شرح
الزركشي على مختصر الخرقي [كتاب الرضاع]
ش: الرضاع مص الثدي، بفتح الراء وكسرها، مصدر رضع الصبي الثدي، بكسر الضاد
وفتحها، يرضع ويرضع بالفتح مع الكسر، والكسر مع الفتح، والرضاع محرم
بالإجماع، وسنده قوله سبحانه وتعالى: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي
أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} [النساء: 23] وقول
النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن الرضاعة تحرم ما تحرم
الولادة» وقد تقدم ذلك.
[شروط الرضاع المحرم]
قال: والرضاع الذي لا يشك في تحريمه أن يكون خمس رضعات فصاعدا.
ش: اختلفت الرواية عن إمامنا أحمد في القدر الذي يتعلق به التحريم من
الرضاع، فروي عنه أنه لا حد لذلك، بل قليل الرضاع وكثيره سواء، اعتمادا على
إطلاق قَوْله تَعَالَى: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ
وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} [النساء: 23] وقول النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن الرضاعة تحرم ما تحرم الولادة» «يحرم من
الرضاع ما يحرم من النسب» .
2843 - وعن «عقبة بن الحارث أنه تزوج أم يحيى بنت أبي إهاب،
(5/584)
فجاءت أمة سوداء فقالت: قد أرضعتكما. فذكرت
ذلك للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأعرض عني، قال فتنحيت
فذكرت ذلك للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: «وكيف وقد
زعمت أن قد أرضعتكما» متفق عليه، وبهذا استدل أحمد (وروي عنه) أن التحريم
لا يثبت إلا بثلاث رضعات.
2844 - اعتمادا على ما روي عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أن النبي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تحرم المصة والمصتان» رواه
مسلم وغيره.
2845 - وعن أم الفضل - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «أن رجلا سأل النبي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أتحرم المصة؟ فقال: «لا تحرم الرضعة
والرضعتان، والمصة والمصتان» وفي لفظ: «لا تحرم الإملاجة ولا الإملاجتان»
رواهما مسلم.
2846 - وعن عبد الله بن الزبير - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أن النبي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تحرم من الرضاعة المصة
والمصتان» رواه أحمد والنسائي
(5/585)
والترمذي، ومفهوم ذلك أن الثلاث تحرم، ثم
إطلاق ما تقدم يقتضي التحريم مطلقا، خرج منه الرضعة والرضعتان بالنص، فما
عداهما يبقى على مقتضى الإطلاق (وروي عنه) - وهو مختار أصحابه متقدميهم
ومتأخريهم - أن التحريم لا يثبت إلا بخمس رضعات.
2847 - لما روت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أنها قالت: كان فيما أنزل
من القرآن (عشر رضعات معلومات يحرمن) ثم نسخن بخمس معلومات، فتوفي رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهن فيما يقرأ من القرآن. رواه
مسلم وأبو داود والنسائي.
2848 - وفي لفظ: قالت: أنزل في القرآن (عشر رضعات معلومات) فنسخ من ذلك
خمس، وصارت إلى خمس رضعات معلومات، فتوفي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والأمر على ذلك، رواه الترمذي.
2849 - وعن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «أن رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر امرأة أبي حذيفة فأرضعت سالما خمس رضعات،
فكان يدخل عليها
(5/586)
بتلك الرضاعة» ، رواه أحمد، ولو تعلق
التحريم بدون الخمس لم يكن لذكر الخمس معنى، ولكان النبي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر امرأة أبي حذيفة أن ترضع سالما ثلاثا، وهذا يقضي
على إطلاق ما تقدم، وكذا على مفهومه، إذ غايته عموم، فعلى الأولى لا كلام،
وعلى الثانية والثالثة متى امتص من الثدي ثم تركه فذلك رضعة بكل حال، وعن
ابن حامد إذا ترك بغير اختياره ثم عاد عن قرب فهما رضعة.
قال: والسعوط كالرضاع.
ش: أصل السعوط صب الدواء في الأنف، والمراد هنا صب اللبن، ومختار الخرقي
والقاضي وأصحابه، وأبي محمد وغيرهم ثبوت التحريم به، وهذا إحدى الروايتين
عن أحمد، لحصول المعنى الحاصل بالرضاع منه، وهو إنشاز العظم وإنبات اللحم.
2850 - ويدل على التكليف على هذا المعنى قول ابن مسعود رضي الله
(5/587)
عنه: لا رضاع إلا ما شد العظم، وأنبت اللحم
وفي رواية: وأنشز العظم. رواه أبو داود (والرواية الثانية) لا يثبت التحريم
به، اختارها أبو بكر، نظرا إلى أن هذا ليس برضاع، والتحريم إنما حصل
بالرضاع.
قال: وكذلك الوجور.
ش: أصل الوجور وضع الدواء في الفم، وقال الجوهري: في وسط الفم، والمراد هنا
صب اللبن في الفم من غير الثدي، والكلام فيه كالكلام في السعوط نقلا
ودليلا، والنص عن أحمد ورد فيه، وقوله: كالرضاع. في أنه يعطى حكمه، ومن ذلك
أنه لا يحرم إلا خمس رضعات، فكذلك هنا لا يحرم إلا خمس مصات.
قال: واللبن المشوب كالمحض.
(5/588)
ش: المشوب هو المخلوط بغيره، عكس المحض وهو
الخالص، ومختار الخرقي، والقاضي والشريف، والشيرازي والشيخين ثبوت التحريم
به لحصول إنبات اللحم، وإنشاز العظم منه، وقال ابن حامد - واختاره أبو
الخطاب في خلافه الصغير - الحكم لأغلبهما، إذ غير الغالب في حكم العدم،
وهذان القولان بناء على القول بالتحريم بالوجور، كذلك صرح به القاضي في
تعليقه، وأبو البركات، ومن ثم قال أبو بكر: قياس قول أحمد أنه لا يحرم،
لأنه وجور، ثم أبو محمد يقول: الخلاف فيما إذا كانت صفات اللبن باقية، أما
إن ذهبت كأن كان يصب في ما لم يتغير به فلا تحريم، لانتفاء الرضاع ومعناه،
وهو إنشاز العظم وإنبات اللحم به، وعن القاضي وهو ظاهر كلامه في التعليق
جريان الخلاف فيه، إناطة بحصول اللبن في البطن.
[ثبوت التحريم بلبن الميتة]
قال: ويحرم لبن الميتة، كما يحرم لبن الحي.
ش: هذا منصوص أحمد في رواية إبراهيم الحربي، واختيار أبي بكر، والقاضي
وأصحابه، لحصول الرضاع على وجه يحصل به الإنبات والإنشاز.
2851 - وقد قال أحمد: إن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: إن اللبن لا
يموت، واختار الخلال أن التحريم لا يحصل به، وسئل أحمد في رواية مهنا عن
صبي رضع من ثدي امرأة ميتة، هل
(5/589)
يكون رضاعا؟ فتوقف وقال: إلا أن عمر قال:
إن اللبن لا يموت. وهذا يدل على أن المرجح عنده مع توقفه ثبوت التحريم به،
وكأن الخلال - رَحِمَهُ اللَّهُ - نظر إلى أن هذه ليست بمحل الولادة،
فأشبهت الرجل.
قال: وإذا حبلت ممن يلحق نسب ولدها به فثاب لها لبن، فأرضعت به طفلا خمس
رضعات متفرقات في حولين، حرمت عليه وبناتها من أبي هذا الحمل ومن غيره،
وبنات أبي هذا الحمل منها ومن غيرها، فإن أرضعت صبية فقد صارت ابنة لها
ولزوجها، لأن اللبن من الحمل الذي هو منه.
ش: أما تحريم المرضعة المذكورة على الطفل فبنص الكتاب، قال سبحانه:
{وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ} [النساء: 23] وأما تحريم
بناتها على الطفل من أبي الحمل ومن غيره، فلأنهن أخواته، وقد قال سبحانه:
{وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} [النساء: 23] وأما تحريم بنات أبي هذا
الحمل من المرضعة ومن غيرها عليه، فبناء على أن الحرمة تنتشر من قبل الرجل،
كما تنتشر من قبل المرأة، وقد تقدمت هذه المسألة في قوله: ولبن الفحل محرم.
وأما صيرورة الصبية المرضعة منها بنتا لها فإجماع.
2852 - وقد دل عليه قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
«يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب» وأما صيرورة المرضعة بنتا لزوج المرضعة،
فلما علل به الخرقي، من أن اللبن من الحمل الذي هو منه، وهو يلتفت إلى ما
تقدم من أن لبن الفحل محرم، وقول الخرقي:
(5/590)
وإذا حبلت. يحترز مما إذا ثاب اللبن من غير
حمل، فإنه لا ينشر الحرمة، وهو المنصوص والمختار للقاضي وعامة أصحابه من
الروايتين، لأنه لبن لم تجر العادة به لتغذية الطفل، أشبه لبن الرجل، وحكي
عن أحمد رواية أخرى أنه ينشر الحرمة، وصححها أبو محمد في الكتاب الكبير،
ولم يثبتها في الصغير، بل قال: الظاهر أنها قول ابن حامد. وهي مشعرة بظاهر
إطلاق {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ} [النساء: 23] وقول
الخرقي: ممن يلحق نسب ولدها به. يحترز به عمن لم يلحقه النسب، كالزاني
والملاعن، فإن الحرمة لا تنتشر إليهما، وهو قول ابن حامد، إذ التحريم فرع
لحرمة الأبوة، وحرمة الأبوة لم تثبت، فكذلك ما هو فرع لها، واختار أبو بكر
أن الحرمة تنتشر إليهم، إذ هو رضاع نشر الحرمة إلى المرضعة، فنشرها إلى
الواطئ لضرورة الاتفاق، وفي المذهب (قول ثالث) تنتشر الحرمة إلى الزاني،
لأنه ولده ظاهرا، دون الملاعن، لانتفائه عنه ظاهرا وحكما، وقوله: فثاب لها
لبن. أي اجتمع. وقوله: فأرضعت به طفلا خمس رضعات، بناء على
(5/591)
مختاره من أن التحريم إنما يتعلق بالخمس،
وقوله: متفرقات. بناء على أنه لا بد من عدد الرضعات، وأنه لا يكتفى بالمص
من غير مفارقة الثدي، وهو المشهور، وعن ابن أبي موسى: حد الرضعة أن يمتص ثم
يمسك عن الامتصاص لنفس أو غيره، سواء خرج الثدي من فيه، أو لم يخرج، وكلام
الخرقي يقتضي أنه متى وجد التفرق كفى، وإن كان بغير اختياره، وقد تقدم ذلك،
وقوله: في حولين. يحترز به عما بعد الحولين، فإنه لا يؤثر، ولا ريب في ذلك
عندنا.
2853 - لما روي «عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: دخل علي النبي
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وعندي رجل، فقال: «يا عائشة من هذا؟
فقلت: أخي من الرضاعة، فقال: «يا عائشة انظرن من إخوانكن، فإنما الرضاعة من
المجاعة» » متفق عليه.
2854 - وعن أم سلمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أن رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يحرم الرضاع إلا ما فتق الأمعاء في
الثدي، وكان قبل الفطام» رواه الترمذي وصححه.
2855 - وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: قال رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا
(5/592)
رضاع إلا ما فارق الحولين» رواه الدارقطني.
2856 - وعن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لا رضاعة إلا ما كان في
الحولين. رواه أبو داود.
2857 - وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: لا رضاعة لكبير.
2858 - وعن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: لا رضاعة إلا لمن أرضع
في
(5/593)
الصغر. رواهما مالك في الموطأ.
2859 - وبهذا يتخصص ما روي «عن زينب بنت أم سلمة - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا -، قالت: قالت أم سلمة لعائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: إنه
يدخل عليك الغلام الأيفع الذي ما أحب أن يدخل علي. فقالت عائشة - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهَا -: أما لك في رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - أسوة حسنة، وقالت: إن امرأة أبي حذيفة قالت: يا رسول الله إن
سالما يدخل على وهو رجل، وفي نفس أبي حذيفة منه شيء، فقال رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أرضعيه حتى يدخل عليك» » رواه أحمد
ومسلم، وفي رواية عن زينب، عن أمها أم سلمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -،
قالت: أبى سائر أزواج رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن
يدخلن أحدا عليهن بتلك الرضاعة، وقلن لعائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -:
ما نرى هذا إلا رخصة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
لسالم خاصة، فما هو بداخل علينا أحد بهذه الرضاعة ولا رائينا. رواه أحمد،
ومسلم، والنسائي.
(تنبيه) : الأيفع.
قال: ولو طلق الرجل زوجته ثلاثا وهي ترضع من لبن
(5/594)
ولده، فتزوجت بصبي مرضع فأرضعته حرمت عليه،
ثم تزوجت بآخر ودخل بها، وطلقها أو مات عنها، لم يجز أن يتزوجها الأول،
لأنها صارت من حلائل الأبناء لما أرضعت الصبي الذي تزوجت به.
ش: أما تحريم المرضعة على الصبي المرضع فلأنها صارت أمه، فدخلت في قَوْله
تَعَالَى: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ} [النساء: 23] وأما
امتناع تزويج الأول لها فلما علل به الخرقي، من أنها صارت من حلائل أبنائه،
لأن المرضع ابن له لما تقدم، والمرضعة زوجته، فهي من زوجات أبنائه، وقيود
الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - واضحه.
قال: ولو تزوج كبيرة وصغيرة، فلم يدخل بالكبيرة حتى أرضعت الصغيرة في
الحولين، حرمت عليه الكبيرة، وثبت نكاح الصغيرة.
ش: أما تحريم الكبيرة فلأنها بإرضاعه صارت من أمهات نسائه، وأمهات النساء
يحرمن بمجرد العقد، وأما ثبوت نكاح الصغيرة، فلأنها قد صارت ربيبة، ولم
يدخل بأمها فلا تحرم، لقوله سبحانه: {فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ
بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} [النساء: 23] وهذا أشهر الروايتين عن
أحمد، واختيار الخرقي وابن عقيل وغيرهما، (والرواية الثانية) ينفسخ نكاح
الصغيرة أيضا، لأنهما قد صارتا أما وبنتا واجتمعا في نكاحه، ولا ريب أن
الجمع بينهما محرم، فينفسخ نكاحهما، كما لو عقد عليهما بعد الرضاع جملة،
وأجيب عن هذا بأن إزالة الجمع
(5/595)
ممكن بانفساخ نكاح الكبيرة، وهو أولى به
لتحريمها بمجرد العقد، بخلاف البنت فإنها لا تحرم إلا بالدخول بالأم،
والدوام يغتفر فيه ما لا يغتفر في الابتداء.
قال: وإن كان دخل بالكبيرة حرمتا عليه جميعا.
ش: الكبيرة لأنها صارت من أمهات نسائه، والصغيرة فلأنها صارت ربيبة مدخولا
بأمها. قال: ويرجع بنصف مهر الصغيرة على الكبيرة.
ش: لأن الكبيرة قررته عليه، وألزمته إياه وأتلفت عليه ما في مقابلته، فوجب
عليها الضمان كما لو أتلفت عليه المبيع، وقد تضمن كلام الخرقي أن عليه نصف
مهر الصغيرة، وهو كذلك، لأن نكاحها انفسخ قبل دخوله بها من غير جهتها،
فتنصف مهرها، وفي كلامه أو لا إشعار بأن الكبيرة الغير مدخول بها لا مهر
لها، وهو واضح، إذ الفسخ لسبب من جهتها، أشبه ما لو ارتدت.
قال: وإذا تزوج بكبيرة لم يدخل بها، وبصغيرتين فأرضعت الكبيرة الصغيرتين،
حرمت الكبيرة، وانفسخ نكاح الصغيرتين، ولا مهر للكبيرة، ويرجع عليها بنصف
مهر الصغيرتين، وله أن ينكح من شاء منهما.
ش: أما تحريم الكبيرة فلأنها صارت من أمهات نسائه، فشملها قوله سبحانه:
{وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ} [النساء: 23] وأما انفساخ نكاح الصغيرتين
فلأنهما قد صارتا أختين، وقد اجتمعتا في نكاحه، فينفسخ نكاحهما، إذ ليست
إحداهما بأولى بالبطلان من
(5/596)
الأخرى، فأشبه ما لو عقد عليهما ابتداء،
وهذا بناء على ما تقدم من مختاره، من أنه إذا أرضعت كبيرة وصغيرة أنه لا
ينفسخ نكاح الصغيرة، وإذا إذا ارتضعت الثانية قد صارتا أختين، فينفسخ
نكاحهما، أما على الرواية الثانية فإن الصغيرة إذا انفسخ نكاحها مع الكبرى،
فالصغيرة الثانية إذا ارتضعت لم يوجد ما يجمع معها، فيبقى نكاحها، وأما
كونه لا مهر للكبيرة فلأن الفسخ جاء من جهتها، وأما كونه يرجع عليها بنصف
مهر الصغيرتين فلما تقدم من أنها قررت ذلك عليه، وألزمته له.
قال وإن كن الأصاغر ثلاثا، فأرضعتهن متفرقات، حرمت الكبيرة، وانفسخ نكاح
المرضعتين أولا، وثبت نكاح آخرهن رضاعا.
ش: إذا كن الأصاغر ثلاثا، فأرضعتهن الكبيرة متفرقات، حرمت الكبيرة لما
تقدم، وانفسخ نكاح المرضعتين أولا، لما تقدم من أنهما قد صارتا أختين، وقد
جمع بينهما في النكاح، فيبطل نكاحهما، ويثبت نكاح الأخرى، لأنها لم توجد ما
يجمع معه، وهذا أيضا مبني على ما تقدم، أما علي الرواية الأخرى فإنه ينفسخ
نكاح الجميع، نكاح الأولى مع الأم، ونكاح الثانية والثالثة لأنهما قد صارتا
أختين.
(5/597)
قال: وإن كانت أرضعت إحداهن منفردة واثنتين
بعد ذلك معا، حرمت الكبيرة، وانفسخ نكاح الأصاغر.
ش: أما تحريم الكبيرة فواضح، وقد تقدم، وأما انفساخ نكاح الأصاغر فلأنه قد
صار جامعا بين ثلاث أخوات، لأن الأولى لم ينفسخ نكاحها، فلما أرضعت
الاثنتين بعد ذلك حصل الجمع بين الجميع، واعلم أن انفساخ نكاح الأصاغر على
الروايتين، أما على المذهب فقد تقدم، وأما على الرواية الأخرى فلأن الأولى
ينفسخ نكاحها مع الكبرى، والأخريين ينفسخ نكاحهما، لأنه قد صار جامعا
بينهما، غايته أن وقت الفسخ يختلف. فعلى الأولى: ينفسخ نكاح الجميع في حالة
واحدة، وعلى الثانية: ينفسخ نكاح الأولى مع الكبيرة، ويتأخر فسخ نكاح
الأخريين إلى حين الإرضاع.
قال: ولو كان دخل بالكبيرة حرم الكل عليه على الأبد.
ش: أما تحريم الكبيرة فلما تقدم، وأما تحريم الأصاغر فلأنهن ربائب مدخول
بأمهاتهن، فيحرمن.
قال: وإذا شهدت امرأة واحدة على الرضاع حرم النكاح إن كانت مرضية، وقد قال
أبو عبد الله في موضع آخر: إن كانت مرضية استحلفت، فإن كانت كاذبة لم يحل
الحول حتى تبيض ثدياها، وذهب في ذلك إلى قول ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا -.
(5/598)
ش: شهادة المرأة الواحدة مقبولة في الرضاع،
على المذهب المشهور.
2860 - لما روي «عن عقبة بن الحارث أنه تزوج أم يحيى بنت أبي إهاب، فجاءت
أمة سوداء فقالت: قد أرضعتكما. قال: فذكرت ذلك للنبي فأعرض عني، قال:
فتنحيت فذكرت ذلك له، فقال: «كيف وقد زعمت أن قد أرضعتكما» فنهاه عنها» ،
أخرجه البخاري وغيره «، وللنسائي قال: فأعرض عنه، فأتيته من قبل وجهه، قلت:
إنها كاذبة. قال: «كيف بها وقد زعمت أنها قد أرضعتكما، دعها عنك» .
2861 - وقال الزهري: فرق بين أهل أبيات في زمن عثمان - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ - بشهادة امرأة في الرضاع.
2862 - وقال الشعبي: كانت القضاة يفرقون بين الرجل والمرأة بشهادة امرأة
واحدة في الرضاع (وعن أحمد) رواية ثانية: لا يقبل إلا بشهادة امرأتين لأن
الرجال أكمل من النساء ولا يقبل إلا بشهادة رجلين فكذلك لا يقبل إلا بشهادة
امرأتين (وعنه) ثالثة تقبل شهادة المرأة الواحدة، وتستحلف مع شهادتها.
2863 - اعتمادا على قول ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فإنه قال في
امرأة زعمت أنها أرضعت رجلا وأهله، فقال: إن كانت مرضية
(5/599)
استحلفت، وفارق امرأته، وقال: إن كانت
كاذبة لم يحل الحول حتى تبيض ثدياها. يعني يصيبها فيهما برص، عقوبة على
كذبها، نسأل الله العافية من ذلك، والظاهر أنه لا يقول مثل هذا إلا عن
توقيف، وعلى كل حال فلا يقبل إلا شهادة مرضية، إذ غيرها يدخل في قَوْله
تَعَالَى: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6]
الآية.
[الإقرار بالرضاع قبل الدخول أو بعده]
قال: وإذا تزوج امرأة ثم قال قبل الدخول: هي أختي من الرضاع، انفسخ النكاح.
ش: لأن إقراره يتضمن ذلك، ولا فرق بين قبل الدخول وبعده، وإنما ذكر الخرقي
قبل الدخول لما يذكره من المهر، وكلام الخرقي يشمل ما إذا كانت معروفة
النسب، وصرح بذلك القاضي في ضمن كلامه في التعليق.
قال: فإن صدقته فلا مهر لها، وإن كذبته فلها نصف المهر.
ش: إذا قال قبل الدخول: هي أختي من الرضاعة. فإن صدقته فلا مهر لها
لإقرارها بفساد نكاحها من أصله. ولا مهر في النكاح الفاسد قبل الدخول، وإن
أكذبته فلها نصف المهر، لأن حقها ثبت بالعقد ظاهرا، ودعوى الزوج بعد ذلك
إسقاطه دعوى مجردة فلا تسمع.
(5/600)
قال: ولو كانت المرأة هي التي قالت: هو أخي
من الرضاعة. فأكذبها، ولم تأت بالبينة على ما وصفت، فهي زوجته في الحكم.
ش: أما كون المرأة زوجته في الحكم إذا قالت: هو أخي من الرضاعة. فأكذبها
ولا بينة لها، فلأن بقاء النكاح من حقوق الزوج، ودعوى المرأة زواله دعوى
مجردة فلا تسمع، ومفهوم كلام الخرقي أنه إذا صدقها انفسخ النكاح، وهو كذلك
للاتفاق على ما يقتضي الفسخ، ومقتضى كلامه أنها متى أقامت البينة على ما
ادعته كان القول قولها، وهو واضح؛ إذ البينة تبين الحق وتوضحه.
(5/601)
|