شرح
الزركشي على مختصر الخرقي [كتاب الجزية]
ش: الجزية قال أبو محمد: الوظيفة المأخوذة من الكافر لإقامته بدار الإسلام
في كل عام. وظاهر هذا التعريف أن الجزية أجرة الدار. قال: مشتقة من جزاه
بمعنى قضاه، كقوله: {لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا} [البقرة: 48]
.
وقال القاضي في الأحكام السلطانية: اسمها مشتق من الجزاء، إما جزاء على
كفرهم، لأخذها منهم صغارا، أو جزاء على أماننا لهم لأخذها منهم رفقا. قال
أبو العباس: وهذا أصح، وهو يرجع إلى أنها عقوبة أو أجرة، والأصل في جوازها
الإجماع. وقد شهد له قَوْله تَعَالَى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا
يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [التوبة: 29] ، إلى: {وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة:
29] . وما تقدم من أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أخذ
الجزية من نصارى نجران.
3468 - وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: «مرض أبو طالب
فجاءته قريش وجاءه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وشكوه إلى
أبي طالب، فقال: يا ابن أخي ما تريد من قومك؟ قال: «أريد منهم كلمة
(6/566)
تدين لهم بها العرب، وتؤدي إليهم بها العجم
الجزية» . قال: كلمة واحدة؟ قال: «كلمة واحدة، قولوا: لا إله إلا الله» .
قالوا: إلها واحدا؟ {مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ
هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ} [ص: 7] . قال: فنزل فيهم القرآن: {ص وَالْقُرْآنِ
ذِي الذِّكْرِ} [ص: 1] إلى قوله {إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ} [ص: 7] » .
رواه أحمد والترمذي وحسنه، في أحاديث أخر.
[من تقبل منه الجزية]
قال: ولا تقبل الجزية إلا من يهودي أو نصراني، أو مجوسي، إذا كانوا مقيمين
على ما عوهدوا عليه، ومن سواهم فالإسلام أو القتل.
ش: قد تقدم أن الجزية تقبل من اليهود والنصارى والمجوس، وإن كانوا من
العرب، ولا تقبل ممن سواهم على المذهب وإن كانت لهم صحف على الأشهر، ونزيد
هنا بأن ظاهر كلام الخرقي أن من أحد أبويه غير كتابي فاختار دين الكتابي
أنه تقبل منه الجزية. وكذلك ظاهر كلامه أن من انتقل إلى أحد هذه الأديان
الثلاثة بعد مبعث سيدنا ونبينا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه
لا تقبل منه الجزية، وهو أحد القولين في الصورتين، نظرا لعموم النص.
وشرط الخرقي لكل من تقبل منه الجزية أن
يكون مقيما
(6/567)
على ما عوهد عليه، من بذل الجزية في كل
عام، لقوله سبحانه: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ} [التوبة: 29] . أي:
يلتزموا أداءها والتزام أحكام الملة، من ضمان الأنفس والأموال وإقامة
الحدود، وغير ذلك على ما هو مقرر في بابه، إعمالا لحكم الإسلام لنسخه كل
ملة.
[مقدار الجزية]
قال: والمأخوذ منهم الجزية على ثلاث طبقات، فيؤخذ من أدونهم: اثنا عشر
درهما، ومن أوسطهم: أربعة وعشرون درهما، ومن أيسرهم: ثمانية وأربعون درهما.
ش: لأن ذلك يروى عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ولم ينكره منكر، وعمل
عليه فكان إجماعا.
3469 - ففي البخاري عن ابن أبي نجيح قال: قلت لمجاهد: ما شأن أهل الشام
عليهم أربعة دنانير، وأهل اليمن عليهم دينار؟ قال: فعل ذلك من قبل اليسار.
3470 - وفي الموطأ عن أسلم أن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ضرب
الجزية على أهل الذهب أربعة دنانير، وعلى أهل الورق أربعين درهما، ومع ذلك
أرزاق المسلمين، وضيافة ثلاثة أيام، لكن مقتضى هذا أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ - قابل الدينار بعشرة دراهم، وأبو محمد نقل عنه أنه قابله
(6/568)
باثني عشر درهما، وزعم أنه حديث لا شك في
صحته، مع أنه لم يذكر من رواه، وليس هو والله أعلم في السنن.
3471 - فإن قيل ففي سنن أبي داود عن معاذ بن جبل، «أن رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما وجهه إلى اليمن أمره أن يأخذ من كل حالم
- يعني: محتلما - دينارا، أو عدله من المعافري» ، ثياب تكون باليمن، فظاهر
هذا إجزاء الدينار في حق كل أحد؟
قيل هو محمول على أن الغالب على أهل اليمن كان الفقر، كما أشار إليه مجاهد،
أو أن للإمام الزيادة والنقصان في الجزية كما هو إحدى الروايات، واختيار
الخلال، قال: العمل في قول أبي عبد الله على ما رواه عنه الجماعة، بأنه لا
بأس للإمام أن يزيد في ذلك وينقص عنه، على ما رواه عنه أصحابه في عشرة
مواضع، فاستقر قوله على
(6/569)
ذلك، اهـ.
3472 - وقد «روى ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: صالح رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أهل نجران على ألفي حلة، النصف
في صفر، والبقية في رجب، يؤدونها للمسلمين، وعارية ثلاثين درعا، وثلاثين
فرسا، وثلاثين بعيرا، وثلاثين من كل صنف من أصناف السلاح، يغزون بها،
والمسلمون ضامنون لها حتى يردوها عليهم إن كان باليمن كيد ذات غدر، على أن
لا تهدم لهم بيعة، ولا يخرج لهم قس، ولا يفتنوا عن دينهم، ما لم يحدثوا
حدثا، أو يأكلوا الربا» . رواه أبو داود، وهذا مع الذي قبله مع فعل عمر
(6/570)
- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يدل على أن
المرجع في ذلك إلى رأي الإمام فيما يطيقونه من الزيادة والنقصان.
والرواية الثانية: لا تجوز الزيادة ولا النقص على ما تقدم من أن على الأدون
اثنا عشر درهما، والمتوسط أربعة وعشرون درهما، والغني ثمانية وأربعون
درهما، وهي اختيار القاضي في روايتيه، وقال: إنها اختيار الخرقي، ولا شك
أنها ظاهر كلامه، وذلك لما روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
والرواية الثالثة: تجوز الزيادة ولا يجوز النقص، قال في رواية يعقوب بن
بختان: لا يجوز للإمام أن ينقص من ذلك، وله أن يزيد، وهذا اختيار أبي بكر،
لأن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لم ينقص عن الدينار، بل زاد عليه،
فيقتصر على ذلك، فظاهر هذه الرواية أن الأدون لا ينقص عن الدينار، والمتوسط
لا ينقص عن الدينارين، والغني عن الأربعة، ويجوز أن يزادوا على ذلك.
وقال ابن أبي موسى: لا يجوز النقص عن الدينار بحال، وتجوز الزيادة عليه،
وهذا قول رابع.
(تنبيهات) أحدها: الغني هنا من عده أهل العرف غنيا، على المشهور والمقطوع
به لأبي البركات، وأبي محمد في المغني وغيرهما، لأن ما لا تقدير فيه من جهة
الشرع المرجع فيه إلى العرف كالقبض والحرز. (وقيل عن أحمد) : الغني: من ملك
نصابا، (وقيل عنه) بل من ملك عشرة آلاف
(6/571)
درهم، (وقيل) بل من ملك مائة ألف درهم فهو
غني، ومن ملك دونها إلى عشرة آلاف فمتوسط، ومن ملك عشرة آلاف فما دون
ففقير. الثاني: يقوم الدينار مقام الاثني عشر درهما.
الثالث: «عدله من المعافري» ، عدل الشيء: ما يعادله ويماثله، والمعافري:
منسوب إلى معافر، بفتح الميم، موضع باليمن، وهي ثياب تكون به.
[من لا تجب عليه الجزية]
قال: ولا جزية على صبي.
ش: هذا والله أعلم اتفاق، وقد شهد له مفهوم حديث معاذ المتقدم: «خذ من كل
حالم دينارا» ، مع أن الله تعالى إنما أمر بأخذ الجزية ممن يقاتل، فقال
سبحانه: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ
الْآخِرِ} [التوبة: 29] ، إلى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ} [التوبة: 29]
، والصبي لا يقاتل.
3473 - وعن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه كتب إلى أمراء الأجناد أن
اضربوا الجزية، ولا تضربوها على النساء والصبيان، ولا
(6/572)
تضربوها إلا على من جرت عليه الموسى. رواه
سعيد وأبو عبيد.
قال: ولا زائل العقل.
ش: لأنه أسوأ حالا من الصبي، ولقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: «رفع القلم عن ثلاث، عن الصبي حتى يحتلم، وعن النائم حتى
يستيقظ، وعن المجنون حتى يفيق» . مع أن هذا أيضا، والله أعلم، اتفاق والحمد
لله.
قال: ولا امرأة.
ش: هذا أيضا والله أعلم اتفاق، لما تقدم ولأن الجزية تؤخذ حقنا للدم، كما
أشعرت به الآية الكريمة، والمرأة محقون دمها، بدليل ما تقدم.
قال: ولا فقير.
ش: سواء كان معتملا أو غير معتمل، أما غير المعتمل فبالاتفاق مذهبا، لعموم:
{لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286] الآية،
وهذا خبر، فتخصيص غيره من الإنشاءات أولى بلا ريب، لقول النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «خذ من
(6/573)
كل حالم دينارا أو نحوه» ، وأما المعتمل
ففيه روايتان: (إحداهما) وبه قطع أبو محمد في كتبه، وأبو الخطاب في
الهداية: تجب عليه، لعموم: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ
بِاللَّهِ} [التوبة: 29] ، إلى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ} [التوبة:
29] ، وقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «خذ من كل حالم
دينارا» ، أخرج منه غير المعتمل، فيبقى فيما عداه على مقتضى العموم.
(والثانية) : وهي ظاهر كلام الخرقي، وأوردها أبو البركات مذهبا: لا يجب
عليه، لأنه مال يجب بحلول الحول، فلا يلزم الفقير كالزكاة والعقل.
والرواية الأولى أسعد دليلا، ولأبي الخطاب احتمال بوجوب الجزية على الفقير
غير المعتمل، ويطالب بها إذا أيسر، والمراد بالفقير هنا والله أعلم: الفقير
الذي هو أحد الأصناف في الزكاة، ويدخل فيه المسكين لأنهما في غير باب
الزكاة صنف واحد.
قال: ولا شيخ فان، ولا زمن ولا أعمى.
ش: لما تقدم من أن الجزية وجبت لحقن الدم، وهؤلاء دماؤهم محقونة، ودليل
الأصل ما تقدم، وفي معنى هؤلاء الراهب ونحوه ممن لا يقتلون على ما تقدم،
لحقن دمائهم، ولأبي محمد احتمال بوجوبها على الراهب، ويحتمله كلام الخرقي
لعموم النصوص.
قال: ولا على سيد عبد عن عبده، إذا كان السيد مسلما.
(6/574)
ش: هذا والله أعلم اتفاق، حذارا من إيجاب
الجزية على مسلم، إذ ما يجب على العبد إنما يؤديه السيد. ومفهوم كلام
الخرقي أن السيد إذا كان ذميا وجبت عليه الجزية عن عبده، وهو إحدى
الروايتين عن أحمد، لعموم: «خذ من كل حالم دينارا» ، ونحوه مع انتفاء
المحذور المتقدم.
(والرواية الثانية) : وهي اختيار أبي بكر والقاضي، وأبي محمد: لا يجب عليه
أيضا، كما لو كان السيد مسلما، لأن العبد محقون الدم، فأشبه المرأة والصبي،
أو لا مال له فأشبه الفقير.
3474 - ويروى عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «لا
جزية على العبد» . وقد قال ابن المنذر: إن هذا مما أجمع عليه كل من نحفظ
عنه من أهل العلم.
[حكم إسلام من وجبت عليه الجزية]
قال: ومن وجبت عليه الجزية فأسلم قبل أن تؤخذ منه سقطت عنه.
ش: الجزية تجب بحلول الحول، فإذا أسلم الذمي بعد حلول الحول فقد وجبت عليه
الجزية، فإن لم تكن أخذت منه سقطت عنه، لعموم قول الله تعالى:
(6/575)
{قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا
يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38] .
3475 - وقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الإسلام يجب ما
قبله» . ويؤيد دخول ذلك في العموم أن الجزية عقوبة سببها الكفر، فسقطت
بالإسلام كالقتل، وخرج بذلك الديون، فإن سببها ليس هو الكفر، فلذلك لا تسقط
بالإسلام.
3476 - وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: قال رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ليس على مسلم جزية» . رواه الترمذي،
وأبو داود وهذا لفظه، وقد فسره سفيان الثوري بما قلناه، قال: معناه إذا
أسلم الذمي بعد ما وجبت عليه الجزية بطلت عنه.
3477 - ويروى أن ذميا أسلم، فطولب بالجزية، وقيل: إنما أسلمت تعوذا. قال:
إن في الإسلام معاذا. فرفع إلى عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فقال عمر -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إن في الإسلام معاذا. وكتب أن لا تؤخذ منه
الجزية، رواه أبو
(6/576)
عبيد بنحو من هذا المعنى، وقد دل كلام
الخرقي من طريق التنبيه أنه لو أسلم قبل الوجوب لا تؤخذ منه، وهو واضح.
قال: وإذا أعتق العبد لزمته الجزية لما يستقبل، سواء كان المعتق له مسلما
أو كافرا.
ش: هذا هو الصحيح المشهور من الروايتين أو الروايات، إذ هو حر مكلف موسر،
من أهل القتال، فدخل في عمومات النصوص. (ونقل أبو محمد) عن أحمد رواية أخرى
أنه يقر بغير جزية مطلقا، لأن الولاء شعبة من الرق، وهو ثابت عليه، فلم تجب
عليه الجزية، كما لو لم يعتق. ووهن الخلال هذه الرواية، وقال: هذا قول قديم
رجع عنه أحمد، والعمل على ما رواه عنه الجماعة. وحكى أبو البركات الرواية
أنه لا جزية عليه، إذا كان المعتق له مسلما، قال: وقال، أي أحمد، لأن ذمته
(6/577)
ذمة مولاه، اهـ.
والمسلم لا يجب عليه جزية، فكذلك مولاه، ويجتمع من النقلين على هذا ثلاث
روايات.
وقول الخرقي: لزمته الجزية لما يستقبل، أي: لما بقي من الحول الذي عتق فيه
بالقسط، ثم لما بعده. وظاهر كلامه أنه لا يحتاج إلى عقد ذمة، بل يتبع أهل
الذمة في ذلك، وهذا هو المشهور، وللقاضي في موضع أنه يخير بين التزام
العقد، وبين أن يرد إلى مأمنه، فإن اختار الذمة عقدت له، وإلا ألحق بمأمنه.
- وحكم الصبي يبلغ، أو المجنون يفيق، أو الفقير يوسر في أثناء الحول، حكم
العبد يعتق على ما مر، إلا أنه لا خلاف فيما أعلمه أنهم لا يقرون بغير
جزية.
[حكم من نصارى بني تغلب بالنسبة للجزية والزكاة
ونحوها]
قال: ولا تؤخذ الجزية من نصارى بني تغلب.
ش: «تغلب» : علم منقول من تغلب مضارع غلبت، لا ينصرف للعلمية ووزن الفعل،
وبنو تغلب هم بنو تغلب بن وائل، من العرب، من ربيعة بن نزار.
3478 - انتقلوا في الجاهلية إلى النصرانية، فدعاهم عمر - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ - إلى أداء الجزية فأبوا وأنفوا، وقالوا: نحن عرب،
(6/578)
خذ منا كما يأخذ بعضكم من بعض باسم الصدقة.
فقال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لا آخذ من مشرك صدقة، فلحق بعضهم
بالروم، فقال النعمان بن زرعة: يا أمير المؤمنين إن القوم لهم بأس وشدة،
وهم عرب يأنفون من الجزية، فلا تعن عليك عدوك بهم، وخذ منهم الجزية باسم
الصدقة، فبعث عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في طلبهم، فردهم وضعف عليهم من
الإبل من كل خمس شاتين، ومن كل ثلاثين بقرة تبيعان، ومن كل عشرين دينارا
دينار، ومن كل مائتي درهم عشرة دراهم، وفيما سقت السماء الخمس، وفيما سقي
بنضح أو غرب أو دولاب العشر، فاستقر ذلك من قول عمر - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ - ولم ينقل أن أحدا من الصحابة خالفه، مع أن ذلك مشتهر فكان إجماعا
أو بمنزلته.
(6/579)
وظاهر كلام الخرقي أن الجزية لا تؤخذ منهم
وإن بذلوها راضين بها، وفصل أبو محمد فقال: إن بذلها حربي قبلت منه، لعموم
قوله سبحانه: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا
بِالْيَوْمِ الْآخِرِ} [التوبة: 29] الآية. وغيرها من الأحاديث، وإن بذلها
من دخل في عقد صلحهم وذمتهم فهل تقبل منه، وهو احتمال ذكره لما تقدم، أو لا
تقبل، وهو الذي أورده مذهبا، وقطع به غيره، حذارا من تغيير ما وقع عليه
الصلح؟ فيه قولان.
قال: وتؤخذ الزكاة من أموالهم ومواشيهم وثمرهم مثلي ما يؤخذ من المسلمين.
ش: لما تقدم، وظاهر كلام الخرقي أنه يؤخذ ذلك من نسائهم وصبيانهم
ومجانينهم، وكل من يؤخذ منه الزكاة، ولا تؤخذ ممن لا تؤخذ منه الزكاة وإن
كان له مال، بأن يكون غير زكوي كالدور ونحوها، وعلى هذا الأصحاب، نظرا إلى
أن السؤال وقع منهم على أن يأخذ منهم كما يأخذ بعضنا من بعض، فأجابهم إلى
ذلك بعد الامتناع، واستقر رأيه على ذلك، والذي يأخذه بعضنا من بعض زكاة،
ولأن صبيانهم ونحوهم دخلوا في حكم الصلح، فدخلوا في الواجب به كالرجال
العقلاء، ومال أبو محمد إلى أن هذا المأخوذ جزية باسم الصدقة، فلا تؤخذ ممن
لا جزية عليه كالصبيان ونحوهم، لأن النعمان بن زرعة قال لعمر - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ -: خذ منهم الجزية باسم الصدقة.
(6/580)
3479 - ولهذا يروى عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ - أنه قال: هؤلاء حمقى، رضوا بالمعنى وأبوا الاسم، ولأن الزكاة
طهرة، ولا طهرة لهم.
فعلى هذا مصرف المأخوذ منهم مصرف الجزية. وعلى المذهب: هل مصرفه مصرف
الجزية، وهو اختيار القاضي وأبي محمد، نظرا للمعنى، أو مصرف الزكاة، وهو
اختيار أبي الخطاب، ويحتمله كلام الخرقي، نظرا للاسم؟ فيه روايتان.
وظاهر كلام الخرقي أن هذا الحكم مختص بنصارى بني تغلب، ولا يشاركهم غيرهم
ممن تهود أو تنصر أو تمجس من العرب، وهو الذي أورده أبو محمد في المقنع
والمغني مذهبا.
3480 - وقال في المغني: نص عليه أحمد، ورواه عن الزهري، قال: نذهب إلى أن
تؤخذ من مواشي بني تغلب خاصة الصدقة، وتضعف عليهم. كما فعل عمر - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ - وذلك لعموم: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ} [التوبة: 29]
، ولأخذ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الجزية من أكيدر دومة
وغيره من العرب، وقد تقدم ذلك، (وعن القاضي) وأبي الخطاب حكم من
(6/581)
تنصر من تنوخ وبهرا، أو تهود من كنانة
وحمير، أو تمجس من تميم حكم بني تغلب، قياسا لهم عليهم، والمنصوص أن من كان
من العرب من أهل الجزية وأباها إلا باسم الصدقة مضعفة، وله شوكة يخشى الضرر
منها، فإنه يجوز مصالحتهم على مثل ما صولح عليه بنو تغلب، لأنهم إذا في
معناهم، والقياس حيث فهم المعنى وهذا هو الصواب، وعليه يحمل إطلاق أحمد
أولا، وإطلاق القاضي ومن تبعه، ولهذا قطع به أبو البركات، وعليه استقر قول
أبي محمد في المغني، لكنه شرط مع ذلك أن يكون المأخوذ منهم بقدر ما يجب
عليهم من الجزية أو أزيد، وهذا الشرط ليس في كلام
(6/582)
أحمد، ولا هو مشترط في بني تغلب، ولا يشترط
في غيرهم.
قال: ولا تؤكل ذبائحهم، ولا تنكح نساؤهم في إحدى الروايتين. عن أبي عبد
الله - رَحِمَهُ اللَّهُ - والرواية الأخرى: تؤكل ذبائحهم وتنكح نساؤهم.
ش: الرواية الأولى هي المشهورة عند الأصحاب.
3481 - اتباعا لعلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فإن ذلك يروى عنه. وقال: لم
يتمسكوا من دينهم إلا بشرب الخمر، وألحق بعض الأصحاب بهم تنوخ وبهرا،
وبعضهم جميع نصارى العرب، بناء على ما تقدم لهم قبل.
والرواية الثانية: اختيار أبي محمد، وقال: إنها آخر الروايتين عن أحمد، وأن
إبراهيم الحربي، قال: فكان آخر قوليه أنه لا يرى بذبائحهم بأسا، لعموم:
(6/583)
{وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ
حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ
الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ
قَبْلِكُمْ} [المائدة: 5] .
3482 - ويروى ذلك عن ابن عباس وعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -.
[أخذ العشور من أهل الذمة]
قال: ومن اتجر من أهل الذمة إلى غير بلده أخذ منه نصف العشر في السنة.
ش: من اتجر من أهل الذمة إلى غير بلده يبيع فيه أو يشتري منه أخذ من تجارته
نصف العشر في الجملة.
3483 - لما روي «عن حرب بن عبد الله عن جده أبي أمه، عن أبيه - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ - قال: أتيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
فأسلمت، فعلمني الإسلام، وعلمني كيف آخذ الصدقة من قومي ممن أسلم، ثم رجعت
إليه فقلت: يا رسول الله كل ما علمتني فقد حفظته إلا الصدقة، أفأعشرهم؟
قال: «إنما العشور على النصارى واليهود» . رواه أبو داود، «وفي رواية: «ليس
على المسلم عشور، إنما العشور على اليهود والنصارى» » .
(6/584)
3484 - ولأن هذا يروى عن عمر - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ - ولم ينكر، فكان بمنزلة الإجماع.
3485 - وروى الإمام أحمد عن سفيان، عن هشام، عن أنس بن سيرين قال: بعثني
أنس بن مالك إلى العشور، فقلت: تبعثني إلى العشور من بين عمالك؟ قال: أما
ترضى أن أجعلك على ما جعلني عليه عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -؟
أمرني أن آخذ من المسلمين ربع العشر. ومن أهل
(6/585)
الذمة نصف العشر.
3486 - وعن لاحق بن حميد، أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بعث عثمان بن
حنيف إلى الكوفة فجعل على أهل الذمة في أموالهم التي يختلفون فيها في كل
عشرين درهما درهما. رواه أبو عبيد في الأموال، وظاهر هذا كله أن هذا حكم
مقرر في الشرع، لا أنه موقوف على مصالحتهم على ذلك، ولا على أخذهم منا ذلك،
اهـ.
3487 - ولا تؤخذ منهم في السنة إلا مرة، كما ذكره الخرقي، ونص عليه أحمد،
وقال: كذا روي عن إبراهيم النخعي، عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حين
كتب أن لا تؤخذ في السنة إلا مرة واحدة، أن يأخذ من الذمي نصف العشر.
وروى أحمد بإسناده قال: جاء شيخ نصراني إلى عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -
فقال: إن عاملك عشرني في السنة مرتين. قال: ومن أنت؟ قال: أنا الشيخ
النصراني. قال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: وأنا الشيخ الحنيفي. ثم كتب
إلى عامله أن
(6/586)
لا تعشروا في السنة إلا مرة.
وقول الخرقي: ومن اتجر، يدخل فيه المرأة، وهو المذهب، لعموم ما تقدم، وقال
القاضي: لا يلزم المرأة إلا أن تتجر بالحجاز. وقوله: من أهل الذمة، يحتمل
أن يدخل فيه التغلبي، لكونه من أهل الذمة، ويحتمل أن لا يدخل لتقدم حكم
التغلبي، وفيه روايتان، فعدم التعشير لأن المشترط عليه ضعف ما على المسلمين
في ماله، سواء اتجر أو لم يتجر، والتعشير لعموم: «إنما العشور على اليهود
والنصارى» ولأن ما جعل عليه في مقابلة الجزية، فعلى هذا يكمل عليه العشر
مضاعفة عليه، نص عليه أحمد.
3488 - وروى بإسناده عن زياد بن حدير أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -
بعثه مصدقا، فأمره أن يأخذ من نصارى بني تغلب العشر، ومن نصارى أهل الكتاب
نصف العشر.
(6/587)
وقال أبو محمد: إن الأقيس أن يجب عليهم ضعف
ما على المسلمين، لا ضعف ما على أهل الذمة، كما في بقية أموالهم. قال: وهو
ظاهر كلام الخرقي، لقوله: مثلي ما يؤخذ من المسلمين، ومقتضى حديث لاحق بن
حميد.
قال: وإذا دخل إلينا منهم تاجر حربي بأمان أخذ منه العشر.
3489 - ش: لأن في حديثه عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه بعث مصدقا،
وأمره أن يأخذ من المسلمين من كل أربعين درهما درهما، ومن أهل الذمة من كل
عشرين درهما درهما، ومن أهل الحرب من كل عشرة واحدا.
3490 - وعلى ذلك يحمل ما روى السائب بن يزيد قال: كنت عاملا مع عبد الله بن
عتبة بن مسعود، في زمن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فكنا نأخذ
من النبط العشر. رواه مالك في الموطأ.
3491 - وقال: سألت ابن شهاب على أي وجه كان يأخذ عمر - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ - من النبط العشر؟ فقال: كان ذلك يؤخذ منهم في الجاهلية، فألزمهم
ذلك عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وقول الخرقي: أخذ منه العشر، ولم يقل في
(6/588)
السنة، كما تقدم له في الذمي، فيحتمل أنه
اكتفى بما تقدم قبل، وهذا منصوص أحمد، ويحتمل أنه أراد الإطلاق، وأنه يؤخذ
منه كلما دخل إلينا، وهو قول ابن حامد.
وإطلاق كلام الخرقي يقتضي الأخذ من كل قليل وكثير من المال، وهو قول ابن
حامد، ويستدل له بإطلاقات ما تقدم، والمذهب المشهور أنه إنما يؤخذ من شيء
مقدر، لأن أنسا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: أمرني عمر - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ - أن آخذ من المسلمين ربع العشر، ومن أهل الذمة نصف العشر، وإنما
يؤخذ من المسلم إذا كان معه نصاب، فكذلك الذمي.
ثم اختلف في ذلك المقدر، (فعنه) - وهو الذي قطع به أبو محمد في المقنع،
وحكاه في الهداية عن القاضي - أنه عشرة دنانير مطلقا، للذمي والحربي، لأن
العشرة مال يبلغ واجبه نصف دينار، فوجب فيه كالعشرين في حق المسلم.
(وعنه) اعتبار العشرين مطلقا لهما، لأن المسلم لا يجب عليه فيما دونها،
فكذلك هما.
(وعنه) اعتبار العشرين للذمي، والعشرة للحربي، لأن المسلم لا يجب عليه فيما
دون العشرين، فكذلك الذمي، والعشرة في حق الحربي كالعشرين في حق الذمي.
واعتبر القاضي أبو الحسين للذمي عشرة، وللحربي خمسة، إذ الخمسة في حق
الحربي كالعشرة في حق الذمي.
ومقتضى كلام الخرقي أنه إنما يؤخذ من مال التجارة لا من غيره، وهو كذلك،
فلو مر الذمي بنا منتقلا، ومعه
(6/589)
أمواله لم يؤخذ منه شيء، ثم هو يشمل جميع
أموال التجارة، وكذا ظاهر كلام جماعة من الأصحاب، وقال القاضي: إذا دخلوا
لنقل ميرة بالناس حاجة إليها أذن لهم في الدخول بغير عشر. ومال إلى هذا أبو
محمد، لكنه عمم في الكافي، فجوز للإمام الترك رأسا للمصلحة.
3492 - لما روى مالك في الموطأ عن ابن عمر، أن عمر بن الخطاب - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمَا - كان يأخذ من النبط من الحنطة والزيت نصف العشر، يريد
بذلك أن يكثر الحمل بالمدينة، ويأخذ من القطنية العشر؛ وهذا دليل على
التخفيف عنهم للمصلحة، وإذا له الترك للمصلحة.
(قلت) : وهذا والله أعلم كان في المستأمنين، إذ غيرهم يؤخذ منهم نصف العشر
مطلقا.
واختلف في الخمر والخنزير المتبايع بينهم هل يعشران أو لا يعشران؟ على
روايتين منصوصتين.
3493 - وقد اضطرب في النقل عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - –
(6/590)
وخرج أبو البركات قولا بتعشير ثمن الخمر
دون الخنزير، بناء والله أعلم على أنها مال لهم دون الخنزير، ولو كان في يد
التاجر منهم جارية فادعى أنها أخته أو نحو ذلك، فهل يقبل قوله، لأن الأصل
عدم الملك فيها، أو لا يقبل نظرا لليد؟ فيه روايتان، ولا يقبل مجرد قوله:
إن عليه دينا، نظرا للأصل، فإن ثبت ذلك فقال أبو محمد: ظاهر كلام أحمد أن
ذلك يمنع الأخذ منه إذا كان الدين بقدر ما عليه، أو ينقص به نصابه المعتبر،
قياسا على الزكاة.
[حكم من نقض عهده من المشركين]
قال: ومن نقض العهد بمخالفته شيئا مما صولحوا عليه حل دمه وماله.
ش: ينبغي للإمام عند عقد الذمة أن يشترط عليهم شروطا، كما روي في السنة ففي
حديث ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - المتقدم، الذي رواه أبو داود
في مصالحة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أهل نجران، فقال:
«ما لم تحدثوا حدثا، أو تأكلوا الربا» ، والحدث: الشيء الذي ينكر فعله.
3494 - وفي البخاري وسنن أبي داود: «عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا
- قال: أتى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أهل خيبر،
فقاتلهم حتى ألجأهم إلى قصرهم، وغلبهم على الأرض والزرع والنخل، فصالحوه
على أن يجلوا منها ولهم ما حملت ركابهم، ولرسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الصفراء والبيضاء والحلقة، وهي
(6/591)
السلاح، ويخرجون منها، واشترط عليهم أن لا
يكتموا ولا يغيبوا شيئا، فإن فعلوا فلا ذمة لهم ولا عهد، فغيبوا مسكا فيه
مال وحلي لحيي بن أخطب، كان احتمله معه إلى خيبر، حين أجليت النضير، فقال
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعم حيي واسمه سعية -:
«ما فعل مسك حيي الذي جاء به من بني النضير؟» فقال: أذهبته النفقات
والحروب، فقال: «العهد قريب، والمال أكثر من ذلك» ، وقد كان حيي قتل قبل
ذلك، فدفع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سعية إلى
الزبير فمسه بعذاب، فقال: قد رأيت حييا يطوف في خربة ها هنا فذهبوا فطافوا
فوجدوا المسك في الخربة فقتل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - ابني أبي الحقيق، أحدهما زوج صفية بنت حيي بن أخطب، وسبى رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نساءهم وذراريهم، وقسم أموالهم
بالنكث الذي نكثوا» ، وذكر الحديث إلى آخره.
(6/592)
3495 - وروى سفيان الثوري عن مسروق، عن عبد
الرحمن، قال: كتبت لعمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حين صالح
نصارى الشام، وشرط فيها أن لا يحدثوا في مدينتهم، ولا ما حولها ديرا ولا
كنيسة، ولا قلية ولا صومعة راهب ولا يجددوا ما خرب، ولا يمنعوا كنائسهم أن
ينزل بها أحد من المسلمين ثلاث ليال يطعمونهم، ولا يأووا جاسوسا، ولا
يكتموا غشا للمسلمين، ولا يعلموا أولادهم القرآن، ولا يظهروا شركا، ولا
يمنعوا ذوي قراباتهم من الإسلام إن أرادوه، وأن يوقروا المسلمين، وأن
يقوموا لهم من مجالسهم إذا أرادوا الجلوس، ولا يتشبهوا بالمسلمين في شيء من
لباسهم في قلنسوة، ولا عمامة، ولا نعلين ولا فرق شعر، ولا يتسموا بأسماء
المسلمين ولا يتكنوا بكناهم، ولا يركبوا سرجا ولا يتقلدوا سيفا، ولا يتخذوا
شيئا من سلاح، ولا ينقشوا خواتيمهم بالعربية، ولا يبيعوا الخمور، وأن يجزوا
مقادم رؤوسهم، وأن يلزموا زيهم حيث ما كانوا، وأن يشدوا الزنانير على
أوساطهم، ولا يظهروا صليبا، ولا شيئا من كتبهم في شيء من طرق المسلمين، ولا
يجاوروا المسلمين بموتاهم، ولا يضربوا بالناقوس إلا ضربا خفيفا، ولا يرفعوا
أصواتهم بالقراءة في كنائسهم في شيء من حضرة المسلمين، ولا يخرجوا شعانين،
ولا يرفعوا مع أمواتهم أصواتهم، ولا يظهروا النيران معهم، ولا يشتروا من
الرقيق ما جرت عليه سهام المسلمين، فإن خالفوا ما شرطوه فلا ذمة لهم، وقد
حل للمسلمين منهم ما يحل من أهل المعاندة والشقاق.
ورواه
(6/593)
الخلال بنحو من هذا، وزاد عليه، وفيه قال:
ومن ضرب مسلما عمدا فقد خلع عهده.
إذا تقرر هذا فإذا شرط عليهم الإمام هذه الشروط ونحوها مما روي عن عمر -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كما هو مقرر في موضعه، فخالف بعضهم شيئا منها،
فظاهر كلام الخرقي أن عهده ينتقض بذلك، هو مقتضى ما تقدم، إذ في حديث ابن
عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: «ما لم يحدثوا حدثا أو يأكلوا الربا» ،
وفي قصة خيبر أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قتل وسبى،
وأخذ المال بالنكث الذي نكثوا، وفي قصة عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: ومن
ضرب مسلما عمدا فقد خلع عهده، وقال: فإن خالفوا ما شرطوه فلا ذمة لهم، وقد
تقدم.
(6/594)
وظاهر كلامه أيضا أن ما لم يصالحوا عليه لا
ينتقض به عهدهم وإن لزمهم، لعدم دخولهم على ذلك، ولا يرد عليه بذل الجزية،
والتزام أحكام الملة، لأن عقد الذمة عبارة عن هذين، فمتى زالا أو أحدهما
زال عقد الذمة.
وأما حكم المذهب فملخصه أن ما لزم أهل الذمة بشرط أو غيره كما هو مقرر في
موضعه ينقسم أربعة أقسام، (أحدها) : ما ينتقض به العهد بلا خلاف، وهو ما
إذا امتنعوا من بذل الجزية، والتزام أحكام الملة لما تقدم، لكن قال أبو
محمد في المغني: إذا حكم بها حاكم. ولم أر هذا الشرط لغيره، وكذلك قتال
المسلمين، لأن إطلاق الأمان يقتضي ترك القتال، فإذا فعلوه نقضوا الأمان.
(الثاني) : ما لا ينتقض به إلا أن يشترط عليهم، كما يقوله الخرقي، وهو قذف
المسلم أو إيذاؤه في تصرفاته بسحر، على المنصوص في رواية الجماعة.
3496 - لما روى أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن امرأة يهودية أتت رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بشاة مسمومة، فأكل منها، فجيء
بها إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فسألها عن ذلك
فقالت: أردت أن أقتلك. قال: «ما كان الله ليسلطك على ذلك» قالوا: ألا
نقتلها؟ قال: «لا» . فما زلت أعرفها في لهوات رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» . رواه أحمد، والأذى بالقذف
(6/595)
دون ذلك، وقيل ينتقض، وحكاه أبو محمد في
المقنع رواية، ولعله أراد مخرجة مما سيأتي.
(والثالث) : ما ينتقض به على المنصوص والمختار للأصحاب، وإن لم يشترط
عليهم، كما إذا فتن المسلم عن دينه أو قتله، أو قطع الطريق عليه، أو الزنا
بمسلمة، أو التجسس للكفار، أو إيواء جاسوس، أو ذكر الله أو كتابه أو رسوله
بسوء، ذكر هذه الشيخان وغيرهما، وزاد أبو محمد وغيره ذكر دين الله بسوء،
وزاد جماعة أصاب مسلمة بعقد نكاح، أو الاجتماع على قتال المسلمين، ثم إن
أبا الخطاب في خلافة الصغير قيد القتل بأن يكون عمدا وهو حسن، وأطلقه غيره،
وقد جاء في القتل قول عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: ومن ضرب مسلما عمدا
فقد خلع عهده، وجاء في سب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
ما تقدم في قتل سابه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
3497 - وجاء في قتل من تجسس ما روي «عن فرات بن حيان - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر بقتله،
وكان عينا لأبي سفيان، وحليفا لرجل من الأنصار، فمر بحليفه
(6/596)
من الأنصار، فقال: إني مسلم. فقال رجل من
الأنصار: يا رسول الله إنه يقول: إنه مسلم. فقال رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن منكم رجالا نكلهم إلى إيمانهم منهم فرات
بن حيان» . رواه أحمد وأبو داود، وترجمه بحكم الجاسوس الذمي.
3498 - وجاء في الزنا ما روي أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رفع إليه
رجل قد أراد استكراه امرأة مسلمة على الزنا، فقال: ما على هذا صالحناكم.
وأمر به فصلب في بيت المقدس. وبقية الصور في معنى ذلك، وحكى كثير من أصحاب
القاضي، وتبعهم أبو محمد رواية أخرى بعدم النقض بذلك ما لم يشترط عليهم،
على رأي الخرقي، وقال أبو البركات: إنهم خرجوها من نصه في القذف، واختار هو
التفرقة، وتقرير النصوص على بابها.
(6/597)
(الرابع) : ما عدا ذلك من عدم إظهار
المنكر، وعدم رفع صوتهم بكتابهم، ونحو ذلك مما هو مذكور في أحكام الذمة،
فهذا لا خلاف فيما أعلمه أنه إذا لم يشترط عليهم لا ينتقض به عهدهم، وأما
إن شرط عليهم فقولان، اختار الخرقي النقض كما تقدم، واختيار الأكثرين عدمه.
وحيث لم ينتقض العهد فإنه يلزمه موجب ما فعله من حد أو قصاص وإلا يعزر، قال
أبو محمد: وفعل به ما ينكف به أمثاله عن فعله، وحيث انتقض العهد به فإن كان
بسب الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تعين قتله كما تقدم، وإن
أسلم على المذهب، وإن كان بغير ذلك فظاهر كلام الخرقي تعين قتله، وهو
المنصوص، وظاهر قصة فرات بن حيان، وقطع فيه أبو محمد بالتخيير كالأسير
الحربي، وهو اختيار القاضي.
ومن انتقض عهده في نفسه انتقض عهده في ماله، على ما قاله الخرقي، وهو ظاهر
كلام الإمام، واختيار أبي البركات فيكون فيئا، لأن المال لا حرمة له في
نفسه، إنما هو تابع لمالكه حقيقة، وقد انتقض عهد المالك في نفسه، فكذلك في
ماله. (وقال أبو بكر) : لا ينتقض العهد في ماله، كما لا ينتقض في نسائه
وذريته، على ما تقدم، فعلى هذا يدفع إليه إن طلبه، وإن مات فهو لورثته، فإن
لم يكن له وارث فهو فيء.
(6/598)
قال: ومن هرب إلى دار الحرب من ذمتنا ناقضا
للعهد عاد حربا لنا.
ش: يعني أنه يصير حكمه حكم الحربي الأصلي، فيخير الإمام فيه إذا قدر عليه
كالأسير الحربي، وينتقض عهد ماله إعمالا لحكم الدار، ولا خلاف فيما أعلمه
في التخيير، أما انتقاض عهد ماله ففيه الخلاف، فإذا قيل بعدم النقض فيه فقد
تقدم أنه يعطاه إن طلبه، وإن مات فهو لورثته، ولو لم يمت حتى أسر واسترق
فقيل يوقف ماله، ثم إن عتق رد إليه وإن مات رقيقا ففي كونه فيئا أو لورثته
لو كان حرا وجهان، واختار أبو البركات أنه يصير فيئا بمجرد استرقاقه، والله
سبحانه وتعالى أعلم.
(6/599)
|