شرح الزركشي على مختصر الخرقي

 [باب صريح الطلاق وغيره]
أي باب حكم صريح الطلاق وغيره من الاستثناء في الطلاق، والتعليق بشرط، وغير ذلك مما يذكر إن شاء الله تعالى، والصريح الخالص من كل شيء، فصريح الطلاق اللفظ الموضوع له، الذي لا يفهم منه عند الإطلاق غيره، أو يفهم لكن على بعد.
قال: وإذا قال لها: قد طلقتك، أو قد فارقتك، أو قد سرحتك؛ لزمه الطلاق.
ش: ظاهر كلام الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن هذه الألفاظ صريحة في الطلاق، ولا نزاع في أن المذهب أن لفظ الطلاق وما تصرف منه مما يفهم منه الطلاق صريح في الطلاق، لأنه موضوع له على الخصوص، وقد ثبت له عرف في الشرع والاستعمال، ففي الكتاب العزيز: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة: 229] ، فإن طلقها وفي السنة والاستعمال أن ابن عمر طلق امرأته وهي حائض.
2708 - وقالوا: طلق رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حفصة، وهذا واضح لا خفاء به، وقد دخل في الطلاق وما تصرف منه طلقتك، وأنت

(5/395)


طالق، وأنت مطلقة وأنت الطلاق، وخرج منه أطلقك وطلقي؛ لأنه لا يفهم منهما الطلاق، إذ الأول وعد، والثاني طلب، وليس بخبر ولا إنشاء، وحكى أبو بكر عن أحمد رواية في: أنت مطلقة أنه ليس بصريح، لاحتمال أن يريد طلاقا ماضيا، ويلزمه ذلك في طلقتك؛ ولأبي محمد في الكافي احتمال في: أنت الطلاق؛ أنه لا يكون صريحا، ومن الصريح إذا قيل له: أطلقت امرأتك؟ قال: نعم. إذ السؤال معاد في الجواب، ويحتمل أن لا يكون صريحا من القويل في: أقبلت هذا النكاح. وأطلقك؛ ليس بصريح على المذهب، لانتفاء عرف الاستعمال فيه، وللقاضي فيه احتمال.
وأما لفظ السراح والفراق ففيهما وجهان، (أحدهما) - وهو الذي ذكره الخرقي، وتبعه عليه القاضي في التعليقة وفي غيرها، والشريف وأبو الخطاب في خلافيهما، وابن البنا والشيرازي وغيرهم - أنهما صريحان، حكمهما حكم لفظ الطلاق، لورودهما في الكتاب العزيز بمعنى الفرقة، فأشبها لفظ الطلاق، قال سبحانه: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229] وقال: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق: 2] وقال: {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ} [النساء: 130]

(5/396)


وقال سبحانه: {فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ} [الأحزاب: 28] (والثاني) - وهو اختيار ابن حامد، وأبي الخطاب في الهداية، والشيخين - ليسا بصريح، لاستعمالهما في غير الطلاق كثيرا، فأشبها سائر كناياته، قال سبحانه: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103] وقال تعالى: {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [البينة: 4] وأما قَوْله تَعَالَى: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229] فليس المراد به الطلاق قطعا، إذ الآية في الرجعية، وهي إذا قاربت انقضاء عدتها فإما أن يمسكها برجعة، وإما أن يترك حتى تنقضي عدتها فيسرح، فالمراد بالتسريح في الآية الكريمة قريب من معناها اللغوي، وهو الإرسال، وهو أن تخلى، وكذلك المفارقة في الآية الثانية، المراد بها ترك مراجعتها، كأنه إذا يظهر حكم الفرقة، لأنها قبل انقضاء العدة في حكم الزوجة، وأما قوله: {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا} [النساء: 130] فليس فيه بيان لما تحصل به الفرقة، وأما أسرحكن يحتمل أرسلكن بالطلاق، ثم المدار على عرف الاستعمال الشرعي، وهو مفقود، وعلى هذا الوجه هما كنايتان ظاهرتان، حكمهما حكم الخلية والبرية على ما سيأتي إن شاء الله تعالى.

(5/397)


(تنبيه) حكم الصريح أنه لا يحتاج إلى نية كما سيأتي إن شاء الله، وأنه إن صرفه بأن قال: من وثاق. أو نحو ذلك فإن كان باللفظ سمع منه، وإن كان بالنية فإنه يدين، وفي الحكم إن قامت قرينة تكذبه كالغضب أو بسؤالها الطلاق لم يسمع، وإلا فروايتان، أنصهما القبول، والله أعلم.

قال: ولو قال لها في الغضب: أنت حرة. أو لطمها فقال: هذا طلاقك. لزمها الطلاق.
ش: أما إذا قال لها: أنت حرة. فقد اتفق الأصحاب فيما علمت في عدها من كنايات الطلاق، لأن الحرة هي التي لا رق عليها، ولا شك أن النكاح رق.
2709 - ولهذا في الحديث: «اتقوا الله في النساء فإنهن عوان عندكم» أي أسراء، والزوج ليس له على الزوجة إلا رق الزوجية، فإذا أخبر بزوال الرق فهو الرق المعهود، وهو رق الزوجية، ثم من الأصحاب من يعدها في الكنايات الظاهرة، وهم الأكثرون ومنهم من يعدها في المختلف فيه.

(5/398)


وظاهر كلام الخرقي أنه جعلها من الخفية، لأنه قال: لزمها الطلاق. وظاهره طلقة واحدة، ولم يجعلها كالخلية ونحوها.
وقيد الخرقي وقوع الطلاق بحال الغضب، وهو مدل بشيئين (أحدهما) أن الكنايات إذا اقترن بها دلالة حال، من غضب أو ذكر الطلاق ونحو ذلك، قام ذلك مقام النية، وطلقت على المشهور، والمختار لكثير من الأصحاب من الروايتين، إذ دلالة الحال كالنية، بدليل أنها تغير حكم الأقوال والأفعال، فإن من قال لرجل: يا عفيف ابن العفيف؛ في حال تعظيمه كان مدحا، ولو قاله في حال الشتم والسب كان ذما وقذفا (والرواية الثانية) لا بد في الكنايات من النية، لأن نفس اللفظ للطلاق وغيره، ومميزه النية، فلا بد من اعتبارها، دفعا للإيهام، ومال أبو محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه في الألفاظ التي يكثر استعمالها - نحو: اخرجي، واذهبي، ونحو ذلك - لا يقع بها طلاق، إلا أن ينويه (فعلى المذهب) لو ادعى أنه لم يرد بها الطلاق دين، وهل يقبل في الحكم؟ على روايتين.

(5/399)


واعلم أن أبا البركات حكى الروايتين في القبول في الحكم وعدمه، إذا ادعى عدم إرادة الطلاق، وغيره يجعل الروايتين في الغضب، هل يقوم مقام النية أم لا؟ فربما ظن ظان أن بينهما تنافيا وليس كذلك، فإن غايته أن الأصحاب ذكروا رواية لم يذكرها المجد، وذكر يعني المجد رواية تؤخذ من كلامهم في غير هذا المحل، وهو ما إذا ادعى أنه أراد بلفظه ما يخالف ظاهره، ونحو ذلك.
(الشيء الثاني) أنه إذا أتى بالكناية في غير حال الغضب لا يقع بها طلاق، وهو كذلك، لأن اللفظ بمجرده لا دلالة له على الطلاق، بل هو كالمشترك، فلا بد من شيء يبين المراد منه، ويستثنى من ذلك النية، إذ هي تبين المراد، وكأن الخرقي إنما تركه اكتفاء بذكر الغضب، لأنه إذا اكتفي بالغضب لدلالته على النية، فالنية أولى وأحرى، وأما إذا لطمها وقال: هذا طلاقك. فقوة كلام الخرقي يقتضي وقوع الطلاق بمجرد ذلك من غير نية، وهو قول ابن حامد، لأن معناه أوقعت عليك طلاقا هذا من أجله، واختار أبو محمد أنه كناية في الطلاق، يعتبر له ما يعتبر لها من النية، أو دلالة حال، لأن هذا اللفظ غير موضوع للطلاق، ولا مستعمل فيه شرعا ولا عرفا، فأشبه سائر الكنايات، وهذا ظاهر كلام أبي الخطاب في الخلاف، ويحتمل كلام الخرقي هذا أيضا، ويكون اللطم قائما مقام النية، لأنه يدل على الغضب، وعلى قياس ما تقدم لو أطعمها أو سقاها ونحو ذلك، فعلى الأول يقع الطلاق بمجرده، وعلى الثاني

(5/400)


لا بد من النية، وعلى القول بالوقوع من غير نية فلو فسره بمحتمل غيره قبل، وعلى هذا فهذا قسم برأسه ليس بصريح وإلا خرج الخلاف إذا صرفه، ولا كناية، لأن الكناية تتوقف على النية، فهو ظاهر في الطلاق، يصرف عند الإطلاق إليه، ويجوز صرفه إلى غيره، والله أعلم.

قال: وقال أبو عبد الله: وإذا قال لها: أنت خلية أو أنت برية أو أنت بائن، أو حبلك على غاربك، أو الحقي بأهلك. فهو عندي ثلاث، ولكني أكره أن أفتي به، سواء دخل بها أو لم يدخل بها.
ش: وقوع الثلاث بهذه في الجملة هو المشهور عن أحمد، واختيار كثير من الأصحاب، لأنه المشهور عن الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -.
2710 - فعن أحمد أنه قال في الخلية والبرية والبتة قول علي وابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - قول صحيح ثلاثا.
2711 - وقال أيضا في البتة: عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يجعلها واحدة، وعلي وزيد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - ثلاثا.

(5/401)


2712 - وروى النجاد بإسناده أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - جعل البتة واحدة، ثم جعلها بعد ثلاث تطليقات.
2713 - وروي أيضا عن نافع أن رجلا جاء إلى عاصم وابن الزبير فقال: إن ظئري هذا طلق امرأته قبل أن يدخل بها، فهل تجدان له رخصة؟ فقال: لا، ولكنا تركنا ابن عباس وأبا هريرة عند عائشة فسلهم، ثم ارجع إلينا فأخبرنا، فسألهم فقال أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره. وقال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: هي ثلاث. وذكر عن عائشة متابعتهما؛ ولأن

(5/402)


معنى: أنت خلية. أنت متروكة خالية من النكاح، وكذلك: برية. معناه البراءة من النكاح، وكذلك بائن أي منفصلة من النكاح، وكذلك: حبلك على غاربك. أي مرسلة غير مشدودة، ولا ممسكة بعقد النكاح، والغارب مقدم السنام، والحقي بأهلك. كذلك، إذ الرجعية لا تترك بيت زوجها، وإذا كان هذا مقتضى هذه الألفاظ الثلاث ترتب الحكم على مقتضاها، ولو نوى دونها لأن نيته تخالف مقتضاها، فتلغو نيته، (وعن أحمد) رواية أخرى أنه يقع بها ما نواه، اختاره أبو الخطاب في الهداية.
2714 - لما روي أنه «ركانة بن عبد يزيد طلق امرأته سهيمة البتة، فأخبر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بذلك وقال: والله ما أردت إلا واحدة. فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «والله ما أردت إلا واحدة؟» فقال ركانة: والله ما أردت إلا واحدة. فردها إليه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فطلقها الثانية في زمن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، والثالثة في زمن عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وفي لفظ قال «هو على ما أردت» رواه أبو داود وصححه، وابن ماجه والترمذي وقال: سألت محمدا يعني البخاري عن هذا الحديث فقال: فيه اضطراب.

(5/403)


2715 - ولأن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لابنة الجون: «الحقي بأهلك» » وهو - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -

(5/404)


لا يطلق ثلاثا، لأنه مكروه، وعلى هذه الرواية إن لم ينو شيئا وقعت بها واحدة، (وعنه) ما يدل على أنه يقع بها واحدة بائنة، إعمالا لمقتضى اللفظ والأصل، إذ مقتضاه البينونة، والأصل عدم ما زاد على الواحدة، وهذا الخلاف جار في جميع الكنايات الظاهرة.
ثم اعلم أن عامة الأصحاب يحكون الخلاف على نحو ما قدمت، وخالفهم أبو البركات، فجعل محل الخلاف مع الإطلاق، هل تطلق ثلاثا أو واحدة؟ على روايتين أما إذا نوى شيئا فيدين في ما نواه من غير خلاف، وفي قبوله في الحكم روايتان، وظاهر كلام العامة وقوع الثلاث من غير تديين، وكلام أحمد محتمل، فإنه قال في غير رواية في هذه الصور ونحوها: أخشى أن يكون ثلاثا. انتهى، ولا نزاع عندهم أن الخفية يقع بها ما نواه، وقد اختلف الأصحاب في ما عدا الظاهرة والخفية، والمختلف فيها، وليس هذا موضع استقصاء ذلك، إلا أنه لا نزاع عندهم فيما أعلمه أن الخلية والبرية والبائن من الكنايات الظاهرة، وكذلك البتة والبتلة، ولا نزاع أن نحو: اخرجي واذهبي، وروحي؛ من الكنايات الخفية، واختلف في: الحقي بأهلك، وحبلك على غاربك، ولا سبيل لي عليك ولا سلطان لي عليك، ونحو ذلك هل هو ظاهر أو خفي؟

(5/405)


وقول الخرقي: سواء دخل بها أو لم يدخل. احترز عن قول مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - فإنه قبل الدخول يجعلها واحدة، وبعد ثلاثا، وإنما كره أحمد الفتيا بالثلاث في الكنايات الظاهرة لأنه لا نص فيها، بحيث ترفع الشبهة، وأيضا فإن فيه الحكم بتحريم فرج مع الاحتمال، والله أعلم.

قال: وإذا أتى بصريح الطلاق لزمه نواه أو لم ينوه.
ش: لأن اللفظ صريح فيه، فلم يحتج به إلى نية كالبيع ونحوه، وسواء قصد المزح أو الجد.
2716 - قال أبو هريرة: إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ثلاث جدهن جد وهزلهن جد، النكاح والطلاق والرجعة» رواه أبو داود وابن ماجه، والترمذي وقال: حسن غريب. مع أن هذا اللفظ قد حكي اتفاقا، لكن على كل حال لا بد من قصد اللفظ، ليخرج النائم والساهي ونحوهما.

(5/406)


ومفهوم كلام الخرقي أن الكنايات لا بد فيها من النية، ولا نزاع في ذلك في الخفية، أما الظاهرة فقد نص أحمد على اشتراط النية، وعليه جمهور الأصحاب، القاضي وأصحابه، والشيخين وغيرهم، ولم يشترط أبو بكر للظاهرة نية، وقد وقع لأحمد إطلاقات ظاهرها ذلك، لكنها محمولة على نصوصه الصريحة، وزعم القاضي أن ظاهر كلام الخرقي أيضا عدم الاشتراط، أخذا من إطلاقه الأول، والله أعلم.

قال: ولو قيل له: ألك امرأة؟ فقال: لا وأراد به الكذب لم يلزمه شيء.
ش: لأن قصارى هذا أن يكون كناية، ولم يوجد شرطها وهو النية، فلا يلزمه شيء، ومفهوم كلام الخرقي أنه إذا لم يرد الكذب تطلق، وذلك مع شرطه وهو النية، هذا هو المشهور من الرواية، والمختار للأصحاب، لأنه لفظ يحتمل الطلاق، لأنها إذا زال نكاحها فليست له بامرأة، ونقل عنه أبو طالب إذا قيل له: ألك امرأة؟ فقال: لا. ليس بشيء، فأخذ أبو البركات من إطلاق هذا رواية أنه يلزمه طلاق وإن نوى، لأنه خبر كذب، وليس بإيقاع، وحمل القاضي الرواية على أنه لم

(5/407)


ينو الطلاق، وعلى المشهور لو أقسم بالله على ذلك فقد توقف أحمد في رواية مهنا، فخرج وجهان، مبناهما على أن الإنشاءات هل تؤكد فيقع الطلاق، أو لا تؤكد إلا الخبر، فيتعين خبرية هذا، فلا يقع الطلاق، والله أعلم.

قال: ولو قال: قد طلقتها. وأراد به الكذب لزمه الطلاق.
ش: أي لو قيل له: ألك امرأة؟ فقال: قد طلقتها. وأراد الكذب طلقت، لأنه أتى بصريح الطلاق، فلزمه كما لو قال ابتداء: طلقت زوجتي، ونحو ذلك، هذا هو المشهور، وقال ابن أبي موسى: إنما تطلق في الحكم، أما فيما بينه وبين الله تعالى فيدين، كما لو قال: كنت طلقتها. والله أعلم.

[الحكم لو وهب زوجته لأهلها]
قال: وإذا وهب زوجته لأهلها فإن قبلوها فواحدة، يملك الرجعة إذا كانت مدخولا بها، وإن لم يقبلوها فلا شيء.
ش: هبة الزوجة لأهلها كناية في الطلاق في الجملة، لأن هبتها تدل على رغبته عنها، وذلك محتمل للطلاق، فوقع به بشرطه كبقية الكنايات، ثم الهبة إنما تلزم وتتم بالقبول، ولذلك إن قبلوها ترتب الحكم، وإن ردوها فلا شيء.
إذا تقرر هذا فالمشهور في المذهب أنهم إن قبلوها فواحدة، جعلا له كبقية الكنايات الخفية، إذ الرغبة عنها تحصل

(5/408)


بالواحدة، وما زاد مشكوك فيه، فلا يثبت بالشك، وإن ردوها فلا شيء، لأن الهبة لم تتم (وعن أحمد) رواية أخرى إن قبلوها فثلاث، وإن ردوها فواحدة.
2717 - لأنه قول زيد بن ثابت أو يقال: إذا قبلوها فهو كالحقي بأهلك، وهو كناية ظاهرة، في رواية، فكذلك هنا، وإن ردوها فواحدة، بناء على أن الهبة تلزم في المعين بدون القبض، وأنها كناية خفية وحيث أوقعنا طلقة فإن كانت مدخولا بها فهي رجعية، وإن لم تكن مدخولا بها فهي بائن، قال أبو محمد: وهذا كله مع الإطلاق أو نية الواحدة، أما لو نوى اثنتين أو ثلاثا فهو على ما نوى، كبقية الكنايات الخفية انتهى، وشرط وقوع الطلاق أن ينوي الزوج الطلاق، قاله القاضي وأبو الخطاب وغيرهما، كبقية الكنايات، قال القاضي: وينبغي أن تعتبر النية من الذي يقبل أيضا، وتبعه على ذلك ابن حمدان، كما لو قال لزوجته اختاري؛ وفيه شيء، لأن: اختاري. حقيقة في توكيلها في الطلاق، بخلاف هذا فإن حقيقة الهبة تحصل بالقبول، ولهذا كثير من الأصحاب لا يشترطون ذلك.

(5/409)


(تنبيه) : وحكم: وهبتك لنفسك، حكم وهبتك لأهلك، على ما تقدم، قاله أبو الخطاب، والشيخان وغيرهم، وزاد أبو محمد - وتبعه ابن حمدان - إذا وهبها لأجنبي، وقد ينازع في ذلك، فإن الأجنبي لا حكم له عليها، بخلاف نفسها وأهلها، والله أعلم.

[التوكيل في الطلاق]
قال: وإذا قال لها: أمرك بيدك. فهو بيدها وإن تطاول، ما لم يفسخ أو يطأها.
ش: للزوج أن يطلق امرأته بنفسه، وله أن يوكل في ذلك، كما يوكل في عتق عبده ونحوه، وله أن يوكل المرأة كالأجنبي، فإذا قال لها: أمرك بيدك. فتارة يقصد بذلك تنجيز طلاقها، فتطلق في الحال، وماذا تطلق؟ ينبني على ما تقدم في الكنايات الظاهرة، وتارة يقصد بذلك تفويض الطلاق إليها، فهذا نوع توكيل لها في الطلاق، فتملك ذلك على التراخي.
2718 - اعتمادا على أن هذا قول علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وكما لو جعله في يد أجنبي، هذا منصوص أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - وعليه الأصحاب، وخرج أبو الخطاب فيه قولا أنه على المجلس كالاختيار كما سيأتي وقال أبو البركات: إن أحمد نص على المسألتين، مفرقا بينهما، وإذا لا يحسن

(5/410)


التخريج، والذي رأيته في التعليق التفريق بين: أمرك بيدك. تملك به ثلاثا، واختاري. لا تملك به إلا واحدة، نعم نص مفرقا على أن: أمرك بيدك. للتراخي، واختاري. يختص المجلس، وعلى المذهب هو في يدها ما لم يفسخ الزوج ذلك أو يطأها، لقيام ما يدل على بطلان التوكيل نصا أو ظاهرا، وإذا لم تعلم المرأة بالفسخ فينبغي أن يبقى التوكيل في يدها في رواية، بناء على أن الوكيل لا ينعزل قبل علمه بالعزل.

قال: فإن قالت: قد اخترت نفسي. فهي واحدة يملك بها الرجعة.
ش: يعني إذا قال لها: أمرك بيدك. فقالت: اخترت نفسي. فهي واحدة رجعية، لأن اختيارها لنفسها يحصل بواحدة، والأصل عدم ما زاد على ذلك، وهذا إذا لم تنو أكثر من واحدة، فإن نوت أكثر من واحدة وقع ما نوت، لأنها تملك الثلاث بالصريح، على ما سيأتي، فتملكها بالكناية كالزوج، والله أعلم.

قال: وإن طلقت نفسها ثلاثا، وقال: لم أجعل إليها إلا واحدة؛ لم يلتفت إلى قوله، والقضاء ما قضت.
ش: كذا نص عليه أحمد، وقال: لا تنفعه نيته.
2719 - وكذلك رواه البخاري في تأريخه عن عثمان، ويروى أيضا عن ابن عمر، وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -.

(5/411)


2720 - «وعن حماد بن زيد، أنه قال: قلت لأيوب: هل علمت أحدا قال في (أمرك بيديك) أنها ثلاث إلا الحسن؟ قال: لا؛ ثم قال: اللهم غفرا إلا ما حدثني قتادة، عن كثير مولى ابن سمرة عن أبي سلمة عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ثلاث» قال أيوب: فلقيت كثيرا مولى ابن سمرة، فسألته فلم يعرفه، فرجعت إلى قتادة فأخبرته فقال: نسي» . رواه أبو داود والترمذي، والنسائي، وقال: هذا حديث منكر. وعن البخاري أنه قال: إنما هو عن أبي هريرة موقوف، ولأنه اسم جنس مضاف، فيشمل الطلاق الثلاث، وهذا غير قانع، لأنه إنما يحسن مع الإطلاق، أما مع النية فالنية صالحة للتخصيص، فإذا العمدة ما تقدم، وقول أحمد: لا تنفعه نيته. يؤيد ما يقوله الجماعة، من أن الكناية الظاهرة يقع بها ثلاث وإن نوى واحدة، وقد صرح أبو محمد هنا بأنه لا يدين انتهى، (وعن

(5/412)


أحمد) : رواية أخرى أنه يرجع إلى نيته، كالرواية في الكنايات الظاهرة، وقد سبقت، ولا ريب أن المذهب عند الأصحاب الأول، والله أعلم.

قال: وكذلك الحكم إذا جعله في يد غيرها.
ش: يعني يكون في يده ما لم يفسخ أو يطأ، وله أن يطلق واحدة، وله أن يطلق ثلاثا، ولو نوى الزوج أقل من ذلك، على المذهب لما تقدم، والله أعلم.

قال: ولو خيرها فاختارت فراقه من وقتها وإلا فلا خيار لها.
ش: المذهب المنصوص والمعمول به أن خيار المخيرة على الفور، اتباعا لقضاء الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -.
2721 - فعن سعيد بن المسيب أنه قال: قضى عمر وعثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - في الرجل يخير امرأته أن لها الخيار ما لم يفترقا، رواه النجاد.
2722 - وعن ابن عمر قال: ما دامت في مجلسها.
2723 - وعن ابن مسعود وجابر نحوه، ولم نعرف لهم مخالفا في

(5/413)


الصحابة، ولأنه خيار تمليك، فكان على الفور كخيار القبول، وخرج أبو الخطاب فيه قولا أنه على التراخي، من: أمرك بيدك. وقد تقدم أن أبا البركات حكى عن أحمد أنه نص على التفرقة، فيبطل التخريج (فعلى الأول) هل يختص بالمجلس، ويكون كمجلس القبول في البيع، يبطل بالإعراض عنه، وهو اختيار القاضي والأكثرين، أو يكون على الفور، جوابا لكلامها، وهو ظاهر كلام الخرقي؟ على روايتين، وهذا كله مع الإطلاق، أما لو خيرها مدة، أو قال: اختاري متى شئت. ونحو ذلك، فإنها تملك ذلك حسب ما جعله لها.
2724 - وقد «قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - لما خيرها - «إني ذاكر لك أمرا فلا عليك أن لا تعجلي حتى تستأمري أبويك» والله أعلم.

قال: وليس لها أن تختار أكثر من واحدة إلا أن يجعل إليها أكثر من ذلك.
ش: إذا خيرها وأطلق فليس لها أن تختار أكثر من واحدة.

(5/414)


2725 - قال أحمد: هذا قول ابن عمر وابن مسعود، وزيد بن ثابت، وعمر وعائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، ولأن: اختاري. تفويض مطلق، فيتناول أقل ما يقع عليه الاسم، وما زاد عليه فهو مشكوك فيه، فلا يثبت مع الشك، وهذا بخلاف: أمرك بيدك. فإنه للعموم كما تقدم، وإن قيد ذلك بواحدة أو أكثر اتبع، ويكون في الواحدة تنصيص على مقتضى الإطلاق، وفي الثلاث والاثنتين من باب إطلاق المطلق، وإرادة العام مجازا، والله أعلم.

[الحكم لو طلقها بلسانه واستثنى بقلبه]
قال: وإذا طلقها بلسانه، واستثنى شيئا بقلبه، وقع الطلاق ولم ينفعه الاستثناء.
ش: إذا طلق زوجته بلسانه، كأن قال مثلا: أنت طالق ثلاثا. واستثنى شيئا بقلبه، كأن نوى إلا واحدة، وقع الطلاق، ولم ينفعه الاستثناء، لأن العدد نص، والنية لا تقاومه، فلا يرتفع بالضعيف ما يثبت بالنص القاطع، واستعمال الثلاث بمعنى اثنتين استعمال للفظ في غير ما يصلح له.

(5/415)


وظاهر كلام الخرقي أنه لا ينفعه الاستثناء لا ظاهرا ولا باطنا، وهو اختيار الشيخين، إذ اللفظ غير صالح لما أراد، ومفهوم كلام أبي الخطاب أنه ينفعه باطنا، لأنه قال: لم يقبل في الحكم، (وقول الخرقي) : وإذا طلقها بلسانه. قد يحترز عما إذا طلق نسوة واستثنى واحدة منهن بقلبه، ولهذا صورتان، (إحداهما) : أن يقول: نسائي الأربع طوالق. ثم يستثنى بقلبه إلا واحدة، فهذه كمسألة الكتاب (الثانية) : أن يقول: نسائي طوالق ويستثني بقلبه إلا واحدة، فهذا ينفعه الاستثناء، لأن (نسائي) عام قابل للتخصيص، والنية صالحة لذلك، (وقوله) : واستثنى شيئا بقلبه. يحترز عما إذا استثنى بلسانه، فإنه ينفعه ذلك، لورود ذلك في الكتاب والسنة، وكلام العرب، وعن أبي بكر: لا يصح الاستثناء في عدد الطلاق بحال، وليس بشيء، وعلى الأول يصح استثناء الأقل بلا نزاع، ولا يصح استثناء الكل بلا نزاع، وفي النصف والأكثر ثلاثة أقوال (ثالثها) : يصح في النصف دون الأكثر، وهو مقتضى قول الخرقي في الأقارير، والله أعلم.

(5/416)


[الطلاق المضاف لوقت]
قال: وإذا قال لها: أنت طالق في شهر كذا. لم تطلق حتى تغيب شمس اليوم الذي يلي الشهر المشترط.
ش: ملخصة أنه إذا جعل زمنا طرفا لوقوع الطلاق، فإن الطلاق يقع في أول ذلك الظرف، لصلاحيته له، كما لو قال: إذا دخلت الدار فأنت طالق. فإنها تطلق إذا دخلت أول جزء منها، فإذا قال لزوجته: أنت طالق في شهر شعبان مثلا؛ فإنها تطلق إذا غربت شمس آخر يوم من رجب، لأن الشهر المشترط للطلاق يلي ذلك فبغروب شمس آخر يوم من رجب، دخل أول جزء من شعبان، وهو أول الظرف فتطلق، والله أعلم.

[تعليق الطلاق على الطلاق]
قال: وإذا قال لها: إذا طلقتك فأنت طالق. فإذا طلقها لزمها اثنتان.
ش: إذا قال لزوجته المدخول بها: إذا طلقتك فأنت طالق؛ فقد علق طلاقها على طلاقها، فإذا طلقها طلقت طلقتين، طلقة بالمباشرة، وطلقة بوجود الشرط، وقوله: فإذا طلقها. يشمل ما إذا باشرها بالطلاق، كما لو قال لها بعد التعليق: أنت طالق. وما إذا علق طلاقها بعد التعليق على شرط، فوجد الشرط، كما إذا قال لها إذا طلقتك فأنت طالق. ثم قال لها: إن دخلت الدار فأنت طالق، فدخلت الدار، فإنها تطلق طلقتين، طلقة بدخول الدار، وطلقة بالتعليق الأول، وهذا بخلاف ما لو قال لها: إن دخلت الدار فأنت طالق. ثم قال لها: إذا طلقتك فأنت طالق. ثم دخلت الدار، فإنها لا تطلق

(5/417)


إلا طلقة واحدة بالتعليق الأول، وقاعدة ذلك أن التعليق مع وجود الشرط بمنزلة التنجيز، ففي الصورة الأولى التعليق، ووجود الشرط وجدا بعد التعليق السابق، فكان بمنزلة التنجيز، وفي الثانية لم يوجد بعد التعليق إلا الشرط، وهو أحد جزئي التنجيز، وليس بتنجيز، والله أعلم.

قال: ولو كانت غير مدخول بها لزمته واحدة.
ش: علم من هذا أن الصورة السابقة فيما إذا كانت مدخولا بها، وهذه فيما إذا كانت غير مدخول بها، فلا تطلق إلا واحدة بالطلاق الثاني، إذ به تبين، والبائن لا يلحقها طلاق، فلا يمكن إعمال الشرط الأول، والله أعلم.

قال: وإذا قال لها: إن لم أطلقك فأنت طالق. ولم ينو وقتا، ولم يطلقها حتى مات أو ماتت، وقع الطلاق بها في آخر وقت الإمكان.
ش: «إن» المكسورة المخففة موضوعة للشرط، لا تدل على زمان إلا من حيث إن الفعل المعلق بها من ضرورته الزمان، فهي مطلقة في الزمان كله، لا تدل على فور ولا تراخ، ولا فرق بين الإثبات والنفي، فإذا قال: إن لم أطلقك فأنت طالق. ولم ينو وقتا ولم يطلقها، فإنه لا يحنث بالتأخير، إذ الفعل ليس على الفور، فكل وقت يمكن أن يفعل ما حلف عليه، والوقت لم يفت، فإذا مات أحدهما علمنا حنثه حينئذ، لانتفاء إيقاع الطلاق بها بعد موت أحدهما، أما بعد موته فواضح، إذ الطلاق من جهته وقد تعذر، وأما بعد موتها فلانتفاء قابليتها

(5/418)


لوقوع الطلاق عليها، فإذا يتبين أن الطلاق وقع حيث لم يبق زمن يسع لأنت طالق، هذا هو المذهب بلا ريب (وعن أحمد) رواية أخرى أنه متى عزم على الترك بالكلية حنث حال عزمه، وهذا كله إن لم ينو وقتا، أما إن نوى وقتا، كأن قال: إن لم أطلقك فأنت طالق، ونوى اليوم، فإن اليمين تتعلق بذلك الوقت، بحيث إذا فات طلقت، إذ النية لها مدخل في تقييد المطلق، كما لها مدخل في تخصيص العام، وكذا لو قامت قرينة بفورية، كما لو قال لزوجته مثلا: ادخلي الدار اليوم. فقالت: لا أدخل. فقال: إن لم تدخلي فأنت طالق. فإن يمينه تتقيد باليوم، لأن حاله تقتضي التقييد بذلك، والله أعلم.

قال: وإن قال: كلما لم أطلقك فأنت طالق. لزمها ثلاث إن كانت مدخولا بها.
ش: كلما تقتضي التكرار، قال الله تعالى: {كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا} [الأعراف: 38] {مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ} [المؤمنون: 44] فيقتضي تكرار الطلاق بتكرار الصفة، وهو عدم الطلاق، فإذا مضى بعد يمينه زمن يمكن أن يطلقها فيه ولم يطلقها، فقد وجد الشرط، فيقع بها طلقة، وتتبعها الثانية والثالثة، إن كانت مدخولا بها، ولما كان زمن وقوع الطلاق متصلا بتكلمه، غير منفصل عنه، قال: لزمها ثلاث، وإن كانت غير مدخول بها

(5/419)


طلقت واحدة لا غير، لأنها تبين بها، فلا يلحقها ما بعدها، والله أعلم.

قال: وإذا قال لها: أنت طالق إذا قدم فلان، فقدم به ميتا أو مكرها لم تطلق.
ش: هذا هو المذهب المشهور، والمختار للأصحاب من الروايتين، لأنه لم يقدم، وإنما قدم به، إذ الميت لم يوجد منه فعل أصلا، والمكره وإن وجد منه فعل، لكنه منسوب إلى من أكرهه، (والرواية الثانية) وهي اختيار أبي بكر في التنبيه: يحنث، لأن الفعل يصح نسبته إليه، ولذلك يقال: دخل الطعام البلد، وقال سبحانه: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا} [الزمر: 71] وأجيب بأنه وإن نسب الفعل إليه، لكنه في الميت ونحوه على سبيل المجاز، والأصل الحقيقة، وفي المكره فالشارع ألغى ذلك، حيث قال: «رفع عن أمتي الخطأ والنسيان» فالفعل من المكره مرفوع عنه، فلا ينسب إليه، وهذا كله مع عدم النية، أما مع النية فيحمل الكلام عليها بلا إشكال.
ومفهوم كلام الخرقي أنه متى قدم مختارا حنث الحالف، وهو كذلك، سواء علم باليمين أو جهلها، قال الخلال: قولا

(5/420)


واحدا، وقال ابن حامد: إن كان القادم لا يمتنع باليمين، كالسلطان والرجل الأجنبي فكذلك، لأنه إذا تعليق للطلاق على صفة، وإن كان ممن يمتنع من القدوم باليمين، كقرابة لها أو لأحدهما، أو غلام لأحدهما، فجهل اليمين، أو نسيها، خرج على ما إذا حلف على فعل نفسه، وفعل ناسيا أو جاهلا، لأنه إذا بمنزلة اليمين، واليمين يعذر فيها بالجهل والنسيان، قال أبو محمد: وينبغي على هذا القول أن تعتبر نية الحالف، فإن قصد باليمين منع القادم من القدوم كان يمينا، وإن قصد جعله صفة في الطلاق لم يكن يمينا، فلا يفرق بين علم القادم وجهله، وتعتبر قرائن أحواله أيضا، فإذا كان التعليق على قدوم غائب بعيد، يعلم أنه لا يعلم اليمين، أو على فعل صغير أو مجنون، أو ممن لا يمتنع بها، لا يكون يمينا، وإن كان التعليق على من يعلم بيمينه، ويمتنع من أجلها فهو يمين، ومتى أشكلت الحال قال: فينبغي أن يقع نظرا للفظ والله أعلم.

قال: وإذا قال لمدخول بها: أنت طالق، أنت طالق؛ لزمتها تطليقتان، إلا أن يكون أراد بالثانية إفهامها أن قد وقعت بها الأولى، فيلزمها تطليقة.
ش: أما لزوم التطليقتين لها إذا لم يرد بالثانية إفهاما، فنطرا لمقتضى اللفظ، إذ مقتضاه وقوع الطلاق، وقصد الإفهام صارف له ولم يوجد، فهو كالعام والمطلق، يعمل بهما ما لم يوجد مخصص مقيد، وأما لزوم واحدة لها فقط إذا نوى بالثانية

(5/421)


إفهام الزوجة أن الطلاق قد وقع عليها، فلا ريب فيه، لأنه لم يقصد بالثانية إنشاء الطلاق وإنما أراد الإخبار والبيان عما تقدم، ومثل ذلك لو قصد التأكيد، نعم يشترط أن لا يفصل بينهما بما لم تجر العادة به، إذ التوكيد تابع، فشرطه الاتصال كسائر التوابع، والله أعلم.

قال: وإن كانت غير مدخول بها بانت بالأولى، ولم يلزمها ما بعدها، لأنه ابتداء كلام.
ش: يعني أن الحكم السابق فيما إذا كانت مدخولا بها، أما إن كانت غير مدخول بها فقال لها: أنت طالق، أنت طالق. فإنها تبين بالأولى، لانتفاء العدة عليها، فيصادفها قوله الثاني: أنت طالق. بائنا والبائن لا يقع بها طلاق، ولا فرق أن ينوي بقوله الثاني الطلاق، أو يطلق لما تقدم، وقول الخرقي: لأنه ابتداء كلام. يعني «أنت طالق» الثاني كلام مستقل، لا تعلق له بالأول، واحترز بالأول عن قوله لغير المدخول بها أنت طالق ثلاثا، ومن: أنت طالق وطالق وطالق، كما سيأتي، والله أعلم.

قال: وإذا قال لغير المدخول بها: أنت طالق وطالق وطالق. لزمتها الثلاث، لأنه نسق، وهو مثل قوله: أنت طالق ثلاثا.
ش: الواو لمطلق الجمع، أي التشريك بين المعطوف والمعطوف عليه في الحكم، من غير إشعار بترتيب ولا معية، على المشهور

(5/422)


المعروف من قولي العلماء والأدباء، وأهل الأصول، حتى أن الفارسي حكى اتفاق أهل العربية عليه، ونص عليه سيبويه في بضعة عشر موضعا من كتابه، وعن ثعلب وابن درستويه، وقليل من الأدباء أنها للترتيب، وهو قول في مذهب الشافعي وأحمد واختاره جماعة من الشافعية، وقيل: إنه اختيار أبي بكر من أصحابنا، وحكاه ابن حمدان رواية عن الإمام أحمد وعزي أيضا إلى نص الشافعي، وتوجيه الخلاف، واستقصاؤه له محل آخر، (فعلى الأول) إذا قال لغير المدخول بها: أنت طالق وطالق وطالق. طلقت ثلاثا، لما تقدم من أن الواو للجمع، والكلام كله في حكم جملة واحدة، فهو كقوله: أنت طالق ثلاثا، ولهذا قال الخرقي: لأنه نسق. أي غير متفرق، لا يقال: أنت طالق ثلاثا. جملة واحدة بلا ريب، بخلاف: أنت طالق وطالق وطالق لأنها ثلاث جمل، وكل جملة منهن غير مقيدة بشيء، بخلاف: أنت طالق ثلاثا. فإنه مقيد بالثلاث والكلام إنما يتم بآخره، لأنا نقول: الصحيح عند الجمهور - سيبويه وغيره - أن هذا من باب عطف المفردات، لا من باب عطف الجمل، فالعامل في الثاني هو العامل في الأول، بواسطة حرف العطف، ودعوى أن كل جملة غير مقيدة بشيء، ممنوع مع

(5/423)


العطف، فالكلام إنما يتم معه أيضا بآخره، كما في: أنت طالق ثلاثا. انتهى.
وعلى الثاني لا تطلق غير المدخول بها إلا طلقة، كما لو قال لها: أنت طالق. ثم طالق. إذ الطلاق الثاني إذا كان مرتبا بعد الأول اقتضى سبق الأول له، وإذا تبين فلا يلحقها طلاق بعد ذلك، وقول الخرقي: وهو مثل قوله: أنت طالق ثلاثا. إشعار بأن هذه الصورة لا خلاف فيها، وهو كذلك، إذ: ثلاثا. تمييز، وتبيين للطلاق الذي لفظ به، والله أعلم.
(تنبيه) : إذا ادعى التأكيد فإن ادعى تأكيد الثانية بالثالثة سمع منه، لاتفاق اللفظ، وهذا من العطف المغير الذي قاله أبو البركات، وإن ادعى تأكيد الأولى بالثانية، لم يسمع منه، نعم يدين فيما بينه وبين الله تعالى، والله سبحانه أعلم.

قال: وإذا طلق ثلاثا وهو ينوي واحدة فهي ثلاث.
ش: لأنه استعمل اللفظ في غير ما يصلح له لغة وعرفا، فلغا استعماله، وأعمل بمقتضى اللفظ، لا يقال: لأنه تجوز في ذلك. لأن الثلاث نص قاطع في العدد، فلا يقبل التجوز، وإرادة الوحدة، إذ صحة ذلك موقوفة على أن مثل ذلك تجوزت العرب فيه، ولم تنقل الوحدة، وقد دل كلام الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - على أنه إذا طلق ثلاثا يقع عليه الثلاث، وهذا مذهبنا ومذهب العامة.

(5/424)


2726 - لأنه قد جاء في بعض روايات «ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - لما طلق امرأته وهي حائض، وأمره النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالمراجعة، أنه قال: يا رسول الله أرأيت لو طلقتها ثلاثا، كان يحل لي أن أرجعها؟ قال: «لا كانت تبين منك وتكون معصية» رواه الدارقطني.
2727 - وعن يونس بن يزيد قال: سألت ابن شهاب عن رجل جعل أمر امرأته بيد أبيه قبل أن يدخل بها، فقال أبوه: هي طالق ثلاثا. كيف السنة في ذلك؟ فقال: أخبرني محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان، مولى ابن عامر بن لؤي، أن محمد بن إياس بن البكير الليثي - وكان أبوه شهد بدرا - أخبره، أن أبا هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: بانت منه، فلا تحل له حتى تنكح زوجا غيره. وإنه سأل ابن عباس عن ذلك فقال مثل قول أبي هريرة، وسأل عبد الله بن عمرو بن العاص فقال مثل قولهما. رواه البرقاني في كتابه المخرج على الصحيح.
2728 - وعن مجاهد قال: كنت عند ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فجاءه رجل فقال: إنه طلق امرأته ثلاثا؛ قال: فسكت حتى ظننت أنه

(5/425)


رادها إليه ثم قال: ينطلق أحدكم فيركب الحموقة، ثم يقول: يا ابن عباس يا ابن عباس وإن الله تعالى قال: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} [الطلاق: 2] وإنك لم تتق الله فلم أجد لك مخرجا، عصيت ربك فبانت منك امرأتك. وإن الله قال: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] رواه أبو داود. وهذا كالإجماع من الصحابة على صحة وقوع الطلاق الثلاث بكلمة واحدة.
2729 - وقد عورض هذا بما روى طاووس عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: «كان الطلاق على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدة، فقال عمر بن الخطاب: إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة، فلو أمضيناه عليهم. فأمضاه عليهم» ، رواه أحمد ومسلم، وقد قال بظاهر هذا

(5/426)


طائفة قليلة من العلماء، وهو اختيار أبي العباس، وحمله بعض التابعين على ما قبل الدخول.
2730 - وقد جاء ذلك مصرحا به في رواية أبي داود، وتأوله بعضهم على صورة تكرير اللفظ، بأن يقول: أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق. فيلزمه واحدة مع التوكيد، وثلاث مع عدمه، ففي زمن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لصدقهم صدقوا في إرادة التوكيد، ولما رأى عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أحوال الناس قد تغيرت ألزمهم الثلاث، وأحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - أشار إلى ضعف رواية طاووس هذه، فقال: كل أصحاب ابن عباس رووا عنه خلاف ما قاله طاووس، وكذلك أشار البيهقي، قال: هذا الحديث مما اختلف فيه البخاري ومسلم، وتركه البخاري، قال: وأظنه إنما

(5/427)


تركه لمخالفته سائر الروايات عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال ابن المنذر: وغير جائز أن يظن بابن عباس أنه علم شيئا عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثم يفتي بخلافه، وقال الشافعي: يشبه - والله أعلم - أن يكون ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قد علم أن كان شيئا فنسخ، وبالجملة تنقيح هذه المسألة، والكلام على هذه التأويلات، يحتاج إلى بسط أزيد من هذا، ولا يليق بمختصرنا، والله أعلم.

[حكم من طلق واحدة وهو ينوي ثلاثا]
قال: وإذا طلق واحدة وهو ينوي ثلاثا فهي واحدة.
ش: إذا طلق واحدة فله حالتان (إحداهما) : أن يقول: أنت طالق. فهذا إن أطلق وقعت واحدة بلا ريب، وإن نوى ثلاثا فيه روايتان (إحداهما) : - وهي اختيار القاضي، وقال إن عليها الأصحاب، واختيار أصحابه أيضا الشريف وأبي الخطاب في خلافيهما، وابن عقيل في التذكرة، والشيرازي - لا تطلق إلا واحدة، لأن لفظه لا يتضمن عددا، وإنما هو إخبار في الحقيقة

(5/428)


عن صفة هي عليها، فهو كقوله: قائمة وقاعدة. فإذا نوى به الثلاث فقد نوى ما لا يتضمنه اللفظ، ولا يقتضيه، فيلغى (والرواية الثانية) : تطلق ثلاثا، ولعلها أظهر، لأن قوله: أنت طالق. تقديره الطلاق أو طلاقا، ولو صرح بذلك ونوى الثلاث طلقت ثلاثا، فكذلك إذا لم يصرح به، إذ المقدر كالملفوظ به، ثم لو لم يقدر بشيء فالصفة التي وصفها به، وهي: أنت طالق. تتضمن المصدر وزيادة، ولا ريب أن المصدر يصح تفسيره بالقليل والكثير، فكذلك: أنت طالق. ولهذا لو صرح بالتفسير فقال: أنت طالق ثلاثا. طلقت ثلاثا بلا ريب، فعلى هذه الرواية إذا صرح بالواحدة فقال: أنت طالق واحدة - وهذه هي الحالة الثانية - ونوى ثلاثا، ففيه وجهان (أحدهما) : - وهو الذي قطع به أبو محمد في الكافي والمغني، ومتقضى كلام الخرقي -: لا تطلق إلا واحدة، لأن الواحدة صريح في الوحدة، فإذا نوى بها ثلاثا فقد نوى ما لا يحتمله اللفظ، ثم إن نيته خالفت صريح لفظه، ولا شك أن النية أضعف من اللفظ، فالقوي يقدم على الضعيف، ثم لو قدر تعارض اللفظ والنية لبقي: أنت طالق مجردا. وإنه لا يقع به إلا واحدة (والوجه الثاني) : تطلق ثلاثا، وتكون نيته دالة على محذوف، تقديره: أنت طالق واحدة معها اثنتان، والله سبحانه وتعالى أعلم.

(5/429)