحتمل أن يريد أن الدين لا

(2/485)


يمنع في الظاهرة، بناء على [ظاهر] إطلاقه ثم، وعلى مقتضى كلامه في باب زكاة الدين، على ما سيأتي إن شاء الله تعالى، لكن يستثنى من ذلك ما لزمه من مؤنة الزرع، كما نص عليه أحمد، وقال ابن أبي موسى: إنه رواية واحدة، والله أعلم.

قال: وتضم الحنطة إلى الشعير، وتزكى إذا كانت خمسة أوسق، وكذلك القطنيات.
ش: اختلفت الرواية عن أحمد: هل تضم الحبوب بعضها إلى بعض؟ . (فعنه) : لا تضم مطلقا، وإليها ميل أبي محمد، لأنهما جنسان، فلا يضم أحدهما إلى الآخر، كالتمر، والزبيب، لكن قد نقل إسحاق بن إبراهيم أن أحمد رجع عن هذا، فقال بعد أن نقل عنه القول بعدم الضم: قد رجع أبو عبد الله عن هذه المسألة، وقال: يضم الذهب إلى الفضة ويزكى، وكذلك الحنطة إلى الشعير، يضم بعضه إلى بعض، وضم القليل إلى الكثير هو أحوط. قال القاضي: وظاهر هذا الرجوع عن منع الضم.
(وعنه) : يضم بعضها إلى بعض مطلقا، اختارها أبو بكر، والقاضي في التعليق على ما رأيت في النسخة المنقول منها، لظاهر قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا زكاة فيما دون خمسة أوساق من حب ولا تمر» مفهومه أنه إذا بلغ خمسة أوساق من حب

(2/486)


ففيه الصدقة، وهو شامل بظاهره كل حب، [وكذا] علل أحمد بأنه يطلق عليها اسم حبوب، واسم طعام.
(وعنه) : تضم الحنطة إلى الشعير، والقطنيات بعضها إلى بعض. اختارها الشريف، وأبو الخطاب في خلافيهما، والشيرازي، وحكيت عن القاضي، وهي ظاهر كلام الخرقي، لأن الحنطة والشعير في حكم الجنس الواحد، لاتفاقهما في المنبت، والمحصد، والاقتيات، فجرى ذلك مجرى أنواع الحنطة، كالبر، والعلس، وكذلك القطاني تتفق في المنبت، والمحصد وكونها تؤكل أدما وطبخا.
«تنبيه» : القطنيات بكسر القاف وفتحها، مع تخفيف الياء وتشديدها، فيهما، جمع قطنية، ويجمع أيضا [على] قطاني، فعليه من: قطن يقطن في البيت. أي يمكث فيه، وهي حبوب كثيرة، فمنها الحمص، والعدس، والماش، والجلبان، واللوبيا، والدخن والأرز، والباقلا، فهذه وما يطلق عليه هذا الاسم يضم بعضه إلى بعض، أما البزور فلا تضم إليها، لكن يضم بعضها إلى بعض على هذه الرواية، كالكزبرة والكراويا ونحو ذلك، وحبوب البقول لا تضم إلى القطاني،

(2/487)


ولا البزور، وما تقارب منها ضم بعضه إلى بعض، وما شككنا فيه فلا يضم، وحيث قيل بالضم فإنه يؤخذ من كل جنس ما يخصه، ولا يؤخذ من جنس عن غيره إلا في الذهب والفضة، على ما سيأتي إن شاء الله تعالى، والله أعلم.

قال: وكذلك الذهب والفضة، وعن أبي عبد الله - رَحِمَهُ اللَّهُ - رواية أخرى أنه لا يضم، ويخرج من كل صنف [على انفراده] إذا كان منصبا للزكاة، والله أعلم.
ش: أي وكذلك الذهب والفضة يضم بعضها إلى بعض، وعن أبي عبد الله - رَحِمَهُ اللَّهُ - رواية أخرى أنه لا يضم، ويخرج من كل صنف إذا كان منصبا للزكاة، أي محلا للزكاة، بأن يبلغ نصابا بانفراده، وقد تقدمت هذه الرواية في الحبوب، أما الذهب والفضة ففي ضم أحدها إلى الآخر -[إذا لم يبلغ كل منهما نصابا، أو بلغ أحدهما ولم يبلغ الآخر] روايتان مشهورتان: (إحداهما) : يضمان. اختارها الخلال، والقاضي، وولده، وعامة أصحابه، كالشريف، وأبي الخطاب في خلافيهما، والشيرازي، وابن عقيل في التذكرة، وابن البنا، لأنهما في حكم الجنس الواحد، إذ هما قيم المتلفات، وأروش الجنايات، ويجمعهما لفظ الأثمان، واستدل القاضي بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة: 34] الآية قال: فظاهرها وجوب الزكاة فيهما في

(2/488)


عموم الأحوال، وأجاب عن إفراد الضمير بأن العرب تذكر المذكر، وتعطف عليه المؤنث، ثم تكني عن المؤنث وتريدهما، كما في قَوْله تَعَالَى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ} [البقرة: 45] وقَوْله تَعَالَى: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا} [الجمعة: 11] (والثانية) : لا يضمان. اختارها أبو بكر في التنبيه، مع اختياره في الحبوب الضم، وهو ظاهر رواية الميموني، وقال لأحمد: إذا كنا نذهب في الذهب والفضة إلى أن لا نجمعهما [لم لا نشبه الحبوب بهما؟ قال: هذه يقع عليها - إذا لم يبلغ كل منهما نصابا، أو بلغ أحدهما ولم يبلغ الآخر - اسم طعام، واسم حبوب. قال: ورأيت أبا عبد الله في الحبوب يحب جمعها] ، وفي الذهب، والبقر، والغنم، والفضة لا يجمع، وذلك لأنهما جنسان فلا يجمعان، كالتمر، والزبيب، ولظاهر قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ليس فيما [دون] خمس أواق صدقة» .

(2/489)


1229 - وفي حديث عمرو بن شعيب: «ليس في أقل من عشرين مثقالا من الذهب شيء» انتهى. وحيث قلنا بالضم فإنه بالأجزاء لا بالقيمة، على ظاهر رواية الأثرم، وسأله عن رجل عنده ثمانية دنانير، ومائة درهم، فقال: [إنما قال] : من قال فيها الزكاة إذا كانت عشرة دنانير، ومائة درهم. وهذا اختيار القاضي في جامعه وفي تعليقه، والشريف، وأبي الخطاب في خلافيهما وأبي محمد، نظرا إلى أنه لو وجب التقويم في حال الانفراد لوجب في حال الاجتماع، دليله العبد في التجارة، يقوم منفردا، ومع غيره من العروض، وعن القاضي - أظنه في المجرد - أنه قال: قياس المذهب أنه يعتبر الأحظ للمساكين [من الأجزاء والقيمة، قال في التعليق: وقد أومأ إليه أحمد في رواية المروذي، فقال: أذهب إلى الضم، هو أحظ للمساكين] ، فاعتبر الاحتياط قياسا على الثوبين في التجارة.
«تنبيه» : مما يتعلق بالضم: هل يخرج أحد النقدين عن الآخر؟ فيه روايتان مشهورتان، اختار أبو بكر منهما المنع، كما اختار عدم الضم، ووافقه أبو الخطاب هنا، وخالفه

(2/490)


ثم، فاختار الضم، وأبو محمد صحح [هنا] الجواز. ولم يصحح [ثم] شيئا، والله سبحانه أعلم.

[باب زكاة الذهب والفضة]
ش: الأصل في زكاة الذهب والفضة قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة: 34] الآية، فظاهر هذا الوعيد أنه عن واجب، وفي البخاري في حديث أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «وفي الرقة ربع العشر» .
وفي الصحيحين في حديث أبي سعيد: «ليس فيما دون خمس أواق صدقة» » .
1230 - وفيهما أيضا من حديث أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منها حقها، إلا إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من نار، فأحمي عليها في نار جهنم، فيكوى به جنبه، وجبينه وظهره، كلما بردت أعيدت له، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يقضي الله بين العباد، فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار» مع أن هذا إجماع في الجملة.

(2/491)


«تنبيه» : «الرقة» : الهاء فيها بدل من الواو في الورق؛ والورق بكسر الراء وإسكانها الفضة المضروبة، وقيل: وغيرها، كما هو المراد بالحديث. «والأواقي» : بتشديد الياء [وتخفيفها، جمع أوقية بضم الهمزة، وتشديد الياء] ، وأنكر الجمهور «وقية» وحكى اللحياني الجواز. وجمعها وقايا.
والأوقية الشرعية أربعون درهما بلا نزاع، وخص «الجنب، [والجبين] والظهر» بالذكر دون بقية الأعضاء، نظرا لحال البخيل المسؤول لأنه إذا سئل قطب وجهه، وجمع أساريره، فيتجعد جبينه، ثم إن تكرر الطلب ناء بجنبه، ثم إن ألح عليه في الطلب ولى بظهره، وهي النهاية في الرد.
و «فيرى» يروى على البناء للفاعل والمفعول، والله أعلم.

(2/492)


قال: ولا زكاة فيما دون المائتي درهم، إلا أن يكون في ملكه ذهب أو عروض للتجارة، فيتم به.
ش: نصاب الفضة مائتا درهم، بلا نزاع بين أهل العلم، وقد ثبت ذلك بسنة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ففي الصحيحين [ما تقدم] من حديث أبي سعيد: «ليس فيما دون خمس أواق صدقة» .
1231 - وفي البخاري من حديث أنس: «فإن لم يكن إلا تسعين ومائة، فليس فيها شيء إلا أن يشاء ربها» ، فإذا كان عنده دون المائتي درهم، فلا زكاة [عليه] ، إلا أن يكون عنده ذهب فيتم به [لما تقدم - على المذهب - من أن كل واحد من النقدين يضم إلى الآخر، أو يكون عنده عروض للتجارة فيتم به] إذ عرض التجارة يضم إلى كل واحد من النقدين، ويكمل به نصابه بلا نزاع، لأن الزكاة تجب في قيمتها، وهي تقوم بكل واحد منهما، فتضم إلى كل واحد منهما، والله أعلم.

قال: وكذلك دون العشرين مثقالا.
ش: يعني من الذهب، لا زكاة فيها إلا أن تكون عنده فضة أو عروض، فيتم به، وإنما قلنا: نصاب الذهب عشرون مثقالا.
1232 - لما تقدم في حديث علي: «وليس عليك شيء -[يعني] في

(2/493)


الذهب - حتى يكون لك عشرون دينارا، [فإذا كانت لك عشرون دينارا] وحال عليها الحول، ففيها نصف دينار، فما زاد فبحساب ذلك» قال الحارث: فلا أدري أعلي يقول: بحساب ذلك، أم رفعه إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. رواه أبو داود.
1233 - وعن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «ليس في أقل من عشرين مثقالا من الذهب، ولا في أقل من مائتي درهم صدقة» رواه أبو عبيد.
وظاهر كلام الخرقي أن النصاب [في النقدين] تحديد، فلو نقص يسيرا لم تجب الزكاة، وهو اختيار أبي الفرج والشيرازي، وأبي محمد، اعتمادا على الأصل واستصحابا [للبراءة] الأصلية، حتى يتحقق [الموجب] ، وتمسكا بظاهر قوله: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «ليس فيما دون خمس أواق صدقة» . والمشهور عند الأصحاب أنه لا يعتبر النقص [اليسير] كالحبة والحبتين، لاختلاف الموازين بذلك، ثم بعد ذلك يؤثر نقص ثمن، في رواية اختارها أبو بكر، وفي أخرى في الفضة ثلث درهم، وفي أخرى في الذهب نصف مثقال، ولا يؤثر الثلث.
«تنبيه» : لا فرق بين التبر والمضروب، كما اقتضاه كلام الخرقي، وشرط النصاب أن يكون خالصا، فلو كان مغشوشا فلا زكاة حتى يبلغ النقد الخالص فيه نصابا، لأن قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - –

(2/494)


: «ليس فيما دون خمس أواق من الورق صدقة» إنما ينصرف للخالص، والدراهم المعتبرة هنا، وفي نصاب السرقة، وغير ذلك، هي التي كل عشرة فيها سبعة مثاقيل بمثقال الذهب، وكانت الدراهم في الصدر الأول صنفين (طبرية) ، وهي أربعة دوانيق (وسوداء) وهي ثمانية دوانيق، فجمعا وجعلا درهمين متساويين، كل درهم ستة دوانيق، فعل ذلك بنو أمية، فصارت عدلا بين الصغير والكبير، ووافقت سنة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ودرهمه الذي قدر به المقادير الشرعية، أما المثقال فلم يختلف في جاهلية ولا إسلام، والله أعلم.

قال: فإذا تمت ففيها ربع العشر.
ش: أي إذا تمت الفضة مائتي درهم ففيها ربع العشر، وإذا تمت العشرون دينارا ففيها ربع العشر، لما تقدم من حديثي أبي سعيد وعلي، قال أبو محمد: ولا نعلم فيه خلافا؛ والله أعلم.

قال: وفي زيادتها وإن قلت.
ش: أي في زيادة المائتي درهم وإن قلت ربع العشر، وفي زيادة العشرين دينارا وإن قلت ربع العشر، لعموم قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وفي الرقة ربع العشر» خرج منه ما دون المائتي درهم بالنص،

(2/495)


فيبقى فيما عداه على مقتضى العموم، وما تقدم من حديث علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، والله أعلم.

[زكاة الحلي وآنية الذهب والفضة]
قال: وليس في حلي المرأة زكاة إذا كان مما تلبسه أو تعيره.
ش: المذهب المنصوص، المختار للأصحاب أنه لا زكاة في الحلي في الجملة، قال أحمد في رواية الأثرم: فيه عن خمسة من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
1234 - وقد رواه مالك في الموطأ عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، وابن عمر.
1235 - ورواه الدارقطني عن أسماء بنت أبي بكر، وأنس بن مالك.

(2/496)


1236 - وقال أبو يعلى: أنبأنا القاضي أبو الطيب الطبري، قال: ثنا أبو محمد عبد الله بن محمد بن عبد الباقي، قال: ثنا أبو الحسين أحمد بن المظفر الحافظ، قال: ثنا أحمد بن عمير بن جوصا، قال: ثنا إبراهيم بن أيوب [قال: ثنا عافية بن أيوب] عن ليث بن سعد، عن أبي الزبير، عن جابر بن عبد الله، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ليس في الحلي زكاة» وهذا نص، إلا أنه ضعيف من قبل عافية» .

(2/497)


ولأنه عدل به عن النماء إلى فعل مباح، أشبه ثياب البذلة، وعبيد الخدمة، ودور السكنى، أو نقول: معد لاستعمال مباح، أشبه ما ذكرنا.
وعن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - رواية أخرى حكاها ابن أبي موسى: تجب فيه الزكاة، لعموم قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} [التوبة: 34] الآية، وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «في الرقة ربع العشر» ولعموم مفهوم: «ليس فيما دون خمس أواق صدقة» .
1237 - وعن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن [جده] قال: «إن امرأة أتت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ومعها ابنة لها، وفي يد ابنتها مسكتان غليظتان

(2/498)


من ذهب، فقال: «أتعطين زكاة هذا؟» قالت: لا. قال: «أيسرك أن يسورك الله بهما يوم القيامة سوارين من نار؟» [فخلعتهما] ، فألقتهما إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقالت: هما لله ولرسوله» . رواه الترمذي، والنسائي، وأبو داود، وهذا لفظه.
1238 - وعن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: «دخل علي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فرأى في يدي فتخات من ورق، فقال: «ما هذا يا عائشة» ؟ فقلت: صنعتهن أتزين لك يا رسول الله. قال: «أتؤدين زكاتهن؟» فقلت: لا. أو ما شاء الله. قال: «هو حسبك من النار» . رواه أبو داود. وقد أجيب عن عموم الآية،

(2/499)


والحديثين الأولين بدعوى تخصيصهما بما تقدم. وعن الحديثين الآخرين بأن فيهما كلاما، وقد قال الترمذي بعد ذكر حديث عمرو بن شعيب: لا يصح في هذا الباب شيء وعلى تسليم الصحة بأن ذلك حين كان الحلي بالذهب حراما على النساء، فلما أبيح لهن سقطت منه الزكاة، قاله القاضي وغيره.
1239 -[أو] بأن المراد بالزكاة عاريته، هكذا روي عن سعيد بن المسيب، والحسن البصري، وغيرهما، ويجوز التوعد على المندوبات، كما في قَوْله تَعَالَى: {وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} [الماعون: 7] أو بأن المراد ما صنع بعد وجوب الزكاة فيه.
إذا تقرر هذا فقد تقدمت الإشارة بأن الأصل وجوب الزكاة في الذهب والفضة، إلا حيث عدل به عن جهة النماء، إلى فعل مباح مطلوب، كما إذا صيره للبس، أو للعارية.

(2/500)


أما الحلي المحرم - قال أبو العباس: وكذلك المكروه، وما أعد للكراء، أو التجارة أو النفقة عند الحاجة [إليه]- فهو باق على أصله في وجوب الزكاة.
وظاهر كلام الخرقي أنه لا فرق بين قليل الحلي وكثيره، وهو المذهب. نعم يقيد ذلك بما جرت عادتهن بلبسه، كالسوار، والتاج، والخلخال، بخلاف ما لم تجر عادتهن به، كمنطقة الرجل، واتخاذ قبقاب [من ذهب] ونحو ذلك، فإنه يحرم، وتجب فيه الزكاة. وجعل ابن حامد ما بلغ ألف مثقال يحرم [في حقها مطلقا، وحكاه في التلخيص رواية، وتوسط ابن عقيل فقال: إن بلغ الحلي الواحد ألف مثقال حرم] وإن زاد المجموع على ألف فلا.
«تنبيه» : «المسكة» بالتحريك السوار من الذبل، وقيل: هي من قرن الأوعال، وإذا كانت من غير ذلك أضيف إلى ما هي منه، فيقال: من ذهب، أو من فضة. أو غير ذلك «والفتخة» بالتحريك، وجمعها فتخات بفتحتين، حلقة من فضة لا فص لها، فإذا كان فيها فص فهي خاتم. وقال

(2/501)


عبد الرزاق: هي الخواتم، وتجعل في الأرجل، وقيل في الأيدي، والله أعلم.

قال: وليس في حلية سيف الرجل، ومنطقته، وخاتمه زكاة.
ش: إنما سقطت [الزكاة] من ذلك لإباحتها للرجال، فهي كحلية النساء، [إذ قد صرفت عن جهة النماء إلى فعل مباح، أشبهت ثياب البذلة] والدليل على إباحة ذلك.
1240 - أما السيف فلأن أنسا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «كانت قبيعة سيف النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فضة» .

(2/502)


1241 - وقال هشام بن عروة: كان سيف الزبير محلى بالفضة. رواهما الأثرم. وأما المنطقة فلأن ذلك معتاد للرجل، أشبه الخاتم، وهذا المشهور، والمختار للأصحاب من الروايتين. وعن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه كرهها، لما فيها من الفخر، والخيلاء.
1242 - وأما الخاتم فلأن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اتخذ خاتما من ورق؛» متفق عليه.
«تنبيهات» : «أحدها» : قول الخرقي يشمل التحلية بالذهب والفضة، وينبغي أن يحمل كلامه على الفضة، لأن الذهب لا يباح منه إلا حلية السيف، على المشهور [من الروايتين] ولا يلحق به كل سلاح على قول العامة، خلافا للآمدي، وما دعت إليه الضرورة كشد الأسنان به، ولا يباح اليسير منه مفردا كالخاتم، بلا خلاف أعلمه ولا تبعا لغيره على المذهب، فلو حمل كلامه على الذهب لزم فساده في الخاتم قطعا، وفي المنطقة على المذهب.
(الثاني) : قول الخرقي: حلية السيف. يشمل القبيعة، وهي ما على طرف مقبضه وغيرها، وأكثر الأصحاب يخص ذلك بالقبيعة، وكان أبو العباس كتب في شرح العمدة فيما يباح من

(2/503)


الذهب قبيعة السيف، ثم ضرب عليه، وكتب: حلية السيف. وهذا مقتضى كلام أحمد.
1243 - لأنه قال: روي أنه كان في سيف عثمان بن حنيف مسمار من ذهب. وقال: إنه كان لعمر سيف فيه سبائك من ذهب. [والمنطقة] تجعل في الوسط، وتسميها العامة الحياصة.
(الثالث) : ظاهر كلام الخرقي [أنه] لا يباح للرجل تحلية غير هذه الثلاثة. وقد خرج القاضي في الجوشن، والدرع، والخوذة، والمغفر وجهين. (أحدهما) : أنها كالمنطقة، وهو قول الأكثرين، أبي الخطاب، وابن عقيل، والمتأخرين؛ (الثاني) : المنع رواية واحدة، كما هو ظاهر كلام الخرقي، والخف، والران، عند القاضي، والآمدي، وأبي الخطاب، والأكثرين كالجوشن، وعند ابن عقيل لا يباح، ففيه الزكاة، وكذلك الحكم عنده في الكمران، والخريطة قال أبو العباس: وعلى قول غيره هما كالخف. وقال التميمي: يكره عمل خفين

(2/504)


من فضة كالنعلين، ولا يحرم، وألحق أبو الخطاب وجماعة حمائل السيف - وهي علائقه -[بالمنطقة] وجزم القاضي بالمنع، وحكاه عن أحمد. والله أعلم.

قال: والمتخذ آنية الذهب والفضة عاص، وفيها الزكاة.
ش: هذا المشهور المعروف، المنصوص [عليه] من الروايتين، حتى أن القاضي في التعليق، وجمهور الأصحاب لم يحكوا خلافا، إذ الاتخاذ يراد للاستعمال، والاستعمال محرم، فكذلك الاتخاذ، دليله آلات اللهو، كالطنبور، والعود. (والرواية الثانية) : يباح الاتخاذ، نظرا [إلى] أن المحرم الاستعمال، أما الاتخاذ فإنه تغيير المال من صفة إلى صفة، فلا يؤثر والله أعلم.

[زكاة الركاز]
قال: وما كان من الركاز - وهو دفن الجاهلية، قل أو كثر - ففيه الخمس لأهل الصدقات، وباقيه فله.
ش: عرف الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - الركاز بأنه دفن الجاهلية، ويعرف ذلك بأن توجد عليه أسماء ملوكهم، أو صلبانهم، ونحو ذلك. قال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - في الموطأ: الأمر الذي لا اختلاف فيه عندنا، والذي سمعت أهل العلم يقولون، أن الركاز إنما هو

(2/505)


دفن يوجد من دفن الجاهلية، ما لم يطلب بمال، ولم يتكلف فيه بنفقة، ولا كبير عمل ولا مؤنة. انتهى أما ما وجد عليه علامة المسلمين كأسماء ملوكهم، وأنبيائهم، أو آية من القرآن، أو نحو ذلك، أو على بعضه، فليس بركاز، لأن ذلك قرينة صيرورته إلى مسلم، وكذلك لو لم يوجد عليه علامة، لانتفاء الشرط، وهو علامة الكفار.
إذا تقرر [ذلك] فما حكم بأنه ركاز ففيه الخمس.
1244 - لما روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «العجماء جبار، والبئر جبار، والمعدن جبار، وفي الركاز الخمس» رواه الجماعة، ولا فرق بين القليل والكثير، لعموم الحديث، ولأنه مال مخمس من مال الكفار، أشبه الغنيمة، ومصرف الخمس لأهل الزكاة، في إحدى الروايتين، اختارها الخرقي، نظرا إلى أنه مستفاد من الأرض، أشبه المعدن.
1245 - وعن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه أمر صاحب الكنز أن يتصدق به على المساكين، حكاه الإمام أحمد. (والرواية الثانية) –

(2/506)


وهي اختيار ابن أبي موسى، والقاضي في تعليقه وجامعه وابن عقيل، وأبي محمد - أن مصرفه مصرف الفيء، لأنه مال كافر مخموس، أشبه الغنيمة.
1246 - ويروى ذلك عن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - والباقي بعد الخمس لواجده، وله صور: (إحداها) : إذا وجده في موات، أو في أرض لا يعلم مالكها، أو في ملكه الذي ملكه بالإحياء، ونحو ذلك، فهذا يكون له بلا نزاع. (الثانية) : وجده في ملك انتقل إليه بهبة أو بيع، أو غير ذلك، [فهو] لواجده أيضا، في أنص الروايتين، واختيار القاضي في التعليق، نظرا إلى أنه يملك بالظهور عليه، أشبه الغنيمة.
(والرواية الثانية) : يكون لمن انتقل عنه إن اعترف به، وإلا فلأول مالك، قال أبو محمد: فإن لم يعرف أول مالك فكالمال الضائع، نظرا إلى أنه يملك بملك الأرض كأجزائها

(2/507)


ولهذه المسألة التفات إلى مسألة المباح من الكلأ ونحوه، هل يملك بملك الأرض، أو لا يملك إلا بالأخذ؟ فيه روايتان، كذا أشار إليه القاضي وغيره.
(الثالثة) : وجده في ملك آدمي معصوم، كأن دخل دار إنسان فحفر فوجد ركازا، فحكمه حكم الذي قبله، فيه الروايتان عند أبي البركات، وأبي محمد في المقنع وقطع صاحب التلخيص هنا تبعا لأبي الخطاب في الهداية أنه لمالك الأرض، وقد أورد على القاضي هذه المسألة، فقال: لا يمتنع أن يقول: [إنه] لواجده، كما لو وجد طائرا أو ظبيا. انتهى. وقد نص أحمد فيمن استأجر إنسانا ليحفر له بئرا، فوجد ركازا، أنه لصاحب الدار، ونص في رواية الكحال في الساكن إذا وجد كنزا أنه له، ومن مسألة الأجير أخذ القاضي وغيره الرواية في الملك المنتقل إليه [أنه يكون لمن انتقل إليه] قالوا: لأنه لم يجعله للأجير بالظهور، بل جعله لمالك الأرض، ثم إن القاضي في التعليق كلامه يقتضي أنه سلم مسألة الأجير، فقال لما أورد عليه الأجير: عمله لغيره. وهذا التسليم يمنع من جريان الخلاف، ويشعر بتقرير النصوص على ظواهرها.

(2/508)


(الرابعة) : وجده في أرض الحرب بنفسه، فهو ركاز، وإن وجده بجماعة لهم منعة فهو غنيمة.
واعلم أن ظاهر كلام الخرقي أنه لا فرق [بين] أن يكون الركاز ذهبا، أو عروضا، أو غير ذلك، ونص عليه أحمد. وظاهر كلامه أيضا أن هذا الخمس لا يجب إلا على مسلم، فإنه قال: يصرف لأهل الصدقات. فيكون صدقة، وقد قال: إن الصدقة لا تجب إلا على الأحرار المسلمين. وكذا قال في التلخيص، إن قلنا: إنه زكاة. لم تجب على الذمي، [وإن قلنا: إنه فيء. وجب عليه، وقدم في المغني أنه يجب على الذمي] ثم قال: ويتخرج أن لا يجب عليه بناء على أنه زكاة، قال: والأول أصح.
«تنبيه» : العجماء: الدابة، والجبار: الهدر، يعني أن الدابة إذا أتلفت شيئا فلا شيء فيه، وهذا له موضع يذكر فيه إن شاء الله تعالى، وكذا المعدن والبئر إذا تلف بهما أجير فلا شيء فيه، والله أعلم.

قال: وإذا أخرج من المعادن [من الذهب] عشرين مثقالا، أو من الورق مائتي درهم، أو قيمة ذلك من الرصاص، أو الزئبق أو الصفر، أو غير ذلك مما يستخرج من الأرض، فعليه الزكاة من وقته والله أعلم.

(2/509)


ش: المعادن جمع معدن بكسر الدال، قال الأزهري: سمي معدنا لعدون ما أنبته الله سبحانه وتعالى فيه، أي لإقامته يقال: عدن بالمكان، يعدن عدونا، والمعدن المكان الذي عدن فيه الجوهر من جواهر الأرض، أي ذلك كان. انتهى، وصفة المعدن الذي تتعلق به الزكاة ما يخرج من الأرض، مما يخلق [فيها] من غيرها، سواء كان أثمانا أو غيرها، ينطبع أو لا ينطبع، لعموم قَوْله تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ} [البقرة: 267] والأصل في وجوب الزكاة فيه في الجملة هذه الآية الكريمة.
1247 - وعن ربيعة بن أبي عبد الرحمن، عن غير واحد، أن «رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أقطع بلال بن الحارث المزني المعادن القبلية» ، وهي من ناحية الفرع، فتلك المعادن لا يؤخذ منها [إلا] الزكاة إلى اليوم. رواه أبو داود، ومالك في الموطأ. قال أبو عبيد:

(2/510)


القبلية بلاد معروفة في الحجاز.
وإنما تجب الزكاة إذا أخرج نصابا من الذهب، أو الفضة، أو ما يبلغ أحدهما من غيرهما، لعموم قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ليس فيما دون خمس أواق صدقة» ليس عليك شيء [يعني] في الذهب، حتى يكون لك عشرون دينارا وإنما لم يلحق بالركاز لأن الركاز مال كافر، أشبه الغنيمة، وهذا وجب مواساة، وشكرا لنعمة الغنى، فاعتبر له النصاب كسائر الأموال، ولا يعتبر له الحول كما تقدم، ولأنه مستفاد من الأرض، أشبه الزروع والثمار، وقدر الواجب فيه ربع العشر، لعموم قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «في الرقة ربع العشر» ولأن الواجب زكاة، بدليل قصة بلال - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وإذا كان زكاة كان الواجب فيه ربع العشر بلا ريب، وإنما ترك

(2/511)


الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - والله أعلم - التنبيه على ذلك اكتفاء بذكر نصاب الذهب والفضة، إذ بذلك ينتبه الناظر، على أن الواجب فيه كالواجب فيهما.
وقد شمل كلام الخرقي [- رَحِمَهُ اللَّهُ - ما أخرجه من أرض مباحة، أو مملوكة، وهو صحيح، وشمل أيضا] الإخراج على أي صفة كان، وقد شرط الأصحاب في الإخراج أن يخرجه في دفعة أو دفعات، لم يترك العمل بينهما ترك إهمال، والله سبحانه أعلم.

[باب زكاة التجارة]
ش: الأصل في وجوب زكاة التجارة عموم قَوْله تَعَالَى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ} [التوبة: 103] الآية وقوله: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ} [المعارج: 24] .
1248 - وروى سمرة بن جندب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: أما بعد «فإن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يأمرنا أن نخرج الصدقة مما نعده للبيع» . رواه أبو داود.

(2/512)


1249 - وعن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: ليس في العروض زكاة إلا ما كان للتجارة. رواه البيهقي. مع أن ذلك قد حكاه ابن المنذر إجماعا، وإن كان قد حكي فيه خلاف شاذ عن داود ونحوه، والله أعلم.

قال: والعروض إذا كانت للتجارة قومها إذا حال [عليها] الحول وزكاها.
ش: العروض جمع عرض بسكون الراء، ما عدا الأثمان، كأنه سمي بذلك لأنه يعرض ليباع ويشترى، تسمية للمفعول باسم المصدر، كتسمية المعلوم علما. والحكم الذي حكم به الخرقي، وجوب الزكاة في عروض التجارة، وقد تقدم [دليل] ذلك، واشترط لذلك حولان الحول.
1250 - وذلك لعموم قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول» [وظاهر] إطلاق الخرقي يقتضي [وجوب] الزكاة لكل حول، وهو كذلك، خلافا لمالك في اقتصاره على وجوب الزكاة في الحول الأول.

(2/513)


وقوله: قومها، إشعار بأنه لا يعتبر ما اشتريت به، وسيأتي ذلك إن شاء الله تعالى. وفيه إشارة بأن الزكاة تجب في القيمة لا في العين، وأن الإخراج يكون منها.
وقوله: إذا كانت للتجارة. صيرورتها للتجارة بأن يملكها بفعله، بنية التجارة بها، ولا يشترط أن يملكها بعوض على الأصح، فلو ملكها بغير فعله - كأن ملكها بإرث - أو بفعله لكن لم ينو التجارة بها لم تصر للتجارة، وكذا إن ملكها بفعله لكن بلا عوض كأن اتهبها، أو غنمها على وجه، نعم لو نواها للتجارة بعد ففيه روايتان يأتي بيانها إن شاء الله تعالى.
«تنبيه» : وقدر الواجب ربع العشر بلا نزاع، والله أعلم.

قال: ومن كانت له سلعة للتجارة، ولا يملك غيرها، وقيمتها دون المائتي درهم، فلا زكاة عليه حتى يحول [عليه] الحول من يوم ساوت مائتي درهم.
ش: يشترط لوجوب الزكاة فيما أعد للتجارة أن تبلغ قيمته نصابا [بلا نزاع، ويعتبر وجود النصاب في جميع الحول كالأثمان، فعلى هذا لو كانت عنده سلعة للتجارة لا تبلغ قيمتها نصابا] فلا زكاة فيها حتى تبلغ قيمتها نصابا، فينعقد عليها الحول إذا على المذهب، حتى جعله [جماعة] رواية

(2/514)


واحدة، وقيل عنه إذا كمل النصاب بالربح، فحوله [من] حين ملك الأصل كالماشية في رواية.
وقوله: ومن كانت له سلعة للتجارة ولا يملك غيرها، احترازا مما إذا ملك غيرها من الدراهم أو الدنانير، فإنه يضم إليها، فإن بلغا نصابا انعقد الحول عليهما، وإلا فلا.
وقوله: ساوت مائتي درهم؛ وكذا إذا ساوت عشرين مثقالا، لما سيأتي إن شاء الله تعالى، والله أعلم.

قال: وتقوم السلع إذا حال عليها الحول بما هو أحظ للمساكين من عين أو ورق، ولا يعتبر ما اشتريت به.
ش: لأنه قد وجب تقويمه لحق المساكين شرعا، فاعتبر الأحظ لهم، كما لو اشترى سلعة بعرض فحال عليها الحول ولها نقدان مستعملان، فإنها تقوم بما هو أحظ للمساكين، [فكذلك ههنا] فعلى هذا إذا بلغت قيمتها نصابا بالدراهم دون الدنانير قومت به، وإن كان اشتراها بالدنانير، وكذلك بالعكس، فإن بلغت بكل منهما نصابا، قومت بالأحظ منهما أيضا للفقراء عند القاضي، وأبي محمد في الكافي، وصاحب التلخيص وغيرهم.
وقال في المغني: تقوم بأيهما شاء، لكن الأولى أن تقوم بنقد البلد، والله أعلم.

(2/515)


قال: وإذا اشتراها للتجارة، ثم نواها للاقتناء، ثم نواها للتجارة، فلا زكاة فيها حتى يبيعها، فيستقبل بثمنها حولا.
ش: أما إذا اشتراها للتجارة ثم نواها للاقتناء، فلا إشكال في انقطاع الحول، وسقوط الزكاة، لأنه نوى ما هو الأصل وهو القنية، فوجب اعتباره، كما لو نوى المسافر الإقامة، فإذا عاد فنواها للتجارة لم تصر للتجارة، على أنص الروايتين، [وأشهرهما] واختارها الخرقي، والقاضي، وأكثر الأصحاب، لأن ما لا تتعلق به الزكاة من أصله، لا يصير محلا لها بمجرد النية، كالمعلوفة إذا نوى فيها السوم.
(والثانية) : تصير للتجارة اختارها أبو بكر، وابن أبي موسى، وابن عقيل، وأبو محمد في العمدة، لعموم حديث سمرة المتقدم، ولأنها تصير للقنية بمجرد النية، فكذا للتجارة بل أولى، تغليبا للإيجاب، وفرق بأن القنية هي الأصل، فالنية ترد إليها، بخلاف التجارة، فعلى الأولى لا زكاة حتى يبيع العرض فيستقبل بثمنه حولا، والله أعلم.

(2/516)


قال: وإذا كان في ملكه منصب للزكاة، فاتجر فيه، أدى زكاة الأصل مع النماء إذا حال [عليه] الحول، والله أعلم.
ش: حول النماء في التجارة حول الأصل، إذ لو اعتبر لكل جزء حول لأفضى ذلك إلى حرج ومشقة، وهما منتفيان شرعا، ولأنه نماء جار في الحول، تابع لأصله في الملك، فضم إليه في الحول كالنتاج، ودليل الأصل قول عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لساعيه: اعتد عليهم بالسخلة، ولا تأخذها منهم. والله سبحانه أعلم.

[باب زكاة الدين والصدقة]
ش: الصدقة بفتح الصاد وضم الدال، لغة في الصداق بفتح الصاد وكسرها، وفيه لغتان أخريان، صدقة بسكون الدال، مع فتح الصاد وضمها، والله أعلم.
قال: وإذا كان معه مائتا درهم وعليه دين فلا زكاة عليه.
ش: قد تقدمت هذه المسألة مبسوطة في باب زكاة الزروع

(2/517)


[والثمار] ، ونزيد هنا أن ظاهر كلام الخرقي أنه لا فرق بين أن يكون الدين لآدمي أو لله تعالى كالكفارة ونحوها، وفي دين الله تعالى حيث منع دين الآدمي [روايتان أصحهما أنه كدين الآدمي. (والثانية) : لا يمنع وإن منع دين الآدمي] ، ومبنى ذلك عند القاضي وأتباعه على أن الدين هل يمنع وجوب الكفارة؟ وفيه روايتان، فإن قيل: [يمنع. لم تمنع الكفارة ونحوها الزكاة، لضعفها عن الدين، وإن قيل] : لا يمنع. منعت الكفارة الزكاة، لأنها إذا أقوى من الدين، وإذا منع الضعيف فالقوي [من باب] أولى. واختلف في الخراج، فقال القاضي وغيره هو من ديون الله تعالى وقال أبو العباس: بل من ديون [الآدميين] ، كديون بيت المال، والزكاة دين الله تعالى، فيمنع الزكاة عند الأكثرين، كالكفارة، وعند ابن عقيل، وصاحب التلخيص: لا يمنع. قالا: لأن الشيء لا يمنع مساويه، والله أعلم.

قال: وإذا كان له دين على مليء فليس عليه زكاة حتى يقبضه، فيؤدي لما مضى.
ش: دل كلام الخرقي على مسائل: (إحداها) : أن الزكاة

(2/518)


تجب في الدين على المليء، وهذا مقتضى ما روي عن علي، وعائشة، وابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - كما سيأتي، وذلك لعموم النصوص «في الرقة ربع العشر» «فإذا كان لك عشرون دينارا، وحال عليها الحول ففيها نصف دينار» ونحو ذلك، ولأنه مال ممكن الاستيفاء، تام الملك، فوجبت فيه الزكاة، كبقية الأموال. (المسألة الثانية) : أنه لا يجب أداء الزكاة حتى يقبض، فيؤدي عنه إذا، على المذهب المعروف المنصوص، إذ الزكاة مواساة، وليس من المواساة إخراج زكاة مال لم يقبضه.
1251 - وقد روى أحمد بسنده عن عائشة وعلي [وابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -] أنهم كانوا لا يرون في الدين زكاة حتى يقبض. ذكر ذلك أبو بكر. وحكى الشيرازي رواية أخرى أن الأداء يجب قبل القبض، لأنه نصاب مقدور على أخذه بالطلب، أشبه الوديعة. (المسألة الثالثة) : أنه إذا قبض زكي لما مضى من الأحوال، على المذهب المشهور أيضا، لأنه في جميع الأحوال على حال [واحد] فترجيح بعضها بالوجوب [ترجيح] بلا

(2/519)


مرجح، وقيل عنه (رواية أخرى) أن الزكاة تجب لحول واحد فقط.
وقوله: على مليء. أي بماله وقوله وبدنه. فيخرج منه المعسر، والجاحد، والمماطل، والحكم في ذلك كالحكم في المال المغصوب على ما سيأتي.
وشمل كلام الخرقي المؤجل، وبه قطع صاحب التلخيص، وأبو محمد في كتابيه، معتمدا على أنه ظاهر كلام أحمد، وفي بعض نسخ المقنع إجراء روايتي الدين على المعسر فيه، وهي طريقة القاضي والآمدي، وفرق بأن الأجل ثابت باختياره، وله في التأخير فائدة، فأشبه ما لو دفعه إلى آخر مضاربة.
وقوله: حتى يقبضه. لا مفهوم له، بل لو قبض البعض زكى بحسابه على المذهب، وقيل: إن قبض دون نصاب فلا شيء عليه إلا أن يكون بيده ما يتمه به، والله أعلم.

[زكاة المال المغصوب]
قال: وإذا غصب مالا زكاه إذا قبضه لما مضى، في إحدى الروايتين [عن أبي عبد الله] والرواية الأخرى قال: ليس هو كالدين الذي [متى] قبضه زكاه لما مضى، وأحب [إلي] أن يزكيه.

(2/520)


ش: الرواية الأولى نقلها مهنا، و [أبو] الحارث، واختارها القاضي، وأبو بكر وأبو الخطاب، وابن عقيل، وابن عبدوس، وأكثر الأصحاب، لعموم ما تقدم في التي قبلها، والمنع [من] التصرف لا أثر له، بدليل المال المرهون. (والرواية الثانية) : نقلها إبراهيم بن الحارث وغيره، واختارها أبو محمد في العمدة، إذ الزكاة وجبت في مقابلة الانتفاع بالنماء حقيقة أو مظنة، بدليل أنها لا تجب إلا في مال نام، فلا تجب في العقار ونحوه، وحقيقة النماء ومظنته منتفية ههنا، لعدم القدرة على التصرف.
1252 - وقد روي عن عثمان وابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أنهما قالا: لا زكاة في مال الضمار. وهو المال الذي لا يعرف مالكه

(2/521)


موضعه. (وفي المذهب رواية ثالثة) : أن ما لا يؤمل رجوعه - كالمسروق، والمغصوب، والمجحود - لا زكاة فيه، وما يؤمل رجوعه - كالدين على المفلس، أو الغائب المنقطع خبره - فيه الزكاة. قال أبو العباس: وهذه أقرب إن شاء الله تعالى، (وفيه رواية رابعة) : أن الذي عليه الدين إن كان يؤدي زكاته فلا زكاة على ربه، وإلا فعليه الزكاة؛ [نص عليه في المجحود] حذارا من وجوب زكاتين في مال واحد.
«تنبيه» : وكذا الخلاف في المال المسروق، والضال، والدين على معسر [أو جاحد] أو مماطل ونحو ذلك، والله أعلم.

[زكاة المال الملتقط]
قال: واللقطة إذا صارت بعد الحول كسائر مال الملتقط استقبل بها حولا ثم زكاها.
ش: إنما تصير اللقطة كسائر مال الملتقط إذا كانت مما يملك بعد الحول، على ما سيأتي [إن شاء الله تعالى] وإذا يستقبل بها حولا، فإذا مضى الحول زكاها، ولا يحتسب بحول التعريف، لعدم الملك إذا، وهذا منصوص أحمد، لأنه ملكها ملكا تاما، فوجبت فيها الزكاة كبقية أمواله، وكون لمالكها انتزاعها إذا عرفها لا يضر، بدليل ما وهبه الأب لابنه، وعن القاضي: لا زكاة فيها، نظرا إلى أنه ملكها مضمونة عليه

(2/522)


بمثلها أو قيمتها، فهي دين عليه في الحقيقة، وكذلك عن ابن عقيل، [لكن] نظر إلى عدم استقرار الملك فيها، ورد الأول بأن البدل إنما يثبت بظهور المالك، والثاني بما وهبه الأب لابنه، والله أعلم.

قال: فإن جاء ربها زكاها للحول الذي كان الملتقط ممنوعا منها.
ش: هذه صورة من صور المال الضال، وقد تقدم الخلاف فيه، وأن المذهب وجوب الزكاة، ولو لم يملكها الملتقط بعد الحول زكاها مالكها لجميع الأحوال على المذهب، والله أعلم.

[زكاة صداق المرأة]
قال: والمرأة إذا قبضت صداقها زكته لما مضى.
ش: ينعقد الحول على الصداق على المذهب المشهور المعروف، حتى أن القاضي جعله في التعليق رواية واحدة [وذلك لعموم ما تقدم في غيره من الديون] (وقيل عنه) : لا ينعقد، لأن الملك فيه غير تام، إذ هو بصدد أن يسقط أو يتنصف، وقيل: محل الخلاف فيما قبل الدخول، فعلى المذهب إن كان الصداق على مليء زكي عند القبض لما مضى، وإن كان على غير مليء جرى فيه الخلاف السابق، هذا كله إن كان الصداق في الذمة، أما إن كان معينا - كأن أصدقها هذه الخمس من الإبل ونحو ذلك - فإن الحول

(2/523)


ينعقد عليها من حين الملك بلا ريب، نص عليه أحمد، وقال القاضي: رواية واحدة، ولو لم تقبض الصداق فإن كان لجحد [الزوج] أو فلسه ونحو ذلك فلا شيء على المرأة، إذ لا مواساة مع انتفاء القبض، وكذلك ما سقط لطلاق الزوج، إذ لا صنع لها في ذلك، أما إن سقط لفسخها فاحتمالان (الوجوب) ، لأنه سبب من جهتها (وعدمه) لعدم تصرفها، ومن هنا اختلف عن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - فيما إذا وهبت المرأة [زوجها] صداقها، (فعنه) - وهو الصحيح عند القاضي - عليها زكاته، وعلله أحمد بأنه كان في ملكها، يعني وقد تصرفت فيه بالهبة، فأشبه ما لو أحالت به أو قبضته، (وعنه) : الزكاة على الزوج، لأنه ملك ما ملك عليه قبل قبضه منه، فكأنه لم يزل [ملكه] عنه، ولأبي محمد في الكافي احتمال بنفي الزكاة عنهما، المبرئ لعدم قبضه، والمدين لأن ذلك سقط عنه فلم يملكه، والله أعلم.

قال: والماشية إذا بيعت بالخيار فلم ينقض الخيار حتى ردت استقبل البائع بها حولا، سواء كان الخيار للبائع أو للمشتري، لأنه تجديد ملك، والله أعلم.

(2/524)


ش: هذا مبني على أصل، وقد أشار إليه الخرقي، وهو أن البيع ينقل الملك إلى المشتري بمجرد العقد، إن لم ينقض الخيار، على المشهور من الروايتين.
1253 - لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من باع عبدا وله مال فماله للبائع، إلا أن يشترطه المبتاع» جعله للبائع بمجرد البيع. (والرواية الثانية) لا ينتقل الملك إلا بانقضاء مدة الخيار، فعلى الأولى إذا كان المبيع مما تجب فيه الزكاة فقد انتقل الملك فيه بمجرد العقد، فينقطع حول البائع، فإذا رد عليه فقد تجدد له الملك بعد زواله، فيستقبل به حولا، وعلى الرواية الأخرى الملك باق له، فكذلك الحول، وقول الخرقي: إذا بيعت بالخيار، وكذلك لو ردت في مدة خيار المجلس، والله أعلم.

[باب زكاة الفطر]
ش: [هذا] من باب إضافة الشيء إلى سببه، إذ سبب وجوبها الفطر من رمضان، أما «الفطرة» فكلمة مولدة، وقد عدها بعضهم مما يلحن فيه العامة، وإن كان قد استعمل كثيرا من كلام الفقهاء وغيرهم.
والأصل في وجوبها قيل: قَوْله تَعَالَى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى} [الأعلى: 14] {وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [الأعلى: 15] .
1254 - فعن سعيد بن المسيب، وعمر بن عبد العزيز أنها زكاة الفطر.

(2/525)


1255 - والمعتمد في الوجوب على ما روى عبد الله بن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: «فرض رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زكاة الفطر صاعا من تمر، أو صاعا من شعير، على الحر والعبد، والذكر والأنثى، والصغير والكبير من المسلمين، وأمر بها أن تؤدي قبل خروج الناس إلى الصلاة» . متفق عليه واللفظ للبخاري.
ودعوى أن: فرض. بمعنى: قدر. مردود بأن كلام الراوي - لا سيما الفقيه - محمول على الموضوعات الشرعية.
1256 - وبأن في الصحيح أيضا في حديثه: «أمر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بزكاة الفطر صاعا من تمر، أو صاعا من شعير» . قال عبد الله: فجعل الناس مكانه مدين من حنطة، واختلف عن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في زكاة الفطر هل تسمى فرضا؟ على روايتين، مبناهما على أنه لا يسمى فرضا إلا ما ثبت في الكتاب، وما ثبت بالسنة يسمى واجبا، أو أن كل ثابت وإن كان بالسنة يسمى فرضا، والله أعلم.

[حكم زكاة الفطر]
قال: وزكاة الفطر واجبة على كل حر وعبد، ذكر وأنثى من المسلمين.

(2/526)


ش: هذا نص رواية ابن عمر المتقدم، فاعتمد الخرقي عليها، وكفى بذلك معتمدا، وقد دخل في الحديث - وفي كلام الخرقي - اليتيم، فتجب في ماله، وخرج الكافر، وإن كان عبدا، أو صغيرا [وفي المذهب وجه أنها لا تجب على من لم يكلف بالصوم، نظرا إلى أنها طهرة للصائم كما ورد، ومن لا يكلف بصوم، لا حاجة إلى تطهير صومه] .
«تنبيه» : لو هل هلال شوال على عبد مسلم ملكا لكافر فهل تجب على سيده الكافر فطرته؟ فيه وجهان، مبناهما على أن السيد هل هو متحمل أو أصيل؟ فيه قولان، إن قلنا: إنه متحمل وجبت عليه، وإن قلنا: أصيل، لم تجب عليه، والله أعلم.

[مقدار زكاة الفطر]
قال: صاع بصاع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو خمسة أرطال وثلث بالعراقي، من كل حبة وثمرة تقتات.
ش: الواجب في الفطرة صاع، لما تقدم من حديث ابن عمر.
1257 - وعن أبي سعيد الخدري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: كنا نخرج زكاة الفطر صاعا من طعام، أو صاعا من شعير، أو صاعا من تمر، أو صاعا من زبيب، أو صاعا من أقط، فلم نزل نخرجه حتى كان معاوية، فرأى أن مدين من بر تعدل صاعا من تمر. قال أبو سعيد: أما أنا فلا أزال أخرجه كما كنت أخرجه

(2/527)


ما عشت. متفق عليه، (وخرج) إجزاء نصف صاع بر كما في الكفارات، ويشهد له فعل معاذ.
1258 - وعن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعث مناديا في فجاج مكة «ألا إن صدقة الفطر واجبة على كل مسلم، ذكر أو أنثى، حر أو عبد، صغير أو كبير، مدان من قمح أو سواه صاع من طعام» رواه الترمذي انتهى. والصاع

(2/528)


بصاع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خمسة أرطال وثلث، لما تقدم في باب زكاة الزروع.
وصفة المخرج أن يكون من كل حبة وثمرة تقتات على قول الخرقي، وأبي بكر، إذ المتفق عليه في الحديث بلا ريب البر، والشعير، والتمر، والزبيب، [وذلك حب أو ثمرة تقتات] فاعتبر ما شابهها في الوصفين، ولم يعتبر ابن حامد، وصاحب التلخيص إلا القوتية فقط.
1259 - نظرا إلى قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أغنوهم عن السؤال في هذا اليوم» وبالقوت يحصل الغنى لا بغيره، ولأن الشارع قد نص على الأقط، وليس بحب، ولا ثمر، فعلى هذا يجزئ اللحم وإن كان سمكا، واللبن ونحو ذلك لمن كان قوته، وعلى الأول لا يجزئ ولأبي الحسن ابن عبدوس [احتمال] أنه لا يجزئ غير الخمسة المنصوص عليها، وتبقى الفطرة عند عدمها في ذمته، والله أعلم.

قال: وإن أعطى أهل البادية الأقط صاعا أجزأ إذا كان قوتهم.

(2/529)


[ش: نقل بكر بن محمد، وحنبل عن أحمد ما] يدل على أن الأقط أصل بنفسه، فقال: - وقد سئل عن صدقة الفطر - صاع من شعير، أو تمر، أو أقط، أو زبيب، أو حنطة. فعلى هذا يجزئ مع وجود الأربعة المذكورة وإن لم يكن قوته، وهذا اختيار أبي بكر، وجزم به ابن أبي موسى، والقاضي وأبو الخطاب في خلافيهما، وابن عقيل، وابن عبدوس، وابن البنا، والشيرازي وغيرهم.
1260 - لأن في رواية النسائي - في حديث أبي سعيد المتقدم - قال: «فرض رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صدقة الفطر صاعا من طعام، أو صاعا من شعير، أو صاعا من تمر، أو صاعا من أقط» . مع أن اقترانه بالأربعة في الروايات الصحيحة، مشعر بأنه كهي.
ونقل عنه ابن مشيش [ما يدل على أنه بدل، فقال في رواية ابن مشيش] : إذا لم يجد التمر فأقط، هذا نقل القاضي في روايتيه، ولفظه في تعليقه عن ابن مشيش: إذا أعطى الأعرابي صاعا من البر أجزأ عنه، والأقط أعجب إلي، على حديث أبي سعيد؛ ونحو هذا اللفظ نقل حنبل، وبكر بن محمد، وهذا لا يعطي رواية، إنما يدل على أن الأقط لأهل البادية أفضل، لكن أبا الخطاب في الهداية، وصاحب التلخيص والشيخين، وغيرهم، على حكاية رواية البدلية، وذلك لأنه [لا] يجزئ في الكفارة، أشبه اللحم، والمشهور من رواية أبي سعيد: كنا

(2/530)


نخرج. وقد يكون ذلك لكونه قوتهم، واختلف الحاكون لهذه الرواية، فقال صاحب التلخيص، وأبو محمد، تبعا لأبي الخطاب: لا يجزئ إلا عند عدم الأربعة. وقال أبو البركات: لا يجزئ إلا لمن هو قوته. وظاهره: وإن وجدت، وهذا مقتضى قول الخرقي، وإنما ذكر أهل البادية نظرا إلى الغالب. انتهى، فعلى الأول - وهو المذهب - في إجزاء اللبن والجبن وجهان.
«تنبيه» : الأقط فيه أربع لغات، تثليث الهمزة مع سكون القاف، وفتح الهمزة مع كسر القاف، وهو شيء يعمل من اللبن المخيض، وزعم ابن الأعرابي أنه يعمل من ألبان الإبل [خاصة، والله أعلم.

قال: واختيار أبي عبد الله - رَحِمَهُ اللَّهُ - إخراج التمر.

(2/531)


ش: أفضل الخمسة المنصوص عليها التمر، وإن كان قوت] البلد غيره، نص عليه أحمد في رواية أبي داود، وظاهر إطلاقه: وإن كان غيره أعلى [منه] قيمة، وصرح به القاضي، لما تقدم من حديث ابن عمر، فإنه لم يذكر البر فيما فرضه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنما ذكر التمر والشعير، ثم هو راوي الحديث، وقد كان يواظب على إخراج التمر.
1261 - ففي النسائي، والموطأ، وغيرهما أنه كان لا يخرج في زكاة الفطر إلا التمر، إلا مرة واحدة فإنه أخرج شعيرا، وفي لفظ: فأعوز أهل المدينة التمر عاما، فأعطى الشعير.
1262 - وقد روى الإمام أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن أبي مجلز قال: قلت لابن عمر: إن الله قد أوسع، والبر أفضل من التمر، قال: إن أصحابي سلكوا طريقا، وأنا أحب أن أسلكه. وظاهر هذا أن الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - كانوا يداومون على إخراجه، ولأنه ساوى غيره في القوتية، وزاد عليه بالحلاوة، وقرب التناول. وحكى ابن حمدان [رواية] أن الأقط أفضل لمن هو قوته، ولعل

(2/532)


يعتمدها رواية ابن مشيش ونحوها المتقدمة، وهي إنما تعطي أنه أفضل من البر.
واختلف في الأفضل بعد التمر، فعند الأكثرين الزبيب، ثم البر، ثم الشعير، لأنه يساوي التمر في القوتية، والحلاوة، وقرب التناول، فألحق به، وإنما قدم التمر عليه لاتفاق الأحاديث [عليه] ولمداومة الصحابة [عليه] ولأنه أقوى في القوتية، وعند أبي محمد في كتابيه: الأفضل بعد التمر البر، لأنه أبلغ في الاقتيات، فيكون أوفق لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أغنوهم عن السؤال في هذا اليوم» وأفضل، ولهذا جعل معاوية مدا منه يعدل مدين، وإنما عدل عنه إلى التمر لفعل الصحابة، فيبقى فيما عداه على مقتضى الدليل، وله احتمال في المغني أن الأفضل بعد البر ما كان أغلى قيمة، وأكثر نفعا، وهو ظاهر قوله في المقنع، وقد تقدم نص أحمد أن الأقط لمن هو قوته أفضل من البر، والله أعلم.

قال: ومن قدر على البر أو التمر، أو الشعير أو الزبيب أو الأقط فأخرج غيره لم يجزئه.

(2/533)


ش: هذا هو المذهب المعروف المشهور لظاهر حديث ابن عمر وأبي سعيد، إذ ظاهرهما أنه لم يفرض غير ذلك، فالعدول عن ذلك عدول عن المنصوص عليه، أشبه ما لو عدل إلى القيمة، وخرج أبو بكر قولا آخر أنه يعطي ما قام مقام الخمسة على ظاهر الحديث «صاعا من طعام» ، والطعام قد يكون برا أو شعيرا، أو ما دخل فيه الكيل، ويجاب بأنه قد جاء «صاعا من بر» مكان «طعام» ، فدل على أن المراد بالطعام البر.
وقد دل كلام الخرقي على أنه متى أخرج التمر ونحوه أجزأه، وإن كان القوت في غيره، ودل على أن ما تقدم من قوله: (من كل حبة وثمرة تقتات) أنه مع عدم الخمسة.
وقد يقال: إن ظاهر كلامه أنه لا يجزئ الدقيق ولا السويق مع وجود أصليهما، لأن الروايات الصحيحة ليسا فيها والمنصوص عن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - إجزاؤهما.
1263 - لأن سفيان بن عيينة ذكر في حديث أبي سعيد «أو صاعا من

(2/534)


دقيق» وهو ثقة فتقبل زيادته، وقد اعتمد أحمد على ذلك في رواية مهنا، فقال: سفيان بن عيينة يقول: عن محمد بن عجلان، عن عياض بن عبد الله بن أبي سرح، عن أبي سعيد [يقول: دقيقا. قلت له: أي شيء مذهبك في هذا؟ فقال: حديث عياض بن عبد الله بن أبي سرح عن أبي سعيد] ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أغنوهم عن السؤال في هذا اليوم» ولا ريب أن الغنى يحصل بالدقيق أكثر من الزبيب ونحوه، وقال ابن أبي موسى: لا يجزئ السويق، لأنه خرج عن الاقتيات لعموم الناس، بخلاف الدقيق.
«تنبيه» يعتبر صاع الدقيق [والسويق] بوزن حبهما، ولا يشترط نخل الدقيق، والله أعلم.

[إخراج القيمة في زكاة الفطر]
[قال: ومن أعطى القيمة لم تجزئه] .
ش: نص على هذا أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - معتمدا على قول ابن

(2/535)


عمر: فرض رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. الحديث، ومن دفع القيمة لم يعط ما فرضه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
1264 - وعن معاذ أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال له حين بعثه إلى اليمن: «خذ الحب من الحب، والشاة من الغنم، والبعير من الإبل، والبقر من البقر» رواه أبو داود، وظاهره وجوب ذلك، والله أعلم] .

[وقت إخراج زكاة الفطر]
قال: ويخرجها إذا خرج إلى المصلى.
ش: لا إشكال في مطلوبية إخراج زكاة الفطر عند الخروج إلى صلاة العيد تحقيقا لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أغنوهم عن السؤال في هذا اليوم» .
1265 - لأن في البخاري في حديث ابن عمر: «فرض رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صدقة الفطر. الحديث وقال فيه: وأن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة» ، ولمسلم: «أمر بزكاة الفطر أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة» ، ولأبي داود: وكان ابن عمر يؤديها قبل خروج الناس إلى الصلاة. أما إن قدمها على ذلك فسيأتي [بيان ذلك] إن شاء الله تعالى، فإن أخرها عن الصلاة ففي بقية اليوم تجوز، وتقع إذا، لحصول الغنى في ذلك اليوم، لكن

(2/536)


يكره ذلك عند أبي محمد، لعدم حصول الغنى في جميع اليوم، ولم يكرهه القاضي، وشدد بعض الأصحاب فجعلها بعد الصلاة قضاء لظاهر ما تقدم.
1266 - وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: «فرض رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث، وطعمة للمساكين، من أداها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة، ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات» . رواه أبو داود، وبعد يوم العيد يأثم، وهي قضاء بلا ريب. والله أعلم.

قال: وإن قدمها قبل ذلك بيوم أو يومين أجزأه.
ش: هذا منصوص أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقول أصحابه، لا أعلمهم يختلفون في ذلك.
1267 - لأن [في] حديث ابن عمر في الصحيح: «وكانوا يعطون قبل العيد بيوم أو يومين» .

(2/537)


وهذا إشارة إلى جماعتهم، فيكون كالإجماع، وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أغنوهم عن السؤال في هذا اليوم» لا يدفع ذلك، إذ ما قارب الشيء أعطي حكمه.
ومفهوم كلام الخرقي أنه لا يجوز تقديمها أكثر من ذلك وهو المذهب بلا ريب، إذ ظاهر الأمر بأدائها قبل الصلاة، والإغناء عن السؤال في يوم العيد، ونحو ذلك [يقتضي] أن لا يجوز التقديم مطلقا، خرج منه التقديم باليوم واليومين لما تقدم فيبقى فيما عداه على مقتضى الدليل، (وقيل عنه) : يجوز تقديمها بثلاث.
1268 - لأن في رواية الموطأ أن ابن عمر كان يبعث بزكاة الفطر إلى الذي تجمع عنده قبل الفطر بيومين أو ثلاثة. (وقيل عن أحمد) : رواية ثالثة: يجوز تقديمها بعد نصف الشهر، كما يجوز تقديم أذان الفجر بعد نصف الليل. (وفي المذهب قول رابع) : تجوز من أول الشهر، لدخول سبب الوجوب، أشبه تقديم زكاة المال بعد النصاب، وقبل تمام الحول الذي به الوجوب، والدليل على أن الصيام سبب الوجوب قول ابن عباس المتقدم: «فرض رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زكاة الفطر طهرة للصائم» الحديث.

(2/538)


1269 - وفي الصحيح في حديث ابن عمر: «فرض رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زكاة الفطر من رمضان» . فأضافها إلى الفطر من رمضان.
1270 - وفي سنن أبي داود، والنسائي عن الحسن البصري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: خطب ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - في آخر رمضان، على منبر البصرة فقال: أخرجوا صدقة صومكم. انتهى وفرق بين هذا وبين صدقة المال، بأنه إذا خرج هنا من أول الشهر لم يحصل المقصود الذي قصده الشارع بالإغناء عن السؤال في يوم العيد، بخلاف ثم.
«تنبيه» : وقت الوجوب [على الصحيح المنصوص] يدخل بغروب شمس آخر يوم من رمضان، على الصحيح [المنصوص] المشهور من الروايتين، لما تقدم من حديث ابن عمر وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: «فرض رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -[صدقة الفطر من رمضان» ، «فرض رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زكاة الفطر،

(2/539)


طهرة للصائم» والفطر من رمضان في الحقيقة يحصل بغروب الشمس من آخر] يوم من رمضان، فوجب أن يتعلق الوجوب به « [والرواية] الثانية» تجب بطلوع فجر يوم العيد، لأن الفطر من رمضان على الإطلاق [يقع] على يوم الفطر.
1271 - قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «فطركم يوم تفطرون» فأضاف الفطر على الإطلاق إلى اليوم.
1272 - «ونهى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن صيام يومين «يوم فطركم من صيامكم، واليوم الآخر تأكلون فيه من نسككم» ، ورد بأن الفطر في الحقيقة إنما هو بخروج وقت الصوم كما تقدم، وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الفطر يوم تفطرون» أي الفطر بالنهار يوم تفطرون.
وينبني على ذلك أنه لو ملك عبدا، أو ولد له ولد، أو تزوج

(2/540)


أو أسلم قبل غروب شمس آخر يوم من رمضان وجب عليه له ولهم وبعد طلوع فجر يوم العيد لا تجب، وفيما بينهما الروايتان، ولو كان معسرا فأيسر قبل الغروب وجبت، [وبعد طلوع الفجر لا تجب، وفيما بينهما الخلاف.
(وعنه) رواية أخرى: إن أيسر يوم العيد وجبت] : اختارها أبو العباس، لحصول اليسار في وقت الوجوب، فهو كالمتمتع إذا قدر على الهدي يوم النحر، (وعنه) إن أيسر في أيام العيد وجبت، وإلا فلا، فيحتمل أن يريد أيام النحر، ويحتمل أن يريد الستة من شوال، لأنه قد نص في رواية أخرى أنه إذا قدر بعد خمسة أيام يخرج (وعن أحمد) رواية أخرى: تبقى في ذمته ككفارة الظهار ونحوها، والأول اختيار الأكثرين، والله سبحانه أعلم.

قال: ويلزمه أن يخرج عن نفسه وعن عياله، إذا كان عنده فضل عن قوت يومه وليلته.
ش: يلزمه أن يخرج عن نفسه بلا ريب، والأحاديث صريحة بذلك، وعن عياله وهم من يمونه.
1273 - لأنه يروى في بعض طرق حديث ابن عمر: «فرض رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الفطر عن كل صغير، وكبير، حر وعبد، ممن تمونون» . رواه الدارقطني.

(2/541)


1274 - ولإطلاق قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ابدأ بنفسك ثم بمن تعول» ويشترط في وجوبها أن يكون عنده فضل عن قوت يوم العيد وليلته، لأن صاحب الشرع أمر بإغناء السؤال في يوم العيد، ومن لم يكن عنده فضل عن قوت يوم العيد هو أحق بإغناء نفسه، قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ابدأ بنفسك» أما إن فضل عنده فضل فيلزمه الإخراج، وإن لم يملك نصابا، لأنه قد حصل له غناء هذا اليوم، فاحتمل ماله المواساة.
1275 - ولعموم حديث ابن عمر: «فرض رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -[زكاة الفطر] صاعا من تمر، أو صاعا من شعير، على العبد والحر، والذكر والأنثى، والصغير والكبير من المسلمين» .

(2/542)


1276 - وعن عبد الله بن ثعلبة أو ثعلبة بن عبد الله بن أبي صعير، عن أبيه، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «زكاة الفطر صاع من بر، أو قمح، عن كل صغير أو كبير، حر أو عبد، ذكر أو أنثى، أما غنيكم فيزكيه الله، وأما فقيركم فيرد الله عليه أكثر مما أعطاه» رواه أبو داود، وقال أحمد في رواية حنبل: «فرض رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: [صدقة الفطر] على الغني والفقير» . وظاهر هذا صحة هذا الحديث [عنده] (وقد دخل) في كلام الخرقي زوجته، وعبده ووالداه وولده، وكل من تلزمه نفقته، لأنهم في عياله، وحكمهم في التقديم يأتي في النفقات إن شاء الله تعالى، (ودخل) في كلامه [كل] من تبرع بمؤنته في شهر رمضان،

(2/543)


فإنه تلزمه فطرته، لأنه قد مانه حقيقة فيدخل في قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «ممن تمونون» وهذا منصوص أحمد، وقول عامة أصحابه، وخالفهم أبو الخطاب في الهداية، وتبعه أبو محمد، فقالا: فطرته على نفسه. وجعلا الاعتبار بلزوم المؤنة، وحكى ذلك ابن حمدان رواية، (فعلى الأولى) تعتبر المؤنة في جميع الشهر على المشهور، وقال ابن عقيل: قياس المذهب أنه إذا مانه آخر ليلة وجبت فطرته، كما لو ملك عبدا عند الغروب، فلو مانه جماعة فعلى قول ابن عقيل فطرته على من مانه آخر ليلة، وعلى المشهور هل تجب على جميعهم بالحصص، لاشتراكهم في سبب الوجوب، أو لا تجب عليهم، لأن الوجوب على كل واحد منوط بمؤنة جميع الشهر ولم يوجد؟ فيه احتمالان.
«تنبيه» : يعتبر مع كفاف يوم العيد وليلته سد حوائجه

(2/544)


الأصلية، من دار يسكنها، ودابة يحتاج إلى ركوبها، وثياب يتجمل بها ونحو ذلك، على ما قاله صاحب التلخيص، وأبو محمد وغيرهما، وأورد ابن حمدان المذهب بعدم اعتبار ذلك، ولعله ظاهر كلام الخرقي، والله أعلم.

قال: وليس عليه في مكاتبه زكاة.
ش: لأنه لا يمونه، فلا يدخل تحت قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «ممن تمونون» ولأنه لا يلزمه مؤنته، فأشبه الأجنبي.

قال: وعلى المكاتب أن يخرج عن نفسه زكاة الفطر.
ش: لأنه تلزمه نفقة نفسه، فلزمه فطرتها كالحر، والله أعلم.

قال: وإذا ملك جماعة عبدا أخرج كل واحد منهم صاعا، وعن أبي عبد الله - رَحِمَهُ اللَّهُ - رواية أخرى صاعا عن الجميع.
ش: تجب فطرة العبد المشترك على مواليه، نص عليه أحمد، لعموم ما تقدم من الأحاديث (ثم هل على الجميع صاع) يقسم بينهم على قدر حصصهم، وهو الظاهر عن أحمد، بل قيل: إنه الذي رجع إليه آخرا، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أوجب على كل واحد صاعا، ولم يفرق بين مشترك وغيره، ولأن الفطرة تتبع النفقة، والنفقة تقسم عليهم بالحصص، فكذلك

(2/545)


الفطرة (أو على كل [واحد] صاع) وهو اختيار أبي بكر. قال القاضي والخرقي: لأنها طهرة، فوجب تكميلها على كل واحد من الشركاء، ككفارة القتل؟ فيه روايتان، والله أعلم.

[مصارف زكاة الفطر]
قال: ويعطي صدقة الفطر لمن يجوز أن يعطي صدقة الأموال.
ش: لأنها صدقة، فتدخل تحت قوله: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ} [التوبة: 60] . الآية، وتحت قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لمعاذ: «أخبرهم أن الله قد فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم» إلى غير ذلك. ويمنع منها من يمنع من صدقة الأموال كالذمي، والعبد، والزوجة، والولد ونحوهم، لأنها صدقة واجبة، فحكم عليها بما يحكم على بقية الصدقات، والله أعلم.

قال: ويجوز أن تعطى الجماعة، ما يلزم الواحد.
ش: لإطلاق {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ} [التوبة: 60] الآية، مع أن أبا محمد قال: لا أعلم فيه خلافا والله أعلم.

(2/546)


قال: ويعطي الواحد ما يلزم الجماعة.
ش: لأنها صدقة واجبة، فجاز أن يدفع للواحد فيها ما يلزم الجماعة كصدقة المال، وقد تقدم الدليل على الأصل، فلا حاجة إلى إعادته، والله أعلم.

قال: ومن أخرج عن الجنين فحسن، وكان عثمان بن عفان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يخرج عن الجنين.
1276 - م ش: المشهور المعروف من الروايتين أن إخراج زكاة الفطر عن الجنين مستحب، لفعل عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ولا يجب، لأن هذا حكم من أحكام الدنيا، فلم يتعلق به كبقية الأحكام. ونقل عنه يعقوب بن بختان وجوبها اتباعا لفعل عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، ولأنه آدمي تصح الوصية له وبه، ويرث، أشبه المولود، والله أعلم.

قال: ومن كان في يده ما يخرج صدقة الفطر، وعليه دين مثله، لزمه أن يخرج، إلا أن يكون مطالبا به فعليه قضاء الدين ولا زكاة عليه، والله أعلم.

(2/547)


ش: أما مع عدم المطالبة فلتغاير التعلق إذ هذه زكاة بدن، وتلك زكاة مال، ومع الدين قد نقص المال، فلذلك أثر ثم بخلاف هنا، ولأن زكاة الفطر آكد وجوبا من زكاة المال، بدليل وجوبها على الفقير، فلا يلزم من المنع ثم المنع هنا، وأما مع المطالبة فقد وجب الصرف إلى الغريم، فصار وجود المال كعدمه، فيكون معسرا، هذا هو المذهب المجزوم به عند الشيخين وغيرهما، وقيل: لا يمنع الدين مطلقا لما تقدم، والله سبحانه وتعالى أعلم.

(2/548)