شرح الزركشي على مختصر الخرقي

 [كتاب الصيد والذبائح]
ش: الصيد في الأصل مصدر صاد يصيد صيدا فهو صائد، ثم أطلق على المصيد، تسمية للمفعول بالمصدر، قال الله تعالى: {لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المائدة: 95] . والصيد: قال ابن أبي الفتح: ما كان ممتنعا حلالا لا مالك له. والأجود قول بعضهم: ما كان متوحشا طبعا، غير مقدور عليه، مأكولا بنوعه.
والأصل في إباحته في الجملة الإجماع، وقد شهد لذلك قَوْله تَعَالَى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ} [المائدة: 4] ، الآية. وقَوْله تَعَالَى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ} [المائدة: 96] ، الآية. وقوله: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة: 2] . ومن السنة فكثير، وسيأتي طرف من ذلك إن شاء الله تعالى.

[شروط الصيد بالحيوان]
قال: ومن سمى فأرسل كلبه أو فهده المعلم، فاصطاد وقتل ولم يأكل منه، جاز أكله.

(6/600)


ش: وذلك لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ} [المائدة: 4] ، أي: أحل لكم الطيبات، وأحل لكم صيد ما علمتم من الجوارح، وقرينة ذلك قَوْله تَعَالَى: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} [المائدة: 4] ، ولو لم يقدر ذلك لزم أن يحل ما علمنا من الجوارح كالكلب ونحوه، ولا قائل بذلك، إذ القائل بحل الكلب لا يخصه بالمعلم.
3499 - وقد «روى أبو ثعلبة الخشني - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قلت يا رسول الله إنا بأرض صيد، أصيد بقوسي، وبكلبي المعلم، وبكلبي الذي غير معلم، فما يصلح لي؟ فقال: «ما صدت بقوسك فذكرت اسم الله عليه فكل، وما صدت بكلبك المعلم، فذكرت اسم الله عليه فكل، وما صدت بكلبك غير المعلم فأدركت ذكاته فكل» » .
3500 - «وعن عدي بن حاتم - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «قال: قلت يا رسول الله، إني أرسل الكلاب المعلمة فيمسكن علي، وأذكر اسم

(6/601)


الله؛ فقال: إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله عليه فكل» . قلت: وإن قتلن؟ قال: «وإن قتلن، ما لم يشركها كلب ليس معها» . قلت: فإني أرمي بالمعراض الصيد فأصيب؟ قال: «إذا رميت بالمعراض فخرق فكله، وإن أصابه بعرضه فلا تأكله» . متفق عليهما.
إذا تقرر هذا فيشترط لإباحة الصيد شروط.
(أحدها) : التسمية عند إرسال الجارح، على المشهور والمختار للأصحاب من الروايات، لما تقدم من الآية الكريمة، ولقوله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: 121] ، الآية، أمر سبحانه بالتسمية ونهى عن أكل ما لم يسم عليه، والأمر ظاهر في الوجوب، كما أن النهي ظاهر في التحريم، ولحديثي أبي ثعلبة وعدي بن حاتم - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فإنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقف حل الأكل على التسمية، فقال: «وما صدت بكلبك المعلم فذكرت اسم الله عليه فكل» . وفي رواية في الصحيح: «واذكر اسم الله» ، بصيغة الأمر.
(والرواية الثانية) : لا تشترط التسمية

(6/602)


مطلقا [وإنما تسن، حملا لهذه الظواهر على ذكر اسم الله بالقلب، وهو لا يخلو حال المسلم عنه] وفي لفظ في الصحيح أيضا «في حديث عدي: فإن وجدت مع كلبي كلبا آخر فلا أدري أيهما أخذه؟ قال: فلا تأكل، فإنما سميت على كلبك، ولم تسم على غيره» . وهو لا يخلو حال المسلم عنه، إذ معنى ذلك القصد إلى فعل ما أباحه الله تعالى على الوجه الذي شرعه، وأصل ذلك أن الذكر هو التنبه بالقلب للمذكور. ومنه قَوْله تَعَالَى: {يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ} [البقرة: 40] .
3501 - وقوله: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها» . ثم يسمى القول الدال على الذكر ذكرا.
3502 - وقد روى أبو داود في المراسيل، وأسنده الدارقطني قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ذبيحة المسلم حلال، ذكر اسم الله أو لم يذكر، إنه إن ذكر لم يذكر إلا اسم الله» .
3503 - «وعن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فيمن نسي التسمية،

(6/603)


قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اسم الله على فم كل مسلم» . رواه الدارقطني. وقد قال الزجاج في قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: 121] ، أي: ما لم يخلصوا ذبحه لله ونحوه. قال أحمد: في معنى الميتة.

(6/604)


وقيل: إن الآية المراد بها ذبائح المشركين. وعلى هذه الرواية تسن خروجا من الخلاف.
(والرواية الثالثة) : تشترط في العمد، ولا تشترط في السهو.
3504 -[لعموم قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «عفي لأمتي عن الخطأ والنسيان» . الحديث.
ولا نزاع أن المذهب هو الأول، وحمل التسمية على ذكر الله بالقلب خلاف ظاهر اللفظ، ثم لا تخصيص للصيد بذلك إذ جميع ما يفعله المكلف يجب أن يذكر اسم الله تعالى فيه بأن يفعله على الوجه الذي ذكره سبحانه. ثم قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فإنما سميت على كلبك، ولم تسم على غيره» ، ظاهر في إبطال هذا التأويل، وحديثا: «ذبيحة المسلم حلال» ، «واسم الله على فم كل مسلم» ، ضعيفان عند أهل المعرفة بالحديث، والعفو في النسيان عن الإثم، ثم قصارى النسيان أن يجعل الموجود كالمعدوم، كالأكل في الصوم، والكلام في الصلاة، ونحو ذلك، لا أنه يجعل المعدوم كالموجود، بدليل أن من نسي الطهارة أو الستارة ونحوهما

(6/605)


لا تصح صلاته، وقد خطأ الخلال حنبلا في التفرقة هنا بين العمد والسهو، وقال: إن في أول مسألته إذا نسي وقتل لم يأكل.
إذا تقرر هذا فصفة التسمية المعتبر: (بسم الله) .
3505 - وقد «ثبت أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا ذبح قال: «بسم الله والله أكبر» ، فإن كبر أو هلل، أو سبح بدلا عنها لم يجزئه. نص عليه أحمد في رواية أبي طالب في التكبير والتحميد، نظر إلى أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بين ذلك بقوله: «بسم الله» ، فيقتصر عليه، وللشيخين احتمال بالإجزاء، لأنه يصدق عليه أنه ذكر اسم الله، فيدخل في الآية والحديث.
ولا نزاع أنه لو قال: اللهم اغفر لي، أنه لا يجزئه، إذ ذلك طلب حاجة، ولو سمى بغير العربية وهو يحسنها فقولان، نظرا إلى ما تقدم من أن المقصود المعنى أو اللفظ، وأبو محمد جزم هنا بالجواز، وهو موافق لاحتماله ثم، والقاضي بالمنع، وقال: إنه المنصوص،

(6/606)


وأظنه أراد رواية أبي طالب.
ومحل التسمية عند الإرسال، لأنه الفعل الموجود من المرسل، فاعتبرت التسمية عنده، كما تعتبر عند الذبح من الذابح، ولا يضر التقديم اليسير كالنية في العبادات، وكذلك التأخير اليسير على إطلاق أحمد، قال: إذا أرسل ثم سمى فانزجر، أو أرسل فسمى. فالمعنى قريب من السواء، وصرح بذلك أبو بكر في التنبيه، وكذلك في التأخر الكثير، بشرط أن يزجره فينزجر، كما دل عليه كلام أحمد، وقاله أبو محمد والشيرازي، نظرا إلى أن الإرسال بدون تسمية وجوده كعدمه، لفقدان شرطه، فتعلق الحكم بالزجر، ومنع ذلك القاضي، نظرا إلى أن الحكم تعلق بالإرسال الأول.
(تنبيه) : عموم كلام الخرقي يشمل الكتابي، وهو إحدى الروايتين عن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لإطلاق: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: 121] . ولعله الحكمة في عدم التصريح بالفاعل، وقياسا على المسلم.
(والرواية الثانية) :

(6/607)


لا تشترط التسمية في حق الكتابي، بخلاف المسلم، لإطلاق: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} [المائدة: 5] .
3506 - قال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وغيره، أي: ذبائحهم. وهي من آخر ما نزل، ونصوص السنة، وكذلك قَوْله تَعَالَى: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ} [المائدة: 4] ، الخطاب فيه للمسلم.
(الشرط الثاني) : أن يرسل الجارح قاصدا للصيد، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا أرسلت كلبك المعلم، وذكرت اسم الله عليه فكل» ، فعلق الحل على ذكر اسم الله مع إرسال كلبه المعلم. (وأفعل) فعل الفاعل، فلا بد أن يوجد منه فعل، وعلى هذا لو استرسل الكلب أو الفهد بنفسه لم يبح، نعم لو استرسل بنفسه فزجره فزاد في طلب الصيد فإنه يباح، لأن زجره لما أثر في عدوه صار بمنزلة إرساله له، إذ فعل الإنسان متى انضاف إلى فعل غيره أنيط الحكم بالإنسان، بدليل ما لو صال كلب على آدمي فأغراه آخر تعلق الضمان عليه به. (ويحتمل) كلام الخرقي المنع، لأنه إنما علق الحكم بالإرسال.
(الشرط الثالث) : أن يكون الجارح معلما بلا نزاع، للآية الكريمة، ولحديثي أبي ثعلبة وعدي بن حاتم - رضي الله

(6/608)


عنهما - وتعليم ذي الناب كالكلب والفهد بأن يسترسل إذا أرسل، وينزجر إذا زجر، بلا نزاع، وبأنه إذا أمسك لم يأكل، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} [المائدة: 4] . والإمساك علينا بأنه لا يأكل إذا أمسك، ولهذا «قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حديث عدي في الصحيح: «فإن أكل فلا تأكل، فإنه إنما أمسك على نفسه» » ، وفي رواية: «فإني أخاف أن يكون إنما أمسك على نفسه» ، فدل على أن إمساكه علينا علامته ترك الأكل.
3507 - وقد صرح بذلك في حديث ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا أرسلت الكلب فأكل من الصيد فلا تأكل، فإنما أمسكه على نفسه، وإذا أرسلته فقتل ولم يأكل فكل، فإنما أمسك على صاحبه» » ، رواه أحمد.
3508 - ولا يعارض هذا ما رواه أبو داود وغيره في حديث أبي ثعلبة: «إذا أرسلت كلبك - ينظر هل فيه (المعلم) - وذكرت اسم الله فكل وإن أكل منه» ، لترجح ما تقدم بكثرة رواته

(6/609)


وصحته، ثم هو محمول على كلب معلم أكل بعد تعليمه، ومن ثم اختلف عن الإمام أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - فيما أكل منه الصائد بعد تعليمه هل يحرم؟ على روايتين، (إحداهما) - وهو المذهب -: يحرم، تقديما لحديث عدي لصحته، قال أحمد: حديث الشعبي عن عدي من أصح ما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقال في حديث أبي ثعلبة: يختلفون عن هشيم فيه؛ ولاعتضاده بحديث ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وظاهر قَوْله تَعَالَى: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} [المائدة: 4] .
(والثانية) : لا يحرم، لحديث أبي ثعلبة، جمعا بين الدليلين كما تقدم، وأحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - جمع بأن حمل حديث عدي على الكراهة.
3509 - فقال: الرخصة في الكلب يأكل من صيده أربعة من أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وإنما حديث عدي في الكراهة. قلت: ويخرج لنا من هذا أنه لا يعتبر ترك الأكل في التعليم رأسا، إذ العمدة في ذلك حديث عدي، وقد حمله الإمام على الكراهة، وقد يقال: العمدة الآية،

(6/610)


ويرجح حمل حديث عدي على الكراهة قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيه في الصحيح: «فإني أخاف أن يكون إنما أمسك على نفسه» » ، فعلله بالخوف.
ويرشح ذلك بأن عديا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لما كان موسعا عليه أفتاه بالكف ورعا، بخلاف أبي ثعلبة.
إذا تقرر هذا فهل يعتبر فيما ذكرناه من التعليم التكرار، لاحتمال أن يكون تركه في أول مرة شبعا؟ وهو قول القاضي، واختيار أبي محمد في المغني وغيرهما، أو لا يعتبر التكرار، بل يكتفى بأول مرة، وبه قطع أبو الخطاب في كتابيه، والشريف وأبو محمد في المقنع، وأورده أبو البركات مذهبا، لأنه تعليم صناعة، فلا يعتبر فيه التكرار كسائر الصنائع؟ على قولين، (وعلى الأول) هل المرجع في ذلك إلى العرف من غير تقدير بمرة أو مرات، لعدم التقدير من الشارع، وهو قول ابن البنا في الخصال، أو يعتبر أن يتكرر ذلك منه مرتين، فيباح صيده في الثالثة، أو ثلاثة مرات فيباح صيده في الرابعة، وهو قول القاضي، ولعل أصل القولين الروايتان في التكرار في الحيض؟ على ثلاثة أقوال.

(6/611)


(تنبيه) : الانزجار بالزجر يعتبر قبل إرساله على الصيد أو رؤيته، أما بعد ذلك فإنه لا ينزجر بحال.
(الشرط الرابع) : أن يكون الإرسال على صيد، فإن أرسل وهو لا يرى شيئا فأصاب صيدا لم يبح، إذ الإرسال جعل بمنزلة الذكاة، ولو نصب سكينا لا لقصد الصيد، فانذبحت بها شاة لم تبح، كذلك ها هنا، وسيأتي إن شاء الله تعالى لهذا الشرط مزيد تمام عند قوله: إذا رمى صيدا فأصاب غيره، ومن ثم يؤخذ هذا.
(الشرط الخامس) أن يكون الصائد من أهل الذكاة، فإن كان وثنيا أو مرتدا، أو من غير المسلمين وأهل الكتاب، أو مجنونا ونحو ذلك لم يبح صيده، إذ الاصطياد أقيم مقام الذكاة، والصائد بمنزلة المذكي، ولهذا قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فإن أخذ الكلب ذكاته» ، وإذا تشترط الأهلية في المذكي، وهذا الشرط يؤخذ من قول الخرقي: ولا يؤكل صيد مرتد. وبقية الشروط أخذها من كلامه واضح.
واختلف في شرطين آخرين:
(أحدهما) : هل يعتبر في الجارح المعلم أن لا يأكل من الصيد؟ وقد تقدم فيه روايتان، وتقدم أن المذهب اعتبار ذلك، وهو الذي ذكره الخرقي، وعليه لو شرب من دمه ولم يأكل فإنه لا يحرم، إذ المنع إنما ورد في أكل ما أكل منه الكلب، فيبقى فيما عداه على مقتضى عموم الآية والخبر.
(والثاني) : هل يعتبر في الجارح أن يجرح الصيد، فلا يباح

(6/612)


ما قتله بخنقه أو صدمته، وهو اختيار أبي الخطاب في خلافه، وبه قطع القاضي في الجامع، والشريف، والشيرازي، وأبو محمد في المغني، أو لا يعتبر فيباح ذلك، وهو اختيار ابن حامد، وظاهر كلام الخرقي، وقال القاضي في المجرد: إنه ظاهر كلام أحمد؟ على روايتين، مناطهما أن خنق الجارح أو صدمه هل هو بمنزلة قتل المعراض بعرضه أم لا؟
3510 - ويرشح الأول مفهوم قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكل» . ويرشح الثاني قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فإن أدركته حيا فاذبحه، وإن أدركته قد قتل ولم يأكل منه فكله، فإن أخذ الكلب ذكاته» . . متفق عليه، وهو يشمل القتل صدما أو خنقا. وأيضا فالجارح حيوان له اختيار ما، وقد أمسك على صاحبه، فيدخل تحت قوله: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} [المائدة: 4] ، بخلاف المعراض، فإنه لا يقال فيه: أمسك عليك.
قال: فإن أكل الكلب أو الفهد من الصيد لم يؤكل منه، لأن أمسكه على نفسه، فبطل أن يكون معلما.
ش: قد تقدمت هذه المسألة، وقد نبه الخرقي على علتها، وهو كونه أمسكه على نفسه، ثم قوله: بطل أن يكون

(6/613)


معلما. ظاهر أنه يصير كالمبتدئ تعليمه، فيعتبر له شروط التعليم ابتداء، وظاهر كلام أحمد - وهو اختيار أبي محمد - عدم ذلك، لاحتمال أن يكون ذلك لفرط جوع أو نحو ذلك.
قال: وإذا أرسل البازي أو ما أشبهه فاصطاد وقتل أكل، وإن أكل من الصيد، لأن تعليمه بأن يأكل.
ش: مذهب أحمد - رحمه لله - أنه لا يقتصر على الكلب في الصيد، بل يلحق به ما في معناه مما يقبل التعليم ويصطاد به من سباع البهائم كالفهد، كما ذكر الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - والنمر كما ذكر بعضهم، أو جوارح الطير كالبازي والصقر ونحوهما، نظرا للمعنى، إذ ما يتأتى من الكلب يتأتى من الفهد مثلا، فلا فارق في المعنى، وهذا هو القياس في معنى الأصل.
3511 - ولما روي «عن عدي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ما علمت من كلب أو باز ثم أرسلته وذكرت اسم الله عليه فكل ما أمسك عليك» . قلت: وإن قتل. قال: «وإن قتل ولم يأكل منه شيئا، فإنما أمسك عليك» .» رواه الإمام أحمد وأبو داود، ثم قَوْله تَعَالَى: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ} [المائدة: 4] ، الجوارح يشمل الجميع، إذ الجوارح الكواسب، ومنه قَوْله تَعَالَى: {وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ} [الأنعام: 60] ، أي:

(6/614)


كسبتم، وقوله سبحانه: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ} [الجاثية: 21] ، وقَوْله تَعَالَى: {مُكَلِّبِينَ} [المائدة: 4] ، أي: مضرين على الصيد كما تضرى الكلاب، فالتكليب: التضرية. وقال أبو محمد: التكليب: الإغراء.
إذا تقرر هذا فلا بد في الجميع من التعليم بلا ريب، فتعليم الفهد ونحوه من سباع البهائم كما تقدم في الكلب، وأما جوارح الطير فبأن ينزجر إذا زجر، ويجيب إذا دعي، ولا يعتبر ترك الأكل، فيخالف الكلب من هذه الحيثية. وقد أشار الخرقي إلى الفرق، وهو أن تعليم الجوارح بالأكل، ويتعذر - تعليمها بدونه، بخلاف الكلب ونحوه.
3512 - وهذا يروى عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: إذا أكل الكلب فلا تأكل الصيد، وإذا أكل الصقر فكل، لأنك تستطيع أن تضرب الكلب، ولا تستطيع أن تضرب الصقر. رواه الخلال.
فإن قيل: فحديث عدي صريح في التسوية بين الكلب والبازي؟ قيل: هو كذلك، لكنه من رواية مجالد وهو ضعيف عندهم. قال أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: تصير القصة واحدة، كم من أعجوبة لمجالد! والرواية

(6/615)


الصحيحة تخالفه، اهـ، والله أعلم.

[حكم الصيد بالكلب الأسود]
قال: ولا يؤكل ما صيد بالكلب الأسود إذا كان بهيما، لأنه شيطان.
ش: قد ذكر الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - الحكم وأشار إلى دليله وهو أنه شيطان، والشيطان آلة محرمة، وإباحة الصيد المقتول رخصة، والرخصة لا تباح بمحرم.
3513 - ودليل كونه شيطانا ما «روى جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: أمرنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بقتل الكلاب، حتى إن المرأة تقدم من البادية بكلبها فنقتله، ثم نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن قتلها، وقال: «عليكم بالأسود البهيم ذي الطفيتين، فإنه شيطان» » . رواه أحمد ومسلم.
3514 - وعن عبد الله بن مغفل - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لولا أن الكلاب أمة من الأمم لأمرت بقتلها، فاقتلوا منها الأسود البهيم» . رواه الخمسة وصححه الترمذي، ثم إنه مأمور بقتله، وإذا يحرم

(6/616)


اقتناؤه وتعليمه، فلم يبح صيده كغير المعلم، وقد قال أحمد: لا أعلم أحدا يرخص فيه. يعني: من السلف.
(تنبيه) : البهيم: الذي لا يخالطه لون آخر، قال ثعلب وإبراهيم الحربي: كل لون لم يخالطه لون آخر فهو بهيم. قيل لهما: من كل لون؟ قالا: نعم. فإن كان فيه نكتتان فوق عينيه فهل يخرج بذلك عن كونه بهيما؟ فيه روايتان أصحهما - وبه قطع أبو محمد - لا، للخبر.

[حكم أدرك الصيد وفيه روح فلم يذكه حتى مات]
قال: وإذا أدرك الصيد وفيه روح فلم يذكه حتى مات لم يؤكل.
ش: الذي تقدم للخرقي فيما إذا قتل الجارح الصيد، وأما إذا لم يقتله وأدركه الصائد حيا فلا يخلو إما أن يكون فيه حياة مستقرة أم لا، فإن لم يكن بل كانت كحياة المذبوح فإنه يحل بلا ريب، إذ ذلك مذكى، أو بمنزلة المذكى، فالذكاة لا تفيد فيه شيئا. وإن كانت فيه حياة مستقرة فلا يخلو إما أن يتسع الزمان لذكاته أم لا، فإن لم يتسع فهو كالأول، لأنه لم يقدر على ذكاته بوجه، أشبه الذي قبله، وفي حديث أبي ثعلبة: «فأدركت ذكاته فكل» » ، أي: فذكه وكل، وهذا لم يدرك ذكاته، فلم يدخل تحت الأمر بالذكاة، وإن اتسع الزمان لذكاته لم يحل إلا بها، لأنه حيوان مقدور عليه، أشبه ما لو لم يصده، وقد تقدم قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -

(6/617)


في حديث عدي: «فإن أمسك عليك فأدركته حيا فاذبحه، وإن أدركته قد قتل ولم يأكل منه فكله، فإن أخذ الكلب ذكاته» . واعلم أن هذا التقسيم تبعت فيه أبا محمد، وقد يقال: إن القسم الأول لا يدخل تحت التقسيم، إذ ما حركته كحركة المذبوح هو بإطلاق المذكى عليه أولى من إطلاق الحي، وعلى هذا لا يدخل هذا القسم تحت كلام الخرقي، نعم كلامه يشمل القسمين الأخيرين، وهذا ظاهر حديث عدي.

قال: فإن لم يكن معه ما يذكيه به أشلى الصائد له عليه حتى يقتله فيؤكل.
ش: هذا إحدى الروايات عن إمامنا - رَحِمَهُ اللَّهُ - واختيار الخرقي، وأبي الخطاب في الهداية، لأنه صيد قتله الجارح، من غير إمكان ذكاته فيباح، كما لو أدركه ميتا يحققه أن قتل الجارح الصيد، إنما جعل ذكاة له رخصة لتعذر تذكيته، وهذا قد تعذرت تذكيته.
ومقتضى هذه الرواية أنه لو مات من غير إشلاء لم يحل وإن كان عن قرب، وهو اختيار أبي محمد وأبي الخطاب، لأنه حيوان مقدور عليه أشبه ما لو وجد آله.
(والرواية الثاني) : عكس هذه الرواية، يحل بالموت من الجرح عن قرب الزمان، دون إشلاء الصائد، اختاره القاضي أظنه في المجرد، إذ ما قارب الشيء بمنزلته، ولو كان الزمان لا يتسع للذكاة

(6/618)


أبيح، فكذلك ما قاربه، وأما قتل الجارح فإنما يؤثر في غير المقدور عليه، وهذا مقدور عليه.
(والرواية الثالثة) : يحل بهما بإشلاء الجارح، أو الموت عن قرب الزمان لما تقدم.
(والرواية الرابعة) - وهي اختيار أبي بكر وابن عقيل في التذكرة -: لا يحل مطلقا، وهو الراجح، لظاهر حديثي عدي وأبي ثعلبة، فإنهما ظاهران في وجوب تذكية ما أدركه حيا، ولأنه مقدور عليه، فأشبه بهيمة الأنعام، وقرب الزمان فسره أبو البركات بأن لا يمضي عليه معظم يوم.
ومحل الخلاف إذا لم يوجد ما يذكيه به، كما ذكره الخرقي، وفي معناه إذا كان يمكنه الذهاب به إلى منزله فيذكيه ونحو ذلك، فإنه لا يحل إلا بالذكاة.
(تنبيه) : «أشلى» ، بمعنى: دعى، يقال: أشليت الكلب: إذا دعوته إليك، والعامة تقول: أشليته: إذا حرضته على الصيد وأغريته به، وإنما يقال في ذلك: أشرته على الصيد، فعلى هذا يحمل كلام الخرقي على أنه دعاه ثم أرسله، لأن إرساله على الصيد يتضمن دعاءه إليه، مع أن بعضهم أجاز أشلى بمعنى أغرى.

(6/619)


قال: وإذا أرسل كلبه فأصاب معه غيره لم يأكل الصيد إلا أن يدركه في الحياة فيذكيه.
ش: أما إذا أدركه في الحياة وذكاه فواضح، وأما إذا لم يدركه في الحياة، والحال ما تقدم فإنما لم يحل لأن في حديث عدي: «إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله عليه فكل» . قلت: وإن قتلن؟ قال: «وإن قتلن، ما لم يشركها كلب ليس معها» . وفي رواية: «وإن خالطها كلاب من غيرها فلا تأكل» . وفي رواية: «قلت: فإن وجدت مع كلبي كلبا آخر، فلا أدري أيهما أخذه؟ قال: فلا تأكل، فإنما سميت على كلبك، ولم تسم على غيره» . وفي رواية: «فإن وجدت عنده كلب آخر، فخشيت أن يكون أخذه معه وقد قتلنه فلا تأكل، فإنما ذكرت اسم الله على كلبك، ولم تذكر على غيره» . روى الجميع مسلم.
وقد علم من تعليل هذه الروايات - وعليه يحمل كلام الخرقي - أن هذا الحكم في كل كلب جهل حاله؛ هل سمي عليه أو لم يسم؟ وهل استرسل بنفسه أو أرسله صاحبه؟ أو جهل حال مرسله؛ هل هو من أهل الذكاة أم لا؟ ولا يعلم أيهما قتله، أو يعلم أنهما قتلاه معا، وكذلك بطريق الأولى إن علم أن المجهول هو القاتل، أما إن علم حال الكلب الذي وجده مع كلبه، وأن الشرائط المعتبرة قد وجدت فيه، فإنه

(6/620)


يحل، ثم إن كان الكلبان قد قتلاه معا فهو لصاحبيهما، وإن علم أن أحدهما قتله فهو لصاحبه، وإن جهل الحال فإن كان الكلبان متعلقين به فهو بينهما، كما لو كان الصيد في يد عبديهما، وإن كان أحدهما متعلقا به دون الآخر، فهو لمن كلبه متعلق به، إذ هو بمنزلة يده، وعلى من حكم له به اليمين كصاحب اليد.
وإن كان الكلبان ناحية والصيد قتيل، فقال أبو محمد: يقف الأمر حتى يصطلحا، وحكى احتمالا بالقرعة، فمن قرع حلف وأخذ، وهذا قياس المذهب فيما إذا، تداعيا عينا ليست بيد أحد، وعلى الأول إن خيف فساده بيع واصطلحا على ثمنه، والله أعلم.

قال: وإذا سمى ورمى صيدا فأصاب غيره جاز أكله.
ش: لعموم قَوْله تَعَالَى: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} [المائدة: 4] ، وحديث عدي وغيره، ولأنه أرسل آلة الصيد قاصدا للصيد، فحل ما صاده، كما لو أرسلها على كبار، فتفرقت عن صغار، فأخذها على مالك، أو كما لو أخذ صيدا لا يحل في طريقه على الشافعي.
ومفهوم كلام الخرقي أنه لو رمى لا إلى صيد فأصاب صيدا أنه لا يحل، لأن قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «إذا أرسلت كلبك» ، معناه: إلى صيد، وهنا لم يرسل إلى صيد. ولأبي محمد في الكافي احتمال بالحل، كما لو أرسل على صيد فأصاب

(6/621)


غيره، وعموم مفهوم كلام الخرقي يشمل ما إذا قصد غير صيدا قصدا محققا، كأن قصد حجرا أو هدفا أو إنسانا فأصاب صيدا، أو مظنونا كأن رأى سوادا أو خشبا فظنه آدميا، فرماه فإذا هو صيد، وما إذا رمى لا إلى صيد فأصاب صيدا. وقول الخرقي: ورمى صيدا، يحتمل أن يريد ما يظنه صيدا، إذ الأحكام تنبني على غلبة الظن، فيدخل في ذلك ما إذا رأى سوادا فظنه صيدا، فوجده كذلك، وما إذا رمى حجرا يظنه صيدا فأصاب صيدا، وهو أحد الوجهين، ويحتمل أن يريد: رمى صيدا محققا، فيخرج هاتين الصورتين، لكن صورة السواد لم نر فيها خلاقا.
وقد علم من كلام الخرقي جواز الصيد بالسهام، ويلحق بها ما في معناها من المحددات، ولا نزاع في ذلك، وفي الصحيح في حديث عدي: «وإن رميت بسهمك فاذكر اسم الله» ، وفي حديث أبي ثعلبة: «ما صدت بقوسك فاذكر اسم الله عليه ثم كل» » .
قال: وإذا رماه فغاب عن عينيه، فأصابه ميتا وسهمه فيه، ولا أثر به غيره، جاز أكله.
ش: هذا هو المشهور من الروايات، واختيار الخرقي

(6/622)


والقاضي، والشريف وأبي الخطاب في خلافيهما، وأبي محمد وغيرهم.
3515 - لأن في حديث عدي: «وإن رميت بسهمك فاذكر اسم الله عليه، فإن غاب عنك يوما فلم تجد فيه إلا أثر سهمك فكل إن شئت، وإن وجدته غريقا في الماء فلا تأكل» . رواه مسلم وغيره، وفي رواية: «إذا رميت الصيد فوجدته بعد يوم أو يومين ليس فيه إلا أثر سهمك فكل، فإن وقع في الماء فلا تأكل» . رواه البخاري.
3516 - وفي حديث أبي ثعلبة الخشني: «إذا رميت بسهمك فغاب عنك فكل ما لم ينتن» . وفي رواية، «في الذي يدرك صيده بعد ثلاث: فكله ما لم ينتن» . رواهما مسلم وغيره.
(والرواية الثانية) : إن غاب نهارا فلا بأس، وإن غاب ليلا لم يأكله، قال في رواية ابن منصور: إذا غاب الصيد فلا تأكله إذا كان ليلا، وإذا كان نهارا ولم ير به أثرا غيره يأكله.
3517 - لما يروى عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أنه قال: إذا رميت فأقعصت فكل، وإن رميت فوجدت فيه سهمك من

(6/623)


يومك أو ليلتك فكل، وإن بات عنك ليلة فلا تأكل، فإنك لا تدري ما حدث فيه بعدك.
(والرواية الثالثة) إن كان جرحه موحيا حل وإن فلا، لأن مع الإيحاء يبعد تأثير المشاركة، بخلاف ما إذا لم يوح.
3518 - وفي بعض روايات «حديث عدي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: سألت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قلت: أرضنا أرض صيد، فيرمي أحدنا الصيد فيغيب عنه ليلة أو ليلتين، فيجد فيه سهمه؟ قال: «إذا وجدت سهمك ولم تجد فيه أثرا غيره، وعلمت أن سهمك قتله فكله» . رواه أحمد والنسائي، «وفي رواية أخرى قلت: يا رسول الله أرمي الصيد فأجد فيه سهمي من الغد؟ قال: «إذا علمت أن سهمك قتله ولم تر فيه أثر سبع فكله» . رواه الترمذي وصححه. فوقف

(6/624)


- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الحل على العلم بكون سهمه قتله، ولا نعلم ذلك إلا إذا كان الجرح موحيا.
(والرواية الرابعة) : إن غاب مدة طويلة لم يبح، وإن كانت يسيرة أبيح، قيل له: إن غاب يوما؟ قال: يوم كثير. ذكرها أبو محمد، ولم يذكرها عامة الأصحاب، كأنهم حملوها على الرواية الثانية.
وعن أحمد (رواية خامسة) : كراهية ما غاب مطلقا.
3519 - ويروى نحوه عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - خروجا من الخلاف. والمذهب هو الأول بلا ريب. وأرجح الروايات بعده رواية التفرقة بين الإيحاء وعدمه، بناء على الزيادة المذكورة في حديث عدي، وقد تقدم أن الترمذي صحح ذلك، والزيادة من الثقة مقبولة، ويجاب عن ذلك بأن رواية الصحيحين وغيرهما تخالف ذلك، أو يحمل العلم بالقتل على الظن، وإذا وجد فيه سهمه أو أثره فقد ظن أن سهمه قتله، وإذا تتفق الروايات.
واعلم أن علم المذهب يشترط للحل شرطان: (أحدهما) أن يجد فيه سهمه، ليتحقق وجود السبب المقتضي للحل، إذ الأصل عدم ما سواه، ويقوم مقام وجود سهمه وجود أثره، قاله الشيخان وغيرهما، لما تقدم

(6/625)


في حديث عدي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «ليس به إلا أثر سهمك فكل» . وفي رواية: «فلم تجد فيه إلا أثر سهمك فكل» . وظاهر ذلك الاكتفاء بأثر السهم. وكلام الخرقي وطائفة من الأصحاب يوهم اشتراط وجود سهمه فيه، وسؤال أحمد وقع عمن عرف سهمه فيه أيأكله؟ قال: نعم.
ولو لم يجد سهمه فيه ولا أثره، كأن غاب الصيد قبل تحقق الإصابة، ثم وجده عقيرا، والسهم ناحية، فإنه لا يباح، لأن السبب المقتضي للحل لم يعلم، والأصل التحريم.
(الشرط الثاني) : أن لا يجد به أثرا آخر يحتمل أنه أعان في قتله، لما تقدم في الحديث، وذلك لأنه والحال هذه قد تحقق المعارض، والأصل التحريم، فلم يبح بالشك، ولو كان الأثر مما لا يحتمل القتل به كالسنور ونحوه لم يؤثر، إذا المعارض والحال هذه وجوده كعدمه.
وفي الصحيحين في حديث عدي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «فإن وجدته قد قتل فكل، إلا أن تجده قد وقع في ماء، فإنك لا تدري الماء قتله أو سهمك» . وإذ كان الأثر مما لا يحتمل إعانته في القتل فقد روي أنه ليس بقاتل فلا شك.
(تنبيهان) «أحدهما» : حكم الكلب إذا عقر ثم غاب حكم السهم، على ما تقدم من الخلاف إن لم يجد الصيد

(6/626)


في فمه، فأما إن وجده في فم الكلب، أو وهو يعبث به، فإنه يحل بلا خلاف، على ما حكى أبو البركات.
(الثاني) : «ينتن» ، رباعي مضموم الأول، من: أنتن الشيء: إذا تغيرت رائحته، وقال بعض اللغويين: يقال: أنتن اللحم: إذا تغير بعد طبخه. وقيل: وأصله إذا تغير وهو نيئ. وهذا الحديث يرد ما قاله، بل يقال: أنتن اللحم نيئا أو مطبوخا.

[الحكم لو رمى الصيد فوقع في ماء أو تردى من جبل]
قال: وإذا رماه فوقع في ماء أو تردى من جبل لم يؤكل.
ش: هذا يشمل ما إذا كانت الجراحة موحية، كما إذا ذبحه، أو أخرجت حشوته ونحو ذلك، وما إذا لم تكن موحية، ولا خلاف في التحريم إذا لم تكن موحية، للشك في السبب المقتضي للحل، وقد قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وإن وجدته قد قتله فكل، إلا أن تجده قد وقع في ماء، فإنك لا تدري الماء قتله أو سهمك» . متفق عليه.
وأما إذا كانت موحية (فعنه) - وقال أبو محمد: إنه المشهور عنه، وهو ظاهر كلام الخرقي، وأبي بكر، وبه جزم الشيرازي - التحريم أيضا، لما تقدم من قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «وإن وجدته غريقا في الماء فلا تأكل» . رواه

(6/627)


مسلم، وفي البخاري: «وإن وقع في الماء فلا تأكل» .
(وعنه) - وهو الصواب، وقال أبو محمد: إنه اختيار أكثر المتأخرين -: لا يحرم، لما تقدم من قوله: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فإنك لا تدري الماء قتله أو سهمك» . وإذا كان الجرح موحيا فقد علم أن سهمه قتله فلا تردد، ومحل الخلاف فيما إذا كان الماء أو التردي يقتله، مثله، فلو لم يكن يقتله مثله، كما إذا كان رأس الحيوان خارجا من الماء، أو كان مما لا يموت بالماء كطير الماء، فإنه لا خلاف في إباحته، قاله أبو محمد، إذ لا شك إذا في أن الماء لم يقتله. ولهذا قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وإن وجدته غريقا في الماء فلا تأكل» .
(تنبيه) : لو رمى طائرا في الهواء، أو على شجرة أو جبل فوقع إلى الأرض فمات حل، قاله أبو محمد، ولم يذكر خلافا، لعدم إمكان التحرز من ذلك، ومسألة الخرقي فيما إذا رمى الصيد فوقع على جبل، ثم تردى منه، أو على شجرة ثم تردى منها، والله أعلم.

قال - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وإذا رمى صيدا فقتل جماعة فكل ذلك حلال.

(6/628)


ش: قد تقدم نحو هذه المسألة في قوله: إذا رمى صيدا فأصاب غيره. إلا أن ثم أصاب غير الصيد الذي قصده، وهنا أصابه مع غيره، وهو أولى بالجواز مما ثم، والله أعلم.

[الحكم لو رمى صيدا فأبان منه عضوا]
قال: وإذا رمى صيدا فأبان منه عضوا لم يأكل ما أبان منه، وأكل ما سواه في إحدى الروايتين عن أبي عبد الله - رَحِمَهُ اللَّهُ - والرواية الأخرى: يأكله وما أبان منه.
ش: محل هذا الخلاف فيما إذا أبان منه عضوا وبقيت فيه حياة غير مستقرة، وقد أشار الخرقي إلى ذلك بقوله: وأكل ما سواه. وإنما يأكل ما سواه إذا مات في الحال، وذلك إذا كانت الحياة فيه غير مستقرة، أما لو ضربه فقطع رأسه، أو قطعه نصفين، فإن هذا يحل بلا نزاع، إذ هذا ذكاة، ولو أبان منه عضوا وبقيت فيه حياة معتبرة فإنه لا يحل ما بان منه بلا نزاع.
3520 - لانطباق قوله: - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «ما أبين من حي فهو ميت» ، عليه، اللهم إلا أن يكون مما يحل ميتته

(6/629)


كالسمك والجراد، فإنه يحل ما بان منه، إذ غاية المبان أنه ميتة، وميتة هذا حلال.
إذا تقرر هذا (فوجه الرواية الأولى) قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ما أبين من حي فهو ميت» . وهذا يصدق عليه أنه أبين من حي فيكون ميتا، (ووجه الثانية) - وهي المشهورة، والمختارة لعامة الأصحاب، أبي بكر والقاضي والشريف، وأبي الخطاب والشيرازي، وابن عقيل وابن البنا - أن ما كان ذكاة لبعض الحيوان كان ذكاة لجمعيه.
والخبر نقول بموجبه، إذ هذا ما أبين من حي، إنما أبين ممن هو في حكم الميت، وقد أشار أحمد إلى ذلك فقال: إنما حديث النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «ما قطعت من الحي ميتة» ، إذا قطعت وهي حية تمشي وتذهب، أما إذا كانت البينونة والموت جميعا، أو بعده بقليل فلا بأس به، ألا ترى الذي يذبح ربما مكث ساعة، وربما مشى حتى يموت، اهـ.
وقول الخرقي: أبان منه عضوا، ظاهره أنه لو بقي معلقا بجلده حل بحل الصيد بلا خلاف، وهو كذلك، صرح به أبو الخطاب، وغيره، والله أعلم.

[نصب المناجل للصيد]
قال - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وكذلك إذا نصب المناجل للصيد.

(6/630)


ش: يعني أنه يباح الصيد المقتول بها، وأن ما أبين منه هل يحل أم لا؟ على الخلاف والتفصيل السابق.
3521 - وذلك لدخوله في عموم: «كل ما ردت عليك يدك» ، ولأنه قتل الصيد بحديدة، على الوجه المعتاد، أشبه ما لو رماه بها، وحكم السكاكين حكم المناجل، ولا بد أن يلحظ أن شرائط الصيد موجودة في الناصب، كأن يكون أهلا للذكاة ويسمي.
بقي: هل يشترط أن يرى الصيد كما في السهم والكلب؟ لم أر من صرح بذلك، بل ربما كلامهم يوهم عدم ذلك، والله أعلم.

[حكم الصيد بالمعراض]
قال: وإذا صاد بالمعراض أكل ما قتل بحده، ولم يأكل ما قتل بعرضه.
ش: في الصحيح من «حديث عدي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -

(6/631)


قال: فقلت له: إني أرمي بالمعراض الصيد فأصيب؟ قال: «إذا رميت بالمعراض فخزق فكله، وإن أصابه بعرضه فلا تأكله» . وفي لفظ: «إذا أصابه بحده فكل، وإذا أصابه بعرضه فقتل فإنه وقيذ فلا تأكله» » .
(تنبيهان) : أحدهما: المعراض: خشبة ثقيلة، أو عصا غليظة، في طرفها حديدة، وقد تكون بغير حديدة، غير أنها يحدد طرفها. وقال أبو عبيد: هو سهم لا ريش فيه ولا نصل. والتفسير الأول أليق بالحديث، وحكم سائر آلات الصيد حكم المعراض في أنها إذا قتلت بعرضها ولم تجرح لم يبح الصيد، وإن قتلت بحدها أبيح، إلا أن لا تجرح.
3522 - وفي المسند من «حديث عدي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قلت يا رسول الله إنا قوم نرمي فما يحل لنا؟ قال: «يحل لكم ما ذكرتم اسم الله عليه، وخزقتم، فكلوا منه» » .
(الثاني) : «الوقيذ» : فعيل بمعنى مفعول، أي: الموقوذ، وهو: المضروب بالعصا حتى يموت، وبه فسر قَوْله تَعَالَى: {وَالْمَوْقُوذَةُ} [المائدة: 3] ، والله أعلم.

(6/632)


قال: وإذا رمى صيدا فعقره، ورماه آخر فأثبته، ورماه آخر فقتله، لم يؤكل.
ش: أما عقر الأول فلم يؤثر في الصيد ملكا لعدم إثباته له، وأما رمي الثاني فإنه ملكه بإثباته، لأنه أزال امتناعه، وإذا تتعين ذكاته للقدرة عليه، فلما رماه الثالث فقتله لم يؤكل، لأن ذكاته بذبحه أو نحره، ولم يوجد واحد منهما.
وكلام الخرقي محمول على أن من أثبته لم يوحه، ولذلك نسب القتل إلى الثالث، وعلى أن الثالث لم يذبحه، ولذلك أتى بلفظ القتل في حقه، أما إن كان المثبت له جرحه موحيا، وجرح الثالث غير موح فإنه يحل بلا ريب، لأنه قد صار بالجرح الأول في حكم المذبوح، فلم يؤثر الثاني شيئا، وكذلك إن كان جرح الثالث موحيا لذلك.
وخرج التحريم من قول الخرقي فيمن ذبح فأتى على المقاتل، فلم تخرج الروح حتى وقعت في ماء، أو وطئ عليها شيء لم تؤكل. وقوله أيضا - فيما إذا رماه فوقع في ماء أو تردى من جبل - لم يؤكل، وأما إن كان الثالث أصاب مذبحه فإنه يحل، لمصادفته محل الذبح، نعم إن قيل أن من ذبح ملك الغير لا يحل، فكذلك ها هنا.
قال: وكان لمن أثبته القيمة مجروحا على من قتله.
ش: قد علم من هذا أن العاقر له لا شيء له، لأنه لم يثبت له فيه حق، لبقائه على امتناعه، ولا عليه، لأنه حين

(6/633)


ضربه كان مباحا، أما من أثبته فله القيمة على قاتله، لأنه ملكه بالإثبات لإزالته امتناعه، فالثالث قتل حيوانا مملوكا لغيره، فيكون عليه الضمان.
وقد تقدم أن مسألة الخرقي فيما إذا كان المثبت له لم يوحه، وأن القاتل لم يذبحه. ولنبين ذلك إن شاء الله تعالى بيانا شافيا فنقول: المثبت إن أوحاه فلا شيء على الثالث إلا قيمة ما خرق من جلده، لأنه هو الذي فوته على المثبت، وإن كان المثبت لم يوحه فلا يخلو، إما أن يكون الثالث ذبحه برميته أو لا.
فإن كان قد ذبحه بها فقال الشيخان في مختصريهما: لا شيء عليه أيضا إلا قيمة ما خرق من جلده. وقال في المغني: عليه أرش ذبحه، كما لو ذبح شاة لغيره، وهذا أصوب في النظر، فإن الفرض أن المثبت لم يوحه، فلو ترك لعاش، فالثالث فوت حياته، فيكون عليه أرش ذلك، وهو تفاوت ما بين قيمته مجروحا حيا بالجرح الأول، وبين قيمته مذبوحا.
وإن لم يكن ذبحه برميته فلا يخلو إما أن يوحيه برميته أو لا، فإن أوحاه ضمن جميعه، لأنه حرمه على مالكه، وحال بينه وبينه، وكذلك إن لم يوحه ولم يدرك مالكه ذكاته، أما إن أدرك مالكه ذكاته وذبحه أو تركه فعاش فلا شيء عليه الثالث إلا أرش جرحه.
وإن تركه بلا ذكاة حتى مات بالجرح. (فقيل) : إن الثالث يضمن جميعه أيضا، نظرا إلى أنه مات من جرحين

(6/634)


مباح ومحرم، فاختص الضمان بالمحرم. (وقيل) - وهو قول القاضي -: يضمن نصف قيمته مجروحا بالجرحين، مع أرش ما نقصه بجرحه، لأنه مات من الجرحين، ومالكه لما ترك ذكاته اختار موته، فتعلق الضمان بجرحه، ثم يجب على الثالث مع نصف القيمة أرش ما نقصه بجرحه، لانفراده إذا بالتعدي.
(وقيل) - وهو اختيار أبي البركات - إن الثالث إنما يضمن نصف قيمته مجروحا بالجرح الأول لا غير، ويدخل أرش الجرح في بدل النفس، كما في الجناية على الآدمي، والله أعلم.

قال: ومن كان في سفينة فوثبت سمكة فسقطت في حجره، فهي له دون صاحب السفينة.
ش: السمك من المباح، يملكه من سبق إليه، فإذا وقع في حجر إنسان فهو له، لثبوت يد الإنسان على ما في حجره، هذا اختيار الخرقي، وتبعه عليه أبو محمد وغيره. (وقيل) : هو قبل الأخذ على الإباحة، إذ حجره ملكه، فهو كما لو وقع في أرضه صيد. ومفهوم كلام الخرقي أن السمكة لو وقعت في السفينة كانت لمالكها، وكذلك قال ابن أبي موسى، وقياس القول الآخر أنها تكون قبل الأخذ على الإباحة.

[حكم صيد السمك بالشيء النجس]
قال: ولا يصاد السمك بشيء نجس.
ش: كالميتة والعذرة ونحو ذلك، لما يتضمن من أكل

(6/635)


السمك للنجاسة، وكره أحمد أيضا الصيد ببنات وردان معللا بأن مأواها الحشوش، وكذلك الصيد بالضفدع، معللا بالنهي عن قتله، وهذا المنع من الخرقي يحتمل التحريم ويحتمل الكراهة، وهو المشهور، وكذلك كلام أحمد يحتمل وجهين، لأنه كره ذلك.

[ذبيحة المرتد وصيده]
قال: ولا تؤكل ذبيحة مرتد ولا صيده، وإن تدين بدين أهل الكتاب.
ش: لأنه كافر لا يقر على كفره، أشبه عبدة الأوثان وقوله: وإن تدين بدين أهل الكتاب، ينبه به على مذهب إسحاق والأوزاعي فإنهما أجازا ذبيحته إذا تدين بدين أهل الكتاب. وقوله: «ولا يؤكل صيد مرتد» ، أي: ما قتله من الصيد. أما ما لم يقتله وذكاه من هو من أهل الذكاة فلا إشكال في حله. والله أعلم.

[ترك التسمية على الصيد أو الذبيحة عمدا أو سهوا]
قال: ومن ترك التسمية على صيد عامدا أو ساهيا لم يؤكل.
ش: قد تقدمت هذه المسألة والخلاف فيها، وظاهر كلام الخرقي أنه لا فرق بين الصيد بالكلب والسهم، وهو المذهب. (وعن

(6/636)


أحمد) رواية أخرى يعفى عن تركها سهوا في السهم، إلحاقا له بالذبح، بخلاف الكلب، والله أعلم.

قال: ومن ترك التسمية على الذبيحة عامدا لم تؤكل، وإن تركها ساهيا أكلت.
ش: ملخص ذلك أن الخلاف الذي تقدم في الصيد مثله في الذبيحة، والتوجيه كالتوجيه، إلا أن الأصحاب لا يختلفون فيما علمت في اشتراط التسمية في الصيد مطلقا. ثم منهم من المذهب عنده في الذبيحة كذلك، كأبي الخطاب في خلافه. ومنهم - وهم العامة - من فرق بينهما. ثم منهم من قال بعدم الاشتراط في الذبيحة مطلقا وهو أبو بكر. ومنهم من قال بالاشتراط في العمدية دون حالة السهوية، وهم الأكثرون؛ الخرقي والقاضي في روايتيه، وأبو محمد وغيرهم.
ووجه الفرق أن الله تعالى أمرنا بالتسمية على الصيد بقوله:

(6/637)


{وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ} [المائدة: 4] . وكذلك النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حديث أبي ثعلبة وعدي وغيرهما، والذبيحة لم يرد فيها ذلك، فالأصل عدم الاشتراط، مع أن عموم قَوْله تَعَالَى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} [المائدة: 5]- والظاهر أنهم لا يسمون - يقتضي ذلك.
3523 - وقد جاء في حديث رواه ابن منصور في سننه، عن راشد بن سعد قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ذبيحة المسلم حلال وإن لم يسم» . وقَوْله تَعَالَى: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: 121] ، وقد تقدم أن المراد بها الميتة وذبائح المشركين، وقيل: المراد بها ما تعمد ترك التسمية عليه، بدليل قَوْله تَعَالَى: {وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} [الأنعام: 121] . مع أنها متقدمة على قوله: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} [المائدة: 5] ، ويعضد هذا من جهة المعنى أن الذبح وقع في محله، فجاز أن يسامح فيه بخلاف الصيد.
(تنبيهان) : «أحدهما» : الجاهل بوجوب التسمية لا يعذر، بخلاف الناسي، ولذلك أفطر الجاهل بالأكل في الصوم

(6/638)


دون الناسي.
«الثاني» : يشترط قصد التسمية على ما يذبحه، فلو سمى على شاة وأخذ غيرها فذبحها بتلك التسمية لم يجزئه، لعدم قصدها بالتسمية، وكذلك لو رأى قطيعا فسمى وأخذ منه شاة فذبحها بالتسمية الأولى لم يجزئه، ولا يشترط أن يقصد بالتسمية صيدا معينا، فلو سمى على صيد فأصاب غيره حل، دفعا للحرج والمشقة، نعم هل يشترط قصد الآلة بالتسمية، فلو سمى على سهم ثم ألقاه وأخذ غيره فرمى بالثاني من غير تسمية لم يجزئه، لأنه لما تعذر غالبا اعتبار التسمية على صيد بعينه اعتبرت على آلته، أو لا يشترط كما في الذبيحة، فإنه لو سمى على سكين ثم ألقاها وأخذ غيرها أجزأه؟ فيه قولان، والله أعلم.

قال: وإن ند بعيره فلم يقدر عليه فرماه بسهم أو نحوه مما يسيل به دمه وقتله أكل.
3524 - ش: الأصل في ذلك ما «روى رافع بن خديج قال: كنا مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في سفر، فند بعير من إبل القوم، ولم يكن معهم خيل، فرماه رجل بسهم فحبسه، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن لهذه البهائم أوابد كأوابد الوحش، فما فعل منها هذا فافعلوه به هكذا» . رواه الجماعة، وزاد الحميدي: «وكلوه» .

(6/639)


3525 - وعليه يحمل «حديث أبي العشراء، عن أبيه - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: قلت: يا رسول الله، أما تكون الزكاة إلا في الحلق واللبة؟ قال: «لو طعنت في فخذها لأجزأك» . رواه الخمسة.
وقول الخرقي: ند بعير: تبع فيه واقعة الحديث، ويلحق به ما في معناه، ولهذا عمم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الحكم فقال: «إن لهذه البهائم» . وقوله: فلم يقدر عليه. هذه صورة المسألة، وإلا لو قدر عليه وجبت ذكاته، وقوله: فرماه بسهم أو نحوه، يحترز به عما لو رماه بما لا يجرحه فقتله فإنه لا يباح، كما إذا قتل بثقل المعراض، والله أعلم.

(6/640)


قال: وكذلك إن تردى في بئر أو نحوه فلم يقدر على تذكيته، فجرحه في أي موضع قدر عليه فقتله أكل.
ش: لأنه ساوى البعير إذا ند معنى، فساواه حكما إذ المعنى فيهما عدم القدرة على الذكاة الأصلية.
3526 - ويروى أن بعيرا تردى في بئر فذكي من قبل شاكلته، فبيع بعشرين درهما، فأخذ ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عشره بدرهمين، والله أعلم.

قال: إلا أن يكون رأسه في الماء فلا يجوز أكله، لأن الماء يعين على قتله.
ش: يعني أن المتردي في بئر أو نحوه إذا كان رأسه في الماء فلا يحل، لما علل به الخرقي من أن الماء قد أعان على قتله، وإذا حصل قتله بسبب مباح ومحرم فغلب جانب التحريم.
وأيضا من شرط الحل وجود الذكاة المعتبرة أو ما يقوم مقامها، وهنا لم يعلم وجود ذلك، وبهذا فارق إذا رمى الصيد فوقع في ماء وكان جرحه موحيا، لأن ثم قد علم وجود السبب، وشك في المانع.

(6/641)


وقد علم من كلام الخرقي هنا بطريق التنبيه أن من شرط الماء ثم أن يعين على قتل الصيد.

[صيد الكتابي]
قال: والمسلم والكتابي في كل ما وصفت سواء.
ش: يعني في الاصطياد، فيباح ما صادوه، خلافا لمالك في منعه في صيدهم، بخلاف ذبائحهم، والحجة عليه عموم: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} [المائدة: 5] . وفي أنه يشترط لصيدهم ما يشترط لصيد المسلمين، وكذلك يشترط لذبيحتهم التسمية حيث اشترطت في المسلمين، وقد تقدم.
وعن أحمد في هذه المسألة روايتان، ثم ظاهر كلام الخرقي أن حربي أهل الكتاب كذميهم، وقد قال أحمد في ذبائح أهل الحرب: لا بأس بها.
وحديث عبد الله بن مغفل في الشحم قال: إسحاق أجاد. وحكى ابن المنذر

(6/642)


إجماع كل من يحفظ عنه من أهل العلم على ذلك. وظاهر كلامه أيضا أن عربي أهل الكتاب كغيره، وهو إحدى الروايتين. واختيار أبي محمد، تمسكا بعموم الكتاب.
(والرواية الثانية) - وهي المختارة للقاضي وأصحابه - لا تباح ذبيحة نصارى العرب، ومنهم من يحكي الخلاف في بعض العرب، وقد تقدمت هذه المسألة في النكاح. وظاهر كلامه أيضا أن العبرة بالذابح لا بأبويه، إلا أنه قد نص في النكاح على أن من أحد أبويه غير كتابي لا تؤكل ذبيحته، ولا تنكح نساؤه، وقد تقدم الكلام على ذلك، والله أعلم.

[حكم أكل ما قتل بالبندق والحجر]
قال: ولا يأكل ما قتل بالبندق ولا الحجر لأنه موقوذة.
ش: وكذلك ما في معنى البندق والحجر مما ليس بمحدد، كالعصا والشبكة والفخ ونحو ذلك، والأصل في ذلك آية المائدة: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3]- إلى قوله - {وَالْمَوْقُوذَةُ} [المائدة: 3] ، مع القياس على المعراض.
3527 - وقد قال ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - في المقتولة بالبندق: تلك الموقوذة.

(6/643)


3528 - وعن عبد الله بن المغفل - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن الخذف، وقال: «إنها لا تصيد صيدا، ولا تنكأ عدوا، ولكنها تكسر السن وتفقأ العين» ، متفق عليه.
ومقتضى كلام الخرقي أنه لا يؤكل ما قتل بالبندق أو الحجر وإن خرق، حتى لو قطع الحجر رأس الطائر وذهب به فإنه لا يحل، وهو كذلك، لإطلاق ما تقدم.
3529 - وعن إبراهيم عن عدي بن حاتم - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا رميت فسميت فخزق فكل، وإن لم يخزق فلا تأكل، ولا تأكل من المعراض إلا ما ذكيت، ولا تأكل من البندقة إلا ما ذكيت» . رواه أحمد، وهو مرسل، لأن إبراهيم لم يلق عديا.
واعلم أن كلام الخرقي محمول على حجر لا حد له، أما ما له حد فحكمه حكم سائر المحددات إن أصابت بحدها أبيح وبغيره لم يبح.

[حكم صيد المجوسي]
قال: ولا يؤكل صيد المجوسي إلا ما كان من حوت فإنه لا ذكاة له.
ش: أما صيد المجوسي - عدا ما لا ذكاة له كما سيأتي

(6/644)


إن شاء الله تعالى - فإن عدم إباحته إجماع أو كالإجماع، قال أحمد: لا أعلم أحدا قال بخلافه إلا أن يكون صاحب بدعة، وقال أيضا: ها هنا قوم لا يرون بذبائح المجوس بأسا، ما أعجب هذا؟ يعرض بأبي ثور، وقال إبراهيم الحربي: خرق أبو ثور الإجماع، فقد حكى هذا الإمام أن أبا ثور خرق الإجماع، مع أن خلاف الواحد في الاعتداد به نزاع. وقد دل مفهوم قَوْله تَعَالَى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} [المائدة: 5] ، على أن طعام غير أهل الكتاب ليس حلا لنا، وقد دللنا على أن المجوس لا كتاب لهم في النكاح بما فيه كفاية فلينظر ثم.
وأما ما لا يشترط له ذكاة كالسمك، وما لا يعيش إلا في الماء، وكذلك الجراد على المذهب فإن صيد المجوس لا يضره، لأن قصاراه أنه ميتة، وميتة ذلك حلال.
3530 - فعن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أحل لنا ميتتان ودمان، فأما الميتتان فالحوت والجراد، وأما الدمان فالكبد والطحال» . رواه أحمد وابن ماجه والدارقطني لكنه ضعيف، وهذا والله أعلم السبب في ذكر الخرقي الحوت.

(6/645)


وقد تقدم قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في البحر: «هو الطهور ماؤه الحل ميتته» . قال أحمد: هذا خير من مائة حديث.
3531 - وقال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: كل من صيد البحر صيد نصراني أو يهودي أو مجوسي. ذكره البخاري في صحيحه.
(تنبيه) : حكم من لا كتاب له كعبدة الأوثان ونحوهم حكم المجوس بطريق الأولى، وإنما نص الخرقي على المجوس لوقوع الخلاف فيهم، وإن كان الخلاف شاذا.
قال: وكذلك كل ما مات من الحيتان في الماء.
ش: هذا معطوف على قوله: إلا ما كان من حوت فإنه لا ذكاة له. أي فيؤكل، وكذلك كل ما مات من الحيتان

(6/646)


في الماء فإنه يؤكل، وذلك لما تقدم من حديث ابن عمر وأبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - والخرقي نص على الحيتان اتباعا للحديث، فيلحق بذلك كل ما في معناه مما يسمى سمكا، أو مما لا يعيش إلا في البحر، وسيأتي الكلام على ذلك إن شاء الله تعالى، والله أعلم.

[حكم أكل السمك الطافي]
قال: وإن طفا.
ش: يعني وإن طاف ما مات من الحيتان، أي: علا على وجه الماء، وإنما ذكر الخرقي ذلك لأن بعض السلف كرهه، والمذهب عندنا بلا ريب حله. قال أحمد: الطافي يؤكل، وما جزر عنه الماء أجود، والسمك الذي نبذه البحر لم يختلف الناس فيه، وإنما اختلفوا في الطافي، وليس به بأس، وذلك لعموم ما تقدم.
3532 - وعن أبي بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: الطافي حلال.
3533 - وعن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في قَوْله تَعَالَى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ} [المائدة: 96] . قال: صيده: ما أصيد، وطعامه:

(6/647)


ما رمى به، ذكرهما البخاري في صحيحه، وخرج أبو البركات فيه قولا أنه لا يباح منه ما مات بلا سبب، من رواية ضعيفة في الجراد.
3534 - ووجه ذلك في الجملة ما روى جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ما ألقى البحر أو جزر عنه فكلوه، وما مات فيه وطفا فلا تأكلوه» . رواه أبو داود. وهذا نص، إلا أن الصحيح وقفه على جابر، قال أبو داود: رواه الثقات فأوقفوه على جابر، وقد أسند من وجه ضعيف.
(تنبيه) على المذهب: هل يكره أكل الطافي؟ ظاهر كلام أبي محمد الكراهة، لأنه قال في حديث جابر: إن صح نحمله

(6/648)


على نهي الكراهة، لأنه إذا مات رسب، فإذا انتن طفا فكره لنتنه لا لتحريمه.
3535 - قلت: وقد جاء عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - نحو هذا، فقال في قَوْله تَعَالَى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ} [المائدة: 96] . طعامه ميتته إلا ما قذرت منها. ذكره البخاري في صحيحه، وكلام أحمد السابق محتمل الكراهة وعدمها، والله أعلم.

[ذكاة المقدور عليه من الصيد والأنعام]
قال: وذكاة المقدور عليه من الصيد والأنعام في الحلق واللبة.
ش: قد تقدم حكم غير المقدور عليه منهما، أما المقدور عليه منهما فإن ذكاته في الحلق واللبة والذكاة هي الذبح والنحر، فالذبح في الحلق، والنحر في اللبة، وهي الوهدة التي في أصل العنق والصدر، وهذا والله أعلم إجماع.
3536 - وقد شهد له ما روى الدارقطني عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «بعث رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: بديل بن الورقاء الخزاعي على جمل أورق يصيح في فجاج منى: «ألا إن الذكاة في الحلق واللبة، ولا تعجلوا الأنفس أن تزهق، وأيام منى

(6/649)


أيام أكل وشرب وبعال» .
3537 - وعن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أيضا أنه نادى: إن النحر في الحلق واللبة لمن قدر، وحديث أبي العشراء المتقدم يقتضي أن المعروف عندهم ذلك. وظاهر كلام الخرقي أنه يكتفي بقطع الحلقوم وهو مجرى النفس، والمريء وهو مجرى الطعام والشراب، وهو إحدى الروايتين، واختيار أبي الخطاب في خلافه الصغير، لظاهر ما تقدم، ولأنه قطع في محل الذكاة ما لا تبقى الحياة معه، أشبه ما لو قطع مع ذلك الودجين.
(والرواية الثانية) : يشترط مع ذلك قطع الودجين، اختارها أبو بكر وابن البنا.
3538 - لما روي عن ابن عباس وأبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قالا: «نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: عن شريطة الشيطان، زاد ابن

(6/650)


عيسى: وهي التي تذبح فيقطع منها الجلد، ولا تفرى الأوداج، ثم تترك حتى تموت» ، رواه أبو داود.
3539 - وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أنه كان يقول: ما فرى الأوداج فكله. رواه مالك في الموطأ، واجتزأ في الكافي بقطع أحد الودجين عنهما، وحكى الرواية على ذلك، والمعروف في النقل الأول.

(6/651)


(تنبيه) «شريطة الشيطان» : هي الناقة ونحوها التي شرطت أي أثر في حلقها أثر يسير، كشرط الحجام، من غير قطع الأوداج ولا إجراء الدم، وكان هذا من فعل الجاهلية، وأضيفت إلى الشيطان فإنه حملهم على ذلك، والفري القطع، والأوداج جمع ودج، وهو عرق في العنق، وهما ودجان في جانبي العنق.
قال: ويستحب أن ينحر البعير ويذبح ما سواه من الأنعام.
ش: هذا اتفاق والحمد لله وقد قال الله تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر: 2] . وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة: 67] .
3540 - قال مجاهد: أمرنا بالنحر، وأمر بنو إسرائيل بالذبح، ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعث في قوم ماشيتهم الإبل، وبنو إسرائيل ماشيتهم البقر.

(6/652)


3541 - وفي الصحيح «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نحر بدنه، وضحى بكبشين أقرنين ذبحهما بيده» .
قال: فإن ذبح ما ينحر، أو نحر ما يذبح فجائز.
3542 - ش: هذا هو المذهب المعروف لما في الصحيحين «من حديث أسماء - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: نحرنا فرسا على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: فأكلناه.» متفق عليه. والظاهر أن مثل هدا لا يخفى على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثم حكايتها ذلك تدل على أن هذا كان أمرا مشتهرا بينهم.
قال: وإذا ذبح فأتت على المقاتل فلم تخرج الروح حتى وقعت في الماء، أو وطئ عليها شيء لم تؤكل.
ش: هذه المسألة نظير مسألة ما إذا رمى الصيد فوقع في ماء، أو تردى من جبل، والكلام فيها كالكلام ثم نقلا ودليلا، ولا بد أن يلحظ أن الماء والوطء يقتل مثله غالبا، وقد تقدم نحو ذلك.

(6/653)


قال: فإن ذبحها من قفاها وهو مخطئ، فأتت السكين على موضع ذبحها وهي في الحياة أكلت.
ش: فسر القاضي الخطأ بأن تلتوي الذبيحة عليه، فتأتي السكين على القفا، لأنها مع التوائها معجوز عن ذبحها، فيسقط اعتبار المحل، المتردية في بئر، أما مع عدم الالتواء فلا تباح، إذ الجرح في القفا سبب للزهوق، وهو في غير محل الذبح، فإذا اجتمع مع الذبح منع الحل، لخروج الروح بجائز وممنوع منه، وإذا يغلب جانب المنع.
وقد روي عن أحمد ما يعضد هذا التفسير، فقال الفضل بن زياد: سألت أبا عبد الله عن ذبح القفا، قال: عامدا أو غير عامد؟ قلت: عامدا. قال: لا يؤكل، فإذا كان غير عامد كأن التوى عليه فلا بأس. ففسر غير العمد بالالتواء، وأبدل أبو البركات لفظ الخطأ بالسهو، وهو أعم من كلام القاضي، لدخول غير الالتواء فيه، ويقرب من كلام الخرقي، إلا أن إطلاق الخرقي يدخل فيه حال الجهل، اهـ.
ومفهوم كلام الخرقي أنه إذا فعل ذلك عمدا أنها لا تؤكل، وهو منصوص أحمد المتقدم، لخروج الروح بسبب مباح ومحرم، فغلب جانب التحريم.

(6/654)


3543 - وعن ابن عباس وابن عمر وأنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -: إذا قطع الرأس مع ابتداء الذبح من الحلق فلا بأس، ولا يتعمد، فإن ذبح من القفا لم تؤكل، سواء قطع الرأس أو لم يقطع. (وحكى القاضي) والشيرازي وغيرهما رواية أخرى بالإباحة بشرطه، وهو اختيار القاضي، والشيرازي، وأبي محمد وغيرهم، لأن الذبح إذا أتى على ما فيه حياة مستقرة أحله، دليله المتردية، وأكيلة السبع، ونحوهما.
وشرط الحل حيث قلنا به أن تأتي السكين على موضع الذبح وفيه حياة مستقرة، ويعلم ذلك بوجود الحركة القوية قاله القاضي، ولم يعتبر أبو البركات القوة، وقوة كلام الخرقي وغيره يقتضي أنه لا بد من علم ذلك، وقال أبو محمد: إن لم يعلم ذلك فإن كان الغالب البقاء لحدة الآلة

(6/655)


وسرعة القطع، فالأولى الإباحة، وإن كانت الآلة كالة، وأبطأ القطع لم يبح، والله أعلم.

[الحكم لو ذبح الشاة وفي بطنها جنين]
قال: وإذا ذبح الشاة وفي بطنها جنين أكلا، لأن ذكاتها ذكاة جنينها.
3544 - ش: لما روى جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ذكاة الجنين ذكاة أمه» . رواه أبو داود.
3545 - وعن أبي سعيد الخدري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مثله رواه الترمذي، ورواه أبو داود، ولفظه قال: «قلنا: يا رسول الله ننحر الناقة، ونذبح البقرة والشاة في بطنها الجنين؟ قال: «كلوه إن شئتم، فإن ذكاته ذكاة أمه» . وهذا ظاهره جواز الأكل مطلقا، وبين - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - علة ذلك،

(6/656)


وهو كون ذكاته ذكاة أمه، وهو يبعد رواية من روى: «ذكاة أمه» ، بالنصب، على تقدير: يذكى تذكية مثل تذكية أمه، ثم حذف المصدر وصفته، وأقيم المضاف إليه مقامه، أو التقدير كذكاة أمه، فحذف الجار ونصب، وتترجح رواية الرفع من وجه آخر، وهو أنه لا تقدير فيها، ورواية النصب لا بد فيها من تقدير، ثم إن ابن المنذر قد قال: لم يرو عن أحد من الصحابة والتابعين وسائر العلماء أن الجنين لا يؤكل إلا باستئناف الذبح غير ما روي عن النعمان، (واعلم) أن شرط كون ذكاته ذكاة أمه أن

(6/657)


يخرج ميتا، أو متحركا كحركة المذبوح، أما إن كانت فيه حياة مستقرة فإنه كالمنخنقة، قاله أبو البركات، وقال أحمد: إن خرج حيا فلا بد من ذكاته، لأنه نفس أخرى.
(وعنه) رواية (أخرى) : إن مات بالقرب حل.
قال: أشعر أو لم يشعر.
ش: يعني أن ذكاة الأم عين ذكاة جنينها، أشعر الجنين - أي: نبت عليه الشعر - أو لم يشعر، أي: لم ينبت عليه الشعر.
3546 - وإنما ذكر الخرقي ذلك لأن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وجماعة من التابعين والأئمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - قالوا: إن أشعر فذكاته ذكاة أمه، وإن لم يشعر فلا، فنبه الخرقي على عدم التفرقة، اتباعا لإطلاق الحديث.

قال: ولا يقطع عضوا مما ذكي حتى تزهق نفسه.
ش: لما تقدم عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «ولا تعجلوا الأنفس حتى تزهق» .

(6/658)


3547 - وعن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كذلك، ولأن فيه تعذيبا للحيوان وإنه منهي عنه. وظاهر إطلاق الخرقي أن هذا النهي على سبيل التحريم، وإذا قد يقال: لا يحل أكله على قياس قوله: إذا ذبح فأتى على المقاتل، ثم وقعت في ماء، أو وطئ عليها شيء أنها لا تؤكل؛ إذ الزهوق حصل من مباح وممنوع منه. وظاهر كلام أبي محمد الكراهة، لأنه قال: كره ذلك أهل العلم، ثم قال في العضو: أن الظاهر إباحته.

[ذبيحة الأعمى والأقلف والأخرس]
قال: وذبيحة من أطاق الذبح من المسلمين وأهل الكتاب حلال.
ش: هذا والله أعلم مما لا نزاع فيه، وقد قال أبو محمد: لا نعلم فيه خلافا، وقد دخل فيه البصير والأعمى، والعدل والفاسق، والمجبوب والأقلف على المذهب.

(6/659)


3548 - (وعنه) لا تصح ذكاة الأقلف، اعتمادا في ذلك على ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - والطاهر والجنب، والناطق والأخرس، وسيأتيان، والرجل والمرأة، والبالغ والصبي، وقد حكاه ابن المنذر فيهما إجماع كل من يحفظ عنه من أهل العلم.
3549 - وفي صحيح البخاري وغيره «عن نافع أنه سمع ابنا لكعب بن مالك يخبر ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أن أباه أخبره، أن جارية لهم كانت ترعى غنما بالجبيل الذي بالسوق وهو بسلع، فأبصرت بشاة منها موتا، فكسرت حجرا فذبحتها، فقال لأهله: لا تأكلوا حتى آتي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأسأله أو أرسل إليه من يسأله، فسأل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأمره بأكلها والحر والعبد سواء في الاعتبار» ، اهـ.

(6/660)


ويشترط مع الإطاقة للذبح العقل، فلا تصح ذكاة مجنون ولا طفل ولا سكران، لانتفاء القصد منهم المعتبر في الذكاة شرعا.
قال: إذا سموا أو نسوا التسمية.
ش: قد تقدم هذا، وأن مذهب الخرقي اشتراط التسمية في العمد دون السهو، وإنما نص الخرقي على ذلك ليصرح بأن حكم أهل الكتاب حكم المسلمين في اشتراط التسمية، وقد تقدم هذا أيضا والخلاف فيه، وإن كان الأليق ذكره هنا.
(تنبيه) : إذا لم يعلم أسمى الذابح أم لا، أو ذكر اسم غير الله أم لا؟ فالذبيحة حلال، لعدم الوقوف من ذلك على كل ذابح.
3550 - «وعن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: إن قوما قالوا لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إن قوما يأتوننا باللحم لا ندري أذكروا اسم الله عليه أم لا؟ قال: «سموا عليه أنتم وكلوه» . قالت: وكانوا حديثي عهد بالكفر» . رواه البخاري، وأبو داود

(6/661)


ولفظه قالوا: يا رسول الله إن قوما حديث عهد بكفر، وذكره بمعناه.
قال: فإن كان أخرس أومأ إلى السماء.
ش: قد دل هذا على حل ذبيحة الأخرس. وقد حكاه ابن المنذر إجماع كل من يحفظ عنه من أهل العلم ويشترط له ما يشترط للناطق من التسمية، إلا أنه لما تعذر النطق في حقه أقيمت إشارته مقام نطقه، كما أقيمت مقام ذلك في سائر تصرفاته. وظاهر كلام الخرقي وغيره أنه لا بد من الإشارة إلى السماء، لأن ذلك علم على قصد تسمية الباري سبحانه وتعالى.
3551 - وهذا كما «قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للجارية: «أين الله» ؟ فأشارت إلى السماء، فقال: «من أنا» ؟ فأشارت بأصبعها إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وإلى السماء، أي أنت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أعتقها فإنها مؤمنة» .»

(6/662)


فجعل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إشارتها إلى السماء علما على الوحدانية، وإلى رسالته، وحكم بإيمانها، قال أبو محمد: ولو أشار الأخرس إشارة تدل على التسمية وعلم ذلك كان كافيا.
قلت: وهذا يقتضي أن التنبيه السابق في حال الغيبة، أما في حال الحضور فلا بد من العلم أو الظن بوجود التسمية.

[ذبيحة الجنب]
قال: وإن كان جنبا جاز أن يسمي ويذبح.
ش: لبقاء أهليته، إذ الجنابة لا تخرجه عن الإسلام، وقد قال ابن المنذر: لا أعلم أحدا منع من ذلك. ويسمي كما يسمي عند اغتساله، لأن الذي منع منه هو قراءة القرآن، وليس المقصود بالتسمية على الذبيحة القراءة.

(6/663)


قال: والمحرم من الحيوان ما نص الله - عز وجل - عليه في كتابه.
ش: الذي نص الله - عز وجل - عليه في كتابه هو قوله سبحانه: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} [المائدة: 3] . إلى آخرها. ولا نزاع في تحريم هذه الأشياء في الجملة، (أما لحم الخنزير) فلا ريب في تحريمه، وكذلك بقية أجزائه، اعتمادا على الإجماع، أو أن الشحم ونحوه داخل في مسمى ذكر اللحم لكونه صفة له، بدليل قولهم: لحم سمين، أي: لحم شحيم، أو أن ذكر اللحم خرج مخرج الغالب، لأنه معظم ما يقصد، مع ما فيه من مراغمة الكفار الذين يتدينون بأكل لحمه.
(وأما الميتة) فيستثني منها ما استثناه المبين لكتاب ربه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو الحوت والجراد، ويلحق بالحوت ما في معناه مما يسمى سمكا، أو مما لا يعيش إلا في البحر، أو مما مات فيه - على ما تقدم - نعم بقي النظر في الطافي فإن عموم الآية يقتضي تحريمه.
3552 - وعموم قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لما سئل عن التوضؤ بماء البحر: «هو الطهور ماؤه، الحل ميتته» . يقتضي إباحته، فلا بد من

(6/664)


مرجح، (فقد يقال) بترجيح عموم الكتاب لقوته، ولهذا قيل: إن عموم الكتاب لا يتخصص بالسنة، وبما تقدم من حديث جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «وما مات فيه وطفا فلا تقربوه» .
» 3553 - وبما روي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: ما طفا من صيد البحر فلا تأكله.
(وقد يقال) بترجيح عموم السنة، لأن عموم الكتاب قد دخله التخصيص ولا بد، بخلاف عموم السنة فإنه قد شك في تخصيصه، والأصل عدم التخصيص، وبما تقدم من قول أبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: الطافي حلال.
3554 - وقول عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في قوله سبحانه: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ} [المائدة: 96] ، قال: صيده ما أصيد، وطعامه ما رمى به. وهذا تفسير من عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وإذا يكون مخصصا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3] ، وتكون السنة عاضدة لهذا التفسير، وما روي عن علي

(6/665)


- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فلا يعرف أصله، وحديث جابر الصحيح وقفه عليه، وقد قال بعضهم: إن الآية الكريمة لا تخصيص فيها، بل وردت على ما يتعارفه الناس في العادة، والعرف في السمك أنه لا يطلق عليه ميتة، ولهذا إذا قيل: أكل فلان ميتة، لم يسبق الوهم إلى السمك والجراد، وكذلك إذا قال: أكل دما، لم يسبق إلى الكبد والطحال.
وقد أدخل بعضهم في الآية الكريمة الأجنة، وقد تقدم الاعتماد على رواية الرفع، وأن ذكاته عين ذكاة أمه، وإذا هي مذكاة لا ميتة على أن رواية النصب تخرج الحديث عن كثير فائدة، إذ الجنين إذا خرج حيا حياة مستقرة فلا يخفى حكم الذكاة في حقه، لأنه نفس أخرى.
ومما قيل بدخوله في الميتة: جلدها، ولبنها، وشعرها، وعظمها، والكلام على تسليم ذلك أولا، وعلى خروجه بالتخصيص ليس هذا محله.
وأما الدم فالمراد به ما عدا الكبد والطحال، إما بالخطاب العرفي، أو ببيان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقيل: إن ذلك خرج بقوله سبحانه وتعالى في الآية الأخرى: {أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا} [الأنعام: 145] إذ الكبد والطحال لا يمكن سفحهما فلا يدخلان في الدم المحرم. (ومما قيل) أنه خرج بقوله سبحانه: {دَمًا مَسْفُوحًا} [الأنعام: 145]

(6/666)


ما على العروق، وما يبقى على اللحم من الدم. (ومما قيل) أيضا بخروجه الذباب ونحوه مما لا دم له سائل، ولذلك قيل بطهارة ميتته على المذهب، وبحله في رواية، وتحريم الخنافس ونحوها للخبث.
وأما {وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ} [البقرة: 173] ، أي: الذي رفع عليه الصوت بتسمية غير الله، كأن يسمى عليه اسم المسيح - صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْه - أو اسم صنم، ونحو ذلك كما كانوا في الجاهلية يذبحون فيقولون: باسم اللات والعزى؛ وقد اختلف في حل ما ذبح كذلك، على قولين للعلماء هما روايتان عن إمامنا: (إحداهما) - وبها قطع أبو محمد، وحكاه عن القاضي، وصححها أبو البركات -: التحريم، لذلك.
3555 - ولما في صحيح مسلم وغيره عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه سمع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «لعن الله من ذبح لغير الله» .
و (الثانية) - ويحكى ذلك عن الشافعية -: الحل،

(6/667)


لقوله سبحانه: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} [المائدة: 5] . وقد علم أنهم يذكرون اسم المسيح، فيكون المراد بالآية الأولى: من عدا أهل الكتاب.
وأما (المنخنقة) : فهي التي اختنقت بحبل أو غيره. (والمتردية) : التي تردت من جبل أو نحوه. (والنطيحة) : التي تنطح أو تنطح فتموت. (والموقوذة) : التي تقتل ضربا، يقال: وقذتها أقذها وقذا. وأوقذتها أوقذها إيقاذا: إذا أثخنتها ضربا. (وما أكل السبع) : التي أكل منها السبع، والعرب تسمي ما قتله السبع، وما أكل منه وبقيت منه بقية: أكيلة السبع، وهي فريسته. والحكم في هذه الأربعة أنها إذا أدرك ذبحها على التمام حلت وإلا فلا، وبيان ذلك أن قَوْله تَعَالَى: {إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} [المائدة: 3] إنما يرجع إلى ما تمكن ذكاته، وهو المنخنقة وما بعدها، أما الميتة والدم، ولحم الخنزير، وما أهل لغير الله به، فلا يتصور فيه ذكاة، والمعنى: إلا الشيء الذي أدركت ذكاته من هذه الأربعة، وأصل الذكاة في اللغة: تمام الشيء، ومنه: الذكاء في السن والفهم تمامهما، فتمام السن: النهاية في الشباب، فقبل ذلك أو بعده لا يسمى ذكاء، وتمام الفهم: سرعة القبول، وذكيت النار: أتممت إشعالها،

(6/668)


فقوله سبحانه: {إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} [المائدة: 3] أي: ما أدركتم ذبحه على التمام.
واختلف في الذبح على التمام ما هو في هذه الآية، (وعن إمامنا) في ذلك ثلاث روايات. (إحداهن) : بأن يكون في ذلك حياة يمكن أن تزيد على حركة المذبوح، أو تتحرك كحركة المذبوح عند الذبح، ولو بيد أو رجل أو طرف عين ونحو ذلك.
(الثانية) : أن ما يمكن أن يبقى معظم اليوم يحل، وما يعلم موته لأقل منه في حكم الميت.
(والثالثة) : ما تيقن أنه يموت من السبب في حكم الميت مطلقا، اختارها ابن أبي موسى.
واختار أبو محمد قولا رابعا أنها إن تيقن موتها بالسبب، كأن تعيش زمنا يكون الموت بالذبح أسرع منه حلت بالذبح، وإن كانت مما لا يتيقن موتها فكالمريضة، متى تحركت وسال دمها حلت وإلا فلا. وتوجيه هذه الأقوال، والاتساع في الآية الكريمة يحتاج إلى بسط لا يليق بهذا الشرح.
وقوله سبحانه: {وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} [المائدة: 3] . أي: الحجارة التي كانت لهم يعبدونها، واحدها: نصاب، و (على) ، قيل: بمعنى اللام، أي: وما ذبح لأجل الأصنام، والذابح للأصنام هم عبادها، فالمنع هنا للشرك، وعلى هذا يحل ما ذبحه الكتابي لعيده أو لكنيسته ونحو ذلك، وهو مذهبنا، لعموم:

(6/669)


{وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} [المائدة: 5] . نعم يكره ذلك على الصحيح، وعلى هذا تستوي هذه الآية، وقَوْله تَعَالَى: {وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} [المائدة: 3] إن قيل: المراد بها ذبائح المشركين، وظاهر هذه، أن المنع إنما كان لأجل الذبح للصنم، وإذا فالذبح للكنيسة ونحوها في معناه.
3556 - ويؤيده حديث علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «لعن الله من ذبح لغير الله» . وقد قيل: إن الذبح لهذه الأشياء يدخل أيضا في قَوْله تَعَالَى: {وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} [المائدة: 3] وإذا هذا من ذكر الخاص بعد العام.

[ما تستطيبه العرب وما تستخبثه من الدواب]
قال: وما كانت العرب تسميه طيبا فهو حلال، وما كانت تسميه خبيثا فهو محرم، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف: 157] .
ش: يعني أن الله - سبحانه وتعالى - نص على تحريم أشياء وقد تقدمت، وأجمل حل أشياء وتحريم أشياء، وترك بيان ذلك إحالة على عرف من وقع الخطاب لهم وهم العرب، والمراد بهم: أهل الحجاز من أهل الأمصار، لأنهم الذين نزل عليهم الكتاب، ولا عبرة بأهل البوادي، لأنهم للضرورة والمجاعة يأكلون ما وجدوا، ولو وجد شيء لا يعرفه أهل الحجاز، رد إلى أقرب الأشياء شبها به في الحجاز، فإن تعذر شبهه بشيء منها فهو مباح، كذا قاله الشيخان، لدخوله

(6/670)


في قَوْله تَعَالَى: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا} [الأنعام: 145] . الآية.
3557 - وعن سلمان الفارسي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «سئل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الجبن والسمن والفراء، فقال: «الحلال ما أحل الله في كتابه، والحرام ما حرم الله في كتابه، وما سكت الله عنه فهو مما عفي عنه» » . رواه ابن ماجه، والترمذي.
قلت: وقد يستشكل هذا، يعني أن الأصل في الأطعمة الحل، وظاهره مخالف لما هو مقرر في الأصول من أن الأصل في الأعيان (هل هو الحظر) كما هو اختيار ابن حامد والقاضي والحلواني، (أو الإباحة) كما هو اختيار أبي الحسين الخرزي وأبي الخطاب، (أو الوقف) كما هو اختيار ابن عقيل وأبي محمد على ثلاثة أقوال، وبنوا على ذلك أن من حرم

(6/671)


شيئا أو أباحه، وقال: طلبت دليل الشرع فلم أجد، فبقيت على حكم الأصل من حظر أو إباحة، فهل يصح ذلك أم لا؟ وكذلك من كان في برية لا يعرف شيئا من الشرعيات، وهناك فواكه وأطعمة، فهل تكون في حقه على الإباحة أو الحظر؟ وبسط ذلك يحتاج إلى طول. إذا علم هذا فمن السمتخبثات: الحشرات، كالديدان، وبنات وردان، والخنافس، والفأر، والأوزاغ، والجراذين، والعقارب، والحيات، ونحو ذلك، وكذلك القنفذ.
3558 - لما في السنن من حديث أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «ذكر القنفذ لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: «هو خبيثة من الخبائث» » .

[المحرم من الحيوان]
قال: وبسنة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الحمر الأهلية.
ش: أي: والمحرم من الحيوان بسنة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أشياء منها الحمر الأهلية.
3559 - وذلك لما روى البراء بن عازب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال:

(6/672)


«نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم خيبر عن لحوم الحمر الإنسية نضيجا ونيئا» .
3560 - وعن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: «إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن أكل لحوم الحمر الأهلية» .
3561 - وعن أبي ثعلبة الخشني - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «حرم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الحمر الأهلية» ، متفق عليهن.
قال ابن عبد البر: روى عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تحريم الحمر الأهلية: علي، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عمرو، وجابر، والبراء، وعبد الله بن أبي أوفى، وأنس، وزاهر الأسلمي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - بأسانيد صحاح حسان. قال: ولا خلاف بين علماء المسلمين اليوم في تحريمها، وقال أحمد: خمسة عشر من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: كرهوها. والله أعلم.

(6/673)


قال: وكل ذي ناب من السباع.
ش: أي: ومن المحرم بسنة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كل ذي ناب من السباع.
3562 - وذلك لما روى أبو ثعلبة الخشني - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن أكل كل ذي ناب من السباع» . رواه الجماعة.
3563 - وعن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «كل ذي ناب من السباع حرام» . رواه مسلم وغيره، وهذا نص في أن المراد بالنهي: التحريم، كما هو ظاهره، ولا يعارض هذا قَوْله تَعَالَى: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا} [الأنعام: 145] ، الآية، لأن سورة الأنعام مكية نزلت قبل الهجرة، وكان القصد بالآية الكريمة الرد على الجاهلية في تحريمهم البحيرة والسائبة والوصيلة والحام، ولم

(6/674)


يكن في ذلك الوقت محرم إلا ما ذكر في الآية، ثم بعد ذلك حرم أمورا كثيرة؛ كالحمر والبغال وغير ذلك، والله أعلم.

قال: وهي التي تضرب بأنيابها الشيء وتفرس بها.
ش: هذا تبيين وتوضيح لصاحب الناب من السباع، والأنياب: مما يلي الرباعيات من الأسنان، ويدخل في هذا الأسد، والنمر، والفهد، والذئب، والكلب، والخنزير، والفيل، وابن آوى، وابن عرس، والنمس.
وسئل أحمد عن ابن آوى وابن عرس فقال: كل شيء ينهش بنابه فهو من السباع. فكأنه لم يتحقق عنده حالهما، كما لم يتحقق عنده كال الدب، فقال: إن لم يكن له ناب فلا بأس به، وكذلك قال أبو محمد: ينظر فيه فإن كان ذا ناب يفرس به حرم وإلا أبيح، وقطع أبو بكر بتحريمه، وقطع أبو محمد في ابن آوى وابن عرس والنمس بأنها من السباع فتحرم.
واختلفت

(6/675)


الرواية عن أحمد في الثعلب وسنور البر هل هما محرمان أو مباحان؟ على روايتين، للتردد في كون لهما نابان يفرسان به أم لا. والشيخ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - علل التحريم بكونهما من السباع، والإباحة بكونهما يفديان في الحرم والإحرام، ولا يفدى إلا المأكول، وقد يقال: الفداء للتردد فيهما احتياطا.
وكذلك اختلف الأصحاب في السنجاب فرآه القاضي مما له ناب فحرمه، ولم يتحقق ذلك لأبي محمد، فحكى فيه احتمالا بالإباحة، ورجحه اعتمادا على الأصل.

قال: وكل ذي مخلب من الطير.
ش: هذا عطف على ما تقدم.
3564 - وذلك لما روى ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: «نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن كل ذي ناب من السباع، وكل ذي مخلب من الطير» . رواه مسلم وغيره.

(6/676)


3565 - وعن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «حرم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يعني: يوم خيبر - لحوم الحمر الأهلية، ولحوم البغال، وكل ذي ناب من السباع، وكل ذي مخلب من الطير» . رواه أحمد والترمذي. قال: وهي التي تعلق بمخاليبها (الشيء) وتصيد بها.
ش: كالعقاب، والبازي، والصقر، والشاهين، والحدأة، والبومة، ونحو ذلك.

[حكم أكل المضطر]
قال: ومن اضطر إلى أكل الميتة فلا يأكل منها إلا ما يأمن معه الموت.
ش: أي: الميتة التي نص الله تعالى على تحريمها في الآية الكريمة، وإباحتها في حالة الاضطرار في الجملة إجماع والحمد لله، وقد شهد له قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 173] ، وفي آية المائدة: {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 3]

(6/677)


ولا نزاع في إباحة ما يؤمن معه الموت، كما أنه لا نزاع في تحريم ما زاد على الشبع، لانتفاء الاضطرار المبيح إذا، وفي الشبع روايتان أنصهما - وهي ظاهر كلام الخرقي، واختيار عامة الأصحاب -: ليس له ذلك، لأن الله سبحانه حرم الميتة أولا، ثم أباح ما اضطررنا إليه بقوله تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ} [البقرة: 173] ، وفي آية أخرى {إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام: 119] ، ومع أمن الموت لا اضطرار، ويؤيده ذلك قوله سبحانه: {غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ} [البقرة: 173] ، أي: ولا عاد سد لجوعه.
(والثانية) - وهي اختيار أبي بكر فيما حكاه عنه الشيخ وغيره، والذي رأيته في التنبيه ظاهره الرواية الأولى -: له ذلك.
3566 - لما روى جابر بن سمرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن رجلا نزل الحرة ومعه أهله وولده، فقال رجل: إن ناقة لي ضلت، فإن وجدتها فأمسكها. فوجدها فلم يجد صاحبها، فمرضت فقالت امرأته: انحرها. فأبى، فنفقت، فقالت: اسلخها حتى نقدد حتى شحمها ولحمها ونأكله. فقال: حتى أسأل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأتاه فسأله فقال: «هل عندك غنى يغنيك؟» قال: لا. قال: «فكلوه» . قال: فجاء صاحبها فأخبره الخبر، فقال: هلا كنت نحرتها؟ قال: استحييت منك.» رواه أبو داود، فأطلق رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الأكل، ولم يقيده بما يسد الرمق.

(6/678)


وفرق أبو محمد بين ما إذا كانت الضرورة مستمرة - كحال الأعرابي - فيجوز له الشبع، اتباعا لإطلاق الحديث، إذ لو اقتصر على سد الرمق عادت الضرورة إليه عن قرب، وأفضى إلى ضعف بدنه، وربما أدى ذلك إلى تلفه، وبين ما إذا لم تكن مستمرة فلا يجوز له الشبع، لانتفاء المحذور المتقدم، وعملا بمقتضى الآية.
إذا تقرر هذا، فمعنى الاضطرار أنه متى ترك الأكل خاف التلف.
قال أحمد: إذا كان يخشى على نفسه، سواء كان من جوع، أو يخاف إن ترك الأكل عجز عن المشي، وانقطع عن الرفقة فهلك، أو يعجز عن الركوب فيهلك. ومقتضى هذا أنه يجوز له الشبع إذا كان سد الرمق يقطعه عن الرفقة، أو يعجزه عن الركوب (فيهلك) ، وهو مقتضى كلام الخرقي، وظاهر الآية الكريمة، لأنه والحال هذه مضطر.
ولم يفرق الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - بين الحاضر والمسافر، وهو كذلك، اعتمادا على ظاهر الآية، ولأن الاضطرار قد يكون في الحضر في سنة المجاعة.
(وعن أحمد) أنه قال: أكل الميتة إنما يكون في السفر. قال أبو محمد: يعني أنه في الحضر يمكنه السؤال. قال: وهذا من أحمد خرج مخرج

(6/679)


الغالب، إذ الغالب وجود الطعام الحلال في الحضر، ودفع الضرورة بالسؤال، قلت: وظاهر هذا التقرير أن الميتة لا تباح لمن يقدر على دفع الضرورة بالمسألة. وقد قال أبو محمد: إنه ظاهر كلام أحمد، اهـ.
وكلام الخرقي في شموله للمسافر يشمل السفر الجائز والمحرم، وهو اختيار صاحب التلخيص، وقال عامة الأصحاب: لا يباح للعاصي بسفره تناول الميتة بحال، وأصل هذا أن قَوْله تَعَالَى: {غَيْرَ بَاغٍ} [البقرة: 173] ، هل هو غير باغ على المسلمين، أو غير باغ على مضطر آخر بالاستئثار عليه، أو بمن أكلها تلذذا؟ فيه ثلاثة أقوال للمفسرين. وكذلك في قوله - سبحانه -: {غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ} [المائدة: 3] ، هل التجانف بالسفر أو بالزيادة على سد الرمق؟ فيه أيضا قولان.

(6/680)


ويرجح ظاهر إطلاق الخرقي بقوله تعالى: {إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام: 119] ، فإنه أطلق فيه، وبقوله تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء: 29] ، وبأن أكل الميتة عزيمة واجبة، حتى لو امتنع كان عاصيا، كما هو المشهور من الوجهين لهذه الآية، وهو ظاهر كلام أحمد.
3567 - قال في رواية الأثرم - وقد سئل عن المضطر يجد الميتة ولم يأكل، فذكر قول مسروق: من اضطر فلم يأكل ولم يشرب فمات دخل النار. وعلى هذا اعتمد صاحب التلخيص، وقد يقال أن أصل هذا الخلاف أن المسكين إذا امتنع من المسألة حتى مات هل يأثم أم لا؟ قال القاضي: كلام أحمد يقتضي روايتين، فإن قلنا: يأثم، وجب الأكل، وإن قلنا: لا يأثم لم يجب الأكل.
(تنبيه) : حكم جميع المحرمات حكم الميتة فيما تقدم في الجملة. (والحرة) : أرض تركبها حجارة سود. (وضلت) ، أي: ضاعت. (ونفقت) ، أي: ماتت.

قال: ومن مر بثمرة فله أن يأكل منها ولا يحمل، فإن كان عليها محوطا فلا يدخل إلا بإذن.
ش: اختلفت الرواية عن إمامنا في هذه المسألة (فروي عنه) إباحة ذلك مطلقا، أعني: سواء كان محتاجا أو لم يكن،

(6/681)


وسواء أكل من المعلق أو من المتساقط، وهذه ظاهر كلام الخرقي، واختيار القاضي وغيره، قال القاضي في خلافه الصغير: اختاره عامة أصحابنا. وقال أبو الخطاب في هدايته: عامة شيوخنا.
3568 - وذلك لما روي عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من دخل حائطا فليأكل ولا يتخذ خبنة» . رواه الترمذي وابن ماجه.
3569 - وعن عبد الله بن عمرو، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، قال: «سئل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الرجل يدخل الحائط فقال: «يأكل غير متخذ خبنة» . رواه أحمد، (وعنه) : لا يحل له ذلك مطلقا إلا بإذن المالك. حكاها ابن عقيل في التذكرة.
3570 - لعموم: « «إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام» . متفق عليه.

(6/682)


3571 - وعن العرباض بن سارية أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ألا وإن الله لم يحل لكم أن تدخلوا بيوت أهل الكتاب إلا بإذن، ولا ضرب نسائهم، ولا أكل ثمارهم إذا أعطوكم الذي عليهم» . أخرجه أبو داود. وغاية هذين عموم فنخصه بما تقدم.
(وعنه) جواز ذلك من المتساقط دون غيره.
3572 - لما «روى رافع بن عمرو، قال: كنت أرمي نخل الأنصار، فأخذوني فذهبوا بي إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: «يا رافع لم ترم نخلهم؟» قلت: يا رسول الله الجوع. قال: «لا ترم، وكل ما وقع، أشبعك الله وأرواك» .» وقد يقال: إن الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - علم أنه يسقط من نخلهم ما يشبعه، وكيف لا يحصل له الشبع، وقد حصل له دعاء النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -

(6/683)


ومع حصول ذلك فلا حاجة إلى الرمي، لأنه نوع إفساد.
(وعنه) : يحل له ذلك لحاجة، ولا يحل لغير حاجة.
3573 - لما روى عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده، «عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه سئل عن التمر المعلق، فقال: «ما أصاب منه من ذي الحاجة غير متخذ خبنة فلا شيء عليه، ومن أخرج منه شيئا فعليه غرامة مثليه، والعقوبة» » . رواه الترمذي وحسنه.
(وعنه) : إن كان مضطرا أكل وإلا لم يأكل. . حكاها القاضي في الجامع وغيره، وهي ظاهر كلامه في رواية أبي طالب، وسئل إذا لم يكن تحت الشجرة شيء يصعد؟ فقال: لم أسمع يصعد، فإن اضطر أرجو أن لا يكون به بأس. (وهذه الرواية) قد تحمل على أن المراد بالضرورة الحاجة، لأن أبا محمد صرح بأنه هنا لا يعتبر حقيقة الاضطرار، والظاهر حملها على ظاهرها، وأن المراد بالضرورة هنا: الضرورة المبيحة للميتة، ولهذا قال القاضي هنا - بعد أن ذكر الرواية -: وعندي أنه يباح له الأكل إذا احتاج إلى ذلك، مثل أن تشتهي نفسه الثمرة وتلتهف عليها، ولا شيء معه لشرائها، ولا يجد من يبيعه إياها نسيئا.
لا يقال: فلا فائدة في هذه المسألة على هذه الرواية، لأن غير الثمرة تباح أيضا عند الضرورة، لأنا نقول: فائدة ذلك أن الثمرة تباح مجانا حيث أبيح تناولها.
(وعنه) : يباح ذلك في السفر دون الحضر، قال في الرواية صالح - وسئل عن ذلك: إنما الرخصة للمسافر، وهذه

(6/684)


الرواية قد تحمل على رواية اشتراط الحاجة. واعلم أن هذا الخلاف كله في الأكل بفيه دون الحمل كما صرح به الخرقي، وشهدت به الأحاديث، وهو أن لا يتخذ خبنة، وهي ما تحمله في حضنك؛ وقيل: هو أن يأخذه في خبنة ثوبه، وهو ذيله وأسفله. ثم شرط جواز الأكل حيث قيل به أن لا يكون على الثمرة حائط، نص عليه أحمد والأصحاب، قال أحمد: لأنه شبه الحريم.
3574 - وبأنه استند في ذلك إلى قول ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: إن كان عليها حائط فهو حريم، فلا تأكل، وإن لم يكن عليها حائط فلا بأس. وسيأتي في الحديث ما يرشد إلى ذلك أيضا. (نعم) إن كان مضطرا جاز له الدخول والأكل، وفي معنى الحائط الناطور، قاله غير واحد من الأصحاب، وقال في المغني: قال بعض أصحابنا: الناطور بمنزلة المحوط.

(6/685)


وظاهر كلام الخرقي أن هذا الحكم مختص بالثمرة، فلا يثبت هذا الحكم لغيرها من مال الغير، ولا نزاع في ذلك إلا في صورتين، فإنه قد اختلف عن إمامنا فيهما، (إحداهما) : الزرع، (فعنه) المنع كغيره من الأموال، وقال: إنما رخص في الثمار، وقال: ما سمعنا في الزرع أن يمس منه، وذلك لأن الثمار النفوس تتشوف إليها رطبة، بخلاف الزرع.
(وعنه) يأكل من الفريك، إذ العادة جارية بأكله رطبا فأشبه الثمرة. قال أبو محمد: وكذلك الحكم في الباقلاء والحمص، وشبههما مما يؤكل رطبا، فأما الشعير وما لم تجر العادة بأكله فلا يجوز الأكل منه.
قلت: ولهذه المسألة التفات إلى ما تقدم في الزكاة من أنه يوضع لرب المال عند خرص الثمرة الثلث أو الربع، ولا يترك له شيء من الزرع إلا ما العادة أكله فريكا.
(تنبيهان) : «أحدهما» : قد علم أن الخلاف إنما هو في الفريك، وأبو محمد ألحق بذلك ما في معناه كما تقدم، وهو حسن، والشيخان في مختصريهما وغيرهما يحكون الخلاف في الزرع على الإطلاق.
(الثاني) ظاهر كلام أحمد أن الخلاف في الزرع حيث

(6/686)


رخص له في الثمرة، وأبو البركات جعل الخلاف على الرواية الأولى، وظاهر كلامه المنع على ما بعدها مطلقا.
(الصورة الثانية) : شرب لبن الماشية، فيه أيضا روايتان، (إحداهما) : له أن يحلب ويشرب ولا يحمل، اختارها أبو بكر.
3575 - لما روى الحسن عن سمرة بن جندب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا أتى أحدكم على ماشية فإن كان فيها صاحبها فليستأذنه فإن أذن له فليحتلب وليشرب، وإن لم يكن فليصوت ثلاثا، فإن أجابه فليستأذنه، فإن أذن له، فليحتلب وليشرب ولا يحمل» . رواه أبو داود والترمذي وصححه، وقال ابن المديني: سماع الحسن من سمرة صحيح.
3576 - وعن أبي سعيد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا أتى أحدكم حائطا فأراد أن يأكل فليناد: يا صاحب الحائط. ثلاثا، فإن أجابه وإلا فليأكل، وإذا مر أحدكم بإبل فأراد

(6/687)


أن يشرب من ألبانها فليناد: يا صاحب الإبل، أو يا راعي الإبل. فإن أجابه وإلا فليشرب» . رواه أحمد وابن ماجه.
(والثانية) : ليس له ذلك، نص عليه.
3577 - مفرقا بينه وبين الثمر؛ لأن أكل الثمر فعله غيره واحد من أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
3578 - ومستدلا على المنع هنا بحديث ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وقال: هو أجود إسنادا، وهو ما روى عبد الله بن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يحلبن أحدكم ماشية أحد إلا بإذنه، أيحب أحدكم أن تؤتى

(6/688)


مشربته فينتقل طعامه، وإنما تخزن لهم ضروع مواشيهم أطعمتهم، فلا يحلبن أحد ماشية أحد إلا بإذنه» » . متفق عليه.
(قلت) : وقد يحمل على ما إذا كان صاحبها فيها، توفيقا بين الحديثين.
(تنبيهان) : «أحدهما» : الخلاف أيضا في الماشية حكاه أبو البركات على الرواية الأولى، وينبغي أن يكون حيث أبيح الأخذ.
(الثاني) : إذا جوزنا الأكل من الثمار وغيرها، فقال أبو محمد: الأولى أن لا يأكل إلا بإذن، للخلاف والأخبار الدالة على التحريم.
(قلت) : وينبغي أن يتقيد جواز الحلب والشرب من الماشية بما إذا صوت بصاحبها ثلاثا فلم يجبه، كما في الحديث، وقد نص أحمد على ذلك فقال: ناد ثلاثا، فإن أجابك وإلا فاشرب.

قال: ومن اضطر فأصاب ميتة وخبزا لا يعرف مالكه أكل الميتة.
ش: هذا منصوص أحمد، وبه قطع عامة الأصحاب، منهم أبو محمد في المغني، لأن الميتة منصوص عليها، ومال الغير مجتهد فيه، والمنصوص عليه أولى، ولأن حق الله تعالى مبني على المسامحة والمساهلة، بخلاف حق الآدميين.

(6/689)


ولأبي محمد في المقنع احتمال بجواز أكل طعام الغير، بشرط أن لا تقبل نفسه الميتة، وبه جزم في الكافي لأنه والحال هذه عليه ضرر في أكل الميتة، وإنه منفي شرعا.

قال: فإن لم يصب إلا طعاما لم يبعه مالكه أخذه منه قهرا، ليحيي به نفسه، وأعطاه ثمنه، إلا أن يكون بصاحبه مثل ضرورته.
ش: إذا لم يجد المضطر إلى طعام الغير فلا يخلو إما أن يكون صاحبه مضطرا إليه أيضا أو لا، فإن كان صاحبه مضطرا إليه فهو أحق به، وليس لأحد أخذه منه، لمساواتهما في الضرورة، ويرجح المالك بالملك، وقد أشار النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى ذلك حيث قال: «ابدأ بنفسك» . وإن لم يكن مضطرا إليه لزمه أن يبذل للمضطر ما يسد رمقه على المذهب، أو قدر شبعه على رواية بقيمته، لما فيه من إحياء نفس آدمي معصوم، أشبه بذلك منافعه في إنجائه من الغرق ونحو ذلك، فإن امتنع من ذلك فللمضطر أن يأخذ منه ما يسد رمقه أو قدر شبعه ولو قهرا، حتى لو قتل صاحب الطعام فهو هدر، ولو قتل المضطر ضمنه صاحب الطعام، لأنه والحال هذه مستحق له دون مالكه، ويلزمه عوض ما أخذ، فإن كان معه في الحال وإلا لزمه في ذمته.

(6/690)


وقول الخرقي: فإن لم يصب إلا طعاما لم يبعه مالكه، إلى آخره، ظاهره أنه لو وجد ميتة وطعاما وامتنع صاحبه من بذله له ببيع أو غيره لم يجز له أخذه منه قهرا، وهو كذلك، لأنه لم يتعين طريقا لإحياء نفسه. (وقوله) : لم يبعه مالكه أخذه قهرا، مقتضاه أنه لو باعه له لم يكن له أخذه منه قهرا وهو واضح، وفي معنى ذلك إذا بذله له مجانا.
وكلام الخرقي يشمل ما إذا باعه له بأكثر من ثمن المثل، وهو مختار أبي محمد في المغني، وجوز القاضي والحال هذه أخذه قهرا وقتاله عليه، وعلى كلا القولين لا يلزمه أكثر من ثمن مثله، لأنه صار مستحقا له بذلك. (ثم قول الخرقي) : لم يبعه. يريد البيع الشرعي، فلو امتنع المالك من البيع إلا بعقد ربا كان للمضطر أخذه قهرا، على ظاهر كلام الخرقي، ونص عليه بعض الأصحاب، معللا بأن عقد الربا محظور لا تبيحه الضرورة، والمقاتلة والحال هذه طريق أباحه الشرع، نعم إن لم يقدر على قهره دخل في العقد ملافظة وعزم على أن لا يتم عقد الربا، بل إن كان نسأ عزم على أن العوض الثابت في الذمة يكون قرضا، وقال بعض المتأخرين: لو قيل: إن له أن يظهر معه صورة الربا ولا يقاتله، بل يكون بمنزلة المكره فيعطيه من عقد الربا صورته لا حقيقته لكان أقوى.
وقوله: وأعطاه ثمنه. وبعضهم يقول قيمته؛ والأجود

(6/691)


عوضه، وهي عبارة المغني، لشمولها المثلي والمتقوم.

[حكم أكل الضب والضبع والثعلب]
قال: ولا بأس بأكل الضب.
3579 - ش: لما في الصحيحين عن عبد الله بن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سئل عن الضب فقال: «لا آكله ولا أحرمه» . وفي رواية لمسلم أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «كلوه فإنه حلال، ولكنه ليس من طعامي» .
3580 - وقال أبو سعيد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كنا معشر أصحاب محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأن يهدى إلى أحدنا ضب أحب إليه من دجاجة.

قال: والضبع.
3581 - ش: لما روي «عن عبد الرحمن بن عبد الله بن عمار قال: قلت لجابر: الضبع أصيد هي؟ قال: نعم. قلت: آكلها؟ قال: نعم. قلت: أقاله رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ قال: نعم» .

(6/692)


رواه الخمسة وصححه الترمذي والبخاري، واحتج به أحمد، ولفظ أبي داود: «عن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - سألت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الضبع فقال: «هي صيد ويجعل فيه كبش إذا صاده المحرم» . وبهذا يتخصص عموم النهي عن كل ذي ناب من السباع إن سلم أن له نابا، وقد قيل: إنه لا ناب له، وأن جميع أسنانها عظم واحد كصفحة نعل الفرس.

قال - رَحِمَهُ اللَّهُ -: والثعلب.
ش: قد تقدمت الروايتان في الثعلب، وأن الخلاف فيه للتردد فيه هل هو من السباع العادية فيدخل في عموم النهي، أم لا فيبقى على أصل الإباحة، والشريف أبو جعفر يختار إباحته كالخرقي، وأبو محمد يقول: إن أكثر الروايات عن أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - التحريم، والله أعلم.

قال: ولا يؤكل الترياق، لأنه يقع فيه لحوم الحيات.
ش: الترياق: دواء مركب يتعالج به من السم وغيره، وقد علل الخرقي المنع منه لما فيه من لحوم الحيات، وقد تقدم أن ذلك من الخبائث الممنوع منها، وفي كلام الخرقي

(6/693)


إشارة إلى أنه لا يجوز التداوي بمحرم، ولا ريب في ذلك عندنا.
3582 - لما روى أبو الدرداء - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن الله تعالى أنزل الداء والدواء، وجعل لكل داء دواء، فتداووا ولا تداووا بحرام» . رواه أبو داود.
3583 - وعن وائل بن حجر، «أن طارق بن سويد الجعفي سأل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الخمر فنهاه عنها، فقال: إنما أصنعها للدواء. فقال: «إنه ليس بدواء ولكنه داء» . رواه مسلم وغيره.
3584 - وقال ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في المسكر: إن الله

(6/694)


لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم. رواه البخاري.

[حكم أكل الصيد إذا رمي بسهم مسموم]
قال: ولا يؤكل الصيد إذا رمي بسهم مسموم إذا علم أن السم أعان على قتله.
ش: لأنه مات من سبب مباح وهو السهم، ومحرم وهو السم، فلم يبح كما لو مات من رمية مسلم ومجوسي، وكما لو رماه فوجده غريقا في الماء. وقد دل على الأصل قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وإن وجدته غريقا في الماء فلا تأكله، فإنك لا تدري الماء قتله أو سهمك» » .
ومفهوم كلام الخرقي أنه إذا لم يعلم أن السم أعان على قتله أنه يباح، وله صورتان: تارة يعلم عدم إعانته، وتارة يشك، وهو كذلك، لأن سبب الحل قد وجد، وشك في المحرم، والأصل عدمه، وكأن مراد الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - بالعلم هنا الظن، لإناطة الأحكام بغلبة الظن كثيرا، وكذا قال الشيخان في مختصريهما، وإن كان أبو محمد لم ينبه

(6/695)


على ذلك في شرح الكتاب، والله أعلم.

[حكم ما كان مأواه البحر وهو يعيش في البر فمات]
قال: وما كان مأواه البحر وهو يعيش في البر، لم يؤكل إذا مات في بر أو بحر.
ش: وذلك ككلب الماء وطيره والسلحفاة ونحو ذلك، لأنه حيوان له نفس سائلة، يعيش في البر، فأشبه بهيمة الأنعام، ولمفهوم: «أحل لنا ميتتان» ، وسيأتي، وهذا إحدى الروايتين عن أحمد، واختيار عامة الأصحاب.
(والرواية الثانية) - وعن بعض الأصحاب أنه صححها - أنه يحل ميتة كل بحري، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في البحر: «هو الطهور ماؤه، الحل ميتته» . وهو حديث صحيح، تقدم الكلام عليه في أول الكتاب، قال أحمد: هذا خير من مائة حديث. وهو شامل لكل ما مات في البحر.
3585 - وعن شريح من أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن الله ذبح ما في البحر لبني آدم» . رواه الدارقطني، وذكره البخاري عن شريح موقوفا.
3586 - وعن أبي بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: كل ما في

(6/696)


البحر قد ذكاه الله تعالى لكم. واستثنى أبو محمد في المغني السرطان، فأباحه من غير ذكاة، معللا بأن مقصود الذبح إخراج الدم، وتطييب اللحم بإزالته عنه، والسرطان لا دم فيه، فلا حاجة إلى ذبحه، وظاهر كلامه في المقنع الصغير وغيره من الأصحاب جريان الخلاف فيه.
وظاهر كلام أبي محمد أيضا استثناء الطير، وأن شرط حله الذكاة بلا خلاف، لأنه جعله أصلا قاس عليه، وقال: لا خلاف فيه فيما علمناه.
ومفهوم كلام الخرقي أن ما لا يعيش إلا في البحر تباح ميتته، ويحل بلا ذكاة، وهو يشمل شيئين (أحدهما) السمك، ولا نزاع في حل ميتته ما عدا الطافي، على ما تقدم، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أحل لنا ميتتان ودمان، فالميتتان: الحوت والجراد، والدمان: الكبد والطحال» . وغير الحوت مما يسمى سمكا في معناه، مع ما تقدم من قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في البحر: «هو الطهور ماؤه، الحل ميتته» . وغير ذلك.
(الثاني) : ما عدا السمك مما لا يعيش إلا في البحر، وفيه روايتان. (إحداهما) - وبها قطع أبو محمد في كتبه، بل قال في كتابه الكبير: لا نعلم فيه

(6/697)


خلافا. وهي ظاهر كلام الخرقي - أنه يحل بلا ذكاة، لحديثي أبي هريرة وشريح.
3587 - وفي الصحيح «أن أبا عبيدة وأصحابه وجدوا على ساحل البحر دابة يقال لها العنبر، فأكلوا منها شهرا حتى سمنوا وادهنوا، فلما قدموا على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أخبروه، فقال: «هو رزق أخرجه الله لكم، فهل معكم من لحمه شيء تطعمونا»
(والرواية الثانية) - وهي ظاهر اختيار جماعة من الأصحاب -: لا يحل شيء من ذلك إلا بالذكاة، نظرا لتخصيص حديثي أبي هريرة وشريح بمفهوم: «أحل لنا ميتتان: الحوت والجراد» . فإن التخصيص بالحوت يدل على نفي الحكم عما عداه، وإنما ألحق بالحوت ما يسمى سمكا بقياس أن لا فارق، وقد يمنع صاحب الرواية الأولى هذا المفهوم، لأنه مفهوم لقب وهو غير حجة، ولو قيل بحجيته فلا يقاوم عموم ما تقدم.
ولصاحب الرواية الثانية أن يقول: حديثا أبي هريرة وشريح قد دخلهما التخصيص باتفاقنا بما يعيش في البر، فالتخصيص بمفهوم الحديث في الصورتين، أولى من إخراج إحدى الصورتين بقياس يعارضه العموم مع أنه طردي.

(6/698)


(تنبيه) : كلام الخرقي السابق في الحوت إذا مات في البحر أنه يحل، فقد يقال: مفهوم أنه إذا مات في البر أنه لا يحل، وليس كذلك بالاتفاق، والله أعلم.

[وقوع النجاسة في مائع كالدهن وما أشبهه]
قال: وإذا وقعت النجاسة في مائع كالدهن وما أشبهه نجس.
ش: ما أشبهه من اللبن والخل ونحو ذلك، وعموم هذا يشمل القليل والكثير، وما أصله الماء كالخل ونحوه وغيره، (وهذا إحدى الروايات) ، واختيار عامة الأصحاب.
3588 - لما روي عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عن ميمونة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سئل عن الفأرة تقع في السمن، فقال: «إن كان جامدا ألقوها وما حولها، وإن كان مائعا فلا تقربوه» » . رواه أبو داود والنسائي، وعن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - نحوه، رواه أحمد وأبو داود، وقد احتج أحمد بهذا الحديث، وثبته محمد بن يحيى الذهلي.
والمائع يشمل القليل والكثير، وهو حكاية حال مع قيام الاحتمال، فينزل منزلة العموم في المقال، لا يقال: هذا خرج على ما يتعارفه أهل المدينة، ولم يكن عند أهل

(6/699)


المدينة وعاء في الغالب يبلغ خمسمائة رطل ونحوه، لأنا نقول: الخطاب وإن وقع لأهل الحجاز، فالحكم لا يخصهم بل يعمنا أيضا، فلا احتيج إلى تفصيل لفصل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
(والرواية الثانية) : أن حكم المائع حكم الماء، اختارها أبو العباس، نظرا إلى أن المعروف في الحديث: «ألقوها وما حولها وكلوا سمنكم» » . أما التفرقة بين المائع وغيره فضعيف، وبأنه خرج على المعتاد لأهل الحجاز، وهم لا يعتادون السمن إلا في أوان صغار.
(والرواية الثالثة) : ما أصله الماء كالخل ونحوه، حكمه حكم الماء اعتبارا بأصله، وما لا كاللبن ونحوه فلا.

قال: واستصبح به إن أحب.
ش: يجوز الاستصباح بالدهن المتنجس في (إحدى الروايتين) عن أبي عبد الله، وهي أشهرهما عنه، واختيار الخرقي وغيره.

(6/700)


3589 - لأن ذلك يروى عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - ولأنه انتفاع أمكن من غير ضرر، فأشبه الطاهر.

(6/701)


3590 - وقد جاء عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في العجين الذي عجن بماء من أبيار ثمود، أنه نهاهم عن أكله، وأمرهم أن يعلفوه النواضح.
(والرواية الثانية) : لا يجوز، لأنه دهن نجس فلم يجز الاستصباح به كدهن الميتة.
3591 - ودليل الأصل «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما سئل عن شحوم الميتة تطلى بها السفن، وتدهن بها الجلود، ويستصبح بها الناس، فقال: «لا، هو حرام» » . ولا تفريع على هذه، أما على الرواية الأولى فيستصبح به على وجه لا يمسه، ولا تتعدى نجاسته إليه، بأن يجعل الزيت في إبريق له بلبلة، ويصب منه في المصباح ولا يمسه، أو يضع على رأس الوعاء الذي فيه الزيت سراجا مثقوبا، ويطينه على رأس الوعاء، وكلما نقص زيت السراج صب فيه ماء، بحيث يرتفع الزيت، حذارا من تلطخه بالنجاسة.

(6/702)


3592 - ولهذا منع أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - من دهن الجلود به، وعجب من قول ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أنه تدهن به الجلود.
قال: ولم يحل أكله.
ش: هذا مما لا ريب فيه؛ لأن النجس خبيث، والله سبحانه وتعالى قد حرم الخبائث، ولهذا قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فلا تقربوه» ، والله أعلم.

قال: ولا ثمنه.
ش: هذا هو المذهب المشهور، والمجزوم به عند عامة الأصحاب.
3593 - لما في الصحيح أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لعن الله اليهود، حرمت عليهم الشحوم، فجملوها فباعوها فأكلوا أثمانها، وإن الله إذا حرم شيئا حرم ثمنه» .
(وعن أحمد) رواية أخرى: أنه يجوز بيعه لكافر يعلم بنجاسته، نظرا لاعتقاد الكافر حله.
3594 - واعتمادا على أن ذلك روي عن أبي موسى الأشعري، وخرج أبو الخطاب في الهداية - ومن تبعه كصاحب التلخيص وأبي محمد وغيرهما - قولا بجواز بيعه مطلقا من رواية الاستصباح به، لأنه إذا منتفع به، وضعف لأن

(6/703)


المعروف عن أحمد وغيره جواز الاستصباح وتحريم البيع، فدل على أنهم فرقوا بينهما، وخرج ذلك أبو البركات على القول بتطهيره بالغسل، لأنه إذا كالثوب النجس، وهذا واضح، لأنه بناء ضعيف على ضعيف.
وكلام الخرقي كله في الدهن المتنجس، أما الدهن النجس العين، كدهن الميتة، فلا يجوز الانتفاع به باستصباح ولا غيره.
3595 - لما في الصحيحين عن جابر بن عبد الله - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه سمع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول عام الفتح: «إن الله ورسوله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام» . فقيل: أرأيت يا رسول الله شحوم الميتة، فإنه تطلى بها السفن، وتدهن بها الجلود، ويستصبح بها الناس، فقال: «لا، هو حرام» . ثم قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عند ذلك: «قاتل الله اليهود، إن الله لما حرم عليهم شحومها جملوها ثم باعوها فأكلوا ثمنه» . لا يقال: يحتمل أن يرجع الضمير إلى البيع، لأنا نقول: الاستصباح ونحوه أقرب مذكور، فالرجوع إليه أولى، ثم الرجوع إلى البيع تأكيد لما علم حكمه وهو التحريم، بخلاف الرجوع إلى الاستصباح ونحوه، فإنه لم يعلم حكمه، فيكون تأسيسا، ولا ريب أن التأسيس أولى، والله أعلم.

(6/704)