شرح
الزركشي على مختصر الخرقي [كتاب العدد]
ش: العدة ما تعده المرأة من أيام أقرائها، أو أيام حملها، أو غير ذلك، على
ما يعرف إن شاء الله، والأصل فيها قول الله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ
يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] وقَوْله
تَعَالَى: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ
ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ}
[الطلاق: 4] أي فعدتهن كذلك، أو فكذلك، أو واللائي يئسن من المحيض، واللائي
لم يحضن فعدتهن ثلاثة أشهر، وملخصه هل في الآية تقديم وتأخير أو تقدير،
وعلى الثاني هل المقدر مفرد أو جملة؟ خلاف، وقوله: {وَأُولَاتُ
الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] الآية،
وقوله: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا
يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة:
234] «وقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لفاطمة بنت قيس:
«اعتدي في بيت ابن أم مكتوم» » في أحاديث غير ذلك، مع أن مشروعية ذلك إجماع
والحمد لله، والله أعلم.
[وجوب العدة على المخلو بها]
قال: وإذا طلق الرجل زوجته وقد خلا بها فعدتها ثلاث حيض.
(5/534)
ش: قد انعقد الإجماع على وجوب العدة على
المبتوتة، لعموم {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ
ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] مع قَوْله تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ
طَلَّقْتُمُوهُنَّ} [الأحزاب: 49] الآية، وقد اختلف في وجوب العدة على
المخلو بها بشرطه، ومذهبنا وجوبها، لقضاء الصحابة بذلك، وقد تقدم الكلام
على ذلك مبينا، في وجوب الصداق بالخلوة، ويشترط لوجوب العدة بالخلوة
مطاوعتها، وكون الزوج ممن يولد لمثله، وهل يعتبر خلوهما من الموانع كالجب
والعنة، والإحرام والصيام، ونحو ذلك؟ لم يعتبره أبو البركات، مع حكايته
الخلاف في الصداق، وخرج أبو محمد الخلاف الذي ثم هنا.
وظاهر كلام الخرقي أن العدة لا تجب إذا لم يوجد مس أو خلوة، ولو قبل أو
لمس، أو تحملت المرأة ماء الرجل، وهو أحد الوجهين في الصور الثلاث، والذي
جزم به القاضي في المجرد وجوبها بتحمل المرأة الماء انتهى.
وعدة ذات القروء الحرة ثلاثة أقراء بالإجماع، لشهادة النص بذلك، واختلف في
القروء هل هي الحيض أو الأطهار؟ على روايتين مشهورتين، هما قولان للعلماء،
ولأهل اللغة (إحداهما) أنها الأطهار، ويعزى هذا في الجملة إلى أهل الحجاز.
(5/535)
2793 - ونقله أحمد عن زيد وابن عمر وعائشة
- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وزعم ابن عبد البر أن أحمد رجع أخيرا إلى هذا
القول، وعمدته في ذلك قول أحمد في رواية الأثرم: رأيت الأحاديث عمن قال
القروء الحيض تختلف، والأحاديث عمن قال الطهر وأنه أحق بها، حتى تدخل في
الحيضة الثالثة أحاديث صحاح قوية، والعمدة في ذلك قوله: {فَطَلِّقُوهُنَّ
لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] أي في عدتهن، كقوله تعالى: {وَنَضَعُ
الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} [الأنبياء: 47] أي في يوم
القيامة، والمشروع الطلاق في الطهر لا في الحيض بالإجماع، وشهادة السنة له
كما تقدم، وقال الأعشى يصف غزوة:
مورثة مالا وفي الأصل رفعة ... لما ضاع فيها من قروء نسائكا
(5/536)
والذي ضاع هو الأطهار، (والثانية) القرء
الحيض، ويعزى هذا في الجملة إلى أهل العراق، ويحكى عن الأصمعي والكسائي،
والفراء، والأخفش، قالوا كلهم: أقرأت المرأة. إذا حاضت. قال الأصمعي: فهي
مقرؤ. وقال الكسائي والفراء: فهي مقرئ.
2794 - ونقل ذلك الإمام أحمد عن عمر، وابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا -، وهو المشهور عن أحمد، واختيار أصحابه، وآخر قوليه صريحا، كما
نص عليه في رواية ابن القاسم، فقال: كنت أقول بقول زيد وعائشة وابن عمر -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فهبته،
(5/537)
وكذلك في رواية الأثرم: كنت أقول الأطهار،
ثم وقفت لقول الأكابر. وأصرح من ذلك قوله في رواية النيسابوري: قد كنت أقول
به، إلا أني أذهب اليوم إلى أن الأقراء الحيض، وهذا تصريح بالرجوع، وعلى
إحدى الطريقتين يرتفع الخلاف من مذهبه، وما اعتمده أبو عمر فليس فيه إلا أن
مختاره كان إذ ذاك الأطهار، والعمدة في ذلك ما اعتمده أحمد من أن ذلك قول
الأكابر، وقد حكاه عن عمر وابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -.
2795 - وروي عن أبي بكر الصديق، وعثمان بن عفان، وابن عباس، وأبي موسى،
وعبادة بن الصامت، وأبي الدرداء - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وأيضا فقد
وقع القرء في لسان المبين لكتاب ربه، والمراد به الحيض.
2796 - فعن القاسم «عن زينب بنت جحش - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أنها قالت
للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنها مستحاضة: فقال: «تجلس
أيام أقرائها، ثم
(5/538)
تغتسل» ، مختصر، رواه النسائي.
2797 - وعن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «أن أم حبيبة بنت جحش - التي
كانت تحت عبد الرحمن بن عوف - شكت إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - الدم، قال: «فلتنظر قرأها الذي كانت تحيض، فلتترك الصلاة، ثم
لتنظر ما بعد ذلك، فلتغتسل عند كل صلاة وتصلي» رواه أحمد، والنسائي.
2798 - وعن الأسود عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، قالت: أمرت بريرة
أن
(5/539)
تعتد بثلاث حيض. رواه ابن ماجه.
2799 - وعنها أيضا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «طلاق الأمة تطليقتان، وعدتها حيضتان» رواه
الترمذي وأبو داود. فعلم من هذا أن عرف الشرع في القرء أنها الحيض، وأيضا
موافقة لظاهر الآية، وهو: {ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] فإن ظاهرها
ثلاثة قروء كوامل، وإنما يكون ذلك إذا قلنا إنها الحيض، أما إن قلنا إنها
الأطهار فإنما هو قرآن وبعض الثالث، كما سيأتي إن شاء الله تعالى، وأيضا
قَوْله تَعَالَى: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ
إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ} [الطلاق: 4] فنقلهن
عند عدم المحيض إلى الاعتداد بالأشهر، فظاهره أن الأشهر بدل عن الحيض،
وأيضا فالعدة استبراء، فكانت بالحيض كاستبراء الأمة.
2800 - ودليل الأصل قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا
توطأ حامل حتى تضع، ولا غير حامل حتى تستبرأ بحيضة» وأما قَوْله تَعَالَى:
{فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] فالمراد مستقبلات لعدتهن،
كما تقول: لقيته لثلاث بقين من الشهر، أي مستقبلا لثلاث.
2801 - يؤيد هذا أن في «حديث ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - لما طلق
امرأته وهي حائض، وأمره النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
بمراجعتها، فقال ابن عمر: قرأ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
-: (يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن في قبل
(5/540)
عدتهن» رواه أبو داود والنسائي.
2802 - وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أنه سئل عن رجل طلق
امرأته مائة تطليقة، قال: عصيت ربك، وبانت منك امرأتك، لم تتق الله فيجعل
لك مخرجا، ثم قرأ: (يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن في قبل عدتهن)
وفي لفظ: وإن الله قال: (يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن في قبل
عدتهن) رواه أبو داود، وأما بيت الأعشى فقيل: أراد من أوقات نسائك، ولم يرد
لا حيضا ولا طهرا، والقرء والقارئ جاء في معنى الوقت، يقال: هذا قارئ
الرياح. لوقت هبوبها، ومن هنا قال بعض أهل اللغة: إن القرء يصلح للحيض
والطهر، بناء على أن القرء الوقت، وقال آخر: يصلح لهما، بناء على أن القرء
الجمع، ومنه قولهم: قريت الماء في الحوض، وقرأت القرآن. أي لفظت به مجموعا،
ولا ريب أن الدم يجتمع في البدن في الطهر، ويجتمع في الرحم في الحيض،
وبالجملة من أهل اللغة من يجعل القرء للطهر، ومنهم من يجعله للحيض، ومنهم
من يجعله مشتركا بينهما، والله أعلم.
قال: غير الحيضة التي طلقها فيها.
ش: هذا بناء على مختاره من أن الأقراء الحيض، فعلى هذا لا تعتد بالحيضة
التي طلقها فيها من العدة، بل إنما تحتسب بما بعدها، بلا خلاف نعلمه، لظاهر
الكتاب، ولأن المنع من
(5/541)
الطلاق في الحيض - والله أعلم - حذارا من
تطويل العدة عليها، وإنما يكون ذلك إذا لم تحتسب بالحيضة التي طلقها فيها،
ولهذا قلنا والجمهور تحتسب بالطهر الذي طلقها فيه قرءا إن قلنا القروء
الأطهار، وإلا يكون الطلاق في الطهر أضر بها، وأطول عليها من الطلاق في
الحيض، والله أعلم.
[انقضاء العدة بانقضاء الثلاثة قروء]
قال: فإذا اغتسلت من الحيضة الثالثة، أبيحت للأزواج.
ش: ظاهر هذا أن العدة لا يحكم بانقضائها بانقضاء الحيضة الثالثة، بل لا بد
مع ذلك من الاغتسال، وهذا إحدى الروايتين، وأنصهما عن أحمد، واختيار
أصحابه، الخرقي، والقاضي، والشريف، والشيرازي وغيرهم، اعتمادا على أن هذا
قول أكابر الصحابة.
2803 - قال أحمد: روي عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أنه كان
يقول: إذا انقطع الدم في الحيضة الثالثة فقد بانت منه. وهو أصح في النظر،
قيل له: فلم لا تقول به؟ .
2804 - قال: ذلك يقول به عمر وعلي وابن مسعود، فأنا أتهيب أن أخالفهم، يعني
اعتبار الغسل، ويرشح هذا القول أن ظاهر القرآن كما أشار إليه أحمد، يقتضي
انقضاء العدة بانقضاء الثلاثة قروء،
فترك هؤلاء الأكابر للظاهر، الظاهر إنما هو عن توقيف ممن له البيان.
(5/542)
2805 - وقد روي هذا أيضا عن أبي بكر،
وعثمان، وأبي موسى، وعبادة، وأبي الدرداء - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -.
(والرواية الثانية) تنقضي العدة بانقطاع دمها من الثالثة وإن لم تغتسل،
اختاره أبو الخطاب، نظرا لظاهر القرآن، ولا تفريع على هذه الرواية، أما على
الأولى فظاهر كلام الخرقي وجماعة أن العدة لا تنقضي ما لم تغتسل، وإن فرطت
في الاغتسال مدة طويلة، وقد قيل لأبي عبد الله: فإن أخرت الغسل تعمدا،
فينبغي إن كان الغسل من أقرائها أن لا تبين وإن أخرته؟ قال: هكذا يقول
شريك. فظاهر هذا أنه أخذ به، وقال أبو بكر: روي عن أبي عبد الله: إذا وجبت
عليها الصلاة ولم يخرج الوقت. قال القاضي: يعني بذلك أنها لا تباح ما لم
تجب عليها الصلاة، فإذا وجبت أبيحت انتهى، وقال أبو بكر أيضا: روي عن أبي
عبد الله أنها في عدتها إذا انقطع الدم لدون أكثر الحيض، وإن انقطع لأكثره
انقضت العدة بانقطاعه انتهى، ومحل الخلاف في المسألة في إباحتها للأزواج،
وحلها لزوجها الأول بالرجعة، أما
(5/543)
ما عدا ذلك من انقطاع نفقتها، وعدم وقوع
الطلاق بها، وانتفاء الميراث، وغير ذلك، فيحصل بانقطاع الدم رواية واحدة،
قال القاضي وغيره: قصرا على مورد حكم الصحابة. والله أعلم.
قال: وإن كانت أمة فإذا اغتسلت من الحيضة الثانية.
ش: مذهبنا ومذهب الجمهور أن عدة الأمة بالقرء قرءان.
2806 - لما تقدم من قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
«وعدتها حيضتان» وفي لفظ: «وقرء الأمة حيضتان» رواه الدارقطني، وعن ابن عمر
- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - قال: «طلاق الأمة ثنتان، وعدتها حيضتان» رواه ابن ماجه
والدارقطني، إلا أن كلا الحديثين قد ضعف.
2807 - لكن يرشحهما أنه قول عمر وعلي، وابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ
-، والجمهور، وكان القياس يقتضي أن تكون حيضة ونصفا، كما في كثير من أحكام
الأمة مع الحرة، إلا أن الحيض لا يتبعض.
2808 - ولهذا قال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لو أستطيع أن أجعل العدة
حيضة
(5/544)
ونصفا لفعلت. إذا تقرر هذا فالخرقي -
رَحِمَهُ اللَّهُ - عنده أن القروء الحيض، فتكون عدة الأمة حيضتين، وعنده
أن الحرة لا تحل للأزواج حتى تغتسل من الثالثة، فكذلك الأمة لا تحل حتى
تغتسل من الثانية والله أعلم.
[عدة الآيسات واللائي لم يحضن]
قال: وإن كانت من الآيسات أو ممن لم يحضن فعدتها ثلاثة أشهر.
ش: هذا إجماع والحمد لله، وقد شهد له قَوْله تَعَالَى: {وَاللَّائِي
يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ
فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ} [الطلاق: 4]
أي فكذلك، أو فعدتهن كذلك، أو واللائي يئسن من المحيض واللائي لم يحضن
فعدتهن ثلاثة أشهر، وملخصه أن الآية الكريمة هل فيها تقديم وتأخير، أو
تقدير، وعلى الثاني هل المقدر مفرد أو جملة؟ ثلاثة أقوال.
(تنبيه) ويحتسب بالساعة التي فارقها، على المشهور من الوجهين، حذارا من
الزيادة على ظاهر الكتاب، وقال ابن حامد: إنما يحتسب بأول الليل أو النهار،
فإذا طلقها نهارا احتسب من أول الليل الذي يليه، وليلا يحتسب بأول النهار
الذي يليه، دفعا لمشقة اعتبار الساعات، والله أعلم.
(5/545)
[عدة الأمة]
قال: والأمة شهران.
ش: يعني أن ما تقدم إذا كانت الزوجة حرة، أما إن كانت أمة فعدتها شهران،
وهذا هو المشهور من الروايات، والمختار لعامة الأصحاب، الخرقي والقاضي
وأصحابه، وأبي بكر فيما نقله القاضي في الروايتين، إذ الأشهر بدل من
القروء، وعدة ذات القروء قرءان، فبدلهما شهران.
2809 - واعتمد أحمد على قول عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: عدة أم الولد
حيضتان، ولو لم تحض كان عدتها شهران (والرواية الثانية) عدتها شهر ونصف،
اختارها أبو بكر فيما نقله أبو محمد.
2810 - ويروى عن علي وابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، لأن
عدة الأمة نصف عدة الحرة، وعدة الحرة
ثلاثة أشهر، فنصفها شهر ونصف، وإنما اعتدت الأمة ذات القروء بالحيضتين،
لتعذر تبعيض الحيضة، (الرواية الثالثة) ثلاثة أشهر، مخرجة على ما قال
القاضي من نصه في أن استبراءها بثلاثة أشهر، لظاهر إطلاق الكتاب، ولأن
اعتبار الشهور للعلم ببراءة رحمها، ولا تحصل بدون ثلاثة أشهر في الحرة
والأمة، إذ الحمل يكون
(5/546)
نطفة أربعين يوما، وعلقة أربعين يوما، ثم
يصير مضغة أربعين يوما، ثم يتحرك ويعلو بطن المرأة، ويظهر الحمل، وهذا ظاهر
لا خفاء به، إلا أنه ضعف، لأنه مخالف لإجماع الصحابة، لأنهم إنما اختلفوا
على القولين السابقين، وظاهر كلام الخرقي أنه لا فرق بين من عادتها أن لا
تحيض، وبين من عادتها أن تحيض، كمن بلغت خمسة عشر سنة ونحو ذلك، وهذا إحدى
الروايتين عن أحمد، واختيار أبي بكر وأبي محمد، واعتمادا على عموم الكتاب،
(والرواية الثانية) إذا أتى عليها زمان الحيض ولم تحض تعتد بسنة، اختارها
القاضي في خلافه وفي غيره، وعامة أصحابه، الشريف وأبو الخطاب في خلافيهما،
والشيرازي وابن البنا، لأنها والحال هذه مرتابة، لجواز أن يكون بها حمل منع
حيضها فوجب أن تعتد بسنة، كالتي ارتفع حيضها بعد وجوده.
(تنبيه) حد الإياس هل هو خمسون سنة أو ستون، أو يفرق بين نساء العرب ونساء
العجم، على خلاف سبق في الحيض، وأبو محمد يختار أنها إذا بلغت خمسين،
وانقطع حيضها عن عادتها مرات لغير سبب، فقد صارت آيسة، وإن رأت الدم بعد
الخمسين، على العادة التي كانت تراه فيها فهو حيض، والله أعلم.
قال: وإذا طلقها طلاقا يملك فيه الرجعة، وهي أمة، فلم تنقض عدتها حتى
أعتقت، بنت على عدة حرة، وإن طلقها
(5/547)
طلاقا لا يملك فيه الرجعة فعتقت، اعتدت عدة
أمة.
ش: لأنها إذا أعتقت وهي رجعية فقد وجدت الحرية وهي زوجة، فوجب أن تعتد عدة
الحرائر، كما لو أعتقت قبل الطلاق، وإن عتقت وهي بائن فلم توجد الحرية في
الزوجية، فلم تجب عليها عدة الحرائر، كما لو أعتقت بعد مضي القرئين، والله
أعلم.
قال: وإذا طلقها وهي ممن قد حاضت، فارتفع حيضها لا تدري ما رفعه اعتدت سنة.
ش: هذا هو المذهب المعمول به بلا ريب، لأنها إذا حصلت مرتابة، فوجب أن تقعد
سنة، تسعة أشهر للحمل اعتمادا على الغالب، وثلاثة لعدة الإياس، لتزول
الريبة، ولأبي الخطاب في الهداية احتمال أنها تقعد للحمل أربع سنين، نظرا
إلى أن ذلك هو اليقين، ثم تعتد للإياس.
(تنبيه) ولو عاد الحيض قبل الحكم بانقضاء عدتها انتقلت إليه بلا ريب، لأنه
الأصل، والبدل لم يتم، وإن عاد بعد العدة وبعد نكاحها لم تنتقل إليه بلا
ريب، للحكم بصحة نكاحها، وإن عاد بعد الحكم بانقضاء عدتها، وقبل نكاحها ففي
الانتقال إليه وجهان، أصحهما لا تنتقل إليه، للحكم بانقضاء عدتها، والله
أعلم.
قال: وإن كانت أمة اعتدت بأحد عشر شهرا، تسعة
(5/548)
أشهر منها للحمل، وشهران للعدة.
ش: هذا مبني على ما تقدم له من أن عدة الأمة الآيسة شهران، وهو المذهب، أما
على رواية أن عدتها شهر ونصف، فتجلس عشرة أشهر ونصف، وعلى رواية ثلاثة
أشهر، تساوي الحرة، والله أعلم.
قال فإن عرفت ما رفع الحيض كانت في عدة حتى يعود الحيض فتعتد به، إلا أن
تصير من الآيسات، فتعتد بثلاثة أشهر من وقت تصير في عدة الآيسات.
ش: إذا عرفت ما رفع الحيض - من مرض أو رضاع ونحوه - لم تزل في عدة حتى يعود
الحيض فتعتد به، أو تصير آيسة فتعتد عدة الآيسات، نص عليه أحمد في رواية
صالح، وأبي طالب، وابن منصور، والأثرم، إذا حبسها مرض أو علة أو رضاع فلا
بد أن تأتي بالحيض وعليه أصحابه.
2811 - لما روى الشافعي في مسنده عن حبان بن منقذ، أنه طلق امرأته طلقة
واحدة، وكان لها منه بنية ترضعها، فتباعد حيضها، ومرض حبان، فقيل له: إنك
إن مت ورثتك. فمضى إلى عثمان وعنده علي وزيد بن ثابت - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمْ -، فسأله عن ذلك فقال عثمان لعلي وزيد بن ثابت - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمْ -: ما تريان؟ فقالا: نرى أنها إن ماتت ورثها، وإن مات ورثته،
لأنها ليست من القواعد اللائي يئسن من المحيض، ولا من الأبكار اللائي لم
يبلغن المحيض. فرجع حبان إلى أهله فانتزع البنت منها، فعاد إليها الحيض،
فحاضت
(5/549)
حيضتين، ومات حبان قبل انقضاء الثالثة،
فورثها عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، والله أعلم.
قال: وإن حاضت حيضة أو حيضتين، ثم ارتفع حيضها لا تدري ما رفعه، لم تنقض
عدتها إلا بعد سنة من وقت انقطاع الحيض.
ش: لأنها إذا تصير مرتابة، فوجب أن تعتد بسنة، كما لو ارتفع حيضها من حين
طلقها، والعدة لا تبنى على عدة أخرى، ولذلك لو حاضت حيضة أو حيضتين ثم
يئست، انتقلت إلى ثلاثة أشهر، ولو اعتدت الصغيرة شهرا أو شهرين، ثم حاضت،
انتقلت إلى القروء.
2812 - واعتمد أحمد في المسألة على قول عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فإنه
قال - في رجل طلق امرأته فحاضت حيضة أو حيضتين، وارتفع حيضها لا تدري ما
رفعه -: تجلس تسعة أشهر، فإن لم يستبن بها حمل، تعتد بثلاثة أشهر. قال ابن
المنذر: قضى به عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بين المهاجرين والأنصار -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -،
(5/550)
لا ينكره منكر، والله أعلم.
قال: وإن طلقها وهي من اللائي لم يحضن، فلم تنقض عدتها بالشهور حتى حاضت،
استقبلت العدة بثلاث حيض إن كانت حرة أو بحيضتين إن كانت أمة.
ش: لأن الشهور بدل عن الحيض، فإذا وجد المبدل بطل حكم البدل، كالتيمم مع
الماء، وإنما لم تبن على ما مضى، لما تقدم من أن العدة لا تبنى على أخرى،
وإذا تعتد بثلاث حيض إن كانت حرة، وبحيضتين إن كانت أمة، بناء على أن
القروء الحيض، وإن قيل: إنها الأطهار فهل تعتد بما مضى من الطهر قبل الحيض
قرء؟ فيه وجهان، والله أعلم.
قال: ولو مات عنها وهو حر أو عبد، قبل الدخول أو بعده، انقضت عدتها بتمام
أربعة أشهر وعشر إن كانت حرة، وبتمام شهرين وخمسة أيام إن كانت أمة.
ش: أما كون الحرة تعتد بأربعة أشهر وعشر إذا مات زوجها فلقول الله تعالى:
{وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ
بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234] .
2813 - وقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يحل لامرأة
تؤمن بالله واليوم الآخر، أن تحد على ميت فوق ثلاث، إلا على زوج أربعة أشهر
وعشرا»
(5/551)
متفق عليه، ولا فرق بين قبل الدخول وبعده،
إعمالا لعموم الآية والخبر، ثم المعنى يعضده، وهو أن النكاح عقد عمر، فإذا
مات انتهى، والشيء إذا انتهى تقررت أحكامه، كتقرر أحكام الإجارة بانقضائها،
وأما كون الأمة تعتد بشهرين وخمسة أيام، فقيل لاتفاق الصحابة على أن عدة
الأمة المطلقة على النصف من عدة الحرة، فكذلك عدة الوفاة، وظاهر كلام
الخرقي أنه لا فرق بين أن تكون صغيرة أو كبيرة، مسلمة أو ذمية، ولا بين أن
يوجد حيض في مدة الأربعة أشهر أو لم يوجد، وهو كذلك.
(تنبيه) والعشر المعتبرة في العدة هي عشر ليال بأيامها، فتجب عشرة أيام مع
الليالي، والله أعلم.
قال: ولو طلقها أو مات عنها وهي حامل منه، لم تنقض عدتها إلا بوضع الحمل،
أمة كانت أو حرة.
ش: لقول الله تعالى: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ
حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] وهذا إجماع والحمد لله في الطلاق، وفي كل فرقة في
الحياة، وكالإجماع فيما بعد الموت.
2814 - وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أنه قال - في الحامل
المتوفى عنها زوجها -: إنها تعتد بأطول الأجلين.
(5/552)
2815 - وهو إحدى الروايتين عن علي - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ -، ويحكى عن سحنون من المالكية، لقول الله تعالى:
{وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ
بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234] وهذا عام في
كل متوفى عنها، وللجماعة الآية السابقة، فإن العموم فيها أصرح، ثم يرشحه
عمل العامة على وفقه.
2816 - وعن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: من شاء لاعنته لأنزلت
سورة النساء القصرى، بعد الأربعة أشهر وعشرا. رواه النسائي وأبو داود، وهذا
لفظه، يريد بسورة النساء سورة الطلاق، وهذا
(5/553)
يدل على أنها متأخرة عن الآية التي في سورة
البقرة، فيقضي عليها بالنسخ أو بالتخصيص.
2817 - والذي يقطع النزاع ويبين المراد بلا ريب، ما روي «عن سبيعة الأسلمية
- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، أنها كانت تحت سعد بن خولة، وهو من بني عامر
بن لؤي، وهو ممن شهد بدرا، فتوفي عنها في حجة الوداع وهي حامل، فلم تنشب أن
وضعت حملها بعد وفاته، فلما تعلت من نفاسها تجملت للخطاب، فدخل عليها أبو
السنابل بن بعكك - رجل من بني عبد الدار - فقال لها: ما لي أراك متجملة،
لعلك ترجين النكاح، إنك والله ما أنت بناكح حتى تمر عليك أربعة أشهر وعشرا.
قالت سبيعة: فلما قال لي ذلك جمعت علي ثيابي حين أمسيت، فأتيت النبي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فسألته عن ذلك، فأفتاني بأني قد حللت
حين وضعت حملي، وأمرني بالتزويج إن بدا لي» . قال ابن شهاب: ولا أرى بأسا
أن تتزوج حين وضعت وإن كانت في دمها غير أن لا يقربها زوجها حتى تطهر. متفق
عليه.
2818 - وقد روي عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أنه لما بلغه هذا
الحديث رجع إلى قول الجماعة، وهذا الذي يظن به.
(5/554)
وقول الخرقي: بوضع الحمل، أي كله، فلو كان
ولدين أو أكثر فلا بد لانقضاء العدة من وضع الجميع، ولو كان واحدا فلا بد
من انفصال جميعه.
(تنبيه) لم تنشب. أي لم تمكث، وتعلت من نفاسها. أي انقطع دمها وطهرت، قال
المنذري: وأصله عندهم السواد، كأنه من العلو أي تتعلى عن حالتها من المرض،
والله أعلم.
[الحمل الذي تنقضي به العدة]
قال: والحمل الذي تنقضي به العدة ما
يتبين فيه شيء من خلق الإنسان، أمة كانت أو حرة.
ش: كأن تضع ولدا. أو يدا أو رجلا أو نحو ذلك، وقد حكي الإجماع على ذلك، إذ
بذلك يعلم أنها حامل، فتدخل تحت قَوْله تَعَالَى: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ
أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] وسواء كان ما تبين
ظاهرا أو خفيا شهدت به القوابل. ومفهوم كلام الخرقي أنها إذا وضعت ما لا
يتبين فيه شيء من خلق الإنسان أنها لا تنقضي عدتها به، وهو المشهور عن
أحمد، ومختار أبي بكر، والقاضي والشريف وأبي الخطاب في خلافاتهم، وابن عقيل
والشيرازي، وأبي محمد وغيرهم، لأنه قد حصل الشك في كونه ولدا، فلم يحكم
بانقضاء العدة المتيقنة به، حذارا من دفع اليقين بأمر مشكوك فيه، (ونقل
حنبل عن أحمد) أنها تصير بذلك أم ولد، فخرج القاضي
(5/555)
وجماعة من ذلك انقضاء العدة به، لأن الظاهر
أنه بدء خلق آدمي، أشبه ما لو تصور، وأبى ذلك أبو محمد، وقال: ليس هذا
برواية في العدة، إذ أحمد لم يتعرض لها، انتهى. ويؤيد هذا أنه روي عن أحمد
في رواية أخرى ما يدل على أنها تصير بذلك أم ولد، ولا تنقضي به العدة،
والفرق الاحتياط في الصورتين، ففي الاستيلاد تغليبا للحرية، وفي العدة
تغليبا للكمال، ومحل الخلاف فيما إذا ألقت مضغة، أما إن ألقت نطفة، أو دما،
أو علقة، فإن العدة لا تنقضي به بحال عند الشيخين وغيرهما، والقاضي في
تعليقه جعل الخلاف في العلقة والمضغة، ومحل الخلاف أيضا إذا شهدت القوابل
أن المضغة مبدأ خلق آدمي، قاله أبو محمد، فلو لم تشهد بذلك لم يحكم بانقضاء
العدة بلا خلاف، ولم يشترط ذلك أبو البركات، والله أعلم.
قال: ولو طلقها أو مات عنها، فلم تنكح حتى أتت بولد بعد طلاقه أو موته
بأربع سنين، لحقه الولد وانقضت عدتها به.
ش: هذا يعتمد أصلا، وهو أكثر مدة الحمل، والمذهب المشهور أن أقصاها أربع
سنين، لأن هذا لا نص فيه، فيرجع فيه إلى الوجود، وقد وجد ذلك.
2819 - فروى الوليد بن مسلم قال: قلت لمالك بن أنس: حديث جميلة بنت سعد، عن
عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: لا تزيد المرأة
(5/556)
على السنتين في الحمل. قال مالك: سبحان
الله! من يقول هذا؟ هذه جارتنا امرأة محمد بن عجلان تحمل أربع سنين قبل أن
تلد.
2820 - وقال الشافعي: بقي محمد بن عجلان في بطن أمه أربع سنين.
2821 - وقال أحمد: نساء بني عجلان يحملن أربع سنين، وامرأة عجلان حملت ثلاث
بطون، كل دفعة أربع سنين.
2822 - وحكى أبو الخطاب أن محمد بن عبد الله بن حسن بن الحسن بن علي بقي في
بطن أمه أربع سنين، وهكذا إبراهيم بن نجيح العقيلي.
2823 - ويؤيد ذلك أن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ضرب لامرأة
المفقود أربع سنين. والظاهر أنه إنما فعل ذلك لأنه أقصى مدة الحمل.
(5/557)
2824 - وعن أحمد أن أقصاه سنتان، لأن عائشة
- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: لا تزيد المرأة على السنتين في الحمل.
ولأن الاتفاق حصل على ذلك، بخلاف غيره، إذا تقرر هذا، فإذا أتت المرأة بولد
لأربع سنين فما دون، من يوم طلاقها أو موت زوجها، ولم تكن تزوجت ولا وطئت،
ولا انقضت عدتها بالقروء، ولا بالأشهر على قول، ولا بوضع الحمل، فإن الولد
لاحق للزوج، والعدة منقضية به. ومفهوم كلام الخرقي أنها إذا أتت بولد أكثر
من ذلك لم يلحق بالزوج، ولا ريب في ذلك، ومفهومه أيضا أن العدة لا تنقضي به
منه، وهذا هو المذهب، بلا ريب، لأن الحمل منفي عنه يقينا، فلم يعتد بوضعه
منه، كما لو ظهر بعد موته، (وعن أحمد) - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن العدة تنقضي
به، لأنها ذات حمل، فتدخل في: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ
يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4]
(5/558)
وهكذا الخلاف في كل ولد لا يلحق الزوج،
كامرأة الطفل المتوفى عنها، والمطلقة عقب العقد، ونحو ذلك (وعن أحمد) تنقضي
به من غير الطفل، لأنه يلحقه بالتحاقه، بخلاف الطفل، وأظن هذا اختيار
القاضي، وقد يقال: إن ظاهر إطلاق الخرقي أن من تقدم إذا أتت بولد لأربع
سنين فما دون أنه يلحق الزوج، وإن كانت قد أقرت بانقضاء عدتها، لكن منصوص
أحمد، وقول الأصحاب على خلاف هذا، فإنهم اتفقوا فيما علمت على أنها إذا
أقرت بانقضاء عدتها بالأقراء، أن الولد لا يلحق به، وظاهر كلام أحمد وأبي
بكر أن الحكم كذلك، وإن أقرت بانقضائها بالأشهر، وصرح بذلك أبو البركات،
وابن حمدان، وظاهر كلام القاضي وعامة أصحابه إناطة ذلك بالأقراء، بخلاف
الأشهر، وتبعهم أبو محمد على ذلك مصرحا به، والله أعلم.
قال: ولو طلقها أو مات عنها، فلم تنقض عدتها حتى تزوجت من أصابها، فرق
بينهما، وبنت على عدتها من الأول، ثم استقبلت العدة من الثاني.
ش: أما كونه يفرق بينهما والحال هذه، فلأنه نكاح باطل اتفاقا، فوجب التفريق
فيه، كما لو تزوجت وهي زوجة، وأما كونها تبني على عدتها من الأول فلسبق
عدته، وكونها عن وطء في نكاح صحيح، وليس في كلام الخرقي بيان لمدة مقامها
عند الثاني، هل تنقطع به العدة أم لا؟ وفي المسألة وجهان،
(5/559)
والذي جزم به القاضي والشريف وأبو الخطاب
في خلافاتهم، أن العدة لا تنقطع به، والذي جزم به أبو محمد في كتبه
الانقطاع، وأما كونها تستقبل عدتها من الثاني، فلأنهما حقان مقصودان
لآدميين، فلم يتداخلا، كالدينين واليمينين، والعمدة أن عمر وعليا - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمَا - حكما بذلك كما سيأتي، ولا نعرف لهما مخالفا.
قال: وله أن ينكحها بعد انقضاء العدتين.
ش: هذا هو المذهب المشهور، والمختار للأصحاب من الروايتين، لعموم:
{وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24] {وَالْمُحْصَنَاتُ
مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ} [المائدة: 5] وغير ذلك، ولأنه لو زنا بها لم تحرم
عليه أبدا، فهذا أولى، (والرواية الثانية) تحرم أبدا.
2825 - لما روى مالك عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب، وسليمان بن يسار، أن
طليحة كانت تحت رشيد الثقفي، فطلقها ونكحت في عدتها، فضربها عمر - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ -، وضرب زوجها ضربات بمخفقة، وفرق بينهما، ثم قال: أيما
امرأة نكحت في عدتها فإن كان زوجها الذي تزوجها لم يدخل بها فرق بينهما، ثم
اعتدت بقية عدتها من زوجها الأول، وكان خاطبا من الخطاب، وإن كان دخل بها
فرق بينهما، ثم اعتدت بقية عدتها من الأول، ثم اعتدت من الآخر، فلا ينكحها
أبدا، والمعنى في ذلك - والله أعلم - أن الله تعالى
(5/560)
أوجب العدة لبراءة الرحم، حفظا للأنساب،
وشرع النكاح بعدها صيانة للفروج، فلما انتهك الحرمة، وأخل بالحكمة، واستعجل
السبب الذي رتب عليه الشرع الإباحة في غير محله، اقتضت الحكمة أن يعامل
بنقيض قصده المؤبد، كالقاتل لمورثه.
2826 - وقد اعترض على قول عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بقول علي - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ -، فإنه روي عنه أنه قال: إذا انقضت العدة فهو خاطب من
الخطاب.
2827 - وقد روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه رجع إلى قول علي -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
(5/561)
ومفهوم كلام الخرقي أنها لا تحل قبل انقضاء
العدتين، وعلى هذا الأصحاب كافة، ما عدا أبا محمد، فإنه يميل إلى أن له أن
ينكحها في عدتها منه، بعد فراغ عدة الأول، قال بعد أن حكى هذا عن الشافعي:
وهذا حسن موافق للنظر، لأن العدة إنما شرعت حفظا للنسب، وصيانة للماء،
والنسب لاحق به ها هنا، فأشبه ما لو خالعها ثم نكحها في عدتها، والأصحاب
اعتمدوا على قضاء عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وقد تقدم.
2828 - وعن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قضى في المرأة تتزوج في
عدتها، أنه يفرق بينهما، ولها الصداق بما استحل من فرجها، وتكمل ما أفسدت
من عدة الأول، وتعتد من الآخر. ولا يعرف لهما مخالف في الصحابة - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمْ -، ولعموم: {وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى
يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ} [البقرة: 235] الآية والضمير في قول الخرقي:
وله أن ينكحها. أي الثاني، أما الأول فإن كان طلاقه ثلاثا لم تحل له بهذا
النكاح، لبطلانه وعدم مشروعيته، وإن كان دون الثلاث فله نكاحها بعد
العدتين، وإن كانت رجعية فله رجعتها في عدتها منه، قاله أبو محمد، والله
أعلم.
قال: فإن أتت بولد يمكن أن يكون منهما، أري القافة وألحق بمن ألحقوه به
منهما، وانقضت عدتها به منه، واعتدت للآخر.
(5/562)
ش: إذا حملت هذه المنكوحة في العدة فعدتها
بوضع الحمل، كغيرها بلا ريب، ثم ينظر في الولد فإن أمكن كونه من الأول دون
الثاني، كأن تأتي بالولد لدون ستة أشهر من وطء الثاني، ولأربع سنين فما دون
من فراق الأول، فهو ملحق به، وتنقضي عدتها منه به، ثم تعتد للثاني، وإن
أمكن كونه من الثاني وحده، كأن تأتي به لستة أشهر فأزيد إلى أربع سنين من
وطء الثاني، ولأكثر من أربع سنين منذ بانت من الأول، فهو ملحق بالثاني،
فتنقضي عدتها منه به، ثم تتم عدة الأول، وإنما قدمت عدة الثاني - والحال
هذه - على عدة الأول، حذارا من أن يكون الحمل من إنسان، والعدة من غيره،
وإن أمكن كونه منهما، كأن تأتي به لستة أشهر فصاعدا من وطء الثاني، ولأربع
سنين فما دون من بينونتها من الأول، وهذه صورة الخرقي، فإنه يرى القافة،
فإن ألحقته بأحدهما لحق به، وانقضت عدتها به منه، ثم اعتدت للآخر، وإن
ألحقته بهما لحق بهما، وانقضت عدتها به منهما، ولو لم يمكن كونه من واحد
منهما، بأن ولدته لدون ستة أشهر من وطء الثاني، ولأكثر من أربع سنين من
فراق الأول، فإنه لا يلحق بواحد منهما، ولا تنقضي عدتها منه، على المذهب
كما تقدم، ولو أمكن كونه منهما، ولم توجد قافة أو أشكل أمره عليها، فإنها
بعد وضعه تعتد بعدة أخرى، لأن الولد إن كان من الأول فعليها أن تعتد
للثاني، وإن كان من الثاني فعليها أن تكمل عدة الأول، ولا يتيقن ذلك إلا
بعدة كاملة، وهل يضيع نسب الولد والحال هذه، أو يترك حتى يبلغ فينتسب إلى
من شاء منهما؟ فيه خلاف مشهور، والله أعلم.
(5/563)
[عدة أم الولد]
قال: وأم الولد إذا مات سيدها فلا تنكح حتى تحيض حيضة.
ش: لأنها قد زال الملك عنها، فلزمها الاستبراء بحيضة عند إرادة النكاح،
كالأمة القن إذا زال الملك عنها وأريد وطؤها، ودليل الأصل قول النبي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا توطأ حامل حتى تضع، ولا حائل حتى
تستبرأ بحيضة» ومقتضى كلام الخرقي أنه يكتفى في استبرائها بحيضة، وهو
المشهور من الروايتين أو الروايات، والمختار للأصحاب، لأنه استبراء لزوال
الملك عن الرقبة، فكان حيضة في حق من تحيض، كسائر استبراء المعتقات
والمملوكات، (والرواية الثانية) تعتد بعد موته بأربعة أشهر وعشر.
2829 - لما روي عن عمرو بن العاص - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: لا تلبسوا
علينا سنة نبينا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، عدة المتوفى عنها
أربعة أشهر وعشر. يعني أم الولد، رواه أبو داود وابن ماجه وقد ضعف، قال ابن
المنذر: ضعف أحمد وأبو عبيد حديث عمرو بن العاص، وقال الميموني: رأيت أبا
عبد الله يعجب من حديث عمرو هذا،
(5/564)
ويقول: أين سنة النبي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في هذا؟ وقال: أربعة أشهر وعشرا إنما هي عدة الحرة من
النكاح، وإنما هذه أمة خرجت من الرق إلى الحرية. وقال القاسم بن محمد:
سبحان الله! الله يقول: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ
أَزْوَاجًا} [البقرة: 234] ما هن بأزواج. وقد أول بعضهم الحديث على أنه
إنما جاء في أم الولد بعينها، كأن أعتقها صاحبها ثم تزوجها، وحكى أبو محمد
عن أبي الخطاب أنه حكى رواية ثالثة أنها تعتد بشهرين وخمسة أيام، قال: ولم
أجد هذه الرواية في الجامع، ولا أظنها صحيحة عن أحمد، قلت: ولم أرها أنا في
الهداية، ووجهها أنها حين الموت أمة، فكانت عدتها عدة الأمة، وهذا كله
ضعيف، إذ لا عدة هنا، إنما هو استبراء، والله أعلم.
قال: وإن كانت مؤيسة فبثلاثة أشهر.
ش: هذا هو المشهور من الروايتين، ومختار الخرقي وأبي بكر، والقاضي وأبي
محمد وغيرهم، لأن المقصود من الاستبراء
(5/565)
العلم ببراءة الرحم، فلا يحصل إلا بذلك،
قال أحمد بن القاسم: قلت لأبي عبد الله: كيف جعلت ثلاثة أشهر مكان حيضة،
وإنما جعل الله في القرآن مكان كل حيضة شهرا؟ فقال: إنما قلنا ثلاثة أشهر
لأجل الحمل، فإنه لا يتبين في أقل من ذلك.
2830 - وقد سأل عمر بن عبد العزيز - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن ذلك، وجمع
أهل العلم والقوابل، فأخبروا أن الحمل لا يتبين في أقل من ثلاثة أشهر،
فأعجبه ذلك.
2831 - ثم قال: ألا تسمع قول ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «إن
النطفة أربعين يوما، ثم علقة أربعين يوما، ثم مضغة بعد ذلك» قال أبو عبد
الله: فإذا خرجت الثمانون صار بعدها مضغة، وهي لحم، فيتبين حينئذ،
(والرواية الثانية) أنها تستبرأ بشهر، لأن الله جعل ثلاثة أشهر مكان ثلاث
حيض، فكل شهر مكان حيضة، وهذه استبراؤها بحيضة، فمكانها شهر، (وعنه) ثالثة
تستبرأ بشهرين، (وعنه) رابعة بشهر ونصف، كما لو كانت مطلقة، وهذا الحكم لا
يختص بأم الولد، بل يجري في كل مستبرأة آيسة، والله أعلم.
قال: وإن ارتفع حيضها لا تدري ما رفعه اعتدت تسعة أشهر للحمل، وشهرا مكان
الحيضة.
(5/566)
ش: إذا ارتفع حيضها لا تدري ما رفعه فإنها
تقعد تسعة أشهر للحمل، بلا ريب، ثم تقعد شهرا للاستبراء عوض الحيضة، قاله
الخرقي، وتبعه أبو محمد، مع قولهما إن الآيسة استبراؤها بثلاثة أشهر، وذلك
لأن الاستبراء في الآيسة إنما كان بثلاثة أشهر لتعلم براءة رحمها من الحمل
وهنا بمضي غالب مدة الحمل علمت البراءة، فجعل الشهر مكان الحيضة، على وفق
القياس، وحكى أبو البركات وغيره فيها رواية أخرى أنها تستبرأ بثلاثة أشهر
كالآيسة.
(تنبيه) وإن علمت ما رفع الحيض لم تزل في الاستبراء حتى يعود الحيض فتستبرأ
به، أو تصير آيسة فتستبرأ باستبراء الآيسات، والله أعلم.
قال: وإن كانت حاملا فحتى تضع.
ش: هذا إجماع والحمد لله، وقد شهد له قَوْله تَعَالَى: {وَأُولَاتُ
الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] وقول
النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا توطأ حامل حتى تضع»
الحديث، والله أعلم.
قال: وإن أعتق أم ولده أو أمة كان يصيبها لم تنكح حتى تحيض حيضة كاملة.
ش: لا يختلف المذهب أن الاستبراء هنا بحيضة، وذلك لأنها موطوءة وطئا له
حرمة، فلم يجز أن تتزوج قبل الاستبراء، كالموطوءة بشبهة، والمعنى فيه الخوف
من اختلاط المياه، وامتزاج الأنساب المطلوب عدمه شرعا. ومفهوم كلام الخرقي
أنها إذا لم يكن سيدها يطأها لا يلزمها
(5/567)
استبراء، وهو كذلك، للأمن من اختلاط المياه
وامتزاج الأنساب، ولو لم تكن من ذوات القروء فاستبراؤها بما تقدم في أم
الولد، وقول الخرقي: حيضة كاملة. يحترز عن قول من يقول إنها إذا طعنت في
الحيضة فقد تم استبراؤها، والحديث نص في رد ذلك، والله أعلم.
قال: وكذلك إن أراد أن يزوجها وهي في ملكه استبرأها بحيضة ثم زوجها.
ش: لما تقدم من الخوف من اختلاط المياه، وامتزاج النسب.
(تنبيه) فإن لم تكن من ذوات القروء فاستبراؤها بما تقدم في أم الولد، والله
أعلم.
قال: وإذا ملك أمة لم يصبها ولم يقبلها حتى يستبرئها بحيضة - بعد تمام ملكه
لها - إن كانت ممن تحيض، أو بوضع الحمل إن كانت حاملا، أو بمضي ثلاثة أشهر
إن كانت من اللائي يئسن من المحيض، أو من اللائي لم يحضن.
ش: إذا ملك أمة لم يحل له وطؤها حتى يستبرئها.
2832 - لما روي عن أبي سعيد الخدري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن النبي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال في سبي أوطاس: «لا توطأ حامل حتى
تضع، ولا غير حامل حتى تحيض حيضة» رواه أحمد وأبو داود.
(5/568)
2833 - وعن رويفع بن ثابت - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من كان
يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يسقي ماءه ولد غيره» رواه أحمد والترمذي، وأبو
داود وزاد: «ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يقع على امرأة من السبي
حتى يستبرئها» » والاستبراء بحيضة إن كانت ممن تحيض، أو بوضع الحمل إن كانت
حاملا للحديث، أو بثلاثة أشهر على المشهور من الروايات، ومختار الخرقي، وقد
تقدم ذلك، ولا تحل له أيضا قبلتها بلا خلاف أعلمه في المذهب في الجملة،
حذارا من أن تكون حاملا من المنتقلة عنه، فيكون مستمتعا بأم ولده غيره،
ولأنه استبراء حرم الوطء، فحرم القبلة كالعدة. وقول الخرقي: إذا ملك. يشمل
كل ملك، فيدخل فيه المملوكة بسبي، فلا يصيبها قبل استبرائها بلا ريب، وكذا
لا يستمتع بها، وهو إحدى الروايتين، وزعم أبو محمد أنه الظاهر عن الإمام،
لأنه استبراء حرم الوطء، فحرم دواعيه كالعدة، (والثانية) له الاستمتاع بها
دون الفرج، لأن المنع في غيرها للحذر من أن تكون أم ولد للغير، فيكون
مستمتعا بأم ولد غيره، وبها جزم ابن البنا والشيرازي، وملخصه أن من نظر إلى
هذا المعنى أباح، ومن قاس على العدة منع.
2834 - وقد روي عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أنه قال: وقع في
سهمي يوم جلولاء جارية كأن عنقها إبريق فضة، فما ملكت نفسي أن
(5/569)
قمت إليها فقبلتها والناس ينظرون، (ويدخل
فيه) أيضا إذا ملك أمة من مكاتبه، وهو المذهب، وبه جزم أبو محمد، وفيه وجه
أنه لا استبراء، اكتفاء باستبراء المكاتب، (ويدخل) أيضا إذا اشترى أمة
مزوجة فطلقت، فإن الاستبراء يجب بعد العدة، وقيل: لا يجب بل تدخل فيها إذا
أوجب الطلاق عدة، أما إن لم يوجب عدة - كالمطلقة قبل الدخول - فإن
الاستبراء يجب قولا واحدا، (ومما يدخل فيه) أيضا إذا باع أمة ثم عادت إليه
بإقالة أو فسخ، حيث قيل بانتقال الملك، وهذا إحدى الروايتين، واختيار
الشريف وأبي الخطاب، والشيرازي وغيرهم (والرواية الثانية) لا يجب
الاستبراء، ومحل الخلاف إذا كان العود قبل القبض، أما إن كان بعد القبض
والافتراق فإن الاستبراء يجب بلا خلاف، هذا إذا كان المشتري رجلا، وكذلك إن
كان امرأة عند أبي محمد، وعند أبي البركات إن كانت امرأة جرى فيه الخلاف
مطلقا. ومفهوم كلامه أنه لا يجب الاستبراء بغير الملك، وقد قال أحمد في
الإقالة توجب الاستبراء، قال: لأني أعتبر الملك.
(5/570)
فأناط الحكم بالملك، فعلى هذا لو عجزت
مكاتبته، أو فك أمته من الرهن ونحو ذلك، فلا استبراء عليه لذلك، نعم يستثنى
من ذلك إذا أسلمت أمته المجوسية أو المرتدة، فإنه يجب عليه استبراؤها على
وجه، والمذهب أنه لا يجب لذلك، وبه قطع أبو محمد، (وقوله) : أمة. يشمل كل
أمة وإن كانت بكرا أو لا تحمل، أو انتقلت من صغير أو امرأة، وهو كذلك،
لعموم الحديث، ويستثنى من ذلك إذا كانت صغيرة لا يوطأ مثلها، فإنه لا يجب
استبراؤها على إحدى الروايتين، لأن الاستبراء يراد لمعرفة براءة الرحم،
ورحم هذه معروف براءته، ولا ترد الآيسة لأن الإياس قد يخفى، ثم قد وقع حمل
الآيسة، كما وقع لامرأة سيدنا إبراهيم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
-، وهذه الرواية اختيار ابن أبي موسى وأبي محمد، ولا عبرة بقول ابن المنجا
أن ظاهر كلامه في المغني ترجيح الوجوب، فإنه صرح بتصحيح عدم الوجود، بل لم
يستدل على الوجوب بشيء. (والثانية) وهي ظاهر كلام الخرقي، وابن البنا
والشيرازي وغيرهم: يجب، لعموم الحديث. وقوله: ولم يقبلها. وفي معنى القبلة
الاستمتاع فيما دون الفرج ونحو ذلك، (وقوله) : بعد تمام ملكه لها. يحترز
عما إذا ملك بعضها، فإن الاستبراء لا يحتسب به إلا من حين ملك جميعها، وأما
إذا اشتريت بشرط الخيار، وقلنا الملك
(5/571)
ينتقل، فإن الاستبراء لا يحتسب به إلا من
حين انتهاء الخيار، لعدم تمام الملك قبله، وهو أحد الوجهين، والوجه الثاني
- وبه جزم أبو محمد - يحتسب به من حين انتقال الملك، إناطة به، وإن لم يتم،
وقد دخل في كلام الخرقي إذا وجد الاستبراء في يد البائع قبل القبض، وقد تم
الملك، فإنه يجزئ، وهو إحدى الروايتين، واختيار القاضي وجماعة من أصحابه،
(والثانية) لا يجزئ إلا بعد القبض، وعلى هذه فهل يكفي قبض الوكيل؟ فيه
وجهان، أصحهما الإجزاء، لأن يده كيد الموكل، والله أعلم.
[إحداد الزوجة المتوفى عنها زوجها]
قال: وتجتنب الزوجة المتوفى عنها زوجها الطيب والزينة، والبيتوتة في غير
منزلها، والكحل بالإثمد، والنقاب، فإن احتاجت سدلت على وجهها، كما تفعل
المحرمة حتى تنقضي عدتها.
ش: قد تقدم أن عدة المتوفى عنها زوجها أربعة أشهر وعشر إن كانت حرة، وشهران
وخمسة أيام إن كانت أمة، (فتجتنب) في مدة ذلك الطيب.
2835 - لما روي عن أم عطية - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أن النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تحد المرأة فوق ثلاث إلا على زوج،
فإنها تحد عليه أربعة أشهر وعشرا، ولا تلبس ثوبا مصبوغا إلا ثوب عصب، ولا
تكتحل، ولا تمس طيبا، إلا أدنى طهرها فإذا طهرت من محيضها بنبذة من قسط
وأظفار» متفق عليه.
2836 - وعن «زينب بنت أبي سلمة أنها دخلت على أم حبيبة حين توفي
(5/572)
أبوها أبو سفيان، فدعت بطيب فيه صفرة خلوق
أو غيره، فدهنت منه جارية، ثم مست بعارضيها، ثم قالت: والله ما لي بالطيب
من حاجة، غير أني سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
يقول: «لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث،
إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا» متفق عليه وفي معنى الطيب الادهان بالأدهان
المطيبة، كدهن الورد ونحوه، لا غير المطيبة كالزيت ونحوه، (وتجتنب) أيضا
الزينة، لما تقدم من حديث أم عطية، «ولا تلبس ثوبا مصبوغا» الحديث.
2837 - وعن أم سلمة زوج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ورضي
عنها، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «المتوفى
عنها زوجها لا تلبس المعصفر من الثياب، ولا الممشقة، ولا الحلي، ولا تختضب،
ولا تكتحل» » رواه أبو داود والنسائي.
2838 - وعن «أم حكيم بنت أسيد، عن أمها، أن زوجها توفي عنها وكانت تشتكي
عينها فتكتحل بالجلا، فأرسلت مولاة لها إلى أم سلمة فسألتها عن كحل الجلا،
فقالت: لا تكتحلي به إلا من أمر لا بد منه، يشتد عليك، فتكتحلين بالليل
وتمسحينه بالنهار، ثم قالت عند ذلك أم سلمة: دخل علي رسول الله
(5/573)
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حين
توفي أبو سلمة، وقد جعلت علي صبرا، فقال: ما هذا يا أم سلمة؟ فقلت: إنما هو
صبر يا رسول الله ليس فيه طيب. قال: «إنه يشب الوجه، فلا تجعليه إلا
بالليل، وتنزعيه بالنهار، ولا تمتشطي بالطيب ولا بالحنا، فإنه خضاب» قالت:
قلت بأي شيء، أمتشط يا رسول الله؟ قال: «بالسدر تغلفين به رأسك» رواه أبو
داود والنسائي. (والزينة تشمل) زينة البدن، كالاختضاب وتحمير الوجه، وجعل
الصبر عليه وتحفيفه، ونحو ذلك، لما تقدم في الأحاديث، وما لم يذكر فيها
فبالقياس على ما ذكر، ولا تمنع مما يراد للتنظيف كالامتشاط بالسدر، لحديث
أم سلمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، وكتقليم الظفر، وحلق الشعر المندوب
إلى حلقه، ونحو ذلك، (وتشمل) زينة الثياب، فيحرم عليها المصبوغ من الثياب
للتحسين، كالمعصفر والمزعفر، والأزرق الصافي والأخضر الصافي، ونحو ذلك، لما
تقدم من حديث أم سلمة وأم عطية - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، ولا تمنع من
مصبوغ لم يقصد
(5/574)
بصبغه حسنه، كالكحلي والأخضر المشبع ونحو
ذلك، نظرا للمعنى، وتخصيصها به، ولا من غير مصبوغ وإن كان حسنا، لعدم دخوله
في الحديث، ولأن حسنه من أصل خلقته، أشبه إذا كانت المرأة حسناء، فإنه لا
يلزمها أن تشوه نفسها، وفي منعها مما صبغ غزله ثم نسج وجهان، بناء على
تفسير ثوب العصب المستثنى في الحديث ما هو، وسيأتي إن شاء الله تعالى،
(وتشمل) الزينة أيضا الزينة بالحلي، كالخلخال والسوار، حتى الخاتم، لعموم
حديث أم سلمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - ولا الحلي انتهى. (وتجتنب) أيضا
الكحل بالإثمد، وهو نوع من الزينة، وقد تقدم المنع في الأحاديث منه، ولا
فرق بين السوداء وغيرها، نظرا للعموم، نعم إن اضطرت إلى التداوي بذلك جاز
ليلا، وتمسحه نهارا، لما تقدم عن أم سلمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، ولا
تمنع من الكحل بالتوتيا أو العنزروت ونحوهما، لعدم الزينة، والمنع ملحوظ
فيه الزينة، (وتجتنب) أيضا النقاب، وكأنه لا نص في ذلك عن أحمد، لأن كثيرا
من الأصحاب عزا ذلك إلى الخرقي، وذلك لأن المعتدة مشبهة بالمحرمة، والمحرمة
تمنع من ذلك، وعلى هذا تمنع مما في معنى ذلك كالبرقع، ولو احتاجت إلى ما
يستر وجهها سدلت عليه، كما تفعل المحرمة، وتجتنب) أيضا المبيت في غير
منزلها.
(5/575)
2839 - لما «روي عن الفريعة بنت مالك بن
سنان - وهي أخت أبي سعيد الخدري - أنها جاءت إلى رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تسأله أن ترجع إلى أهلها في بني خدرة، فإن
زوجها خرج في طلب أعبد له أبقوا، حتى إذا كانوا بطرف القدوم، لحقهم فقتلوه،
فسألت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن أرجع إلى أهلي،
فإني لم يتركني في مسكن يملكه ولا نفقة، قالت: فقال رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «نعم» قالت: فخرجت حتى إذا كنت في الحجرة أو
في المسجد دعاني، أو أمرني فدعيت له فقال: «ما قلت» ؟ فرددت عليه القصة
التي ذكرت من شأن زوجي، قالت: فقال: «امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله»
قالت: فاعتددت فيه أربعة أشهر وعشرا، قالت: فلما أن كان عثمان بن عفان -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أرسل إلي فسألني عن ذلك فأخبرته فاتبعه وقضى به» ،
رواه الخمسة وصححه الترمذي. وتجب العدة في المنزل الذي مات الزوج وهي ساكنة
فيه، سواء كان مملوكا لزوجها أو لم يكن، كحال فريعة، إلا أن تدعو ضرورة إلى
خروجها منه،
(5/576)
بأن يحولها مالكه، أو تخشى على نفسها هدما
أو غرقا أو عدوا ونحو ذلك، فلها أن تنتقل، لكن هل تنتقل إلى أقرب الأماكن
إلى المسكن، وبه جزم أبو الخطاب في الهداية، وأبو البركات، أو حيث شاءت،
وهو مختار أبي محمد، وحكاه عن القاضي، فيه وجهان، وقد ذكر أبو محمد من صور
الأعذار المبيحة للانتقال إذا لم تجد أجرة المنزل إلا من مالها، فإن لها
الانتقال، وذكر هو وغيره أنه لا يجب للمتوفى عنها سكنى إن كانت حائلا بلا
نزاع، وفيما إذا كانت حاملا روايتان، وحاصل قوله - وقد صرح به - أن الواجب
عليها فعل السكنى، لا تحصيل المسكن، وهو مقتضى قول القاضي في تعليقه، فإنه
قال: إذا بذل لها المنزل فإنه يلزمها أن تعتد فيه، ولا يحل لها البيتوتة في
غيره، نص عليه في رواية حنبل، وفرق بينها وبين المبتوتة، انتهى، وفي ما
قالاه نظر، فإنه يفضي إلى إسقاط العدة في المنزل رأسا، فإن الورثة إذا لم
يبذلوا السكن والمرأة إذا لم تبذل الأجرة سقط الاعتداد في المنزل، وظاهر
الحديث يخالفه، فإن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لها:
«امكثي في بيتك» مع قولها: إنه لم يتركها في مسكن يملكه ولا نفقة، ولو كان
لأمرها بالمكث في بيتها شرط، وهو بذل الورثة الأجرة، لبينه، ثم إن عامة
الأصحاب يقولون: لا تخرج عن منزلها إلا لضرورة ووزن الأجرة ليس بضرورة
عليها، ولفظ أحمد في رواية حنبل: لا تبيت المطلقة والمتوفى عنها إلا في
(5/577)
منزلهما يذهبان بالنهار، فإذا كان الليل
أتيا المنزل الذي أدركهما فيه الوفاة، والطلاق أسهل، وهذا النص أيضا على
وفق الحديث، والذي يظهر لي أنها يجب عليها بذل الأجرة من مالها إن قدرت على
ذلك، وإلا فلا يكلف الله نفسا إلا وسعها. وظاهر كلام الخرقي أنها لا تجتنب
الخروج نهارا، وهو كذلك، نص عليه أحمد كما تقدم والأصحاب، دفعا للحرج
والمشقة، إذ الحاجة قد تدعو إلى ذلك.
2840 - وقد «روى جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: طلقت خالتي ثلاثا،
فخرجت تجذ نخلها، فلقيها رجل فنهاها، فذكرت ذلك للنبي، فقال: «اخرجي فجذي
نخلك، لعلك أن تصدقي منه أو تفعلي خيرا» رواه النسائي وأبو داود، لكن اشترط
كثير من الأصحاب لخروجها في النهار الحاجة، وأحمد وجماعة لم يشترطوا ذلك،
فلا حاجة في التحقيق إلى اشتراطه، لأن المرأة وإن لم يكن متوفى عنها تمنع
من خروجها من بيتها لغير حاجة مطلقا، وقوله: وتجتنب الزوجة. يخرج منه غير
الزوجة كأم الولد ونحوها، فإنه لا إحداد عليها، ويدخل فيه كل زوجة، وإن
كانت ذمية أو غير مكلفة، وهو كذلك، والمخاطب بتحصيل الإحداد على غير المكلف
هو الولي.
(تنبيه) الإحداد المنع، فالمرأة تمنع نفسها مما كانت
(5/578)
تتهيأ به لزوجها، من تطيب وتزين، فقول
النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تحد المرأة» وقوله بعد:
«ولا تلبس ثوبا مصبوغا» إلى آخره، عطف تفسيري للإحداد، يقال: أحدث المرأة
إحدادا فهي محد، وحدت تحد وتحد، بالضم والكسر، فهي حاد، وسمي الحديد حديدا
لامتناعه به، أو لامتناعه على من يحاوله، و «العصب» برود يمنية يعصب غزلها،
أي يجمع ويشد، ثم يصبغ بعد ذلك وتنسج، فيأتي موشيا لبقا، ما عصب منه أبيض،
لم يأخذه الصبغ، هذا تفسير المنذري، والقاضي من أصحابنا وغيرهما، ولهذا
أباح القاضي ما صبغ غزله مطلقا، وقال أبو محمد - تبعا للسهيلي - إنه نبت
يصبغ به لا ينبت إلا باليمن، ومن ثم اختار أبو محمد تحريم ما صبغ غزله ثم
نسج للتحسين، نظرا للمعنى، (والنبذة) القطعة من الشي (والقسط) العود الذي
يتبخر به، وقيل هو طيب غيره، ويقال بالقاف والكاف (والأظفار) جنس من الطيب،
لا واحد له من لفظه، وقيل واحدة ظفر، وروي: «قسط وأظفار» على العطف، وروي:
أو أظفار، على الإباحة والتسوية، ورخص في ذلك لأجل قطع الرائحة الكريهة، لا
على معنى التطيب (والممشقة) من الثياب المصبوغة بالمشق، بكسر الميم وفتحها،
وهو المغرة بفتح الميم (وكحل الجلا) هو الإثمد،
(5/579)
وحكى فيه كسر الجيم وفتحها، والمد والقصر
(والصبر) معروف الدواء المر (ويشب الوجه) أي يوقد اللون ويحسنه، من قولهم
شببت النار، إذ أوقدتها، «وتغلفين» أي تلطخين، و «خدرة» بضم الخاء المعجمة
وسكون الدال المهملة، بطن من الأنصار، «والقدوم» بفتح القاف وضم الدال
المهملة موضع على ستة أميال من المدينة، ويشدد ويخفف.
[إحداد المرأة المطلقة ثلاثا]
قال: والمطلقة ثلاثا تتوقى الطيب والزينة والكحل بالإثمد.
ش: هذا إحدى الروايتين عن أحمد، واختيار الخرقي والقاضي، وعامة أصحابه،
لأنها معتدة، بائن من نكاح، فلزمها الإحداد كالمتوفى عنها، ولأن العدة تحرم
النكاح، فحرمت دواعيه، كالإحرام والصيام، (والثانية) وهي اختيار أبي بكر في
الخلاف وابن شهاب: لا يحرم عليها شيء من ذلك، لعموم الحديث، فإنه دل على أن
كل امرأة لا تحد إلا امرأة توفي عنها زوجها.
وقول الخرقي: المطلقة ثلاثا: تخرج منه الرجعية، لأنها زوجة، ويلحق بالمطلقة
ثلاثا كل بائن، وظاهر كلام الخرقي أنها لا تجتنب النقاب، وصرح بذلك أبو
محمد في الكتاب
(5/580)
الكبير، وظاهر كلامه في كتابه الصغير،
وكذلك أبو البركات منعها من ذلك، وظاهر كلام الخرقي أيضا أنه لا يجب عليها
البيتوتة في منزل الطلاق، وهو أشهر الروايتين، والمجزوم به عند كثير من
الأصحاب، القاضي وأبي محمد وغيرهما.
2841 - «لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر فاطمة بنت
قيس أن تعتد في بيت ابن أم مكتوم» . وحكي عنه أنها كالمتوفى عنها، وعلى
الأول هل لها البيتوتة عن المنزل الذي تكون فيه، والسفر عن البلد؟ فيه
روايتان، أنصهما: نعم، وهذا كله إذا لم يمنعها المطلق من ذلك، فأما إن أراد
إسكانها في موضع يصلح لها، ولا محذور فيه، تحصينا لفراشه، لزمها ذلك.
قال: وإذا خرجت للحج فتوفي زوجها وهي بالقرب، رجعت لتقضي العدة، وإن كانت
قد تباعدت مضت في سفرها.
ش: إذا سافرت المرأة إلى الحج، ثم توفي عنها زوجها، فلا يخلو إما أن تكون
قريبة أو بعيدة، فإن كانت قريبة لزمها العود، لتأتي بالعدة في المنزل الذي
وجبت فيه، لأن القريبة في حكم المقيمة.
2842 - وقد روى سعيد بن منصور: ثنا جرير، عن منصور، عن سعيد بن المسيب،
قال: توفي أزواج نساء وهن حاجات أو
(5/581)
معتمرات، فردهن عمر - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ - من ذي الحليفة، حتى يعتددن. وكلام الخرقي يشمل ما إذا أمكنها مع
الرجوع الإتيان بالحج، وما إذا لم يمكن، ولا نزاع في ذلك مع الإمكان، اللهم
إلا إذا لحقها في الرجوع ضرر، فإنها تمضي، كما لو تباعدت، وإن لم يمكن فهل
(تقدم العدة) وهو ظاهر كلام أحمد في رواية حرب ويعقوب بن بختان، لعموم قول
النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لفريعة: «امكثي في بيتك حتى
يبلغ الكتاب أجله» وهذه في حكم المقيمة في البيت، (أو الحج) إن كانت قد
أحرمت به قبل العدة، وهو اختيار القاضي، لمزيته بالسبق، ولعموم:
{وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196] ؟ على
روايتين، فعلى الأول تتحلل لفوات الحج بعمرة كالمحصرة، وإن كانت بعيدة مضت
في سفرها، لأنها تحتاج إلى سفر في رجوعها، فأشبهت من بلغت مقصدها.
وظاهر كلام الخرقي أن مضيها على سبيل الوجوب، وجعله أبو محمد على سبيل
الجواز إن وصلت إلى منزلها قبل انقضاء
(5/582)
عدتها، وفصل أبو البركات فقال: إن أمكنها
الرجوع لقضاء العدة، ثم الإتيان بالحج خيرت، وإن لم يمكنها قدمت الحج، فخصص
إطلاق الخرقي.
(تنبيه) حد القريب ما لا تقصر فيه الصلاة، والبعيد عكسه، قاله القاضي.
قال: فإن رجعت وقد بقي عليها شيء من عدتها أتت به في منزلها.
ش: يعني إذا مضت في الحج ثم رجعت وقد بقي عليها شيء من عدتها، فإنها تأتي
به في منزلها، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا
أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم» .
قال: ولو توفي عنها زوجها أو طلقها وهو ناء عنها، فعدتها من يوم مات أو
طلق، إذا صح ذلك عندها، وإن لم تجتنب ما تجتنبه المعتدة.
ش: هذا هو المذهب المشهور، والمختار للأصحاب من الروايتين، نظرا إلى أن
العدة سببها ذلك، والمسبب يتعقب السبب، ولأن غاية ما فات القصد، وهو غير
معتبر في العدة، بدليل الصغيرة والمجنونة تنقضي عدتها من غير قصد، ولأنها
لو وضعت حملها غير عالمة بفرقة زوجها لانقضت عدتها، فكذلك سائر أنواع
العدة، (والرواية الثانية) إن ثبت ذلك ببينة فكذلك لتحقق السبب، وإلا
فعدتها من يوم بلغها الخبر، لعدم تعلق الحكم بها قبل ذلك، وقوله: إذا صح
ذلك عندها. لأنه إذا لم يصح فلا شيء من يقين أو غلبة ظن ينبني الحكم عليه،
وقوله: وإن لم تجتنب ما تجتنبه المعتدة. لأن العدة مرور زمن، وقد وجد،
والله سبحانه وتعالى أعلم.
(5/583)
|